الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة
استنشاط القارئ ببعض الهزل
وإن
كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والمرَوَّجة؛ لتكثَّر الخواطر،
وتشحَذَ العقول - فإنّا سننشِّطكَ ببعض البَطالات، وبذكر العلل الظَّريفة،
والاحتجاجاتِ الغريبة؛ فربَّ شعرٍ يبلُغُ بفَرْطِ غباوةِ صاحبه من السرور والضحك
والاستطراف، ما لا يبلغه حشدُ أحرِّ النوادر، وأجمَعِ المعاني.
وأنا أستظِرفُ أمرَين استظرافاً شديداً: أحدهما استماعُ حديثِ الأعراب، والأمرُ
الآخَر احتجاجُ متنازِعَينِ في الكلام، وهما لا يحسنانِ منه شيئاً؛ فإنَّهما
يُثيرانِ من غَريبِ الطِّيب ما يُضحِك كلَّ ثَكْلانَ وإن تشدَّد، وكلَّ غضبانَ وإن
أحرقَه لَهِيبُ الغضَب، ولو أنَّ ذلك لا يحلّ لكان في باب اللَّهو والضَّحِك
والسُّرورِ والبَطالة والتشاغُل، ما يجوز في كلِّ فن.
وسنذكر من هذا الشكل عِللاً، ونُورِدُ عليك من احتجاجات الأغبياءِ حُجَجاً، فإنْ
كنتَ ممَّن يستعمِل الملالةَ، وتَعْجَل إليه السآمة، كان هذا البابُ تنشيطاً
لقلْبك، وجَماماً لقوَّتك، ولنبتدِئ النَّظرَ في باب الحمام وقد ذهب عنك الكَلالُ
وحدَثَ النشاط.
وإن كنْتَ صاحبَ علمٍ وجِدٍّ، وكنت ممرَّناً موقَّحاً، وكنتَ إلفَ تفكيرٍ وتنقيرٍ،
ودراسةِ كتُب، وحِلفَ تبيُّن، وكان ذلك عادة لك لم يضِرْكَ مكانه من الكِتاب،
وتخَطِّيه إلى ما هو أولى بك، ضرورة التنويع في التأليف وعلى أنِّي قد عزمتُ -
واللّهُ الموفِّق - أنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه، بنوادِرَ من ضُروبِ
الشِّعر، وضروبِ الأحاديث، ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى
شكل؛ فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة
والأوتارَ الفَصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاَّ في طريق الراحة، التي إذا
طالت أورثت الغفلة.
وإذا كانت الأَوائلُ قد سارتْ في صغارِ الكتب هذه السِّيرةَ، كان هذا التَّدبيرُ
لِمَا طالَ وكثُر أصلَحَ، وما غايتنا مِن ذلك كلِّه إلاَّ أن تَستَفيدُوا خيراً.
وقال أبو الدَّرداء: إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل، كراهةَ أنْ أحمِل عليها من
الحق ما يملُّها!.
ادّعاء عبد الله الكرخيِّ الفقه
فمن الاحتجاجات الطيِّبة، ومن العِلل الملهية، ما حدَّثني به ابن المديني قال: تحوَّل أبو عبد اللّه الكرْخيُّ اللِّحيانيُّ إلى الحَرْبيَّة فادَّعى أنَّه فقيه، وظنَّ أنَّ ذلك يجوزُ له؛ لمكانِ لحيتهقال: فألقى على باب داره البواريّ، وجلس وجلس إليه بعضُ الجيران، فأتاه رجلٌ فقال: يا أبا عبدِ اللّهِ رجلٌ أدخل إصبَعَه في أنفه فخرَج عليها دمٌ، أيَّ شيءٍ يصنع? قال: يحتجم، قال: قعدتَ طبيباً أو قعدتَ فقيهاً?
جواب أبي عبد الله المروزيّ
وحدَّثني شمعون الطبيب قال: كنت يوما عند ذي اليَمينين طاهرِ بن الحسين فدخل عليه أبو عبد اللّه المروَزِيّ فقال طاهر: يا أبا عبدِ اللّه مذْ كمْ دخلتَ العراق? قال: منذ عِشرين سنةً، وأنا صائم منذ ثلاثين سنة، قال: يا أبا عبدِ اللّه، سألناك عن مسألةٍ فأجبتَنا عن مسألتين
جواب شيخ كندي
وحدَّثني أبو الجهجاه قال: ادَّعى شيخٌ عندنا أنَّه من كندة، قبلَ أن ينظرَ في شيءٍ من نسبِ كِنْدة، فقلت له يوماً وهو عندي: ممن أنت يا أبا فلان? قال: من كندة، قلت: من أيِّهم أنت? قال: ليس هذا موضعَ هذا الكلام، عافاك اللّه.
جواب خَتَنِ أبي بكر بن بريرة
ودخلتُ على خَتَن أبي بكر بن بريرة، وكان شيخاً ينتحل قول الإباضيَّة، فسمعتُه يقول: العجبُ ممن يأخذه النَّومُ وهو لا يزعم أنَّ الاستطاعة مع الفعْل قلت: ما الدليل على ذلك? قال: الأشعار الصحيحة، قلت: مثل ماذا? قال: مثل قوله:
مَا إنْ يقَعْنَ الأَرْضَ إلاّ وفقا |
ومثل قوله:
يَهوِين شتَّى ويقعن وفقا |
ومثل
قولهم في المثل: وقَعَا كعِكْمَيْ عَير.
وكقوله أيضاً:
كَجُلمودِ صَخْر حَطَّه السَّيلُ من علِ |
|
مِكرّ مِفَرٍّ مُقبـلٍ مُـدْبـرٍ مـعـاً |
وكقوله:
إذا نحنُ أهوَينا وحاجتنا مَعَا |
|
أكفُّ يدي عن أنْ تمسَّ أكفهم |
ثم أقبل عليَّ فقال: أما في هذا مقنع? قلت: بلى، وفي دون هذا!
جواب هشام بن الحكم
وذكر محمَّدُ بنُ سلاَّم عن أبانِ بنِ عثمانَ قال: قال رجلٌ من أهل الكوفة لهشامِ ابن الحكم: أتُرَى اللّهَ عزَّ وجلّ في عدْله وفضلِه كلَّفنا ما لا نطيقُ ثمَّ يعذِّبُنا? قال: قدْ واللّه فعل، وكنَّا لا نستطيع أنْ نتكلَّم به.
سؤال ممرور لأبي يوسف القاضي
وحدَّثني
محمّد بن الصباح قال: بينا أبو يوسفَ القاضي يسيرُ بظَهْر الكوفة - وذلك بعدَ أن
كتبَ كتابَ الحِيَل - إذ عرضَ له ممرورٌ عندنا أطيب الخلْق، فقال له: يا أبا يوسف،
قد أحسنتَ في كتاب الحيل، وقد بقيتْ عليكَ مسائلُ في الفِطن، فإنْ أذِنت لي سألتك
عنها، قال: قد أذنتُ لكَ فَسَلْ، قال: أخبرْني عن الحِرِ كافرٌ هو أو مؤمن? فقال
أبو يوسف: دينُ الحرِ دينُ المرأة ودينُ صاحبةِ الحِر: إن كانت كافرةً فهو كافر،
وإن كانت مؤمنةً فهو مؤمن، قال: ما صنعت شيئاً، قال: فقل أنت إذَنْ؛ إذْ لم ترض
بقولي، فقال: الحِرُ كافر، قال: وكيف علمت ذلك? قال لأنَّ المرأةَ إذا ركعَتْ أو
سجَدَتْ استدبر الحِرُ القِبلة واستقبلت هي القبلة، ولو كان دينُه دينَ المرأة
لصنع كما تصنع، هذه واحدةٌ يا أبا يوسف، قال: صدقت.
قال: فتأذن لي في أخرى? قال: نعم، قال: أخبرني عنك إذا أتيتَ صحراءَ فهجمْتَ على
بَول وخِراء كيف تعرف أبولُ امرأةٍ هو أم بول رجل? قال: واللّه ما أدري قال أجل
واللّه ما تدري قال: أفتعرف أنت ذاك? قال: نعم، إذا رأيت البول قد سال على الخِراء
وبين يديه فهو بولُ امرأة، وخِراء امرأة، وإذا رأيت البولَ بعيداً من الخِراء فهو
بول رجل وخِراء رجل، قال: صدقت.
قال: وحكى لي جوابَ مسائلَ فنسيت منها مسألة، فعاودته فإذا هو لا يحفظها.
جواب الحجاج العبسي
وحدَّثني أيُّوب الأعورُ، قال قائل للحجاج العبْسي: ما بال شعر الاسْتِ إذا نبتَ أسرع والتفّ? قال: لقربه من السَّماد والماء هطِلٌ عليه .
جواب نوفل عريف الكناسين
وحدَّثني
محمَّد بن حسَّان قال: وقفتُ على نوفلٍ عَريفِ الكنَّاسين، وإذا مُوسْوَس قد وقف
عليه، وعندَه كلُّ كنَّاس بالكَرْخ، فقال له الموسوَس: ما بال بنتِ وردان تدعُ
قعرَ البئر وفيه كُرُّ خِراء وهو لها مُسْلمٌ وعليها موفر، وتجيء تطلب اللُّطاخة التي
في است أحدنا وهو قاعدٌ على المَقْعَدة، فتلْزم نفسها الكُلفةَ الغليظة، وتتعرَّض
للقتل، وإنَّما هذا الذي في أستاهنا قيراط من ذلك الدرهم، وقد دفعنا إليها
الدِّرهم وافياً وافراً، قال: فضحك القوم، فحرَّك نوفلٌ رأسَه ثم قال: أتضحكون?
قدْ واللّهِ سأل الرجل فأجيبوا وأمَّا أنا فقد - واللّه - فكَّرت فيها منذ ستِّينَ
سَنَةً، ولكنَّكم لا تنظرون في شيءٍ من أمر صناعتكم، لا جَرَمَ أنَّكم لا
ترتَفِعُون أبداً قال له الموسوَس: قلْ - يرحمُك اللّه - فأنتَ زعيمُ القوم، فقال
نوفل: قد علمنا أنَّ الرُّطَب أطْيبُ من التَّمر، والحديثَ أطرف من العتيق،
والشيءَ من مَعْدنِه أطيَب، والفاكهةَ من أشجارِها أطرف، قال: فغضب شريكَه مسبِّح
الكنَّاس ثم قال: واللّه لقد وبَّختنا، وهوَّلتَ علينا، حتى ظنَنَّا أنَّك ستُجيب
بجوابٍ لا يحسنُه أحد، ما الأمرُ عندَنَا وعند أصحابنا هكذا، قال: فقال لنا الموسوس:
ما الجواب عافاكم اللّه، فإنِّي ما نمتُ البارحةَ من الفِكرَة في هذه المسألة? قال
مسبِّح: لو أنَّ لرجلٍ ألفَ جاريةٍ حسناء ثم عتَقْنَ عندَه لبردَت شهوتُه عنهنَّ
وفترت، ثمَّ إن رأى واحدةً دون أخسِّهن في الحسْن صبا إليها وماتَ من شهوتها، فبنت
وردانَ تستظرف تلك اللطاخة وقد ملَّت الأولى؛ وبعضُ الناسِ الفطيرُ أحبُّ إليهم من
الخمير، وأيضاً إنّ الكثيرَ يمنَع الشَّهوة، ويورث الصُّدود، قال: فقال الموسوس -
واستحسَنَ جوابَ مسبِّح، بعد أن كان لا يرى جواباً إلاّ جواب نوفل -: لا تعرفُ
مِقدارَ العالمِ حتَّى تجلسَ إلى غيره أنتم أعلم أهل هذه المدَرة، ولقد سألتُ
علماءَها عنهُ منذُ عشرينَ سنةً فما تخلّصَ أحدٌ منهم إلى مثلِ ما تخلّصْتم إليه،
وقدْ واللّه - أنَمْتم عيني، وطابَ بكم عيشي وقد علمنا أنّ كلّ شيءٍ يُسْتَلبُ
استلاباً أنَّه ألذ وأطيب، ولذلك صارَ الدَّبيبُ إلى الغِلمان ونيكهم على جهة
القهر ألذ وأطيب، وكلُّ شيءٍ يصيبهُ الرَّجل فهو أعزُّ عليه من المال الذي يرثه أو
يوهب له.
علة الحجاج بن يوسف قال: وحدَّثني أبانُ بن عثمانَ قال: قال الحجَّاجُ بنَ يوسفَ:
واللّهِ لَطَاعتي أوجَبُ مِنْ طاعةِ اللّه؛ لأنَّ اللّه تعالى يقول: "فاتَّقُوا
اللّه مَا استَطَعْتُم" فجَعَلَ فيِهَا مَثنَوِيَّةً؛ وقال: "وَاسْمعُوا
وَأطِيعُوا" ولم يَجْعَلْ فيها مثنَويَّة ولو قلتُ لرجل: ادخل مِن هذا الباب،
فلم يدخل، لَحَلَّ لي دمُه .
احتجاج مدني وكوفي
قال: وأخبرني محمَّد بن سليمانَ بنِ عبد اللّه النوفليُّ قال: قال رجلٌ من أهل الكوفة لرجل من أهل المدينة: نحن أشدُّ حبَّاً لِرَسولِ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم وعلى آلِه - مِنْكُم يا أهلَ المدينة فقال المدنيّ: فما بَلَغَ مِنْ حُبِّكَ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله? قال: ودِدت أنِّي وَقيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وأنَّه لم يكنْ وصَلَ إليه يومَ أُحُدٍ، ولا في غيره من الأيَّام شيءٌ من المكروه يكرهه إلا كان بي دونَه فقال المدنيُّ: أفَعِنْدَكَ غيرُ هذا? قال: وما يكون غيرُ هذا? قال: ودِدْتُ أنَّ أبا طالبٍ كانَ آمَنَ فسُرَّ به النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وأنِّي كافر
جواب رجل من وجوه أهل الشام
وحدَّثني أبانُ بنُ عثمان قال: قال ابنُ أبي ليلى: إنّي لأُسَايرُ رجلاً من وُجوهِ أهل الشّاًم، إذْ مرَّ بحمَّالٍ معَه رُمَّان، فتناولَ منه رُمَّانَة فجَعَلها في كُمِّه، فَعَجِبْتُ من ذلك، ثمَّ رجعت إلى نفسي وكذَّبت بصرى، حتَّى مرَّ بسائِلٍ فقير، فأخرجها فناوَله إيَّاها، قال: فعلمتُ أنِّي رأيتُها فقلتُ له: رأيتُك قَد فعلتَ عجباً، قال: وما هو? قلت: رأيتُك أخذْتَ رُمَّانَةً مِنْ حَمَّال وأعطيتها سائلاً? قال: وإنَّك ممَّن يقول هذا القولَ? أما علِمتَ أنِّي أَخَذْتُها وكانت سيِّئَةً وأعطيتها فكانت عشْرَ حَسَنَاتٍ? قال: فقال ابن أبي ليلى: أمَا علِمتَ أنَكَ أخذْتَها فكانتْ سيِّئةً وأعطيتَها فلم تُقْبَلَ منك? جهل الأعراب بالنحو
وقال الربيع: قلت لأعرابيٍّ: أتَهْمِزُ إسرائيل? قال: إنِّي إذاً لَرَجُلُ سَوْء? قلت: أتجُرُّ فِلَسطين? قال: إنِّي إذاً لَقَوِيّ.
احتجاج رجل من أهل الجاهلية
قال: وحدَّثنا حمَّادُ بنُ سلَمَة قال: كان رجلٌ في الجاهليَّة معَه مِحْجَنٌ يتناوَلُ به مَتاعَ الحاجِّ سَرِقة، فإذا قيل له: سرقت قال: لمْ أسرِق، إنَّما سَرَق مِحْجني قال: فقال حماد: لو كانَ هذا اليومَ حَيّاً لكانَ من أصحاب أبي حَنيف.
الأعمش وجليسه
قال: وحدّثني محمَّد بن القاسم قال: قال الأعمشُ لجليسٍ له: أما تَشتَهي بنانيَّ زُرْقَ العُيونِ نَقِيَّة البطونِ، سُودَ الظُّهور، وأرغفةً حارَّةً ليِّنة، وخَلاًّ حاذقاً? قال: بلى قال: فانهض بنا، قال الرَّجل: فنَهضْتُ مَعه ودخل منزِلَه، قل: فأومَأَ إلَيّ: أنْ خُذْ تِلك السَّلَّة، قال: فكشَفها فإذا برغيفين يابسين وسُكُرَّجة كامَخِ شِبِثٍ، قال: فجعل يأكل، قال: فقال لي تَعال كُلْ، فقلت: وأينَ السمك? قال: ما عندي، سمك، إنما قلت لك: تشتهي.
رأيٌ حفص بن غياث في فقه أبي حنيفة
قال: وسُئل حفْصُ بن غِياث عن فِقه أبي حنيفة، قال: كانَ أجهَلَ النَّاسِ بما يكون، وأعرفَهم بما لا يكون.
علة خشنام بن هند
وأما علة خُشْنَامَ بن هند، فإنَّ خشنام بن هِندٍ كان شيخاً من الغاليةِ، وكان ممَّن إذا أراد أنْ يسمِّيَ أبا بكر وعُمرَ قال: الجبْتُ والطَّاغوت، ومُنْكر ونكير، وأُفٌّ وتُفٌّ، وكُسَير وعُوَير، وكان لا يَزال يُدخِل دارَه حمارَ كسَّاح ويضربه مائَةَ عصاً على أنَّ أبا بكر وعمرَ في جوفه، ولم أر قَطُّ أشدَّ احترافاً منه، وكان مع ذلك نبيذِيّاً وصاحبَ حمَام، ويُشبه في القَدِّ والخَرْط شُيوخَ الحربيَّة، وكان من بني غُبَر من صميمهم، وكان له بُنَيٌّ يتبعه، فكان يزنِّي أمَّه عند كلِّ حقٍّ وباطل، وعِنْدَ كلِّ جِدٍّ وهَزْل، قلت له يوماً - ونحن عند بني رِبْعِيّ: ويْحَكَ، بأيِّ شيءٍ تستحلُّ أنْ تقذِفَ أُمَّه بالزِّنَا? فقال: لو كانَ عليَّ في ذلك حَرَجٌ لما قذَفْتَها: فِلمَ تزوَّجتَ امرأةً ليس في قذْفِها حرج? قال: إنِّي قد احتَلتُ حِيلةً حتَّى حلَّ لي من أجلها ما كان يحرم، قلت: وما تلك الحيلة? قال: أنا رجلٌ حديدٌ، وهذا غلامٌ عارم، وقد كنت طلَّقت أمَّه فكنتُ إذا افتريتُ عليها أثمت، فقلت في نفسي إن أرَغتها وخدَعتُها حتَّى أنيكَها مَرَّةً واحدةً حلّ لي بعدَ ذلك افترائي عليها، بل لا يكونُ قولي حينئذٍ فِرْية، وعلِمتُ أنَّ زَنْيَةً واحدةً لا تَعدِل عشرة آلافِ فِرْية، فأنا اليَوْمَ أصدُقُ ولستُ أكْذِب، والصَّادِقُ مأجور، إني واللّهِ ما أشكُّ أَنَّ اللّهَ إذا علم أنِّي لم أزْنِ بها تلك المرَّة إلاَّ مِن خوف الإثم إذا قذفتها - أنَّهُ سيجعَلُ تلك الزَّنيةَ له طاعة فقلت: أنتَ الآن على يقين أنّ زناكَ طاعةٌ للّه تعالى? قال: نعم.
حجة الشيخ الإباضي في كراهية الشيعة
قال
الشَّيخُ الإباضي وقد ذهب عني اسمُه وكنيتُه وهو خَتن أبي بكر بن بَرِيرة - وجرى
يوماً شيءٌ من ذِكرِ التشيُّع والشِّيعة، فأنكر ذلك واشتدَّ غضبُه عليهم،
فتوهَّمْتُ أنَّ ذلك إنَّما اعتراه للإباضيّة التي فيه، وقلت: وما عليَّ إن
سأَلته? فإنَّه يُقال: إنَّ السائل لا يعْدمُه أنْ يسمَعَ في الجواب حُجَّةً أو
حِيلةً أو مُلحة - فقلتُ: وما أنكَرت من التشيُّع ومن ذكر الشِّيعة? قال: أنكرتُ
منه مكان الشِّين التي في أوّل الكلمة؛ لأني لم أجد الشِّين في أوَّل كلمةٍ قطُّ
إلاَّ وهي مسخوطة مثل: شؤم، وشرٍّ، وشيطان، وشغب، وشحّ، وشمال، وشجَن، وشيب، وشين،
وشراسة، وشَنَج، وشَكّ، وشوكة، وَشَبث، وشرك، وشارب، وشطير، وشطور، وشِعرة، وشاني،
وشتْم، وشتيم، وشِيطَرْج، وشنعة، وشَناعة، وشأمة، وشوصة، وشتر وشجوب وشَجَّة،
وشطون، وشاطن، وشنّ، وشلَل، وشِيص، وشاطر، وشاطرة، وشاحب.
قلت له: ما سمعتُ متكلِّماً قطُّ يقول هذا ولا يبلُغه، ولا يقومُ لهؤلاء القَوم قائمةٌ
بعد هذا.
حيلة أبي كعب القاص
قال:
وتعشَّى أبو كعبٍ القاصُّ بطفشيل كثير اللّوبِيا، وأكثَر مِنه، وشِرب نبيذَ تمر،
وغَلَّس إلى بعض المساجد ليقصَّ على أهله، إذ انفتل الإمامُ من الصلاة فصادف
زحاماً كثيراً، ومسْجِداً مَستوراً بالبَواريِّ من البَرْدِ والرِّيح والمَطر،
وإذا محرابٌ غائِرٌ في الحائط، وإذا الإمامُ شيخٌ ضعيف؛ فلمَّا صلّى استدْبرَ
المحرابَ وجلسَ في زاويَة منه يسبِّح، وقام أبو كعبٍ فَجَعل ظهْرَه إلى وجه الإمام
وَوجهه إلى وُجوه القوم، وطبَّق وجه المحراب بجِسمه وَفَروته وعمامته وكسائِه،
وَلم يكن بين فَقحته وَبين أنف الإمامِ كبيرُ شيء، وَقصّ وتحرَّك بطنُه، فأَرَاد
أنْ يتفرَّج بفَسوةٍ وَخاف أنْ تصير ضراطاً، فقال في قَصصه: قولوا جميعاً: لا إله
إلاّ اللّه وارفَعوا بها أصواتكم، وفَسا فَسوةً في المحراب فدارت فيه وَجَثَمت على
أنف الشيخ وَاحتملها، ثمَّ كدَّه بطنُه فاحتاج إلى أخرى فقال: قولوا: لا إله إلاَّ
اللّه وَارفعوا بها أصواتكم، فأَرسل فَسوةً أخرى فلم تُخْطِئْ أنْفَ الشيخ،
واختَنقَتْ في المحراب، فخمَّر الشَّيخُ أنفَه، فصار لا يدري ما يصنع، إنْ هو
تنفَّس قتلَتْه الرائحة، وإنْ هو لم يتنفَّس مات كَرْباً، فما زَالَ يُدارِي ذلك،
وأبو كعب يقصُّ، فلم يلبَثْ أبو كعبٍ أن احتاجَ إلى أخرى، وكلما طالَ لُبْثُه
تولَّد في بَطْنِهِ من النَّفخ على حَسَب ذلك، فقال: قولوا جميعاً: لا إله إلا
اللّه وارفَعوا بها أصواتكم، فقال الشيخ مِنَ المحراب - وأطْلَعَ رأسَه وقال -: لا
تقولوا لا تقولوا قد قَتلني إنَّما يريد أن يفسوَ ثم جذب إليه ثوبَ أبي كعبٍ وقال:
جئت إلى ها هنا لتفسوَ أو تقصّ? فقال: جئنا لنقص، فإذا نزلت بليَّةٌ فلا بدَّ لنا
ولكم من الصَّبر فضحك الناسُ، واختَلَط المجلس.
جواب أبي كعب القاصّ وأبو كعبٍ هذا هو الذي كان يقصُّ في مسجد عتَّابٍ كلَّ أربعا
فاحتَبسَ عليهم في بعض الأَيام وطال انتظارُهم له، فبينما هُمْ كذلك إذ جاء رسوله
فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا؛ فإنِّي قد أصبحْت اليوم مخموراً علة عبد العزيز
وأمّا علة عبدِ العزيز بشكست فإنَّ عبدَ العزيز كان له مالٌ، وكان إذا جاءَ وقتُ
الزَّكاة وجاء القَوّادُ بغلامٍ مؤاجَر، قال: يا غلام ألك أمٌّ? ألك خالات? فيقول
الغلام: نعم، فيقول: خُذْ هذه العشرة الدراهم - أو خُذْ هذه الدَّنانير - مِن
زكاةِ مالي، فادفَعْها إليهنَّ، وإنْ شئتَ أن تُبْركني بعد ذلك على جهة المكارمة،
فافعل، وإنْ شئتَ أنْ تنْصَرِف فانصرف، فيقول ذلك وهو واثقٌ أنَّ الغُلامَ لا
يمنَعُه بعد أخْذ الدراهم، وهو يعلم أنه لن يبلغ مِن صلاحِ طباع المؤاجَرين أن
يؤدُّوا الأمانات، فَغَبر بذلك ثلاثين سنة وليس له زكاةٌ إلاّ عند أمَّهات
المؤاجَرين وأخَوَاتهم وخالاتهم.
احتجاج كوفي للتسمية بمحمد
وحدثني محمَّد بن عبَّاد بن كاسب قال: قال لي الفضل بن مروان شيخ من طِيَاب الكوفيِّين وأغْبيائهم: إنْ وُلِدَ لك مائَةُ ذكرٍ فسمهم كلَّهم محمداً، وكنِّهم بمحمد؛ فإنّك سترى فيهم البركة، أوَ تَدْري لأيِّ شيءٍ كثر مالي? قلت: لا واللّه ما أدري، قال: إنَّما كثر مالي لأنِّي سمَّيتُ نَفْسي فيما بيني وبَيْنَ اللّهِ محمداً وإذا كان اسمي عندَ اللّه محمداً فما أُبالي ما قال الناس
جواب أحمد بن رباح الجوهري
وشبه هذا الحديث قول المرْوَزي: قلت: لأحمد بن رياح الجوهري اشتريتَ كساءً أبيضَ طبَريّاً بِأَربعمِائَةِ درهم، وهو عند الناس - فيما ترى عيونهم قُومَسيّ يساوي مائَةَ درهَمٍ قال: علم اللّه أنَّه طبريٌّ فما عليَّ ممَّا قال الناس?
جواب حارس يكنى أبا خزيمة
وكان عندنا حارسٌ يكنى أبا خُزيمة، فقلت يوماً - وقد خطَر على بالي -: كيفَ اكتنَى هذا العِلْجُ الأَلْكَنُ بأبي خزيمة? ثمّ رأيتُه فقلت له: خبِّرني عنك، أكان أبوك يسمَّى خزيمة? قال: لا، قلت: فجدُّك أو عمك أو خالك? قال: لا، قلت: فلك ابنُ يسمَّى خزيمة? قال: لا، قلت: فكان لك مولّى يسمى خزيمة? قال: لا، قلت: فكان في قريتك رجلٌ صالح أو فقيهً يسمى خزيمة? قال: لا، قلت: فلم اكتنيت بأبي خزيمة، وأنتَ عِلجٌ ألْكَن، وأنتَ فقيرٌ، وأنت حارس? قال: هكذا اشتهيت، قلت: فلأَيِ شيءٍ اشتَهيتَ هذه الكنيةَ من بينِ جميع الكنى? قال: ما يُدريني، قلتُ: فتَبيعُها السَّاعَة بدينارٍ، وتَسكتَنيَ بأيِّ كنيةٍ شئت? قال: لا وَ اللّه، ولا بالدُّنْيا وما فيها
جواب الزياديِّ
وحدثني
مَسْعَدةُ بن طارق، قلت للزيادِيِّ - ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ
ومِدٍ، على باب داره في شروع نهر الجُوبار بأردية، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه -
قال فقلت له بعتَ دارك وحظَّكَ مِن دارِ جدِّك زيادٍ بن أبي سفيان، وتركتَ مجلِسَك
في ساباط غَيث، وإشرافَك على رَحبة بني هاشم، ومجلسَك في الأبواب التي تلي رَحبة
بني سليم، وجلستَ على هذا النَّهر في مثل هذا اليوم، ورضِيت بهِ جاراً? قال، نلتُ
أطولَ آمالي في قرب هولاء البَزّازين، قلت له لو كنت بقُرْبِ المقابر فقلت نزلت
هذا الموضع للاتِّعاظ به والاعتبار كان ذلك وجهاً، ولو كنتَ بقُرْب الحدَّادين
فقلت لأتَذَكَّرَ بهذه النِّيران والكِيران نار جهنَّم، كان ذلك قولاً، ولو كنت
اشتريت داراً بقرب العطَّارين فاعتَلَلت بطَلَبِ رائحةِ الطِّيب كان ذلك وجهاً
فأمّاً قُرْبُ البَزَّازِين فقط فهذا ما لا أعرفه، أفَلَكَ فيهم دارُ غَلَّةٍ، أو
هلْ لك عليهم دُيُونٌ حالَّةٌ، أو هلْ لك فيهم أو عِندَهم غِلمانٌ يؤدُّون
الضَّريبة، أو هلْ لك معَهم شِرْكة مُضارَبةٍ? قال: لا، قلت: فما ترجو إذاً من
قربهم فلم يكن عنده إلاّ: نلت آمالي بقُرب البزَازين.
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامة بن أشْرس قال: كان رجلٌ ممرور يقوم كلَّ يوم
فيأتي دالِيةً لقوم، ولا يزالُ يَمْشي مع رجال الدالية على ذلك الجذع ذاهباً
وجائياً، في شدَّة الحرِّ والبرد، حتَّى إذا أمسى نزل إليهم وتوضَّأَ وصلَّى،
وقال: اللّهُمَّ اجعلْ لنا مِنْ هذا فَرجاً ومَخْرجاً ثمَّ انصرف إلى بيته، فكان
كذلك حتّى مات.
بين أعمى وقائده وحدَّثني المكّيّ قال: كان رجلٌ يقود أعْمَى بِكراء، وكان الأعمى
ربَّما عَثَرَ العَثَرَةَ ونُكِب النّكبة، فيقول: اللَّهمَّ أبْدِل لي بِه قائداً
خيراً منه قال: فقال القائد: اللَّهُمَّ أبْدِلْ لي بهِ أعَمى خيراً لي منه، حماقة
ممرور وحدثني يزيدُ مولى إسحاقَ بن عيسى قال كُنّا في منزل صاحب لنا، إذْ خرج
واحدٌ من جماعتنا ليَقِيلَ في البيت الآخر، فلم يلبث إلاّ ساعةً حتى سمِعناه يصيح:
أوْهِ أوه قال: فنهَضْنا بأجمعنا إليه فَزعين، فقلنا له: ما لك? وإذا هو نائم على
شقِّهِ الأيسر، وهو قَابضٌ على خصيته بيده فقلت له: لم صحت? قال: إذا غمزت خُصْيتي
اشتكيتها، وإذا اشتكيتُها صحت، قال: فقلنا له: لا تَغْمِزْها بعدُ حتى لا تشتكي
قال: نعم إن شاء اللّه تعالى.
حماقة مولاة عيسى بن علي قال يزيد: وكانت لعيسى بن عليٍّ مَولاةٌ عجوزٌ خُرَاسانيةٌ
تصرُخ بالليل من ضَرَبان ضرس لها، فكانت قد أرَّقت الأميرَ إسحاق، فقلت له: إنَّها
مع ذلك لا تَدَع أكْلَ التمر قال: فبعث إليها بالغداة فقال لها: أتأكلين التَّمر
بالنَّهار وتَصِيحينَ باللَّيلِ? فقالت: إذا اشتهيتُ أكلت وإذا أوجَعني صِحت.
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامةُ قال: مَررتُ في غبّ مطرٍ والأرضُ نَدِيَّة،
والسَّماءُ متغيِّمة، والرِّيح شَمالٌ، وإذا شَيخٌ أصْفَرُ كأَنَّه جَرَادَة، قدْ
جلسَ على قارعة الطَّريق، وحَجّامٌ زِنجيٌّ يَحْجُمُهُ، وقد وضع على كاهِله
وأخْدَعَيْه مَحاجِم، كل مِحْجَمةٍ كأنَّها قَعْب، وقدْ مَصَّ دَمَهُ حتَّى كادَ
أنْ يَستَفْرِغَه، قال: فوقَفتُ عليه فقلت: يا شيخُ لِمَ تَحْتَجِم في هذا البرد?
قال لمكانِ هذا الصُّفار الذي بي.
صنيع ممرور وحدثني ثمامة قال: حدَّثَني سعيد بن مسلم قال: كُنا بخُراسانَ في
منزل بعض الدَّهاقين ونحن شَبابٌ، وفينا شيخ، قال: فأتَانا رَبُّ المنزل بدُهن
طيبٍ فدَهَنَ بعضُنا رأسَه، وبعضنا لحيته، وبعضُنا مَسَح شارِبه، وبعضُنا مَسَح
يديه وأمَرَّهُما على وجهه، وبعضُنا أخَذَ بطَرَف إصبعه فأدخَلَ في أنفه ومَسَح به
شارِبَه، فَعَمَد الشيخُ إلى بقيَّةِ الدُّهن فصبَّها في أذنه، فقلنا له: ويحك،
خالفت أصحابكَ كُلَّهُم هل رأيْتَ أحداً إذا أَتَوْهُ بِدُهن طِيبٍ صبَّه في أذنه?
قال: فإنّه مع هذا يضرُّني? أمْر عيصٍ، سيّد بني تميم وحدَّثني مَسْعَدَةُ بنُ
طارقٍ الذَّرَّاع قال: واللّهِ إنَّا لَوُقُوفٌ على حدودِ دار فلان للقِسمة، ونحنُ
في خصومةٍ، إذْ أقْبَل عِيصٌ سيِّدُ بني تميمٍ وموسرهم والذي يصلِّي على جنائزهم،
فلمَّا رأيناهُ مقبِلاً إلينا أمسَكْنا عن الكلام، فأقبل علينا فقال: حدِّثوني عن
هذه الدَّار، هَلْ ضمَّ منها بعضها إلى بعض أحد? قال مسعدة: فأنا مُنْذُ ستين سنة
أفكِّرُ في كلامه ما أدري ما عَنَى به، قال: وقال لي مرّة: ما من شر من ذين قلت:
ولم ذاك? قال: من جرا يتعلقون.
وحدّثني الخليلُ بنُ يحيى السَّلُوليُّ قال: نازَع التميميُّ بعضَ بني عمِّه في
حائطٍ، فبَعَث إلينا لنَشهد على شَهادتِه، فأتاه جماعةٌ منهم الحميريُّ والزهريُّ،
والزِّياديُّ، والبكراوي، فلمّا صِرْنا إليه وقف بنا على الحائط وقال: أُشْهِدُكم
جميعاً أنَّ نِصفَ هذا الحائط لي.
جواب ممرور قال: وقدِم ابنُ عمٍّ له إلى عمر بن حبيب، وادَّعَى عليه ألفَ دِرهم
فقال ابنُ عمِّه: ما أعرِفُ ممَّا قالَ قليلاً ولا كثيراً، ولا له عليّ شيء قال:
أصلحك اللّه تعالى فاكتُبْ بإنكاره، قال: فقال عمر: الإنكار لا يفوتك، متى أردْتَه
فهو بَينَ يديك.
أمنية أبي عتاب الجرَّار
قال: وقلت لأبي عتّاب الجرَّار: ألا تَرَى عبدَ العزيزِ الغَزَّال وما يتكلم به في قَصَصه? قال: وأيُّ شيء قاله? قلت: قال: ليت اللّه تعالى لم يَكُن خلقَني وأنا السَّاعة أعور قالَ أبو عتّاب: وقد قصَّرَ في القول، وأساءَ في التمني، ولكنِّي أقول: ليتَ اللّه تعالى لم يكُنْ خلقني وأنا الساعة أعمى مقطُوعُ اليدين والرجلين.
تعزية طريفة لأبي عتَّاب الجرار
ودخل أبو عتّاب على عمرو بن هدَّاب وقد كُفَّ بَصُره، والناس يُعزُّونُه، فمثَلَ بينَ يديه، وكان كالجمل المحجُوم، وله صوتٌ جهير، فقال: يا أبا أسيد، لا يسوءنَّك ذَهابُهما، فلو رأيت ثوابَهما في مِيزانِك تمنّيتَ أنّ اللّه تعالى قد قَطَع يديك ورجليك، ودَقَّ ظَهْرَك، وأدْمى ضِلْعَكَ.
داود بن المعتمر وبعض النساء
وبينما
داودُ بن المعْتَمر الصُّبَيريّ جالسٌ معي، إذ مرت به امرأةٌ جميلة لها قَوَامٌ
وحُسْن، وعينان عجيبتان، وعليها ثيابٌ بيض، فنهَضَ دَاودُ فلم أشُكّ أنّه قام
ليَتْبَعها، فبعثْتُ غلامي ليَعرف ذلك، فلمّا رجع قلت له: قد علمت أنّك إنما قُمتَ
لتكلِّمها؛ فليس ينفعُكَ إلا الصِّدق، ولا ينْجِيك منِّي الجُحود، وإنما غايتي أنْ
أعرف كيفَ ابتَدأتَ القول، وأي شيءٍ قلتَ لها - وعلمت أنَّه سيأتي بآبدة، وكان
مليّاً بالأوابد - قال: ابتدأتُ القول بأنْ قلتُ لها: لولا ما رأيتُ عليكِ من
سيماء الخَيْر لمْ أتبَعْك، قال: فضَحِكتْ حتى استنَدَتْ إلى الحائط، ثمَّ قالت:
إنما يمنع مِثلَكَ مِن اتِّباعِ مِثلي والطَّمَع فيها، ما يَرَى من سِيماء الخير
فأمَّا إذْ قد صار سيماءُ الخير هو الدي يُطمِعُ في النساء فإنا للّهِ وإنا إليه
راجعون.
وتبع داودُ بنُ المعتمر امرأة، فلم يزلْ يُطريها حتى أجابت، ودَلَّها على المنزل
الذي يمكنها فيه ما يريد، فتقدمت الفاجرة وعرض له رجلٌ فشغَلَهُ، وجاء إلى المنزل
وقد قضى القَوْمُ حوائِجهُمْ وأخَذَتْ حاجتها، فلم تنتظره، فلما أتاهُمْ ولم
يَرَها قالَ: أين هي? قالوا: واللّه قد فَرَغْنا وذَهَبَت قال: فأيَّ طريقٍ
أخَذَتْ? قالوا: لا واللّه ما ندري? قال فإنْ عَدَوْتُ في إثْرِها حتَّى أقُومَ
على مجامع الطُرق أتُرَوْني ألحقها? قالوا: لا واللّهِ ما تَلحقها قال: فقد فاتَتِ
الآن? قالوا: نعم، قال: فعسى أن يكون خيراً فلم أسمَعْ قطُّ بإنسانٍ يشكُّ أنَّ
السَّلامة من الذنوب خير غيره. قول أبي لقمان الممرور في الجزء الذي لا يتجزَّأ
وسأل
بعضُ أصحابنا أبا لُقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزَّأ: ما هو? قال: الجزء
الذي لا يتجزأ هو عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال له أبو العيناء محمد: أفليس
في الأرض جزءٌ لا يتجزأ غيرُه? قال: بلى حَمزةُ جزءٌ لا يتجزأ، وجَعَفرٌ جزء لا
يتجزأ قال فما تقول في العباس? قال: جزء لا يتجزأ، قال: فما تقول في أبي بكر وعمر?
قال: أبو بكر يتجزأ، وعمر يتجزأ، قال: فما تقول في عثمان? قال: يتجزَّأ مَرَّتين،
والزُّبير يتجزَّأ مرَّتين، قال: فأيَّ شيءٍ تقولُ في معاوية? قال: لا يتجزأ ولا
لا يتجزأ.
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الإمام جزْءاً لا يتجزأ إلى أيِّ شيءٍ ذهب،
فلم نقع عليه إلاّ أن يكون كان أبو لقمان إذا سمع المتكلِّمين يذكرون الجُزْءَ
الذي لا يتجزَّأ، هاله ذلك وكبُر في صدره، وتوهَّمَ أنَّه البابُ الأكبرُ مِن عِلم
الفلسفة، وأن الشيءَ إذا عظُم خَطَرُه سموه بالجزء الذي لا يتجزأ.
وقد تسخَّفْنا في هذه الأحاديث، واستجزْنا ذلك بما تقدَّم من العُذر، وسنَذْكر
قَبْلَ ذِكرِنا القول في الحمام جملاً من غُرَرٍ ونَوَادِرَ وأشْعَارٍ ونُتفٍ
وفقَرٍ مِن قصائِدَ قصار وشوارِدَ وأبياتٍ، لنُعطِيَ قارئ الكِتاب من كلِّ نوعٍ
تَذْهَبُ إليه النُّفوسُ نصيباً إن شاء اللّه.
تناسب الألفاظ مع الأغراض
ولكلِّ
ضربٍ من الحديث ضَرْبٌ من اللفظ، ولكلِّ نوعٍ مِن المعاني نوعٌ من الأسماء:
فالسَّخيفُ للسخيف، والخَفِيفُ للخفيف، والجَزلُ للجَزل، والإفصاحُ في مَوضع
الإفصاح، والكِنايةُ في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال.
وإذا كان مَوْضِعُ الحديثِ على أنَّهُ مُضْحِكٌ ومُلْهٍ، وداخِلٌ في باب المزَاح
والطِّيب، فاستعْمَلتَ فيه الإعراب، انقَلَبَ عن جِهَتِه، وإنْ كان في لفظه سُخْف
وأبْدَلْتَ السَّخافَة بالجَزالة، صارَ الحديثُ الذي وَضِع على أنْ يُسرَّ
النُّفوسَ يُكْرُ بها، ويَأْخُذُ بِأَكظامها.
الورع الزائف
وبعض الناسِ إذا انتهى إلى ذِكرِ الحِرِ والأير والنيك ارتَدَع وأظهر التقَزُّز، واستَعْمَلَ بابَ التَّوَرُّع، وأكثَرُ مَنْ تجده كذلك فإنَّما هو رجلٌ ليس مَعَه من العَفافِ والكَرَم، والنُّبْل والوَقار، إلاَّ بقَدْرِ هذا الشَّكل من التَّصنع، ولم يُكْشَفْ قطُّ صاحِبُ رياءٍ ونِفاقٍ، إلاَّ عن لؤمٍ مُسْتَعْمَل، ونذالةٍ متمكِّنة.
تسمُّح بعض الأئمة في ذكر ألفاظ
وقد كان لهم في عبدِ اللّه بن عباسٍ مَقْنَع، حينَ سَمِعه بعضُ الناس يُنشد في المسجد الحرام:
إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لميسَا |
|
وهُنَّ يَمشِينَ بنا هَـمِـيسَـا |
فقيل
له في ذلك، فقال: إنَّما الرَّفَتُ ما كان عند النساء.
وقال الضَّحَّاك: لو كان ذلك القولُ رَفَثاً لكان قطْعُ لسانِه أحبُّ إليه مِن أن
يَقُولَ هُجْراً، قال شَبيبُ بن يزيد الشيباني، لَيْلَةَ بَيَّتَ عتَّابَ بنَ
ورَقاء:
مَنْ يَنِكِ الْعَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكا |
وقال
عليُّ بنُ أبي طالب - رضي اللّه عنه - حينَ دخَلَ على بعض الأمراء فقال له: مَن في
هذه البيوت? فلما قيل له: عقائلُ من عقائل العرب، قال عليٌّ: مَنْ يَطُلْ أَيْرُ
أَبِيهِ يَنْتَطق به.
فعَلَى عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه - يعوَّل في تنزيه اللفظ وتشريف المعاني.
وقال أبو بكر - رضي اللّه عنه - حين قال بُدَيل بنُ ورقاء للنبيّ صلى الله عليه
وسلم: جئتَنا بعجرائك وسودانك، ولو قد مَسَّ هؤلاء وخْزُ السِّلاحِ لَقَدْ
أسْلَمُوك فقال أبو بكر - رضي اللّه عنه -: عَضِضْتَ ببَظْر اللاَّت.
وقد روَوْا مرفوعاً قوله: مَنْ يُعْذِرُني من ابن أمّ سباع مُقطِّعَة البُظور?.
لكلِّ مقام مقال
ولو
كان ذلك الموضعُ موضعَ كناية هي المستعملة، وبعد فلو لم يكن لهذه الألفاظِ مواضعُ
استعملها أهلُ هذه اللُّغة وكان الرأيُ ألاَّ يُلفَظَ بها، لم يَكُنْ لأوَّل،
كونها معنًى إلاّ على وجه الخطأ، ولكان في الحزْم والصَّوْنِ لهذه اللُّغة أنْ
تُرْفَعَ هذه الأسماء منها.
وقد أصاب كلَّ الصَّوابِ الذي قال: لِكُلِّ مَقَامٍ مَقال.
صورة من الوقار المتكلف
ولقد
دخل علينا فتًى حَدَثْ كان قَدْ وقَعَ إلى أصحاب عبد الواحد بن زيد ونحنُ عند
مُوسى بن عِمْران، فدارَ الحديثُ إلى أن قال الفتى: أفطرتُ البارحةَ على رغيفٍ
وزيتونة ونصف، أو زيتونَة وثلث، أو زيتونَة وثُلْثَي زيتونة، أو ما أشبه ذلك، بل
أقول: أكلت زيتونَة، وما علم اللّه من أخرى، فقال موسى: إنّ مِن الورع ما يُبغِصُه
اللّه، علمَ اللّه؛ وأظُنُّ ورَعَكَ هذا من ذلك الورع.
وكان العُتْبي ربّما قال: فقال لي المأمون كذا وكذا، حينَ صارَ التَّجْمُ على
قِمَّة الرأس، أو حينَ جازَنِي شيئاً، أو قبل أن يوازيَ هامتي، هكذا هو عندي، وفي
أغلَبِ ظنِّي، وأكرَهُ أنْ أجزِمَ على شيءٍ وهُوَ كما قلت إن شاء اللّه تعالى،
وقريباً ممّا نقلت، فيتوقف في الوقتِ الذي ليسَ من الحديث في شيء، وذلك الحديث إن
كان مَعَ طلوعِ الشمسِ لم يَزِدْه ذلك خيراً، وإن كان مَعَ غرُوبها لم ينقُصه ذلك
شيئاً، هذا ولعلَّ الحديثَ في نفسه لم يكُنْ قَطُّ ولم يَصلْ هو في تلك الليلة
البتّة، وهو مع ذلك زعم أنّه دخَل على أصحابِ الكَهف فَعَرف عََدَدَهم، وكانت
عليهم ثيابٌ سَبَنيّة وكلبهم مُمَعّط الجلد، وقد قال اللّه عزَّ وجلّ لنبيّه صلى
الله عليه وسلم: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً
وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً".
بعض نوادر الشعر
وسنذكرُ من نوادرِ الشِّعر جملةً، فإن نشطت لحِفظِها فاحفَظها؛ فإنَّها من أشعار المذاكرة، قال الثَّقفي:
إن الذَّليلَ الَّذِي لَيْسَت لَهُ عضُد |
|
مَنْ كَانَ ذَا عَضُدٍ يُدرِكْ ظُلامَتهُ |
ويَأنف الضَّيمَ إنْ أثْرى لَهُ عَدَدُ |
|
تَنْبُو يَدَاهُ إذَا مَا قـلَّ نَـاصـرُهُ |
وقال أبو قيس بن الأسلت:
للدَّهر جِلْدٍ غيرِ مِجْزَاعِ |
|
بزُّ امرئٍ مُسْتَبْسِلٍ حَاذرٍ |
إشْفَاقِ والفهةِ والهَـاعِ |
|
الكيْسُ والقُوَّةُ خيْرٌ مِنْ ال |
وقال عَبْدَهُ بنُ الطَّبيب:
وكلُّ شيءٍ حَبَاهُ اللّهُ تَخـويِلُ |
|
رَبٌّ حَبَانَا بأمْوَالٍ مُـخَـوَّلةٍ |
والعيْشُ شُحٌّ وإشْفَاقٌ وَ تأمِيلُ |
|
والمرءُ ساعٍ لأمر لَيْسَ يُدرِْكه |
وكان
عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي اللّه تعالى عنه - يردِّد هذا النصف الآخِرَ، ويَعجَبُ
مِنْ جَودَة ما قَسم.
وقال المتلمِّس:
وتَقْوَى اللّهِ مِنْ خيْرِ العَتَـاد |
|
وأعْلَمُ علْمَ حَقِّ غَـيْرَ ظَـنٍّ |
وضربٍ في البِلادِ بِغَيْرِ زَادِ |
|
لَحِفْظُ المال أيسر من بُغـاهُ |
ولا يَبْقَى الكثيرُ مَعَ الفَسـادِ |
|
وإصْلاَحُ القَلـيلِ يزيدُ فـيه |
وقال آخر:
أَشَدُّ من الجمْع الذي أَنت طالبُه |
|
وحِفْظكَ مَالاً قَدْ عُنيتَ بجمعـهِ |
وقال حُميد بن ثَور الهِلاليّ:
البخل إلاَّ سوف يعتلُّ بالشغـل |
|
أتشْغَلُ عنَّا يَابْنَ عمِّ فلن ترى أخا |
وقال ابن أحمر:
وقد يدوِّم رِيقَ الطامِعِ الأملُ |
|
هذا الثناء وأَجْدِرْ أنْ أصاحبه |
وقال ابن مقبل:
أموت وأُخْرَى أبْتَغِي العَـيْشَ أكْـدَحُ |
|
هَلِ الدَّهرُ إلاَّ تَارَتَان فـمِـنـهـمـا |
فلا المَوْتُ أهْوَى لي ولا العيش أروحُ |
|
وكلتاهما قد خُطَّ لي فـي صـحـيفة |
وقال عمرو بن هند:
يُناغي نِساءَ الحيِّ في طُرَّةِ البُـردِ |
|
وإن الذي ينْهاكمُ عـن طـلابِـهـا |
كما تنقص النِّيران من طرف الزَّند |
|
يُعَلَّلُ والأيَّامُ تـنـقُـصُ عُـمْـرَه |
وقال أُمَيَّة - إن كان قالها-:
رِ لهُ فَرْجَة كَحَلِّ العِقَـال |
|
رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوس مِنَ الأمْ |
شعر في الغزل وقال آخر:
عَشِيَّة آرَام الكِنـاسِ رَمِـيمُ |
|
رَمَتْنِي وَسِتْرُ اللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا |
ولكِنَّ عَهْدِي بالنِّضَالِ قـدِيمُ |
|
ألاَ رُبَّ يومٍ لَوْ رَمَتْنِي رَمَيْتُهَا |
ضَمِنْت لَكُمْ أَنْ لاَ يَزَالُ يَهيمُ |
|
رَمِيمُ الَّتِي قالتْ لَجارَات بَيْتِهَا |
وقال آخر:
إلاَّ تطاوَلَ غُصْنُ الجيدِ للجِـيدِ |
|
لم أَعْطُهَا بِيَدِي إذْ بِتُّ أرْشُفهَـا |
مطوَّقَانِ أصَاخَا بعد تـغـريدِ |
|
كما تَطَاعَمَ في خَضْرَاءَ نَاعِمَةٍ |
بُعداً وسُحْقاً له مِنْ هَالكٍ مُودِي |
|
فإنْ سَمِعتَ بهلُكٍ للبَخيلِ فقُـلْ |
شعر في الحكم وقال أبو الأسود الدؤلي:
حَتَّى يُزَيَّنَ بالَّـذِي لـم يَفْـعـلِ |
|
المرءُ يَسْعَى ثـمَّ يُدْرِكُ مَـجْـدُهُ |
يُرْمى ويقْذَفُ بالَّذِي لم يعْـمَـلِ |
|
وتَرَى الشقيَّ إذا تكـامَـلَ غَـيُّه |
مشيحٌ على محقوقف الصُّلب مُلْبَدِ |
|
رئيسُ حـروب لا يزال ربــيئةً |
من اليوم أعقاب الأحاديث في غدِ |
|
صَبور على رزء المصائب حافظٌ |
كذَبتَ ولم أبخَلْ بما ملكـتْ يدي |
|
وهَوَّن وجدي أنني لـم أقـلْ لـه |
وقال سعيدُ بن عبد الرحمن:
مِنَ النَّاس إلاَّ ما جنَى لَسَعِيدُ |
|
وإنَّ امرأً يُمسي ويُصْبِحُ سَالِماً |
وقال أكثمُ بنُ صيفيّ:
وبَيْنَا نُرَبِّي بَنِينَا فَنِينَا |
|
نُربَّى ويَهْلِك آباؤنَـا |
وقَال بعضُ المحدَثين:
يُلْفَى فُؤادِي مِنْ حَادِثٍ يَجِبُ |
|
فالآنَ أَسْمحْتُ للخطوبِ فَلاَ |
وكُلُّ شيءٍ ليومِه سَـبَـبُ |
|
قَلَّبني الدَّهرُ في قـوالـبـه |
وقال آخر:
فَكُلُّكُمُ يَصِـيرُ إلـى ذَهـاب |
|
لِدُوا للمَوْتِ وابْنُوا للـخَـرَابِ |
أَبيتَ فما تَحِيفُ ولا تُحَابـي |
|
ألاَ يا موتُ لم أَرَ مِنْـكَ بُـدّاً |
كما هَجَمَ المشيب عَلَى شبابي |
|
كأنَّكَ قَدْ هجمت على مَشيبي |
وقال آخر:
فالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَعْمومٍ ومَخْصـوصِ |
|
يا نفس خوضي بحَارَ الْعِلْمِ أو غُوصي |
إلاَّ إحَاطَةَ مَنقوص بـمـنـقـوصِ |
|
لا شيء في هذه الدنـيا يُحـاط بـه |
شعر في التشبيه وأنشدنا للأحيمر:
سِيدٌ تَنَصَّل من حُجور سَعالي |
|
بأقَبَّ منْطَلِقِ اللَّبـانِ كـأنَّـه |
وقال الآخر:
إذَا ما بَدَا مِنْ دُجْية اللَّيل يطرفُ |
|
أراقب لمحاً من سهيلٍ كـأنَّـه |
وقالوا: قال خلفٌ الأحمر: لم أَرَ أجمَعَ مِن بيتٍ لامرئ القيس، وهو قوله:
وقاد وذاد وعادَ وأفضل |
|
أفادَ وجَادَ وسَـاد وزَادَ |
ولا أجمعَ مِنْ قوله:
وإرخاءُ سِرْحَانِ وتَقْرِيبُ تَتْفُل |
|
لهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَـامَةٍ |
وقالوا: ولم نر في التشبيه كقوله، حينَ شبّه شيئين بشيئين في حالَتين مختلفين في بيتٍ واحدٍ، وهو قوله:
لدَى وكْرهَا العُنَّابُ وَ الحَشَفُ البَالي |
|
كأن قلوبَ الطَّيرِ رَطْبـاً ويَابـسـاً |
قطعة من أشعار النساء وسنذكرُ قِطعة من أشعارِ النساء، قالتْ أعرابيَّة:
على نِضْوِ أسفارٍ فجنَّ جُنُونـهـا |
|
رَأَتْ نِضْوَ أَسْفارٍ أُميمَةُ شاحـبـاً |
فإنَّكَ مَوْلى فِرْقَةٍ لا تَـزينُـهـا |
|
فقالتْ مِن أيِّ الناس أنتَ ومَنْ تَكُنْ |
وقالت امرأة من خثعم:
أُحِبُّ وبَيتِ اللّه كَعْبَ بْنَ طـارقِ |
|
فإنْ تسألوني مَنْ أُحِـبُّ فـإنَّـنـي |
على النَّاس مُعتاداً لضَرْبِ المَفارقِ |
|
أحبُّ الفتى الجَعْدَ السَّلولِيَّ ناضـلا |
وقالت أخرى:
وأَقَبحَها لمَّا تَجَـهـزَ غـادِيا |
|
وما أحسَنَ الدُّنيا وفي الدَّارِ خالد |
وقالتْ أُمُّ فَروة الغطَفانيَّة:
تَحدَّرَ مِنْ غُرٍّ طِـوَالَ الـذَّوَائب |
|
فما ماءُ مزْنٍ أيُّ ماءٍ تـقـولـهُ |
عليه رِياح الصَّيفِ مِن كلِّ جانبِ |
|
بمُنْعَرَجٍ أو بَطْـنِ وَادٍ تـحـدَّرَتْ |
فما إنْ بِهِ عَيبٌ يكونُ لـعـائبِ |
|
نَفَى نَسَمُ الرِّيحِ القَذَا عنْ متـونِـه |
تُقى اللّهِ واستحياءُ بعْضِ العَواقب |
|
بأطْيبَ مِمَّن يقصُرُ الطَّرْفَ دُونَه |
وقال بعضُ العُشاقِ:
وجُونُ القَطَا بالجَلْهَتَينِ جُـثـومُ |
|
وأنتِ الَّتي كلَّفتِنِي دَلَجَ السُّـرَى |
وقرّحتِ قَرحَ القَلب وهو كليم |
|
وأنتِ الّتي أَوْرَثتِ قَلبي حَرارةً |
بَعِيدُ الرِّضَا دَانِي الصُّدُودِ كَظِيمُ |
|
وأنتِ التي أسخطت قومي فكلُّهُمْ |
فقالت المعشوقة:
وأشمتَّ بي مَنْ كان فِيكَ يَلومُ |
|
وأنتَ الَّذِي أخْلَفْتَني ما وَعَدْتَني |
لَهُمْ غَرَضاً أُرْمى وأنتَ سَليمُ |
|
وأبرَزتَني للنَّاسِ حتَّى تركْتَني |
بجلْدِيَ مِنْ قَوْل الوُشاة كُلومُ |
|
فلوْ أَنَّ قَوْلاً يكلِمُ الجسْمَ قد بَدَا |
وقال آخر:
رَدَاحٌ وأَنَّ الوجهَ مِنكِ عَتيقُ |
|
شهدْتُ وبَيتِ اللّهِ أنَّكِ غـادةٌ |
ولا أنا للهجْرانِ مِنكِ مُطيقُ |
|
وأنَّكِ لا تجزيننـي بـمـوَدَّةٍ |
ثَّنَايا وأنَّ الخصْرَ مِنكَ رَقيقُ |
|
شَهدْت وبيتِ اللّهِ أنَّكَ بارِدُ ال |
وأنَّك إذْ تخْلو بهـنَّ رفـيق |
|
وأنَّكَ مَشْبوح الذِّرَاعين خَلجَمٌ |
شعر مختار وقال آخر:
قد دُستها دَوس الحصان الهيكل |
|
اللّه يعلم يا مـغـيرة أنـنـي |
عَجلانَ يَشويها لـقـومٍ نُـزَّلِ |
|
فأخذتها أخْذَ المقصِّب شـاتَـهُ |
وقال كعبُ بنُ سعدٍ الغَنَوي:
فكَيفَ وهاتَا هَضْبَةٌ وقَـلِـيبُ |
|
وحَدَّثتماني أنَّما الموتُ بالقُرَى |
ببَرّيّةٍ تجْرِي عَلَيهِ جـنـوب |
|
وماءُ سماءٍ كانَ غيرَ مَـجـمَّةٍ |
وما اقْتالَ في حُكْمٍ عليَّ طَبيبُ |
|
ومنزلة في دارِ صدقِ وغِبطةٍ |
وقال دُرَيد بن الصِّمَّة
مشيح على مُحْقوقفِ الصُّلبِ مُلْبدِ |
|
رئيسُ حُـروبٍ لا يزَالُ رَبِــيئَةً |
مِنَ اليَومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ |
|
صبورٌ على رُزء المصائبِ حافظٌ |
كَذَبْتَ ولم أبْخَلْ بما مَلَكَـت يَدي |
|
وهَوَّنَ وَجدي أنني لـم أقـلْ لَـهُ |
قطع من البديع وقطعةٌ من البَديع قوله:
وصاح في آثارِها فأسْمَعـا |
|
إذا حَدَاها صاحبي ورَجَّـعـا |
أدمك في ماء المهاوي مُنْقَعَا |
|
يتبعْن منهن جُلالاً أتـلـعـا |
وقال الراجزُ في البديع المحمود:
وإذْ أهاضيبُ الشبابِ تَبْغَشُ |
|
قد كنت إذْ حبلُ صِباك مُدْمَش |
ومن هذا البديع المستَحْسَن منه، قولُ حُجْر بن خالد بن مرثد:
كفِعْلِ أبي قابوسَ حَزْمـاً ونـائلا |
|
سمعتُ بِفِعْلِ الفاعلين فـلـم أَجـدْ |
إليك فأضحى حَوْلَ بـيتِـك نَـازِلا |
|
يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كـلِّ بـلـدةٍ |
وإن كان قد َخوَّى المرابيعُ سـائلا |
|
فأصبحَ منه كـلُّ وادٍ حـلـلـتَـه |
وتُضْحِي قلوصُ الحمد جَرْباء حائِلا |
|
فإن أنتَ تَهْلِك يَهْلِك الباعُ والـنَّـدَا |
ولا سُوقةٌ ما يَمْدَحَـنَّـك بـاطـلا |
|
فلا ملكٌ ما يبـلـغَـنَّـك سَـعْـيُهُ |
صدق الظَّنِّ وجَودة الفِراسة
قال أوس بن حجر:
نّ كأَنْ قَدْ رأى وقد سمعا |
|
الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظ |
وقال
عمر بن الخطَّاب: إنك لا تَنْتَفعُ بعقل الرَّجل حتّى تعرفَ صدقَ فطنته.
وقال أوس بن حجر:
نِقابٌ يُحدَّث بالغَائبِ |
|
مليحٌ نَجيحٌ أخو مَأْزِقِ |
وقال أبو الفضَّة، قاتِل أحمرَ بن شميط:
فإنَّ الظَّنّ يَنْقُصُ أوْ يزيدُ |
|
فإلاَّ يَأتِكُمْ خَـبَـرٌ يَقِـينٌ |
وقيل لأبي الهذيل: إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ - وأنتَ تكلِّم النظام وقمت - فأحْسَنُ حالاتِك أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ قال: خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد وقال كُثَيِّرٌ في عبدِ الملك:
|
به شَيبٌ وما فَقَدَ الشَّبَابَـا |
|
رَأيتُ أبا الوَليد غَدَاةَ جَمعٍ |
|||
|
إذا شابتْ لِدَاتُ المَرْءِ شَابَا |
|
فقلتُ لَهُ ولا أعيا جَوابـاً: |
|||
إذا ما قال أمْرَضَ أو أصابا |
|
ولكنْ تَحتَ ذاكَ الشيبِ حزمٌ |
|
|||
وليس في جَودة الظَّنِّ بيتُ شعرٍ أحسن مِنْ بيتِ بلعاء بنِ قيس:
إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره |
|
وأبغى صواب الظن أعـلـم أنـه |
وقال
اللّه عزَّ وجلَّ: "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ
فاتَّبَعُوهُ".
وقال ابن أبي ربيعةَ في الظَّنِّ :
كان للغَيِّ مَرَّةً قَدْ دَعـانـي |
|
ودَعاني إلى الـرَّشـادِ فـؤادٌ |
غَيْرَ شَكٍّ عَرَفتَ لي عِصْيَانِي |
|
اكَ دَهْرٌ لو كنتَ فيهِ قَرِينـي |
لَمُ إلاَّ الظُّنُونَ أيْنَ مَكـانِـي |
|
وتَقَلَّبتُ في الفِـراشِ ولا تَـع |
من مختار الشعر
وقال ابنُ أبي ربيعة في غير هذا الباب:
إذا نَظَرَتْ ومستَمعاً مطيعا |
|
وخِلٍّ كنتُ عَينَ النُّصْحِ منْهُ |
وقُلْتُ لَهُ أَرَى أمراً شَنيعَا |
|
أطافَ بغيَّةٍ فَنَهيتُ عنـهـا |
أبَى وعَصى أَتَيناها جَميعَا |
|
أَرَدْتُ رَشادَه جَهْدي، فلمـا |
وقال معَقِّر بن حمار البارقي:
والقَوْلُ مِثلُ مَوَاقِعِ النَّبْلِ |
|
الشِّعرُ لبُّ المرْءِ يَعْرِضه |
ونَوَافذٌ يذهَبنَ بالخَصـل |
|
منها المقصِّر عَن رَمِيَّتِه |
أبياتٌ للمحدَثينَ حِسانٌ
وأبياتٌ للمحْدَثين حِسَان، قال العَتَّابيّ:
مُبرَّأَةً مِنْ كُلِّ خُـلْـقٍ يَذِيمُـهـا |
|
وَكَمْ نِعمةٍ آتاكهـا الـلّـهُ جَـزْلَةً |
تَعَاوَرنها حَتَّى تَفَـرَّى أدِيمـهـا |
|
فَسلطتَ أَخلاقاً علـيهـا ذمِـيمةً |
بعَوراءَ يَجْرِي في الرِّجال نمِيمُها |
|
وَلُوعاً وإشفاقاً ونطقاً من الخَـنـا |
بَلَغت بأدنى نِعمَة تَسْـتَـدِيمُـهـا |
|
وكنتَ امرأً لو شِئتَ أنْ تَبْلُغَ المدَى |
مِنَ الصَّخرَةِ الصّمَّاء حِين ترُومُها |
|
ولكنْ فِطامُ النَّفْسِ أعسر محمَـلاً |
وقال أيضاً:
رضاعي بأدنى ضجْعَةٍ أستلينُها |
|
وكنتُ امرأً هَيَّابَةً تَسْتَـفِـزّنـي |
تَوَقَّلُ في نَيلِ المَعالي فنُونُـهـا |
|
أُوافي أميرَ المؤمنـين بِـهـمَّةٍ |
وأدَّى إليها الحقَّ فهو أمينُـهـا |
|
رَعى أُمَّةَ الإسلامِ فهو إمامُهـا |
تَغَلْغَلَ في حيثُ استَقَرَّ جنينُهـا |
|
ويَستَنتج العقماء حتَّى كـأنـمـا |
ولا كل مَن أَمَّ الصُّوَى يَسْتَبِينُهـا |
|
وما كل مَوصوفٍ لَهُ يَهـتَـدِي |
طوارفُ أبكارِ الخُطُوبِ وعُونُها |
|
مُقيمٌ بمستنِّ العُلا، حيثُ تَلتَقـي |
وقال الحسن بن هانئ:
عندَ احتِفالِ المجلِسِ الحاشد |
|
قُولاَ لهارُون إمامِ الـهـدَى |
أخلَى لَهُ وجهَكَ مِن حَاسد |
|
نَصيحةُ الفَضْلِ وإشفـاقُـهُ |
وواحد الغائب والشـاهـد |
|
بصادِق الطـاعةِ ديَّانِـهـا |
ما أنتَ مِثلَ الفَضْل بالواجِدِ |
|
أنتَ على ما بِكَ مِنْ قُـدْرَةٍ |
لطالـبٍ ذاكَ ولا نَـاشِـد |
|
أوحَدَه اللّهُ فمـا مـثْـلُـه |
أنْ يَجْمَعَ العالَمَ في واحـد |
|
وليس على اللّه بمستنكـر |
وقال عَديُّ بن الرِّقاعِ العاملي:
حتَّى أُقَوِّمَ مَيْلهَا وسـنـادهـا |
|
وقَصيدةٍ قَدْ بِتُّ أجْمعُ بَيْنَـهـا |
حتَّى يُقيمَ ثِقافُـهُ مُـنـآدهـا |
|
نظَرَ المثقِّف في كُعُوب قَناتِـه |
عَنْ حَرْف وَاحدة لكيْ أزْدَادَهَا |
|
وعَلِمْتُ حتَّى لَسْتُ أسْأَلُ عالِما |
وأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَـلَـيْهِ وَزَادَهـا |
|
صَلَّى الإلهُ عَلَى امْرئٍ ودَّعته |
شعر لبنت عدي بن الرقاع
قال: واجتمع ناسٌ من الشُّعَرَاء ببابِ عَديِّ بن الرقاعِ يُريدون مُماتَنَتَهُ ومُساجَلَتَه، فخَرجَت إليهمْ بِنْتٌ له صغيرة، فقالت:
عَلى وَاحدٍ لا زلْتُمُ قِرْنَ واحد |
|
تجَمَّعْتُم منْ كُلِّ أَوْبٍ ومَنـزل |
وقال عبدُ الرحمن بن حسّان الأنصاري، وهو صغير:
في دَارِ حَسَّانَ أَصْطَادُ اليَعَاسِيبَا |
|
اللّه يَعْلَمُ أنِّي كُنْت مُشْـتَـغِـلاً |
وقال
لأبيه وهو صبيٌّ - ورجع إليه وهو يبكي ويقول: لسعني طائر قال: فصفه لي يا بنيّ قال
كأَنَّهُ ثَوْبُ حَبَرة قال حسّان: قال ابني الشِّعْرَ وَرَبِّ الكعبة وكان الذي
لَسعه زنبوراً.
وقال سَهْلُ بن هارون، وهو يختلف إلى الكُتَّابِ لجارٍ لهم:
فهل تَماثَل أو نأتيه عُوَّادا |
|
نُبِّيت بَغْلك مبْطوناً فقلت له |
وقال طرفة وهو صبيٌّ صغير:
خلا لكِ الجَوُّ فبِيضي واصفِرِي |
|
يا لَكِ مِنْ قُبَّـرةٍ بـمَـعْـمَـرِ |
وقال بعض الشعراء:
فسَرَّكَ أن يَعيش فجِئْ بزادِ |
|
إذا ما ماتَ مَيْتٌ مِن تَـمـيمٍ |
أو الشَّيءْ الملفَّفِ في البِجَادِ |
|
بخبزٍ أو بِلَحْمٍ أوْ بِـسَـمْـنٍ |
ليأكُلَ رأسَ لُقمْان بنِ عـادِ |
|
تراه يَطوف بالآفاق حِرْصاً |
وقال
الأصمعي: الشيء الملفَّف في البِجاد: الوَطْب.
وقال أعرابيٌّ:
بدا في سَوادِ الرَّأس أبيض واضحُ |
|
أَلاَ بَكَرَتْ تَلْحَى قتَيْلَةُ بَـعْـدَمـا |
مِنَ المال أفنتْها السّنونَ الجَـوائحُ |
|
لتُدرِك بالإمْساك والمَنْـع ثَـرْوةً |
بذِكْر النَّدَى تَبْكِي عَلَيَّ الـنـوائح |
|
فقلت لها: لا تعذُلينـي فـإنـمـا |
أشعار في معانٍ مختلفة
وقال بَشَّارٌ أبياتاً تجوز في المذاكرة، في باب المنى، وفي باب الحزم، وفي باب المشورة، وناسٌ يجعلونها للجعجاع الأزدي، وناسٌ يَجعلونها لغيره، وهي قوله:
برَأْيِ نَصيحٍ أو نَصـيحةِ حـازِم |
|
إذا بَلَغَ الرَّأيُ المَشَورَة فاستَـعِـنْ |
مَكَانُ الخَوافي رافِدٌ لـلـقَـوادم |
|
ولا تحْسَبِ الشّورى عَلَيْكَ غَضاضَةً |
ولا تُشْهِدِ الشّورَى امرأً غَيْرَ كاتِم |
|
وأدْنِ مِنَ القُرْبى المقرِّبَ نَفْـسَـه |
ومَا خيْرُ نَصْلٍ لَـمْ يُؤيَدْ بِـقـائمِ |
|
وما خيْرُ كَفٍّ أمسَك الغلُّ أُخْتَـهَـا |
ولا تَبْلُغُ العَليَا بغَيْرِ الـمَـكـارِمِ |
|
فإنّك لا تَسْتطرِدُ الهَمَّ بِـالـمَـنـى |
وقال بعض الأنصار:
كَداءِ الشيْخ ليسَ له شفـاءُُ |
|
وبَعْضُ خلائقِ الأقوامِ دَاءٌ |
كمخْض الماء ليس لَهُ إتاءُ |
|
وبَعْضُ القَوْل ليس لَهُ عِناجٌ |
وقال تأبَط شَرّاً - إنْ كان قاَلها-:
ذَكَت الشِّعْرى فَبَردٌ وظِـلُّ |
|
شامِسٌ في القُرِّ حتَّى إذا مَـا |
وكِلاَ الطِّعمَين قدْ ذَاقَ كُـلُّ |
|
ولَهُ طَعْمَانِ: أَرْيٌ وشَـري ّ |
وإذا يغْدو فـسِـمْـعٌ أزَلُّ |
|
مُسْبِلٌ في الحَيِّ أحْوَى رِفَـلُّ |
مَصِعٌ عُقْدَتُـه مـا تُـحَـلُّ |
|
وَوَرَاء الثأر منه ابنُ أخـت |
أَطرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمّ صِلُّ |
|
مُطرِقٌ يَرشَحُ سُمًّا، كـمـا |
جَلّ حتَى دقّ فـيه الأجَـلُّ |
|
خَبَرٌ مَا نابَنَـا مُـصـمَـئِلُّ |
كَسَنَا البَـرقِ إذا مـا يُسَـلُّ |
|
كُلُّ ماضٍ قَد تَرَدَّى بِمـاض |
إنَّ جِسمي بَعدَ خالي لخـلُّ |
|
فَاسقِنيها يا سَوَاد بنَ عَمـرو |
وقال سلامَة بنُ جَندَل:
أصَعْصَعُ إِنِّي سَوف أَجزِيكَ صَعْصَعا |
|
سأَجزيك بالوُدِّ الـذي كـان بـينَـنـا |
إليك وإن حلَّت بُيُوتـك لَـعـلـعـا |
|
سأُهْدِي وإن كنا بـتـثـلـيثَ مِـدْحةً |
وجدناك مَحمُود الـخَـلائقِ أروَعـا |
|
فإنْ يَك محـمـوداً أبـوك فـإنَّـنـا |
وإن شئت أهدينَا لَكُـم مـائةً مـعـا |
|
فإن شئتَ أهـدينَـا ثـنـاءً ومـدحةً |
فقال
صعصَعة بن محمود بن بشر بن عمرو بن مرثد: الثَّناء والمدحة أحبُ إلينا، وكان أحمر
بن جندل أسيراً في يده، فخلَّى سبيلَه من غير فداء.
وقال أوسُ بن حَجَر، في هذا الشّكل من الشّعر - وهو يقع في باب الشّكر والحمد -:
|
حَليمَةُ إذْ ألْقى مراسيَ مُقعَدِ |
|
لَعَمرُك مَا ملَّت ثَوَاءَ ثَويِّهـا |
|||
وَحَلَّ بفَلجٍ فالقنـافـذ عُـوَّدي |
|
وَلَكِنْ تَلقت باليدَينِ ضَمانـتـي |
|
|||
بحَمْلِ البَلايا والخِباء المـمـدَّد |
|
وقَدْ غَبرت شهرَيْ رَبيعٍ كلَيْهما |
|
|||
كما شِئتَ مِنْ أُكرُومَةٍ وتَخَرُّدِ |
|
ولم تُلههَا تِلك التَّكَاليفُ؛ إنّـهـا |
|
|||
وحَسْبُك أن يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحمَدِي |
|
سأجزيكِ أو يَجزِيكِ عني مثَوِّبٌ |
|
|||
وقال أبو يعقوب الأعور :
وَحَسْبُك مِنّي أن أوَدَ وأجهدا |
|
فلم أجْزهِ إلاَّ الموَدَّة جاهـداً |
من شعر الإيجاز
وأبيات تضافُ إلى الإيجاز وحَذْف الفضول، قال بعضهم ووصف كِلاَباً في حالِ شَدِّها وعَدْوِها، وفي سُرعةِ رفعِ قوائمها ووضعها - فقال:
كأنَّما تَرْفَعُ ما لَمْ يُوضَعِ |
ووصف آخرُ ناقة بالنشاط والقوَّة فقال:
خرقَاءُ إلاَّ أنها صَنَاعِ |
وقال الآخر:
الليلُ أخفى والنْهارُ أفضَحُ |
ووصف الآخر قَوْساً فقال:
في كفِّه مُعْطِيَةٌ مَنوعُ |
وقال الآخر:
كَأَنَما دلـيلُـه مـطـوَّح |
|
وَمَهْمَهٍ فِيهِ السَرَابُ يَسْبَـحُ |
كأنَّما بَاتُوا بِحَيْثُ أصْبَحُـوا |
|
يَدْأَبُ فِيهِ القَوْمُ حتّى يَطْلَحُوا |
ومثل هذا البيت الأخير قوله:
وكأنّما مِنْ عاقِلٍ أرْمَامُ |
|
وكأنَّما بَدْرٌ وَصِيلُ كُتيفة |
ومثله:
وقُلتُ قُسَاسٍ من الحَرْمَلِ |
|
تجاوَزْتُ حُمْرَانَ في ليلةٍ |
ومن الباب الأوّلِ قوله:
كُلُّ هَمٍّ إلى فَرَجْ |
|
عادَني الهمُّ فاعتلجْ |
وهذا
الشِّعر لجُعَيفران الموَسْوَس.
وقال الآخَر:
فتًى إذا نبّهْتَه لم يَغْـضَـبِ |
|
لم أقْضِ من صحْبةِ زَيدٍ أرَبي |
ولا يضن بالمتاعِ المحقَـب |
|
أبيضُ بَسّامٌ وإن لم يعـجـب |
أقصى رفِيقيه له كالأقْـرَب |
|
مُوَكَّلُ النَّفس بِحِفْظِ الـغُـيّب |
وقال دُكَين:
بالسّوْط في دَيْمومةٍ كالتّرْس |
|
وقدْ تعَلّلتُ ذَمِيلَ الـعَـنْـس |
|
|
إذْ عَرَّج اللّيلَ بروجَ الشَّمسِ |
وقال دُكَينٌ أيضاً:
بمَوطنٍ يُنْبِطُ فيه المحتسي بالمشْرَفِيّات نِطافَ الأنْفُسِ |
وقال الراجز:
والنّصُّ في حِينِ الهَجِيرِ والضّحى |
|
طاَلَ عليهنَّ تكـالـيف الـسّـرَى |
رَوَاعِفٌ يَخْضِبْنَ مُبْيَضَّ الحَصى |
|
حَتَى عُجاهُنَّ فما تحت العُـجـى |
في هذه الأرجوزة يقول:
وضَحِكَ المزن بها ثمَّ بكى |
ومن الإيجاز المحذوف قولُ الراجز، ووصف سَهمه حينَ رَمى عَيراً كيف نَفَذَ سهمه، وكيفَ صرَعه، وهو قوله:
حتَى نجَا مِنْ جوفه وما نجا |
شعر في الاتِعاظ والزهد
ومما يجوز في باب الاتّعاظ قولُ المرأة وهي تطوف بالبيت:
وهَجْمةً يَحارُ فيها الطَالِبْ |
|
أنت وهَبْتَ الفِتيَةَ السَلاهِبْ |
متاعَ أيَامٍ وكُـلٌّ ذَاهِـبْ |
|
وغنَما مِثلَ الجَرَادِ السّارِبْ |
ومثله قولُ المسعوديّ:
ءٍ زعزعتْه الريحُ ذاهبْ |
|
أخلِفْ وأنْطفْ كلُّ شـي |
وقال القُدار وكان سيّد عَنَزة في الجاهلية:
ومن اللّجَاجة ما يَضُرُّ وَيَنـفَـعُ |
|
أهلَكْت مُهْرِيَ في الرِّهان لجَاجةً |
قال: وسمعت عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ينشد - وكان فصيحاً:
يُرَجَى الفتى كيما يضرَّ وينفعا |
|
إذا أنت لم تنفع فضرَّ فإنَـمـا |
وقال الأخطل:
وأعظمُ النّاس أحلاماً إذا قدروا |
|
شُمْسُ العَداوةِ حتَّى يُستفادُ لهـم |
وقال حارثة بن بدر:
سَفاهاً وقَدْ جَرَّبْتُ فيمَن يجـرِّب |
|
طربتُ بفاثور وما كدت أطـربُ |
وما الدَّهر إلاّ مَنْجَنَـونُ يقـلّـب |
|
وجرّبتُ ماذا العَـيْشُ إلاَّ تِـعـلّةٌ |
ومثلُ غدِ الجائي وكلٌّ سـيَذْهـب |
|
وما اليومُ إلاَّ مِثلُ أمْس الذي مضى |
وقال حارثة بن بَدر الغداني أيضاً:
|
ولَسْتَ بمُمْضِيهِ وأنتَ تعادِله |
|
إذا الهمُّ أمسَى وَهو داءٌ فأَلْقِه |
|||
إذا رامَ أمراً عَوَّقَـتْـهُ عَـواذِلـه |
|
فلا تُنْزِلَنْ أمْرَ الشـدِيدِة بـامـرئٍ |
|
|||
مِنَ الرَّوع أفْرخْ أكثَرُ الرَّوع باطِلُه |
|
وَقُل للفـؤِاد إن نَـزا بِـك نـزوَةً |
|
|||
شعر في الغَزْوِ
وقال الحارثُ بن يزيد وهو جدُّ الأحَيمِر السَّعديِّ وهو يقع في باب الغزْو وتمدُّحهم ببعد المغْزى:
ب ولا أُغير عَلَى مُضرْ |
|
لا لا أعُـقُّ ولا أحــو |
ضَجَّ المَطيُّ منَ الدَّبَـرْ |
|
لَكـنَّـمـا غـزوي إذا |
وقال ابن محفّض المازنيُّ:
أُصِيبت فما ذَاكُمْ عَلَيَّ بِـعـارِ |
|
إن تَك دِرْعي يَوْمَ صَحرَاءِ كُليةٍ |
عَلَى وَقَبَى يومًا ويَوْمَ سَـفـارِ |
|
ألم تك منْ أسْلابكمْ قبـل ذاكـمُ |
عواريُّ والأيام وغير قـصـارِ |
|
فتلك سرابيل ابن داودَ بـينـنـا |
إلى سَنَةٍ مثلِ الشِّهـاب وَنَـارِ |
|
ونحن طرَدنا الحيَّ بَكْرَ بنَ وائلٍ |
وذي لِبَدٍ يَغشى المهَجْهِجَ ضاري |
|
ومُومٍ وطاعون وحُمّى وحًصْـبةٍ |
ومنزلِ ذلٍّ في الحـياة وعَـارِ |
|
وحكم عـدوٍّ لا هَـوَادة عـنْـده |
وقال آخر:
وكونوا كَمَنْ سِيمَ الهَوَانَ فأَرتعـا |
|
خُذُوا العَقْلََ إن أعطاكُم القَوْم عَقْلَكُمْ |
محَا السّيف ما قالَ ابنُ دَارةَ أجْمَعا |
|
ولا تُكثروا فيها الضِجـاجَ فـإنَـه |
وقال أبو ليلى:
مقلّصة على ساقَيْ ظليمِ |
|
كأَن قطاتها كُردُوسُ فَحل |
شعر في السيادة
وقال أبو سلمى:
ومِنْ سفِيهٍ دائمِ النُّبـاحِ |
|
لابدَّ للسُّودد من أرمـاحِ |
|
|
ومنْ عَديدٍ يُتَّقى بالرّاحِ |
وقال الهذلي:
لها صعْداءُ مَطلبها طويل |
|
وإنَّ سيادة الأقوام فاعْلَـمْ |
وقال حارثة بن بدر، وأنشده سفيان بنُ عُيينة:
ومِنَ الشَّقاء تفرّدي بالسُّوددِ |
|
خلَت الدِّيارُ فَسُدْتُ غيْرَ مُسَوَّد |
شعر في هجاء السادة
وقال أبو نخيلة:
إلى سَيِّدٍ لوْ يظفَرُون بسيِّدِ |
|
وإنَّ بقَوْمٍ سَوَّدوك لَفَـاقَةً |
وقال إياس بن قتادة، في الأحنف بن قيس:
دَعَاك إلى نارٍ يَفُورُ سَعيرها |
|
وإنَّ مِنَ السّادات مَن لو أطعْتَه |
وقال حُميضة بن حذيفة:
وكل مطاعٍ لا أبالكَ يَظلِمُ |
|
أيظلمهم قسراً فتبّاً لسَعيهِ |
وقال آخر:
تخَمَّطُ فيهم والمـسـوَّدُ يَظْـلِـمُ |
|
فأصبحتَ بعد الحلم في الحيِّ ظالما |
وكان أنس بن مدركة الخثعمي يقول:
لأمرِ ما يسوَّدُ مَـنْ يسـودُ |
|
عزمت على إقامةِ ذي صباحٍ |
وقال الآخر:
لقد جَمَّعْتَ من شيء لأمر |
|
كما قال الحمار لسهم رامٍ |
وقال أبو حيّة:
بلى وهو واهٍ بالجراءِ أباجِلُه |
|
إذا قُلْنَ كلاَّ قال والنَّقْع ساطعٌ |
وقال آخر:
بشطّ دجلة يشري التمر والسمكا |
|
إني رأيت أبا العوراء مرتفـقـاً |
والموت أعلم إذ قفَّى بمن تركا |
|
كشدَّة الخيل تبقى عند مذودهـا |
ومن تكن أنت ساعيه فقد هلكا |
|
هذه مساعيك في آثار سادتـنـا |
وقال شتيم بن خويلد، أحد بني غراب بن فزارة:
إنَّك لَمْ تأْسُ أَسْواً رَفِيقَـا |
|
وقلت لسيِّدِنـا يا حـلـيمُ |
تُعادي فَريقاً وتُبقي فريقَا |
|
أعَنتَ عديّاً على شَأوهـا |
فجئتَ بها مؤْيِداً خَنْفَقِيقَا |
|
زَحرتَ بها ليلةً كلَّـهـا |
وقال ابن ميادة:
لدى بَابهِ إذناً يسـيراً ولا نُـزْلا |
|
أتيتُ ابن قشراءِ العِجانِ فلم أجـدْ |
لأنقَصُ من يَمْشي على قَدَم عَقلا |
|
وإنَّ الَّذي ولاّك أمْـر جـمـاعةٍ |
شعر في المجد والسيادة
وقال آخر:
أسأْنَا في ديارِهِمُ الصَّنيعـا |
|
ورِثنَا المجْد عن آباءِ صِدقٍ |
بُناة السُّوء أوْشك أنْ يضيعَا |
|
إذا المَجْدُ الرَّفيعُ تَعاورتْـه |
وقال الآخر:
أنَا السَّيِّدُ المُفْضَى إليه المعمَّـمُ |
|
إذا المرءُ أثْرَى ثمَّ قال لقومِـه |
وهانَ عليهمْ رَغْمُهُ وهو أظْلم |
|
ولم يعْطِهمْ خيراً أبَوْا أنْ يَسُودَهُم |
وقال الآخر:
ليَدفَع عَنّي خَلَّتي دِرْهمَا بحـرِ |
|
تركتُ لبحرٍ دِرهَميه ولمَ يَكُـنْ |
وأَنفقْهما في غيرِ حمدٍ ولا أجرِ |
|
فقلتُ لبحرٍ خذْهُما واصطَرِفهُما |
تسمَّيتَ بحراً وأكنيت أبا الغَمر |
|
أتمنَعُ سُؤال العشيرةِ بعـدَ مَـا |
وقال الهذليُّ:
أقولُ شَوًى ما لَم يُصِبنَ صمِيمي |
|
وكنت إذا ما الدّهرُ أحدَث نَكـبة |
وقال آخر في غير هذا الباب:
بعيدٌ مـن الأدواء طَـيِبَةُ الـبَـقْـلِ |
|
سقى اللّه أرضاً يَعْلَمُ الضَّـبُّ أَنَّـهـا |
وكلُّ امرئٍ في حِرفَةِ العَيْش ذُو عَقْل |
|
بنى بيته فـي رأس نَـشْـزٍ وكُـدْيةٍ |
أبو الحارث جمين والبرذون
وحدّثني المكيُّ قال: نظر أبو الحارث جُمَّين إلى برذون يُستقى عليه ماءٌ، فقال:المرء حيث يضع نفسه! هذا لو قد همجلج لم يبتل بما ترى!
بين العقل والحَظ
وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:
بأغنى في المعيشةِ من فَتيل |
|
وما لُبُّ اللَّبيب بـغـير حـظٍّ |
وَهَيْهَاتَ الحُظوظ من العقول |
|
رأَيت الحَظَّ يستُر كلَّ عَـيْب |
هجو الخَلْف
وقال الآخر:
وبَقِيت كالمقْهور في خَلْفِ |
|
ذهبَ الَّذين أُحبُّهم سلَـفـاً |
مُتَضَجِّع يُكْفَى ولا يَكفِـي |
|
من كلِّ مَطوِيٍّ على حَنَـقٍ |
عبد العَين
وقال آخر:
فيُرضى وأمّا غَيبُه فظَنُونُ |
|
ومَوْلى كَعَبْدِ العَيْن أمَّا لِقاؤه |
ويقال
للمرائي، ولمن إذا رأى صاحبَه تحرّك له وأرَاه الخدْمة والسرعة في طاعته فإذا غابَ
عنه وعن عينه خالف ذلك: إنَّما هو عَبْدُ عَين.
وقال اللّهُ عزَّ وجلّ: "وَمِنْ أهْلِ الكِتَابِ مَن إنْ تَأمَنْه بِقِنطارٍ
يُؤَدِّه إلَيْكَ" وَمنْهُم مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّه
إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائماً".
من إيجاز القرآن
وقد
ذكرنا أبياتاً تُضاف إلى الإيجاز وقِلَّة الفُضول، ولي كتابٌ جَمَعْتُ فيه آياً من
القرآن؛ لتَعرِفَ بها فصل ما بينَ الإيجاز والحَذْف، وبين الزّوائد والفُضول
والاستعارات، فإذا قرأْتها رأيت فضلها في الإيجاز والجَمْعِ للمعاني الكثيرةِ
بالألفاظ القليلة على الَّذي كتبتُهُ لك في بابِ الإيجازِ وترك الفضول، فمنها قوله
حينَ وصفَ خمرَ أهلِ الجنّة:"لاَ يُصَدَّعُون عَنْها وَلاَ يُنْزِفون"
وهاتان الكلمتان قد جَمَعتا جميعَ عُيوبِ خمرِ أهلِ الدُّنيا.
وقولُه عزّ وجل حينَ ذكر فاكهة أّهلِ الجنّة فقال: "لاَ مَقْطُوعةٍ وَلاَ
مَمْنُوعةٍ". جمع بهاتين الكلمتين جميعَ تلك المعاني.
وهذا كثيرٌ قد دَللتك عليه، فإنْ أردته فموضعه مشهور.
رأي أعرابي في تثمير المال
وقال أعرابي من بني أسد:
لِوَارِثِه ما ثَمَّرَ المَالَ كاسبُـه |
|
يقُولون ثَمِّر ما استَطَعت وإنما |
شحيحاً ودهراً تَعْتَريكَ نوائبُهْ |
|
فكلْهُ وأطعمْهُ وَخالِسهُ وَارِثـاً |
شعر في الهجاء
وقال رجلٌ من بني عَبْس:
|
لا يَعرِفُ النَّصْفَ بل قد جاوَزَ النَّصَفا |
|
أبلغ قُراداً لقد حَـكَّـمـتُـمُ رجـلاً |
|||
|
فجانَبَ السَّهْلَ سَهْلَ الحقِّ واعتسفـا |
|
كان امرأً ثائراً والـحـقُّ يَغْـلِـبُـه |
|||
|
وأنّ أنـفَـكُـمُ لا يعـرِفُ الأنَـفـا |
|
وذاكمُ أنَّ ذُلَّ الـجـار حـالَـفَـكُـم |
|||
|
أوْ يَرْهَبِ السَّيف أو حدَّ القَنا جنَـفَـا |
|
إنَّ المحكَّمَ ما لَمْ يَرْتَقِـبْ حَـسَـبـاً |
|||
|
موتاً على عَجَلٍ أو عاش مُنْتَصِـفَـا |
|
مَن لاذ بالسَّيفِ لاقى قَرضَه عجـبـا |
|||
|
إمَّـا رَواحـاً وإمـا مِـتَةً أنَـفــا |
|
بِيعُوا الحياة بها إذ سام طـالـبُـهـا |
|||
|
هاتيك أجْسادُ عادٍ أصبحـتْ جِـيفَـا |
|
ليس امرؤٌ خالداً والموتُ يطـلـبُـه |
|||
أنَّ الذي بيننا قد مـات أو دنِـفـا |
|
أبِلغْ لَديك أبا كعب مـغَـلْـغَـلة |
|
|||
ثَوْبَ العَزِيمةِ حتَّى انجاب وانكشفَا |
|
كانت أمورٌ فجابت عن حُلومكـم |
|
|||
عَنِّي، وَأعْلَمُ أَنِّي آكُلُ الكـتـفـا |
|
إنِّي لأعلَمُ ظَهْرَ الضِّغن أعْـدِلـه |
|
|||
شعرحكمىّ
وقال أسقفُّ نجْران:
منَعَ البقَاءَ تصرُّفُ الشمسِ وطُلوعُها منْ حيْثُ لا تُمسي |
وطُلوعُها بَيضاءَ صافِيَةً وغروبُها صَفْراءَ كالوَرْس |
اليوم أَعلم ما يجيءُ بِهِ ومضى بفَصْل قضائه أَمْس |
وقال عبيدُ بن الأبرص:
وغائِبُ الـمـوْتِ لا يَؤوبُ |
|
وكُـلُّ ذي غَـــيْبةٍ يَؤوبُ |
وسـائلُ الـلّـهِ لا يَخـيبُ |
|
مَنْ يَسْألِ النَّاسَ يَحْـرِمُـوه |
وغانمٌ مثْـلُ مَـنْ يَخِـيبُ |
|
وعاقرٌ مـثـلُ ذاتِ رحْـمٍ |
عْف وقَـدْ يُخـدَعُ الأريبُ |
|
أَفْلحْ بما شئْتَ فقَدْ يُبْلَغُ بالضَّ |
طُولُ الحَياةِ لَـهُ تَـعـذِيبُ |
|
المرءُ مَا عاش في تَكْـذيبِ |
وقال آخر:
واضطرَبَتْ مِنْ كِبَرٍ أعْضادُها |
|
إذا الرِّجـال ولَـدَت أوْلاَدُهـا |
فَهْيَ زُروعٌ قد دنا حَصَادهـا |
|
وَجَعلَتْ أوْصابُها تعـتـادُهـا |
مرثية في محمد المخلوع
وقال بنت عيسى بن جعفر وكان مُمْلَكَةً لمحمدٍ المخلوع حينَ قتل:
بَلْ للِمعَالي والرُّمحِ والفَرَسِ |
|
أبْكيِك لا للنَّـعـيم والأنـس |
أرْملَني قَبْلَ لَيْلةِ الـعـرسُ |
|
أبكي على فارسٍ فُجعْتُ به |
من نعت النساء
وقال سَلْمٌ الخاسر:
بجيدٍ نقيِّ الّلونِ من أَثـر الـوَرْس |
|
تبدَّتْ فقلتُ الشَّمسُ عِنْدَ طلُوعِـهـا |
على مِريْةٍ: ما هاهُنا مطلع الشمس |
|
فلما كَرَرْت الطّرفَ قلت لصَاحِبي |
شعر رثاء
وقال الآخر:
نَفَضْتُ تُرابَ قبَرِك عَنْ يَدَيَّا |
|
كفى حَزَناً بدَفنِكَ ثُـمَّ أَنِّـي |
وأنتَ اليوْم أوعظُ منْك حَيّا |
|
وكانت في حياتكَ لي عظاتٌ |
المديح بالجَمَال وَغَيره
قال مزاحمٌ العقيليّ:
على غَفَلاَت الزَّينِ والمتـجَـمَّـلِ |
|
يزين سنا الـمـاويِّ كـلَّ عـشـيّةٍ |
صَدَعْنَ الدُّجى حتَّى ترى اللَّيْل ينْجَلي |
|
وجوهٌ لوَ انَّ المدْلجِينَ اعتشوْا بـهـا |
وقال الشَّمَردَل:
راحُوا كأنهمُ مَرْضى من الكَـرَم |
|
إذا جَرى المسْكُ يَنْدى في مفارِقِهِمْ |
وطولِ أنضية الأعنـاق والأُمـم |
|
يشبَّهونَ ملوكاً من تجـلّـتـهـم |
النضيُّ:
السَّهم الذي لم يُرَش، يعني أن أعناقهم مُلسٌ مستوية، والأمم: القامات.
وقال القتَّال الكلابيّ:
لمالكٍ أو لحِـصْـنٍ أو لـسَـيَّارِ |
|
يا لَيتَني والمُنى لَيست بـنـافـعةٍ |
ريحَ الإماء إذا راحت بـأزفـار |
|
طوال أنضيَة الأعناق لـم يجـدوا |
لواضِحِ الوَجْهِ يَحمِي باحَةَ الـدَّارِ |
|
لم يرْضَعوا الدَّهر إلا ثدَْيَ واضِحةٍ |
وقال آخر:
إلى الشَّاء لم تْحلُلْ عَلينا الأباعِرُ |
|
إذا كان عَقْلٌ قلتُمُ إنَّ عَـقْـلَـنَـا |
بُودِّ بني ذبيان مولى لـخـاسِـرُ |
|
وإنَّ امرأً بعـدِي يُبـادل وُدَّكُـمْ |
إذا صرَّحَتْ كَحْلٌ وهَبَّتْ أعاصِرُ |
|
أولئك قـومٌ لا يُهـان هَـدِيّهـم |
بأيديهـمُ خـطِّـيَّة وبَـواتِــرُ |
|
مَذاليق بالخَيل العِتـاق إذا عَـدَوا |
وقال أبو الطَّمَحَان القَينيّ في المعنى الذي ذكرنا:
وَفيٍّ بعَقْدِ الجَارِ، حِينَ يُفارقُه |
|
كم فيهمُ مِنْ سَيِّدٍ وابـنِ سَـيِّد |
وُجُوهَ بَني لأمٍ ويَنْهَلُّ بارقُـه |
|
يكاد الغَمام الغُرُّ يُرْعِدُ أنْ رَأى |
وقال لَقِيطُ بن زرارة:
|
إذا مات منْهُمْ سَيِّدٌ قامَ صاحبُه |
|
وإنِّي مِنَ القَوْْمِ الذين عَرَفْتـمُ |
|||
بَدَا كَوْكَبٌ تأوي إليه كواكـبُـه |
|
نجومُ سماءٍ كُلما غار كـوْكَـبٌ |
|
|||
دُجَى اللّيلِ حتَّى نَظَّمَ الجزعَ ثاقِبه |
|
أضاءَتْ لهمْ أحسابهُمْ ووُجُوههُـم |
|
|||
وقال بعض التميميِّين، يمدَح عوفَ بنَ القَعْقاع بنِ مَعْبَدِ بن زرارة:
وأنت لَقعقاعٌ وعمُّك حـاجـبُ |
|
بحقِّ امرئ سرو عتيبة خـالـه |
بدا كوكب ترفضُّ عنه الكواكبُ |
|
دراري نجوم كلما انقض َّ كوكبٌ |
وقال طفَيلٌ الغَنَويُّ:
وعمرو ومن أسماءَ لَّما تَغَـيّبُـوا |
|
وكانَ هُريمٌ مِن سِـنـانٍ خَـلِـيفةً |
بَدَا ساطِعاً في حِنْدِس اللّىلِ كوْكب |
|
نجومُ ظلام كلما غـاب كـوكـبٌ |
وقال الخرَيمي، يمدح بني خُرَيم من آل سنان بن أبي حارثة:
لَظلَّت مَعَدُّ في الدُّجى تَتكَسَّعُ |
|
بقيَّة أقمارٍ من الغُرِّ لو خَبتْ |
بدَا قَمرٌ في جانب الليل يَلْمَعُ |
|
إذا قمرٌ منهم تَغَوَّرَ أو خَبـا |
وقال بعضُ غنِيٍّ وهو يمدح جمَاعة إخوة، أنشدنيها أبو قطَن الذي يقال له شهيد الكَرَم:
أُولــو فُـــضـــولٍ وأنْـــفـــالٍ وأخـــطـــارِ |
|
حَبِّـر ثَـنـاءَ بـنـــي عـــمـــرٍو فـــإنَّـــهـــمُ |
|
|
إنْ يُسْأَلوا الخَيْرَ يُعطوهُ، وَإنْ جُهِدُوا فالجهْدُ يُخْرج منْهُمْ طِيبَ أخبار |
|
|
وإنْ تَودَّدْتَهم لانُوا، وإن شُهِموا كشفْتَ أذمَار حربٍ غَيرَ أغمارِ |
|
|
مَن تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقَيتُ سَيِّدَهُمْ مِثْلُ النُّجوم التي يسري بها السَّاري |
وقال رجلٌْ من بني نهشل:
قيلُ الكُماةِ ألا أَينَ المحامُـونـا |
|
إنِّي لمِنْ مَعْشر أفْنَى أوائلَـهُـمْ |
مَنْ فارسٌ خالَهُمْ إيّاهُ يَعنُـونـا |
|
لو كانَ في الألف منَّا واحدٌ فدَعَوْا |
إلاَّ افتلَيْنا غُلامـاً سَـيِّداً فِـينـا |
|
وليسَ يَذْهَبُ مِـنّـا سَـيِّدٌ أبَـداً |
وفي المعنى الأوّل يقول النّابغة الذُّبيانيّ:
ترَى كُلَّ مُلْكِ دُونها يَتَذَبْـذَبُ |
|
وذاكَ لأنَّ اللّهَ أعطاك سُورَةً |
إذا طَلَعتَ لم يَبْدُ منهنّ كَوكَبُ |
|
بأنَّك شمسٌ والملوك كواكـب |
وفي غير ذلك من المديح يقول الشاعر:
والجيشُ باسم أبيهمُ يُستَهـزَمُ |
|
وأتيتُ حَيّاً في الحروب محلُّهم |
وفي ذلك يقول الفرزدق:
تَساَقى السِّمامَ بالرُّدَيْنِيَّة السُّـمْـرِ |
|
لتَبْك وكيعاً خيلُ لـيلٍ مُـغـيرةٌ |
دعَوْها وكيعاً والرِّماحُ بهم تجري |
|
لقوا مثلَهم فاستهزَموهمْ بـدعـوةٍ |
وأما قول الشاعر:
تخامل المحتد أو هزام |
فإنَّما
ذَهبَ إلى أنَّ الدَّعوة إذا قام بها خامل الذِّكر والنسب فلا يحسُده من أكفائه
أحدٌ وأما إذا قام بها مذكورٌ بيُمن النَّقيبة، وبالظَّفَر المتتابع، فذلك أجود ما
يكون، وأقرَبُ إلى تمام الأمر.
وقال الفرزدق:
وما كان وُدِّي عَنْهُمُ يتصرَّمُ |
|
تَصرَّم منّي وُدّ بكرِ بنِ وَائلٍ |
وقَدْ يَملأ القَطْرُ الأناءَ فَيُفْعَمُ |
|
قوارصُ تأتِيني ويحتقرونها |
وقال الفرزدق:
يؤمِّله في الوَارِثينَ الأبـاعـدُ |
|
وقالتْ أُراه واحداً لا أخَـا لَـهُ |
بَنيَّ حَوَاليَّ الأسُودُ الـحـوارِدُ |
|
لعلَّكِ يوماً أن ترَيْني كـأنَّـمـا |
أقام زماناً وهو في الناس واحدُ |
|
فإنَّ تميماً قبل أن يلد الحصـى |
وقال الفرزدق أيضاً:
لميقاتِ يومٍ حَتْفُه غير شاهـد |
|
فإنْ كان سيفٌ خان أو قَدَرٌ أتى |
نبا بيدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالدِ |
|
فسَيْفُ بني عَبْسٍ وقد ضَرَبُوا بِهِ |
ويقْطَعْن أحياناً مَنَاطَ الـقَـلائدِ |
|
كذاك سُيوفُ الهِنْدِ تنْبُو ظُباتُهـا |
??خير قصار القصائد
وإنْ
أحببتَ أن تروِي مِن قِصار القصائدِ شِعراً لم يُسمَع بمثله، فالتَمِسْ ذلك في
قصار قصائدِ الفَرَزدق؛ فإنك لم تَرَ شاعراً قطُّ يجمَعُ التَّجويدَ في القِصار
والطِّوال غَيْرَ. وقد قيل للكُميت: إنْ النَّاسَ يزْعمون أنّك لا تقدِر على
القصار قال: مَنْ قال الطِّوال فهو على القِصار أقدر.
هذا الكلام يَخْرج في ظاهر الرَّأي والظَّن، ولم نجدْ ذلك عند التَّحصيل على ما
قال.
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة: لم لا تُطيل الهجاء? قال: يَكفيِك مِنَ القِلادة مَا
أحَاط بالعُنق.
وقيل لجرير: إلى كَمْ تهجُو النَّاس? قال: إنِّي لا أبتدي، ولكنِّي أعتدي.
وقيل له: لم لا تقصِّر? قال: إن الجماحَ يمنع الأذى.
شعر مختار
قال عبيد بن الأبرص:
نُفَراءَ من سَلْمى لنا وتَكَتَّـبُـوا |
|
نبِّئتُ أنَّ بَني جَـدِيلةَ أوْعَـبُـوا |
تيسٌ قَعيدٌ كالهِرَاوةِ أعـضَـبُ |
|
ولقد جَرى لهمُ فلم يتـعـيَّفـوا |
متنكِّبٌ إبط الشَّمـائل ينْـعَـبُ |
|
وأبو الفِراخ على خشاش هشيمةٍ |
عَدْواً وَقرْطبةً فلمـا قـرَّبـوا |
|
فتجاوزوا ذَاكُمْ إلـينـا كـلَّـه |
خلفَ الأسِنّةِ غَيْرَ عِرْقِ يشْخَبُ |
|
طُعِنوا بمُرَّان الوَشيجِ فما تَـرى |
صَنَماً ففِرُّوا يا جَدِيلَ وأعذِبـوا |
|
وتَبَدَّلوا اليَعْبوبَ بَعدَ إلـهـهِـمْ |
وقال آخر:
بِجُوْخَى إلى جيرانِه كيفَ يَصنَعُ |
|
ألم تَرَ حَسّان بنَ مَيسـرة الـذي |
إليه سِراعاً يحصُـدُون ويزْرَعُ |
|
مَتَارِيبُ ما تنفكُّ منهم عِصـابة |
شعر في قوله يريد أن يعربه فيعجمه
وبابٌ آخر مثلُ قوله:
يريد أن يُعرِبَه فيُعجمَهُ |
وقال آخر:
كأنَّ مَنْ يحفَظها يُضيِعها |
وقال آخر:
أهوجُ لا يَنفَعُهُ التثَّقيفُ |
وقال بعض المحدَثين في هذا المعنى:
مَعَ الشَّعْب لا تزْدَادُ إلا تَدَاعِيَا |
|
إذا حَاوَلوا أن يَشْعَبُوها رَأيتَها |
وقال صَالِحُ بنُ عبدِ القُدُّوس:
حَتَّى يُوارَى في ثَرَى رَمْسِهِ |
|
والشيخُ لا يَتْـرُكَ أخـلاقَـهُ |
كَذِي الضَّنا عادَ إلى نُكْسِـه |
|
إذا ارْعَوَى عادَ إلى جَهلِـهِ |
ومثل هذا قوله:
وَمِنَ العَناءِ رِياضةُ الـهـرِمِ |
|
وتَروضُ عِرْسكَ بَعْدَ ما هَرِمتْ |
وقال حُسيل بن عُرْفُطة:
وتحديثُك الشَّيء الذي أنت كـاذِبُـهْ |
|
لِيَهْنيكَ بُغْضٌ في الصَّـدِيق وَظِـنة |
قَلاك ومثلُ الشَّرِّ يُكْـرَهُ جـانـبُـهْ |
|
وأنكَ مَشْنوءٌ إلـى كـلِّ صـاحـبٍ |
شَدِيدُ السِّبَاب رافع الصوتِ غالبُـهْ |
|
وأنَّك مِهْداءُ الخَنا نَـطِـفُ الـنـثَـا |
ولا مِثْلَ بُغْضِ النَّاس غَمّضَ صَاحِبُه |
|
فلم أرَ مِثْلَ الجَهْل يَدْعو إلى الـرَّدى |
كلمة
للزِّبرقان وقال الأصمعي: قال الزِّبرقَان بنُ بدر: خَصْلَتان كبيرتان فِي امرئ
السَّوء: شِدَّة السِّباب، وكثرة اللِّطام.
تمجيد الأقارب وقال خالد بن نَضْلة:
عليَه ولو عالَوْا به كـلَّ مَـركـبِ |
|
لَعَمْري لَرَهْطُ المَرءِ خَـيْرٌ بَـقِـيةً |
كثيرٍ ولا يُنْبِيك مثلُ الـمـجـرِّبِ |
|
منَ الجانِبِ الأقصَى وإنْ كان ذا نَدى |
فكلْ مَا عُلِفْتَ مِنْ خَبـيثٍ وَطَـيِّبِ |
|
إذا كنْتَ في قومٍ عِداً لستَ مِنْـهُـمُ |
وإن كنتُ ذا ذَنْب وإن غَيْرَ مُذْنِـبِ |
|
فإنْ تَلتَبِسْ بـي خَـيلُ دُودَان لا أَرِمْ |
بكل وادٍ بنو سعد
قال:
ولمَّا تأذَّى الأضبط بنُ قريع في بني سعد تحوَّلَ عنهمْ إلى آخَرينَ فآذَوه فقال:
بكلِِّ وادٍ بنو سعد.
مقطَّعات شتَّى وقال سُحَيمُ بن وَثِيل:
ولكنَّ زَينَ الرَّحْلِ يا ميَّ راكبُه |
|
ألا ليسَ زَينَ الرَّحلِ قِطْعٌ وَنُمْرُق |
وقال أعرابيٌّ:
عن الماء حتَّى جَوْفها يَتَصَلْصَلُ |
|
فما وجْدُ مِلواحٍ مِنَ الهيمِ خلِّئتْ |
أقاَطيعُ أنعامٍ تُعَـلُّ وتُـنْـهَـلُ |
|
تحومُ وتَغْشَاها العِصيُّ وحَوْلهـا |
إلى الورد إلاَّ أنَني أتَـجَـمّـلُ |
|
بأكثرَ مِنِّي غُلَّةً وتـعـطُّـفـاً |
وقال خالدُ بن عَلْقَمَةَ ابنُ الطَّيفان، في عيب أخْذِ العَقْل والرِّضا بشيءٍ دونَ الدَّم، فقال:
دَمٌ غَيْرَ أنّ اللَّونَ لَيسَ بأحْـمَـرَا |
|
وإنَّ الَّذي أصبحْتُمُ تَحـلُـبُـونَـه |
رَضِيتُمْ وزوّجتم سَيَالة مِسْـهَـرَا |
|
فلا تُوعِدُوا أولادَ حَيَّانَ بَـعْـدَمـا |
إذا عبّ في الـبَـقِـيةِ بَـرْبَـرَا |
|
وأعجَبَ قِردٍ يقصم القمل حَالـقـاً |
رأوا لَونَه في القَعبِ وَرداً وأشقرا |
|
إذا سكَبُوا في القَعبِ من ذي إنائهم |
الغضب والجنون
في المواضع التي يكون فيها محموداً
قال الأشهبُ بن رُمَيلة:
واعصَوْصَب السَّيرُ وارتدّ المساكينُ |
|
هرّ المَقادَة من لا يستـقـيِد ُلـهـا |
كأنَّهُ مِنْ ضِرارِ الضَّيم مجْـنُـون |
|
مِنْ كلِّ أشعثَ قدْ مالَتْ عِمامَـتـهُ |
وقال في شبيهِ ذلك أبو الغول الطُّهَويُّ: فَدَتْ نفسي وما مَلَكَتْ يَميني مَعاشِرَ صُدِّقتْ فيهم ظُنُوني مَعاشِرَ لا يملُّون المنايا إذا دَارتْ رَحَى الحربِ الطَّحون ولا يجزُون مِن خير بشر ولا يَجْزُون من غِلَظٍ بِلِينِ ولا تَبلى بَسَالتُهُمْ وإنْ هُمْ صَلُوا بالحَرْبِ حيناً بعدَ حين هُمُ أحمَواْ حِمَى الوَقَبَى بضَرْبٍ يُؤَلِّف بينَ أشْتَاتِ المَنُونِ فنَكَّبَ عنهمُ دَرْءَ الأعادِي وَدَاوَوْا بالجُنُونِ من الجنونِ وقال ابن الطَّثريَّة:
إلا السِّنَانَ لذاقَ الموت مظعـونُ |
|
لو أنَّني لم أنلْ منكم مـعـاقـبةً |
بالسّيف إن خطيب السَّيفِ مَجْنُونُ |
|
أو لاختطبتُ فإني قد هممت بـه |
وقالَ آخر:
جَمَلٌ بِهَودجِ أهْلِهِ مَظْعُون |
|
حمراءُ تامِكة السَّنامِ كأنَّهـا |
كِلْتاَ يَدَيْ عَمْرو الغَدَاةَ يَمينُ |
|
جادَتْ بها يَومَ الوَداعِ يَمينه |
إلاَّ كَرِيمُ الخِيمِ أو مجْنُـونُ |
|
ما إنْ يجود بمثْلها في مثلِه |
وفي هذا المعنى يقول حسَّان، أو ابنُه عبدُ الرحمن بن حسَّان:
ودَ ما لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنونَـا |
|
إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسْ |
فبِما نأكُلُ الحديثَ سَـمِـينـا |
|
إنْ يكُنْ غَثَّ مِنْ رَقاشِ حَدِيثٌ |
وفي شبيهٍ بذلك قول الشَّنْفَرَى:
فول جُنَّ إنْسانٌ مِنَ الحُسْنِ جُنّتِ |
|
فدَقَّتْ وجلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلتْ |
وقال القُطاميُّ - حين وصف إفراط ناقَتِه في المرَح والنَّشاط:
مَجْنُونَةً أو تُرَى ما لا تَرَى الإبلُ |
|
يَتْبَعْن ساميةَ العَينَينِ تحسَـبُـهـا |
وقال ابنُ أحَمرَ، في معنى التشبيه والاشتقاق:
تداعى الجِرْبِياءُ به الحنينـا |
|
بِهَجْلٍ من قَساً ذَفرِ الخُزَامى |
وجُنّ الخازِبازِ بِهِ جُنُـونـا |
|
تَفَقَّأَ فَوقَهُ القَلَعُ السَّـوَاري |
وفي مثل ذلك يقول الأعشى:
حَ وجُنَّ التِّـلاعُ والآفـاقُ |
|
وإذا الغيثُ صوبُه وَضَع القِدْ |
رِ ولا اللَّهوُ فيهمُ والسِّبـاقُ |
|
لم يزِدْهُمْ سَفاهةً نشْوةُ الخم |
وقال آخر في باب المزاح والبَطالة، مما أنشَدَنيه أبو الأصبغ بن رِبعيّ:
وما صاحبي إلاَّ الصَّحِيحُ المسلَّمُ |
|
أتَوني بمجنونٍ يَسِيلُ لُـعَـابُـه |
وأنشدني ابراهيم بن هانئ، وعبد الرحمن بن منصور:
طبيباً يداوي من جنون جنون |
|
جنونك مجنون ولست بواحدٍ |
إبراهيم بن هانئ والشعر
وكان
إبراهيم بن هانئ لا يقيم شعراً ولا أدري كيف أقَامَ هذا البيت.
وكان يدَّعى بحضرة أبي إسحاق علمَ الحِسابِ، والكلامِ، والهندسةِ، واللحون، وأنه
يقول الشعر؛ فقال أبو إسحاق: نحن لم نمتحِنك في هذه الأمور، فلك أن تدّعِيهَا
عندنا، كيف صرْتَ تدّعي قول الشعر، وأنتَ إذا رويتَه لغيرك كسرته? قال: فإنّي هكذا
طبِعتُ، أن أقيمه إذا قلت، وأكسره إذا أنشدت قال أبو إسحاق: ما بعدَ هذا الكلام
كلام.
جواب أعرابي
وقلت لأعرابيّ، أيّما أشدُّ غلمةً: المرأة أو الرجل? فأنشد:
أَألأيرُ أدنَى للفجور أو الحِرُ |
|
فوَاللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لَسـائِلُ |
وأقبلَ هذا فاتحاً فاه يهـدرُ |
|
وقد جاءَ هذا مُرخِياً من عِنانه |
مقطعات شتى
وأنشد بعضهم:
واكتَسى الرأسُ من بياض قناعا |
|
أصبَح الشَّيبُ في المفارِقِ شاعا |
ثم يأبَى القـلـيلُ إلاَّ نـزاعـا |
|
ثم وَلَّى الشَّبابُ إلاَّ سـقـلـيلاً |
وأنشد محمد بن يسير:
خَوْدٌ تَأَطَّرُ ناعِمٌ بِكْرُ |
|
قامتْ تُخاصرني لِقُبَّتِها |
في كل مبلغ لَذَّةٍ عُذْرُ |
|
كلٌّ يَرَى أنَّ الشَّبابَ له |
وقال الآخرُ في خلاف ذلك، أنشدنيه محمد بن هشام السِّدري:
أشرُّ الرِّجال مَنْ يسيءُ فيُعذَرُ |
|
فلا تعذُراني في الإساءةِ إنَّـه |
وقال ابن فسوة:
إلى حَسَن في داره وابن جعفر |
|
فَلَيتَ قَلوصي عُرِّيت أوْ رحلتها |
ولا يلبَسُون السِّبْتَ ما لم يُحضَّر |
|
إلى مَعْشَر لا يَخصِفُونَ نِعالَهـم |
وقال الطِّرِمَّاحُ بنُ حكيم، وهو أبو نفْر:
بَغيضٌ إلى كلّ امرئٍ غَيْرِ طائل |
|
لقد زادني حُبّاً لنَفسـيَ أنَّـنـي |
وَبَيْنيَ فِعْلَ العارِفِ المتجاهِـلِ |
|
إذا ما رآني قطَّعَ الطَّرْفَ بَيْنـه |
من الضِّيقِ في عَينْيَهِ كِفَّةُ حابل |
|
ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّهـا |
وقال آخر:
كأنَّ الشَّمْسَ مِنْ قِبَلي تَدُورُ |
|
إذا أبصرتَني أعْرَضْتَ عَنِّي |
وقال الخُرَيمي وَذَكر عماه:
إذا التقينا عمـن يحـيينـي |
|
أصغي إلى قائدي ليخبرنـي |
أَفصِلَ بَيْنَ الشَّرِيفِ والدُّونِ |
|
أريدُ أن أعدِلَ الـسَّـلامَ وأنْ |
أُخطِئ، والسَّمْعُ غيرُ مَأمُونِ |
|
اسمَعُ ما لا أرَى فأكـره أنْ |
لو أنّ دَهراً بها يَواتـينـي |
|
لِلّه عيني التي فجعْتُ بـهـا |
تَعْميِرَ نُوحٍ في مُلْكِ قارُون |
|
لو كنْتُ خيِّرتُ ما أخَذْتُ بها |
وقال بعضُ القدَماء:
قُصُوراً نفعُها لِبَني بُقيله |
|
ألم تَرَ حوشَباً أضْحى يُبنِّي |
وأمرُ اللّهِ يحدثُ كلَّ لَيْلَه |
|
يُؤَمِّل أنْ يُعَمَّرَ عُمْرَ نُوحٍ |
وقال ابن عبَّاسٍ بعد ما ذهب بصره:
ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نـورُ |
|
إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُمـا |
وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ |
|
قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ |
وقال حسَّان يذكرُ بيانَ ابن عبَّاس:
لِعِيٍّ ولم يَثنِ اللَّسانَ على هُجْرِ |
|
إذا قال لم يَترك مقالاً ولم يقـفْ |
وينظر في أعطافه نظرَ الصَّقْر |
|
يصرِّف بالقولِ اللسانَ إذا انتحى |
شعر في الخصب والجدب
وقال بعضُ الأعراب يذْكُرُ الخِصْب والجَدْب:
شَقاشِقُ فيهـا رائبٌ وحَـلـيِبُ |
|
مُطِرْنا فلمّا أنْ رَوِينَاً تـهـادَرَتْ |
وعُدَّتّْ ذُحولٌ بينـهـم وذنـوبُ |
|
ورابت رجالاً مِنْ رجال ظُـلامةً |
لهنَّ بما هاج الحبـيبَ خـبـيبُ |
|
ونُصّتْ رِكابٌ للصِّبا فَتَـرَوَّحَـتْ |
رَحى مَنْهَلٍ مِنْ كَرِّهِنّ نـحـيب |
|
وطَنَّ فناءُ الحيِّ حـتَّـى كـأنَّـه |
قليلاً ويَشفى المتْرَفِينَ طَـبـيِبُ |
|
بني عمِّنا لا تَعْجَلُوا، ينضُبُ الثَّرَى |
وحَنَّتْ رِكابُ الحيِّ حِينَ تثـوب |
|
فلو قَدْ تَوَلَّى النَّبتُ وامتيرَت القُرى |
على أهلها، ذو جُدَّتينِ مَـشُـوب |
|
وصاَرَ غَبُوقَ الخَود وهي كريمةٌ |
ينادَى إلى هادي الرَّحى فيجـيبُ |
|
وصار الَّذي في أنْفِه خُـنـزوانَةٌ |
أكابٍ سُكَـيْتٌ أمٌْ أشـمُّ نـجـيبُ |
|
أولئك أيَّامٌ تُبَـيِّنُ مـا الـفَـتَـى |
وقال: ولما وَلِي حارثَة بنُ بَدْرٍ سُرَّق، كتب إليه أنَسُ بن أبي إياسٍ الدُّيلي:
|
فكُنْ جُرَذاً فيها تَخُونُ وتَسْرِقُ |
|
أحارِ بنَ بَدْرٍ قَد وَلِـيتَ وِلايةً |
|||
|
لساناً به المرءُ الهَيُوبَةُ يَنْطِقُ |
|
وباهِ تميماً بالغِنى إنَّ للِغِـنـى |
|||
فَحظُّك من ملك العراقَين سُرَّق |
|
ولا تحقِرَنْ يا حارِ شيئاً ملكتـه |
|
|||
يَقُول بَما يَهوَى، وإمَّا مصَـدَّقُ |
|
فإنَّ جميعَ النَّاسِ إمَّا مُـكـذَّبٌ |
|
|||
ولو قيل هاتُوا حقِّقوا لم يحقِّقوا |
|
يقولون أقوالاً ولا يَعرِفُونـهـا |
|
|||
وقال بعض الأعراب:
رَعيْنَا الحديثَ وهو فِيهمْ مُضَيَّعُ |
|
فلمَّا رَأَينا القوم ثاروا بَجَمْعهِـمْ |
ولاخيْرَ فيمن لا يضرّ وينْفَـعُ |
|
وأدْرَكَنَا من عِزِّ قَيسٍ حفـيظةٌ |
أقوال مأثورة
ويقال
إنَّ رجلاً قال لبعض السَّلاطين: الدُّنيا بما فيها حديث، فإن استَطَعتَ أنْ تكونَ
مِن أحسَنِها حديثاً فافعَلْ.
وقال حُذَيفة بنُ بدرٍ لصاحبه يوم جَفْر الهباءة، حينَ أعطاهُمْ بلسانه ما أعْطى:
إيَّاك والكلامَ المأثور.
وأنشد الأصمعي:
عِنْدَ عبد العَزيزِ أو يومُ فِطرِ |
|
كلُّ يومٍ كأنَّه يومُ أضْـحـى |
وقال: وذكر لي بعضُ البَغداديِّين أنَّه سمع مدَنِيّاً مرَّ ببابِ الفَضْلِ بن يحيى - وعلى بابه جماعةٌ من الشعراء - فقال:
تَرَكَ النَّاسَ كُلَّهُـمْ شُـعَـرَاءَ |
|
ما لَقِينا مِنْ جُودِ فضلِ بنِ يَحيى |
وقال
الأصمعي: قال لي خَلَفٌ الأحمر: الفارسيُّ إذا تظرّف تساكت، والنَّبطيُّ إذا
تظرَّف أكثر الكلام.
وقال الأصمعيُّ: قالَ رجلٌ لأعرابيٍّ: كيف فلانٌ فيكم? قالَ: مرزوقٌ أحمق قالَ:
هذا الرَّجلُ الكامل.
قال: وقال أعرابيٌّ لرجل: كيف فلانٌ فيكم? قاَل: غَنيٌّ حَظِيٌّ، قال: هذا من أهل
الجَنَّة
السواد والبياض في البادية
الأصمعيُّ
قال: أخبرني جَوسق قال: كان يقال بالبدو: إذا ظَهَرَ البَياضُ قَلَّ السَّواد،
وإذا ظَهَرَ السَّواد قَلَّ البَياض، قال الأصمعيُّ: يعني بالسَّواد التَّمر،
وبالبياضِ اللَّبن والأقِط، يقول: إذا كانت السَّنَةُ مجدِبة كثُرَ التَّمْرُ
وقَلَّ اللَّبن والأقِط، وقال: إذا كان العام خصيباً ظهر في صدقةِ الفِطر البياض
يعني الإقِط وإذا كان جَدِبياً ظهر السَّواد، يعني التّمر.
وتقول الفُرس: إذا زَخَرت الأودية بالماء كثُر التَّمر، وإذا اشتدَّت الرِّىاح كثر
الحبُ.
وقل في أثر الريح في المطر
وحدَّثني
محمَّد بن سلام، عن شُعيب بن حجر قال: جاء رجلٌ على فرسٍ فوقفَ بماءٍ من مياه
العرب فقال: أعندكم الرِّيحُ الَّتي تكُبّ البعير? قالوا: لا، قال: فتذْرِي
الفارس? قالوا: لا، قال: فكما تكون يكونُ مطرُكم.
وحدَّثني العُتْبيُّ قال: هَجَمْتُ على بطنٍ بينَ جبلين، فلم أرَ وادياً أخصبَ
منه، وإذا رجالٌ يتركَّلون على مَسَاحيهم، وإذا وجوهٌ مهَجَّنة، وألوان فاسِدة
فقلتُ: واديكُمْ أخصبُ وادِ، وأنتم لا تشبِهُونَ المخاصيبَ قال: فقال شيخٌ منهم:
ليس لنا ريح.
شعر في الخصب
وقال النَّمر بن تولب:
في العين يوماً تلاقَينْا بـأرمـامِ |
|
كأنَّ حَمدةَ، أو عزّتْ لها شَبَهـا |
فأَمْرَعَتْ لاحتيالٍ فَرْطَ أعـوامِ |
|
ميثاءُ جاد عليها وابِـلٌ هَـطِـلٌ |
مِن كوكبٍ بزل بالماء سَـجـام |
|
إذا يَجفُّ ثـراهَـا بـلَّـهـا دِيَمٌ |
فَأْوٌ مِنَ الأرضِ محفوف بأعلام |
|
لم يَرْعَها أحدُ واربتهـا زَمـنـاً |
كأنَّ أصواتَها أصـواتُ جُـرَّامِ |
|
تَسْمَعُ للطَّير في حافاتِها زَجـلاً |
باللَّيل ريحُ يَلَنجوجٍ وأهْـضـام |
|
كأنَّ ريحَ خُزَاماها وحنْـوَتـهـا |
قال:
فلم يَدَعْ معنًى مِنْ أجلِه يُخصِب الوادي ويعتمُّ نبتُه إلاّ ذكره وصدق النمر.
وقال الأسديُّ في ذِكر الخِصْب ورطوبة الأشجار ولدونة الأغصان وكثرة الماء:
بِلِوى عُنيزةَ من مَقيل التَّرمُـسِ |
|
وَكأنَّ أرْحُلَنا بجـوِّ مُـحَـصَّـبٍ |
يأتيك قابِسُ أهلـه لـم يُقْـبَـسِ |
|
في حيثُ خالَطَتِ الخُزَامى عَرْفَجاً |
ذهب إلى أنَّه قد بَلغَ من الرُّطوبة في أغصانه وعيدانه، أنَّها إذا حُكَّ بعضها ببعضٍ لم يقدح، وفي شبيهٍ بذلك يقول الآخر، وذهب إلى كثرة الألوان والأزهار والأنوار:
|
كأنها من دَبَـل وشـاره |
|
كانت لنا من غَطفانَ جارَهْ |
|||
مَدْفَعُ مَيثاءَ إلـى قَـرَارَهْ |
|
والحلْي حلْيِ التِّبر والحِجارَه |
|
|||
ثم قال:
إيَّاكِ أَعني واسمعي يا جاره |
وقال بشَّار :
ضِ وفيه الحَمْراء والصَّفراءُ |
|
وحديثٍ كأنَه قِـطَـعُ الـرَّو |
الفطن وفَهم الرَّطَانات..
والكنايات والفهْم والإفهام
حديث المرأة التي طرقها اللصوص
الأصمعي
قال: كانت امرأة تنزِل متنحِّية من الحيّ، وتحبُّ العُزلة وكان لها غنَمٌ، فطرقها
اللُّصوص فقالت لأمَتها: اخرُجي مَنْ هاهنا? قالت: هاهنا حَيَّانُ، والحُمارِس،
وعامرٌ والحارثُ، ورأسُ عَنْز وَشادن، وراعِيا بَهْمنا: فنحْن ما أولئك، أي: فنحن
أولئك، فلما سَمِعُوا ذلك ظنُّوا أنَّ عِندَها بنِيها، وقال الأصمعيُّ مرّة: فلما
سمِعت حِسَّهم قالت لأمَتها: أَخرجِي سُلُحَ بَنيَّ من هاهن.
قال: وسُلُح جمع سُلاح، وحيّان والحمارس: أسماءُ تُيوسٍ لها.
قصة الممهُورة الشياه والخمر
قال الأصمعيُّ: تزوَّج رجلٌ امرأةً فساق إليها مهرها ثلاثين شاة، وبعثَ بها رسولاً، وبعثَ بزِقِّ خَمْر، فَعَمَدَ الرَّسولُ فذبح شاةً في الطريق فأكَلها، وشَرَب بَعْض الزَّقِّ، فلما أتَى المرأة نظرت إلى تسع وعشرين ورأت الزِّقَّ ناقصاً، فعلمِت أنَّ الرجل لا يبعثُ إلاَّ بثلاثين وَزِقٍّ مملوءٍ فقالت للرسول: قل لصاحبك: إن سُحيماً قد رُثم، وإن رسولَك جاءَنا في المحاق فلما أتاه الرَّسولُ بالرِّسالة: قال يا عدوَّ اللّه، أكلتَ مِنَ الثَلاثينَ شاةً شاةً، وشرِبْتَ من رَأسِ الزِّق فاعتَرَف بذلك.
قصة العنبريّ الأسير
الأصمعيُّ
قال: أخبرني شيخٌ من بني العنبر قال: أسر بَنو شَيبانَ رجلاً من بني العنبر، قال:
دَعوني حتى أرسل إلى أهلي ليَفدُوني، قالوا: على ألاّ تكلّم الرّسولَ إلاَّ بين
أيدينا، قال: نعم، قال: فقال للرسول، ائتِ أهلي فقل: إنَّ الشَّجر قد أوْرق، وقل:
إنَّ النِّساءَ قد اشْتَكت وخرَزَت القِرب، ثمَّ قال له: أتعقِلُ? قال: نعم، قال:
إنْ كنت تَعقِلُ فما هذا? قال: الليل، قال: أراك تعقل انطلق إلى أهلي فقل لهم:
عَرُّوا جملي الأصهب، واركَبُوا ناقتي الحمراء، وسلوا حارثاً عن أمري - وكان حارث
صديقاً له - فذهب الرَّسولُ فأخبَرَهم، فدعَوا حارثاً فقصَّ عليه الرَّسولُ
القِصة،فقال أمّا قوله: إنَّ الشَّجَر قد أورق فقد تسلَّح القوم، وأمّا قوله: إن
النساء قد اشتكت ْ وخرَزت القِرَب فيقول: قد اتخذت الشِّكا وخَرزت القِرَبَ للغزو،
وأما قوله: هذا الليل فإنَّه يقول: أتاكم جَيشٌ مثلُ الليل، وأمّا قوله: عرُّوا
جملي الأصهْب فيقول: ارتحلوا عن الصَّمَّان، وأما قوله: اركَبُوا ناقتي الحمراء
فيقول انزِلُوا الدَّهناء.
وكان القوم قد تهيَّؤوا لغَزْوهم، فخافوا أن يُنذِرهم، فأنذرهم وهم لا يشعرون فجاء
القومُ يطلبونهم فلم يِجدُوهم.
قصة العطاردي
وكذلك
صنع العُطاردي في شأن شِعب جبلة، وهو كرِب بن صفوان؛ وذلك أنه حينَ لم يرجِع لهمْ
قَولاً حين سألوه أن يقول، ورَمى بصُرَّتين في إحداهما شوك، والأخرى تراب، فقال
قيس بن زهير: هذا رجلٌ مأخوذٌ عليه ألا يتكلَّم، وهو ينذِركم عدَداً وشَوْكة.
قال اللّهُ عزَّ وجلَّ: "وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكمْ".
شعر في صفة الخيل والجيش
قال أبُو نخيلة:
وأمْسَتِ القُبةُ لا تستمْـسِـكُ |
|
لما رأيتُ الـدِّينَ دينـاً يُؤْفَـك |
سرت من الباب فَطارَ الدَّكدَكُ |
|
يُفْتَقُ مِن أعْراضها ويُهـتـك |
كالّليل إلاَّ أنَّـهـا تَـحَـرَّكُ |
|
منها الدَّجُوجيُّ ومِنها الأرْمَـكُ |
وقال منَصورٌ النَّمري:
إلاَّ جبينُك والمذروبة الشُّـرُعُ |
|
ليلٌ من النَّقْع لا شَمسٌ ولا قَمرٌ |
وقال آخر:
أو لُجَّةٌ ليس لها ساحلُ |
|
كأنَّهم ليلٌ إذا استنفِرُوا |
وقال العجاج:
ليلٌ وَرِزٌّ وَغْـرِهِ إذا وَغَــرْ |
|
كأنَّـمـا زُهـاؤه إذا جُـهِـرْ |
|
|
سارٍ سَرَى مِن قِبَل العَيْنِ فجر |
وفي هذا الباب وليس منه يقول بشَّار:
وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُـه |
|
كأنَّ مُثارَ النَّقع فوقَ رؤُوسهم |
وقال كلثوم بن عمرو:
سقفا كواكبه البِيضُ المبَاتـيرُ |
|
تَبني سنابكُهم من فوق أَرؤسهم |
وهذا المعنى قد غلب عليه بشّار، كما غلب عنترةُ على قوله:
هَزِجاً كفِعْلِ الشَّارب المترنِّم |
|
فتَرَى الذُّبابَ بها يُغَنِّي وَحـدَه |
فِعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذَم |
|
غَرِداً يُحكُّ ذِرَاعه بـذِرَاعـه |
فلو أنَّ امرأ القَيس عَرضَ في هذا المعنى لعنترة لافتَضَح.
مقطعات شتى
وقال بعضهم في غير هذا المعنى:
لُ على رَكبِها بأبناءِ حـامِ |
|
وفلاةٍ كأنَّما اشتْمَل الّـلـي |
قَّةِ بحْرَيْ ظَهيرةٍ وظَـلام |
|
خضْتُ فيها إلى الخَليفة بالرّ |
وقال العَرْجيُّ:
ولا جَدِيدَ إذا لم يُلبَس الخَـلَـقُ |
|
سمّيتني خَلقاً بـخَـلَّةٍ قـدُمَـتْ |
ومِنْ خلائقهِ الإقصادُ والمَلَـقُ |
|
يا أيها المتحلِّي غيْرَ شِـيمَـتـه |
إن التَّخَلقَ يأتي دُونَهُ الخُـلُـقُ |
|
ارجعْ إلى خِيمِك المعروفِ دَيْدَنُه |
وقال آخر:
واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المَجْلسُ |
|
أودَى الخِيارُ مِنَ المعاشِرِ كلهمْ |
لو قدْ تكونُ شهدْتهُمْ لم ينْبِسُوا |
|
وتنازَعوا في كلِّ أمرِ عظيمةٍ |
وأبياتُ أبي نواسٍ على أنه مولَّد شاطر، أشعرَ من شعر مهلهل في إطراق النَّاسِ في مجلِس كليب، وهو قوله:
وقد حلَّ في دَارِ الأمان مِنَ الأكْل |
|
على خبز إسماعيلَ واقِيَة البُـخْـلِ |
ولم تُرَ آوى في الحزون ولا السََّهْلِ |
|
وما خبزُهُ إلاَّ كآوَى يُرى ابـنـهـا |
تُصوَّر في بُسْطِ الملوك وفي المثْل |
|
وما خبزُه إلاّ كعَنْـقـاء مُـغـربٍ |
سِوى صُورةٍ ما أن تُمِرُّ ولا تُحْلي |
|
يحدث عنها النَّاس من غـيرِ رُؤيةٍ |
لَياليَ يحمي عزُّه مَنْبتَ الـبَـقْـلِ |
|
وما خبـزُه إلاَّ كـلـيبُ بـنُ وائلٍ |
ولا القولُ مرفوعٌ بِجد ولا هَـزْلِ |
|
وإذْ هو لا يستبُّ خَصْمانِ عِـنـدَه |
أصاب كليباً لم يكن ذاك عن بَـذْل |
|
فإنْ خبْزُ إسماعيل حلَّ بـه الـذي |
بحيلةِ ذي دَهْيٍ ولا فِكْرِ ذي عقـل |
|
ولكنْ قضاءٌُ ليس يُسطـاعُ دَفْـعـهُ |
شعر العرب والمولدين
والقضية
التي لا أحتشِمُ منها، ولا أهابُ الخصومة فيها: أنّ عامّة العرب والأعراب والبدوِ
والحضر من سائر العرب، أشعر من عامَّة شعراء الأمصار والقُرَى، من المولدة
والنابتة، وليس ذلك بواجبٍ لهم في كلِّ ما قالوه.
وقد رأيت ناساً منه يبهرِجون أشعارَ المولّدين، ويستسقِطون مَن رواها ولم أر ذلك
قطُّ إلاَّ في راويةٍ للشعرِ غيرِ بصيرٍ بجوهر ما يروى، ولو كان له بصرٌ لعرَف
موضعَ الجيِّد ممَّن كان. وفي أيِّ زمان كان.
وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانيَّ وقد بلغ من استجادته لهذين البيتينِ، ونحن في
المسجد يوم الجمعة، أن كلَّف رجلاً حتى أحضره دواةً وقرطاساً حتَّى كتبهما له،
وأنا أزعم أنَّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً، ولولا أن أدخِلَ في الحكم
بعض الفتك؛ لزعمتَ أنّ ابنَه لا يقول شعراً أبداً، وهما قوله:
فَإنَّما الموتُ سُؤالُ الرِّجالِ |
|
لا تحسِبَنَّ الموتَ مَوْتَ البِلَى |
أفظَعَ من ذاكَ لذلِّ السُّؤال |
|
كلاهما مـوتٌ ولـكِـنَّ ذَا |
القول في المعنى واللفظ
وذهب
الشَّيخُ إلى استحسانِ المعنى، والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ
والعربيُّ، والبدويُّ والقرَوي، والمدنيّ، وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن،
وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحَّة الطبع وجَودَة السَّبك،
فإنما الشعر صناعةٌ، وضَرْب من النَّسج، وجنسٌ من التَّصوير.
وقد قيل للخَليلِ بنِ أحمد: ما لكَ لا تقولُ الشِّعر? قال: الذي يجيئُني لا أرضاه،
والذي أرْضاه لا يجيئني.
فأنا أستحسن هذا الكلام، كما أستحسن جوابَ الأعرابيِّ حين قيل له: كيفَ تجِدُك?
قال: أجدني أجدُ ما لا أشتَهِي، وأشتَهِي ما لا أجد.
شعر ابن المقفع
وقيل
لابن المقفَّع: ما لك لا تجوزُ البيت والبيتين والثلاثة قال: إنْ جُزْتُها عرَفوا
صاحبَها، فقال له السائل: وما عليك أنْ تُعرَف بالطِّوال الجياد? فعلم أنَّه لم
يفهمْ عنه.
الفرق بين المولد والأعرابي ونقول: إن الفَرق بين المولَّد والأعرابي: أنَّ
المولَّد يقول بنشاطه وجمع باله الأبياتَ اللاحقَةَ بأشعارِ أهلِ البدو، فإذا
أَمعنَ انحلَّتْ قُوَّتُه، واضطربَ كلامُه.
شعر في تعظيم الأشراف وفي شبيهٍ بمعنى مهلهلٍ وأبي نُوَاس، في التَّعظيم والإطراقِ
عندَ السّادة، يقول الشاعر في بعضِ بني مروان:
في كفِّ أرْوَعَ في عِرنينه شَممُ |
|
في كفِّه خَيْزَرَانٌ رِيحُه عَبِـقٌ |
فما يكلَّم إلاَّ حـينَ يبـتَـسِـمُ |
|
يغضِي حَياءً ويغضَى مِنْ مَهابتِه |
وإن تكلَّمَ يوماً ساخَتِ الكـلِـمُ |
|
إن قال قال بما يَهْوَى جَميعُهـمُ |
يَدْعُوكَ يا قثَمَ الخَيْرَاتِ يا قُثَـمُ |
|
كَمْ هاتفٍ بك مِن داعٍ وهاتـفةٍ |
وقال أبو نُواس في مثل ذلك:
لِسليلِ الشَّمس من قَمرهْ |
|
فتَرَى الساداتِ مـاثـلة |
حَذَرَ المطويِّ من خَبَرِهْ |
|
فَهمُ شَتَّى ظُنُـونُـهـمُ |
وقال إبراهيم بنُ هَرْمَةَ في مديحِ المنصور، وهو شبيهٌ بهذا وليس منه:
إذا كرَّها فيها عقابٌ ونـائلُ |
|
له لحظات عنْ حِفافيْ سريره |
وأمُّ الذي أوعدتَ بالثُّكْل ثاكلُ |
|
فأمُّ الذي أمَّنْت آمِنة الـرَّدَى |
شعر في الحلف والعقد وقال مُهلهلٌ، وهو يقع في باب الحلف وُكِّد بعَقْد:
يَوْماً عـديٌّ جُـرَيْعَةَ الـذَّقَـنِ |
|
ملْنا عـلـى وائل وأفْـلَـتَـنـا |
حِفْظاً لِحلفي وحلف ذي يَمـن |
|
عتُ عنه الرِّماحَ مـجـتـهـداً |
عهداً وَثيقاً بمَنْـحَـر الـبُـدُن |
|
أذكرُ مِن عهدِنـا وعـهـدهِـمُ |
وما أنافَ الهضابُ من حَضَـنِ |
|
ما بلَّ بحرٌ كفاً بصـوفـتـهـا |
شَدَّاً، خِرَاطَ الجَمُوح في الشَّطَنِ |
|
يزيده اللَّيلُ والـنَّـهـارُ مـعـاً |
شعر في مصرع عمرو بن هند وقال جابر بن حنَيٍّ التغلبيّ:
ولسنا كمن يرضيكم بالتمـلـق |
|
ولسنا كأقوامٍ قريبٍ مـحـلـهُـمْ |
غداة نكُرُّ الخيْلَ في كلِّ خَنْـدَق |
|
فسائل شُرَحبيلاً بنا ومحـلّـمـاً |
لتخدمَ ليلـى أمَّـهُ بـمـوفَّـقِ |
|
لعمرك ما عمرُو بنُ هندٍ وقَدْ دعا |
فأمسَكَ مِن نَدْمَانِه بالمـخـنَّـقِ |
|
فقام ابنُ كُلثوم إلى السَّيف مُغْضباً |
بذِي شُطَبٍ صافي الحديدة مخْفَق |
|
وعممه عمداً على الرَّأس ضَرْبةً |
شعر في الأقارب وقال المتلمِّس:
فزحزح عن الأدنَينَ أن يتصدَّعوا |
|
على كلّهم آسَى وللأَصل زلـفة |
ولكنَّ أصلَ العُود مِنْ حَيْثُ يُنزعُ |
|
وقد كان إخواني كريماً جوارُهـم |
وقال المتلمس:
جَعلتُ لهم فوقَ العرانِينِ ميسما |
|
ولو غيرُ أخوالي أرادُوا نقِيضَتي |
بكفٍّ لهُ أخْرَى فأَصبح أجْذَمـا |
|
وما كنتُ إلاَّ مِثْلَ قاطعِ كـفِّـهِ |
فلم تَجدِ الأخْرَى عليها مُقَـدَّمـا |
|
يداهُ أصابتْ هذِهِ حَـتْـفَ هـذه |
مَساغاً لنابَيهِ الشجاعُ لَصَمَّـمـا |
|
فأَطرقَ إطراقَ الشجاع ولو يَرَى |
تَزَايَلْنَ حتَّى لا يمَـسَّ دَمٌ دمـا |
|
أحارثُ إنا لو تَسـاطُ دِمـاؤُنـا |
تفسير
كلمة لعمر قال: وسأَلتُ عن قول عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لأبي مَرْيم
الحَنفي: واللّهِ لأَنا أشدُّ بغضاً لك من الأرض للدَّم قال: لأنَّ الدَّم الجاري
من كلِّ شيءٍ بيّن، لا يغيضُ في الأرض؛ ومتى جفَّ وتجلَّب ففرقته رأيتَ مكانَه
أبيض.
إلاَّ إنَّ صاحب المنطقِ قال في كتابه في الحيوان: كذلك الدِّماء، إلاَّ دَمَ
البعير.
أشعار شتى وقال النَّمِرُ بنُ تولَب:
غريباً فلا تَغْرُرْك أمُّكَ من سَعْد |
|
إذا كنتَ في سعدٍ وأمُّك منـهُـمُ |
وقال:
إذا لم يُزَاحِمْ خالَهُ بأبٍ جَـلْـدِ |
|
وإنَّ ابنَ أُختِ القَومِ مُصغًى إنَاؤه |
وقال آخر:
على عِلْمِهِ واللّه بالعِلْمِ أفْرَسُ |
|
تخيَّرَهُ اللّهُ الـغـداةَ لـدِينـه |
وقال آخر:
مَصَحّاً ولكنّي أرى مُترقّـعـا |
|
وما ترَك الهاجون لي في أديمِكم |
وقال العِجْلِيّ، أو العُكليّ، لنوح بن جرير:
وأسبّ جدّكم بسبِّ أبـينـا |
|
أتسبُّني فأراك مثلـي سُـبَّةً |
يا نوحُ أنَّ أباك لا يُوفِـينـا |
|
ولقد أرى والمقْتَضى متجوِّزٌ |
وقال عمرو بن معد يكرب:
وجاوِزْه إلى مَا تَسْتَطـيعُ |
|
إذا لم تَسْتَطعْ شيئاً فَـدَعْـه |
سَمَا لكَ أو سَمَوت لَهُ ولوعُ |
|
وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكُـلُّ أمـرٍ |
وقال المقنَّع الكِنديُّ:
مَا ارفَضَّ في الجوفِ يجري هاهُنا وهنا |
|
وصاحبِ السُّـوءِ كـالـدَّاء الـعَـياء إذا |
وما رأى عنده مـن صـالـحٍ دفـنـا |
|
يُنبي ويُخبِر عن عَـوْراتِ صـاحـبِـه |
رامَ الجماح وإن خَفَّـضـتـه حَـرَنَـا |
|
كمهْـرِ سَـوءٍ إذا رفَّـعـت سَـيْرَتَـه |
أو ماتَ ذاكَ فلا تعْرِفْ لَـهُ جَـنَـنـا |
|
إن يَحْيَ ذاك فكـنْ مـنـه بـمـعْـزَلةٍ |
خصال الحرم
فمن
خصاله: أنّ الذِّئبَ يصيد الظَّبيَ ويُريغه ويعارضه، فإِذا دخَلَ الحرم كفَّ عنه.
ومن خصاله: أنّه لا يسقط على الكعبة حمام إلاّ وهو عليل، يُعرف ذلك متى امتُحنَ
وتعرِّفتْ حالُه، ولا يسقط عليها ما دامَ صحيحاً.
ومن خصاله: أنّه إذا حاذى أعلى الكعبة عَرَقَةٌ من الطّير كاليمام وغيره، انفرَقت
فِرقتين ولم يعلها طائرٌ منها.
ومن خصاله: أنَّه إذا أصاب المطرُ البابَ الذي من شِقِّ العِراق، كان الخِصب
والمطرُ في تلك السَّنة في شِقِّ العِراق، وإذا أصاب الذي مِن شِقِّ الشَّام كان
الخصْب والمطر في تلك السَّنَةِ في شِقِّ الشام، وإِذا عمَّ جوانبَ البيتِ كان
المطرُ والخِصْبُ عامّاً في سائر البُلدا.
ومن خصال الحرَم: أنَّ حَصَى الجمِار يُرمى بها في ذلك المرمى، مُذْ يومَ حَجَّ
النَّاسُ البيتَ على طَوَالِ الدَّهرِ، ثمَّ كأنَّه على مقدارٍ واحد، ولولا موضع
الآيةِ والعلامة والأعجوبةِ التي فيها، لقد كان ذلك كالجبال، هذا مِنْ غير أن
تكسَحَه السُّيول، ويأخُذَ منه النَّاس.
ومن سُنَّتهم: أنَّ كلَّ مَن علا الكعبةَ من العبيد فهو حرٌّ، لا يرون المِلْكَ
على من علاها، ولا يجمعون بين عزّ علوِّها وذِلةِ الْمِلك.
وبمكة رجالٌ من الصُّلحاء لم يدخُلوا الكَعبةَ قطّ.
وكانوا في الجاهليَّة لا يبنُون بيتاً مربّعاً؛ تعظيماً للكعبة، والعربُ تسمّّي
كلّ بيتٍ مربَّع كعبة، ومنه: كعبة نَجران، وَكان أوَّلُ مَن بنى بيتاً مربَّعاً
حُميد بن زهير، أحد بني أسد بن عبد العُزَّى.
ثمَّ البركة والشفاء الذي يجدُه مَن شرب من ماءِ زمزم على وجْه الدهر وكثرةُ من
يُقيم عليه يجدُ فيه الشفاء، بعد أنْ لم يدعْ في الأرض حَمَّة إلاَّ أتاها، وأقام
عندها، وشرب منها، واستنقع فيها.
هذا مع شأن الفيل، والطَّيرِ الأبابيلِ، والحِجارة السِّجِّيل، وأنَّها لم تزل
أمْناً ولَقاحاً، لا تؤدِّي إتاوة، ولا تَدِين للملوك، ولذلك سمِّي البيتَ العتيق؛
لأنَّه لم يَزلْ حُرّاً لم يملِكه أحد.
وقال حرب بن أُميَّة في ذلك:
فَتَكْفِيَكَ النَّدَامى مِنْ قـريشِ |
|
أبا مطَر هَلُمَّ إلـى صـلاحِ |
أبا مطر هُدِيتَ لخيْرِ عَـيشِ |
|
فتأمَنَ وَسْطَهُمْ وتَعيِشَ فيهـم |
وتأمَنَ أن يَزُروَكَ ربُّ جيشِ |
|
وتَنْزِلَ بَلْدَةً عـزَّت قَـدِيمـاً |
وقال اللّه عزّ وجلّ: "وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيم مُصلًّى" وقال عزَّ وجلَّ، حكايةً عن إبراهيم: "رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْر ذي زَرْعٍ عنْدَ بَيْتكَ المُحَرَّمِ رَبّنا لِيُقيِمُوا الصّلاة فاَجْعَلْ أَفْئِدَة مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرُونَ".
خصال المدينة
والمدينة
هي طَيبة، ولطيبها قيل تلفِط خَبَثها وينصعُ طيبُها، وفي ريح ترابها وبنّةِ
ترْبتها، وعَرف ترابها ونسيمِ هوائِها، والنعمة التي توجد في سِكَكِها وفي حيطانها
- دليلٌ على أنَّها جُعلت آيةً حينَ جعلت حرماً.
وكلُّ من خَرجَ من منزِلٍ مطَيّبٍ إلى استنشاق ريح الهواء والتُّرْبة في كل بلدة
فإنَّه لابدَّ عند الاستنشاق والتثبُّت مِنْ أنْ يجِدَها منتنةً، فذلك على طبقاتٍ
من شأنِ البُلدان، إلاّ ما كان في مدينة الرّسول، رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،
فللصَّيَّاح والعِطْر والبَخور والنضوح، من الرائحة الطيبة - إذا كان فيها -
أضعافُ ما يوجد له في غيرِها من البُلدان، وإن كان الصَّيّاح أجوَد، والعطر أفخرَ،
والبَخور أثمن.
بعضُ البلدان الرديئة
ورُبّت
بلدةٍ يستحيل فيها العطرُ وتذهب رائحته، كقصبَة الأهواز.
وقد كان الرشيدُ همَّ بالإقامة بأنطاكيَة، وكره أهلَها ذلك، فقال شيخٌ منهم،
وصَدَقَهُ: يا أمير المؤمنين، ليست من بلادك، ولا بلاد مثلك، لأنّ الطِّيب الفاخرَ
يتغيَّر فيها حتَّى لا يُنْتفعَ منه بكثير شيء، والسِّلاَحَ يصدأ فيها ولو كان من
قلْعة الهند، ومن طبع اليمن، ومطرها ربَّما أقام شهرين، ليس فيه سكون، فلم يُقِم
بها.
ثمّ ذكر المدينة فقال: وإنّ الجُويريةَ السّوداء، لَتَجعل في رأسها شيئاً من بَلح،
وشيئاً من نَصُوحٍ، مما لا قيمةَ له؛ لهوانه على أهله، فتجد لذلك خُمرةً طيِّبة
وطيبَ رائحةٍ لا يعدِلُها بيتُ عَرُوسٍ من ذوي الأقدار، حتَّى إنّ النَّوى
المنْقع، الذي يكونُ عندَ أهل العراق في غاية النَّتْن، إذا طال إنقاعه، يكونُ
عندَهم في غاية الطِّيب، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر الحمام
أجناسه
قال
صاحب الحمام: الحمام وحشيٌّ، وأهليّ، وبيوتيّ، وطوراني، وكلُّ طائرٍ يعرف
بالزِّواج، وبحسن الصَّوت، والهديل، والدُّعاء، والترجيع فهو حمام، وإن خالفَ
بعضهُ بعضاً في بعض الصّوتِ واللّون، وفي بعض القدِّ، ولحن الهدِيل، وكذلك تختلف
أجناس الدَّجاج على مثل ذلك ولا يخرجها ذلك من أن تكون دَجَاجاً: كالدِّيك الهندي
والخِلاسيّ والنَّبطِيّ، وكالدّجاج السِّنديّ والزنجيّ وغير ذلك، وكذلك الإبل:
كالعِراب والبُخْتِ، والفوالج، والبَهْوَنيّات والصَّرْصَرَانيّات، والحُوش،
والنُّجب، وغير ذلك من فحول الإبل؛ ولا يخرجها ذلك من أنْ تكون إبلاً.
وما ذاك إلاّ مخالفة الجُرذانِ والفأر، والنّمْلِ والذّر، وكاختلاف الضّأْنِ
والمعْزِ، وأجناسِ البقر الأهليّة والبقر الوحشيَّة، وكقرابَةِ ما بينهما وبين
الجواميس.
وقد تختلف الحيّاتُ والعقاربُ بضروبِ الاختلاف، ولا يخرجها ذلك من أن تكونَ عقاربَ
وحيّاتٍ، وكذلك الكلابُ، والغِرْبان.
وحسْبُك بتفاوتِ ما بينَ النّاس: كالزِّنج والصقالبة، في الشُّعُور والألوان،
وكيأجوج ومأجوج، وعاد وثمود، ومثلُ الكَنْعَانيّين والعمالقة.
فقد تخالف الماعزة الضائنة حتىّ لا يقع بينهما تسافدٌ ولا تلاقح، وهي في ذلك غنمٌ
وشاء.
قال: والقُمريُّ حمام، والفاخِتةُ حمام، والوَرَشان حمام، والشِّفْنين حمام، وكذلك
اليمام واليعقوب، وضروبٌ أخرى كلها حمام، ومفاخرها التي فيها ترجع إلى الحمام التي
لا تُعرف إلاّ بهذا الاسم.
قال: وقد زعم أفْليمون صاحب الفِراسة أنَّ الحمام يتّخَذُ لضرُوب: منها ما يُتخذُ
للأنس والنساء والبُيُوتِ، ومنا ما يُتّخَدُ للزِّجال والسباق.
والزِّجال: إرسال الحمام الهوادِي
مناقب الحمام
ومن
مناقب الحمام حبُّه للناس، وأنس الناس به، وأنَّك لم تَرَ حيواناً قطُّ أعدلَ
موضِعاً، ولا أقْصَد مرتبةً من الحمام، وأسفل النّاس لا يكون دُون أنْ يتَّخذها،
وأرفع الناس لا يكون فوقَ أن يتَّخذها، وهي شيءٌ يتَّخذه ما بين الحجَّام إلى
الملك الهمام.
والحمامُ مع عمومِ شهوةِ النّاس له، ليس شيءٌ مما يتّخذونه هُمْ أشدُّ شغفاً به
ولا أشدُّ صَبابَةً منهم بالحمام، ثمَّ تجد ذلك في الخِصيان كما تجدُه في الفحول،
وتجده في الصِّبيان كما تجده في الرِّجال، وتجدُهُ في الفِتْيان كما تجدُه في
الشيوخ، وتجده في النساء كما تجده في الرِّجال.
والحمامُ من الطَّير الميامين، وليس من الحيوان الذي تظهر له عورة وحجم
قضيبٍ كالكلب والحمارِ وأشباه ذلك، فيكونَ ذلك مما يكونُ يجب على الرَّجال ألاّ
يُدْخِِلوه دورَهم.
كلمة لمثنى في الحمام قال مثنَّى بن زهير: ومن العجب أنّ الحمامَ مُلَقًّى،
والسَّكْرَان مُوقًّى، فأنشده ابن يسير بيت الخُرَيميّ:
وسَهْمُ المنَايا بالذَّخائرِ مُولَعُ |
|
وأعْدَدتُهُ ذُخْراً لكلِّ مُلِـمَّة |
شرب الحمام
ومتى رأى إنسان عطشان الدِّيك والدَّجاجة يشربان الماء، ورأى ذئباً وكلباً يلطعَان الماء لطْعاً، ذهَبَ عطشه من قُبْح حسْو الديك نغْبةً نغْبة ومن لطْع الكلب، وإنَّه لَيَرى الحمام وهو يَشرب الماء وهو ريّان فيشتهِي أن يَكَرَعَ في ذلك الماء معه.
صدق رغبة الحمام في النَّسل
والدِّيك والكلبُ في طلب السِّّفاد وفي طلب الذَّرْء كما قال أبو الأخزْر الحِمَّانيُ:
لاَ مُبْتَغي الضَّنءِ ولاَ بِالْعَازِلِ |
والحمام
أكثر معانيه الذّرْء وطلبُ الولد، فإذا علم الذَّكَرُ أنَّه قد أودَع رحمَ الأنثى
ما يكون منه الولد تقدَّما في إعداد العشِّ، ونقلِ القَصَب وشِقَقِ الخُوص، وأشباه
ذلك من العِيدان الخوَّارة الدِّقاق حتى يعملا أُفحوصة وينسجاها نسجاً مداخلاً،
وفي الموضع الذي قد رضياه اتخذاه واصطنَعاه، بقدر جثمان الحمامة، ثمّ أشْخَصا
لتِلك الأفحوصةِ حُروفاً غيرَ مرتفعة؛ لتحفَطَ البيض وتمنَعَه من التَّدحرج،
ولتلزمَ كنَفي الجؤجؤ ولتكون رِفداً لصاحبِ الحَضْن، وسَداً للبيض، ثم َّ يتعاوران
ذلك المكان ويتعاقَبان ذلك القرمُوص وتلك الأفحوصة، يسخِّنانها ويدَفِّيانها
ويطيِّبانها، وينفِيان عنها طِباعها الأوّل، ويُحدثان لها طبيعةً أخرى مشتقّةً من
طبائعهما، ومستخرجةً من رائحةِ أبدانهما وقُواهما الفاصِلة منهما؛ لكي تقعَ
البيضةُ إذا وقعت، في موضعٍ أشبهِ المواضع طباعاً بأرحام الحمام، مع الحضانة
والوَثارَة؛ لكي لا تنكسر البيضة بيبُس الموضع، ولئلا ينكر طِباعُها طباعَ المكان،
وليكُون على مقدارٍ من البَرْد و السَّخانَة والرَّخاوة والصَّلابَة، ثمّ إنْ
ضََرَبها المخاضُ وطَرّقت ببيضتها، بَدَرَت إلى الموضع الذي قد أعدّتُه، وتحاملتْ
إلى المكانِ الذي اتَّخَذتْه وصنعتهُ، إلاّ أن يقرِّعها رعدٌ قاصف، أو ريحٌ عاصفٌ
فإنَّها ربَّما رمَتْ بها دون ِكِنِّها وظل عُشها، وبغير موضعها الذي اختارته،
والرَّعدَ ربما مَرِق عنده البيض وفسد، كالمرأة التي تُسقِط من الفَزَع، ويموتُ
جنينُها من الرَّوع.
عناية الحمام وأنثاه بالبيض وإِذا وضَعت البيضَ في ذلك المكان فلا يزالان يتعاقبان
الحضنَ ويتعاورانه، حتِّى إذا بلغ ذلك البيضُ مَداه وانتهَتْ أيّامه، وتمَّ
مِيقاته الذي وظَّفه خالقُه، ودبَّره صاحبه، انصدع البيْض عن الفرخ، فخرجَ عاري
الجِلْد، صغيرَ الجَناح، قليلَ الحِيلة، منسَدَّ الحلقوم، فيعينانه على خلاصِه من
قيضه وترويحه من ضيق هَوَّته.
عنايتهما بالفراخ وهما يعلمان أن الفرخَينِ لا تتَّسع حلوقهما وحواصِلهُما
للغذاء، فلا يكون لهما عند ذلك همٌّ إلاَّ أنْ ينفخا في حلوقهما الريح، لتتسع
الحوصلةُ بعد التحامها، وتَنْفَتقَ بعدَ ارتتاقِها، ثم يعلمان أنّ الفرخ وإن
اتّسعت حَوصلتُه شيئاً، أنّه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزقَّ بالطّعم، فيُزَقّ
عند ذلك باللُّعاب المختلط بقواهما وقوى الطعْم - وهمْ يسمُّونَ ذلك اللُّعاب
اللِّباء - ثم يعلمان أنّ طبع حوصلتِه يرق عن استمراء الغذاء وهضم الطُّعمِ، وأنَّ
الحوصلة تحتاجُ إلى دَبْغٍ وتقوية، وتحتاج إلى أن يكون لها بعضُ المتانَة والصلابة،
فيأكلن من شَورَج أصول الحِيطان، وهو شيءٌ بينَ المِلح الخالص وبين التُّراب
الملح، فيزقَّان الفرخ حتِّى إذا علما أنّه قد اندبَغ واشتدّ زقّاه بالحبِّ الذي
قد غبَّ في حواصلهما ثم زقَّاه بعد ذلك بالحبِّ الذي هو أقوى وأطرى، فلا يزلان
يزُقَّانه بالحبِّ والماء على مقدار قُوَّتِه ومبلغ طاقته، وهو يطلب ذلك منهما،
ويبِضُّ نحوهما؛ حتى إذا علما أنّه قد أطاق اللقطَ منَعاه بعضَ المنْع، ليحتاج إلى
اللقْطِ فيتعوَّده، حتى إذا علما أنْ أدَاتَه قد تمَّتْ، وأن أسبابَه قد
اجتَمَعَتْ وأنَّهما إن فَطماهُ فطْماً مقطوعاً مجذوذاً قوِيَ على اللَّقط، وبلغ
لنفسِه مُنتِهى حاجتِه - ضرباه إذا سألهما الكفاية، ونَفَياه متى رجع إليهما ثمّ
تنْزَع عنهما تلك الرحمةُ العجيبة منهما له، وينسَيان ذلك العطف المتمكِّنَ عليه،
ويُذهَلان عن تلك الأثرة له، والكدِّ المضني من الغُدُوِّ عليه، والرَّواح إليه،
ثم يبتديان العمل ابتداءً ثانياً، على ذلك النظام وعلى تلك المقدّمات.
فسبحان من عرّفهما وألهمهما، وهداهما، وجعلهما دَلالة لمن استدلّ، ومُخِبراً
صادقاً لمن استخبر، ذلكم اللّه رب العالمين.
حالات الطُّعم الذي يصير في أجواف الحيوان
وما أعجب حالاتِ الطُّعْمِ الذي يصير في أجواف الحيوان، وكيف تتصرّف به الحالاتُ، وتختلف في أجناسه الوجوه: فمنها ما يكون مثل زق الحمام لفَرخه، والزقُّ في معنى الْقيء أو في معنى التقيؤ وليس بهما؛ وجِرَّة البعير والشاةِ والبقرة في معنى ذلك، وليس به، والبعير يريد أن يعود في خَضمه الأوّل واستقصاء طعمه،وربَّما كانت الجِرَّةُ رجيعاً، والرَّجيع: أن يعود على ما قد أعاد عليه مرَّةً حتَّى ينزِعه من جَوفه، ويقلبه عن جهته.
زَقّ الحمام
والحمام
يُخرجه من حَوصلته ومن مُسْتكَنِّه وقَراره، وموضعِ حاجته واستمرائه، بالأثَرةِ
والبِرِّ، إلى حوصلةِ ولده، قد ملك ذلك وطابتْ به نفسُه ولم تغْنَثْ عليه نفسه ولم
يتَقَذَّر من صنيعه، ولم تَخْبُثْ نفسُه، ولم تتغيَّر شهوته، ولعلَّ لذَّتَه في
إخراجه أن تكون كلذّتِه في إدخاله، وإنما اللذة في مثل هذا بالمجارِي، كنحو ما
يعتري مجرَى النُّطفةِ من استلذاذ مرُور النَّطفة، فهذا شأن قَلْب الحمام ما في
جوفه، وإخراجه بعد إدخاله، والتمساح يخرجه على أنّه رجعُه ونْجوه الذي لا مخرج له
ولا فَرَج له في سواه.
تصرف طبيعة الإنسان والحيوان في الطعام وقد يعتري ذلك الإنسان لِما يعرِض من
الدَّاء، فلا يعرف إلاّ الأكلَ والقيء، ولا يعرف النَّجْوَ إلاّ في الحِين على
بعَضِ الشِّدَّةِ، وليس ما عرَض بسبب آفةٍ كالذي يخرج على أصل تركيب الطبيعة.
والسِّنَّور والكلبُ على خلاف ذلك كلِّه، لأنْهما يُخرجانه بعارضٍ يعرِضُ لهما مِن
خُبْث النَّفس، ومن الفساد، ومن التَّثوير والانقباض ثمَّ يعودان بعد ذلك فيه من
ساعتهما، مشتهيَين له، حريصين عليه.
والإنسان إذا ذَرَعه ذلك لم يكن شيء أبغض إليه منه، وربَّما استقاء وتكلّف ذلك
لبَعض الأمر، وليس التكلف في هذا الباب إلاّ له.
وذوات الكروش كلها تَقْعص بجرّتها، فإذا أجادتْ مضْغه أعادته، والجِرّة هي الفرْث،
وأشدُّ من ذلك أنْ تكون رجيعاً، فهي تجيدُ مَضغَها وإعادتَها إلى مكانها، إلاّ
أنَّ ذلك ممّا لا يجوز أفواهها، وليس عند الحافِر من ذلك قليلٌ ولا كثير، بوجهٍ من
الوجوه. وقد يعتري سباعَ الطير شبيهٌ بالقيء، وهو الذي يسمُّونه الزُّمّج، وبعضُ
السَّمكِ يقيء قيئاً ذريعاً، كالبال، فإنَّه ربَّما دسَعَ الدَّسعة، فتلقى بعض
المراكب، فيلقَون من ذلك شِدّة، والناقة الضجور ربَّما دسعَتْ بِجرَّتها في وجه
الذي يرحُلها أو يعالجها، فيلقى من ذلك أشدّ الأذى، ومعلومٌ أَنَّها تفعَلُ ذلك
على عمد.
فلذوات الأقدام في ذلك مذهب، ولذوات الكُروش من الظِّلف والخفِّ في ذلك مذهب،
ولذوات الأنياب في ذلك مذهب، وللسَّمك والتمساح الذي يشبه السَّمَكَ في ذلك مذهب.
ويزعمون أن جوف التمساح إن هو إلاَّ معاليق فيه، وأنه في صورة الجراب، مفتوح الفم،
مسدود الدُّبر، ولم أَحقَّ ذلك، وما أكثر من لا يعرفُ الحال فيه.
الرجوع إلى طلب النسل عند الحمام ثم رجع بنا القولُ في الحمام بعد أن استغنى ولده
عنه، وبعد أن نُزِعت الرحمة منه، وذلك أنّه يبتدئُ الذَّكرُ الدُّعاء والطرد،
وتبتدئ الأنثى بالتأتّي والاستدعاء، ثمَّ تزيف وتتشكّل، ثمَّ تمكِّن وتمنع، وتجيبُ
وتصدفُ بوجهها، ثم يتعاشقان ويتطاوعان، ويحدث لهما من التغزُّل والتفَتُّل ومن
السَّوف والقبَل، ومن المصِّ والرَّشف، ومن التنفُّخِ والتنفُّج، ومن الخيلاء
والكبرياء، ومن إعطاء التقبيل حقه، ومن إدخال الفم في الفم، وذلك من التطاعُم، وهي
المطاعَمة، وقال الشاعر:
إلاَّ تَطاولَ غصنُ الجيد بالجيدِ |
|
لم أَعطها بيدي إذ بتُّ أرشُفُها |
مطوَّقان أصاخا بعد تغـريد |
|
كما تطاعَمَ في خضراء ناعمة |
هذا
مع إرسالها جناحيها وكفَّيها على الأرض، ومع تَدَرعها وتبعُّلها ومع تصاوله
وتطاوُله، ومع تنفُّجه وتنفُّخِه، مع ما يعتريه مع الحِكة والتفلِّي والتنفُّش
حتّى تراهُ وقد رمى فيه بمثله.
ثمُّ الذي ترى من كسْحِه بذنبه، وارتفاعِه بصدره، ومن ضرْبه بجناحِه، ومن فرحه
ومَرَحِه بعد قَمْطِه والفراغِ من شهوتِه، ثمَّ يعتريه ذلك في الوقت الذي يفتر فيه
أنكحُ النَّاس.
القوة التناسلية لدى الحمام
وتلك
الخَصلةُ يفُوق بها جميع الحيوان، لأنّ الإنسان الذي هو أكثر الخلْق في قوّة
الشهوة، وفي دوامها في جميع السَّنة، وأرغبُ الحيوانِ في التصَنُّع و التغزل،
والتشكُّل والتفتُّل أفتر ما يكونُ إذا فرغ، وَعندَها يركبُه الفُتور، ويحبُّ
فِراق الزَّوج، إلى أن يعودَ إلى نشاطِه، وترجِعَ إليه قُوَّتُه.
والحمامُ أنشط ما يكون وأفرح، وأقوى ما يكون وأمرح، مع الزَّهو والشكل، واللهْو
والجَذل، أبردَ ما يكون الإنسانُ وأفتره، وأقطَع ما يكون وأقْصرَه.
هذا، وفي الإنسان ضروبٌ من القُوى: أحدها فَضَل الشّهْوةِ، والأخرى دوام الشهْوة
في جميع الدَّهر، والأخرى قوة التصَنُّع والتكلف، وأنتَ إذا جمعتَ خِصالَه كلها
كانت دونَ قوَّةِ الحمام عندَ فَراغِه من حاجته وهذه فضيلةٌ لا يُنْكِرُها أحدٌ،
ومَزِيّة لا يجحدها أحد.
البغال ونشاطها ويقال: إنّ النَّاس لم يَجِدُوا مثلَ نشاط الحمام في وَقت فَتْرَة
الإنسان إلاّ ما وجدوه في البغال؛ فإنّ البغال تحمِل أثقالاً عشية، فتسيرُ بقيَّة
يومها وسوادَ ليلتها، وصدرَ نهارِ غَدِها، حتّى إذا حطُّوا عن جميع ما كان محمّلاً
من أصناف الدوَاب أحمالها، لم يكنْ لشيء منها همَّةٌ، ولا لِمَنْ رَكِبَها من
النّاس إلاّ المَرَاغة والماء والعَلف، وللإنسان الاستلقاء ورفعُ الرِّجْلين
والغمْز والتأوُّه، إلاّ البغال فإنها في وقت إعياء جميعِ الدواب وشدّة كلالها،
وشَغْلها بأنفسها ممّا مرَّ عليها، ليس عليها عملٌ إلاّ أنْ تدْلي أيورَها وتشظَّ
وتضرِبَ بها بطونَها؛ وتحُطها وترفعها، وفي ذلك الوقت لو رأى المكاري امرأة حسناء
لَما انتَشَرَ لها ولا هَمَّ بها، ولو كان مُنعظاً ثم اعتراه بعْض ذلك الإعياء
لنَسي الإنعاظ.
وهذه خَصْلة تخالف فيها البغالُ جميعَ الحيوانِ، وتزعم العَمَلة أنَّها تلتمس بذلك
الرَّاحَة وتتداوى به، فليس العجبُ - إن كان ذلك حقّاً - إلاّ في إمكان ذلك لها في
ذلك الوقت، وذلك لا يكون إلاّ عن شهوة وشَبقٍ مُفرط.
النشاط العجيب لدى الأتراك وشِبهٌ آخرُ وشِكلٌ من ذلك، كالذي يُوجدَ عند
الأتراك عند بلوغ المنْزِل بعد مسير اللّيل كلِّه وبَعْضِ النَّهار، فإن النَّاسَ
في ذلك الوقْتِ ليس لهم إلاّ أن يتمددوا ويقيِّدوا دوابّهم، والتركي في ذلك الوقت
إذا عاين ظبْياً أو بعضَ الصّيد، ابْتَدَأ الرَّكْضَ بمثلِ نشَاطه قبلَ أن يسيرَ
ذلك السير، وذلك وقْتَ يَهمُّ فيه الخارِجيَّ والخَصيَّ أنفسُهمُا؛ فإنَّهما
المذكوران بالصَّبرِ على ظَهْر الدّابَّةِ فطام البهائم أولادها وليس في الأرض
بهيمةٌ تَفطِمُ ولدَها عن اللّبن دَفْعةً واحدةً، بل تجِدُ الظّبيةَ أو البقرة أو
الأتان أو الناقة، إذا ظنت أنّ ولدَها قد أطاق الأكل منَعَتْهُ بعض المنْع، ثمّ لا
تزل تُنزِّل ذلك المنْع وترتبه وتدرِّجه، حتَّى إذا علمتْ أنّ به غنًى عنها إنْ هي
فطمته فطاماً لا رجْعَة فيه، منَعَتْه كلَّ المنْع.
والعرب تسمِّي هذا التَّدبيرَ من البهائم التَّعفيرَ، ولذلك قال لبيد:
غُبْسٌ كواسبُ ما يُمَنُّ طعامُها |
|
لمعفّرٍ قَهْدٍ تَـنَـازَعَ شِـلْـوَه |
وعلى مثل هذه السِّيرة والعادة يكون عملُ الحمامِ في فراخه.
من عجيب أمر الحمام
ومن
عجيب أمر الحمام أنّه يقلب بيضه، حتى يصير الذي كان منه يَلي الأرض يَلي بدنَ
الحمام من بطنه وباطِنِ جَناحهِ،حتّى يُعطيَ جميعَ البيضةِ نصيبها من الحضن، ومن
مَسِّ الأرضِ، لعلمها أن خلافَ ذلك العمل يفسُده.
وخَصْلَةٌ أخرى محمودةٌ في الحمام، وذلك أنّ البغْل المتولِّد بينَ الحمار
والرَّمَكة لا يبقى له نسل، والرَّاعِبي المتولّد فيما بينَ الحمام والوَرشان،
يكثر نسله ويطولُ عمرُ ولدهِ، والبُخْتُ والفوالج، إنْ ضرَبَ بعضُها بعضاً خرج
الولدُ منقوص الخلق لا خير فيه، والحمامُ كيفمَا أدَرتَه، وكيفما زَاوجْتَ بينَ
متّفِقها ومختلفها، يكون الولد تامَّ الخلق، مأمول الخير، فمن نتاج الحمام إِذا
كان مركِباً مشْتركاً ما هو كالرّاعِبي والوَرداني، وعلى أنّ للورْداني غرابةَ لون
وظرَافَة قَدٍّ، للرَّاعِبيِّ فضيلةٌ في عِظم البدنِ والفِراخِ، وله من الهديلِ
والقَرْقَرَةِ ما ليس لأبويه، حتىِّ صار ذلك سبباً للزِّيادة في ثمنه، وعلّةً
للحِرْص على اتِّخاذه.
والغنمُ على قسمين: ضأن ومَعز، والبقرُ على قسمين: أحدهما الجواميس إلا ما كان من
بقرِ الوحْش، والظِّلْفُ إذا اختلَفا لم يكنْ بينهما تسافُدٌ ولا تلاقح، فهذه
فضيلة للحمام في جهة الإنسال والإلقاح، واتِّساع الأرحام لأصنافِ القبول، وعلى
أنَّ بينَ سائر أجناس الحمامِ من الوَرَاشين، والقماريّ، والفواخت، تسافداً
وتلاقُحاً.
مما أشبه فيه الحمام الناس
وممَّا
أشبّهَ فيه الحمامُ النَّاسَ، أنّ ساعاتِ الحضْن أكثُرها على الأنثى، وإنّما يحضُن
الذّكرُ في صدْر النهار حَضْناً يسيراً، والأنثى كالمرأة التي تكفُل الصبيَّ
فتَفْطِمه وتمرِّضه، وتتعهده بالتمهيدِ والتَّحريك، حتّى إذا ذهب الحضْنُ وانصرم
وقتُه، وصار البيضُ فِراخاً كالعِيال في البيت، يحتاجون إلى الطّعام والشّراب، صار
أكثرُ ساعات الزَّقِّ على الذَّكر كما كان أكثرُ ساعاتِ الحضنْ على الأنثى.
وممَّا أشبه فيه الحمام النَّاس ما قال مثنَّى بنُ زُهير وهو إمام النّاس في
البصرة بالحمام وكان جيِّد الفِراسة، حاذقاً بالعلاج، عارفاً بتدبير الخارجيِّ إذا
ظهرت فيه مَخيلة الخير - واسم الخارجيّ عندهم: المجهول - وعالماً بتدبير العريِق
المنسوب إذا ظهَرتْ فيه علاماتُ الفُسولِة وسوء الهِداية، وقديمكن أن يَخلُفَ ابن
قُرَشَيَّين وَيَنْدُب ابن خوزِيٍّ من نبطيَّةٍ، وإنما فضَلنا نتاج العلْية على
نِتاج السِّفلةِ لأنّ نِتاجَ النَّجابة فيهم أكثرُ، والسٍّقوط في أولاد السفلة
أعمُّ، فليس بواجبٍ أن يكون السفلةُ لا تَلِد إلاّ السفلة والعِلْية لا تَلِد إلاّ
العِليةَ، وقد يلدِ المجنونُ العاقِلَ والسخيُّ البخيلَ، والجميل القبيحَ.
وقد زعم الأصمعي أنّ رجلاً من العرب قال لصاحب له: إذا تَزَوَّجْتَ امرأةً
من العَرَب فَانظُرْ إلى أخوالها،وأعمامها، وإخوتها، فإنها لا تخطئ الشبّهَ بواحدٍ
منهم وإنْ كان هذا الموًصي والحكيم، جعل ذلك حُكماً عامّاً فقد أسرفَ في القول،
وإن كان ذهبَ إلى التّخويف والزَّجْر والترهيب كي يختارَ لنفْسِه، ولأنّ المتخيّر
أكثرُ نجابَةً فقد أحسن.
وقال مثنّى بنُ زهير: لم أر قطُّ في رجلِ وامرأةٍ إلاّ وقد رأيتُ مثلَه في الذَّكر
والأنثى من الحمام: رأيت حمامة لا تريد إلاّ ذكرَها، كالمرأة لا تريدُ إلاّ زوجها
وسيّدها، ورأيتُ حمامةً لا تمنَع شيئاً من الذُّكورة، ورأيتُ امرأةً لا تمنع يَدَ
لامس، ورأيت الحمامةَ لا تزيف إلا بعْدَ طَرْدٍ شديد وشدة طلبٍ، ورأيتُها تزِيفَ
لأَوَِّل ذَكر يُريدُها ساعةَ يقصِد إليها، ورأيتُ من النساء كذلك، ورأيت حمامةً
لها زوج وهي تمكن ذكراً آخرَ لاتَعْدُوهُ، ورأيتُ مثل ذلك من النساء، ورأيتُها
تزيفُ لغير ذكرِها وذكرُها يراها، ورأيتها لا تفعل ذلك إلاّ وذكرها يطيرُ أو
يحضُنُ، ورأيت الحمامةَ تقمُطُ الحمام الذكور، ورأيت الحمامةَ تقمط الحمامة، ورأيت
أنثى كانت لي لا تقمط إلا الإناث، ورأيت أخرى تقمط الإناثَ فقط، ولا تدَع أنثى
تقمطها.
قال: ورأيت ذكراً يقمُط الذُّكورة وتقمطه؛ ورأيت ذَكراً يقمُطها ولا يدعها تقمطه،
ورأيت أنثى تزيفُ للذُّكورةِ ولا تدع شيئاً منها يقمطها.
قال: ورأيت هذه الأصنافَ كلَّها في السَّحّاقات من المذكَّرات والمؤنثات، وفي
الرَّجال الحَلَقيِّين واللُّوطيِّين، وفي الرجَال من لا يريد النساء، وفي النساء
من لا يريد الرجال.
قال: وامتنعتْ عليَّ خصلةٌ، فو اللّه لقد رأيت من النساء من تزْني أبداً وتساحق
أبداً ولا تتزوج أبداً، ومن الرجال من يلوط أبداً، ويزني أبداً ولا يتزوَّج، ورأيت
حماماً ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج، ورأيتُ حمامَة تمكِّن كلَّ حمامٍ أرادَها
مِنْ ذكرٍ وأنثى، وتقمُطُ الذكورةَ والإناثَ، ولا تزاوِج، ورأيتها تزَاوج ولا
تبيض، وتبيضُ فيفسدُ بيضُها؛ كالمرأة تتزَوَّج وهي عاقر، وكالمرأة تلد وتكون خرقاء
ورْهاء، ويعرض لها الغلظة والعقوق للأولاد، كما يعتري ذلك العُقاب.
وأمَّا أنَا فقد رأيتُ الجفاء للأَولاد شائعاً في اللّواتي حَمَلْن من الحرام
ولربَّمَا ولدت من زَوجها، فيكون عطفها وتحنُّنها كتحنن العفيفاتِ السَّتيرات، فما
هو إلاّ أن تزنيَ أو تَقْحُب فكأَنَّ اللّه لم يضْرِب بينها وبين ذلك الولدِ بشبكة
رَحِم، وكأنّها لم تَلِدْهُ.
قال مثنَّى بنُ زهير: ورأيتْ ذكراً له أنثيان وقد باضَتا منه، وهو يحضُن مع هذه
ومع تلك، ويزُقُّ مع هذه ومع تلك، ورأيت أنثَى تبيض بيضة، ورأيت أنثى تبيض في أكثر
حالاتها ثلاث بيضات.
وزعم أنّه إنَّما جزَم بذلك فيها ولم يظنه بالذَّكر، لأنّها قد كانت قبل ذلك عند
ذكرٍ آخر، وكانت تبيض كذلك.
ورأيتُ أنا حمامةً في المنزل لم يعرِضَ لها ذَكرٌ إلاّ اشتدّت نحوه بحدَّةٍ ونزقٍ
وتسرُّعٍ، حتِى تنقر أينَ صادفتْ منهُ، حتى يصدّ عنها كالهارب منها، وكان زوجها
جميلاً في العَين رائعاً، وكان لها في المنزل بنون وبنو بنين وبنات وبنات بنات،
وكان في العَين كأنّه أشبُّ من جميعهنَّ، وقد بَلَغ من حظوتِه أني قلَّما رأيتُه
أرادَ واحدةً من عرْض تلك الإناثِ فامتنعتْ عليه، وقد كن يمتنعن من غيره، فبينا
أنا ذاتَ يومٍ جالسٌ بحيث أراهنّ إذ رأيتُ تلك الأُنثى قد زافتْ لبعض بنيها فقلت
لخادمي: ما الذي غيَّرها عن ذلك الخلق الكريم? فقال: إني رَحّلت زوجها من القاطول
فذهب، ولهذا شهر، فقلت: هذا عذر.
قال مثنّى بنُ زهير: وقد رأيت الحمامة تزاوِج هذا الحمام، ثم تتحول منه إلى آخر،
وَرَأيت ذكراً فَعَلَ مثل ذلك في الإناث، ورأيت الذَّكرَ كثيرَ النَّسل قويًاً على
القمْط، ثمَّ يُصِفي كما يُصْفي الرَّجلُ إذا أكثر من النَّسْل والجماع.
ثمَّ عدّد مُثَنًّى أبواباً غيرَ ما حفِظت ممَّا يُصابُ مثلُه في الناس.
خبرة مثنَّى بن زهير بالحمام
وزعموا
أنّ مثنًّى كان ينظر إلى العاتِق والمخلِف، فيظنَ أنّه يجيء من الغاية فلا يكاد
ظنهُ يخطئ، وكان إذا أظهرَ ابتياع حمامٍ أغلوْه عليه، وقالوا: لم يطلُبْه إلاّ وقد
رأى فيه علامةَ المجيء من الغاية، وكان يدسُّ في ذلك ففطنوا له وتحفظوا منه،
فربَّما اشترى نصفَه وثلثه، فلا يقصِّر عند الزِّجال من الغاية.
وكان له خصيٌّ يقال له خديج، يجري مجراه، فكانا إذا تناظرا في شأنِ طاِئرٍ لم
تُخلِف فراستهما.
المدة التي يبيض فيها الحمام والدجاج
قال:
والحمام تبيض عشرة أشهرِ من السَّنة، فإذا صانوه وحفِظوه، وأقاموا له الكفاية
وأحسنُوا تعهُّدُه، باضَ في جميع السَّنة.
قالوا: والدَّجاجة تبيض في كلِّ السَّنة خلا شهرين.
ضروب من الدجاج ومن الدَّجاج ما هو عظيم الجثّة، يبيض بيضاً كبيراً، وما أقل ما
يحضُن، ومن الدجاج ما يبيض ستِّين بيضة، وأكثرُ الدجاج العظيم الجثَّة يبيضُ أكثرَ
من الصغير الجثَّة.
قال: أما الدَّجاج التي نسبت إلى أبي ريانوس الملك، فهو طويلُ البدَن ويبيضُ في
كلّ يوم، وهي صعبة الخلق وتقتل فراريجها.
ومن الدَّجَاج الذي يربَّى في المنازل ما يبيض مرَّتين في اليوم، ومن الدجَاج ما
إذا باض كثيراً مات سريعاً، لذلك العَرض.
عدد مرات البيض عند الطيور قال: والخُطَّاف تبيض مَرَّتين في السّنة، وتبني بيَتها
في أوثق مكانٍ وأعلاه.
فأمَّا الحمام والفَواخت، والأطْرُغلاَّت والحمام البريُّ، فإنّها تبيض مرَّتين في
السنة، والحمامُ الأهليُّ يبيض عشْر مرات، وأما القَبَج والدُّرَّاج فهما يبيضان
بين العُشب، ولا سيما فيما طال شيّاً والتوى.
خروج البيضة وإذا باض الطّيرُ بيضاً لم تخرُج البيضة من حدِّ التحْدِيد
والتَّلطيف، بل يكون الذي يبدأ بالخروج الجانب الأعظم، وكان الظنُّ يسرعُ إلى أنّ
الرأس المحدَّد هو الذي يخرج أوّلاً.
قال: وما كان من البيض مستطيلاً محدَّد الأطراف فهو للإناث، وما كان مستديراً عريض
الأطراف فهو للذّكور.
قال: والبيضة عندَ خروجهِا ليِّنَة القِشْر، غير جاسية ولا يابسة ولا جامدة.
بيض الريح والتراب قال: والبيض الذي يتولد من الريح والتُّراب أصغرُ وألطَف، وهو
في الطِّيب دُونَ الآخر، ويكونُ بيضُ الرِّيح من الدجاج والقبج، والحمام، والطاوس،
والإوز.
أثر حضن الطائر قال: وحضْن الطائر وجثومه على البَيض صلاَح لبَدن الطائر، كما يكون
صلاحاً لبدَن البيض، ولا كذلك الحضْنُ على الفراخ والفراريج فربما هلك الطائر عن
ذلك السبب.
تكوّن بيض الريح وزعم ناسٌ أن بيض الرِّيح إنما تكوَّن منْ سفادٍ متقدِّم، وذلك
خطأٌ من وجهين: أمّا أحدُهما فأن ذلك قد عُرف من فَرَاريجَ لم يَرينَ ديكاً قط،
والوجه الآخر: أن بيضَ الريح لم يكن منه فَرُّوج قطّ إلاّ أن يسفَدَ الدجَاجة ديك،
بعد أن يمضي أيضاً خلْقُ البيض.
معارف شتى في البيض قال: وبيض الصّيف المحضون أسرعْ خروجاً منه في الشتاء ولذلك
تحضن الدجاجة البيضةَ في الصّيف خمس عشرة ليلة.
قال: وربَّما عَرَض غيمٌ في الهواء أو رَعْدٌ، في وقتِ حضْن الطائر، فيفسُدُ
البيض، وعلى كل حال ففسادُه في الصيف أكثر، والموتُ فيها في ذلك الزمان أعمّ،
وأكثر ما يكون فسادُ البيض في الجَنائب، ولذلك كانَ ابن الجهم لا يطلبُ من نسائه
الوَلد إلاّ والرِّيح شمال، وهذا عندي تعرُّضٌ للبلاء، وتحُّكك بالشرّ، واستدعاء
للعقوبة.
وقال: وبعضهم يسمِّي بيضَ الرِّيح: البيض الجُنُوبيَّ، لأنَّ أصناف الطّيرِ تقْبَلُ
الرِّىح في أجوافها.
وربَّما أفرخ بيضُ الرِّيح بسفادٍ كان، ولكنَّ لونَه يكونُ متغيِّراً وإن سفِد
الأنثى طائرٌ من غير جنسها، غيَّر خلق ذلك المخلوقِ الذي كان من الذّكر المتقدِّم،
وهو في الديَكةِ أعمَّ. ويقولون: إنّ البَيض يكون من أربعةِ أشياء: فمِنه مَا يكونُ
من التُّراب، ومنه ما يكونُ من السفاد، ومنه ما يكون من النّسيم إذا وصلَ إلى
أرحامهن وفي بعض الزَّمَان، ومنْهُ شيءٌُ يعتري الحَجَل وما شاكله في الطّبيعة،
فإنّ الأنثى ربَّما كانَتْ على سُفَالةِ الريح التي تهبُّ من شِقِّ الذكَر في بعض
الزمَان فتحتشي من ذلك بيضاً، ولم أرهم يشكون أن النَّخلة المُطْلِعَةَ تكون بقربِ
الفُحَّال وتحت ريحه، فتَلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك، قال: وبيضُ أبكارِ الطّير
أصغر، وكذلك أولادُ النساء، إلى أنْ تتسع الأرحَام وتنتفخ الجنوب.
هديل الحمام
ويكون
هديل الحمام الفتيِّ ضئيلاً فإذا زقَّ مِرَاراً فَتَحَ الزَّقُّ جلْدَة غَببه
وحوصلِته، فخرَجَ الصّوتُ أغلظَ وأجهرَ.
حياة البكر وهم لا يثِقون بحياة البكر من النّاسِ كما يثِقون بحياة الثاني، ويرون
أنّ طبيعَة الشباب والابتداء لا يعطيانه شيئاً إلاّ أخَذه تضايقُ مكانِه من
الرّحم، ويحبُّون أن تبكّر بجارية وأظُنُّ أن ذلك إنما هو لشدّةِ خوفِهم على
الذكر، وفي الجملة لا يتيمَّنون بالبكر الذكر، فإن كان البكرُ ابنَ بكرٍ تشاءمُوا
به، فإن كان البكْرُ ابنَ بكرَينِ فهو في الشؤمِ مثل قيسِ بنِ زهير، والبَسوس، فإن
قيساً كان أزْرق وبكراً ابن بكرين، ولا أحفظُ شأن البَسوس حفظاً أجزمُ عليه.
ما يعتري الحمام والإوز بعد السفاد
قال:
وأمّا الحمام فإنّه إذا قمط تَنَفّشَ وتكبَّر ونَفَضَ ذَنبه وضَرَبَ بجناحِه،
وأمّا الإوَزّ فإنّه إذا سفِد أكثر من السباحة، اعتراه في الماء من المَرَح مثلُ
ما يعتري الحمام في الهواء.
قال: وبيضُ الدجَاج يتمُّ خلقُه في عشْرة أيام وأكثرَ شيئاً، وأمَّا بيض الحمام
ففي أقلَّ من ذلك.
احتباس بيض الحمامة
والحمامة ربَّما احتبَسَ البيضُ في جوفها بَعْدَ الوقتِ لأمورٍ تَعْرِضُ لها: إمّا لأمر عَرَض لعُشِّها وأفحوصها، وإمّا لنتْفِ ريشها، وإمَّا لعلَّةِ وجعٍ من أوجاعها وإمّا لصوتِ رعد؛ فإنّ الرَّعدَ إذا اشتَدَّ لم يبقَ طائرٌ على الأرض واقع إلاّ عدَا فَزعاً، وإن كان يطيرُ رَمى بنفسه إلى الأرض، قال علقمة بن عَبَدَة:
بشِكتِه لم يُستَـلَـبْ وسـلـيبُ |
|
رغَا فوقهُمْ سَقْبُ السّماء فَدَاحضٌ |
صواعقُها لطـيرهِـنَّ دَبِـيبُ |
|
كأنّهمُ صابتْ عليهـمْ سـحـابةٌ |
تقبيل الحمام
قال:
وليس التَّقبيلُ إلاّ للحمَام والإنسان، ولا يدَعُ ذلك ذكرُ الحمام إلاَّ بعد
الهَرَم، وكان في أكثرِ الظَّنِّ أنَّه أحوجُ ما يكون إلى ذلك التَّهييجِ به عند
الكِبَرِ والضَّعف.
وتزعمُ العوامُّ أنَّ تسافُدَ الغِرْبان هو تطاعُمُها بالمناقير، وأنّ إلقاحَها
إنَّما يكونُ من ذلك الوجه، ولم أرَ العلماء يعرفون هذا.
قال: وإناثُ الحمام إذا تسافَدَت أيضاً قَبَّل بَعْضُهُنَّ بعضاً، ويقال إنّها
تبيضُ عن ذلك، ولكِنْ لا يكون عن ذلك البيضِ فِراخ، وإنَّه في سبيل بيض الريح.
تكوُّن الفرخ في البيضة
قال:
ويَستَبينُ خَلْقُ الفِراخ إذا مضت لها ثلاثةُ أيَّامٍ بليالها وذلك في شَبَاب
الدَّجاج، وأمَّا في المَسَانِّ منها فهو أكثر، وفي ذلك الوقت تُوجد الصُّفرةُ من
النَّاحيةِ العُليَا من البَيضة، عند الطرَف المحدَّد وحيث يكون أوَّلُ نَقْرِها،
فَثَمَّ يستبين في بياض البَيضة مثلُ نقطة من دم، وهي تختلجُ وتتحرَّك، والفرخ
إنَّما يُخلق من البَياض، ويَغْتذي الصُّفرة، ويتمُّ خَلْقُه لعشرةِ أيّام،
والرَّأسُ وحْدَهُ يكونُ أكبر من سائر البدن.
البيض العجيب قال: ومن الدَّجاج ما يبيض بيضاً له صُفْرتان في بعض الأحايين،
خبَّرني بذلك كم شِئتَ من ثقاتِ أصحابِنا.
وقال صاحب المنطق: وقد باضت فيما مضى دَجاجةٌ ثماني عشْرَة بيضةً، لكلِ بيضةٍ
مُحَّتانِ، ثمَّ سخِّنت وحُضنت، فخرَجَ من كلِّ بيضة فَرُّوجان، ما خلا البيضَ
الذي كان فاسداً في الأصل، وقد يخرج من البَيضة فَرُّوجان، ويكون أحدُهما أعظمَ
جثَّةً، وكذلك الحمام، وما أقَلَّ ما يغادر الحمامُ أن يكون أحدُ الفرْخَيْنِ
ذكَراً والآخر أنثى.
معارف في البيض قال: وربَّما باضتْ الحمامةُ وأشباهها من الفَواخِتِ ثَلاث
بيضات، فأمَّا الأُطرُغلاَّت والفَواخت فإنها تبيض بيضَتينِ، وربّما باضتْ ثَلاثَ
بيضات ولكنْ لا يخرُجُ منها أكثرُ من فرخين، وربّما كان واحداً فقط.
قال: وبعض الطير لايبيض إلاّ بعدَ مُرُورِ الحَوْلِ عليه كَامَلاً، والحمامةُ في
أكثر أمْرها يكونُ أحدُ فَرخَيها ذكراً والآخر أنثى، وهي تبيضُ أوّلاً البيضةَ
التي فيها الذَّكر، ثمّ تقيم يوماً وليلةً، ثمَّ تبيض الأخرى، وتحضُنُ ما بينَ
السَّبْعةَ عشَرَ يوماً إلى العشرين، على قدْر اختلاَفِ طباع الزَّمان، والذي
يعرضُ لها من العلل، والحمامةُ أبرُّ بالبَيضُ، والحمامُ أبرُّ بالفراخ.
قال: وأمّا جميعُ أجناسِ الطيرِ ممّا يأكل اللّّحمَ، فلم يظهْر لنا أنَّه يبيضُ
ويُفرخ أكثرَ من مرَّة واحدة، مَا خلا الخُطّاف فإنَّه يبيض مرَّتين.
تربية الطيور فراخها والعُقابُ تبيضُ ثلاث بيضات، فَيَخْرُج لها فرْخان، واختلفوا
فقال بعضهم: لأنها لا تحضُن إلاَّ بَيضتين، وقال آخرون: قد تحضُنْ وَيخرج لها
ثلاثَةُ أفراخ، ولكنَّها ترمي بواحدٍ استثقالاً للتكسُّب على ثَلاثة، وقال آخرون:
ليس ذلك إلاّ بما يعتريها من الضعفِ عن الصّيد، كما يعتري النُّفساء من الوهْن
والضّعف، وقال آخرون: العُقاب طائر سيّء الخلق، رديءُ التَّربية، وليس يُستعانُ
على تربية الأولاد إلاَّ بالصَّبْر، وقال آخرون: لا، ولكنّها شديدةُ النَّهم
والشَّرَهِ، وإذا لم تكنْ أمُّ الفِراخِ ذاتَ أثرَةٍ لها، ضاعت.
وكذلك قالوا في العَقعقَ، عند إضاعتها لفراخها، حتى قالوا: أحمقُ من عَقْعَقَ، كما
قالوا: أحذَر من عقْعقَ.
وقالوا: وأمّا الفَرخ الذي يُخرجه العُقاب، فإنّ المكلَّفَةَ، وهي طائرٌ يقال لها
كاسِر العِظام، تقبلُه وتربِّيه.
والعُقاب تحضن ثلاثين يوماً، وكذلك كلُّ طائرٍ عظيم الجثَّة، مثل الإوزّ وأشباهِ
ذلك، فأمَّا الوسط فهو يحضنُ عِشرين يوماً، مثل الحِدَأ ومثل أصناف البُزاةِ
كالبواشِق واليَآيئ.
والحدأة تبيضُ بيضتين، وربّما باضتْ ثلاث بيضات وخرَج منهن ثلاثة فِراخ.
قالوا:وأما العقبان السُّودُ الألوان، فإنَّها تربّي وتحضن.
وجميع الطير المعقَّف المخالب تطردُ فراخها من أعشاشها عندَ قوَّتها على
الطَّيران، وكذلك سائر الأصنافِ منَ الطيرِ، فإنَّها تطردُ الفِراخ ثمَّ لا
تعرفُها، ما عدا الغداف، فإنها لا تزالُ لولدها قابلة، ولحالِهِ متفقِّدة.
أجناس العقبان وقال قوم: إن العِقبانَ والبُزاة التَّامّة، والجهارْرَانك،
والسُّمنان، والزَّمامجِ والزَّرارقة إنها كلّها عِقْبان، وأمَّا الشّواهينُ
والصُّقورةَ واليَوايئ، فإنها أجناسٌ أخر.
حضن الطير قال: وقالوا: فراخ البزاة سمينة طَيِّبَةٌ جدّاً، وأما الإوزة فإنها
التي تحضن دونَ الذكر، وأمّا الغِربانُ فعلى الإنَاث الحضن، والذكورة تأتي الإنَاث
بالطُّعمة.
وأمّا الحجَل فإنَّ الزّوج مِنها يهيّئان للبَيض عُشّىن وثيقين مقسومَين عليهما،
فيحضنُ أحدُهُمَا الذَّكَرَ، والآخرَ الأنثى، وكذلك هُمَا في التَّربية، وكلُّ
واحدٍ منهما يعيشُ خمساً وعِشرين سنة، ولا تلْقَحُ الأنثى بالبيض ولا يُلِقحُ
الذكرُ إلاَّ بعدَ ثلاثِ سنين.
الطاوس قال: وأمَّا الطّاوس فأوّل ما تبيضُ ثماني بيضات، وتبيض أيضاً بيضَ الريح،
والطاوس يُلقي ريشَه في زَمن الخَريف إذا بدَا أوّلُ ورقِ الشَّجر يسقُطُ، وإذا
بدأ الشَّجرُ يكتسي ورقاً، بدأ الطاوس فاكتسى ريشاً.
ما ليس له عشٌّ من الطير قال: وما كان من الطّير الثَّقيل الجثَّة فليس يهيئ
لبيضهِ عُشاً؛ من أجْل أنَّه لا يُجيد الطَّيرَان، ويثقل عليه النهوض ولا
يتحَلَّق، مثل الدُّرَّاج والقَبَجَ، وإنما يبيض على التُراب، وفراخ هذه الأجناس
كفراريج الدَّجاج، وكذلك فراريج البطِّ الصِّيني، فإنَّ هذه كلَّها تخرُج من البيض
كاسية كاسبة تلقط من ساعتها، وتَكفي نفسها.
القبجة قال: وإذا دنا الصَّيّاد من عُشِّ القبجة ولَها فراخٌ، مرَّتْ بينَ
يدَيهِ مَراً غيرَ مفُيت، وأطمعتْه في نفسها ليتبعها، فتمرُّ الفراخ في رجوعها إلى
موضعِ عُشِّها، والفراخ ليسَ معها من الهِداية ما مع أمّها، وعلى أنّ القَبَجَةَ
سيِّئة الدَّلالةِ والهداية، وكذلك كلُّ طائر يعجَّلُ له الكَيْس والكسْوة، ويعجَّل
له الكَسْبُ في صغره.
وهذا إنَّما اعتراها لقَرابةِ ما بينَها وبين الدِّيك.
قال: فإذا أمعن الصَّائد خلْفها وقد خرجت الفراخ من موضَعِها، طارت وقد نحَّتْه
إلى حيثُ لا يَهتدي الرُّجوع منه إلى موضع عشِّها، فإذا سقَطَتْ قريباً دعتْها
بأصواتٍ لها، حتَّى يجتمعْنَ إليها.
قال: وإناثُ القَبَجْ تبيض خَمْسَ عشْرَةَ بيضة إلى ستَّ عشرةَ بيضة، قال: والقبج
طيرٌ منكرٌ وهي تفرُّ ببَيضها من الذَّكر؛ لأنَّ الأنثى تشتغل بالحضْن عن طاعة
الذَّكر في طلب السِّفاد، والقَبَج الذَّكَرُ يوصَفُ بالقوّة على السِّفاد، كما
يوصف الدِّيكُ والحجَلُ والعُصفور.
قال: فإذا شُغِلَت عنه بالحضْن، ظلبَ مواضعَ بيضها حتى يفسِدَهُ فلذلك ترتاد
الأنثى عشَّها في مَخَابِئَ إذا أحسَّت بوقْتِ البيض.
وثوب الذكورة على الذكورة وإذا قاتل بعضُ ذُكورةِ القَبَج بَعضاً فالمغلوبُ منها
مسفودٌ والغالبُ سافد، وهذا العرض يعرِضُ للدِّيكة ولذكور الدَّراريج، فإذا دَخَل
بين الدِّيَكةِ ديكٌ غريب، فمَا أكثَرَ ما تجتمع عليه حتَّى تسفَدَه، وسفادُ
ذُكورة هذه الأجناسِ إنما يعرض لها لهذه الأسباب، فأمَّا ذُكورةُ الحَمير
والخَنازيرِ والحمامِ، فإنّ ذُكورَها تثِبُ على بعضٍ مِن جهة الشَّهوة.
وكان عند يعقوبَ بن صباح الأشعثيِّ، هِرّان ضخْمان، أحدُهُما يكومُ الآخَر متى
أرادهُ، مِنْ غيرِ إكراهٍ، ومِن غيرِ أن يكونَ المسْفودُ يريدُ من السَّافِد مِثلَ
ما يريدُ منه السَّافد، وهذا البابُ شائعٌ في كثير من الأَجناس، إلاَّ أنَّه في
هذه الأَجناس أوْجَد.
صيد البُزاة للحمام
ثمَّ
رجَع بنا القَولُ إلى ذِكر الحمام، من غير أن يشاب بذكر غيره.
زعم صاحبُ المنطق أنَّ البُزاةُ عشرة أجناس، فمنها ما يضرِب الحمامة والحمامة
جاثمة، ومنها ما لا يضرب الحمامَ إلاّ وهو يطير، ومنها ما لا يضرب الحمام في حال
طَيَرَانِهِ ولا في حال جثومهِ، ولا يعرض له إلاَّ أنْ يجده في بَعْض الأغْصان، أو
على بعض الأنشازِ والأشجار، فعدَّد أجناسَ صيدِها، ثمَّ ذكرَ أنَّ الحمامَ لا يخفى
عليه في أوّل ما يرى البازيَ في الهواء أيُّ البُزَاةِ هُو، وأَيُّ نوعٍ صًيدُه،
فيخالف ذلك،ولمعرفة الحمامِ بذلك من البازي أشكال: أوَّلَ ذلك أنّ الحمامَ في
أوَّلِ نُهوضِه يفصلُ بينَ النَّسر والعُقاب، وبينَ الرّخمةِ والبازي، وبينَ
الغُرابِ والصَّقر؛ فهوَ يَرَى الكرْكيَّ والطَّبرزين ولا يستوحِشُ منهما ويرى
الزُّرَّق فيتضاءل، فإنْ رأى الشّاهينَ فَقَدْ رأى السّمَّ الذعاف الناقِع.
إحساس الحيوان بعدوِّه والنَّعجة ترى الفِيلَ والزَّنْدَبِيلَ والجاموسَ والبعير،
فلا يهزُّها ذلك، وترى السَّبع وهي لم تره قبل ذلك، وَعضوُ من أعضاء تلك البهائم
أعظمُ وهي أهولُ في العين وأشنعُ، ثمَّ ترى الأسَدَ فتخافه، وكذلك البَبْر والنمر،
فإن رأت الذئب وحده اعتراها منه وحْدَهُ مثلُ ما اعتراها من تلك الأجناسِ لو كانت
مجموعةً في مكانٍ واحد، وليس ذلك عن تجرِبَةٍ، ولا لأنّ منظرَه أشنعُ وأعظم، وليسَ
في ذلك عِلَّة إلاَّ ما طُبِعت عليه من تمييز الحيوان عندها، فليس بمُسْتَنكَرٍ
أنْ تَفْصِلَ الحمامة بينَ البازي والبازي، كما فصلت بين البازي والكَرْكيِّ.
فإنْ زعمتَ أنَّها تعرف بالمخالب فمِنْقارُ الكرْكيِّ أشنع وأعظم وأَفظع، وأطولُ
وأعرض، فأمَّا طَرَفُ منقار الأبغث فما كانَ كلُّ سنانٍ وإن كان مذرَّباً ليبلغه.
بلاهة الحمام وخرقه
قال
صاحب الدِّيك: وكيفَ يكونُ للحمام من المعرفة والفِطنة ما تذكرون، وقد جاء في
الأثر: كُونُوا بُلْهاً كالحمام.
وقال صاحب الدِّيك: تقول العربُ: أخْرَق مِنْ حمامةٍ، وممَّا يدل على ذلك قولُ
عَبيدِ بنِ الأبرص:
عَيَّتْ ببَيْضَتهَا الحَمَامهْ |
|
عَيُّوا بِأَمْرِهُـمُ كـمـا |
نَشمٍ وآخَرَ من ثمامهْ |
|
جَعَلَتْ لها عُودَينِ مِنْ |
فإن
كان عَبيدٌ إنما عَنَى حمامةً من حمامكم هذا الذي أنتم بِهِ تفْخَرُونَ، فقد
أكثرتم في ذكر تدبيرها لمواضعِ بَيضها، وإحكامها لصَنعة عشاشها وأفاحيصها.
وإن قلتم: إنَّه إنما عَنَى بعضَ أجناسِ الحَمَام الوحشي والبَرّيّ، فقد أخرجتمْ بعضَ
الحَمَامِ مِنْ حُسْنِ التَّدْبير، وعبيدٌ لم يُخصَّ حماماً دُونَ حمام.
رغبة عثمان في ذبح الحمام
وحدَّث
أُسامةُ بن زيد قال: سمعتُ بعضَ أشْياخِنا منذُ زمانٍ، يحدِّثُ أنَّ عثمانَ ابنَ
عفَّانَ - رضي اللّهُ تعالى عنه - أراد أنْ يَذْبَحَ الحمَامَ ثمَّ قال: لولا
أنّها أُمّةٌ من الأمم لأَمرت بذبحهن، ولكنْ قُصُّوهنَّ، فدلَّ بقوله: قُصُّوهنّ
على أنَّها إنما تُذْبَحُ لرغبة مَنْ يتّخذُهنّ، ويَلعبُ بهنَّ من الفِتْيانِ
والأَحداثِ والشّطَّار، وأصحابِ المراهَنة والقِمار، والذين يتشرَّفون على حُرَم
الناس والجيران، ويخْتَدِعُون بفراخ الحَمَامِ أولاد النَّاس، ويرمون بالجُلاَهِقِ
وما أكثر مَنْ قد فقأَ عيناً وهشَمَ أنْفاً، وهتَمَ فَماً، وهو لا يدري مَا يصنَع،
ولا يَقِفُ على مقدارِ مَا ركِبَ به القومَ، ثم تذهب جِنايتُهُ هدَراً؛ ويعودُ ذلك
الدَّمُ مطلولاً بلا عقْل ولا قوَدٍ ولا قِصاص ولا أرْش؛ إذْ كان صاحِبُه مجهولاً.
وعلى شبيهٍ بذلك كان عمرُ - رضي اللّه عنه - أمر بِذَبْحِ الدِّيَكة وأمرَ النبيُّ
صلَّى اللّه عليه وسلَّم بقتْل الكلاب.
قالوا: ففيما ذكرنا دليلٌ على أنَّ أكْلَ لحومِ الكلابِ لم يكنْ مِنْ دينِهم ولا
أخْلاقهِمْ، ولا مِنْ دواعي شهواتهم، ولولا ذلك لما جاء الأثرُ عن النبيِّ - صلّى
اللّه عليه وسلم - وعُمرَ وعُثمانَ - رضي اللّه تعالى عنهما بِذَبْح الدِّيكةِ
والحَمَامِ، وقتْل الكلاب، ولولا أنّ الأمرَ على ما قلنا، لقالوا: اقتلوا
الدُّيوكَ والحَمَامَ كما قال: اقتلوا الكلاب، وفي تفريقهم بينها دليلٌ على
افتراقِ الحالاَتِ عندَهم.
قال: حدَّثني أسامة بن زيد، وإبراهيمُ بنُ أبي يحيى، أنَّ عثمان شكَوْا إليه
الحَمَامَ، وأنّه قال: مَنْ أخَذَ منهنَّ شيئاً فهو له، وقد علمْنا أنّ اللفظَ وإن
كان قد وقَعَ على شِكاية الحَمام، فإن المعنى إنَّما هو على شكايةِ أصحاب الحَمام؛
لأنّه ليس في الحَمامِ مَعنىً يدعُو إلى شكايةٍ.
قال: وحدّثنا عُثمان قال: سُئل الحسنُ عن الحَمام الذي يصطاده النَّاس، قال: لا
تأكلْه، فإنّه منْ أموال الناس فجعله مالاً، ونَهَى عن أكْله بغير إذنِ أهله،
وكلُّ ما كان مالاً فيبيعُه حسَنٌ وابتياعُه حسن، فكيفَ يجوزُ لشيء هذه صفته أنْ
يُذبح، إلاَّ أن يكون ذلك على طريق العِقاب والزَّجْرِ لمن اتَّخذَه لما لا يحلّ.
قال: ورووا عن الزُّهري عن سعيدِ بن المسيَّب قال: نَهَى عُثمانُ عن اللعِبِ
بالحَمَام، وعن رمي الجُلاهِق، فهذا يدلُّ على ما قلْنا.
أمْن حمام مكة وغِزْلانها
والناس يقولون: آمَنُ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ، ومِنْ غِزلان مكة، وهذا شَائعٌ على جميع الألسنة، لا يردُّ أحدٌ ممن يعرِفُ الأَمثَالَ والشّواهدَ، قال عُقيبةُ الأَسديُّ لابن الزُّبير:
في حيثُ يأمَنُ طائرٌ وحَمـامُ |
|
ما زلتَ مذ حِججٍ بمكة محْرماً |
يَجْتبْنَ عُرْض مَخارِمِ الأعلامِ |
|
فَلَتَنْهَضَنّ العِيسُ تنفخُ في البُرَا |
يا لَلرّجال لِـخِـفّةِ الأحـلام |
|
أبنو المغيرةِ مثلُ آلِ خُويلـدٍ? |
وقال النابغةُ في الغِزْلان وأمْنِهَا، كقول جميع الشُّعراء في الحمام:
رُكبانَ مَكّةَ بين الغِيلِ والسَّعَـدِ |
|
والمؤمن العائذاتِ الطيرَ تمسَحُها |
ولو
أنّ الظِّباء ابتُليْت مِمَّنْ يتَّخِذها بِمثل الذي ابتُليت به الحَمام ثمَّ
ركبوا المسلمين في الغِزلان بمثل ما ركبوهم به في الحَمام، لساروا في ذَبْحِ
الغِزلان كسيرتهم في ذَبْحِ الحمام.
وقالوا: إنّه لَيبلُغُ مَن تعظيم الحَمام لحُرْمة البيتِِ الحرام، أنّ أهلَ مكة
يشهَدون عن آخرهم أنّهم لم يَرَوْا حَماماً قطُّ سقَطَ على ظهر الكعبة، إلاَّ مِنْ
عِلةٍ عَرَضتْ له، فإن كانت هذه المعرفة اكتساباً من الحَمام فالحَمامُ فوق جميعِ
الطير وكلِّ ذي أربع، وإن كان هذا إنَّما كان من طريقِ الإلهام، فليس ما يُلهَمُ
كما لاَ يلهم. وقال الشّاعر في أمْن الحمَام:
تفرَّعَ في الذّوائبِ والسَّنامِ |
|
لقد علم القبائلُ أنّ بَيْتـي |
بمكّتها البيوتَ معَ الحَمام |
|
وأنَّا نَحْنُ أولُ من تَبَـنَّـى |
وقال كثيِّر- أو غيره من بني سهم - في أمْن الحَمام:
وحُسَيْناً مِنْ سُوقَةٍ وإمـامِ |
|
لَعَنَ اللّهُ مَنْ يَسُبُّ عـلـيّاً |
والكرامُ الأخوالِ والأعمامِ |
|
أَيُسَبُّ المطيَّبـون جـدوداً |
مَنُ آلُ الرَّسولِ عِنْدَ المَقامِ |
|
يأمن الظبي والحَمامُ ولا يأ |
كلما قامَ قـائمٌ بـسـلامِ |
|
رحمةُ اللّهِ والسَّلامُ عليهم |
وذكر شأنَ ابنِ الزبير وشأنَ ابنِ الحنفيَّة، فقال:
مِنَ النَّاس يَعْلمْ أنَّهُ غـيرُ ظـالـم |
|
ومن يَرَ هذا الشَّيخَ بِالخِيفِ من مِنى |
وفكَّاكُ أغْـلالٍ ونـفَّـاعُ غـارمِ |
|
سَمِيُّ النبيِّ المصطفَى وابن عمِّـهِ |
ولا يتَّقِي في الـلّـه لـوْمَةَ لائمِ |
|
أبَى فهو لا يشْرِي هُدى بضَـلالةٍ |
حُلولاً بهذا الخَيْفِ خَيفِ المحَـارِمِ |
|
ونحن بحَمْدِ اللّهِ نتـلُـو كـتـابَـهُ |
وتَلْقَى العدُوَّ كالوَليِّ المـسـالـمِ |
|
بحيثُ الحَمَامُ آمـنـاتٌ سـواكـنٌ |
حمامة نوح
قال صاحب الحَمام: أمَّا العرب والأعرابُ والشُّعَراء، فقد أطبقوا على أنّ الحَمَامَة هي التي كانت دليلَ نوحٍ ورائده، وهي التي استجعَلَتْ عليه الطّوْقَ الذي في عنقها، وعند ذلك أعطاها اللّه تعالى تلك الحِلْية؛ ومنَحَها تلك الزِّينة، بدعاء نوحٍ عليه السلام، حينَ رجعتْ إليه ومعها من الكرْم ما مَعها، وفي رجليها من الطِّين والحَمْأة ما برجليها، فعوِّضتْ من ذلك الطِّين خِضابَ الرِّجلين، ومن حُسن الدَّلاَلَةِ والطَّاعةِ طَوْقَ العنق.
شعر في طوق الحمامة
وفي طوقها يقول الفرزدق:
فقد أَمِنَ الهِجَاءَ بنو حَرَامِ |
|
فمن يكُ خائفاً لأذاةِِ شِعري |
قلائِدَ مِثلَ أطواقِ الحمامِ |
|
هم قادُوا سفيهَهُم وخافُـوا |
وقال في ذلك بَكْر بن النَّطَّاح:
وإن شئتُ غنَّاني الحَمَامُ المطوَّق |
|
إذا شئتُ غنَّتْني بِبَـغـدَادَ قَـيْنَة |
ودِرْعُ حديدٍ أو قميصٌ مخلَّـق |
|
لباسي الحسامُ أو إزارٌ مُعصفـرٌ |
فذكر الطَّوق، ووصَفها بالغِناءِ والإطراب، وكذلك قال حُمَيد بن ثَور:
ولا الجيرةَ الأدْنينَ إلاَّ تـجـشُّـمـا |
|
رَقودُ الضُّحى لاَ تعرِف الجيرَة القصا |
أمَـام بـيوتِ الـحـيِّ إنّ وإنَّـمـا |
|
وليستْ مِنَ اللائي يكونُ حـديثَـهـا |
ثمّ قال:
دعَتْ ساقَ حُرٍّ تَرْحَةً وتَرَنُّـمـا |
|
وما هاج هذا الشّوقَ إلاَّ حمـامةٌ |
دنَا الصَّيفُ وانجاب الربيعَ فأنجما |
|
مطوّقةٌ خطْباء تصدَحَ كـلـمـا |
ثمّ قال بعد ذكر الطوق:
أو النَّخْلِ مِنْ تَثلِيثَ أو بيلملما |
|
إذا شئتُ غنَّتْنِي بأجزَاعِ بِـيشَةٍ |
فصيحاً ولم تَفْغَرْ بمنْطِقها فمَا |
|
عجبتُ لها أنَّى يكونُ غِناؤهـا |
ولا عَرَبيّاً شاقَهُ صوتُ أعجَما |
|
ولم أرَ محزُوناً لهُ مِثلُ صوتِها |
وقال في ذكر الطّوق - وأنّ الحَمامةَ نَوّاحةٌ - عبدُ اللّه بن أبي بكر وهو شهيد يوم الطائِف، وهو صاحبٌ ابن صاحِب:
ولا مِثْلها في غير جرمٍ تطَلّقُ |
|
فلم أرَ مثلِي طلّق اليومَ مثلهـا |
وما نَاحَ قُمرِيُّ الحَمامِ المطوَّقُ |
|
أعاتكُ لا أنْساكِ مَا هبَّتِ الصَّبَا |
وقال جَهْم بن خَلَف، وذكرها بالنَّوح، والغناء، والطّوْق، ودعوةِ نوح؛ وهو قَوُلَهُ:
|
طرُوبِِ العَشِيِّ هتوفِ الضُّحَى |
|
وقد شاقنـي نَـوْحُ قُـمـرِيةٍ |
|||
|
عَسِيبَ أَشاءٍ بذاتِ الـغَـضَـا |
|
من الوُرْقِ نَـوَّاحةٍ بـاكـرَتْ |
|||
|
يُهيِّج للصَّبِّ ما قـدْ مَـضـى |
|
تَغَنَّتْ عَلـيهِ بـلـحـنٍ لـهـا |
|||
|
بدعْوةِ نـوحٍ لـهـا إذ دَعَـا |
|
مطـوَّقةٍ كُـسِـبـــتْ زِينةً |
|||
تبكِّي وَدَمْعَـتـهـا لا تُـرَى |
|
فلم أرَ بـاكِـيةً مِـثـلـهـا |
|
|||
وقد عَلِقتْه حـبـالُ الـرَّدَى |
|
أضلّتْ فُرَيْخاً فَطَـافَـتْ لَـهُ |
|
|||
عَليهِ، ومـا ذا يردُّ الـبُـكـا |
|
فلما بدا اليأْسُ منـهُ بَـكَـتْ |
|
|||
خفوقُ الجَناحِ حَثِيثُ النَّـجَـا |
|
وقد صادَهُ ضَـرِمٌ مُـلْـحِـمٌ |
|
|||
فِ ضارٍ من الوُرْقِ فيه قنـا |
|
حديد المخالِبِ عارِي الوَظِـي |
|
|||
جوامزَ منه إذا ما اغـتـدى |
|
تَرَى الطّيرَ والوحْش مِن خَوفه |
|
|||
نزاع صاحب الدِّيك في الفخر بالطوق قال صاحب الديك: وأمَّا قوله:
ولم يخْصُصْ به طيراً سِواهَا |
|
مطوّقَة كساها اللّه طـوقـاً |
كيف لم يخصُص بالأطواق غَيْرَ الحَمام، والتَّدارِجُ أحقُّ بالأطواق وأحسنُ أطواقاً منها، وهي في ذُكورتها أعمّ? وعلى أنّه لم يصف بالطّوق الحَمامة التي فاخرتم بها الدِّيك؛ لأنَّ الحَمامة ليست بمطوَّقة، وإنما الأطواقُ لذكورة الوارشين وأشباه الوارشين،من نوائح الطّير وهواتفِها ومغنِّياتها، ولذلك قال شاعرُكم، حيث يقول:
وما ناحَ قُمرَيُّ الحمَامِ المطوَّقُ |
|
أعاتكَ لا أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبَا |
وقال الآخر:
طروبِ العَشِيِّ هَتُوفِ الضُّحى |
|
وقد شاقنـي نـوحَ قـمـريةٍ |
ووصفها فقال:
بدَعوةِ نوحٍ لها إذْ دَعا |
|
مطوَّقةٍ كُسِـيت زِينةً |
فإن
زعمتم أنّ الحَمامَ والقمْرِيَّ واليمامَ والفواخِتَ والدَّبَاسِيَّ والشّفانِينَ
والوارشين حمامٌ كلُّه، قلنا: إنَّا نزعم أنّ ذكورةَ التَّدَارِجِ وذكورةَ
القَبَج، وذكورةَ الحجَلِ ديوكٌ كلها، فإنْ كان ذلك كذلك، فالفخْرُ بالطّوق نحن
أولى به.
قال صاحب الحَمام: العرب تسمِّي هذه الأجناسَ كلها حماماً، فجمعوها بالاسم العامّ،
وفرَّقوها بالاسم الخاص، ورأينا صُورَها متشابهة، وإن كانَ في الأجسامِ بعضُ
الاختلافِ، وفي الجُثَث بعض الائتلاف وكذلك المناقير، ووجدناها تتشابه من طريق
الزِّواج، ومن طريقْ الدُّعاء والغناء والنَّوح، وكذلك هي في القدودِ وصُورِ
الأعناق، وقصب الريش، وصِيغَة الرُّؤوس والأرجل والسُّوق والبَراثِنِ.
والأجناسُ التي عددتم ليس يجمعها اسمٌ ولا بلدةٌ، ولا صورةٌ ولا زِواج، وليس بين
الدِّيَكة وبينَ تلك الذُّكورةِ نسبٌ إلاَّ أنّها من الطَّير الموصوفة بكَثْرةِ
السِّفاد، وأنَّ فِراخَها وفرارِيجها تخرُج من بيضها كاسية كاسبة، والبطُّ طائرٌ
مثقل، وقد ينبغي أن تجعلوا فرخَ البطَّة فَرُّوجاً، والأنثى دجاجةً والذَّكرَ
دِيكاً، ونحنُ نجد الحَمامَ، ونجد الوراشين، تتسافد وتتلاقح، ويجيء منها الراعبيُّ
والوردانيُّ؛ ونجد الفَواخِت والقماريّ تتسافد وتتلاقح، مع ما ذكرنا من التشابهُ
في تلك الوجوه، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ بعضها مع بعْضٍ كالبُخْتِ والعراب
ونتائج ما بينهما، وكالبراذين والعِتاق، وكلها خيلٌ، وتلك كلها إبل، وليس بين
التَّدارج والقَبَج والحَجَلِ والدَّجاجِ هذه الأمورُ التي ذكرنا.
وعلى أنَّا قد وجدْنا الأطواقَ عامّةً في ذوات الأوضاحِ مِنَ الحَمام، لأنَّ فيها
من الألوان، ولها من الشِّياتِ وأشكالِ وألوان الريش ما ليس لغيرها من الطَّير،
ولَو احْتجَجْنَا بالتَّسافُدِ دون التَّلاقُح، لكان لقائل مقال، ولكنَّا
وجدنَاهَا تجمع الخَصلتين، لأنَّا قدْ نجِدُ سُفهاء النّاس، ومن لا يتقَّذر من
الناس والأحداث ومن تشتدُّ غلمته عند احتلامه، ويَقِلُّ طرُوقُه، وتطول عُزْبته؛
كالمعْزِب من الرِّعاء فإنّ هذه الطَّبَقةَ من النّاس، لم يَدَعُوا نَاقَةً، ولا
بقرَةً، ولا شاةً، ولا أتاناً، ولا رَمَكةً، ولا حِجْراً، ولا كلبةً، إلاَّ وقد
وقعوا عليها.
ولَولاَ أَنَّ في نفوس النَّاس وشَهوَاتِهم ما يدعو إلى هذه القاذورة، لَما وجدْتَ
هذا العَمَلَ شائعاً في أهل هذه الصفة، ولَوْ جمعتَهم لجمعتَ أكثرَ من أهلِ
بغْدَادَ والبصرة، ثم لم يُلقحْ واحد منهم شيئاً من هذه الأجناس على أنّ بعض هذه
الأجناس يتلقى ذلك بالشَّهوةِ المفْرطة. ولقد خبَّرني من إخواني من لا أتَّهمُ
خَبَرَه أنّ مملوكاً كان لبعض أهل القَطيعة - أعني قطيعة الربيع - وكان ذلك
المملوكُ يَكومُ بغلةً وأنّها كانت تودق وتتلمّظ وأنّها في بعض تلك الوَقَعاتِ
تأخَّرَتْ وهو موعبٌ فيها ذكرَه تطلبُ الزيادة، فلم يَزَلْ المملوكُ يتأخّرُ
وتتأخّرُ البغْلة حتَّى أسندتْه إلى زاويةٍ مِنْ زَوايا الإصطبل، فَاضَّغَطتْه
حتّى بَرَدَ، فدخل بعضُ من دخل فرآه على تلك الحال فصاح بها فتنحّتْ وخرّ الغلام
مَيِّتاً.
وأخبرني صديقٌ لي قال: بلغني عن بِرْذَوْنٍ لزُرْقان المتكَلِّم، أنّهُ كان يدربخ
للبغال والحَمير والبراذين حتى تكومَه، قال: فأقبلت يوماً في ذلك الإصطبل، فتناولت
المجرفة، فَوَضعَتُ رأس عودِ المِجْرَفَة على مَرَاثِه وإنّه لأكْثَرُ مِنْ ذرَاعٍ
ونصف، وإنه لخَشِنٌ غليظٌ غير محكوك الرأس ولا ممَلّسهِ، فدفعْته حتى بلغ أقصى
العود، وامتنع من الدُّخول ببدن المِجْرَفة، فحلَفَ أنّه ما رآه تأطّرَ ولا انثنى.
قال صاحب الحمام: فهذا فرق ما بيننا وبينكم.
ما وصف به الحمام من الإسعاد..
وحسن الغناء والنوح
ونَذْكر ما وُصِف به الحمامُ من الإسعاد، ومن حُسْن الغُناء والإطراب والنَّوح والشّجَا، قال الحسن بن هانئ:
فَينانُ مَا في أدِيمه جُوَبُ |
|
إذا ثَنَتْه الغصون جلّلنـي |
كما تُرِنُّ الفواقدُ السُّلُبُ |
|
تبيتُ في مأتمٍ حمـائمـه |
كأنّما يستخفُّنـا طـرب |
|
يهبُّ شوقي وشوقهُنَّ معاً |
وقال آخر:
على فَنَنٍ وهناً وإنِّي لَـنـائمُ |
|
لقد هَتَفتْ في جُنحِ لَيل حمامةٌ |
لنفسي مما قد سَمِعتُ لَـلائمُ |
|
فقلتُ اعتذاراً عند ذاك وإنّنـي |
لما سَبَقَتْني بالبُكاءِ الحَـمَـائمُ |
|
كذبتُ وبيتِ اللّهِ لو كنتُ عاشقاً |
وقال نصيب:
بسُعدي شَفيت النّفس قبلَ التندُّمِ |
|
ولو قَبْلَ مَبْكاها بَكَيتُ صبـابَةً |
بُكَاها فقلتُ الفَضلُ للْمُتَـقَـدِّمِ |
|
ولكنْ بَكَتْ قَبلي فهيَّج لي البُكا |
وقال أعرابي:
على أنَّ قَلبي للفِراق كلـيمُ |
|
عليكِ سَلامُ اللّه قاطعَة القُوى |
وإن هبَّ يوماً للجَنُوبِ نَسِيم |
|
قريحٌ بتغريدِ الحَمامِ إذا بكت |
وقال المجنونُ، أو غيره:
حمائمُ ورقٌ في الـدِّيار وُقـوعُ |
|
ولو لم يَهجْني الرائحون لَهاجَنـي |
نوائحُ لا تجري لـهـنَّ دُمـوعُ |
|
تجاوَبْنَ فاستبْكَيْنَ من كان ذا هوى |
وقال الآخر:
عليكنَّ من بَين السَّـيالِ سـلامُ |
|
ألا يا سَيَالاتِ الدَّحائلِ بالـلِّـوى |
لهـنَ إلـى أفـيائكـنَّ بُـغـامُ |
|
أرَى الوَحْشَ آجالاً إليكنَّ بالضحى |
تَرَنّمَ في أفنـانـكـنَّ حَـمـامُ |
|
وإنِّي لمجلوبٌ لي الشَّوقُ كلمـا |
وقال عمرُو بن الوليد:
يُ وصَرْفُ النَّوى وحَرْبٌ عقامُ |
|
حال مِنْ دونِ أنْ أحلَّ بهِ الـنَّـأ |
والقصور التي بـهـا الآطـام |
|
فتبدَّلْتُ من مَسَاكِـنِ قـوْمـي |
تتغنَّى علـى ذراه الـحَـمـامُ |
|
كلَّ قصـرٍ مـشَـيّدٍ ذي أواسٍ |
وقال آخر:
فقد هاج لي مَسراكَ وجدًا علَى وَجد |
|
ألا يا صَبَا نجدٍ متى هِجْتَ مِن نَجـدِ |
عَلَى غُصُنٍ غضِّ النَّبات مِن الرَّنْـدِ |
|
أَأن هَتَفتْ ورقاء في رَوْنقِ الضُّحى |
جَليدًا وأبْدَيتَ الذي لم تكـنْ تُـبـدي |
|
بكيتَ كما يبكي الوليد ولـم تـكـنْ |
يُمَلُّ، وأنّ النّأي يشفي مِنَ الْـوَجْـد |
|
وقد زعموا أنّ الـمـحـبَّ إذا دنَـا |
عَلَى أنّ قُربَ الدَّارِ خيرٌُ من البُعْـد |
|
بكلٍّ تَدَاوَينْا فلـم يَشْـفِ مـا بـنـا |
أنساب الحمام
وقال
صاحب الحَمام: للحمام مجاهيل، ومعروفات، وخارجيَّات، ومنسوبات، والذي يشتملُ عليه
دواوينُ أصحب الحمام أكثرُ من كتب النَّسب التي تضاف إلى ابن الكلبيِّ، والشّرقيِّ
بن القطاميِّ، وأبي اليقظان، وأبي عُبيدة النحويِّ، بل إلى دَغْفَلِ ابن حنظلة،
وابن لسان الحُمَّرَة، بل إلى صُحارٍ العبديِّ، وإلى أبي السَّطّاح اللّخميّ، بل
إلى النَّخّار العذريِّ، وصُبح الطائيِّ، بل إلى مثْجور بن غيلان الضّبيّ، وإلى
سَطيح الذئبيّ، بل ابن شرِيَّة الجُرْهميِّ، وإلى زيد بن الكيِّس النَّمَريّ؛ وإلى
كلِّ نسَّابَةٍ راويَةٍ، وكلِّ متفنن علاّمة.
ووصف الهذيل المازنيُّ، مثنّى بن َ زُهير وحفظه لأنساب الحمام، فقال: واللّه لهو
أنسَب من سعيد بن المسيّب، وقَتادة بن دِعامة للنَّاس، بل هو أنسبُ من أبي بكر
الصِّدِّيق رضي اللّه عنه لقد دخلت على رجلٍ أعْرفَ بالأمَّهاتِ المنْجِبات من
سُحَيم ابن حفص، وأعرفَ بما دخَلها من الهُجْنةِ والإقراف، من يُونسَ بنِ حبيب.
مما أشبه فيه الحَمام الناس
قال: وممَّا أشبَهَ فيه الحَمامُ النَّاسَ في الصّور والشَّمائلِ ورقّة الطباع، وسُرعة القَبول والانقلاب، أنّك إذا كنتَ صاحبَ فِراسةٍ، فمرَّ بك رجالٌ بعضُهم كوفيٌّ، وبعضهم بَصريٌ، وبعضهُم شاميٌّ وبعضُم يمانيٌّ، لم يَخْفَ عَليك أمُورهم في الصُّوَر والشمائِل والقُدودِ والنَّغم أيّهم بصريٌّ، وَأيُّهم كوفيّ، وأيّهم يمانيٌّ، وَأيهم مدنيٌّ وكذلك الحمام؛ لا تَرَى صاحبَ حَمامٍ تخفى عليه نسب الحمام وجنسها وبلادُها إذا رآها.
مبلغ ثمن الحمام وغيره
وللحمام
من الفضيلة والفخْر، أن الحمام الواحدَ يباعُ بخسمائة دينار، ولايبلغ ذلك بازٍ ولا
شاهينٌ، ولا صقرٌ ولا عُقاب، ولا طاوس، ولا تدْرَجٌ ولا ديكٌ، ولا بعيرٌ ولا
حمارٌ، ولا بغلٌ، ولو أردْنَا أن نحقِّقَ الخبرَ بأنَّ برذوناً أو فرَسَاً بيع
بخمسمائة دينار، لما قدَرْنا عليه إلاّ في حديث السَّمَر.
وأنت إذا أردْتَ أن تتعرَّف مبلغ ثمنِ الحمام الذي جاء من الغايَةِ، ثمَّ دخلْتَ
بغدادَ والبصرة وجدْت ذلك بلا معاناة، وفيه أنَّ الحمام إذا جاء من الغاية بيع
الفَرخُ الذَّكرُ من فراخ بعشرين ديناراً أو أكثر، وبيعَت الأنثى بعشرة دَنَانير
أو أكثر، وبيعَت البيضة بخمسة دنانير، فيقوم الزَّوج منها في الغَلَّةِ مقام ضيعة،
وحتى ينهَضَ بمؤْنَة العِيال، ويَقضيَ الدَّين، وتبنى من غلاّتِه وأثمانِ رقابهِ
الدُّورُ الجياد، وتبتاع الحوانيتُ المغِلَّة، هذا؛ وهي في ذلك الوقتِ مَلْهى
عجيبٌ، ومنظرٌ أنيق، ومعتَبَرٌ لمنْ فكّر، ودليلٌ لمن نظرَ.
عناية الناس بالحمام
ومن دخل الحَجَر ورأَى قصُورَها المبنيَّة لها بالشّامات وكيف اختزانُ تلك الغلاَّت، وحفْظُ تلك المؤونات؛ ومن شهد أربابَ الحمام، وأصحابَ الهُدَّى وما يحتملون فيها من الكُلف الغِلاظِ أيَّامَ الزَّجْل، في حملانها على ظهور الرِّجال، وقبل ذلك في بُطون السفن، وكيف تُفْرَدُ في البيوت، وتجمع إذا كان الجمع أمثل، وتفرَّقُ إذا كانت التَّفرِقَةُ أمثل وكيف تُنقلُ الإنَاثُ عن ذُكورتِها، وكيفَ تنقَلُ الذُّكورَةُ عن إناثها إلى غيرها، وكيف يُخافُ عليها الضَّوَى إذا تقاربت أنسابُها، وكيف يُخاف على أعراقِها من دخول الخارجيّات فيها، وكيف يحتاط في صحَّة طرْقها ونجْلها؛ لأنَّهُ لاَ يُؤْمَن أن يقمُط الأنثى ذكرٌ من عُرْضِ الحمام، فيضربَ في النَّجلِ بنصيبٍ، فتعتريه الهُجنة - والبيضة عند ذلك تنسب إلى طَرْقها، وهم لا يحوطون أرحام نسائهم كما يُحوطون أرحامَ المنْجِبات من إناثِ الحمام، ومن شهد أصحاب الحمام عند زَجْلها من الغاية، والذين يعلّمون الحمامَ كيف يختارون لصاحب العلامات، وكيفَ يتخيَّرُون الثِّقة وموضعَ الصِّدقِ والأمانَةِ، والبُعدِ من الكِذَب والرّشوة، وكيفَ يتوخّوْن ذا التَّجربَة والمعرفة اللَّطيفة، وكيف تسخو أنفسُهمْ بالجعالة الرَّفيعة، وكيف يختارون لحملها من رجال الأمانةِ والجَلَدِ والشَّفَقَةِ والبَصَر وحُسْنِ المعرفَةِ - لعَلم عند ذلك صاحب الدِّيك والكلب أنَّهما لا يجريان في هذه الحلبةِ، ولا يتعاطيان هذه الفضيلة.
خصائص الحمام
قال:
وللحمام من حسنِ الاهتداءِ، وجودةِ الاستدلالِ، وثَباتِ الحِفْظِ والذِّكرْ،
وقوّةِ النِّزاع إلى أربابه، والإلف لوطنه، ما ليس لشيء، وكفاك اهتداءً ونِزاعاً
أن يكون طائرٌ من بهائم الطير، يجيء من بَرْغَمَة، لا بَلْ من العليق، أو من
خَرشنة أوْ من الصفصاف، لاَ بَلْ من البَغْراس، ومن لؤلؤة.
ثمَّ الدَّليلُ على أنَّه يَستدلُّ بالعقلِ والمعرفة، والفِكرةِ والعناية أنَّه
إنما يجيء من الغاية على تدريج وتَدْرِيبٍ وتنزيل، والدليل عَلَى علم أربابه بأنّ
تلك المقدَّمات قد نَجَعنَ فيه، وعملن في طِباعه، أنّهُ إذا بلغ الرَّقَّة غمَّروا
بهِ بكَرّةٍ إلى الدَّرب وما فوقَ الدَّرْب من بلاد الرُّوم، بل لا يجعلون ذلك
تغميراً؛ لمكان المقدمات والترتيبات التي قد عُمِلت فيه وحَذّقته ومَرَّنته.
ولو كان الحمام ممَّا يُرسَل باللّيل، لكان مِمَّا يستِدلُّ بالنُّجوم؛ لأنّا
رأيناه يلزَم بَطنَ الفُرات، أو بطنَ دِجلة، أو بُطونَ الأوديةِ التي قد مرَّ بها،
وهو يرى ويُبصِرُ ويفهَمُ انحدار الماء، ويعلمُ بَعْدَ طولِ الجَوَلانِ و بَعْدَ
الزِّجال، إذا هو أشرف علَى الفرات أو دِجلة، أنّ طرِيقَه وطريق الماء واحد، وأنهُ
ينبغي أن ينحدِر مَعهُ.
وما أكثرَ ما يستدلُّ بالجَوَادِّ من الطُّرُق إذا أعيتْهُ بطونُ الأودية، فإذا لم
يَدْرِ أمُصْعِدٌ أمْ مُنْحَدِرٌ، تعَرَّفَ ذلك بالرِّيح، ومواضعِ قُرْصِ الشمس في
السماء، وإنَّما يحتاج إلى ذلك كلِّه إذا لم يكُن وَقَعَ بعد على رسم يعمَلُ عليه
فرَّبما كَرّ حين يزجل بهِ يميناً وشِمالاً، وجنوباً وشَمالاً، وصَباً ودَبُوراً -
الفرَاسِخَ الكثيرةَ وفوقَ الكثيرة.
الغُمر والمجرّب من الحمام
وفي
الحمام الغُمْر والمجرّب، وهم لا يُخاطِرون بالأغمار لوجهين: أحدهما أن يكون
الغُمْر عريفاً فصاحبُه يضنُّ به، فهو يريدُ أن يدرِّبه ويمرِّنَه ثمَّ يكلفه بعد
الشيء الذي اتّخذه له، وبسببه اصطنعه واتخذهُ، وإمَّا أن يكونَ الغمْر مجهولاً،
فهو لا يتعنِّى ويُشقي نفسَه، ويتوقَّعُ الهِِدَايَةَ من الأغمار المجاهيل.
وخَصلةٌ أخرى: أنّ المجهولَ إذا رَجَعَ مع الهدَّى المعروفاتِ، فحملهُ معها إلى
الغاية فجاء سابقاً، لم يكنْ له كبير ثمنٍ حتَّى تتلاحق به الأولاد، فإِنْ أنْجَبَ
فيهنَّ صار أباً مذْكوراً وصار نَسَباً يرجَع إليه، وزاد ذلك في ثمنه.
فأمَّا المجرَّب غير الغمر، فهو الذي قد عرَّفوه الوُرودَ والتحَصُّب؛ لأنّه متى
لم يقدرْ عَلى أن ينقضّ حتَّى يشربَ الماء من بطون الأوديةِ والأنهار والغُدْران،
ومناقع المياه، ولم يتحَصّب بطلب بُزورِ البراري، وجاعَ وعطش - التمسَ مواضعَ
الناس، وإذا مرَّ بالقرى والعُمْران سقط، وإذا سقط أُخِذ بالبَايْكير وبالقفَّاعة،
وبالمِلْقَفِ وبالتَّدْبيق وبالدُّشَاخِ، ورمى أيضاً بالجُلاهِق وبغير ذلك من
أسبابِ الصَّيد.
والحمام طائرٌ مُلقًّى غير مُوَقًّى، وأعداؤه كثير، وسباع الطّير تطلُبه أشدّ
الطلب، وقد يترفّع مع الشّاهين، وهو للشاهين أخوَف، فالحَمامُ أطْيرَ منْهُ ومن
جميعِ سباعِ الطير، ولكِنَّهُ يُذْعرُ فيجهَلُ بابَ المَخْلَص ويعتريه ما يعتري
الحمار من الأسدِ إذا رآه، والشاةَ إذا رأت الذِّئب والفارة إذا رأت السِّنَّور.
سرعة طيران الحمام
والحمامُ أشدُّ طيراناً من جميع سباع الطير، إلاَّ في انقضاض وانحدار؛ فإنَّ تلك تنحطّ انحطاط الصخور و متى التقت أمَّةٌ من سباع الطَّير أوْ جُفالةٌ من بهائم الطير، أو طِرْنَ عَلَى عَرَقةٍ وخيطِ ممدود، فكلُّهَا يعتريها عند ذلك التَّقصير عما ما كانت عليه، إذا طارت في غير جماعة، ولن ترى جماعة طير أكثرَ طيراناً إذا كَثُرْنَ من الحمام؛ فإنّهُنّ كلما التففن وضاق موضعُهنَّ كان أشدّ لطيرانهنَّ، وقد ذكر ذلك النَّابغة الذُّبيانيُّ في قوله:
|
إلى حمامٍ شراعٍ واردِ الثَّـمـدِ |
|
وَاحْكمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذ نَظَرتْ |
|||
|
مثلُ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمدِِ |
|
يحفُّه جانـبًـا نِـيقٍ ويَتْـبَـعُـهُ |
|||
|
إلى حمامَتا ونِصْـفُـهُ فَـقَـدِ |
|
قالت: ألا لَيتما هذا الحمامُ لـنـا |
|||
تِسعًا وتسْعينَ لم تنقُصْ ولم تزِدِ |
|
فحسَبوه فألفَوه كما حَـسَـبَـتْ |
|
|||
وأسْرَعَتْ حَسْبَةً في ذلك العَدَدِ |
|
فكَمَّلت مائةً فيها حمامـتُـهـا |
|
|||
قال الأصمعيُّ: لما أراد مَديحَ الحاسب وسرعة إصابته، شدَّدَ الأمرَ وضيَّقه عليه؛ ليكون أحمدَ له إذا أصاب؛ فجعَلَهُ حَزَر طيراً، والطّيرُ أخفُّ من غيره، ثمَّ جعله حماماً والحمامُ أسرع الطّيرِ، وأكثرُها اجتهاداً في السرعة إذا كثر عددهنَّ؛ وذلك أنّه يشتدُّ طيرانُهُ عند المسابقة والمنافسة، وقال: يحفّه جانبا نِيقٍ ويتبعه، فأراد أنّ الحمام إذا كان في مضيقٍ من الهواء كان أسرَعَ منه إذا اتّسع عليه الفضاء.
غايات الحمام
وصاحب
الحَمام قد كان يدرِّب ويمرِّن ويُنزِل في الزِّجال، والغايَة يومئذٍ واسط، فكيف
يصنَع اليومَ بتعريفه الطَّريق وتعريفهِ الوُرود والتحصُّب، مع بُعد الغاية?! ما
يختار لِلزّجْل من الحَمام والبغداديون يختارون للزِّجال من الغايةِ الإناث،
والبصريّون يختارون الذُّكور فحجَّة البغداديّين أن الذَّكر إذا سافر وبَعُد عهده
بقَمْط الإناث، وتاقَتْ نفسُه إلى السِّفاد، ورأى أنثاه في طريقه، ترك الطَّلبَ إن
كان بعُد في الجوَلان؛ أو ترك السَّيرَ إن كان وقع على القَصْد، ومالَ إلى الأنثى
وفي ذلك الفسادُ كلُّه.
وقال البَصريُّ: الذَّكرُ أحنُّ إلى بيتِه لمكان أنثاه، وهو أشدُّ متْناً وأقوى
بدَناً، وهو أحسنُ اهتداء، فَنحنُ لا نَدع تقديمَ الشيء القائم إلى معنًى قد يعرضُ
وقد لا يعرض.
نصيحة شدفويه في تربية الحَمام وسمعتُ شدفويه السلائحي من نحو خمسين سنة، وهو يقول
لعبد السلام بن أبي عمار: اجعل كعبة حمامك في صَحْن دارِك، فإنَّ الحَمامَ إذا كان
متَى خرج من بيته إلى المعلاة لم يصل إلى معلاتهِ إلاّ بجمع النَّفس والجناحين،
وبالنهوضِ ومكَابدَةِ الصعود - اشتدَّ متْنُه، وقويَ جناحُه ولحمه، ومتى أراد
بيتَه فاحْتاج إلى أن ينتكس ويجيء منقضّاً كان أقوَى على الارتفاع في الهواءِ بعد
أن يروى، وقد تعلمون أَنَّ الباطنيِّين أشدّ متناً من الظاهريِّين، وأنّ
النِّقرِسَ لا يُصِيب الباطِنيَّ في رجله ليس ذلك إلاَّ لأنَّه يصعد إلى العلالي
فوق الكَنادِيجِ درجةً بعد درجة، وكذلك نزوله، فلو درَّبتم الحَمامَ على هذا
التّرتيب كانَ أصوب، ولا يعجَبُني تَدْريب العاتق وما فوق العاتق إلاّ من الأماكنِ
القريبة؛ لأن العاتقَ كالفتاةِ العاتق، وكالصبّي الغرير، فهو لاَ يَعْدِمُه ضعفُ
البدن، وقلَّةُ المعرفة، وسوء الإلف، ولا يُعجبُني أن تتركوا الحمام حتّى إذا صار
في عدد المسانِّ واكتهل، وولَدَ البطونَ بَعْدَ البطونِ، وأخذ ذلك من قوَّةِ
شبابهِ، حملتموه على الزَّجْل، وعلى التَّمْرين، ثمَّ رميتم به أقصى غايةٍ لاَ،
ولكنَّ التَّدريب مع الشباب، وانتهاء الحِدَّةِ، وكمال القوَّةِ، من قبل أن تأخذ
القوّة في النُّقصان، فهو يلقَّن بقربه من الحداثة، ويُعرَّف بخروجه من حدِّ
الحداثة، فابتدِِئُوا به التّعليمَ والتمْرينَ في هذه المنزلة الوُسطى.
الوقت الملائم لتمرين فراخ الحمام وهُمْ إذا أرادوا أن يمرِّنوا الفراخَ أخرجُوها
وهي جائعة، حتى إذا ألقوا إليها الحبَّ أسرعت النزول، ولا تُخْرَجُ والرِّيح عاصف،
فتخرج قبل المغربِ وانتصاف النهار، وحُذّاقهم لا يخرجونها مع ذكورة الحمام؛ فإنَّ
الذُّكورة يعتريها النَّشاط والطَّيران والتَّباعُدُ ومجاوزة القبيلة، فإن طارت
الفِراخُ معها سقطتْ على دور الناس، فرياضتها شديدة، وتحتاج إلى معرفة وعنايَةٍ،
وإلى صبرٍ ومُطاوَلة؛ لأنّ الذي يُراد منها إذا احتيج إليه بعد هذه المقدّمات كان
أيضاً من العجَب العجيب.
حوار في اختيار الحمام حوار يعقوب بن داود مع رجل في اختيار الحمام وحدَّثني
بعضُ من أثقُ به أنّ يَعقوبَ بن داود، قال لبعض مَنْ دَخَلَ عليه - وقد ذهب عنِّي
اسمُه ونسيتُه، بَعْدَ أَنْ كنْتُ عرفته -: أَما تَرَى كيُ أخلَف ظنُّنا وأخطأ
رأينُا، حتّى عمَّ ذلك ولم يخصّ? أما كان في جميع من اصطنعناه واخترناه،
وتفرَّسَنا فيه الخير وأردنَاه بِه - واحدٌ تكفِينا معرفته مؤنَةَ الاحتجاج عنه،
حتَّى صرْتُ لا أقرّع إلاّ بهم، ولاَ أعابُ إلاَّ باختيارهم قال: فقال له رجل إنّ
الحمام يُختارُ من جهة النَّسَب، ومن جهة الخِلْقة، ثم لا يرضى له أربابُه بذلك
حتى ترتِّبه وتنزِّلهُ وتُدَرِّجُه، ثم تُحمَل الجماعةُ منه بعد ذلك التّرتيب
والتَّدْرِيبِ إلى الغاية، فيذهبُ الشَّطرُ ويرجعُ الشطر، أو شبيهٌ بذلك أو قرِيبٌ
من ذلك، وأنتَ عَمدْتَ إلى حمامٍ لم تنظرْ في أَنْسابِها ولم تتأمَّلْ مَخيلة
الخير في خلْقها ثمَّ لم ترْض حتى ضربْتَ بها بكَرَّةٍ واحدةٍ إلى الغاية، فليس
بعَجَبٍ ولا مُنْكَرٍ ألاّ يرجعَ إليكَ واحدٌ منها، وإنما كان العَجبُ في
الرُّجوع، فأمّا في الضّلال فليس في ذلك عجبٌ، وعلى أنّه لو رجع منها واحدٌ أو أكثرُ
من الواحدِ لكان خطؤك موفّراً عليك، ولم ينتقصْهُ خطأُ من أخطأ؛ لأنّه ليس من
الصواب أن يجيء طائراً من الغايةِ على غير عِرْقٍ وعلى غير تدريب.
كرم الحَمام..
الإلف والأنْس والنِّزاعُ والشّوق
وذلك
يَدُلُّ على ثبات العهد، وحفْظِ ما ينبغي أن يُحفَظ، وصوْنِ ما ينبغي أن يصان وإنه
لخلق صِدْق في بني آدم فكيفَ إذا كان ذلك الخلقُ في بعض الطير.
وقد قالوا: عمَّرَ اللّه البُلدان بحبِّ الأوطان.
قال ابن الزُّبير: ليس النَّاسُ بشيء مِنْ أقسامهم أقنَعَ منهم بأوطانهم.
وأخبر اللّه عزَّ وجلَّ عن طبائع النَّاس في حبِّ الأوطان، فقال: "قَالُوا
وَمَا لنَا أَلاّ نقَاتِلَ في سَبيلِ اللّه وقدْ أُخْرِجْنَا من دِيَارِنَا
وَأَبْنَائنَا" وقال: "ولَوْ أنّا كَتبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا
أنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ما فَعَلوهُ إلاّ قَليلٌ
منْهُمْ".
وقال الشاعر:
فسُرَّ أَنْ جَمَعَ الأوْطَانَ والمطَرَا |
|
وكنتُ فيهمْ كممْطُورٍ ببَـلْـدِتـهِ |
فتجدُهُ
يُرْسَل منْ موضعٍ فيجيء، ثمَّ يخرج من بيته إلى أضيق موضع وإلى رخام ونقان فيرسل
من أبعد من ذلك فيجيء، ثم يصنَع به مثلُ ذلك المرار الكثيرة، ويزاد في الفراسخ، ثم
يَكون جزاؤه أن يغمَّر به من الرَّقّة إلى لؤلؤة فيجيء ويستَرَق من منزل صاحبه
فيقصُّ، ويَغْبرُ هناك حولاً وأكثَرَ من الحول، فحينَ ينبت جناحهُ يحنُّ إلى إلفه
وينزع إلى وطنه، وإن كان الموضع الثَّاني أنفعَ له، وأنعمَ لباله، فيَهبُ فضْلَ ما
بينهما لموضعِ تربيته وسكنه، كالإنسان الذي لو أصاب في غَير بلادِه الرِّيف لم
يقعْ ذلك في قلبه، وهو يعالجهم على أن يُعطَى عُشْرَ ما هو فيه في وطنه.
ثمَّ ربَّما باعه صاحبهُ، فإذا وجد مَخْلَصاً رجع إليه، حتَّى ربما فَعَلَ ذلك
مِراراً، وربَّما طار دَهْرَهُ وجالَ في البلادِ، وألفَ الطّيران والتقلُّبَ في
الهواء، والنَّظَرَ إلى الدنيا، فيبدو لصاحبه فيقصُّ جناحَه ويُلقِيه في ديماس،
فينبت جناحُهُ، فلا يَذْهب عنه ولا يتغيَّر له، نَعَمْ، حَتَّى ربّما جَدَف وهو
مقصوصٌ، فإمَّا صار إليهِ، وإمّا بلغَ عذراً.
قص جناح الحمام
ومتى
قصَّ أحد جناحيه كان أعجزَ له عن الطّيران، ومتى قصِّهما جميعاً كان أقوى له عليه،
ولكنهُ لا يبْعِد، لأنّه إذا كان مقصوصاً من شِقٍّ واحدٍ اختلفَ خلقه، ولم يعْتدل
وزنه، وصارَ أحدُهما هوائياً والآخرُ أرضياً فإذا قصّ الجناحان جميعاً طار، وإن
كان مقصوصاً فقد بلغ بذلك التعديل من جناحيه أكثر مما كان يبلغ بهما إذا كان
أحدُهما وافياً والآخرُ مبتوراً.
فالكلبُ الذي تَدَّعون له الإلف وثبات العَهد، لا يبلغُ هذا، وصاحبُ الدِّيك الذي
لايفخرُ للدِّيك بشيءٍ من الوفاء والحفاظ والإلف، أحقُّ بألاّ يعرِض في هذا الباب.
قال: وقد يكون الإنسان شديدَ الحضْر، فإذا قُطِعَتْ إحدى يديه فأراد العَدْو كان
خطوهُ أقصر، وكان عن ذلك القَصد والسَّننِ أَذهبَ، وكانت غاَيةُ مجهوده أقربَ.
حديث نباتَةَ الأقطع وخبّرني كم شئتَ، أنّ نباتَة الأَقطع وَكان منْ
أَشِدَّاء الفتيان وكانت يدُه قطعت من دُوينِ المنكبِ، وكان ذلك في شقِّه الأيسر؛
فكان إذا صار إلى القتالِ وضرَبَ بسيفِه، فإن أصاب الضَّريبةَ ثَبَتَ، وإن أَخطأ
سقطَ لوجههِ؛ إذ لم يكنْ جَناحه الأيسر يُمسكه ويثقّله حتى يعْتَدلَ بَدَنُهُ.
أجنحة الملائكة وقد طعن قومٌ في أجنحة الملائكة، وقد قال اللّه تعالى:
"الحَمْد للّه فاطرِ السَّموَاتِ والأرض جَاعلِ الْمَلاَئكَةِ رُسُلاً أُولي
أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يشَاءُ".
وزعموا أنَّ الجناحين كاليدين، وإذا كان الجناح اثنين أو أرْبَعَة كانتْ معتدلة،
وإذا كانت ثلاَثة كان صاحبُ الثَّلاثةِ كالجادِفُ من الطَّير، الذي أحدُ جناحَيه
مقصوص، فلا يستطيع الطّىران لعدم التعديل، وإذا كان أحدُ جناحيه وافياً والآخرُ
مقصوصاً، اختلفَ خَلْقُه وصار بَعْضُه يذهب إلى أسفْلَ والآخر إلى فوق.
وقالوا: إنَّما الجناحُ مثل اليد، ووجدنا الأيديَ والأرجل في جميع الحيوان لا تكون
إلاَّ أزواجاً، فلو جعلتمْ لكُلِّ واحدٍ منهم مائَة جَناحٍ لم نُنْكِرْ ذلك، وإن
جعلتموها أنقصَ بواحدٍ أو أكثرَ بواحدٍ لم نجوِّزه.
قيل لهم: قد رأينا من ذوات الأربع ما ليسَ له قَرن، ورأينا ما له قرْنَان أملسان،
ورأينا ما له قرنان لهما شُعَبٌ في مقاديم القرون، ورأينا بعضَها جُمّاً ولأخَواتِها
قرون، ورأينا منها ما لا يقال لها جُمٌّ لأنَّها ليست لها شكلُ ذواتِ القرون،
ورأينا لبعض الشاء عِدَّةَ قرون نَابتةٍ في عظم الرَّأس أزواجاً وأفراداً، ورأينا
قرُونًاً جُوفاً فيها قرون، ورأينا قروناً لا قرونَ فيها، ورأيناها مُصمََتَة،
ورأينا بعضَها يتصُل قَرْنُه في كلِّ سنة، كما تسلخ الحيَّةُ جلدَها، وتنفضُ
الأشجارُ ورقها، وهي قُرون الأيائلِ، وقد زعموا أنَّ للحِمار الهنديِّ قرناً
واحداً.
وقد رأينا طائراً شَديدَ الطيران بلا ريشٍ كالخُفاش، ورأينا طائراً لايطير وهو
وافي الجَناح، ورأينا طائراً لا يمشي وهو الزَّرزور، ونحن نُؤْمن بأنَّ جعفَراً
الطَّيارَ ابنَ أبي طالب، له جناحان يطير بهما في الجِنان، جُعِلا له عوضاً من
يديه اللتين قطعتا على لواء المسلمين في يوم مؤتة، وغير ذلك من أعاجيب أصناف
الخلق.
فقد يستقيم - وهو سهلٌ جائزٌ شائع مفهوم، ومعقول قريبٌ غير بعيد أن يكون إِذا وُضع
طباع الطائر على هذا الوضع الذي تراه ألاّ يطير إلاّ بالأزواج، فإذا وُضع على غير
هذا الوَضع، وركِّب غيرَ هذا التَّركيب صارت ثلاثة أجنحة وَفُوق تلك الطبيعة، ولو
كان الوَطواط في وضْعِ أخلاطه وأعضائه وامتزاجاته كسائر الطير، لما طار بلا ريش.
الطير الدائم الطيران وقد زعم البَحْريّون أنّهم يعرفون طائراً لم يسقط قطّ، وإنما
يكون سقوطه من لدُنْ خروجهِ من بيضه إلى أن يتمَّ قصبُ ريشه، ثم َّ يطير فليس له
رِزق إلاّ من بعوض الهواء وأشباه البَعوض؛ إلاّ أَنَّهُ قصيرُ العمر سريعُ
الانحطام.
بقية الحديث في أجنحة الملائكة وليس بمستنكر أن يُمزَج الطائر ويُعْجَن غيرَ عجْنه
الأوَّل فيعيش ضعفَ ذلك العُمر، وقد يجوز أيضاً أنْ يكونَ موضعُ الجَناح الثالث
بين الجَناحين، فيكون الثالث للثاني كالثاني للأوّل، وتكون كلُّ واحدةٍ من ريشةٍ
عاملةً في التي تليها من ذلك الجسم فتستوي في القوى وفي الحِصص.
ولعَلَّ الجَناح الذي أنكره الملحدُ الضَّيِّقُ العَطَن أن يكونَ مركزُ قوادِمِهِ
في حاقِّ الصُّلب.
ولعَلَّ ذلك الجناح أن تكون الريشة الأولى منه معينة للجنَاح الأيمن والثانية
معينة للجناح الأيسر، وهذا مما لايضيقُ عنه الوهم، ولا يعجِز عنه الجواز.
فإذا كان ذلك ممكناً في معرفة العبد بما أعاره الربُّ جلّ وعزَّ، كان ذلك في قدرة
اللّه أجوز، وما أكثر من يضيقُ صدرُه لقلَّة علمه.
أعضاء المشي لدى الحيوان والإنسان
وقد
علموا أنَّ كلّ ذي أربعٍ فإنّه إذا مَشى قدّم إحدِى يديه، ولا يجوز أن يستعمل
اليَد الأخرى ويقدِّمها بَعْدَ الأولى حَتّى يستعمل الرِّجل المخالفة لتلك اليد:
إنْ كانت اليدُ المتقدّمة اليمنى حرَّكَ الرِّجْلِ اليسرى، وإذا حَرّك الرجل
اليسرى لم يحرِّك الرِّجْل اليمنى - وهو أقْرَبُ إليها وأشبه بها - حَتَّى يحرِّك
اليَدَ اليسرى، وهذا كثير.
وفي طريقٍ أخرى فقد يقال: إنَّ كلَّ إنسانِ فإنما رُكْبَته في رِِجله، وجميعَ ذوات
الأربَع فإنَّما رُكبها في أيديها، وكلُّ شيء ذي كفِّ وبَنان كالإنسان، والقرد،
والأسد، والضَّبّ، والدُّب، فكفُّه في يده، والطَّائر كفّه في رجله.
استعمال الإنسان رجليه فيما يعمله في العادة بيديه وما رأيتُ أحداً ليس له يَدٌ
إلاّ وهو يعمل برجليه ما كان يعمل بيديه، وما أقف على شيء من عمل الأيدي إلاّ وأنا
قد رأيتُ قوماً يتكلّفونه بأرجلهم.
ولقد رأيتُ واحداً منهم راهنَ على أن يُفرِغ برجليه ما في دَسْتيجة نبيذ في
قنانيَّ رِطليَّات وفقَّاعِيّات فراهنوه، وأزعجني أمرٌ فتركته عند ثقات لا أشك في
خبرهم، فزعموا أنّه وَفَى وزاد، قلت: قد عرَفتُ قولَكم وفى فما معنى قولكم زاد
قالوا: هو أنّه لو صبَّ من رأس الدّستيجة حوالي أفواه القنانيّ كما يعجِز عن ضَبطه
جميعُ أصحاب الكمال في الجوارح، لما أنكرنا ذلك، ولقد فرَّغ ما فيها في جميع
القناني فَما ضيّعَ أوقيَّةً واحدة.
قيام بعض الناس بعمل دقيق في الظلام وخبَّرني الحزَاميُّ عن خليل أخيه، أنّه متى
شاء أن يَدْخُلَ في بيِت ليلاً بلا مصباح، ويفرغ قربة في قنانيّ فلا يصبُّ إستاراً
واحداً فعله.
ولو حكى لي الحزاميُّ هذا الصَّنيعَ عن رجل وُلِد أعمى أو عمي في صباه، كان يعجبني
منه أقلُّ، فأمّا من تعوّد أن يفعل مثل ذلك وهو يبصر فما أشدَّ عليه أن يفعله وهو
مغمَض العينين، فإن كان أخوه قد كان يقدر على ذلك إذا غمَّض عينيه فهو عندي عجب،
وإن كان يبصر في الظلمة فهو قد أشبه في هذا الوجه السِّنّورَ والفأر، فإنَّ هذا
عندي عجبٌ آخر وغرائب الدُّنيا كثيرة عند كلّ من كان كلفاً بتَعرافها، وكان له في
العلم أصلٌ، وكان بينه وبين التبَيُّنِ نَسَب.
اختلاف أحوال الناس عند سماعهم للغرائب وأكثر الناس لا تجدّهم إلاَّ في حالتين:
إمّا في حالِ إعراض عن التبيُّن وإهمال للنّفس، وإمَّا في حالِ تكذيبٍ وإنكارٍ
وتسرّع إلى أصحاب الاعتبار وتتبُّعِ الغرائب، والرغبةِ في الفوائد، ثمَّ يرى بعضهم
أنَّ له بذلك التكذيب فضيلةً، وأنّ ذلك بابٌ من التوقِّي، وجنسٌ من استعظام الكذب،
وأنّه لم يكن كذلك إلاَّ من حاقِّ الرَّغبةِ في الصِّدقِ، وبئس الشيء عادة الإقرار
والقبول، والحقُّ الذي أمر اللّه تعالى به ورغب فيه، وحثَّ عليه أن ننكر من الخبر
ضربين: أحدهما ما تناقَضَ واستحال، والآخر ما امْتنع في الطِبيعة، وخرج من طاقة
الخلقة، فإذا خرج الخبرُ من هذين البابين، وجرى عليه حكم الجواز، فالتدبير في ذلك
التثبت وأن يكون الحقُّ في ذلك هو ضالّتك، والصِّدق هو بُغيتك، كائناً ما كان،
وقَع منك بالموافقةِ أم وقع منك بالمكروه، ومتى لم تعلم أَنّ ثوابَ الحقِّ وثمرَة
الصِّدق أجدى عليك من تلك الموافقةِ لم تقَع على أن تعطِي التثبتَ حَقّه.
??تشبيه رماد الأثافي بالحمام
قال: وهم يصفون الرَّماد الذي بين الأثافيّ بالحمامةِ، ويجعلون الأثافيَّ أظآراً لها، للانحناء الذي في أعالي تلك الأحجار، ولأنَّها كانت معطّفات عليها وحانيات على أولادها، قال ذو الرُّمَّة:
على خَرِق بين الأثافي جَوازِلُـه |
|
كأنَّ الحمامَ الوُرْقَ في الدَّارِ جَثَّمت |
شبّه الرّماد بالفراخ قبل أن تنهض والجُثوم في الطير مثل الرُّبوض في الغنم، وقال الشماخ:
ونُؤْيَينَ في مَظلومَتَيْنِ كُدَاهما |
|
وإرثِ رَماد كالحمامة ماِثـل |
وقال أبو حيَّة:
كبـاقـي الـوحْـي خُـطَّ عـلـى إمـــام |
|
مِنَ الـعَـرَصـاتِ غـير مَـخَــدِّ نُـــؤْيٍ |
|
|
وغيرِ خوالدٍ لُوِّحْن حَتىبهنَّ علامةٌ من غير شام |
مَثَـلْـنَ ولـم يَطِـرْنَ مَـعَ الـحــمـــامِ |
|
كأنّ بها حمامَات ثَلاثاً |
وقال العَرْجي:
وهابٍ كجُثْمانِ الحمامةِ هامِدُ |
|
ومَرْبط أفْرَاسٍ وخَيمٌ مُصَرَّعٌ |
وقال البَعِيث:
وَسَحْق رَمادٍ كالنَّصيف من العصْبِ |
|
وَيَسُفْعْ ثَوَيْنَ العَامَ والعَـامَ قـبْـلَـهُ |
شعر في نوح الحمام وفي بيوتها
وقالوا في نوح الحمام، قال جِران العَود:
كأنّه صوتُ أنباطٍ مَثـاكـيلِ |
|
واستقبلوا وادِىاً نوحُ الحمامِ بِهِ |
وقالوا في ارتفاع مواضعِ بُيوتِها وأعشاشها، وقال الأعشى:
خيلاً وزرعاً نابتاً وفَصافـصـا |
|
ألم تر أن العِرْض أصبَحَ بطنـهُ |
تَرَى للحمام الورقِ فيه قرامصَا |
|
وذا شُرُفات يقصُر الطّرف دونَه |
وقال عمرو بن الوليد:
والقُصور التي بها الآطامُ |
|
فتبدَّلتُ من مساكنِ قومي |
تتغنَّى على ذُراه الحمـامُ |
|
كلَّ قصرٍ مشيّدٍ ذي أواسٍ |
والحمام أيضاً ربما سكن أجْوَافَ الرَّكايا، ولا يكون ذلك إلاّ لِلْوحشيِّ منها، وفي البِير التي لا تُورد، قال الشاعر:
حَماماً فِي مساكِنِه فَطَارَا |
|
بدلو غير مُكرَبَةٍ أصابتْ |
يقول: استقى بِسُفرِته من هذه البئر، ولم يستقِ بدَلوٍ، وهذه بئر قد سكنها الحمام لأنّها لا تُورَدُ، وقال جهم بن خلف:
مطوَّقةٌ ورقاء تصدَحُ في الفجر |
|
وقد هاج شوقي أنْ تَغنَّت حمـامةٌ |
لها دَمعةً يومًا على خدّها تجري |
|
هتوفٌ تبكِّي ساقَ حُرٍّ ولن تـرَى |
نَوائحُ بالأصياف في فَنَنِ السِّـدْر |
|
تغنَّتْ بلحنٍ فاستجابَت لصوتـهـا |
يُهَيِّج للصَّبِّ الحزينِ جَوَى الصَّدْرِ |
|
إذا فَترَتْ كرَّتْ بلحنٍ شجٍ لـهـا |
بصوتٍ يَهيجُ المستهامَ على الذِّكرِ |
|
دعتهُنَّ مِطرابُ العشيَّات والضُحى |
عليها، ولا ثكلِى تُبَكِّي على بِكْـرِ |
|
فلـم أرَ ذا وجـد يزيدَ صـبـابةً |
شَرِبنَ سُلافًا من معتَّقة الخَمْـرِ |
|
فأسْعَدْنها بالنَّوح حتَّـى كـأنَّـمـا |
نوائحُ مَيْت يلتدِمْنَ لـدى قـبـرِ |
|
تجاوبْنَ لحنًا في الغُصونِ كأنَّـهـا |
كسا جانبيه الطّلحُ واعتمَّ بالزَّهْـرِ |
|
بسُرَّةِ وادٍ مـن تَـبَـالة مُـونِـقٍ |
استطراد
لغوي ويقال: هدر الحمام يهدِر، قال: ويقال في الحمام الوحشي من القماريِّ والفواخت
والدَّباسي وما أشبه ذلك: قد هدل يهدِل هدِيلاً،فإذا طَرَّب قيل غرَّد يغرد
تغريداً، والتغريد يكون للحمام والإنسان، وأصله من الطير.
وأمَّا أصحابنا فيقولون: إنّ الجمل يهدِر، ولايكون باللام، والحمام يهدل وربّما كان
بالراء.
وبعضهم يزعُم أنّ الهديلَ من أسماء الحمام الذَّكر، قال الرّاعي واسمه عبيد بن
الحصين:
يدعُو بقارِعَةِ الطَّرِيق هديلا |
|
كهداهِدٍ كَسَرَ الرُّماةُ جَناحَـه |
ساق حُرٍّ وزعم الأصمعيُّ أنّ قوله: هتوفٌ تبكّي ساقَ حرٍّ إنَّما هو حكاية صوت وحشيِّ الطير من هذه النَّوَّاحات، وبعضهم يزعم أنّ ساق حرّ هو الذكر، وذهب إلى قول الطِّرمَّاح في تشبيه الرَّماد بالحمام، فقال:
كسَراةِ السّاقِ ساقِ الحمامِْ |
|
بين أظآرٍ بمـظـلـومةٍ |
صفة فرس وقال آخر يصف فرساً:
رفعُ يدٍ عَجلَى ورِجل شمـلاَلْ |
|
ينْجيه مِنْ مِثْلِ حمـام الأغْـلاَلْ |
|
|
تَظْمَأُ من تحتُ وتُروَي من عالْ |
الأغلال:
جمع غَلَلٍ، وهو الماء الذي يجري بين ظهرَي الشّجر قال: والمعنى أنّ الحمام إذا
كان يريد الماء فهو أسرعُ لها، وقوله: شِملال أيْ خفيفة.
ليس في الأرض جنسٌ يعتريه الأوضاح والشِّيات، ويكون فيها المصْمَت والبهيمُ أكثرَ
ألواناً، و من أصناف التَّحَاسِين ما يكون في الحمام، فمنها ما يكون أخضرَ
مُصمُّتاً، وأحمر مصمتاً وأسودَ مصمتاً، وأبيض مصمتاً، وضروباً من ذلك، كلها
مصمتة، إلاّ أنّ الهِدَايَةَ للخُضْرِ النُّمر، فإذا ابيضَّ الحمام كالفقيع فمثله
من النّاس الصَّقلابيُّ، فإن الصَّقلابيَّ فطيرٌ خامٌ لم تُنْضِجْه الأرحام؛ إذ
كانت الأرحام في البلاد التي شمسها ضعيفة. وإن اسودّ الحمامُ فإنما ذلك احتراقٌ،
ومجاوزة لحدِّ النُّضج، ومثلُ سود الحمام من الناس الزِّنج؛ فإن أرحامهم جاوزت
حدَّ الإنضاح إلى الإحراق، وشيَّطت الشّمس شُعورَهم فتقبَّضت.
والشّعر إذا أدنَيته من النَّار تجعَّد، فإنْ زدْتَه تفَلفَل، فإن زدتَه احترق.
وكما أنّ عقول سُودانِ النَّاس وحُمرانِهم دونَ عقول السُّمر، كذلك بيضُ الحمام
وسودُها دونَ الخُضْر في المعرفة والهدايَةِ.
استطراد لغوي وأصل الخضرة إنَّما هو لون الرَّيحان والبقولِ، ثم جعلوا بعدُ
الحديدَ أخضرَ، والسماء خضراء، حتّى سمَّوا بذلك الكُحْل واللّيل.
قال الشَّمَّاخ بنُ ضرار:
زُبالةَ جلباباً من الليل أخضـرا |
|
ورُحْنَ رَواحاً مًنْ زَرُودَ فنازعت |
وقال الرّاجز:
مثل انتضاء البَطَلِ السَّيفَ الذّكَرْ |
|
حتَّى انتضاه الصُّبح من ليلٍ خَضِرْ |
|
|
نضو هوى بالٍ على نِضَوِ سَفَرْ |
وقال
اللّه عزّ وجلّ: "ومنْ دُونِهمَا جَنَّتانِ، فَبأيِّ آلاء رَبِّكما
تُكَذِّبَان، مُدْهَامَّتَانِ" قال: خضراوان من الرِّي سوداوان.
ويقال: إن العراقَ إنَّما سمِّي سواداً بلون السَّعَف الذي في النّخل، ومائه.
والأسودان: الماء والتمر، والأبيضان: الماء واللبن، والماء أسودُ إذا كان مع
التّمر، وأبيض إذا كان مع اللّبن.
ويقولون: سُودُ البطون وحمْر الكُلى، ويقولون: سود الأكباد يريدون العداوة، وأن
الأحقاد قد أحرقت أكبادَهم، ويقال للحافر أسود البطن؛ لأَن الحافر لا يكون في
بطونها شحم.
ويقولون: نحن بخير ما رأينا سَواد فلان بين أظهرُنا، يريدون شخصه، وقالوا: بل
يريدون ظلَّه.
فأمّا خضْرُ مُحارِب، فإنما يريدون السُّود وكذلك: خُضْر غسَّان.
ولذلك قال الشاعِرُ:
أهْلَ البريصِ ثمانٍ منهمُ الحكـمُ |
|
إنّ الخَضارمة الخضْر الذين غدَوْا |
ومن هذا المعنى قول القرشي في مديح نفسِه:
أخضَرُ الجلْدةِ في بَيْتِ العربْ |
|
وأنا الأَخضَرُ مَنْ يَعْرِفـنـي |
وإذا
قالوا: فلان أخضر القفا، فإنما يعنون به أنّه قد ولدتْه سوداء، وإذا قالوا: فلان
أخضر البطْن، فإنما يريدون أنّه حائك، لأَنّ الحائك بطنَه لطول التزاقه بالخشبة
التي يطوى عليها الثّوب يسودّ.
عدواة العروضي للنظام وكان سبب عداوة العَروضي لإبراهيم النَّظام، أنّه كان
يسمِّيه الأَخضرَ البطن، والأسَود البطن؛ فكان يكشِفُ بطنَه للناس - يريدُ بذلك
تكذيبَ أبي إسحاق - حتى قال له إسماعيل بن غزْوان: إنَّما يريد أنَّك من أبناء
الحاكة فعاداه لذلك.
استطراد لغوي فإذا قيل أخضر النَّواجذ، فإنما يريدون أنّه من أهل القُرَى، ممّن
يأكل الكُرَّاث والبصل.
وإذا قيل للثّور: خاضب؛ فإِنما يريدونَ أنّ البقل قدْ خَضَب أظلافه بالخضرة، وإذا
قيل للظليم: خاضب، فإنما يَريدونَ حمرةَ وظيفيه فإنهما يَحمرَّان في القيْظ، وإذا
قيل للرَّجل خاضب، فإنَّما يريدون الحنَّاء فإذا كان خضابُه بغير الحِنَّاء قالوا:
صَبَغ ولا يقال خضب.
ويقولون في شبيهٍ بالباب الأَوَّل: الأحمران: الذهب والزعفران، والأبيضان: الماء
واللَّبن، والأسودان: الماء والتمر.
ويقولون: أهلَكَ النِّساء الأَحمران: الذَّهب والزّعفران، وأهلَكَ النَّاسَ
الأحامِر: الذهب، والزعفران، واللَّحم، والخمر.
والجديدان: اللَّيل والنهار، وهما الملوان.
والعصر: الدَّهر، والعصران: صلاة الفَجْر وصلاة العشي، والعصران: الغَداة
والعَشِيُّ، قال الشاعر:
ويَرْضى بِنِصْفِ الدَّينِ والأنفُ رَاغِمُ |
|
وأمطُله العَصْرَينِ حَتَّى يمـلَّـنـي |
ويقال:
البائعان بالخيار وإنَّما هو البائع والمشتري، فدخل المبتاع في البائع.
وقال اللّه عزَّ وجلَّ: "وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ "، دخلت الأمُّ في اسم الأبوَّة، كأنهُمْ يَجمعُون على أنْبَهِ
الاسميْنِ وكقولهم: ثبِيرَين، والبَصرتَين، وليس ذلك بالواجب؛ وقَدْ قالوا: سيرَة
العُمَرَين، وأبو بكْرٍ فوقَ عمر، قال الفرزْدَق:
لنا قَمرَاها والنُّجومُ الطَّوالعُ |
|
أخذْنَا بآفاقِ السَّماءِ عليكـمُ |
وأمَّا قولُ ذي الرُّمَّة:
بأربْعةٍ والشخْصُ في العَينِ وَاحِدُ |
|
وليلٍ كجِلبابِ العَرُوسِ ادَّرعتُـه |
فإنهُ
ليس يريدُ لونَ الجلباب، ولكنّهُ يريد سُبوغه.
جواب أعرابيّ قال: وكذلك قول الأعرابيِّ حينَ قيل له: بأيِّ شيء تعرفُ حَملَ
شاتِك? قال:إذا استفاضَتْ خاصِرتها، ودَجت شَعْرَتها، فالدَّاجي هاهنا اللابس.
قال الأصمعي ومسعود بن فيد الفزاري: ألا تَرونَه يقول: كان ذلك وثَوبُ الإِسلامِ
داجٍ، وأما لفظ الأصمعيّ فإنّه قال: كان ذلك منذُ دَجَا الإسلام، يعني أنّه أَلبس
كلَّ شيء.
شِيات الحمام
ثمَّ
رجع بنا القول إلى ذكر شِياتِ الحمام.
وزعموا أنّ الأوضاحَ كلَّها ضعَف، قليلها وكثيرها، إلاّ أنَّ ذلك بالحِصَص على
قدْر الكثرة والقلَّة، كذلك هي في جميع الحيوانِ سواءٌ مستقبلُها ومستدْبرها، وذلك
ليس بالواجِبِ حتى لا يغادر شيئاً البتة؛ لأنَّ الكَلْبةَ السَّلوقيَّةَ البيضاءَ
أكرمُ وأصيَدُ، وأصبَرُ من السَّوْدَاء.
والبياضُ في النَّاسِ على ضروب: فالمعيب منه بياضُ المُغْرَب والأشقَرُ والأحمرُ
أقلُّ في الضّعف والفَسادِ، إذا كان مشتقّاً من بَياضِ البَهَقِ والبَرَصِ
والبَرَشِ والشيب.
والمغْرَبُ عند العرب لا خير فيه البتة، والفقيع لا يُنجِب، وليس عنده إلاّ حسنُ
بياضه، عند من اشتهى ذلك.
سوابق الخيل وزعم ابن سلاّم الجَمحيّ أنَّه لم يرَ قطُّ بلقاءَ ولا أبلق جاء
سابقاً، وقال الأصمعيّ: لم يسبق الحَلْبَة أهضَمُ قطُّ؛ لأنهم يمدحون المُجْفَرَ
من الخيل، كما قال:
يرجعْ إلى دِقّة وَلاَ هَضَمِ |
|
خِيط على زَفرةٍ فَتَمَّ ولـم |
ويقولون:
إنَّ الفرَس بعُنُقِه وبطْنه.
وخبّرني بعض أصحابنا، أنَّه رأى فَرَساً للمأمون بَلقاء سبقتِ الحلبة، وهذه نادرةٌ
غريبة.
نظافة الحمام ونَفع ذرْقه
والحمام طائر ألوفٌ مألوف ومحبَّب، موصوفٌ بالنّظافة، حتى إنّ ذرْقه لا يعاف ولا نتن له، كسُلاَحِ الدَّجاج والدِّيَكة، وقد يُعالج بذرْقه صاحبُ الحصاة، والفلاّحون يجدون فيه أكثرَ المنافع، والخبَّاز يُلقي الشيء منه في الخمير لينتفخَ العجينُ ويعظُمَ الرغيف، ثمّ لا يستبينُ ذلك فيه، ولذَرْقه غلاّتٌ، يعرف ذلك أصحاب الحُجَر، وهو يصلُحْ في بَعض وُجوهِ الدَّبْغ.
الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب
وقال
صاحبُ الدِّيك: الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب، وإن برَّ بزَعْمِكم ولدَ غيرِه،
وصنَعَ به كما يصنع بفرخه؛ وذلك أنهما يحضُنان كلَّ بيض، ويزُقّان كلَّ فرْخ، وما
ذاك منهما إلاّ في الفَرْط.
لؤم الحمام فأمَّا لؤمه فمن طرِيق الغَيرة، فإنّه يرى بعينه الذّكَرَ الذي هو أضعف
منه، وهو يطرُدُ أنثاه ويكسَحُ بِذَنَبه حَولها، ويتطوَّس لها ويستميلها، وهو يرى
ذلك بعَينه - ثمَّ لم نر قط ذكراً واثَبَ ذكراً عند مثلِ ذلك.
فإذا قلت: إنّه يشتدُّ عليه ويمنعه إذا جثَمت له وأراد أن يعلوَها؛ فكلُّ ذكر
وأنثى هنالك يفعل ذلك، وليس ذلك من الذكر الغريب من طريق الغَيرة، ولكنّه ضربٌ من
البُخْل ومن النّفاسة، وإذا لم يكن من ذكَرِها إلاّ مثلُ ما يكون من جميع الحمام
عُلم أنّ ذلك منه ليس من طريق الغيرة، وأنا رأيت النواهضَ تفعل ذلك، وتقطع على الذَّكر
بَعْدَ أن يعلُوَ على الأنثى.
قال: وأمَّا ما ذكرتم من أن الحمامَ معطوفٌ على فِراخه ما دامتْ محتاجةً إلى
الزّقّ، فإذا استغنَت نُزِعت منها الرحمةُ، فليس ذلك كما قلتم، الحمامُ طائِرٌ ليس
له عهد؛ وذلك أنّ الذّكرَ ربما كانت معه الأنثى السِّنينَ، ثمَّ تُنقَلُ عنه
وتُوارَى عنه شهراً واحداً، ثم تظهر له مع زوجٍ أضْعَفَ منه، فيراها طولَ دهْره
وهي إلى جنب بيتِه وتماريده فكأنه لا يعرفها بعد معرفتها الدَّهرَ الطويل، وإنما
غابت عنه الأيَّامَ اليسيرةَ، فليس يوجَّهُ ذلك الجهلُ الذي يُعامِل به فراخَهُ
بعد أن كبِرَت، إلاَّ على الغباوة وسُوءِ الذِّكر، وأنّ الفرْخ حين استوى ريشهُ
وأشبَهَ غيرَه من الحمام جهِل الفصْل الذي بينهما.
فإن كان يعرف أنثاه وهو يجدُها مع ذكَرٍ ضعيف وهو مسلِّم لذلك وقانعٌ بِهِ، وقليلُ
الاكتراث به، فهو من لؤمِ في أصل الطبيعة.
قسوة الحمام قال: وبابٌ آخر من لؤمه: القسوة، وهي ألأمُ اللّؤم؛ وذلك أن
الذّكَر ربَّما كان في البيت طائرٌ ذكرٌ قد اشتدَّ ضعفهُ، فينقُر رأسَه والآخرُ
مستخذٍ له، قد أمكَنَه من رأسِهِ خاضعاً له، شديدَ الاستسلام لأمره، فلا هو يرحمُه
لضعْفِه وعجْزِه عنهُ، ولا هو يرحَمُه لخضوعه، ولا هو يملُّ وليس له عنده وِتر،
ثمّ ينقُر يافُوخَه حتى ينقُبَ عنهُ، ثمَّ لا يزال ينقُر ذلك المكانَ بَعْدَ
النّقْب حتى يُخرِجَ دِمَاغَهُ فيموتَ بين يَدَيْه.
فلو كان ممَّا يأكل اللَّحمَ واشتهى الدماغ كان ذلك له عذراً؛ إذ لم يَعْدُ ما
طَبَعَ اللّه عليه سِباعَ الطير.
فإذا رأينا من بعض بهائمِ الطيرِ من القَسوةِ ما لا نرى من سِباع الطير لم يكن لنا
إلاّ أن نقضيَ عليهِ من اللؤم على حسب مباينته لشكل البهيمة، ويزيد في ذلك على ما
في جوارح الطير من السَّبُعِية.
أقوال لصاحب الديك في الحمام وقال صاحب الديك: زعم أبو الأصبغ بن ربعيّ قال: كان
رَوحٌ أبو همام صاحِب المعمّى، عند مثنَّى ابن زهير، فبينما هو يوماً وهو معهُ في
السطح إذ جاء جماعةٌ فصعِدوا، فلم يلبثْ أن جاء آخرون، ثمَّ لم يلبَثْ أن جاء
مثلهُمْ، فأقبَلَ عليهم فقال: أيُّ شيءٍ جاء بكم? وما الذي جَمَعكم اليوم? قالوا:
هذا اليومُ الذي يرجع فيهِ مَزَاجيلُ الحمامِ من الغايَةِ، قال: ثمَّ ماذا? قالوا:
ثمَّ نَتَمَتَّعُ بالنَّظَر إليها إذا أقبلت، قال: لكِنَّني أتمتَّع بتغميض العين
إذا أقبلت، وترْك النَّظرِ إليها ثمَّ نزَل وجلس وحدَه.
التلهِّي بالحمام
وقال
مثنّى بنُ زهير ذاتَ يوم: ما تلَهَّى النّاسُ بشيءٍ مثل الحمام، ولا وجدنا شيئاً
مما يتخذه النّاس ويُلعَبُ بِهِ ويُلْهَى بِهِ، يخرج من أبواب الهزل إلى أبواب
الجِدّ - كالحمام - وأبو إسحاق حاضر - فغاظه ذلك، وكظم على غيظه، فلمَّا رأى
مثَنَّى سكوته عن الردِّ عليه طمِع فيه فقال: يبلغُ واللّهِ مِنْ كرَم الحمامِ
ووفائِه، وثباتِ عهْدِه، وحنينِه إلى أهله، أنِّي ربّما قصَصتُ الطَّائر وبعد أنْ
طار عِندي دهراً، فمتى نبَتَ جَناحُه كنباته الأوَّل، لم يَدْعُه سوءُ صنعِي إليه
إلى الذَّهاب عنِّي، ولربَّما بِعْتُه فيقصُّه المبتاعُ حيناً، فما هو إلاَّ أن
يجدَ في جَناحِه قوَّةٍ على النُّهوض حتَّى أراه أتاني جادفاً أو غير جادف،
وربَّما فعلتُ ذلك به مراراً كثيرة، كلَّ ذلك لا يزدَادُ إلاَّ وفاء.
قال أبو إسحاق: أمَّا أنت فأراكَ دائباً تحمَده وتذمُّ نَفْسَك، ولئنْ كان رجوعُه
إليك من الكرمِ إنّ إخراجَك له من اللُّؤم وما يُعجبني من الرِّجال مَنْ يَقْطَعْ
نفسَه لصلةِ طائر، وينسى ما عليه في جنبِ ما للبهيمة، ثم قال: خبِّرني عنْكَ حين
تقول: رجَعَ إليَّ مرَّةً بعدَ مرَّة، وكلما زهِدْتُ فيه كان فيَّ أرغبَ، وكلّما
باعدْتُه كان لي أطْلَبَ؛ إليكَ جاء، وإليكَ حنَّ أمْ إلى عُشِّه الذي درَج منه،
وإلى وكْره الذي رُبِّي فيه? أرأيت أنْ لو رجَعَ إلَى وكرِه وبيتِه ثمَّ لم يجدْك،
وألفاك غائباً أو ميِّتاً، أكان يرجِعُ إلى موضعه الذي خلّفه? وعلى أنّك تتعجَّب
من هدايتِه، وما لك فيه مقالٌ غيره، فأمَّا شكرُك على إرادته لك، فقد تبيَّنَ
خَطَاؤك فيه، وإنما بقي الآن حسنُ الاهتداء، والحنينُ إلى الوطن.
مشابهة هداية الحمام لهداية الرخم
وقد
أجمعوا على أنَّ الرَّخَمَ من لئام الطير وبغاثها، وليست من عِتاقها وأحْرارها،
وهي من قواطِع الطّير، ومِنْ موضِع مَقْطَعها إلينا ثمَّ مرجِعِها إليه من عندنا،
أكثَرُ وأطوَل من مقدارِ أبعَدِ غايات حمامكم، فإن كانتْ وقتَ خُروجها من أوطانها
إلينا خرجتْ تقطَع الصَّحارى والبراريَّ والجزائرَ والغِياضَ والبِحارَ والجبالَ،
حتّى تصير إلينا في كلِّ عام - فإن قلت إنّها ليستْ تخرج إلينا على سمْتٍ ولا على
هِدايةٍ ولا دَلالةٍ، ولا على أمارةٍ وعَلامة، وإنما هَرَبت من الثُّلوج والبرْد
الشديد، وعلمت أنّها تحتاج إلى الطُّعْم، وأنّ الثّلجَ قد ألبَس ذلك العالم،
فخرجتْ هاربة فلا تزالُ في هربها إلى أن تصادفَ أرضاً خِصْباً دفئاً، فتقيم عندَ
أدنى ما تجد - فما تقولُ فيها عند رجوعها ومعرفِتها بانحسارِ الثلوج عن بلادها?
أليست قد اهتدت طرِيقَ الرُّجوع? ومعلوم عند أهل تلك الأطراف، وعند أصحاب
التَّجارب وعند القانص، أنّ طَيْرَ كلِّ جهةٍ إذا قَطَعَتْ رَجَعت إلى بلادها
وجبالها وأوكارها، وإلى غياضها وأعشّتها، فتجد هذه الصِّفة في جميع القواطع من
الطَّير، كرامها كلئامها، وبهائمها كسباعها، ثمَّ لا يكون اهتداؤها على تمرينٍ
وتوطين، ولا عن تدريبٍ وتجريبٍ، ولم تلقّن بالتّعليم، ولم تثبّتْ بالتّدبيرِ
والتقويم، فالقواطع لأنفسها تصير إلينا، ولأنفسها تعودُ إلى أوكارها.
وكذلك الأوابد من الحمام، لأنفسها ترجع، وإلفُها للوطن إلفٌ مشترَكٌ مقسومٌ على
جميع الطّير، فقَدْ بَطَلَ جميعُ ما ذكرت.
قواطع السمك ثمّ قال: وأعجبُ من جميعِ قواطعِ الطّيرِ قواطعُ السَّمك، كالأسبور
والجُوَاف والبَرستُوج، فإنَّ هذه الأنواعَ تأتي دِجلَة البصرةِ من أقصى البحار،
تستعذبُ الماء في ذلك الإبَّان، كأنها تتحمَّضُ بحلاوة الماء وعذوبَتِه، بعدَ
مُلوحةِ البحر؛ كما تتحمَّض الإبلُ فتتطلب الحَمْضَ - وهو ملحٌ - بَعْدَ الخُلّة -
وهو ما حلا وعذب.
طلب الأسد للملح والأُسْدُ إذا أكثَرتْ مِنْ حَسْوِ الدِّماء - والدِّماءُ حلوةٌ -
وأكْلِ اللّحْم واللّحمُ حلو - طلبت المِلْحَ لتتملّحَ به، وتجعلَه كالحمْض بعْدَ
الخُلّة.
ولولا حُسنُ موقعِ المِلْح لم يُدْخله النّاسُ في أكثرِ طعامهم.
والأَسَدُ يخرج للتملُّح فَلاَ يزالُ يسيرُ حتّى يجِدَ مَلاَّحة، وربَّما اعتادَ
الأَسَدُ مكاناً فيجده ممنوعاً، فلاَ يزالُ يقْطَعُ الفراسِخَ الكثيرَةَ بَعْدَ
ذلك فإذا تملَّح رجع إلى موضعِهِ وغَيْضَتِه وعَرينِه، وغابه وعِرِّيسته، وإن كان
الذي قَطَع خمسين فرسخاً.
قواطع السمك ونحن بالبصرة نعرف الأَشْهُر التي يقبل إلينا فيها هذه الأَصناف وهي
تقبلُ مرَّتين في كلِّ سنة، ثمّ نجدُها في إحداهما أسمَنَ الجنس، فيقيم كلُّ جنس
منها عنْدَنا شهرَين إلى ثَلاَثة أشهُر، فإذا مضى ذلك الأَجلُ، وانقضتْ عِدّةُ ذلك
الجنسِ، أقْبل الجنسُ الآخر، فهم في جميع أقسام شُهورِ السَّنَةِ من الشتاءِ
والربيعِ، والصَّيفِ والخريف، في نوعٍ من السَّمك غَيرِ النّوع الآخَر، إلاَّ أنْ
البَرَسْتُوجَ يُقْبِل إلينا قاطعاً من بلاد الزِّنج، يستعذب الماء من دِجلةِ
البَصْرَةِ، يعرفُ ذلك جميعُ الزِّنج والبَحْريّين.
ُبعْدُ بلاد الزِّنج والصِّين عن البصرة وهم يزعمون أنّ الذي بين البصرة والزِّنج،
أبعَدُ مما بين الصِّين وبينها.
وإنما غلط ناسٌ فزعموا أنّ الصِّين أبعد، لأن بحرَ الزِّنج حفرةٌ واحِدة عميقَة
واسعة، وأمواجها عِظام، ولذلك البَحْرِ ريحٌ تهبُّ من عُمانَ إلى جهة الزِّنج
شهْرَين، وريحٌ تَهُبُّ من بلاد الزِّنج تريدُ جِهَة عُمان شهْرين، على مقْدَارٍ
واحدٍ فيما بينَ الشِّدَّة واللِّين، إلاّ أنّها إلى الشدِّةِ أقْرَب، فلما كان
البَحْرُ عميقاً والرِّيحُ قَوِيَّةً، والأمْواجُ عظيمَة، وكان الشِّراعُ لا
يحطُّ، وكان سيرهم مع الوَتَر ولم يكن مع القَوْس، ولا يَعْرفون الخِبَّ
والمكلأََّ، صارت الأَيّامُ التي تسير فيها السُّفن إلى الزِّنْجِ أقل.
البرستُوج قال: والبَرَسْتوج سَمكٌ يقْطَعُ أمواجَ الماء، وَيَسيح إلى
البصرة مِنَ الزنْج، ثم يَعُودُ ما فَضَلَ عنْ صيدِ الناس إلى بلاده وبحره، وذلك
أبْعَدُ ممّا بين البصرة إلى العليق المرارَ الكثيرة، وهم لا يصيدون من البَحْر
فيما بين البَصرة إلى الزنْج من البَرَسْتُوج شيئاً إلاَّ في إبانِ مَجيئها إلينا
ورجوعِها عَنَّا، وإِلاَّ فالبحر منها فارغٌ خالٍ.
فَعامة الطيرِ أعجبُ من حمامكم، وعامَّةُ السّمك أعجبُ من الطَّير.
هداية السمك والحمام
والطَّيرُ
ذو جناحين، يحلِّق في الهواء، فله سُرعةُ الدَّرَك وبلوغ الغاية بالطيران، وله
إدراك العالم بما فيهِ بعلامات وأمارات إذا هو حلَّق في الهواء، وعلا فَوق كل شيء،
والسَّمكة تسبِّح في غَمْر البَحْر والماء، ولا تسبِّح في أعلاه، ونسيمُ الهواء
الذي يعيشُ بهِ الطيرُ لو دامَ على السمَكِ ساعة مِنْ نهارٍ لقتله.
وقال أبو العنبر: قال أبو نخيلة الراجز وذَكَرَ السمك:
فَلا يزال مُغرَقـاً يَعُـومُ |
|
تغمُّه النشرَة والـنـسِـيم |
وأمُّهُ الـوَالـدة الـرؤومُ |
|
في البَحر والبَحْرُ له تخميمُ |
|
|
تَلهمهُ جهلاً ومـا يَرِيمُ |
يقول:
النشرَة والنسيم الذي يُحيي جَميعَ الحيواناتِ، إذا طال عليه الخُمُومُ واللَّخَنُ
والعَفَن، والرُّطوباتُ الغليظة، فذلك يغمُّ السَّمَك ويكرُبُه، وأمُّه التي ولدته
تأكله؛ لأنّ السَّمكَ يأكلُ بعضُه بعضاً، وهو في ذلك لاَ يرِيمُ هذا الموضع.
وقال رؤبة:
يُصبِحُ عَطْشَانَ وفي الماءِ فَمُهْ |
|
والحوت لا يَكفِيه شيءٌ يَلْهَمُـه |
يصف
طباعَه واتِّصاله بالماء، وأنَّه شديد الحاجةِ إليه، وإن كان غَرِقاً فيه أبداً.
شعر في الهجاء وأنشدني محمَّدُ بنُ يسير لبعض المدنيِّين، يهجُو رجلاً، وهو قوله:
لنزَا حـتَّـى يمـوتَـا |
|
لو رأى في السَّقفِ فرْجاً |
صارَ فيه الدَّهرَ حُوتَـا |
|
أو رآهُ وَسْـطَ بـحـرٍ |
قال:
يقول في الغَوْصِ في البَحْرِ، وفي طُول اللبْثِ فيه.
شعر في الضفدع وقال الذَّكواني، وهو يصف الضِّفْدعَ:
كَيمَا يَنقَّ والنّقِيقُ يُتْـلِـفـهْ |
|
يُدخل في الأشْدَاق ماءً يَنصُفهّْ |
قال:
يقول: الضِّفدع لا يصوِّت، ولا يتهيَّأ له ذلك حتَّى يكون في فيه ماء، وإذا أرادَ
ذلك أدخل فكه الأسفلَ في الماءِ، وترَك الأعلى حتى يبلُغَ الماءُ نِصفَه.
والمثل الذي يَتَمَثّلُ بِهِ النّاس: فلانٌ لا يستطيعُ أن يُجيبَ خُصومَه لأنّ
فاهُ مَلآن ماءً، وقال شاعرهُمْ:
يا مَنْ هوِيتُ ولكنْ في فمِي ماءُ |
|
وما نسيت مكان الآمـريكِ بـذا |
وإنَّما جعلوا ذلك مثلاً، حينَ وجَدُوا الإنسانَ إذا كان في فمه ماءٌ على الحقيقة لم يَسْتطع الكلام، فهو تأويلُ قولِ الذَّكوانيِّ:
يُدخِلُ في الأشداقِ ماءً يَنْصُفُه |
بفتح الياءِ وضمِّ الصَّاد، فإنَّه ذهبَ إلى قول الشاعرِ:
أشمِّر حتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي |
|
وكنتُ إذا جاري دَعا لمـضُـوفةٍ |
المضوفة:
الأمر الذي يشفقُ منه.
وكقول الآخر:
فإنَّ الظَّنَّ يَنْصُفُ أو يزِيدُ |
وهذا
ليس من الإنصاف الذي هو العَدْل، وإنَّما هو من بلوغ نِصْف الساق.
وأمَّا قوله:
كَيما ينقَّ والنَّقِيقُ يُتلِفهُ |
فإنه ذهَبَ إلى قول الشاعِر:
فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتهَا حَيَّة البَحْرِ |
|
ضفادِعُ في ظلماء ليل تجاوَبتْ |
معرفة العرب والأعراب بالحيوان وقلَّ معنًى سَمِعناهُ في باب مَعْرفةِ الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتبِ الأطبَّاءِ والمتكلمين - إِلاَّ ونحنُ قد وجدناه أو قريباً منهُ في أشعار العَرب والأعراب، وَفي معرفةِ أهلِ لغَتنا ومِلّتنا، ولولا أنْ يطولَ الكتابُ لذكرتُ ذلك أجمعَ، وعلى أنِّي قد تركتُ تفسيرَ أشعارٍ كثيرة، وشواهد عديدة مما لا يعرفه إلاَّ الرَّاويةُ النِّحرير؛ مِنْ خوف التطويل.
حمام النساء وحمام الفراخ
وقال
أفليمون صاحبُ الفِراسة: اجعل حمامَ النساء المسرْوَلاتِ العِظامَ الحِسانَ، ذواتِ
الاختيال والتَّبختر والهدير؛ واجعل حمام الفِراخِ ذواتِ الأنساب الشريفة والأعراق
الكريمة، فإنّ الفراخَ إنَّما تكثُر عن حُسْن التعهُّد، ونظافَةِ القرامِيص
والبُروج، واتَّخِذْ لهنَّ بيتاً محفوراً عَلَى خِلقة الصَّومَعة، محفوفاً من
أسفله إلى مقدارِ ثُلثَي حيطانِه بالتماريد، ولتَكُنْ واسعةً وليكن بينها حَجاز،
وأجودُ ذلك أن تكونَ تماريدُها محفورةَ في الحائِطِ على ذلك المثال، وتعهَّد
البُرْج بالكنس والرَّشِّ في زمان الرش، وليكن مخرجُهنَّ من كَوٍّ في أعلى
الصَّومعة، وليكن مقتصداً في السِّعةِ والضِّيق، بقدر ما يدخُل منه ويخرجُ منه
الواحد بعد الواحد، وإن استطعتَ أن يكونَ البيتُ بقُربِ مزرعةٍ فافعلْ، فإنْ
أعجزكَ المنسوبُ منها فالتمسْ ذلك بالفِراسةِ التي لا تخطئُ وقلَّما يُخطئُ،
المتفرِّس.
قال: وليس كلُّ الهُدَّى تَقْوَى على الرّجعة من حيثُ أرسِلتْ؛ لأنَّ منها ما تفضل
قوَّتهُ على هِدايته، ومنها البطيء وإن كان قويّاً، ومنها السَّريع وإن كان
ضعيفاً، على قدر الحنين والاغترام، ولا بدَّ لجميعها من الصَّرامةِ، ومن التّعليم
أوَّلاً والتَّوطين آخِراً.
انتخاب الحمام
وقال:
جِماع الفِرَاسةِ لاَ يَخرج من أربعة أوجه: أوَّلها التقطيع، الثاني المجسَّة،
والثالث الشمائل، والرابع الحركة.
فالتقطيع: انتصاب العنق والخِلْقة، واستدارةُ الرأس من غير عِظَمٍ ولا صِغَر، مع
عظم القرطمتين، واتِّساع المنخرين، وانهرات الشدقين وهذان مِنْ أعلامِ الكَرَم في
الخيل؛ للاسترواحِ وغير ذلك، ثمّ حُسنُ خِلْقة العينين، وقِصر المنقار في غير
دِقّة ثمَّ اتّساعُ الصّدرِ وامتلاءُ الجؤجؤ، وطولُ العُنق، وإشراف المنكِبين،
وطول القوادمِ في غير إفراط، ولحُوق بَعض الخوافي ببعض، وصلابة العَصَبِ في غير
انتفاخٍ ولا يُبس واجتماعُ الخلْق في غير الجعودة والكَزَازَةِ، وعِظَمُ الفخذين،
وقِصرَ الساقين والوظِيفَين، وافتراق الأصابع، وقِصرَ الذَّنب وخِفَّته، من غير
تَفْنين وتفرُّق، ثم تَوَقُّد الحَدَقتين، وصفاء اللَّون، فهذه أعلامُ الفِراسة في
التقطيع.
وأمَّا أعلامُ المجسة، فَوثَاقةُ الخلْق، وشدَّة اللَّحم، ومَتانَة العَصَب،
وصلاَبةُ القَصَب، ولينُ الرِّيش في غيرِ رِقّةٍ وصَلابَة المِنقارِ في غيرِ دقة.
وأمَّا أعلامُ الشمائل، فقلَّة الاخْتيال، وصفاءُ البصر وثباتُ النَّظَر وشدّة
الحَذر، وحسنُ التّلَفت، وقلَّةَ الرعْدةِ عنْدَ الفزع، وخفَّةُ النّهوض إذا طار،
وَترْكُ المبادرةِ إذا لَقَطَ.
وأمّا أعلام الحركةِ، فالطيران في علوٍّ، ومدُّ العُنق في سموٍّ، وقلة الاضطراب في
جوِّ السماءِ، وضمُّ الجناحين في الهواء، وتَدَافُعُ الركض في غير اختلاط، وحُسْنُ
القَصْد في غيرِ دَوَرَانٍ، وشدَّةُ المدِّ في الطيران، فإذا أصبتَه جَامعاً لهذه
الخصال فهو الطائر الكامل، وإلا فبقدر ما فيهِ من المحاسن تكون هدايته وفَرَاهتهُ.
أدواء الحمام وعلاجها
قال:
فاعلموا أنَّ الحمامَ من الطيرِ الرقيق، الذي تُسرِع إليهِ الآفة، وتَعْرُوهُ
الأدواءُ، وطَبيعَتهُ الحَرارة واليُبْس، وأكثرُ أدوائِه الخُنان والكباد،
والعُطاش، والسل، والقُمَّل، فَهوَ يحتاجُ إلى المكانِ الباردِ والنَّظيف، وإلى
الحبوبِ البارِِدَة كالعَدَس والماشِ والشّعير المنخول، والقُرْطمُ له بمنزلة
اللَّحم للإنسان؛ لما فيه من قوّةِ الدَّسم.
فممَّا يُعالَجُ بِهِ الكبادُ: الزَّعفران والسكر الطبَرْزَد، وماء الهِندباء يجعل
في سُكرَّجة، ثمَّ يُوجر ذلك أو يمجُّ في حلقه مجّاً وهو على الرِّيق.
وممَّا يعالَجُ به الخُنان: أنْ يليَّنَ لسانَه يوماً أو يومين بدُهْن البنفسج،
ثمَّ بالرَّمادِ والملحِ، يُدْلَك بها حتَّى تنسلخ الجلدة العليا التي غشيت
لسانَه، ثمَّ يطلى بعَسل ودَهنِ ورد، حتّى يبرأ.
وممَّا يعالج به السّلّ: أنْ يُطعَم الماشَ المقْشور، ويمجَّ في حلْقه من اللَّبن
الحليبِ، ويُقطَعَ من وظيفَيْهِ عِرقان ظاهران في أسفل ذلك، مما يلي المفصل من
باطن. وممَّا يعالَجُ بِهِ القُمَّل: أنْ يُطلى أصولُ ريشهِ بالزِّيبَق المحلّلِ
بدُهن البنفسَج، يفعل بِهِ ذلك مرَّاتِ حتى يسقُطَ قملُه؛ ويُكْنَسَ مكانُهُ الذي
يكون فيهِ كنساً نظيفاً.
تعليم الحمام وتدريبه
وقال:
اعلم أنَّ الحمامَ والطيرَ كلَّها لا يصلُح التَّغمير بهِ من البعْد، وهدايته على
قدْر التعليم، وعلى قدر التوطين، فأوَّل ذلك أن يخرج إلى ظهر سطحٍ يعلو عليه،
ويُنْصَبَ عليه علَمٌ يعرفُهُ، ويكونَ طيرانُه لا يجاوز مَحَلَّتُه، وأن يكون
عَلَفُه بالغداة والعَشِيِّ، يُلقَى له فوقَ ذلك السَّطْح، قريباً من علَمِه
المنصوبِ له، حتَّى يألفَ المكانَ ويتعَّودَ الرُّجوعَ إليه، ولكن ليَنْظُرْ مِنْ
أيِّ شيء يتّخذ العلمَ? فإنّه لا ينبغي أنْ يكون أسودَ، ولا يكون شيئاً تراه من
البُعْدِ أسود، وكلما كان أعظمَ كان أدلَّ.
ولا ينبغي أن يطيِّره وزوجتَه معاً، ولكن يَنْتفُ أحدهُما ويطيِّر الآخر،
ويُخرَجان إلى السَّطح جميعاً، ثمَّ يطيَّر الوافي الجناح؛ فإنّه ينازِع إلى
زوجتِه، وإذا عرَف المكان، ودَارَ ورَجع، وألِفَ ذلك الموضع، ونبتَ ريشُ الآخَرِ،
صُنع به كذلك.
وأجود من ذلك أن يُخرَجا إلى السَّطْح وهما مقصوصان، حتّى يألفا ذلك الموضع، ثمَّ
يطيَّرَ أحدُهُما قبلَ صاحبه، ويُصْنَعَ بالثّاني كما صنع بالأوّل.
وما أشبه قوله هذا بقول ماسرجويه؛ فإنهُ وصفَ في كتابه، طباعَ جميعِ الألبان،
وشُرْبَها للدَّواء، فلمّا فرغَ من الصّفة قال: وقد وصفت لك حالَ الألبان في
أنفسها، ولكن انظُرْ إلى من يسقيك اللَّبن؛ فإنَّكَ بدءاً تحتاجُ إلى تنظيف جوفك،
وتحتاج إلى مَن يعرفُ مقدارَ عِلَّتك من قدر اللّبن، وجنس علّتك من جنس اللَّبن.
حوار مع نجار
ومثلُ
ذلك قول نجَّارٍ كان عندي، دعوته لتعليقِ بابٍ ثمينٍ كريم فقلت له: إنّ إحكامَ
تعليق الباب شديدٌ ولا يحسنه من مائِة نجَّارٍ نجارٌ واحد، وقد يُذْكر بالحذْق في
نِجارة السقُوف والقِباب، وهو لا يكمُلُ لتعليق بابٍ على تمامِ الاحكام فيه،
والسقُوف، والقِباب عند العامَّة أصعب.
ولهذا أمثال: فمن ذلك أنّ الغلام والجاريةَ يشوِيان الجَدْيَ والحملَ ويحكمان
الشيّ، وهما لا يُحكمانِ شيَّ جنبٍ، ومَن لا عِلْم له يظنُّ أنَّ شيَّ البَعْض
أَهونُ من شيَّ الجميع.
فقال لي: قد أحسنتَ حين أعلمْتَني أنّك تُبصِر العمل، فإنَّ معرفتي بمعرفتك تمنعني
من التشفيق، فَعَلَّقه فأحكَمَ تَعليقَه؛ ثمَّ لم يكنْ عندي حَلْقةٌ لوجه الباب
إذا أردتُ إصفاقه، فقلت له: أكره أن أحبسَك إلى أن يذهب الغلامُ إلى السوق ويرجع،
ولكن اثقبْ لي موضعها، فلما ثقَبهُ وأخذ حقّه ولاّني ظَهرَه للانصراف، والتفت
إليَّ فقال: قد جوّدتُ الثَّقب، ولكن انظُرْ أيُّ نجارٍ يدُقُّ فيه الزِّرَّة؛
فإنه إن أخطأ بضربة واحدة شقّ الباب - والشق عيب - فعلمتُ أنّهُ يفهَمُ صِناعتَهُ
فهماً تَامّاً.
قص الْحَمام ونتفه
وبعض الناس إذا أراد أن يعلِّم زوجاً قصّهُما ولم ينْتِفْهما، وبين النَّتفِ والقصِّ بَونٌ بَعيد، والقصُّ كثير القصِّ لا يُوجعُ ولا يُقَرِّحُ مَغارِزَ قصب الرِّيش، والنَّتْف يُوهن المنكِبين، فإذا نُتِفَ الطائرُ مِراراً لم يقْوَ على الغاية، ولم يزَلْ واهنَ المنكِبين، ومتى أبطأ عليه فنتفهُ وقد جفّت أصولُه وقُربت من الطَّرح كان أهونَ عليهِ، وكلما كان النباتُ أطرأ كان أضرَّ عليه، وإنه ليبلغَ من مضرَّته، وأنّ الذّكَرَ لا يجيدُ الإلقاحَ، والأنثى لا تُجيد القَبول، وربّما نتفت الأنثى وقد احتشتْ بيضاً، وقد قارَبت أن تبيضَ، فتبطئُ بَعْدَ وقتها الأيّامَ؛ ورُبما أضرَّ ذلك بالبيض.
زجْل الحمام
قال:
وإذا بَلغ الثَّاني مبلغَ الأوَّلِ في استواءِ الرِّيش، والاهتداء إلى العَلَم،
طيِّرا جميعاً، ومُنِعا من الاستقرار؛ إلاّ أن يظن بهما الإعياء والكلال، ثم
يُوَطَّنُ لهما المَرَاجِلُ برّاً وبحْراً، من حيث يبصران إذا هما ارتفعا في
الهواء السَّمتَ ونفْسَ العَلَم، وأقاصيَ ما كانا يريانِه منها عند التَّباعد في
الدّورَانِ والجَوَلان، فإذا رَجَعا من ذلك المكانِ مَرَّاتٍ زُجِلا من أبعَدَ منه
- وقد كانوا مَرَّةً يعجبهم أن يزجُلوا من جميع التوطينات، ما لم تبعدْ، مرّتين
مرَّتين - فلا يزالان كذلك حتَّى يبلغا الغاية، ويكون أحدهما محتبساً إذا أرسل
صاحبه؛ ليتذكّرَه فيرجعَ إليه، فإنْ خيفَ عليه أن يكون قد ملَّ زوجتَه، عرِضت عليه
زوجةٌ أخرى قبل الزَّجل؛ فإذا تسنَّمَها مرَّة حِيلَ بينه وبينها يومَه ذلك، ثمَّ
عرضوها عليه قبل أنْ يُحمَل، فإذا أطاف بها نُحِّيت عنهُ، ثمَّ حُمِل إلى
الزَّاجل؛ فإنَّ ذلك أسرعَ له.
وقال: اعلموا أنَّ أشدَّ المَزَاجِلِ ما قلَّتْ أعلامُه، كالصَّحارى والبِحار.
قال: والطير تختلفُ في الطّباع اختلافاً شديداً: فمنها القويُّ، ومنها الضعيف،
ومنها البطيء، ومنها السَّريع، ومنها الذَّهولُ، ومنها الذَّكورُ، ومنها القليل
الصَّبرِ على العطش، ومنها الصَّبورُ، وذلك لا يخفى فيهنَّ عند التَّعليمِ
والتَّوطين، في سرعة الإجابة والإبطاء، فلا تبْعِدَنّ غايَةَ الضَّعيفِ والذَّهولِ
والقَليلِ الصَّبر على العطش، ولا تزجلنَّ ما كان منشؤه في بلا الحرِّ في بلاد
البرد، ولا ما كان منشؤه في بلاد البَرْد في بلاد الحرِّ؛ إلاَّ ما كان بعد
الاعتياد، ولا يصبرُ على طول الطيران في غير هوائِه وأجوائه طائرٌ إلا بطولِ
الإقامةِ في ذلك المكان، ولا تستوي حاله وحالُ من لا يَعْدُو هَوَاءَه والهَوَاءَ
الذي يقرُبُ من طِباع هوائه.
تعليم الحمام ورود الماء قال: ولا بدَّ أن يُعلَّم الورودَ، فإذا أرَدتَ به ذلك
فأوْرِدْه العيونَ والغُدْرانَ والأنهارَ، ثمَّ حُلْ بينه وبين النَّظِر إلى
الماء، حتى تكفَّ بصرَه بأصابِعِك عن جهة الماء واتِّساع المورد، إلاَّ بقدْر ما
كان يشربُ فيه من المساقي، ثمَّ أوسِعْ له إذا عَبّ قليلاً بقدر ما لا يَرُوعه ذلك
المنْظر وليكن ْمعطَّشاً؛ فإنّه أجدرُ أن يشرَب، تفعلُ به ذلك مراراً، ثمَّ تفسحُ
له المنْظَر أوّلاً أوَّلاً، حتَّى لا يُنكِر ما هو فيه، فلا تزالُ بِهِ حتَّى يعتادَ
الشُّربَ بغَيرِ سترة.
استئناسه واستيحاشه قال: واعلم أنَّ الحمامَ الأهليَّ الذي عايشَ النّاسَ، وشَرِب
من المساقي ولَقَط في البيوت يختلُّ بالوَحدة، ويَستَوحِش بالغُربة.
قال: واعلم أنّ الوحشيَّ يستأنِس، والأهلي يستوحش.
قال: واعلم أنّه ينسى التّأديبَ إذا أُهمِلَ، كما يتأدَّب بعد الإهمال.
ترتيب الزجْل وإذا زَجَلتَ فلا تُخَطْرف به من نصف الغاية إلى الغاية، ولكن رتِّب
ذلك؛ فإِنّه ربّما اعتادَ المجيء من ذلك البُعد، فمتى أرسلتَه من أقربَ منه
تحيَّر، وأرادَ أن يبتدئَ أمْرَه ابتداءً، وهم اليومَ لا يفعلون ذلك؛ لأنّه إذا
بلغ الرَّقّة أو فوقَ ذلك شيئاً فقدْ صار عُقْدَةً، وصار له ثمنٌ وغَلّة،فهو لا
يرى أن يُخاطر بشيءٍ له قدْر، ولكنّه إن جاءَ من هِيتَ أُدْرِبَ به؛ لأنّه إن ذهب
لم يذهب شيءٌ له ثمن، ولا طائرٌ له رياسة؛ وليس له اسم ولا ذِكر؛ وإن جاء جاء شيء
كبير وخطير، وإن جاء من الغاية فَقَدْ حَوَى به ملكاً، على هذا هم اليوم.
وقال: لا ترسِل الزَّاقَّ حتى تستأنف به الرِّياضة ولا تَدَعْ ما تُعِدُّه
للزِّجال أن يحصن بيضاً، ولا يجثم عليه، فإنّ ذلك ممّا ينقُضه ويُفَتِّحه، ويعظم
له رأسَه، لأنّه عندَ ذلك يسمَن وتكثُر رطوبتُه فتقذِفُ الحرارة تلك الرُّطوبة
الحادَّة العارضةَ إلى رأسه، فإِن ثقَبَ البيضَ وزقَّ وحَضن، احتجْت إلى تضميره
واستئناف سياسِته، ولكنْ إنْ بَدَا لكَ أن تستفرخه فانقُلْ بيضَهُ إلى غيره،
بَعْدَ أن تُعْلِمه بعلامةٍ تعرِفُه بها إذا انصَدَع.
علاج الحمام الفزع وإن أصاب الحمامَ أيضاً فَزَعٌ وذُعْرٌ؛ عن طلب شيءِ من الجوارح
له، فإيَّاك أن تُعيدَه إلى الزَّجل حتّى ترضمه وتستفرخه؛ فإن ذلك الذُّعْرَ لا
يفارقُه ولا يسكن حتى تستأنفَ به التّوطين. طريقة استكثار الحمام وإنْ أردتَ أن
تستكثرَ من الفِراخ فاعزِلِ الذُّكورةَ عن الإناث شهراً أو نحوَه، حتى يصول بعضها
على بعض، ثم اجمعْ بينها؛ فإنّ بيضها سيكثُر ويقلُّ سَقطهُ ومُرُوقه، وكذلك كلُّ
أرضٍ أثيرت، وكذلك الحِيالُ لما كان من الحيوان حائلاً، قال الأعشى:
ضُّ ورَعْيُ الحِمَى وطُولُ الحِيَالِ |
|
مِنْ سَرَاة الهِجَانِ صَلَّبَـهَـا الـعُ |
وقال الحارث بن عبادٍ وجَعَل ذلك مثلاً:
لَقِحَتْ حَرْبُ وائل عن حِيَالِ |
|
قَرِّبا مَرْبِط النَّعامةِ مِـنِّـي |
?حديث أفليمون عن نفع الحمام
وقال
أفليمون صاحب الفِراسة، لصاحبه: وأنا محدِّثك عن نفَع الحمام بحديثٍ يزيدُك رغبة
فيها: وذلك أنَّ مَلِكَينِ طلب أحدُهما مُلْكَ صاحبِهِ، وكان المطلوبُ أكثرَ مالا
وأقلَّ رجالاً، وأخصب بلاداً، وكانت بينهما مسافةٌ من الأرضِ بعيدة، فلما بلغَه
ذلك دعا خاصَّته فشاوَرَهُمْ في أمْره وشَكا إليهم خوفَه على مُلكه، فقال له
بعضهم: دامتْ لك أيُّها الملِكُ السلامةُ، ووُقيتَ المكروه إنَّ الذي تاقَتْ له
نفسك قد يُحتالُ له باليَسيرِ من الطمع، وليسَ مِنْ شأنِ العاقلِ التَّغريرُ، وليس
بعد المُناجَزَة بقيّة، والمناجزُ لا يدري لمن تكون الغَلَبة، والتمسُّك بالثقةِ
خيرٌ من الإقدام على الغَرر، وقال بعضهم: دامَ لك العزُّ، ومُدّ لك في البقاء ليسَ
في الذُّلِّ دَرَكٌ ولا في الرِّضا بالضيم بقيَّة، فالرَّأيُ اتخاذ الحُصون
وإذكاءُ العُيونِ، والاستعدادُ للقتال؛ فإنّ الموتَ في عزٍّ خيرٌ من الحياة في ذل.
وقال بعضهم: وُقِيتَ وكُفِيت، وأُعطيتَ فَضْلَ المزيد الرَّأيُ طلب المصاهرة له
والخِطْبة إليه؛ فإِنّ الصهرَ سببُ أُلفةٍ تقعُ به الحُرْمةُ، وتثبت بِهِ
المودَّة، وَيُحلُّ به صاحبُهُ المحلَّ الأدنى، ومنْ حلَّ من صاحبه هذا المحلَّ لم
يخلِّه مما عَراه، ولم يمتنع من مناوأة من ناواه، فالتمس خِلطَتهُ؛ فإنّه ليسَ
بَعْدَ الخِلطةِ عداوةٌ، ولا مَع الشِّركة مبايَنة.
فقال لهم الملك: كلٌّ قد أشارَ برأيٍ، ولكلٍّ مدَّة، وأنا ناظِرٌ في قولِكم،
وباللّه العِصمة، وبشكره تتمُّ النعمة، وأظهَرَ الخِطبة إلى الملكِ الذي فَوقَه،
وأرسل رُسلاً، وأهدى هدايا، وأمَرَهُم بمصانعةِ جميع مَن يَصِل إليه، ودسَّ رجالاً
من ثقاتِه، وأمَرهُم باتِّخاذ الحمام في بلاده وتَوطينِهِنَّ، واتخذ أيضاً عندَ
نفسه مِثلهنَّ، فرفَّعهن من غايَةٍ إلى غاية، فجعلَ هؤلاء يرسلون من بلاد صاحبهم،
وجعل مَن عندَ الملِكِ يرسلون من بلاد الملك، وأمرهمْ بمكاتَبتِه بخبرِ كلِّ يوم،
وتعليقِ الكتُب في أصولِ أجنحة الحمام، فصار لا يخفى عليه شيءٌ من أمره، وأطمعَه
الْملِك في التزويج واستفردَهُ وطاولَه، وتَابعَ بين الهدايا، ودسَّ لحرسِه رجالاً
يلاطفونَهمْ حتى صاروا يبيتون بأبوابه معهم، فلمَّا كتبَ أصحابهُ إليه بغِرَّتهم
وصل الخبر إليه من يومِه، فسار إليه في جندٍ قد انتخبهم، حتى إذا كان على ليلةٍ أو
بَعْض ليلة، أخذ بمجامع الطُّرُق، ثم بيَّتَهُمْ ووثَبَ أصحابهُ من داخِل المدينةِ
وهو وجنده من خارج، ففَتحوا الأبوابَ وقَتَلوا المَلِك، وأصبَحَ قد غَلَبَ على تلك
المدينة، وعلى تلك المملكة، فَعظُمَ شأنُه، وأعظَمتْه الملوك، وذُكِر فيهم بالحزْم
والكَيْد.
وإنما كان سبب ذلك كلِّه الحمام.
حديث آخر في نفع الحمام قال: وأحدِّثك عن الحمام أيضاً بحديثٍ آخر في أمر
النساء والرِّجال وما يصابُ من اللَّذَّةِ فيهنَّ، والصَّواب في معاملتهنَّ، قال:
وذلك أنَّ رجلاً أتَاني مرَّةً فَشَكا إليَّ حاله في فتاةٍ عُلِّقها فتزَوّجها،
وكات جاريةٌ غِرّاً حسناء، وكانت بكراً ذاتَ عقلٍ وحياء، وكانت غَريرةً فيما يحسِن
النِّساءُ من استمالةِ أهواء الرِّجال، ومِنْ أخْذِها بنصيبها من لذّة النساء فلما
دخَلَ بها امتنعتْ عليه، ودافعته عن نفسها، فَزاولها بكلِّ ضربٍ كان يحسنُهُ من
لَطفٍ، وأدخل عليها مِن نسائه ونسائها مَنْ ظَنَّ أنَّها تقبَل منهنّ، فأعيتْهُن،
حتى همَّ برفضها مع شدَّة وجْده بها، فأتَاني فشكا ذلك إليَّ مرةً، فأمرْته أن
يُفْرِدها ويخلِّيَها من الناس، فلا يَصِلَ إليها أحدٌ، وأنْ يضْعفَ لها الكرامة
في اللّطفِ والإقامة لما يُصلِحها من مَطعَم ومشرَبٍ ومَلبس وطيبٍ وغير ذلك، مما
تلهو به امرأةٌ وتُعجَبُ بِهِ، وأنْ يجعَلَ خادِمَها أعجميَّةً لا تَفْهَم عنها،
وهي في ذلك عاقلة، ولا تفْهمُها إلاّ بالإيماء؛ حتى تستوحِشَ إليها وإلى كل من يصل
إليها من النَّساء وحتى تشتهيَ أن تجِدَ مَنْ يراجعها الكلام وتشكو إليه وحْشة
الوَحْدة، وأنْ يَدخِل عليها أزواجاً من الحمام، ذوات صورةٍ حسنةٍ، وتخَيُّل وهدير
فيُصَيِّرَهُنّ في بيتٍ نظيف، ويجعل لهنّ في البيت تماريد وبين يدي البيت حجْرة
نظيفة، ويفتح لها من بيتها باباً فيصْرن نُصْبَ عينها فتلهو بهن وتنظر إليهنَّ،
ويجعل دخوله عليها في اليوم دَفْعَةً إلى تلك الحمام، والتسلّي بهنّ، والاستدعاء
لهنّ إلى الهدير ساعةً، ثم يخرج، فإنَّها لا تلبث أنْ تتفكّر في صنيعهنّ إذا رأتْ
حالهن؛ فإنَّ الطَّبيعةَ لا تَلبَثُ حتى تحرّكها، ويكون أوفقُ المقاعد لها الدنّو
منهن، وأغلبُ الملاهي عليها النَّظَرَ إليهن؛ لأنَّ الحواس لا تؤدي إلى النَّفس
شيئاً من قِبَل السمعِ، والبَصر، والذوق، والشم والمجسّة إلاّ تحرّك مِنَ العَقْل
قي قَبُولِ ذلك أوْ رَدِّه، والاحتيالِ في إصابته أو دفِعه، والكراهية له أو
السُّرور به بقدر ما حرّك النَّفسَ منه، فإذا رأيتَ الغالبَ عليها الدنوّ منهنّ،
والتأمُّل لهن، فأدخِلْ عليها امرأةً مجرِّبة غَزلة تأنس بها، وتفطُنها لصنيعهنَّ،
وتعجُّبُها منهنّ، وتستميل فِكرتها إليهنّ، وتَصِف لها موقِعَ اللَّذّة على قدْر
ما ترى من تحريك الشّهوة، ثمّ أخْرِج المرأة عنها، وحاوِل الدُّنو منها، فإنْ
رأيتَ كراهيَةً أمسكْت وأعدْتَ المرأةَ إليها، فإنها لا تلبَث أن تمْكِنَك، فإنْ
فعلتْ ما تحبُّ وأمكنَتْك بعض الإمكان، ولم تَبْلُغ ما تريد فأخبرني بذلك.
قال: وقلتُ له: مُر المرأةَ فلتسألها عن حالها في نفسها، وحالِك عندها، فلعَلّ
فيها طبيعةً من الحياء تَمْنَعُها من الانبساط، ولعلَّها غِرٌّ لا يُلتمس ما
قِبَلها من الخَرقَ، ففعل، وأمر المرأة أن تكشفها عن ذات نفسها، فشكت إليها
الخَرَق، فأشارت عليها بالمتابعة، وقالت: اعتبري بما تَرينَ من هذا الحمام؛ فقد
تَرَين الزّوجين كيفَ يصنعان قالت: قد تأمَّلت ذلك فعجِبتُ منه، ولستُ أحْسِنُه
فقالت لها: لا تمنعي يدَهُ ولا تحمِلي على نفسك الهيبة، وإنْ وجدتِ من نفسِك شيئاً
تدعوكِ إليه لذَّةٌ فاصنَعيه؛ فإِنَّ ذلك يأخُذُ بقلبه، ويزيدُ في محبَّتِكِ،
ويحرِّك ذلك منهُ أكثرَ مما أعطاك، فلم يلبثْ أنْ نال حاجتَه وذهبت الحشمة، وسقطت
المداراة فكان سببُ الصُّنع لهما، والخروج من الوَحْشة إلى الأُنس، ومن الحال
الدَّاعِية إلى مفارقتها إلى الحال الدَّاعية إلى ملازمتها، والضَّنِّ بها -
الحمام.
الخوف على النساء من الحمام
وما
أكثرَ مِنَ الرِّجال، من ليسَ يمنَعُه من إدخال الحمام إلى نسائه الاَّ هذا الشيء
الذي حثَّ عليه صاحبُ الفِراسة؛ وذلك أنَّ تلك الرُّؤيةَ قد تذَكِّر وتشهِّي
وتَمْحَن، وأكثرُ النِّساء بين ثلاثة أحوال: إمَّا امرأة قد مات زَوجُها، فتحريكُ
طِباعها خِطار بأمانتها وعَفافِها، والمُغيبة في مثل هذا المعنى، والثَّالثة:
امرأةٌ قد طال لُبثها مع زوْجها؛ فقد ذهب الاستطراف، وماتت الشهوة، وإذا رأت ذلك
تحرَّك منها كلُّ ساكن وذكَرَتْ ما كانتْ عنه بمندوحة.
والمرأة سليمة الدين والعِرْضِ والقَلب، ما لم تَهْجِسْ في صدرها الخواطر،
ولم تتوهَّمْ حالاتِ اللَّذَّة وتحرُّك الشهوة، فأمَّا إذا وقع ذلك فعزْمُها أضعفُ
العَزم، وعزْمُها على ركوب الهوى أقوى العَزْم.
فأمَّا الأبكارُ الغريرات فهنَّ إلى أن يُؤْخذْن بالقراءة في المصحف، ويُحتالَ لهن
حتى يصرْنَ إلى حال التشييخ والجبن والكَزَازَة وحتَّى لا يسمعَن من أحاديث
البَاهِ والغَزَل قليلاً ولا كثيراً - أحوج.
نادرة لعجوز سندية ولقد ركبتْ عجوزٌ سنديةٌ ظهر بعيرٍ، فلما أقبَلَ بها هذا
البعيرُ وأدبر وطمَر، فمخَضها مَرََّةً مخضَ السقاء، وجعلَها مَرَّةً كأنَّها
ترْهَزُ فقالت بلسانها - وهي سنديّةٌ أعجميَّة - أخزَى اللّه هذا الذَّمل؛ فإنَه
يذكِّر بالسَّرِّ تريد: أخزى اللّه هذا الجمل، فإنه يذكِّر بالشر، حدثنا بهذه
النادرة محمَّد بن عبَّاد بن كاسب نادرة لعجوز من الأعراب وحدَّثنا رِبْعيٌّ
الأنصاريُّ: أنَّ عجوزاً من الأعرابِ جَلستْ في طريق مكة إلى فتيانٍ يشربون نبيذاً
لهم، فسقَوْها قَدَحاً فطابت نفسُها، وتبسمت؛ ثمَّ سقَوْها قدحاً آخرَ فاحمرَّ
وجهها وضَحِكت، فسقَوْها قدَحاً ثالثاً فقالت: خبِّروي عن نسائكم بالعراق،
أيشرَبْنَ من هذا الشراب?فقالوا: نعم، فقالت: زَنَيْنَ ورَبِّ الكعبة.
عقاب خصيّ
وزعم
إبراهيم الأنصاريُّ المعتزليُّ أنَّ عباس بن يزيد بن جريرٍ دخَلَ مقصورة لبعض
حَواريه، فأبصَرَ حماماً قد قَمط حمامةً، ثمَّ كسَحَ بِذنبه ونفَش ريشه، فقال: لمن
هذا الحمام? فقالوا: لفلانٍ خادِمك - يعْنونَ خَصِيّاً له - فقدّمه فضَرَبَ عنقهُ.
قول الحطيئة في الغناء وقد قال الحطيئة لفتيان من بني قُرَيع - وقد كانوا ربَّما
جلَسُوا بقُربِ خَيْمتهِ، فتغَنَّى بعضُهمْ غناء الرّكبان - فقال: يا بني قريعْ
إيَّايَ والغناءَ؛ فإنّه داعيةُ الزِّنا.
أبو أحمد التمار وصاحب حمام وأما أبو أحمد التمار المتكلم، فإنّه شاهدَ صاحبَ
حمامٍ في يوم مجيء حَمامِه من واسط، وكانت واسط يومئذ الغايَة، فرآه كلما أقبلَ
طائرٌ من حمامه نعر ورَقَص، فقال له: واللّه إني لأرَى منك عجباً؛ أراك تفْرَحُ
بأن جاءك حمامٌ من واسط، وهو ذلك الذي كان، وهو الذي جاء، وهو الذي اهتدى؛ وأنتَ
لم تجئ ولم تهتَدِ؛ وحين جاءَ من واسط، لم يجئ معه بشيءٍ من خبر أبي حمزة، ولا
بشيءٍ من مقاريض واسط، وبزيون واسط، ولا جاء معه أيضاً بشيء من خِطْمِيٍّ، ولا
بشيءٍ من جوز ولا بشيءٍ من زبيب، وقد مرَّ بكسكَرَ فأين كان عن جِدَاء كسكر،
ودَجاج كسكر، وسمك كسكر، وصحناة كسكر، ورُبيثاء كسكر وشعير كسكر? وذهب صحيحاً
نشيطاً، ورجع مريضاً كسلان، وقد غرمت ما غرمت فقل لي: ما وجه فرحك? فقال: فرحي
أنِّي أرجو أن أبيعه بخمسين ديناراً، قال: ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً? قال:
فلان، وفلان، فقام ومضى إلى فلان فقال: زعم فلان أنّك تشتري منه حماماً جاءَ من
واسِط بخمسين دينْاراً? قال: صدق، قال: فقل لي لم تشتريه بخمسين ديناراً? قال:
لأنّه جاء من واسط، قال: فإذا جاء من واسط فِلمَ تشتريه بخمسين ديناراً? قال:
لأنِّي أبيع الفرخَ منه بثلاَثة دنانير، والبيضة بدينارين، قال: ومن يشتري منك?
قال: مثلُ فلان وفلان، فأخَذ نَعْله ومضى إلى فلان، فقال: زعم فلان أنّك تشتْري
منه فرخاً من طائرٍ جاءَ من واسط بثلاثة دنانير، والبيضةَ بدينارَين، قال: صَدَق،
قال: فقل لي: لِمَ تشتري فرخَة بثلاثة دنانير? قال: لأنَّ أباه جاء من واسط،قال:
ولِمَ تشتريه بثلاثة دنانير إذا جاء أبوه من واسط? قال: لأني أرجو أن يجيءَ من
واسط، قال: وإذا جاء مِن واسط فأيَّ شيء يكون? قال: يكون أن أبيعَه بخمسين
ديناراً، قال: ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً? قال: فلان، فتركَه ومضى إلى فلانٍ،
فقال: زعم فلان أنّ فرخاً من فراخه إذا جاء أبُوه من واسط اشتريته أنت منه بخمسين
ديناراً، قال: صدق، قال: ولم تشتريه بخمسين ديناراً قال: لأنَّه جاء من واسط، قال:
وإذا جاء من واسط لم تشتريه بخمسين ديناراً? قال: فأعاد عليه مثل قولِ الأوَّل،
فقل:لا رزق اللّه من يشتري حماماً جاء من واسط بخمسين ديناراً، ولا رزق اللّه
إلاَّ مَن لاَ يشتريه بقليل ولا بكثير.
نوادر لأبي أحمد التمار وأبو أحمد هذا هو الذي قال - وهو يعظ بعض المسرفين -
لو أنَّ رجلاً كانت عنده ألفُ ألف دينار ثم أنْفقها كلَّها لذهبت كلها، وإنما سمع
قول القائل: لو أنَّ رجلاً عنده ألفُ ألفِ دينار فأخَذَ منها ولم يضَعْ عليها لكان
خليقاً أن يأتي عليها.
وهو القائل في قصَصه: ولقد عظَّمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حقَّ الجارِ،
وقال فيه قولاً أستحْيي واللّه من ذكره.
وهو الذي قال لبعضهم: بلغني أنَّ في بستانك أشياءَ تهمّني، فأحبُّ أن تَهَبَ لي
منه أمراً من أمْرِ اللّه عظيم.
وكان زَجَّالاً قبل أن يكون تماراً.
وزعم سليمان الزجَّال وأخوه ثابت، أنّه قبل أن يكون تماراً قال يوماً - وذكر
الحمام، حينَ زَهِد في بيع الحمام؛ وذكَرَ بعضَ الملوك - فقال: أمَّا فلان فإنّه
لما بلغني أنه يلعبُ بالحمام سقط من عيني.
واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
تمَّ القولُ في الحمام، والحمد للّه وحدَه.
أجناس الذِّبَّان
بسم
اللّه، وباللّه والحمد للّه ولا حَولَ ولا قُوَّة إلا باللّه، وصلَّى اللّه على
سيِّدنَا محمَّدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبِه وسلّم، وعلى أبرار عِتْرَتِه
الطيِّبينَ الأخيار.
أوصيك أيُّها القارئ المتفهِّم، وأيهُا المستمعُ المنصت المصيخ، ألاّ تحقِرَ شيئاً
أبداً لصغر جثَّته، ولا تستصغر قدرَه لقلَّة ثمنٍ.
دلالة الدقيق من الخلق على اللّه
ثمّ
اعلمْ أنَّ الجبلَ ليس بأدلّ على اللّه من الحصاة، ولا الفَلكَ المشتمل على
عالَمنا هذا بأدلَّ عَلَى اللّه من بَدَن الإنسان، وأنَّ صغيرَ ذلك ودقيقَهُ
كعظيمهِ وجليله، ولم تفترقِ الأمورُ في حقائقها، وإنما افترقَ المفكّرون فيها،
ومَن أهمَل النَّظر، وأغفَلَ مواضع الفَرْق، وفَصولَ الحدود.
فمنْ قِبَلِ ترْكِ النَّظر، ومن قِبَلِ قطْع النَّظر، ومن قِبَل النظر من غير وجه
النَّظَرِ، ومن قِبَل الإخلال ببعض المقدّمات، ومن قِبَل ابتداء النَّظر من جهَة
النَّظرِ، واستتمام النظر مع انتظام المقدّمات - اختلَفوا.
فهذه الخصالُ هِيَ جُمَّاع هذا الباب، إلاّ ما لم نذْكرْه من بِاب العجز والنقص،
فإن الذي امتنع من المعرفة من قِبَل النُّقصان الذي في الخلقة بابٌ عَلَى حِدة.
وإنما ذكرنا بَابَ الخطأ والصَّواب، والتَّقصير والتكميل، فإِياك أن تسيءَ الظَّنّ
بشيءٍ من الحيوان لاضطراب الخلق، ولتفاوُت التركيب، ولأنّه مشنوءٌ في العين، أو
لأنّه قليلُ النّفعِ والرَّدِّ؛ فإنَّ الذي تظُّنُّ أنَّه أقلُّها نفعاً لعله أن
يكون أكثرَها ردّاً، فإلاَّ يكن ذلك من جهةِ عاجلِ أمرِ الدنيا، كان ذلك في آجل
أمر الدين، وثوابُ الدين وعقابُهُ باقيان، ومنافعُ الدنيا فانية زائلة؛ فلذلك
قدِّمت الآخرة على الأولى.
فإذا رأيتَ شيئاً من الحيوان بعيداً من المعاوَنة، وجاهلاً بسبب المكانَفَةِ، أو
كان مما يشتدُّ ضررُه، وتشتدُّ الحِراسة منهُ، كذوات الأنيابِ من الحيَّات
والذئابِ وذواتِ المخالبِ من الأسْدِ والنُّمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب
والدَّبْر، فاعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلَوى، ومن جهة ما أعد
اللّه عزَّ وجلَّ للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أنَّ الاختِيارَ والاختبَار لا
يكونان والدنيا كلُّها شرٌّ صِرْفٌ أو خيرٌ محْض؛ فإنّ ذلك لا يكون إلاَّ
بالمزواجة بين المكروهِ والمحبوب، والمُؤلم والملِذّ، والمحقَّرِ والمعظَّم،
والمأمُون والمخوفِ، فإذا كان الحظُّ الأوَفرُ في الاختبار والاختيار، وبهما
يُتوسل إلى ولاية اللّه عزّ وجلّ، وآبِد كرامته، وكان ذلك إنما يكون في الدار
الممزوجةِ من الخير والشرِّ، والمشتركة والمركّبة بالنّفْع والضر، المشوبةِ
باليُسْرِ والعسْر- فليعلَمْ موضعَ النَّفْع في خلْق العقرب، ومكانَ الصُّنْع في
خَلْق الحيَّة، فلا يحقرنَّ الجِرْجس والفَرَاشَ والذرَّ والذِّبان ولْتقِفْ حتىَّ
تتفكَّرَ في الباب الذي رميتُ إليك بجمْلَتِه، فإنّك ستكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ
عَزَّ وجَلَّ على خلْق الهمجِ والحشرَات وذواتِ السُّمومِ والأنياب، كما تحمَده
عَلَى خلقِ الأغذيةِ من الماءِ والنَّسيم. فإنْ أردتَ الزِّراية والتَّحقيرَ،
والعَداوة والتَّصغير، فاصرفْ ذلك كلَّهُ إلى الجنِّ والإنس، واحقِرْ منهم كلَّ
مَن عمِل عملاً من جهةِ الاختيار يستوجبُ به الاحتقار، ويستحقُّ به غايةَ المقْت
من وجهٍ، والتصغيرَ من وجه.
فإِن أنت أبغضت من جهةِ الطبيعة، واسَتثْقَلت من جهة الفِطرة ضربينِ من الحَيَوان:
ضرباً يقتلك بسمه، وضرباً يقتلك بشدةِ أسْره لم تُلَمْ، إلاّ أنّ عليك أنْ
تَعَلَمَ أنّ خالقَهما لم يخلقْهما لأذاك، وإنما خلقهما لتصبَر عَلَى أذاهما، ولأن
تنالَ بالصَّبر الدَرجةَ التي يستحيل أنْ تنالها إلاّ بالصَّبر، والصبر لا يكُونَ
إلاّ عَلى حَالِّ مكروه، فسواءٌ عليك أكان المكروه سبُعاً وثَّاباً، أو كان
مَرَضاً قاتلاً، وعَلَى أنّك لا تدري لعلَّ النزْعَ، والعَلَزَ والحشْرَجة، أن
يكون أشدَّ من لدْغ حيَّة، وضَغْمَةِ سبعِ، فإلاّ تكُنْ له حُرقةٌ كحرق النار
وألمٌ كألم الدّهق، فلعلَّ هناك من الكَرْب ما يكون موقعِهُ من النَّفس فوقَ ذلك.
وقد عمنا أنّ النَّاس يُسَمُّون الانتظار لوقع السيف علَى صليف العُنق جهَدْ
البلاءِ؛ وليس ذلك الجهد من شكل لذْع النار، ولا من شكل ألم الضربِ بالعصا، فافهم
فهمَكَ اللّه مواقع النفع كما يعرفها أهلُ الحكمة وأصحاب الأحْسَاس الصحيحة.
ولا تَذْهب في الأمورِ مذهَبَ العامّةِ، وقد جَعَلَكَ اللّهُ تعَالى من الخاصة،
فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة، لأنّها لم تجعل لِعباً، ولم تترَكْ هَمَلاً، واصرِفْ
بُغضك إلى مُريدِ ظلمكَ، لا يراقِب فِيكَ إلاًّ ولا ذِمَّة، ولا مودةً، ولا كتاباً
ولا سنَّة، وكلما زادك اللّه عزَّ وجلَّ نعمة ازدادَ عليك حنَقاً، ولكَ بُغْضاً،
وفِرّ كلَّ الفِرارِ واهرُبْ كلَّ الهرب، واحترسْ كلّ الاحتراس، ممن لايراقب اللّه
عزَّ وجلَّ؛ فإنه لا يخلو من أحد أمرين، إمَّا أن يكون لا يعرفُ رَبَّهُ مع ظهور
آياتِه ودلالاته، وسبوغِ آلائه، وتتابُع نَعَمائه، ومع برهانات رُسله، وبيانِ
كتبِهِ؛ وإمَّا أنْ يكونِ بهِ عارفاً وبدينِه موقناً، وعليهِ مجترئاً، وبحُرماتِه
مستخفاً، فإن كان بحقِّهِ جاهلاً فهو بحقِّك أجهل، وله أنْكَر، وإن كان به عارفاً
وعليه مجترئاً فهو عليك أجرأ، ولحقوقك أضيَع ولأياديك أكفر.
فأمَّا خلْق البَعوضةِ والنَّملة والفَرَاشةِ والذَّرَّة والذِّبّان والجِعْلان،
واليعاسيب والجراد - فإياك أن تتهاونَ بشأن هذا الجُنْد، وتستخف بالآلة التي في
هذا الذَّرْء ؛ فَربَّتَ أمة قد أجلاها عن بلادها النملُ، ونقلَها عن مساقِطِ
رؤوسها الذَّرُّ، وأُهلِكت بالفأر، وجُردت بالجَرَادِ، وعُذِّبت بالبعوض، وأفسَدَ
عيشها الذِّبَّان، فهي جُندٌ إن أراد اللّه عزَّ وجلَّ أن يهلِك بها قوماً بَعْدَ
طُغْيانِهم وتجبُّرهم وعتَوِّهم؛ ليعرفوا أو ليُعرَفَ بهم أنَّ كثيرَ أمرِهم، لا
يقوم بالقليلِ من أمر اللّه عَزّ وجلّ، وفيها بَعْدُ مُعتبرٌ لمن اعتبر، وموعظةٌ
لمن فكّر، وصلاجٌ لمن استبصر، وبلوَى ومحْنة، وعذابٌ ونِقْمة، وحُجَّة صادقة،
وآيةٌ واضحة، وسَبَبٌ إلى الصّبْرِ والفِكْرَةِ، وَهما جِمَاع الخيرِ في باب
المعْرفة والاستبانة، وفي بابِ الأجْر وعِظمِ المثوبة.
وسَنَذْكر جملةً من حال الذَّبّان، ثم نقولُ في جملةِ ما يَحضرُنا منْ شَأْنِ
الغِرْبانِ والجعلانِ
أمثال في الفراش والذباب
ويقال
في موضع الذمِّ والهجاء: ما هُمْ إلاّ فَراشُ نارٍ وَذِبَّانُ طَمَعٍ، وَيقال:
أطْيَشْ مِنْ فَراشَة، وَأزهى مِنْ ذِبّانٍ.
وقال الشاعر:
فَرَاشٌ حول نارٍ يَصْطلينا |
|
كأنَّ بني ذويبة رهْطَ سلمَى |
ولا يَدْرِينَ ماذا يتَّـقـينـا |
|
يُطَفْنَ بحرِّها ويَقَعْنَ فيهـا |
والعرب
تجعل الفَراشَ والنَّحلَ والزَّنابيرَ والدَّبْر كلَّها من الذِّبان، وأما قولهم:
أزهى مِنْ ذُباب فلأَنَ الذُّباب يسقُط على أنفِ الملِكِ الجبَّار، وعلى موُقِ
عينيه ليأكله، ثم يطرده فَلا ينطرد.
معان وأمثال في الأنف والأنف هو النَّخْوة وموضعُ التَّجبُّر.
وكان من شأن البطارقة وقوَّاد الملوك إذا أنفوا من شيء أن ينخُِروا كما ينْخِر
الثَّورُ عندَ الذَّبحِ، والبِرذونُ عند النَّشاط. والأنف هو موضعُ الخُنْزُوانة
والنُّعَرةِ، وإذا تكبَّرت النَّاقَةُ بعد أن تلْقَح فإنهَّا تزمّ بأنفها.
والأصيد: الملك الذي تراه أبداً من كِبْره مائلَ الوجه، وشُبِّه بالأسد فقيل أصيد؛
لأنَّ عُنقَ الأسدِ من عظمٍ واحد، فهو لا يلتفتُ إلاّّ بكُلِّه، فلذلك يقال
لِلمُتَكَبِّرِ: إنَّما أنفه في أسلوب، ويقال: أرغَمَ اللّه أنفَه وأذلَّ معطِسَه
ويقال: ستفعل ذلك وأنفُك راغم والرَّغام: التّراب، ولولا كذا وكذا لهشَّمت أنفك،
فإنما يخصُّون بذلك الأنف؛ لأنَّ الكبر إليه يضاف قال الشاعر:
رُحن عَلَى بَغْضائه واغتديْن |
|
يا رُبَّ مَنْ يُبْغِضُ أذْوادنـا |
لرُحْنَ منه أُصُلاً قد أبـين |
|
لو نَبَتَ البَقلُ عَلَـى أنـفِـه |
ويقال بعير مذبوب إذا عرض له ما يدعو الذِّبَّانَ إلى السُّقوط عليه، وهم يعرفون الغُدَّة إذا فشَتْ أو أصابَتْ بعيراً بسُقوط الذِّبَّان عليه.
احتيال الجمالين على السلطان
وبسقوط الذّبّان على البعير يحتال الجَمَّال للسُّلطان، إذا كان قد تسخَّرَ إبلَهُ وهو لذلك كاره، وإذا كان في جماله الجملُ النفيسُ أو الناقةُ الكريمة؛ فإنه يعمِد إلى الخَضْخاض فيصبُّ فيه شيئاً من دِبس ثم يَطْلى به ذلك البعير، فإذا وجد الذّبّان رِيحَ الدِّبس تساقَطْنَ عليه، فيدَّعي عند ذلك أنَّ به غُدَّة ويجعلُ الشاهدَ له عندَ السُّلطان ما يُوجد عليه من الذِّبان فما أكثر ما يتخلصون بكرائم أموالهم بالحيلِ من أيدي السلطان ولا يظنُّ ذلك السُّلطانُ إلاّ أنه متى شاء أنْ يبيعَ مائةَ أعرابي بدرهم فَعَل، والغدّة عندهُمْ تُعدِي، وطباع الإبل أقبلُ شيء للأَدواء التي تُعْدِي، فيقول الجمَّال عنْدَ ذلك للسُّلطان: لو لم أخف على الإبل إلاَّ بعيري هذا المغِدّ أن يُعدِيَ لم أبال، ولكنِّي أخاف إعداء الغُدَّةِ ومضرَّتها في سائر مالي فلا يزال يستعطِفهُ بذلك، ويحتالُ له به حتَّى يخلِّيَ سبيلَه،
نفور الذَّبّان من الكمأة
ويقال إنَّ الذَّبَّان لا يقْرُبَ قدْراً فيه كمأَة ،كما لا يَدخُل سامُّ أبْرص بيتاً فيه زعفران.
الخوف على المكلوب من الذِّبَّان
ومن
أصابه عض الكلب الكَلِبِ حَمَوا وجهَه من سقوط الذِّبان عليه، قالوا: وهو أشدُّ
عليه من دبيب النِّبْر على البعير.
النِّبر والنِّبْر دويْبَّةٌ إذا دبَّت على البعير، تورَّم، وربَّمَا كان ذلك
سبَبَ هلاكه.
قال الشاعرُ وهو يصف سِمَن إبله، وعِظَمَ أبدانها:
بجلودهِنَّ مَـدَارِجُ الأنْـبـارِ |
|
حمر تحقَّنَت النّجيل كـأنَّـمـا |
|
|
مميزات خلقيَّة لبعض الحيوان |
وليس
في الأرض ذبابٌ إلاَّ وهو أقْرَح، ولا في الأرض بعيرٌ إلاّ وهو أعْلم، كما أنَّه
ليس في الأرض ثورٌ إلاّ وهو أفطس.
وفي أنَّ كلَّ بعير أعلمُ يقولُ عنترة:
تمكو فريصَتُه كشِدْق الأعلَمِ |
|
وحَليل غانيةٍ تركتُ مجـدَّلاً |
كأنَّه
قال: كشدق البعير؛ إذ كان كلهُ بعيرٍ أعلم.
والشعراء يشبِّهون الضربة بشِدْق البعير، ولذلك قال الشاعر:
من المَصاعبِ في أشداقِهِ شَنَعُ |
|
كمْ ضربةٍ لَكَ تحكِي فَاقُراسِيَةٍ |
وقال الكميت:
مَشافِرَ قَرْحَى أكلْنَ البريرَا |
وإذا قيل الأعلمْ، عُلِم أنَّه البعير، كما أنَّه إذا قيل الأقرح علم أنَّه الذِّبّان، قال الشاعِر:
حذر الطعان مِنَ القدوحِ الأقرَح |
|
ولأنتَ أطيشُ حينَ تغْدُو سـادراً |
يعني
الذبَّان لأَنَه أقرح، ولأنّه أبداً يحكُّ بإحدى ذراعيْه على الأخرى كأنّه يقدح
بعودَي مَرْخٍ وعفَار، أو عرجون، أو غير ذلك مما يقدح به.
أخذ الشعراء بعضهم معاني بعض ولا يعلم في الأرض شاعر تَقَدَّمَ في تشبيهٍ
مُصيبٍ تامّ، وفي معنًى غريبٍ عجيب، أو في معنًى شريف كريم، أو في بديعِ مُخترع،
إلاّ وكلُّ مَنْ جاءَ من الشُعَراءِ منْ بَعدِه أو معه، إنْ هو لم يعدُ على لفظه
فيسرقَ بعضه أو يدعِيَه بأسْره، فإنّه لا يَدعُ أن يستعينَ بالمعنى، ويجعَلَ نفسه
شريكاً فيه؛ كالمعنى الذي تتنازعُه الشعراءُ فتختلف ألفاظهم، وأعاريضُ أشعارهِمْ،
ولايكونُ أحدٌ منهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه، أو لعلّه أن يجحد أنّه سمع بذلك
المعنى قَطُّ، وقال إنَّه خطرَ على بالي من غير سماع، كما خطَر على بال الأوَّل،
هذا إذا قرَّعُوه به، إلاَّ ما كان من عنترة في صفةِ الذباب؛ فإنه وصفَه فأجاد صفته
فتحامى معناهُ جميعُ الشعراء فلم يعرضْ له أحدٌ منهم، ولقد عَرضَ له بعضُ
المحدَثين ممن كان يحسِّنُ القَول، فبلغ من استكراهه لذلك المعنى، ومن اضطرابه
فيه، أنّه صار دليلاً على سوء طبعه في الشعر، قال عنترة:
فَتَركْنَ كلَّ حَدِيقةٍ كالـدِّرْهـم |
|
جادَتْ عليها كـلُّ عـينٍ ثَـرَّةٍ |
هَزِجاً كفِعْل الشَّارِبِ المترنِّم |
|
فترى الذُّبابَ بها يغنِّي وحْـدَه |
فِعْلَ المكبِّ على الزِّنَادِ الأجذم |
|
غَرداً يُحكُّ ذِراعَه بـذِرَاعـهِ |
قال:
يريد فعل الأقْطعِ المكبِّ على الزِّناد، والأجذم: المقطوع اليدين، فوصف الذّباب
إذا كان واقعاً ثمَّ حكّ إحدى يديه بالأخرى، فشبَّهَهُ عند ذلك برجلٍ مقطوع
اليدين، يقدَحُ بعودين، ومتى سقط الذُّبابُ فهو يفعل ذلك.
ولم أسمع في هذا المعنى بشعر أرضاه غير شِعر عنترة.
قولٌ في حديث وقد كان عندنا في بني العدوية شيخٌ منهم مُنْكر، شديد العارضة فيهِ
توضيع، فسمعني أقول: قد جاء في الحديث: إنَّ تحْتَ جَناح الذُّباب اليمين شفاءً
وتحت جَناحه الأيسر سمّاً، فإذا سقط في إنَاءٍ أو في شرابٍ أو في مَرَق فاغمسوه
فيه؛ فإنه يرفَعُ عند ذلك الجناح الذي تحتَه الشفاء، ويحطُّ الجناح الذي تحته
السمّ، فقال: بأبي أنتَ وأمي هذا يجمع العداوةَ والمَكيدة.
قصّة لتميمي مع أناس من الأزد وقدكان عندنا أُنَاسٌ من الأزد، ومعهم ابن حزن، وابن
حزن هذا عَدَوِيٌّ من آل عموج، وكان يتعصّب لأصحابه من بني تميم وكانوا على نبيذ،
فسقط ذبابٌ في قدَح بعضهم، فقال له الآخر: غطِّ التميمي، ثمَّ سقط آخر في قدَح
بعضهم، فقال الباقون: غطِّ التميميّ فلمَّا كان في الثالثة قال ابن حزن: غطِّه
فإنْ كان تميمياً رسَبَ، وإن كان أزْديّا طفاً، فقال صاحب المنزل: ما يسرُّني
أنَّه كان نقصكم حرفاً، وإنما عَنى أنَّ أزْدَ عُمان مَلاَّحون.
ضروب الذِّبَّان
والذِّبَّان ضروبٌ سِوى ما ذكرَناه من الفَراش والنَّحل والزَّنابير، فمنها الشَّعْراء، وقال الراجز:
ذبّان شَعْرَاء وبيت ماذلِ |
وللكلاب ذبابٌ على حِدَة يَتَخَلّق منها ولا يُريدُ سِواها، ومنها ذبّان الكلأ والرياض، وكلّ نوعٍ منها يألفُ ما خلقَ منه، قال أبو النَّجْم:
يقُلن للرَّائدِ أعشَبْت انزل |
|
مستَأسِد ذبَّانه في غَيْطلِ |
شعر ومثل في طنين الذباب
والعربُ تسمّي طَنينَ الذِّبَّانِ والبعوض غناءً، وقال الأخطلُ في صفة الثَّور:
غَنّى الغواةُ بِصَنْجٍ عِند أسْوارِ |
|
فَرداً تغنِّيه ذبَّان الرِّياض كما |
وقالَ حَضْرميُّ بن عامرٍ في طنين الذباب:
شَتْمَ الصَّديقِ وكثْرَةَ الألقاب |
|
ما زال إهداءُ القَصائدِ بينَنَـا |
في كلِّ مجمعَةٍ طنينُ ذُبَاب |
|
حتَّى تركت كأَنَّ أمْرك بينَهم |
ويقال: ما قولي هذا عندك إلاّ طنينُ ذُباب.
سفاد الذباب وأعمارها
وللذُّباب وقتٌ تهيج فيهِ للسِّفاد مع قصر أعمارها، وفي الحديث: أنَّ عُمْرَ الذباب أربعون يوماً ولها أيضاً وقت هَيْجٍ في أكْلِ النّاس وعضّهم، وشُربِ دمائهم، وإنما يعرض هذا الذِّبَّان في البيوت عند قرب أيَّامها؛ فإنّ هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً، والذِّبَّان في وقتٍ من الأوقات من حتوف الإبل والدوابِّ.
علة شدة عض الذباب
والذُّباب والبَعوض من ذوات الخراطيم، ولذلك اشتدَّ عضُّها وقويتْ على خرْق الجلود الغلاظ، وقال الراجز في وصف البعوضة:
ركِّبَ في خرطومها سِكِّينُها |
|
مثل السُّفاةِ دائم طنـينُـهـا |
ذوات الخراطيم
وقالوا: ذوات الخراطيم من كلِّ شيء أقوى عضّاً ونَاباً وفكّاً؛ كالذيب والخنزير، والكلب، وأمّا الفيل فإنّ خرطومَه هو أنفه، كما أنَّ لكلِّ شيءٍ من الحيوان أنفاً، وهو يده، ومنه يُغَنِّي وفيه يجري الصَّوت، كما يُجري الزَّامرُ الصَّوتَ في القصَبةِ بالنّفخ، ومتى تضاغَطَ الهواءُ صوَّتَ علَى قدْر الضّغْطِ، أو على قدر الثّقب.
أمثال من الشعر في الذباب
والذباب: اسم الواحد، والذّبّان: اسم الجماعة، وإذا أرادوا التَّصغير والتقليلَ ضربوا بالذبَّان المثل، قال الشاعر:
حَسبتُ الخُبْزَ في جوِّ السَّحابِ |
|
رأيتُ الخبزَ عزَّ لدَيكَ حتَّـى |
ولكنْ خِفْتَ مَرْزِية الذُّبـاب |
|
وما روّحْتنا لـتـذُبَّ عـنـا |
وقال آخر:
وتعلَّقت هَمدان بالأسبـاب |
|
لما رأيت القصْر أُغْلِقَ بابهُ |
لم يبق منها قِيسُ أيْرِ ذبابِ |
|
أيقنتُ أنّ إمَارة ابن مضارب |
قال بعضهم: لم يذهب إلى مقدار أيْره وإنما ذهب إلى مثل قول ابن أحمر:
لو أنَّ معصيّاً لـه أمـرُ |
|
ما كنت عنْ قومي بمهتضم |
أقصرت لا نُجْحٌ ولا عُذْرُ |
|
كلفّتني مُخَّ البَعوضِ فقـدْ |
ما يَلَغُ من الحيوان وما لا يلَغ قال: وليس شيٌ مما يطير يلَغُ في الدّم، وإنما يلغ في الدماء من السِّباع ذواتُ الأربع، وأمّا الطّير فإنَّها تشربُ حَسواً، أو عبَّة بعد عَبّة، ونُغبةً بعد نغبة، وسباع الطّير قليلة الشُّرب للماء، والأُسد كذلك، قال أبو زُبَيد الطائي:
طيراً عكوفاً كزُوَّرِ العُرُسِ |
|
تذبُّ عنهُ كفٌّ بهـا رَمـقٌ |
فهنَّ مِنْ والغٍ ومُنْتَـهِـسِ |
|
إذا ونى ونْيَة دَلَـفـنَ لـه |
قال: والطّير لا تلغ، وإنما يلغَ الذباب، وجعله من الطّير، وهو وإن كان يطير فليس ذلك من أسمائه، فإذ قد جاز أن يستعير له اسم الطائر، جاز أن يستعير للطير ولْغ السِّباع فيجعَل حسْوها ولْغاً، وقال الشاعر:
وفي الحرب والهيجاء أُسْدٌ ضراغِمُ |
|
سراع إلى ولْغ الدماءِ رماحـهـم |
خصلتان محمودتان في الذباب
قال
وفي الذباب خصلتان من الخصال المحمودة.
أمَّا إحداهما: فقُرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها؛ فمن أراد إخراجها من البيت
فليس بينَهُ وبين أن يكونَ البيتُ على المقدارِ الأوّلِ من الضِّياء والكِنِّ بعد
إخراجها مع السَّلامة من التأذي بالذبان - إلاّ أن يُغلقَ البابُ، فإنَّهُنَّ
يتبادرن إلى الخروج، ويتسابَقْنَ في طَلبِ الضوء والهرَب من الظلمة، فإذا أُرخي
السِّترُ وفتحَ البابُ عاد الضَّوءُ وسلِمَ أهلُه من مكروهِ الذباب، فإنْ كان في
الباب شقّ، وإلاّ جَافى المغلقُ أحدَ البابَين عن صاحبه ولم يطبقه عليه إطباقاً،
وربّما خرجْن من الفتْح الذي يكون بين أسفل الباب والعتبة، والحيلةُ في إخراجها
والسَّلامةِ من أذاها يسيرة، وليس كذلك البعوض؛ لأنَّ البعوض إنما يشتدُّ أذاه،
ويقوى سلطانُه، ويشتدُّ كَلَبه في الظلمةِ، كما يقوَى سلُطان الذبان في الضياء،
وليس يمكنُ النّاسَ أنْ يُدخلوا منازلَهم من الضِّياء ما يمنعُ عمَلَ البعوض؛
لأنَّ ذلك لا يكون إلاّ بإدخال الشَّمسِ، والبعوض لا يكون إلاّ في الصيَّف، وشمسُ
الصيُّفِ لا صبْرَ عليها، وليس في الأرضِ ضياءٌ انفصلَ من الشمس إلاّ ومَعه نصيبهُ
من الحَرِّ، وقد يفارق الحرُّ الضياء في بعضِ المواضع، والضِّياءُ لا يفارِقُ
الحَرَّ في مكانٍ من الأماكن.
فإمكان الحِيلة في الذباب يسير، وفي البَعوض عسير.
والفضيلة الأخرى: أنه لولا أن الذّبابة تأكل البَعُوضة و تطلبها وتلتمسها على
وجوهِ حيطان البيوت، وفي الزوايا، لما كان لأَهلها فيها قَرار.
الحكمة في الذباب
وذكَر
محمد بن الجهم - فيما خبَّرني عَنْه بعضُ الثقات - أنه قال لهم ذاتَ يوم: هل
تعْرفُون الحِكمة التي استفَدْناها في الذُّباب? قالوا: لا.
قال: بلى، إنّها تأكل البعوض وتصيده وتلقطه وتفنيه: وذلك أنّي كنت أرِيد
القائلة، فأمرْت بإخراج الذُّباب وطَرْحِ السِّترِ وإغلاقِ الباب قبلَ ذلك بساعة،
فإذا خرجن حصل في البيت البعوضُ، في سلطان البعوض وموضِعِ قوَّته، فكنتُ أدخلُ إلى
القائلة فيأكلني البعوض أكلاً شديداً، فأتيتُ ذات يومٍ المنزِلَ في وقت القائلة،
فإذا ذلك البيتُ مفتوحٌ، والسِّترُ مرفوع، وقد كان الغلمان أغفلوا ذلك في يومهم،
فلما اضطجعَتُ للقائلة لم أجد من البعوض شيئاً وقد كان غضبي اشتدَّ على الغِلمان،
فنمتُ في عافية، فما كان من الغد عادُوا إلى إغلاق الباب وإخراجِ الذّباب، فدخلتُ
ألتمسُ القائلة، فإذا البعوضُ كثير، ثم أغفلوا إغلاق البابِ يوماً آخر، فلما رأيته
مفتوحاً شتمتُهُمْ فلمَّا صرتُ إلى القائلة لم أجدْ بعوضةً واحدةً، فقلت في نفسي
عند ذلك: أراني قد نمتُ في يَوْمَي الإغْفَالِ وَالتَّضْييع وامتَنعَ منِّي
النَّومُ في أيَّام التحفُّظ والاحتراس، فِلمَ لا أجرِّبُ ترْك إغلاق الباب في
يومي هذا، فإن نمتُ ثلاثة أيام لا ألقى من البَعوضِ أذًى مع فتح الباب، علمتُ أنَّ
الصّواب في الجمع بين الذِّبان وبين البعوض؛ فإنَّ الذِّبّان هي التي تُفنيه،
وأنَّ صلاحَ أمرنا في تقريبِ ما كُنَّا نباعد، ففعلتُ ذلك، فإذا الأمر قد تمّ،
فصرنا إذا أردْنا إخراجَ الذِّبّانِ أخرجْناها بأيسرِ حيلة، وإذا أردنا إفناء البعوض
أفنيناها على أيدي الذِّبّان بأيسر حيلة.
فهاتان خَصْلتان من مناقب الذِّبّان.
طبّ القوابل والعجائز وكان محمد بن الجهم يقول: لا تتهاونوا بكثيرٍ ممّا تروْن من
علاج القوابل والعجائز، فإنّ كثيراً من ذلك إنما وقع إليهنَّ من قدماء الأطباء؛
كالذّبان يُلقى في الإثمِد ويسحق معه، فيزيد ذلك في نور البصر، ونفاذ النظر، وفي
تشديد مراكز شعر الأشفار في حافَات الجُفون نفع دوام النظر إلى الخضرة وقلتُ له
مرَّة: قيل لماسَرجَويه: ما بالُ الأكَرَة وسُكَّان البساتين، مع أكلهم الكرَّاث
والتمر، وشروبهم ماء السّواقي على المالح أقلَّ النَّاس خُفْشاناً وعمياناً
وعُمْشاناً وعوراً? قال: إني فكّرت في ذلك فلم أجد له علّةً إلاّ طولَ وقوع
أبصارِهِمْ على الخُضْرة.
من لا يتقزَّز من الذّبّان والزنابير والدّود قال ابن الجهم: ومن أهل السُّفالة
ناسٌ يأكلون الذّبان، وهُمْ لا يرمدون، وليس لذلك أكلوه وإنما هُمْ كأَهل خُراسان
الذي يأكلون فراخ الزَّنابير، والزَّنابير ذِبان، وأصحاب الجبن الرَّطب يأخذون
الجبنة التي قد نَغِلت دوداً، فينكتها أَحَدُهم حتَّى يخرُج ما فيها من الدُّود في
راحَتِه، ثم يقمَحُها كما يقمَحُ السَّويق، وكان الفرزدق يقول: ليت أنَّهمْ دفعوا
إليَّ نصيبي من الذبان ضَرْبة واحدة، بشرط أنْ آكله لراحة الأبد منها، وكان كما
زعموا شديد التقذُّر لها والتقزُّز منها.
دعوتان طريفتان لأحد القصاص وقال ثُمامة: تساقط الذبّان في مَرق بعض القصَّاص وعلى
وجْهه فقال: كثرَّ اللّهُ بكنّ القبور وحكى ثمامة عن هذا القاصِّ أنه سمعه
بَعَبَّادان يقول في قصَصِه: اللّهمَّ مُنَّ علينا بالشهادةِ، وعلى جميع المسلمين.
قصّة في عمر الذُّباب
وقال
لي المكِّيُّ مرَّة: إنما عمر الذبّان أربعونَ يوماً، قلت: هكذا جاء في الأثر،
وكنّا يومئذ بواسط في أيَّام العسكر وليس بَعْدَ أرض الهنْد أكثرُ ذبَاباً من
واسط، ولربّما رأيتَ الحائط وكَأنَّ عليهِ مِسْحاً شديدَ السَّواد من كثرة ما عليه
من الذبّان، فقلت للمكّيِّ: أحسب الذبَّان يموت في كل أربعين يوماً، وإن شئت ففي
أكثرَ، وإن شئت ففي أَقلَّ، ونحنُ كما ترى ندوسُها بأَرجلنا، ونحن ها هنا مقيمون
من أكثر من أربعين يوماً، بل منذ أشهر وأشهر، وما رأينا ذباباً واحداً ميّتاً، فلو
كان الأمر على ذلك لرأينا الموتى كما رأينا الأحياء، قال: إنَّ الذّبابة إذا
أرادتْ أن تموت ذهبتْ إلى بعض الخرِبات، قلت: فإنَّا قد دخلنا كلَّ خَرِبةٍ في
الدُّنْيا، مَا رأينَا فيها قط ذباباً ميّتاً.
للمَكِي وكان المكّيّ طيّباً طيّب الحُجَج، ظَرِيفَ الحِيَل، عجيبَ العلل
وكان يدَّعي كلَّ شيءٍ على غاية الإحكام، ولم يُحْكِمْ شيئاً قطُّ، لا من الجليل
ولا من الدَّقيق، وإذْ قد جرى ذِكره فسأحدِّثك ببعضِ أحاديِثه، وأخبرك عن بعض
علله، لِتَلَهَّى بها ساعةً، ثم نعودَ إلى بقية ذكر الذِّبَّان.
نوادر للمكي ادّعى هذا المكّيُّ البَصَرَ بالبراذين، ونظرَ إلى برذون واقف، قد
ألقى صاحبه في فيه اللِّجام، فرأى فأس اللِّجام وأين بلغَ منه، فقال لي: العجب كيف
لا يذْرَعُه القيء، وأنا لو أدخلت إصبعي الصغرى في حلقي لما بَقِيَ في جوفي شيءٌُ
إلاَّ خرج? قلت: الآنَ علمتُ أنَّك تُبْصر ثمَّ مكث البرذَون ساعةً يلوكُ لجامه،
فأقبل عليَّ فقال لي: كيف لا يبرُدُ أسنانَه? قلت: إنما يكون علم هذا عند البصراءِ
مثلِك ثمّ رأى البرذَونَ كلَّما لاك اللِّجام والحديدة سال لعابُه على الأرض فأقبل
علَيَّ وقال: لولا أنَّ البِرذَون أََفسَدُ الخلق عقلاً لكان ذهنُه قد صفا قلت له:
قد كنت أَشك في بَصرك بالدَّوابّ، فأمّا بعْدَ هذا فلستُ أَشكُّ فيه.
وقلت له مرّة ونحن في طريق بغداد: مَا بالُ الفرسَخ في هذه الطريق يكون فرسخين،
والفرسخ يكون أَقلَّ من مقدار نصفِ فرسخ? ففكّر طويلاً ثمَّ قال: كان كِسرى
يُقْطِعُ للنّاس الفراسخ، فإذا صانَعَ صاحبَ القطيعة زادوه، وإذا لم يصانع نقصوه.
وقلت له مَرَّة: علمتُ أنّ الشاري حدّثني أنَّ المخلوع بعث إلى المأمون بجرابٍ فيه
سمسم؛ كأَنّه يخبِرُ أنَّ عندَّه من الجند بعددِ ذلك الحبّ وأنّ المأمون بعث إليه
بديكٍ أعورَ، يريد أنَّ طاهر بن الحسين يقتُلُ هؤلاءِ كلَّهم، كما يلقط الدِّيك
الحبَّ قال: فإنَّ هذا الحديث أنا ولَّدته، ولكن انظرْ كيفَ سار في الآفق?
وأحاديثه وأعاجيبه كثيرة.
معارف في الذّباب
ثمَّ
رجع بنا القول إلى صلة كلامِنا في الإخبار عن الذّبّان.
فأمَّا سكَّان بلاد الهند فإنّهم لايطبُخون قدراً، ولا يعملون حَلْوَى ولا يكادون
يأكلون إلاَّ ليلاً؛ لِما يتهافت من الذِّبّان في طعامهم، وهذا يدلُ على عفَنِ
التُّربة ولَخَن الهواء.
وللذِّبّانِ يعاسيبُ وجُحْلانٌ، ولكن ليس لها قائدٌ ولا أمير، ولو كانت هذه
الأصناف التي يحرسُ بعضها بعضاً، وتتَّخذ رئيساً يدبِّرها ويحوطها، إنما أخرج ذلك
منها العقْلُ دونَ الطّبع، وكالشيء يخصُّ به البعض دون الكلّ لكان الذرُّ
وَالنَّمْلُ أَحقَّ بذلك من الكراكيِّ والغرانيق والثِّيران، ولكَان الفيلُ أحقَّ به
من البعير؛ لأنه ليس للذّرِّ قَائدٌ ولا حارس، ولا يعسوبٌ يجمعها ويحميها بعض
المواضع، ويوردها بعضاً.
وكلُّ قائدٍ فهو يعسوبُ ذلك الجنسِ المَقُود، وهذا الاسم مستعارٌ من فحل النَّحل
وأمير العَسَّالات، وقال الشاعر وهو يعني الثَّور:
وما ذنْبُه إذ عافتِ الماءَ بـاقِـرُ |
|
كما ضُربَ اليعسوبُ إذ عاف باقِرٌ |
وكما
قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، في صلاح الزَّمان وفساده: فإذا كان ذلك ضَربَ
يعسوبُ الدِّين بذَنَبِه.
وعلى ذلك المعنى قال حين مَرَّ بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد قتيلاً يوم الجمل:
لهفي عليك يَعْسُوبَ قريش جدعْتَ أنْفِي وشفَيْتَ نفسي.
قالوا: وعلى هذا المعنى قيل: يعسوب الطُّفاوة.
أقذر الحيوان وزعم بعض الحكماء أنَّه لا ينبغي أن يكون في الأرض شيءٌ من
الأشياء أنتنُ من العَذِرة، فكذلك لا شيء أقذَرُ من الذِّبان والقمل، وأمَّا
العَذرة فلولا أنَّها كذلك لكان الإنسان مع طول رُؤيتِه لَها، وكثرِة شمِّه لها من
نفسه في كلِّ يوم صباحاً ومساء، لقد كان ينبغي أن يكونَ قد ذهَب تقذُّرُهُ له على
الأيَّام، أو تمَحَّق، أو دخله النَّقص، فثباتُها ستين عاماً وأكْثَرَ وَأقلّ على
مقدار واحد من النتن في أنفِ الرَّجل ومنهم من وجدناه بعد مائة عام كذلك، وقد
رأينا المِران والعاداتِ وصنيعَها في الطَّبائع، وكيف تهوِّن الشديدَ، وتقلّل
الكثير، فلولا أنَّا فوق كلِّ شيءٍ من النَّتْنِ، لَما ثبَتَتْ هذا الثَّباتَ،
ولعرض لها ما يعرِض لسائر النَّتْنِ، وبَعْد فلو كان إنَّما يشَمُّ شيئاً خرجَ من
جوفِ غيره ولم يخرجْ من جوفِ نفسه، لكان ذلك أشْبَه، فإذ قد ثبت في أنفه على هذا
المقْدار، وهو منه دونَ غيره، وحتَّى صار يجدُه أنْتن من رَجيع جميع الأجناس -
فليس ذلك إلاّ لما قد خُصّ به من المكروه.
وكذلك القول في القمل الذي إنَّمَا يُخْلق من عَرَق الإنسان، ومن رائحته ووسَخِ
جلده، وبخار بدنه، وكذلك الذِّبَّان المخالطة لهُمْ في جميع الحالات، والملابسَةُ
لهم دُونَ جميع الهوامِّ والهمَج والطّير والبهائمِ والسِّباع حتَّى تكون ألزم من
كلِّ ملازم، وأقربَ من كلِّ قريب؛ حتى ما يمتنع عليه شيء من بدن الإنسان، ولا من
ثوبه، ولا من طعامِهِ، ولا مِن شرَابِهِ، حتَّى لزمه لزوماً لم يلزمه شيء قطُّ
كلزومه، حتى إنّه يسافر السَّفَرَ البعيدَ من مواضع الخِصْب، فيقطع البراريَّ
والقِفارَ التي ليس فيها ولا بقربها نباتٌ ولا ماءٌ ولا حيوان، ثم مع ذلك يتوخَّى
عند الحاجة إلى الغائط في تلك البَرّيّة أن يفارق أصحابَه، فيتباعد في الأرض، وفي
صحراء خلْقاء، فإذا تبرَّزَ فمتى وقع بصرُه على بِرازِهِ رأى الذِّبّان ساقطاً
عليه، فقَبْلَ ذلك ما كان يَراه، فإن كان الذُّباب شيئاً يتخلَّق له في تلك الساعة
فهذه أعجبُ مما رآه ومما أردنا وأكثرَ ممّا قلنا، وإن كان قد كان ساقطاً على
الصُّخورِ المُلْسِ، والبِقاعِ الجُرْدِ، في اليوم القائظ، وفي الهاجرة التي تشْوي
كلَّ شيء، وينتظرُ مجيئه - فهذا أعجبُ ممّا قلنا، وإن كانت قد تبعته من الأمصار،
إمَّا طائرةً معه، وإمَّا ساقطةً عليه، فلما تبرَّزَ انتقلتُ عنه إلى بِرازه، فهذا
تحقيقٌ لقولنا إنّه لايلزم الإنسانَ شيءٌ لزوم الذباب؛ لأنَّ العصافيرَ،
والخطاطيف، والزَّرازير، والسَّنانير، والكلابَ وكلَّ شيء يألف النّاسَ، فهو يقيمُ
مع النَّاس، فإذا مضى الإنسانُ في سفره، فصار كالمستوحش، وكالنَّازل بالقفار،
فكلُّ شيءٍ أهليٍّ يألف النَّاس فإنّما هو مقيمٌ على مثل ما كان من إلفه لهم، لا
يتبعهم من دورِ النَّاسِ إلى منازل الوحش؛ إلاّ الذِّبَّان.
قال: فإذا كان الإنسانُ يستقذِرُ الذِّبَّان في مَرَقِه وفي طعامه هذا الاستقذار،
ويستقذِرُ القَمْلَ مع محلِّه من القَرابةَ والنِّسبةِ هذا الاستقذار فمعلومٌ أنَّ
ذلك لم يكن إلاّ لما خص به من القذر، وإلاّ فبدون هذه القرابة وهذه الملابسَةِ،
تطيبُ الأنفس عن كثيرٍ من المحبوب.
إلحاح الذُّباب قال: وفي الذّّبّان خُبْرٌ آخَر: وذلك أنّهُنَّ ربَّما تعَوَّدْنَ
المبيتَ على خُوصِ فَسيلةٍ وأقلابها من فسائل الدُّور، أو شجرةٍ، أو كِلَّةٍ، أوْ
بابٍ، أو سقفِ بيت، فيُطْرَدْن إذا اجتمعن لوقتهنَّ عند المساء ليلتين أو ثلاث
ليال، فيتفَرقْنَ أو يهجُرْن ذلك المكان في المُستَقْبَلِ، وَإنْ كانَ ذلك المكانُ
قريباً، وهو لهنَّ معرَّض، ثمَّ لا يدعْنَ أن يلتمِِسْنَ مبيتاً غيرَه، ولا يعرض
لهنَّ من اللَّجاجِ في مثل ذلك، مثلُ الذي يعرِض لهنّ من كثرة الرُّجوعِ إلى
العينين والأنف بعدَ الذَّّبِّ والطّرْد، وبعدَ الاجتهادِ في ذلك.
أذى الذباب ونحوها وقال محمَّد بن حرب: ينبغي أن يكونَ الذِّبّانُ سُمّاً
نَاقِعاً؛ لأنِّ كُلَّ شيءٍ يشتدُّ أذاه باللّمس من غيره، فهو بالمداخلة والملابسة
أجْدُرُ أن يؤذيَ، وهذه الأفاعي والثعابينُ والجرَّارات قد تمسُّ جلودَها ناسٌ فلا
تضرُّهم إلاّ بأن تلابسَ إبرةُ العقربِ ونَابُ الأفعى الدَّم ونحن قد نجد
الرَّجُلَ يدخُل في خَرْق أنفِه ذبَابٌ، فيجولُ في أوله من غير أنْ يجاوزَ ما حاذى
روثَة أنفه وأرنبَته فيخرجه الإِنسانُ من جوفِ أنفه بالنّفخِ وشدَّة النَّفَس ولم
يكن له هنالك لُبْثٌ، ولا كان منه عضّ، وليس إلا ما مسَّ بقوائِمه وأطراف جناحيه،
فيقع في ذلك المكان من أنْفه، من الدَّغدغة والأُكال والحكَّة، ما لا يصنع
الخَرْدَل وبَصَلُ النَّرجِس، ولبنُ التِّين، فليس يكون ذلك منه إلاَّ وفي طبعه من
مضادَّةِ طباع الإنسان ما لا يبلغه مضادَّة شيءٍ وإن أفرط.
قال: وليس الشّأن في أنّه لم ينخُس، ولم يجرح، ولم يَخِزْ ولم يَعُضَّ، ولم يغمز،
ولم يخدش، وإنَّما هو على قدْر منافرةِ الطِّباعِ للطباع، وعَلَى قدر القَرابةِ
والمشاكلةِ.
الأصوات المكروهة
وقد
نجدُ الإنسانَ يغتَمُّ بِتَنَقُّضِ الفتيلة وصوْتِها عندَ قربِ انطفاء النار، أوْ
لبعض البلَل يكون قد خالط الفتيلة، ولا يكون الصَّوت بالشَّديد، ولكنَّ الاغتمامَ
به، والتكَرُّه له ويكونُ في مقدارِ ما يعتريه من أشدِّ الأصوات، ومنْ ذلك
المكروهُ الذي يدخلُ عَلَى الإنسان من غَطيط النَّائِم، وليست تلكَ الكراهةُ
لعلَّةِ الشِّدّةِ والصَّلابة، ولكن من قِبَلِ الصُّورَةِ والمقدار، وإنْ لم يكن
من قبل الجنس، وكذلك صوتُ احتكاك الآجُرِّ الجديدِ بعضِه ببعض، وكذلك شجر الآجَام عَلَى
الأجراف؛ فإنَّ النّفسَ تكرهُه كما تكرهُ صوتَ الصَّاعقة، ولو كان عَلَى ثِقَةٍ من
السَّلامة من الاحتراق، لَمَا احتفَل بالصَّاعقةِ ذلك الاحتفالَ، ولعلَّ ذلك
الصَّوت وحدَه ألاّ يقتله.
فأَمَّا الذي نشاهدُ اليومَ الأمْرَ عليه، فإنّه متى قرُب منه قتله، ولعلَّ ذلك
إنَّما هو لأنَّ الشّي إذا اشتدّ صَدْمُه فَسَخَ القوَّة أو لعلَّ الهواء الذي فيه
الإنسانُ والمحيط به أن يحمَى ويستحيلَ ناراً للذي قَدْ شارك ذلك الصَّوتَ من
النّار، وهم لم يجدوا الصَّوتَ شديداً جدّاً إلاَّ مَا خالَطَ منه النّار.
ما يقتاتُ بالذُّباب وقال ابن حرب: الذِّبّان قوتُ خلْقٍ كثيرٍ من خلق اللّه عزّ
وجلّ، وهو قوتُ الفراريج، والخفافيش، والعنكبوت، والخُلْد، وضروبٍ كثيرةٍ من
الهَمَج، همجِ الطير، وحشرات السّباع، فأَمّا الطّير والسُّودَانِيَّات،
والحَصَانيّات، والشاهْمُرْكات، وغير ذلك من أصنافِ الطّير؛ وأمّا الضِّباع -
فإنّها تأْكل الجيف، وتدع في أفواهها فُضُولاً، وتفتَحُ أفواهَها للذِّبَّان، فإذا
احتشَتْ ضمَّت عليها، فهذه إنّما تصيد الذِّبَّانَ بنوعٍ واحدٍ، وهو الاختطافُ
والاختلاس، وإعجالها عن الوثوب إذا تلقّطته بأطراف المناقير، أو كبعض ما ذكرنا من
إطباق الفم عليها.
فأمَّا الصَّيدُ الذي ليس للكلب، ولا لعَنَاق الأرض، ولا للفهد، ولا لشيءٍ من ذوات
الأربع مثلُه في الحِذْق والخَتْل والمداراة، وفي صواب الوثْبةِ، وفي التسدُّدِ
وسرعة الخطف، فليس مثل الذي يقال له الليث، وهو الصّنف المعروفُ من العناكب بصيد
الذِّبّان؛ فإنَّك تجدُه إذا عاين الذِّبَّان ساقطاً، كيف يَلْطأ بالأرضِ، وكيف
يسكِّن جميعَ جوارحِه للوثْبة، وكيفَ يؤخِّر ذلك إلى وقت الغِرَّة، وكيف يريها
أنّه عنها لاهٍ؛ فإنّك ترى من ذلك شيئاً لم تر مثله من فهد قطُّ، وإن كان الفهدُ
موصوفاً منعوتاً.
واعلم أنّه قد ينبغي ألاَّ يكونَ في الأرض شيءٌ أصيَدُ منه؛ لأنّه لا يطير، ولا
يصيدُ إلاّ ما يطير ويصيدُ طائِراً شديدَ الحذر، ثم َّ يصيد صيَّاداً لأن الذّباب
يصيد البعوض، وخديعتك للخدَّاع أعجبُ، ومكرُكَ بالماكِر أغرب فكذلك يكون صيدُ هذا
الفن من العنكبوت.
وزعم الجرداني أنّ الوزغَ تخْتِلُ الذّبانَ، وتصيدُها صيداً حسناً شبيهاً بصيد
اللَّيث.
قال: والزُّنبور حريصٌ على صيدِ الذّبَّان، ولكنه لا يطمع فيها إلاّ أن تكون
ساقطةً على خَرْءٍ، دونَ كلِّ تمر وعسل؛ لشدَّة عجبها بالخُرْء، وتَشاغلها به فعند
ذلك يطمَعُ فيه الزنبور ويصيده، وزعم الجرداني وتابعه كيسان: أنّ الفهدَ
إنما أخَذ ذلِكَ عن اللَّيث، ومتى رآه الفهدُ يصيد الذّبّانَ حتى تَعلَّم منه?
فظننت أنَّهما قلَّدَا في ذلك بعض مَنْ إذا مَدَحَ شيئاً أسرف فيه.
تقليد الحيوان للحيوان
ويزعمون أنّ السّبع الصَّيُودَ إذا كان مع سبعٍ هو أصْيَدُ منه، تعلَّمَ منهُ وأخَذَ عنه، وهذا لم أحقّه، فأمّا الذي لا أشكُّ فيه فأنَّ الطائرَ الحَسَنَ الصَّوتِ الملحِّنَ، إذا كان مع نوائح الطَّيرِ ومغنِّياتها، فكان بقربِ الطَّائرِ من شِكله، وهو أحذق منه وأكرز وأمهر، جاوبَه وحكاه، وتعلَّم منه، أو صنَع شيئاً يقوم مقامَ التعلُّم.
تعليم البراذين والطير
والبِرذَونُ يُراض فيعرِفُ ما يراد منه، فيعين على نفسه، وربَّما استأجروا للطّيرِ رجُلاً يعلِّمها، فأمّا الذي رأيتُه أنا في البلابل، فقد رأيتُ رجُلاً يُدْعَى لها فيطارِحُها من شكل أصواتها.
ما يخترع الأصوات واللحون من الطير
وفي
الطّير ما يخترع الأصواتَ واللُّحون التي لم يُسمع بمثلها قطُّ من المؤلِّف للحونِ
من النَّاس؛ فإنّه ربَّما أنشأ لحناً لَمْ يمرّ على أسماع المغنِّين قطُّ.
وأكثرُ ما يجدون ذلك من الطَّير في القماريِّ، وفي السُّودَانيات، ثمَّ في
الكرارِزة، وهي تأْكل الذِّبّان أكلاً ذريعاً.
اللّجوج من الحيوان
ويقال
إن اللَّجاح في ثلاثةٍ أجناسٍ من بينِ جميع الحيوان: الخنفساء، والذُّباب،
والدُّودة الحمراء؛ فإنّها في إبَّانِ ذلك ترومُ الصُّعودَ إلى السَّقف، وتمرُّ
على الحائط الأملس شيئاً قليلاً فتسقطُ وتعود، ثمَّ لا تزال تزداد شيئاً ثمَّ
تسقط، إلى أن تمضيَ إلى باطن السَّقف، فربما سقطت ولَمْ يبق عليها إلاَّ مقدارُ
إصبع، ثمَّ تعود.
والخنفساء تُقْبِلُ قِبَل الإنسانِ فيدفعُها، فتبعُد بقدر تلك الطَّردة والدَّفعة
ثمَّ تعود أيضاً، فيصنع بها أشدَّ من تلك ثمَّ تعود، حتَّى ربما كان ذلك سبباً
لغضبه، ويكون غضَبُه سبباً لقتلها.
لجاج الخنفساء واعتقاد المفاليس فيها
وما
زالوا كذلك، وما زالت كذلك، حتَّى سقط إلى المفالِيس أنَّ الخنافسَ تجلب الرِّزق،
وأنّ دنوَّها دليلٌ على رزق حاضر: من صِلَةٍ، أو جائزة، أو ربحٍ، أو هديَّةٍ، أو
حظّ، فصارت الخنافسُ إنْ دخلَتْ في قمُصهم ثمَّ نفذَتْ إلى سَراويلاتهم لَمْ
يقولوا لها قليلاً ولا كثيراً، وأكثرُ ما عندهم اليومَ الدَّفعُ لها ببعض الرِّفق،
ويظنُّ بعضهم أنّه إذا دافعها فعادَتْ، ثمّ دافعها، فعادت، ثمّ دافعها فعادت - أنّ
ذلك كلما كان أكثرَ، كان حظُّه من المال الذي يؤمِّله عند مجيئها أجزَل.
فانظر، أيّة واقيةٍ وأيَّة حافِظة، وأيُّ حارسٍ، وأيُّ حصنٍ أنشأه لها هذا القول
وأيُّ حظٍّ كان لها حينَ صدَّقوا بهذا الخبر هذا التصديق والطَّمعُ هو الذي أثارَ
هذا الأمْرَ مِن مدافِنه، والفقر هو الذي اجتذب هذا الطَّمع واجتلبه، ولكن الويل
لها إنْ ألَّحتْ على غَنِيٍّ عالِمٍ، وخاصَّة إن كان مع جِدَتِه وعلمِه حديداً
عَجُولا.
اعتقاد العامة في أمير الذّبَّان وقد كانوا يقتلون الذبابَ الكبير الشديد الطنين
الملحَّ في ذلك، الجهيرَ الصوت، الذي تسميه العوامُّ: أمير الذِّبَّان، فكانوا
يحتالون في صرفه وطرده وقتله، إذا أكربَهمْ بكثرةِ طنينه وزَجَله وهِماهِمه فإنّه
لا يفتر، فلمَّا سقط إليهم أنّه مبشّرٌ بقدومِ غائبٍ وبُرء سقيم، صاروا إذا دخل
المنزلَ وأوسَعَهُم شَرّاً، لم يَهجْه أحدٌ منهم.
وإذا أرادَ اللّه عزّ وجلّ أن يُنْسِئَ في أجلِ شيءٍ من الحيوان هيَّأ لذلك سبباً،
كما أنّه إذا أراد أن يقصُر عمرُه وَيحينَ يومُه هيَّأ لذلك سبباً، فتعالى اللّه
علوّاً كبيراً.
ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى إلحاح الذّبَّان. عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب
كان لنا بالبَصرة قاض يقال له عبدُ اللّه بنُ سوَّار، لم يَرَ النَّاسُ
حاكماً قطُّ ولا زِمِّيتاً ولا رَكيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه وملَك من
حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك، كان يصلّي الغداةَ في منزله، وهو قريب الدَّار من
مسجده، فيأْتي مجلسَه فيحتبي ولا يتَّكئ، فلا يزالُ منتصباً ولا يتحرَّك له عضوٌ،
ولا يلتفت، ولا يحلُّ حُبْوَته، ولا يحوِّل رِجلاً عن رجل، ولا يَعتمد على أحد
شِقَّيه، حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة، فلا يزال كذلك، حتّى يقوم
إلى صلاة الظهر ثمّ يعودُ إلى مجلسهِ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمَّ يرجع
لمجلسه، فلا يزال كذلك حَتى يقوم لصلاة المغرب، ثمَّ رُبما عاد إلى محلِّه، بل
كثيراً ما كان يكون ذلكَ إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق، ثمَّ
يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف، فالحق يقال: لَمْ يُقمْ في طول تلك المدَّةِ
والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء، ولا احتاجَ إليه، ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه
من الشّراب، كذلك كان شأْنُه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وفي شتائها،
وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه، ولا يُشيرُ برأسِه، وليس إلاّ أن يتكلم ثمَّ يوجز،
ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة، فبينا هو كذلك ذاتَ يوم وأصحابه حواليه،
وفي السِّماطين بينَ يديه، إذْ سقَطَ على أنفِه ذَبَابٌ فأطال المكث، ثمَّ تحوّل
إلى مُؤْقِ عينه، فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى المؤق، وعلى عضِّه ونفاذِ خرطومه
كما رَام من الصبر عَلى سقوطه عَلَى أنفِه من غير أن يحرِّك أرنبَته، أو يغضِّنَ
وجهَهُ، أو يذبّ بإصبعه، فلمّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب وشغَله وأوجعَه وأحرَقهُ،
وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التّغافُلَ، أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ
فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح، فتنحَّى ريثما سكنَ
جفنُهُ، ثمَّ عاد إلى مؤقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان
قد أوهاهُ قبلَ ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى،
فحرَّك أجفانَهُ وزاد في شدَّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابُع الفتْح والإطباق،
فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ ثمَّ عاد إلى موضِعِه، فما زالَ يلحُّ عليه
حتى استفرغَ صبْرَه وبَلغَ مجهُوده، فلم يجدْ بُدّاً من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده،
ففعل، وعيون القوم إليه ترمُقه، وكأنّهم لا يَرَوْنَه، فتنَحَّى عنه بقدْر ما
رَدَّ يدَه وسكَنتْ حركته ثمَّ عاد إلى موضعه، ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه
بطَرَف كمه، ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك، وعلم أنَّ فِعلَه كلّه بعين مَنْ
حَضَره من أُمنائه وجلسائه، فلمَّا نظروا إليه قال: أشهد أنَّ الذّباب ألَحُّ من
الخنفساء، وأزهى من الغراب وأستَغفر اللّه فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه فأراد
اللّه عزّ وجلّ أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستوراً وقد علمت أنِّي عند
الناس مِنْ أزْمَتِ الناس، فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه ثمَّ تلا قولَهُ
تعالى: "وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقذُوهُ مِنهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ".
وكان بيِّن اللِّسان، قليلَ فضولِ الكلام، وكان مَهيباً في أصحابه، وكان أحدَ مَنْ
لم يَطْعَنْ عليهِ في نفسه، ولا في تعريض أصحابِه للمَنَالة.
قصَّة في إلحاح الذباب فأمَّا الذي أصابني أنَا من الذِّبَّان، فإنِّي
خَرَجتُ أمشي في المبارك أريد دَيْرَ الربيع، ولم أقدِرْ علَى دابَّةٍ، فمررتُ في
عشْبٍ أَشِبٍ ونباتٍ ملتفٍّ كثيرِ الذِّبَّان، فسقط ذباب من تلك الذّبّان عَلَى
أنفي، فطردته، فتحولّ إلى عيني فطردْتُه، فعاد إلى مُوقِ عيني، فزدتُ في تحريكِ
يديَّ فتنحَّى عني بقدْر شدّة حركتي وذبِّي عن عيني - ولِذِبّان الكلإ والغِياضِ
والرِّياض وقْعٌ ليس لغيرها - ثمَّ عادَ إليَّ فَعُدْتُ عليهِ ثمّ عَاد إليّ فعدتُ
بأشدّ من ذلك، فلما عاد استعملتُ كمِّي فَذَبَبْت بِهِ عن وجهي، ثمّ عاد، وأنَا في
ذلك أحثُّ السَّير، أؤمِّل بسرعتي انقطاعَهُ عنِّي فلما عَاد نزعتُ طَيْلَسانِي من
عُنُقي فذببت بهِ عَنِّي بَدَلَ كُمِّي؛ فلما عاوَدَ ولم أجدْ له حيلةً استعملتُ
العدْوَ، فعدوْت منه شوطاً تَامَّاً لم أتكلفْ مثلَه مذْ كنتُ صبيّاً، فتلقّاني
الأندلسيُّ فقال لي: ما لك يا أبا عثمان هل مِنْ حادثة? قلت: نعم أكبر الحوادث،
أريد أن أخرجَ من موضعٍ للذِّبَّان عَلَيَّ فيه سلطانٌ فضحك حتى جلس، وانقطع عني، وما
صدّقتُ بانقطاعه عنّي حتَّى تباعد جدّاً.
ذبّان العساكر والعساكر أبداً كثيرة الذِّبَّان، فإذا ارتحلوا لم يَرَ المقيمُ
بعدَ الظَّاعن منها إلا اليسير.
وزعم بعضُ النَّاسِ أنَّهنَّ يتبعن العساكرَ، ويسقُطْنَ على المتاع، وعلى جِلاَلِ
الدّوابّ، وأعجاز البراذِينِ التي عليها أسبابها حتى تؤدِّيَ إلى المنزل الآخر.
وقال المكِّيُّ: يتبعوننا ليُؤْذونا، ثمَّ لا يركبون إلاّ أعناقَنا ودوابَّنا.
تخلّق الذُّباب ويقول بعضهم: بل إنما يتخلَّق من تلك العُفوناتِ والأبخرةِ
والأنفاس، فإذا ذهبت فنيت مع ذهابها، ويزعمون أنّهم يعرفون ذلك بكثرتها في
الجنائبِ، وبقلّتها في الشمائِل.
قالوا: وربَّما سددْنا فمَ الآنيةِ التي فيها الشَّرابُ بالصِّمَامةِ، فإذا
نزعْناها وجدنا هناك ذباباً صغاراً.
وقال ذو الرّمّة:
فَرَاشاً وأنّ البَقْلَ ذَاوٍ ويابسُ |
|
وأيقنَّ أنّ القنع صارت نِطافه |
القِنْع:
الموضع الذي يجتمع فيه نقران الماء، والفراش: الماء الرقيق الذي يبقى في أسفل
الحِياض.
وأخبرني رجلٌ من ثقيف، من أصحاب النّبيذ أنّهم رُبَّما فلقوا السَّفرجلة أيامَ
السَّفرجل للنَّقْل والأكل، وليس هناك من صغار الذّبَّان شيءٌ البتّة ولا
يُعدِمُهمْ أنْ يَرَوا على مَقاطعِ السَّفرجلِ ذُباباً صغاراً، وربَّما رصدوها
وتأمَّلوها، فيجدونَها تعظم حتّى تلحق بالكبار في السَّاعة الواحدة.
حياة الذُّباب بعد موته قال: وفي الذِّبان طبع كطبع الجِعلان، فهو طبعٌ غريب عجيب،
ولولا أنّ العِيانَ قهَرَ أهلَهُ لكانوا خلقاءَ أن يدفعوا الخبرَ عنهُ؛ فإِنَّ
الجُعَلَ إذا دُفِنَ في الوردِ ماتَ في العين، وفِنيت حركاتُه كلُّها، وعاد جامداً
تارزاً ولم يفصِل الناظِرُ إليه بينَه وبين الجُعَلِ الميِّت، ما أقام على تأمله،
فإذا أعيد إلى الروث عادت إليه حركة الحياةِ من ساعته.
وجرَّبتُ أنا مثلَ ذلك في الخنفساء، فوجدتُ الأمر فيها قريباً من صِفَةِ الجعَل،
ولم يبلغْ كلَّ ذلك إلاَّ لقَرابةِ ما بينَ الخنفساء والجُعَل.
ودخلت يوماً على ابن أبي كريمة، وإذا هو قد أخْرَجَ إجَّانَة كان فيها ماءٌ من
غسالةِ أوساخ الثياب، وإذا ذِبَّان كثيرةٌ قد تساقطْنَ فيه من اللَّيل فَمَوَّتْن،
هكذا كُنَّ في رأي العين، فَغَبَرْنَ كذلك عَشِيَّتَهُنَّ وليلتهنّ، والغَدَ إلى
انتصاف النهار، حتّى انتفخْنَ وعفِنَّ واسترخين؛ وإذا ابن أبي كريمة قد أعدّ
آجُرّةً جديدة، وفُتاتَ آجُرٍّ جديد، وإذا هو يأخذ الخَمس منهنّ والستّ، ثمّ
يضعهُنّ عَلَى ظهر الآجرَّة الجديدة، ويذرُّ عليهنَّ من دقاق ذلك الآجرِّ الجدِيدِ
المدقوق بقدْر ما يغمُرها فلا تلبث أن يراها قدْ تحرَّكتْ، ثمَّ مشت، ثمَّ طارت؛
إلاَّ أنّه طَيَرَانٌ ضعيفٌ.
ابن أبي كريمة وعود الحياة إلى غلامه وكان ابنُ أبي كريمة يقول: لا واللّه،
لا دفنْتَ ميِّتاً أبداً حَتّى يَنْتُنَ قلت: وكيف ذاك? قال: إنّ غلامي هذا
نُصيراً ماتَ، فأخّرْتُ دفنه لبعْضِ الأمْر، فقدِم أخوه تلك اللّيْلَة فقال: ما
أظنُّ أخي ماتَ ثمَّ أخذ فتيلتين ضخمتين، فروّاهما دهْناً ثمَّ أشعل فيها النّارَ،
ثمَّ أطفأهما وقرَّبهما إلى منخريه، فلم يلبَثْ أنْ تحرَّك، وها هو ذا قد تراه قلت
له: إن أصحاب الحروب والذين يغسلون الموتى، والأطباء، عندَهم في هذا دَلالاتٌ
وعلامات فلا تحمل عَلَى نفسك في واحدٍ من أولئك أَلاَّ تستُره بالدفن حتى يَجيف.
والمجوس يقرّبون الميِّت منْ أنف الكلب، ويستدلون بذلك عَلَى أمره فعلمت أنّ الذي
عايَنّاه من الذّبَّان قد زادَ في عزْمِه.
النُّعَر والنُّعَر: ضربٌ من الذِّبان، والواحدةُ نعَرة، وربما دخلتْ في أنف
البعيرِ أو السَّبع، فيزمُّ بأنفِه؛ للذي يلقى من المكروه بسببه، فالعَرَبُ تشبّه
ذا الكِبْر من الرجال إذا صعّر خده، وزَمّ أنفه - بذلك البعير في تلك الحال، فيقال
عند ذلك: فلان في أنفه نعرة، وفي أنفِه خُنْزوانةٌ، وقال عمر: واللّه لا أقلعُ عنه
أو أطيِّرَ نُعرَته.
ومنها القَمَع، وهو ضربٌ من ذبّان الكلأ، وقال أوس:
وعفْرُ الظِّباءِ في الكِناسِ تَقَمَّعُ |
|
ألمْ ترَ أن اللّه أنـزَلَ مُـزْنـه |
وذلك
مما يكون في الصيفِ وفي الحرِّ.
أذى الذّبّان للدوابّ والذّبان جنْد من جند اللّه شديدُ الأذى، وربَّما كانَ أضرّ
من الدَّبْر في بَعضِ الزمان، وربما أتت عَلَى القافلة بما فيها؛ وذلك أنّها تغشى
الدوابّ حتّى تضربَ بأنفسها الأرض - وهي في المفاوز - وتسقط، فيهلك أهل القافلة؛
لأنهم لا يخرجون من تلك المفاوز على دوابهمْ - وكذلك تُضْرب الرِّعاء بإبلهم،
والجمالون بجمالهم عن تلك الناحية، ولا يسْلُكُها صاحبُ دابَّة، ويقول بعضُهم
لبعض: بادِرُوا قبْلَ حركَةِ الذِّبان، وقبل أنْ تتحرك ذّبان الرِّياضِ والكلأ.
والزّنابير لا تكادُ تدْمي إذا لسعت بأذنابها، والذِّبَّان تغمس خراطيمها في جوفِ
لحوم الدوابّ، وتخرِق الجلودَ الغلاظ حتى تنزفَ الدَّمَ نزفاً، ولها مع شدّة
الوقعِ سمومٌ، وكذلك البَعوضة ذاتُ سمّ، ولو زِيدَ في بَدَن البعوضة وزِيدَ في
حرْقة لسْعها إلى أن يصيرَ بَدَنها كبدن الجرَّارة - فإنها أصغر العقارب - لما قام
له شيءٌ، ولكان أعظمَ بليَّةً من الجَرَّارة النصيبية أضعافاً كثيرة، وربَّما رأيت
الحمار وكأنّه مُمَغَّر أو معصفر، وإنَّهُمْ مع ذلك ليجلِّلون حمُرَهم
ويُبَرقِعونها، وما يَدَعون موضعاً إلاَّ ستروه بجهدهم، فربَّما رأيتَ الحمير
وعليها الرِّجال فيما بين عَبْدَسي والمذارِ بأيديهم المناخس والمذابُّ، وقد ضربت
بأنفسها الأرضَ واستسلمت للموت، وربّما رأيت صاحبَ الحميرِ إذا كانَ أجيراً
يضربُها بالعَصا بكلِّ جَهْده، فلا تنبعث.
وليس لجلد البقرة والحمار والبعير عندَه خطر، ولقدْ رأيتُ ذُباباً سقط على سالفة
حِمار كانَ تحتي، فضرب بأُذنيه، وحرَّك رأسه بكلِّ جهده، وأنا أتأَمَّله وما يقلع
عنه، فعَمَدْتُ بالسَّوطِ لأنحِّيَه به فنزا عنه، ورأيت مع نزْوِهِ عنه الدَّمَ
وقد انفجر؛ كأَنَّهُ كان يشرب الدَّمَ وقد سدَّ المخرج بفيه، فلمَّا نحَّاه طلع.
ونيم الذّباب وتزعمُ العامَّةُ أنَّ الذّبَّان يخْرَأ عَلَى ما شاء قالوا: لأنَّا
نراه يخرأ عَلَى الشيء الأسود أبيضَ، وعلى الأبيضِ أسود.
ويقال قد ونمَ الذُّباب - في معنى خرئ الإنسان - وعرَّ الطائر، وصام النَّعام،
وذَرَق الحمام، قال الشاعر:
كأَنَّ وَنِيمَه نقطُ المِـدَادِ |
|
وقَدْ وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتَّى |
وليس
طولُ كُوْمِ البعير إذا ركب النَّاقةَ، والخنزير إذا ركب الخنزيرة، بأطولَ ساعةً
من لُبْثِ ذكورةِ الذبّان عَلَى ظهور الإناثِ عندَ السِّفاد.
تخلق الذُّباب والذّباب من الخلْق الذي يكونُ مَرّةً من السِّفاد والوِلاد، ومرّةً
من تعفُّن الأجسام والفَسادِ الحادث في الأجرام.
والباقلاءُ إذا عتَقَ شيئاً في الأنبار استحال كلُّه ذُباباً، فربَّما أغفلوه في
تلك الأنْبار فيعودون إلى الأنبارِ وقد تطاير من الكُوَى والخروقِ فلا يجدون في
الأنبار إلاّ القشور.
والذّباب الذي يخلق من الباقلاء يكون دوداً، ثمَّ يعود ذباباً، وما أكثر ما
ترى الباقلاء مثقّباً في داخله شيءٌ كأَنَّه مسحوق، إذا كان اللّه قد خلق منه
الذّبَّان وصيَّره، وما أكثر ما تجده فيه تامَّ الخلق، ولو تمّ جناحاه لقد كان
طار.
حديث شيخ عن تخلق الذّباب وحدّثني بعض أصحابِنا عن شيخٍ من أهل الخُريبة قال: كنت
أحبُّ الباقلاء، وأردت، إمَّا البَصرة وإما بغداد - ذهب عنِّي حفظه - فصرتُ في
سفينةٍ حِمْلها باقلاء، فقلت في نفسي: هذا واللّه من الحظِّ وسعادة الجَدِّ، ومن
التَّوفيق والتسديد، ولقد أربع من وَقَعَ له مثل هذا الذي قد وقع لي: أجلسُ في هذه
السفينة على هذا الباقلاء، فآكلُ منه نِيّاً ومطبوخاً ومقلوّاً، وأرضُّ بعضَه
وأطحنُه، وأجْعله مرقاً وإداماً، وهو يغْذو غذاءً صالحاً، ويُسْمِنُ، ويزيد في
الباه، فابتدأت فيما أمَّلته، ودفعْنا السَّفينة، فأَنكَرْتُ كثرة الذّبَّان، فلما
كان الغدُ جاء منه ما لم أقدْر معه على الأكلِ والشربِ، وذهبت القائلة وذهب
الحَديث، وشُغِلت بالذَّبِّ، على أنهنَّ لم يكنَّ يبرحْنَ بالذَّبّ، وكنَّ أكثَرَ
من أنْ أكونَ أقوى عليهنَّ؛ لأنِّي كنتُ لا أطردُ مائَةً حتى يخلفهَا مائَة
مكانها، وهُنَّ في أولِ ما يخرجْنَ من الباقلاء كأَنَّ بهنّ زَمَانَةً فلما كانَ
طيرانهنَّ أسوأ كان أسوأ لحالي، فقلت للملاح: ويلك أيُّ شيءٍ معك حتى صار الذبان
يتبعك قدْ واللّهِ أكلَتْ وشربَتْ قال: أوَ ليس تعرف القصة? قلت: لا واللّه قال:
هي واللّه من هذه الباقلاء، ولولا هذه البليّة لجاءنَا من الرُّكاب كما يجيئون إلى
جميع أصحاب الحمولات، وما ظننته إلاّ ممن قد اغتفر هذا للين الكِراء، وحبِّ
التفرُّد بالسفينة، فسأَلتُهُ أنْ يقربني إلى بعض الفُرَض، حتى أكتريَ من هناك إلى
حيث أريد، فقال لي: أتحبُّ أنْ أزوِّدَك منه? قلت: ما أحبُّ أنْ ألتقيَ أنا
والباقلاء في طريقٍ أبَداً.من كره الباقلاء ولذلك كان أبو شمر لا يأكل الباقلاء،
وكان أخذ ذلك عن معلِّمه معَمَّر أبي الأشعث، وكذلك كان عبد اللّه بن مسلمة بن
محارب والوكيعيُّ ومُعمَّر، وأبو الحسن المدائني، برهةً من دهرهم.
وكان يقول: لولا أنَّ الباقلاء عفِن فاسدُ الطّبعِ، رديءٌ يخثِّر الدَّمَ ويغلّظُه
ويورث السّوداءَ وكلَّ بلاء - لما ولّدَ الذِّبان، والذّبان أقذرُ ما طار ومشَى
وكان يقول: كلُّ شيءٍ ينبت منكوساً فهو رديءٌ للذِّهن، كالباقلاء والباذنجان.
وكان يزعم أنّ رجلاً هرب من غرمائه فَدَخل في غابةِ باقلاء، فتستَّر عنهم بها، فأَراد
بعضُهم إخرَاجه والدخول فيها لطلبهِ، فقال: أحكمهُمْ وأعلمهم كفاكم له بموضعه
شرّاً.
وكان يقول: سمعت ناساً من أَهل التجْربةِ يحلفون باللّه: إنَّه ما أقام أحدٌ
أربَعين يوماً في مِنبت باقلاءَ وخرج منه إلاّ وقد أسقمهُ سُقْماً لا يزايلُ
جِسمَه.
وزعم أنّ الذي منع أصحاب الأدْهان والتربيةِ بالسمسم منْ أن يربُّوا السُّماسِم
بنَوْر الباقلاء، الذي يعرفونَ من فسادِ طبعهِ، وأنَّه غير مأمون على الدِّماغ
وعلى الخيشوم والصِّماخ، ويزعمون أنّ عمله الذي عمله هو القصد إلى الأذهان
بالفساد.
وكان يزعم أنَّ كلَّ شيءٍ يكون رديئاً للعصب فإنَّه يكون رديئاً للذِّهن، وأن
البصل إنما كان يفسد الذهن؛ إذْ كان رديّاً للعصب، وأنْ البَلاذُرَ إنما صار يُصلح
العقلَ ويورثُ الحفظ؛ لأنَّه صالح للعَصَب.
وكان يقول: سواءٌ عليّ أكلت الذّبان أو أكلت شيئاً لا يولِّد إلاَّ الذِّبانَ، وهو
لا يولِّده إلاَّ هُوَ، والشيءُ لا يلد الشيءَ إلاّ وهو أولى الأشياءِ بهِ،
وأقربها إلى طبعهِ، وكذلك جميع الأرحام، وفيما ينتج أرحام الأَرض وأرحام الحيوان،
وأرحام الأَشجار، وأرحام الثِّمَار، فيما يتولَّد منها وفيها.
حديث أبي سيف حول حلاوة الخرء
وبينما أنا جَالسٌ يوماً في المسجِد مع فِتيانٍ من المسجديِّين مما يلي أبواب بني سليم، وأنَا يومئذٍ حَدث السّنّ إذْ أقْبَلَ أبو سَيف الممرور - وكان لا يؤْذي أحداً، وكان كثير الظَّرْفِ من قومٍ سَراة - حتى وقف علينا، ونحن نرى في وجهه أثر الجِدِّ، ثمّ قال مجتهداً: واللّه الذي لا إله إلاّ هو إن الخرْءَ لحلو، ثمَّ واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنَّ الخرء لحلو، ثم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّ الخرء لحلو، يميناً بَاتَّةً يسألني اللّهُ عنها يوم القيامة فقلت له: أشهد أنَّك لا تأكله ولا تذوقُه، فمن أين علمت ذلك? فإن كنْتَ علمت أمراً فعلَّمنَا مما علمَكَ اللّه، قال: رأيت الذّبَّان يَسقط على النّبِيذ الحلو، ولا يسقط على الحازِر، ويقع على العسل ولا يقع على الخلّ، وأراه عَلَى الخُرء أكثرَ منه على التَّمْر، أفتريدون حُجَّةً أبين من هذه? فقلت: يا أبا سَيْفٍ بهذا وشبهه يُعرفُ فضْلُ الشَّيخِ عَلَى الشاب.
تخلق بعض الحيوان من غَيرِ ذكر وأنثى
ثُمَّ
رَجَعَ بنا القول إلى ذِكر خلق الذِّبان من الباقلاء، وقد أنكر ناسٌ من العوامِّ
وأشْباهِ العوامِّ أن يكونَ شيءٌ من الخلق كانَ من غير ذكرٍ وأنثى، وهذا جهلٌ بشأن
العالَم، وبأقسام الحيوان، وهم يظنُّون أنَّ على الدِّين من الإقرار بهدا القول
مضرَّةً، وليس الأمر كما قالوا، وكلُّ قولٍ يكذِّبُه العِيان فهو أفحش خطأ،
وأسخَفُ مذهباً، وأدلُّ على معاندةٍ شديدة أو غفْلة مفْرطة.
وإنْ ذهب الذَّاهبُ إلى أن يقيس ذلك على مجازِ ظاهر الرَّأي، دونَ القطْعِ على غيب
حقائق العِلل، فأجْرَاه في كلِّ شيء - قال قَوْلاً يدفعه العِيانُ أيضاً، مع إنكار
الدِّين له.
وقد علمنا أنَّ الإنسانَ يأكُلُ الطّعامَ ويشرَبُ الشَّرابَ، وليس فيهما حيَّةٌ
ولا دودةٌ، فيُخْلق منها في جوفِه ألوان من الحَيَّات، وأشكالٌ من الدِّيدان من
غير ذَكرٍ ولا أنثى، ولكن لابدَّ لذلك الوِلادِ واللِّقاحِ من أنْ يكون عن تناكح
طِباع، وملاقاة أشياءَ تشبه بطباعها الأرحامَ وأشياءَ تشبه في طبائعها ملقِّحات
الأرحام.
استطراد لغوي بشواهد من الشعر
وقد قال الشاعر:
عن هَيْجِه واستُنْتِجَت أحلاما |
|
فاسْتَنْكَحَ اللَّيْلَ البهيمَ فَأُلْقِحَت |
وقال الآخر:
فالجود أكرمُها نِتاجا |
|
وإذا الأمُور تناكَحَتْ |
وقال ذو الرُّمَّة:
مَعَ اللَّيلِ أحلامُ الهِدَانِ المثقَّلِ |
|
وإنِّي لمِدلاجٌ إذا ما تناكَحَـتْ |
وقال عليُّ بن مُعاذ:
مُسْتَزْلِقٌ من رَحِم الشّمْسِ |
|
لَلْبَدْر طِفلٌ في حِضَان الهوا |
وقال دُكينٌ الرَّاجز، أو أبو محمد الفقعسيِّ:
بالسَّوطِ في ديمومةٍ كالتُّـرسِ |
|
وقد تعللتُ ذمـيل الـعـنْـسِ |
|
|
إذا عَرَّجَ اللَّيلَ بروجُ الشَّمس |
وقال أمية بن أبي الصَّلت:
للماء حتَّى كلُّ زَنْدٍ مُسْـفَـدُ |
|
والأرضُ نوَّخها الإلهُ طَرُوقةً |
فيها مقابِرُنَا وفيهـا نـولـد |
|
والأرضُ مَعقِلنَا وكانتْ أمَّنـا |
وذكر أميَّة الأرْضَ فقال:
والصُّوف نجتزُّه ما أردف الوَبَرُ |
|
والطُّوط نزْرعُه فيها فنَلبَـسـهُ |
ما أرحَمَ الأرضَ إلاَّ أَنَّنا كُفُـرُ |
|
هي القرارُ فما نبْغي بهَـا بـدلاً |
تُعيِي الأطِبَّاءَ لا تَثْوَى لها السُّبُرُ |
|
وطَعنَةُ اللّهِ في الأعداءِ نـافـذةٌ |
|
|
ثمَّ رجـع إلـيهـا فـقــال: |
ونحنُ أبناؤها لو أنَّنَـا شُـكُـرُ |
|
مِنها خُلِقْنَا وكانَتْ أُمّنا خُلِقَتْ |
ما تستنكره العامة من القول
وتقول العرب: الشمسُ أرحمُ بنا فإذا سمع السامعُ منهم أنَّ جالينوسَ قال: عليكم بالبَقْلةِ الرحيمة - السِّلق - استشنعه السامع، وإذا سمع قولَ العرب: الشمسُ أرحم بنا، وقولَ أميّة:
ما أَرْحَمَ الأرضَ إلا أنَّنا كُفُرُ |
لم يستشنعه، وهما سواء. فإذا سمع أهل الكتاب يقولون: إنَّ عيسى ابن مريم أخَذَ في يده اليمنى غُرْفَةً، وفي اليسرى كِسرَةَ خبز، ثم قال: هذا أبي، للماءِ، وهذه أمِّي، لكسرة الخبز، استشنعه، فإذا سمعَ قولَ أميَّة:
للماءِ حتَّى كل زَنْد مُسـفَـدُ |
|
والأرضُ نَوَّخَهَا الإله طَرُوقَةً |
لم يستشنعه، والأصل في ذلك أنّ الزّنَادِقَةَ أصحابُ ألفاظٍ في كتبهمْ، وأصحابُ تهويل؛ لأنَّهم حينَ عدِمُوا المعانيَ ولم يكن عندهم فيها طائل، مالُوا إلى تكلُّف ما هو أخْضَرُ وأيسرُ وأوجَزُ كثيراً.
حُظْوة طوائف من الألفاظ لدى طوائف من الناس
ولكلِّ
قَوْمٍ ألفاظٌ حظِيتْ عِنْدَهم، وكذلك كلُّ بليغٍ في الأرض وصاحِب كلامٍ منثور،
وكلُّ شاعِرٍ في الأرض وصاحِبِ كلامٍ موزون؛ فلا بد من أن يكون قد لهجَ وألف
ألفاظاً بأعيانها؛ ليديرَها في كلامه، وإن كان واسعَ العلمِ غزيرَ المعاني، كثيرَ
اللَّفظ..
فصار حظُّ الزَّنَادِقَةِ من الألفاظ التي سبقتْ إلى قلوبهم، واتَّصلت بطبائعهم،
وجَرتْ على ألسنتهم التناكحَ، والنتائِج، والمِزاج والنُّور والظلمة، والدفَّاع
والمنَّاع، والساتر والغَامر، والمنحلّ، والبُطلان، والوِجْدان، والأَثير
والصِّدِّيق وعمود السبح، وأشكالاً من هذا الكلام، فَصَارَ وإن كان غريباً مرفوضاً
مهجوراً عنْد أهلِ ملَّتنا ودعوَتِنا، وكذلك هو عِنْدَ عوامِّنا وجمهُورنا، ولا يستعملهُ
إلاّ الخَواصُّ وإلاَّ المتكلِّمون.
اختيار الألفاظ وصوغ الكلام
وأنا
أقولُ في هذا قَوْلاً، وأرجو أن يكون مرضياً، ولم أقلْ أرجو لأني أعلمُ فيه خللاً،
ولكنّي أخذتُ بآدابِ وجوهِ أهلِ دعوتي وملَّتي، ولغتي، وجزيرتي، وجيرتي؛ وهم
العرب، وذلك أنّه قيل لصُحَارٍ العبديّ: الرجل يقول لصاحِبه، عنْدَ تذكيره أياديَه
وإحْسانه: أما نحنُ فإنّا نرجو أن نكونَ قدْ بلغْنا من أداءِ ما يجبُ علينا مبلغاً
مُرضِياً، وهُوَ يعلم أنّه قَدْ وفّاه حَقّه الواجبَ، وتفضّل عليه بما لا يجب، قال
صُحار: كانوا يستحبُّون أن يَدَعُوا للقول متنفَّساً، وأن يتركوا فيه فضلاً، وأن
يتجافَوا عن حَقٍّ إن أرادوه لم يُمنَعوا منه.
فلذلك قلت أرجو، فافهَمْ فَهّمَكَ اللّه تعالى.
فإنَّ رأيي في هذا الضّربِ من هذا اللفظ، أنْ أكونَ ما دمتُ في المعاني التي هي
عبارتها، والعادَة فيها، أن ألفِظ بالشّيء العتيد الموجود، وأدَعَ التكلّفَ لِما
عسى ألاَّ يسلس ولا يسهلَ إلاَّ بعد الرِّياضة الطويلة.
وأرى أنْ ألفِظ بألفاظِ المتكلمين ما دُمتُ خائضاً في صناعة الكلام مع خواصِّ أهل
الكلام؛ فإن ذلك أفهمُ لهمْ عني، وأخفُّ لمؤنتهمْ عليّ.
ولكل صناعةٍ ألفاطٌ قد حَصلت لأهلها بَعدَ امتحان سواها، فلم تَلزَق بصِناعتهم
إلاَّ بَعدَ أن كانَتْ مُشاكَلاً بينها وبين تلك الصناعة.
وقبيحٌ بالمتكلم أنْ يفتقر إلى ألفاظِ المتكلِّمين في خُطبةٍ، أو رسالة، أو في
مخاطبةِ العوام والتجار، أو في مخاطبةِ أهله وعبْدِهِ وأمته، أو في حديثه إذا
تحدثَ، أو خبره إذا أخبر.
وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلِبَ ألفاظ الأعرابِ، وألفاظ العوامّ وهو في صناعة
الكلام داخل، ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ صناعة شكل.
خلق بعض الحيوان من غير ذكر وأنثى
ثم
رجع بنا القول إلى ما يحدث اللّه عزَّ وجلَّ من خلْقه من غير ذكرٍ ولا أنثى،
فقلنا: إنّه لابدَّ في ذلك من تلاقي أمرينِ يقومانِ مقامَ الذّكر والأنثى، ومقامَ
الأرضِ والمطر، وقد تقرب الطّبائعُ من الطبائع، وإن لم تتحوَّلْ في جميع معانيها،
كالنطفة والدَّم، وكاللّبنِ والدَّم.
وقد قال صاحبُ المنطقِ: أقول بقولٍ عامٍّ: لابدَّ لجميع الحيوان من دم، أو من شيء
يشاكل الدَّم، ونحن قد نجد الجيفَ يخلق منها الدِّيدان، وكذلك العذرة، ولذلك
المجوسيُّ كلما تبرَّز ذرَّ على بُرازه شيئاً من التراب؛ لئلا يخلق منها دِيدان،
والمجوسيُّ لا يتغوَّط في الآبار والبلاليع لأنّه بزعمه يُكرم بطنَ الأرض عن ذلك،
ويزعم أنّ الأرضَ أحَدُ الأركان التي بُنِيَت العوالمُ الخمسةُ عليها بزعمهم:
أبرسارس وأبرمارس وأبردس وكارس وحريرة أمنة، وبعضهم يجعل العوالم ستة ويزيد أسرس،
ولذلك لا يدفنون موتاهم ولا يحفرون لهم القبور، ويضعونهم في النّواويس وضْعاً.
قالوا: ولو استطعنا أنْ نخرج تلك الجيف من ظهور الأرضين وأجواف الأحراز، كما
أخرجْناها من بطون الأرَضين لفعلنا، وهم يسمُّون يوم القيامة روزرستهار، كأنّه يوم
تقوم الجيف، فمن بُغضهم لأبْدَان الموتى سمَّوها بأسمج أسمائهم.
قالوا: وعلى هذا المثال أعظمْنا النّار والماء، وليسا بأحقَّ بالتعظيم من الأرض.
وبعد فنحن ننزِع الصِّمامة من رؤوس الآنية التي يكونُ فيها بعضُ الشراب، فنَجد
هنالك من الفراش ما لم يكن عن ذكر ولا أنثى، وإنما ذلك لاستحالة بعضِ أجزاءِ
الهواء وذلك الشراب إذا انضمَّ عليه ذلك الوعاء، وهذا قولُ ذي الرمَّة وتأويلُ
شعره، حيث يقول:
فَرَاشاً وأنَّ البَقـلَ ذاوٍ ويابِـسُ |
|
وأبصَرْنَ أن القِنْعَ صارتْ نِطافُهُ |
وكذلك
كلُّ ما تخلق من جُمَّارِ النَّخلة وفيها، من ضروب الخلََق والطَّير، وأشباه
الطير، وأشباه بناتِ وَردان، وَالذي يسمَّى بالفارسية فاذو، وكالسُّوس، والقوادح،
والأرَضة، وَبَنَاتِ وَرْدان اللاتي يخلقْن من الأَجذاع والخشب والحشوش، وقد نجد
الأزَج الذي يكبس فيه اليخُّ بخراسان، كيف يستحيل كله ضفادِعَ، وما الضِّفدع
بأدَلّ عَلَى اللّه من الفَراش.
وإنما يستحيل ذلك الثَّلجُ إذا انفتح فيه كقدْر منخر الثَّور، حتَّى تدْخُله
الرِّيح التي هي اللاقحة، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ: )وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ
لوَاقِحَ(، فجعلها لاقحةً ولم يجعلها ملقحة.
ونجد وسْط الدَّهناء - وهي أوسع من الدوِّ ومن الصَّمَّان - وعلى ظهر مسجد الجامع
في غبِّ المطر من الضَّفادِع ما لا يُحصى عددُه، وليس أنَّ ذلك كان عن ذكرٍ وأنثى،
ولكنَّ اللّهَ خَلقها تلك الساعةَ من طِباع تلك التُّربَةِ وذلك المطر وذلك
الهواءِ المحيطِ بهما، وتلك الرِّيح المتحرِّكةِ، وإنْ زعموا أن تلك الضَّفادعَ
كانت في السَّحاب، فالذي أقرُّوا به أعجبُ من الذي أنكروه، وإنما تقيم الضَّفادعُ
وتتربّى وتتوالَدُ في مناقع المياه، في أرض تلاقي ماءً، والسَّحابُ لا يوصف بهذه
الصفة، قد نجد الماء يزيد في دِجْلةَ والفُراتِ فتنزُّ البطون والحفائر التي تليها
من الأَرض، فيُخْلق من ذلك الماءِ السَّمكُ الكثير، ولم يكن في تلك الحفائر الحدث،
ولا في بحر تلك الأرضين شيءٌ من بيض السَّمك.
ولم نجد أهلَ القاطول يشكُّون في أنَّ الفأر تخلَّق من أرضهم، وأنّهُمْ ربَّما
أبصروا الفأرَة من قبل أن يتم خلْقُها، فنسبوا بأجمعهم خلق الفأرِ إلى الذكر
والأنثى، وإلى بعض المياه والتُّرَبِ والأجواء والزمان، كما قالوا في السمك،
والضَّفادعِ، والعقارب.
ضعف اطراد القياس والرأي في الأمور الطبيعية
فإن
قاس ذلك قائس فقال: ليسَ بين الذِّبَّان وبنات وردان وبين الزَّنَابير فرق، ولا
بين الزَّنابير والدّبْر والخنافس فرق، ولا بين الزّرازير والخفافيش ولا بين
العصافير والزّرازير فرق فإذا فرغوا من خشاش الأرض صاروا إلى بغاثها ثم إلى
أحرارها، ثم إلى الطواويس والتدّارجِ والزمامج حتى يصعدوا إلى الناسِ، قيل لهم:
ليس ذلك كذلك، وينبغي لكم بَدِيّاً أن تعرفوا الطّبيعة والعادة، والطبيعة الغريبة
من الطبيعة العامّية، والممكن من المُمْتَنِعِ، وََأنّ المُمْكِنَ على ضربَين:
فمنه الذي لا يزال يكون، ومنه الذي لا يكاد يكون، وما علة الكثرة والقلة، وتعرفوا
أنّ الممتنع أيضاً عَلَى ضربينَ: فمنه ما يكُون لعلة موضوعة يجوز دفعها، وما كان
منه لعلة لا يجوز دفعها، وفصلَ ما بين العلة التي لا يجوز دفعُها وهي عَلَى كل
حالٍ علة، وبين الامتناع الذي لا علة له إلاَّ عينُ الشيء وجنسُه.
وينبغي أنْ تعرفوا فَرْقَ ما بين المحال والممتنع، وما يستحيل كونه من اللّه عزّ
وجلّ؛ وما يستحيل كونه من الخلق.
وإذا عرفتم الجواهرَ وحظوظها من القوى، فعند ذلك فتعاطَوا الإنكارَ والإقرار،
وإلاَّ فكونوا في سبيل المتعلم، أو في سبيل من آثَر الرَّاحة ساعةً عَلَى ما يورِث
كدُّ التعلُّم من راحة الأبد، قد يكون أن يجيءَ علَى جهة التوليد شيءٌ يبعُد في
الوهم مَجيئه، ويمتنع شيءٌ هو أقرب في الوهم من غيره؛ لأنّ حقائق الأمور ومغيَّبات
الأشياء، لا تُردُّ إلى ظاهر الرَّأي، وإنما يردُّ إلى الرَّأي ما دخل في باب
الحَزم والإضاعَة وما هو أصوَبُ وأقربُ إلى نَيل الحاجة، وليس عندَ الرَّأي علْمٌ
بالنُّجْح والإكداء؛ كنحو مجيء الزُّجَاج من الرَّمل، وامتناع الشّبَهِ والزئبق من
أن يتحوَّل في طبع الذّهب والفضّة، والزئبق أشبهُ بالفضّة المايعة من الرَّمل
بالزجاج الفرعونيّ، والشَّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرَّمل بِفِلق
الزجاج النقيِّ الخالص الصافي. ومن العجب أنّ الزُّجاج - وهو مولَّد - قد يجري مع
الذهب في كثيرِ مفاخِر الذّهب؛ إذْ كان لا يغيِّر طبَعَهُ ماءٌ ولا أرض؛ والفضّة
التي ليسَتْ بمولدة إذا دفنت زماناً غير طويلٍ استحالتْ أرضاً، فأمَّا الحديد
فإنّّه في ذلك سريعٌ غير بطيءٌ.
وقد زعمَ ناسٌ أنّ الفرقَ الذي بينهما إنما هو أنّ كلَّ شيءٍ له في العالم أصلٌ
وخميرةٌ، لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتَلب ويلفَّق ويلزّق، وأن الذّهب لا يخلو من
أن يكون ركناً من الأركان قائماً منذ كان الهواء والماء والنار والأرض، فإن كان
كذلك فهو أبعد شيءٍ من أن يولِّد النّاسُ مثله، وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق
الأرض، بأن يصادف من الأرض جَوْهَراً، ومن الهواءِ الذي في خلالها جوهراً، ومن
الماءِ الملابِس لها جوهراً، وَمن النار المحصورة فيها جوهراً، مع مقدار من طول
مُرور الزمان، ومقدار من مُقَابلات البروج، فإِن كان الذَّهب إنما هو نتيجة هذه
الجواهِرِ عَلَى هذه الأسباب، فواجب ألاَّ يكون الذهب أبداً إلاّ كذلك.
فيقال لهؤلاء: أرأيتم الفأرة التي خُلِقَتْ من صُلْب جُرَذِ ورحم فأرة، وزعمتم
أنَّها فأرة على مقابلة من الأمور السَّماويّة والهوائيَّة والأرضية وكانت نتيجة
هذه الخصال، مع استيفَاء هذِه الصِّفات? ألَسْنا قَدْ وجدنا فأرة أخرى تهيَّأ لها
من أرحام الأرَضِين، ومن حَضانة الهواء، ومن تلقيح الماء، ومن مُقابلات
السماويَّات والهوائيّات، فالزَّمان أصَارَ جميع ذلك سبباً لفأرة أخرى مثلها،
وكذلك كلُّ ما عددناه فمن أين يستحيل أن يخلط الإنسانُ بينَ مائيَّة طبيعية
ومائيَّة جوهَر? إمَّا من طريق التبعيد والتقريب، ومن طريق الظُّنون والتجريب، أوْ
من طريق أنْ يقع ذلك اتفاقاً، كما صنع النَّاطف الساقط من يد الأجير في مُذَاب
الصُّفر حتى أعطاه ذلك اللّون، وجلَب ذلك النَّفع، ثم إنَّ الرِّجالَ دبرْته
وزادَتْ ونقَصَتْ، حتى صارَ شََبَهَاً ذهبياً،هذا مع النّوشاذر المولّد من الحجارة
السُّود.
فلو قلتم: إنَّ ذلك قائمُ الجوازِ في العقل مطّرد في الرَّأي، غير مستحيل في
النَّظر، ولكنَّا وجدْنا العالَم بما فيه من النَّاس منذ كانا فإنَّ النَّاس
يلتمسون هذا وينتصبون له، ويَكلَفون به، فلو كان هذا الأمرُ يجيءُ من وجه الجمع
والتوليد والتركيب والتجريب، أوْ من وجه الاتفاق، لقد كان ينبغي أنْ يكونَ ذلك قد
ظهر من ألوفِ سنينَ وأُلوف؛ إذْ كان هذا المقدارُ أقلَّ ما تؤرِّخ به الأمم، ولكان
هذا مقبولاً غيرَ مردود، وعلى أنَّه لم يتبيّنْ لنا منه أنَّه يستحيل أنْ يكون
الذَّهبُ إلاَّ من حيث وجد، وليس قُربُ كونِ الشيء في الوهم بموجب لكونهِ، ولا
بعدُه في الوهْم بموجبٍ لامتناعه.
ولو أنَّ قائِلاً قال: إنَّ هذا الأَمرَ إذ قد يحتاج إلى أنْ تتهيّأ له طباع
الأَرض، وطباع الماء، وطباع الهواءِ، وطباع النار، ومقادير حركات الفلك، ومقدارٌ
من طول الزمان، فمتى لم تجتمعْ هذه الخصالُ وتكمُلْ هذه الأُمور لم يتمَّ خلق
الذَّهب، وكذلك قد يستقيم أنْ يكون قد تهيأ لواحدٍ أن يجمع بين مائتي شكل من الجواهِرِ،
فمزجها على مقاديرَ، وطبخَها على مقادير، وأغبّها مقداراً من الزمان، وقابلت
مقداراً من حركات الأجرام السماويَّة، وصادفت العالم بما فيه على هيئة، وكان بعضُ
ما جرى على يده اتفاقاً وبعضه قصداً، فلما اجتمعت جاء منها ذهبٌ فوقَعَ ذلك في
خمسة آلاف سنة مرّة، ثمَّ أراد صاحبُه المعاوَدَة فلم يقدِرْ على أمثال مقادير
طبائع تلك الجواهِرِ، ولم يضبط مقاديرَ ما كان قصَدَ إليه في تلك المرَّة، وأخطأ
ما كان وقَعَ له اتِّفاقاً، ولم يقابل من الفلك مثلَ تلك الحركات، ولا من العالم
مثل تلك الهيئة، فلم يُعَدْ له ذلك. فإن قال لنا هذا القَول قائل وقال: بَيِّنُوا
لي موضع إحالته، ولا تحتجُّوا بتباعد اجتماع الأُمور به، فإنَّا نقر لكم بتباعدها،
هل كان عندنا في ذلك قولٌ مقنع، والدَّليل الذي تَثْلج به الصُّدور? وهل عندنا في
استطاعة النَّاس أن يولّدوا مثل ذلك، إلاَّ بأن يُعرَض هذا القول على العقول
السليمة، والأفهام التّامَّة وتردَّه إلى الرسُل والكتب? فإذا وجدنا هذه الأمور
كلها نَافيَة له، كانَ ذلك عندنا هُوَ المقنع، وليس الشأن فيما يظهر اللِّسانُ من
الشكّ فيه والتّجويز له، ولكن ليردَّه إلى العقل؛ فإنّه سيَجده منكراً ونافياً له،
إذا كان العقل سليماً من آفة المرض، ومن آفة التخبيل.
ضروب التخبيل
والتخبيل
ضروب: تخبيلٌ من المِرَار، وتخبيل من الشّيطان، وتخبيل آخر كالرجل يعمِد إلى قَلبٍ
رَطْبٍ لم يتوقّح، وذهن لم يستمِرَّ، فَيَحْمِله على الدقيق وهُو بَعْدُ لا يفي
بالجليل، ويتخطّى المقدِّمات متسكعاً بلا أمَارة، فرجع حسيراً بلا يقين، وغَبَر
زَمَانَاً لا يعرف إلاّ الشكوك والخواطر الفاسدة، التي متى لاقت القلبَ على هذه
الهيئة، كانت ثمرتها الحيرة، والقلبُ الذي يفسُد في يومٍ لا يداوَى في سنة،
والبناءُ الذي يُنقَضُ في ساعةٍ لا يبنى مثله في شهر.
قولهم: نبيذٌ يُمنع جانبه ثم رجع بنا القول إلى ذكر الذِّبَّان.
قيل لِعَلُّويه كلبِ المطبخ: أيُّ شيءٍ معنى قولهم: هذا نبيذٌ يمنع جانِبَه? قال:
يريدُون أن الذّبَّان لا يدنو منه، وكان الرّقاشي حاضراً فأنشدَ قول ابن عبدل:
إنَّ ذا مِنْ رَزِيِّتي لَعَـظِـيمْ |
|
عَشَّشَ الْعَنكَبُوت في قَعْرِ دَنِّي |
أُبْصِرَ العَنْكبُوتَ فيهِ يَعُـومْ |
|
لَيتني قد غَمَرْتُ دَني حـتَّـى |
زَبَدٌ فوقَ رأسِـه مـركـومْ |
|
غرقًا لا يُغيِثـه الـدَّهْـر إلاَّ |
أن أغثْني فإنَّني مَـغْـمـومْ |
|
مخرجًا كفَّه ينـادي ذُبـابًـا |
من شَرابٍ يشَمُّهُ المزكـومْ |
|
قال: دَعْني فََلَنْ أُطِيقَ دُنُـوًّا |
قال:
والذِّبَّان يضرَب به المثلُ في القَذَر وفي استطابة النَّتْن، فإِذا عَجزَ
الذُّبابُ عن شمِّ شيءٍ فهو الذي لا يكون أنتنُ منه.
ولذلك حينَ رمى ابنُ عبدلِ محمَّدَ بن حَسَّان بنِ سعْد بالبخر، قال:
ولو طُلِيَتْ مَشافِرُه بقَنْـد |
|
وما يدنُو إلى فيهِ ذبـابٌ |
وَشِيكاً إنْ هَمَمْنَ له بوِرْد |
|
يَرَيْنَ حلاوةً ويخفْنَ مَوتاً |
أبو ذبّان ويقال لكلِّ أبخر: أبو ذبَّان، وكانت فيما زعموا كنيةَ عبدِ الملك بن مروان وأنشدوا قولَ أبي حُزابةَ:
خَلْعَ عِنانِ قَارحٍ مِنَ الحُصُنْ |
|
أمسى أبو ذبّانَ مخلوعَ الرَّسَنْ |
|
|
وقد صفَت بَيْعَتنا لابن حسن |
شعر فيه هجاء بالذباب
قال رجل يهجو هلالَ بن عبد الملك الهُنَائيَّ:
مَوَدَّتَه وخُلَّـتَـه بـفَـلْـسِ |
|
ألا مَن يَشْتري منِّـي هِـلالاً |
هلالاً مِن خصالٍ فيه خَمْسِ |
|
وأَبرأ للذي يبـتـاعُ مِـنِّـي |
وآثارُ الجروحِ وأكْلُ ضرْسِ |
|
فمنهنَّ النغانِغُ والـمـكـاوي |
وإن كانَ الذُّبابُ برأسِ جَعْسِ |
|
ومن أخْذِ الذباب بإصبـعَـيهِ |
القول في آية قالوا: وضرب اللّه عزَّ وجلَّ لضعفِ النَّاسِ وعجزهم مثلاً، فقال: "يا أَيُّها النَّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمعُوا لَهُ إنَّ الذِين تَدْعون مِنْ دُونِ اللّه لنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه وَإنْ يسْلبْهمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يسْتنْقِذوه منْه ضَعُفَ الطّالِبُ والمطْلُوبُ". فقال بَعضُ النَّاس: قَدْ سَوّى بين الذّبّان والنّاسِ في العجْز: وقالوا: فقدْ يولِّد النَّاس من التَّعفين الفَراش وغيرَ الفُراش وهذا خلقٌ، على قوله: "وإذْ تَخْلُقُ من الطِّينَ كَهَيْئَةِ الطّيْر" وعلى قوله: "أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" وعلى قول الشاعر:
ض الْقومِ يخلُقُ ثمَّ لا يُفرِي |
|
وأرَاكَ تفْري مَا خلَقْتَ وبَعْ |
قيل
لهم: إنما أراد الاختراع، ولم يرد التَّقدير.
قول في شعر وأمّا قول ابن ميَّادة:
ولسْنا نُبالي أن يَطنّ ذُبابهـا |
|
ألا لا نُبالي أنْ تُخنِدفَ خِندفٌ |
فإنَّما جعل الذُّباب هاهنا مثلاً، وقد وضعَه في غير موضع تحقير له وموضع تصغير، وهو مثل قوله:
مَوَاليَ ذلَّتْ للهَوَانِ رِقابُـهـا |
|
بني أسَدٍ كونُوا لمن قد علمـتُـم |
عن الجنِّ حتَّى لا تَهرَّ كلابُهـا |
|
فلو حاربتْنا الجنُّ لم نرفع العصَا |
وليس
يريد تحقير الكلاب.
ويقال: هو ذباب العين، وذباب السَّيف، ويقال تلك أرضٌ مَذَبَّة أي كثيرة الذُّباب.
وقال أبو الشَّمقْمَقِ في هجائه لبعض من ابتُلي به:
كذُبَابٍ ساقطٍ في مَرَقهْ |
|
أسَمج النَّاس جميعاً كلِّهم |
ويقال
إن اللبن إذا ضرب بالكندس ونضح به بيت لم يَدْخله ذبَّان.
أبو حكيم وثمامة بن أشرس وسمعت أبا حكيم الكيمائي وهو يقول لثمامة بنِ أشرس: قلنا
لكم إنَّنا ندلكم على الإكسير، فاستثقلتم الغُرْم، وأردتم الغُنم بلا غرم، وقلنا
لكم: دَعُونا نصنع هذه الجسور صنعةً لا تنتقض أبداً، فأبيتم، وقُلنا لكم: ما
ترجُون من هذه المسنّيات التي تهدمها المُدود، وتخرِّبها المراديّ? نحنُ نعمل لكم
مسنّياتٍ بنصف هذه المؤُونِة، فتبقى لكم أبداً، ثم قولوا للمُدود أن تجتهد جهدَها،
وللمَرَاديِّ أنْ تبلغ غايتها فأبيتم، وقولوا لي: الذُّباب ما ترجون منها? وما
تشتهون من البَعُوض? وما رغْبَتُكمْ في الجرجسِ ? لمَ لا تَدَعُوني أخرجها من
بيوتكم بالمؤُونَة اليسيرة? وهو يقول هذَا القولَ وأصحابُنا يضحكون، وابن سافري
جالسٌ يسْمع.
فلما نزلنا أخذ بيده ومضى به إلى منزله، فغدَّاه وكساه وسَقاه، ثمَّ قال له:
أحببتُ أنْ تخرج البَعُوضَ من داري، فأمَّا الذُّباب فإني أحتمله، قال: ولم تحتمل
الأذى وقد أتاك اللّهُ بالفَرج? قال: فافعلْ، قال: لا بدَّ لي من أن أخلط أدوية
وأشتري أدوية قال: فكم تريد? قال: أُريد شيئاً يسيراً، قال: وكم ذاك? قال: خمسون
ديناراً، قال: ويحك خمسون يقال لها يسير? قال: أنت ليسَ تشتهي الرَّاحة من قذَر
الذِّبَّان ولسع البعوض ثمَّ لبس نعليه وقام على رجليه، فقال له: اقعد، قال: إنْ
قعدْتُ قبل أن آخذَها ثمَّ اشتريت دواءً بمائَة دينار لم تنتفعْ به؛ فإنِّي لست
أدَخِّنَ هذه الدُّخْنة، إلاَّ للذين إذا أمرتهم بإخراجهنَّ أخرَجُوهن، ولا أكتمكَ
ما أُريدُ؛ إنِّي لست أقصد إلاَّ إلى العُمَّار، فما هو إلاّ أنْ سمع بِذكر
العُمَّار حتى ذهب عقله، ودعا له بالكيس وذهب ليزن الدنَّانير، فقال له: لا تشقَّ
على نفسك هاتها بلا وزنٍ عدداً، وإنَّما خاف أن تحدث حادثَةٌ، أو يقع شغل، فتفوت،
فعدَّها وهو زَمِعٌ فغلط بعشرة دنانير، فلما انصرف وزنها وعدَّها فوَجدَ دَنانيره
تنقص، فبكَرَ عليه يقتضيه الفَضْل، فضحك أبو حكيم حتَّى كاد يموت، ثُمَّ قال:
تسألني عن الفرع وقد استُهلك الأصل? ولم يزل يختلف إليه ويدافعُه حتَّى قال له
ثمامة: ويلك أمجنونٌ أنت? قد ذهب المالُ والسُّخرية مستورة، فإن نافرْتَه فضَحْتَ
نفسَك، وربحتَ عداوة شيطانٍ هو واللّهِ أضَرُّ عليك من عُمَّارِ بيتِك، الذي ليسَ
يخرجون عنك الذبابَ والبعوض بلا كُلفة، مع حقِّ الجوار، قال: هم سكَّاني وجيرَاني،
قالوا: لو كان سمع منك أبو حكيم هذه الكلمة لكانت الخمسون ديناراً مائَةَ دينار!!
شعر في أصوات الذُّباب وغنائِها
ومما قيل في أصوات الذباب وغِنائها، قال المثقِّب العبديُّ:
كتَغريد الحمامِ على الغُصون |
|
وتسمَعُ للذِّبابِ إذا تـغـنَّـى |
وقال آخر:
تَغنّى في غَياطِله ذبابُه |
|
حُوّ مـسَـارِبُـــهُ |
وقال أبو النجم:
من زَهَرِ الرَّوْضِ الذي يكَلِّلُهْ |
|
أنفٌ ترى ذبَابها تـعَـلّـلـه |
وقال أيضاً:
فالرَّوضُ قد نوَّر في عَـزَّائه |
|
والشيخ تهديه إلى طحـمـائه |
نَوْراً تخال الشَّمْسَ في حمرائه |
|
مختلفَ الألوان في أَسـمـائه |
يجاوب المكَّاءَ مـن مُـكَّـائِه |
|
مكلَّلاً بالوردِ مـن صـفـرائه |
يَدْعو كأنَّ العَقْبَ مِنْ دُعـائه |
|
صوتُ ذبابِ العُشْبِ في دَرْمائه |
|
|
صوتُ مُغَنٍّ مَدَّ في غِـنـائه |
وقال الشمَّاخ:
|
أَهازيجُ ذِبَّانٍ عَلَى عُودِ عَوْسَجِ |
|
يكلفها ألاَّ تخفِّضَ صَـوْتـهـا |
|||
سَحيلٌ وأَعلاهُ نشيجُ المحشْرج |
|
بعيدُ مَدَى التطريبِ أوَّلُ صَوْتِه |
|
|||
المغنِّيات من الحيوان والأجناس التي توصف بالغنِاء أجناسُ الحمام والبعوض، وأصنف الذّبّان من الدَّبْر، والنَّحلِ، والشَّعْراء، والقمَع والنُّعَر، وليس لذِبَّان الكلب غِنَاء، ولا لما يخرُجُ من الباقلاء، قال الشاعر:
ذِبَّان شَعْرَاءَ وَصيفٍ ماذِلِ |
|
تذبّ عنهـا بـأَثـيثٍ ذَائلِ |
ألوان الذِّبَّان
وذِبَّان
الشَّعْرَاء حُمر، قال: والذِّبَّان التي تُهْلِكُ الإبلَ زُرق.
قال الشاعِرُ:
حَاليةً بذي سَبـيبٍ مـونِـق |
|
تربَّعَتْ والدَّهرُ ذو تصـفُّـق |
أو من نقانق الفَلا المنقْـنـقِ |
|
إلاَّ منَ أصواتِ الذّباب الأزرق |
والذّبَّان
الذي يسقط على الدواب صُفر.
وقال أرطأة بن سُهَيَّة، لزُميل بن أمِّ دينار:
أَعكِرْ عليكَ وإن ترُحْ لا تسْبـقِ |
|
أزميل إنِّي إن أكن لـك جـازياً |
وجْدَ الرِّكاب مَن الذُّبابِ الأزْرق |
|
إنِّي امروٌ تجد الرِّجال عدَاوتـي |
وإذا
مرَّ بك الشّّعر الذي يصلح للمثل وللحفظ، فَلاَ تنْسَ حظَّك من حِفظه.
وقال المتلمس:
زنابيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ |
|
فهذا أوَانُ العِرْض جُنّ ذُبَابُهُ |
وبه
سمِّي المتلمِّس.
وقال ابن ميّادة:
إذا تغرَّدَ حادٍ خلفَها طَرب |
|
بعَنْتَريسٍ كأنَّ الدَّبْرَ يلسَعُها |
ما يسمَّى بالذِّبان
والدّليل
على أنَّ أجناسَ النَّحل والدَّبْر كلّها ذِبَّان، ما حدث به عبَّاد بن صُهيب،
وإسماعيل المكّي عن الأعمش، عن عطيَّة بن سعيد العَوْفي قال: قال رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم: كلُّ ذُبابٍ في النارِ إلاَّ النَّحلة.
وقال سليمان: سمعت مجاهداً يكرهُ قتل النَّحل وإحراقَ العِظام، يعني في الغزو.
وحدثنا عَنْبسة قال: حدّثنا حنْظلة السّدُوسيُّ قال: أنبأنا أنسُ بن مالك، أنّ
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: عمر الذّبابِ أربعون يوماً، والذَُّبَاب في
النار.
بحث كلاميّ في عذاب الحيوان والأطفال وقد اختلف النَّاس في تأويل قوله: والذباب في
النار وقال قوم: الذّباب خلقٌ خُلق للنّار، كما خلق اللّه تعالى نَاساً كثيراً
للنَّار، وخلق أطفالاً للنَّار، فهؤلاء قومٌ خلعوا عُذرَهم فصار أحدهم إذا قال:
ذلك عَدْلٌ من اللّه عزَّ وجلّ؛ فقد بلغ أقصى العذر، ورأى أنَّه إذا أضاف إليه
عذاب الأطفال فقد مجَّده، ولو وجد سبيلاً إلى أَنْ يقول إنَّ ذلك ظُلم لقاله ولو
وجد سبيلاً إلى أن يزعم أنْ اللّه تعالى يخبر عن شيءٍ أنّه يكون وهو لا يكون، ثم
يقول إلاّ أنّ ذلك صدق لقاله، إلاّ أنّه يخاف السَّيف عند هذه، ولا يخاف السَّيف
عند تلك، وإن كانت تلكَ أعظم في الفِريةِ من هذه.
وبعض يزعم أنَّ اللّه عزَ وجلَّ إنَّما عذّبَ أطفال المشركين ليغمَّ بهم آباءهم،
ثمَّ قال المتعاقِلون منهم: بل عذّبهم لأنّه هكذا شاء، ولأنَّ هذا له، فليت شعري
أيحتسب بهذا القول في باب التمجيد للّه تعالى؛ لأنّ كل من فعل ما يقدر عليه فهو
محمود، وكل من لم يخف سوط أمير فأتى قبيحاً فالذي يحسن ذلك القبيحَ أنّ صاحبَه كان
في موضع أمن، أو لأنّه آمنٌ يمتنع من مطالبة السلطان، فكيف وكون الكذب والظُّلم
والعبث واللهو والبُخْل كلِّه محال ممّن لا يحتاج إليه، ولا تدعوه إليه الدواعي.
وزعم أبو إسحاقَ أنّ الطّاعات إذا استوَتْ استوى أهلُها في الثَّواب، وأنّ المعاصي
إذا استوتْ استوى أهلُها في العقاب، وإذا لم يكن منهم طاعةٌ ولا معصية استوَوْا في
التفضُّل.
وزعم أنَّ أجناس الحيوان وكلَّ شيءٍ يحسُّ ويألم، في التفضُّل سواء.
وزعم أنّ أَطفالَ المشركين والمسلمين كلَّهم في الجنّة، وزعم أنّه ليس بينَ
الأطفال ولا بينَ البهائم والمجانين فرق، ولا بين السِّباع في ذلك وبين البهائم
فرق.
وكان يقول: إنّ هذه الأبدان السبُعيّة والبهيمية لا تدخل الجنّة، ولكنَّ اللّه
عزَّ وجلّ ينقُل تلك الأرواح خالصةً من تلك الآفات؛ فيركِّبها في أيِّ الصُّور
أَحَبَّ. وكان أبو كلدة، ومَعْمَر، وأبو الهُذَيل وصحصح، يكرهون هذا الجواب،
ويقولون: سواءٌ عند خواصِّنا وعوامِّنا، أَقلنا: إنَّ أَرواحَ كلابنا تصير إلى
الجنّة، أم قلنا: إِن كلابَنا تدخل الجنّة ومتى ما اتَّصل كلامُنا بذكر الكلب على
أيِّ وجهٍ كان؛ فكأَنّا عِنْدَهم قد زعمنا أنّ الجَنّة فيها كلاب، ولكنّا نزعم أنّ
جميع ما خلَق اللّه تعالى مِنَ السِّباع والبهائم والحشرات والهمج فهو قبيح
المنظرة مؤلم، أَو حسن المَنظرة مُلِذّ؛ فما كان كالخيل والظباء، والطواويس،
والتّدَارجِ فإنَّ تلك في الجنّة، ويَلذُّ أُولياءُ اللّه عزَ وجل بمنَاظرها، وما
كان منها قبيحاً في الدُّنيا مؤلِمَ النظَر جعله اللّه عذاباً إلى عذاب أعدائه في
النّار فإذا جاء في الأثر: أنَّ الذّباب في النّار، وغير ذلك من الخلق، فإنَّما
يراد به هذا المعنى.
وذهب بعضهم إلى أنها تكون في النَّار، وتلَذُّ ذلك، كما أنَ خَزَنَةَ جهنَّم
والذين يتولَّون من الملائكة التَّعذيبَ، يلذُّون موضعَهم من النار.
وذهب بعضهم إلى أنَّ اللّه تعالى يطبَعهُم على استلذاذ النَّار والعيشِ فيها، كما
طبع ديدان الثَلج والخلِّ على العيش في أماكنها.
وذهب آخرون إلى أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ يحدث لأبدانهما علَّةً لا تصل النّار إليها،
وتنعم قلوبهما وأبدانهما من وجه آخر كيف شاء، وقالوا: وقد وجدنْا النّاسَ يحتالون
لأنفسهم في الدُّنيا حِيلاً، حتى يدخُل أحدُهم بَعضَ الأتاتين بذلك الطلاء، ولا
تضرُّه النار، وهو في معظمها، وموضع الجاحم منها، ففضْلُ ما بينَ قدرةِ اللّه
وقدرة عباده أكثر من فضل ما بينَ حَرّ نار الدُّنيا والآخرة.
وذهب بعضهم إلى أنّ سبيلها فيها كسبيل نار إبراهيم؛ فإنّه لما قُذِفَ فيها بَعَثَ
اللّه عزّ وجلّ مَلَكاً يقال له ملك الظلِّ، فكان يحدِّثُه ويُؤنْسه؛ فلم تصل
النار إلى أذاه، مع قرْبه من طباع ذلك الملَك.
وكيفَمَا دار الأمرُ في هذه الجَوَابات؛ فإن أخسَّها وأشنَعها أحسَنُ مِن قولِ
مَنْ زَعمَ أنّ اللّه تعالى يُعَذِّب بنار جهنَّمَ من لم يسخطه ولا يعقِلُ كيف يكون
السخط، ومن العَجَب أنَّ بعَضُهم يزعمُ أن اللّه تعالى إنما عذّبه ليغمَّ أباهُ،
وإنما يفعل ذلك من لا يقدر على أن يُوصِلَ إلىهم ضعف الاغتمام، وضعفَ الألم الذي
ينالهم بسبب أبنائهم، فأمّا مَن يقدِرُ على إيصال ذلك المقدارِ إلى من يستحقه،
فكيف يوصله ويصرفه إلى من لا يستحقّه?َ وكيف يصرفُه عمَّن أسخطه إلى من لم
يُسْخطه? هذا وقَد سمعوا قولَ اللّه عزّ وجلَّ: )يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ
يَفْتَدِي مِنْ عَذَاب يًومِئذٍ بِبَنِيهِ، وصَاحِبَتهِ وأخِيه، وَفصيلتِهِ التَّي
تُؤْوِيهِ، وَمَنْ في الأََرْضِ جَميِعاً ثمَّ يُنْجيهِ، كلاّ إنَّها لظَى،
نَزََّاعةً للِشَّوَى( وكيف يقولُ هذا القَوْلَ مَنْ يتلو القرآن? ثمَّ رجع بنا
القولُ إلى الذبّانِ وأصنافِ الذّبَّان.
جهل الذبان وما قيل فيها من الشعر
والذّبَّان أجهلُ الخلْق؛ لأنَّها تغْشَى النَّارَ من ذات أنفُسها حتى تحترق، وقال الشاعر:
كذاكَ الصّحيفة بالخاتـم |
|
خَتَمْت الفُؤَادَ عَلَى حُبِّهـا |
هُوِيَّ الْفَرَاشِةِ للجاحـم |
|
هوتْ بي إلى حبها نظرةٌ |
وقال آخر:
إذا ما مسَّها قَمَعُ الذُّبـابِ |
|
كأنَّ مَشافِرَ النَّجدَاتِ منهـا |
نعالُ السَّبْتِ أو عَذَبَ الثِّياب |
|
بأيدي مأتم متـسـاعـداتٍ |
نقد بيت من الشعر وقال بعض الشعراء، يهجو حارثَة بن بدر الغُدَانيَّ:
ضخْماً يُوَاريه جَنَاحُ الجُنْدُبِ |
|
زعمَتْ غُدَانةُ أنَّ فيها سـيِّداً |
وزعم ناسٌ أنّه قال:
سُكْراً، وتُشْبعُه كُراعُ الأرنب |
|
يُروِيهِ ما يُرْوِي الذُّبابَ فينتشي |
قالوا:
لا يجوز أنْ يقول: يرويه ما يروي الذباب ويوارِيه جَناحُ الجندب ثم يقول: ويشبعه
كراع الأرنب.
وإنما ذكر كُراعَ الأرنب؛ لأنّ يد الأرنب قصيرة، ولذلك تسرع في الصُّعود، ولا
يلحقها مِن الكلاب إلاَّ كلُّ قصير اليد، وذلك محمودٌ من الكلب، والفرس تُوصَف
بقصر الذِّراع.
قصة في الهرب من الذّباب
وحدّثني الحسنُ بن إبراهيم العلويُّ قال: مررتُ بخالي، وإذا هو وحده يضْحك، فأنكرتُ ضحكه؛ لأنِّي رأيتُه وحده، وأنكرته، لأنَّه كان رجلاً زمِّيتاً رَكِيناً، قليلَ الضَحِك، فسألته عن ذلك فقال: أتاني فلانٌ يعني شيخًاً مدينياً - وهو مذعور فقلتُ له: ما وراءك? فقال: أنا واللّهِ هاربٌ من بيتي قلت ولمَ? قال: في بيتي ذبابٌ أزرق، كلما دخلتُ ثَارَ في وجهي، وطار حولي وطنَّ عند أذني، فإذا وجد مني غفلةً لم يُخطئ موقَ عيني، هذا واللّهِ دأبُه ودأبي دهراً معه، قلت له: إنّ شبه الذباب بالذباب كشبه الغراب بالغراب؛ فلعلَّ الذي آذاك اليومَ أن يكونَ غيرَ الذي آذاك أمسِ، ولعلَّ الذي آذاك آمسِ غيرُ الذي آذاك أوَّل من أمسِ، فقال: أعتقُ ما أملك إن لَمْ أكن أعرفه بعينه منذُ خمس عشرة سنة، فهذا هو الذي أضحكني.
قصة في سفاد الذباب
وقال
الخليلُ بن يحيى: قد رأيت الخنزير يركَبُ الخنزيرة عامَّة نهارِه، ورأيتُ الجمل
يركبُ الناقة ساعةً من نهاره، وكنت قبل ذلك أغبط العصفور والعصم - فإنَّ الذّكرَ
وإنْ كان سريعَ النُّزول عن ظهر الأنثى فإنّه لسُرعةِ العودة، ولكثرةِ العدد،
كأنّه في معنى الخنزير والجمل وحتّى رأيت الذُّبابَ وفطنت له، فإذا هو يركب الذُّبابة
عامَّة نهارِه، فقال له محمد بن عمر البكراوي: ليس ذلك هو السّفاد، قال: أمَّا
الذي رأت العينانِ فهذا حكُمه، فإن كنتَ تريد أنْ تطيب نفْسُك بإنكار ما تعرفُ
ممّا قسَم اللّّه عزّ وجلّ بين خلقه، من فضول اللّذَّة، فدونك..
سفاد الورل ويزعمون أنّ للوَرل في ذلك ما ليس عند غيره.
قصَّة آكل الذّبّان
وأنشدَ ابن داحة في مجلس أبي عبيدة، قولَ السَّيِّد الحميريِّ:
وأبا قـحـافة آكِـلَ الـذّبَـان |
|
أترى ضهاكاً وابنها وابن ابنهـا |
يأتي بهنّ تصـرُّفُ الأزْمـانِ |
|
كانوا يَرون وفي الأمور عجائبٌ |
فيهم تصير وهَيْبَةَ السُّلـطـانِ |
|
أنّ الخِلافَة في ذؤابةِ هـاشـمٍ |
وكان ابن داحة رافضيًاً، وكان أبو عبيدة خارجيّاً صُفرْياً، فقال له: ما معناه في قوله: آكل الذّبّان? فقال: لأنّه كان يذبُّ عن عطر ابن جُدْعان، قال: ومتى احتاج العطّارون إلى المذابّ? قال: غلطت إنَّما كان يذبُ عن حَيْسة ابن جدعان، قال: فابن جُدعان وهشامُ بن المغيرة، كان يُحاسُ لأحدهما الحَيْسةُ على عدَّة أنطاع، فكان يأكلُ منها الراكبُ والقائمُ والقاعدُ فأين كانت تقعُ مِذَبّةُ أبي قُحافَةَ من هذا الجبل? قال: كان يذبُّ عنها ويدورُ حوالَيها، فضحكوا منه، فهجر مجلسهم سنةً.
تحقير شأن الذُّبابة
قال: وفي باب تحقير شأن الذبابة وتصغير قدرها، يقول الرسول: لو كانت الدُّنيا تُساوي عند اللّه تعالى جَناحَ ذبابةٍ ما أعطى الكافَر منها شيئاً.
أعجوبة في ذبان البصرة
وعندنا
بالبصرة في الذبّان أعجوبة، لو كانت بالشّاماتِ أو بمصر لأدخلوها في باب الطِّلّسْم؛
وذلك أنّ التَّمْر يكونُ مصبوباً في بيادر التمر في شقّ البساتين، فلا ترى على
شيءٍ منها ذُبَابَةً لا في اللّيل، ولا في النّهار، ولا في البَرْدَين ولا في
أنصاف النهار، نعم وتكون هناك المعاصر، ولأصحاب المعاصر ظلال، ومن شأن الذُّباب
الفِرارُ من الشّمس إلى الظِّلّ، وإنَّما تلك المعاصر بين تمرة ورُطَبَة، ودِبْس
وثجير، ثمَّ لاتكاد ترََى في تلك الظّلال والمعاصر، في انتصاف النهار، ولا في وقت
طلب الذِّبَّان الكِنَّ، إلاَّ دونَ ما تَراه في المنزل الموصوف بقلّة الذِّبَّان.
وهذا شيء يكون موجوداً في جميع الشّقِّ الذي فيه البساتين، فإن تحوَّل شيء من تمر
تلك الناحية إلى جميع ما يقابلها في نواحي البصرة، غشيَه من الذّبان ما عسى ألاّ
يكونَ بأرض الهند أكثرُ منه وليس بين جزيرة نهر دُبَيس، وبين موضع الذبّان إلاّ
فيض البصرة، ولا بين ما يكون من ذلك بنهر أذرب وبين موضع الذبّان ممّا يقابله،
إلاّ سيحان، وهو ذلك التمر وتلك المعصرة، ولا تكون تلك المسافة إلاّ مائة ذراع أو
أزيَدَ شيئاً أو أنْقصَ شيئاً.
نوم عجيب لضُروبٍ من الحيوان وأعجوبة أُخرى، وهي عندي أعجبُ من كلِّ شيءٍ
صدَّرنا به جملة القَوْل في الذباب، فمن العجب أن يكون بعض الحيوان لا ينامُ
كالصافر والتُنَوِّط؛ فإنَّهما إذا كان اللّيلُ فإن أحدهما يتدلَّى من غصن
الشّجرة، ويضمُّ عليه رجليه، وينكِّس رأسه، ثمَّ لا يزال يصيحُ حتَّى يبرُقَ
النُور، والآخرُ لا يزالُ يتنقَّل في زوايا بيته، ولا يأخذه القرار، خوفاً على
نفسه، فلا يزال كذلك، وقد نتفَ قبلَ ذلك ممَّا على ظهور الأشجار مما يشبه الليف
فنفشَه، ثمَّ فتلَ منه حبلاً، ثمَّ عمِلَ منه كَهَيئةِ القفَّة، ثمَّ جعله مُدلًّى
بذلك الحبل، وعقَدَه بطَرَف غًُصنٍ من تلك الأغصان؛ إلاَّ أنَّ ذلك بترصيعٍ ونسْج،
ومُدَاخلَةٍ عجيبة؛ ثمَّ يتَّخذ عشَّه فيه، ويأوي إليه مخافة على نفسه.
والأعرابُ يزعمون أنَّ الذِّئبَ شديدُ الاحتراس، وأنَّه يُرواح بينَ عينَيه،
فتكونُ واحدة مطبقة نائمة وتكون الأخرى مفتوحة حارسةً ولا يشكُّون أنّ الأرنب تنام
مفتوحة العينين.
وأمَّا الدَّجاج والكلاب فإنما تعزُب عقولهما في النَّوم، ثمَّ ترجع إليهما بمقدار
رجوع الأنْفاس، فأمَّا الدَّجاج فإنها تفْعَل ذلك من الجبن وأمَّا الكلب فإنَّه
يفعل ذلك من شدّة الاحتراس.
وجاؤوا كلهم يخبرون أن الغرانيق والكراكيّ لا تنامُ أبداً إلاّ في أبعدِ المواضعِ
من النَّاس، وأحْرَزِها مِن صغار سباع الأرض، كالثعلب وابن آوى، وأنها لا تنام حتى
تقلِّد أمرَها رئيساً وقائداً، وحافظاً وحارساً، وأن الرئيس إذا أعيا رفَعَ إحدى
رجليه، ليكون أيقَظَ له.
سلطان النوم وسلطان النَّوم معروف، وإن الرَّجل ممن يغزو في البحر، ليعتصمُ
بالشِّراع وبالعود وبغير ذلك، وهو يعلم أن النَّومَ متى خالطَ عينَيه استرخَتْ
يدُه، ومتى استرختْ يدُه بايَنَهُ الشيءُ الذي كان يركبه ويَستَعْصم به، وأنه متى
بايَنه لم يقدرْ عليه، ومَتى عجز عن اللّحاق به فقد عطب، ثمّ هو في ذلك لا يخلو،
إذا سَهِر ليلة أو ليلتين، من أنْ يغلِبه النَّومُ ويقهرَه، وإمَّا أنْ يحتاج إليه
الحاجة التي يريه الرأي الخوّان، وفسادُ العقْلِ المغمُور بالعِلَّة الحادثة، أنّه
قد يمكن أنْ يُغفيَ وينتبهَ في أسرع الأَوقات، وقبلَ أنْ تَسترخِيَ يدُهُ كلَّ
الاسترخاء، وقبلَ أن تبايِنه الخشَبةُ إن كانتْ خشبة.
العجيبة في نوم الذبان
وليس
في جميع ما رأينا وروَينا، في ضروبِ نومِ الحيوان، أعجبُ من نوم الذِّبّان، وذلك
أنَّها ربما جعلت مأْواها بالليل دَرْونْد الباب وقد غشَّوه ببطانَةِ ساجٍ أملسَ
كأنَّه صَفاةٌ، فإِذا كان اللَّيلُ لزقت به، وجعلت قوائمها مما يليه، وعلّقت
أبدانها إلى الهواء، فإن كانت لا تنام البتَّةَ ولايخالُطُها عُزوب المعرفة فهذا
أعجب: أنْ تكونَ أمّةٌ من أمم الحيوانِ لا تعرف النَّومَ، ولا تحتاج إليه، وإن
كانت تنام ويعزب عنها ما يعزُب عن جميع الحيوان سوى ما ذكرنا، فما تخلو من أن تكون
قابضةً على مواضع قوائمها، ممسكة بها، أو تكون مرسلة لها مخلّية عنها، فإنْ كانت
مرسِلةً لها فكيف لم تسقطْ وهي أثقلُ من الهواء? وإن كانت ممسكة لها فكيف يجامع
التشدُّد والتثبيت النَّوم?.
بعض ما يعتري النائم ونحن نرى كلَّ من كان في يده كيس أوْ دِرهمْاً و حبلٌ، أو عصا
فإنّه متى خالط عينَيْه النَّوم استرخَتْ يده وانفتحت أصابعُه، ولذلك يتثاءب
المحتال للعبْد الذي في يده عِنان دابّةِ مولاه، ويتناوم له وهو جالس؛ لأنَّ من
عادةِ الإنسان إذا لم يكن بحضرتِه من يشغله، ورأى إنساناً قَبالَتَه ينودُُ أو
يَنْعس، أن يتثاءب وينعَس مثله، فمتى استرخَتْ يدُه أو قبضته عن طَرَف العِنان،
وقد خامَرهُ سُكْرُ النَّوم، ومتى صار إلى هذه الحال - ركب المحتال الدَّابَّة
ومرّ بها.
الغربان
اللهم
جنبنا التكلُّف، وأعِذْنَا مِن الخطَأ، واحْمِنا العُجْبَ بما يكون منه، والثِّقة
بما عندنا، واجعلْنا من المحسنين.
نذكر على اسم اللّه جُمَلَ القولِ في الغِربان، والإخبار عنها، وعن غريبِ ما
أُودِعَتْ من الدّلالة، واستُخْزِنت من عجيب الهداية. وقد كُنَّا قدَّمنا ما تقول
العربُ في شأنِ منادَمِة الغُراب والدِّيكَ وصداقتِه له، وكيف رهنه عند الخمََّار،
وكيف خاسَ به وسخِرَ منه وخدعه وكيف خرج سالماً غيرَ غارم، وغانماً غيرَ خائب،
وكيف ضربت به العربُ الأمثالَ، وقالت فيه الأشعار، وأدخلتْه في الاشتقاقِ لزجْرها
عند عيافتها وقِيافتها، وكيف كان السبب في ذلك.
ذكر الغراب في القرآن فهذا إلى ما حكى اللّهُ عزَّ وجلَّ من خبر ابنَيْ آدمَ، حينَ
قرَّبا قرباناً فحسَدَ الذي لم يُتقبَّلْ منه المتقبل منه، فقال عندما همَّ به مِن
قتلِه، وعند إمساكِه عنه، والتَّخليةِ بينَه وبين ما اختارَ لنفسه: "إنِّي
أُريدُ أنّ تَبُوءَ بِإثْمي وإثمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصْحَاب النَّارِ وَذلِكَ
جَزاءُ الظَّالمِينَ"، ثُم قال: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أخيِهِ فَقَتَلَهُ فَأصْبَحَ مِنَ الخاسِريِنَ فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحثُ في
الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أخِيهِ" حتّى قال القائل، وهو أحد
ابني آدم ما قال: فلولا أنّ للغُراب فضيلةً وأموراً محمودةً، وآلةً وسبباً ليس
لغيره من جميع الطّير لما وضعه اللّهُ تعالى في موضعِ تأديبِ الناس، ولما جعله
الواعِظ والمذَكِّرَ بذلك، وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ: "فبعَث اللهُ غَراباً
يَبْحَث في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُواري سَوْءَةَ أخِيهِ"، فأخْبر أنّه
مبعوثٌ، وأنه هو اختاره لذلك مِنْ بين جميع الطّير.
قال صاحب الدِّيك: جعلت الدَّليلَ على سوء حاله وسقوطِهِ الدَّليلَ على حُسنِ حاله
وارتفاعِ مكانه، وكلما كان ذلك المقرَّعُ به أسفَلَ كانت الموعظة في ذلك أبلغَ،
ألا تَرَاهُ يقول: "يا وَيْلَتَي أعَجَزْت أنْ أكونَ مثْلَ هذا الْغُرَابِ
فأُوَارِي سَوْءَةَ أخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ".
ولو كان في موضعِ الغُرابِ رجلٌ صالحٌ، أو إنسانٌ عاقلٌ، لما حَسُن به أن يقولَ:
يا ويْلتى أعجَزت أنْ أكون مثلَ هذا العاقِل الفاضل الكريمِ الشَّريف، وإذا كان
دوناً وَحقيراً فقال: أعجزتُ وأنا إنسانٌ أن أُحسِنَ ما يحسنه هذا الطائر، ثمّ
طائِرٌ من شِرار الطير، وإذا أراهُ ذلك في طائرِ أسودَ محترقٍ، قبيحِ الشَّمائِلِ،
رديء المَشْيَة، ليس من بهائم الطير المحمودة، ولا من سباعها الشريفة، وهو بَعْدُ
طائرٌ يتنكَّد به ويتطيَّر منه، آكلُ جيف، رديءُ الصيّد، وكلما كان أجهلَ وأنْذل
كان أبلغَ في التَّوبيخ والتّقريع.
وأمّا قوله:"فَأَصْبَحَ مِنَ النّادمِينَ" فلم يكنْ به على جهة الإخبار
أنّه كانَ قَتَلهُ ليلاً، وإنما هو كقوله: "وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئذ
دُبُرَهُ إلاّ مُتَحرِّفاً لِقتال أوْ مُتحيِّزاً إلى فئةٍ فقدْ باء بِغضبِ مِنَ
اللّهِ"، ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللَّفظ دونَ المستعمل في الكلامِ من
عادات الناس، كان من فرَّ من الزَّحفِ ليلاً لم يلزمْه وَعيد، وإنما وقع الكلامُ
على ما عليه الأغلبُ من ساعاتِ أعمال الناس، وذلك هو النّهارُ دون اللّيل.
وعلى ذلك المعنى قال صالح بن عبد الرحمن، حين دفعوا إليه جوَّاباً الخارجيَّ ليقتله،
وقالوا: إن قتله برئت الخوارجُ منه، وإن ترك قتْله فقد أبدى لنا صفحته، فتأوّل
صالحُ عند ذلك تأويلاً مستنكراً: وذلك أنّه قال: قد نجِدُ التّقِيَّة تسيغ الكفر،
والكفر باللسان أعظم من القتل والقذْفِ بالجارحة، فإذا جازت التقِيَّة في الأعظم
كانت في الأصغر أجوز، فلما رأى هذا التأويل يطّرد له، ووجد على حال بصيرته ناقصة،
وأحسّ بأنّه إنما التمس عُذْراً ولزّق الحجّة تلزيقاً فلمَّا عزمَ على قتل جوّاب،
وهو عنده واحدُ الصُّفرية في النُّسك والفضل قال: إني يومَ أقتُل جَوّاباً على هذا
الضّربِ من التأويل لحريصٌ على الحياة ولو كان حين قال إني يوم أقتل جوَّاباً إنما
عنى النهارَ دون اللَّيل، كان عند نفسه إذا قتلهُ تلك القتلة ليلاً لم يأثم به،
وهذا أيضاً كقوله تعالى: "ولا تَقُولنَّ لشيْءٍ إنِّى فاعِلٌ ذلك غَداً إلا
أن يشاء اللّهُ".ولو كان هذا المعنى إنما يقع على ظاهر اللفظ دونَ المستعمَلِ
بين الناس، لكان إذا قال من أوّل الليل: إني فاعِلٌ ذلك غداً في السَّحر، أو مع
الفجر أو قال الغداة: إني فاعِلٌ يومي كلّه، وليلتي كلها، لم يكنْ عليه حِنث، ولم
يكن مخالفاً إذا لم يستثن، وكان إذن لا يكون مخالفاً إلاّ فيما وقع عليهِ اسمُ غد،
فأمّا كلُّ ما خالفَ ذلك في اللَّفظ فلا، وليس التّأويل كذلك لأنَّه جلَّ وعلا
إنما ألزمَ عبدهَ أن يقول: إن شاء اللّه، ليَتَّقى عَادَةِ التألِّي ولئلا يكونَ
كلامُه ولفظُه يشبه لفظ المستبدِّ والمستغْني، وعلى أن يكون عِنْد ذلك ذاكرَ
اللّه، لأنه عبدٌ مدبَّرٌ، ومقلَّب ميَّسر،ومصرَّفٌ مسخَّر.
وإذا كان المعنى فيه، والغايَةُ التي جرى إليها اللفظ، إنما هو على ما وصفنا، فليس
بين أن يقول أفعَلُ ذلك بعْدَ طرْفَةٍ، وبين أن يقولَ أفعَلُ ذلك بَعْدَ سنةٍ
فرقٌ.
وأمَّا قوله: "فَأَصْبحَ مِنَ النّادمِيِن" فليس أنّه كان هنالك ناسُ قتلوا
إخوتَهُمْ ونَدموا فصارَ هذا القاتلُ واحداً منهم؛ وإنما ذلك على قوله لآدم
وحَوّاء عليهما السلام: "ولا تقْرَبا هذهِ الشَّجرَةَ فتكونا مِنَ
الظَّالِمينَ"، على معنى أن كلّ من صنع صنيعكما فهو ظالم.
الاستثناء في الحلف
وعجبت من ناسٍ ينكرون قولنا في الأستثناء، وقد سمعوا اللّه عزَّ وجلَّ يقولُ: "إنّا بَلَوْنَاهُمْ كما بَلوْنا أصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أقْسَموا ليَصْرِمُنَّها مُصْبِحينَ، ولا يَسْتَثْنون، فطافَ عليْها طائفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائُمونَ، فأصْبَحَتْ كالصّرِيمِ"، مع قوله عزَّ وجلَّ: "ولا تَقُولنَّ لِشيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلك غداً إلاّ أنْ يشاءَ اللّه".
تسمية الغراب ابن دأية
والعربُ تسمِّي الغرابَ ابن دأية، لأنَّه إذا وجد دَبَرَةً في ظهر البعير، أو في عنقه قرحة سقط عليها، ونقرهُ وأكله، حتَّى يبلغ الدَّايات، قال الشاعر:
بيثربَ حتى نَيُّها متظـاهـر |
|
نَجِيبة قرْمٍ شادَها القَتُّ والنَّوى |
سنامكِ ملمومٌ ونابُكِ فاطِـرُ |
|
فقلتُ لها سيري فما بكِ عِلّة |
تقلِّب عينيها إذا مـرّ طـائر |
|
فمِثْلكِ أو خيراً ترَكْـتُ رذِيّة |
ومثله قول الرَّاعي:
صقورِيََ غِرْبان البَعيرِ المقـيدِ |
|
فلو كنت معذوراً بنصْرِك طيّرت |
هذا
البيت لعنترة، في قصيدة له، ضرب ذلك مثلاً للبعير المقيّد ذي الدّبَر، إذا وقعت
عليه الغِرْبان.
غرز الريش والخِرق في سنام البعير وإذا كان بظهر البعير دَبَرَةٌ غرزوا في سنامه
إمّا قوادمَ ريش أسود وإمّا خرَقاً سُوداً، لتفزع الغِرْبانُ منْهُ، ولا تسقط
عليه، قال الشاعِرُ، وهو ذو الخِرَق الطُّهوي:
هَزْلى عجافاً عليها الرِّيشُ والخِرَقُ |
|
لما رَأتْ إبلي حطت حمولـتـهـا |
عمَّا نلاقي فشرُّ العيشة الـرَّنَـقُ |
|
قالتْ ألا تبتغي عيشاً نـعـيشُ بـه |
الرَّنَق، بالرّاء المهملة، وبالنون، هو الكدِرُ غير الصافي وقال آخر:
في حيثما صرفته الرِّيح ينصرف |
|
كأنَّها ريشةٌ في غـاربٍ جـرزٍ |
جَرَز: عظيم، قال رؤبة:
عن جَرَزٍ منه وجوزٍ عارِ |
غرز
الريش وجوز عاره وقد توضع الرّيش في أسنمتها وتغرز فيها لغير ذلك، وذلك أنَّ
الملوك كانت تجعل الرّيش علامة لحباء الملك، تحميها بذلك وتشرِّف صاحبها.
قال الشاعر:
كاللّيلِ قبلَ صَباحهِ المتبلـجِ |
|
يهبُ الهِجانَ بريشها ورِعائها |
ولذلك قالوا في الحديث: فرجع النَّابغة من عند النُّعمان وقد وهبَ له مائَةً من عصافيره بريشها وللرِّيش مكان آخر: وهو أنّ الملوك إذا جاءتها الخرائطُ بالظَّفَر غرزتْ فيها قوادمَ ريشٍ سُود،
غربان الإبل
وقال الشاعر:
تطيرُ به الغِربان شَطْرَ المواسم |
|
سأرفَعُ قولاً للحُصين ومـالـكٍ |
بأمْثالِهِ الغازينَ سَجْعُ الحمـائمِ |
|
وتروى به الهيمُ الظماءُ ويطَّبي |
يعني غِرْبان الليل، وأمّا قوله: وتروى به الهيمُ الظِّماء فمثل قول الماتحِ:
بجاذل لا رَفِلِ التَّـرَدِّي |
|
علِقت يا حارث عِندَ الوِرْدِ |
|
|
ولا عَييٍّ بابتناء المجْـدِ |
شعر في تعرض الغربان للإبل وقالوا في البعير إذا كان عليه حِملٌْ من تمر أو حبٍّ، فتقَدَّم الإبلَ بفضل قُوَّته ونشاطه، فعرض ما عليه للغربان، قال الرَّاجز:
عليكَ بالقود المسانيف الأُوَل |
|
قد قلتُ قولاً للغرابِ إذْ حَجَلْ |
|
|
تَغَدَّ ما شئت على غير عَجَلْ |
ومثله:
حمراءَ من مُعَرِّضاتِ الغِرْبانْ |
|
يقدُمُها كـلُّ عـلاة مـذعـان |
أمثال في الغراب
ويقال:
أصحُّ بدناً مِنْ غراب، و أبصَرُ مِنْ غُراب، و أصفى عيناً من غراب.
وقال ابن ميّادة:
حِرَاجٌ من الظلّماء يعشى غُرابُها |
|
ألا طرقَتـنـا أُمُّ أوسٍ ودونـهـا |
من المِسْكِ أو دارِيَّةٌ وعيابُـهـا |
|
فبتْنا كأنّـا بَـيْنـنـا لـطـمـيّةٌ |
يقول:
إذا كان الغراب لا يبصر في حِراج الظلماءِ، وواحد الحِراج حَرَجة، وهي هاهنا
مثَلٌ، حيث جعل كلَّ شيءٍ التفَّ وكثفَ من الظلام حِراجاً، وإنّما الحِراجُ من
السِّدْرِ وأشباه السّدر.
يقول: فإذا لم يبصرْ فيها الغرابُ مع حدَّةِ بصره، وصفاء مُقْلته فما ظنُّك بغيره?
وقال أبو الطمحان القيْنيُّ:
كعين الغراب صَفْوُها لم يكدّرِ |
|
إذا شاء راعيها استقى مِنْ وقيعةٍ |
والوقيعة:
المكان الصلب الذي يُمسك الماء، والجمع الوقائع.
استطراد لغوي قال: وأنشدنا أبوعمرو بن العلاء، في الوقائع:
وقائع للأبْوالِ والمـاءُ أبـرَدُ |
|
إذا ما استبالوا الخيل كانت أكفهم |
يقول:
كانوا في فلاةٍ فاستبالوا الخيل في أكفهم، فشربوا أبوالها من العطش.
ويقال شهد الوقيقة والوقْْعَة بمعنًى واحد، قال الشاعرُ:
على زفَرٍ داءً من الشَّرِّ باقيا |
|
لعمري لقد أبقتْ وقِيعةُ راهطٍ |
وقال زُفَر بنُ الحارث:
لِمرْوان صدْعاً بيننا متـنـائيا |
|
لعمري لقد أبقتْ وقيعة راهطٍ |
وقال الأخطل:
إلى الله منها المشتكى والمعوَّل |
|
لقد أوقع الجحّافُ بالبشْرِ وقْعَةً |
أمثال من الشعر والنثر في الغراب
وفي صحّة بدن الغراب يقول الآخر:
قدْ ضَجَّ مِنْ طُولِ عُمْرِهِ الأبـد |
|
إنّ مُعاذَ بـن مـسـلِـمٍ رجُـلٌ |
ر وأثْـوابُ عُـمْـرهِ جُــدُدُ |
|
قَدْ شاب رأسُ الزَّمانِ واكتهل الدّهْ |
تَسْحَـبُ ذيل الـحـياة يا لُـبَـد |
|
يا نَسْر لقْمانَ كمْ تـعـيش وكـم |
وأنت فـيهـا كـأنَّـك الـوَتِـدُ |
|
قد أصبحـتْ دارُ آدَمٍ خـرِبَـتْ |
كيف يكونُ الصُّـدَاعُ والـرَّمَـدُ |
|
تسألُ غِربانَـهـا إذا حَـجَـلـتْ |
ويقال: أرضٌ لا يطير غرابها، قال النَّابغة:
في المجد ليس غرابُها بمُطارِ |
|
وَلِرَهْطِ حرّابٍ وقـدٍّ سَـوْرَةٌ |
جعله
مثلاً، يعني أنّ هذه الأرض تبلغ من خِصبها أنَّه إذا دخلها الغراب لم يخرُج منها،
لأنّ كلّ شيءٍ يريدهُ فيها.
وفي زهوِ الغُراب يقول حسَّان، في بعضِ قريش:
شجَنٌ لأمِّك مِن بناتِ عُـقـاب |
|
إنّ الفرافِصة بن الأحْوصِ عِنده |
في فحش مُومِسةٍ وزهْوِ غرابِ |
|
أجمَعْتَ أنَّك أنت ألأمُ مَنْ مشـى |
ويقال: وجد فلان تمْرَة الغُراب، كأنّه يتّبع عندهم أطيب التمر ويقال: إنّه لأَحْذَرُ مِنْ غراب و: أشد سواداً من غراب وقد مدحوا بسَوادِ الغراب، قال عنترة:
سُوداً كخافيةِ الغرابِ الأسحمِ |
|
فيها اثنتان وأرْبَعُون حلـوبَة |
وقال أبو دؤاد:
نَفْيَ الغُرابِ بأعلى أنفه الغَـرَدا |
|
تنفي الحصى صُعُداً شِرْقِيَّ مَنْسِمِها |
والمغاريد: كَمْءٌ، صِغار، وأنشَد:
فاستُ الطبيب ِقذاها كالمغاريدِ |
|
يَحُجُّ مأْمومةً في قعْرها لَجَفٌ |
وقد
ذكرنا شدَّة منقاره، وحدَّة بصره في غير هذا المكان.
شعر في مديح السواد وقالوا في مديح السواد، قال امرؤ القيس:
والأُذْن مصْغِيةٌ واللَّونُ غِربيبُ |
|
العينٌ قادحة والـيدُّ سـابـحة |
وفي السَّواد يقول ربيِّعة أبُو ذؤابٍ الأسدي، قاتل عتيبة بن الحارث بن شهاب:
|
خلقٌ كسحقِ الْيُمْنَةِ المنجابِ |
|
إن المودة والهوادة بينـنـا |
|||
سُودِ الجلود من الحديدِ غضابِ |
|
إلاَّ بجـيشٍ لا يكـتُّ عـديدُه |
|
|||
شعر ومثل في شيب الغراب وفي المثل: لا يكون ذلك حتّى يشيبَ الغُراب، وقال العرْجيُّ:
أبداً أو يحولَ لون الغرابِ |
|
لا يحولُ الفؤادُ عنه بـوُدٍّ |
وقال ساعدة بن جُؤَيّة:
عَهْدَ الغَضوبِ ولا عتابُكَ يُعتِبُ |
|
شاب الغراب ولا فؤادك تارك |
معاوية
وأبو هوذة الباهلي ومما يذكر للغراب ما حدّث به أبو الحسن، عن أبي سليم، أنَّ
معاوية قال لأبي هوذة بن شمّاس الباهليِّ: لقد هممت أن أحمِلَ جمْعاً من باهلة في
سفينةٍ ثم أغرقهم فقال أبو هوْذة: إذنْ لا ترضى باهلةُ بعِدّتِهِمْ من بني أمية
قال: اسكت أيُّها الغرابُ الأبقع وكان به برص، فقال أبو هوذة: إنَّ الغراب الأبقع
ربَّما درج إلى الرَّخمةِ حتى ينقر دِماغها، ويقلع عينيها فقال يزيد بن معاوية:
ألا تقتله يا أمير المؤمنين? فقال: مَهْ ونهض معاوية، ثمَّ وجهه بعدُ في سرِيَّة
فقتل، فقال معاوية ليزيد: هذا أخفى وأصوب.
شعرفي نقر الغراب العيون وقال آخر في نقْر الغراب العُيونَ:
يُرِيغُ سوادَ عينيهِ الغُـرابُ |
|
أتوعد أسرتي وتركتَ حُجْراً |
رضيتَ من الغنيمةِ بالإيابِ |
|
ولو لاقيت عِلباءَ بن جَحْشٍ |
وقال أبو حيَّة - في أنّ الغراب يسمُّونه الأعور تطيُّراً منه -:
مَرَّت تليح من الغُرابِ الأعورِ |
|
وإذا تُحَلُّ قتودهـا بـتـنـوفةٍ |
لأنها تخاف من الغربان، لما تعلمُ من وقوعها على الدَّبر شعر فيه مدح لون الغراب ومما يَمْدح به الشُّعراءُ بلون الغراب قال أبو حيّة:
ألا سَقْياً لذلك مِنْ غُرابِ |
|
غرابٌ كانَ أسْودَ حالكيّاً |
وقال أبو حيَّة:
فطيَّرهُ الدَّهْرُ عني فطـارا |
|
زمانَ عَلَيََّ غرابٌ غـدافٌ |
وإن كان لا هو إلاّ ادّكـارا |
|
فلا يُبعدِ اللّه ذاك الـغُـدافَ |
مُحيطاً خِطاماً مُحيطاً عذارا |
|
فأصبح موضعـهُ بـائضـاً |
وقال أبو حيّة في غير ذلك ،وهو مما يُعدّ للغراب:
بما سال من غربانهنَّ من الخطْر |
|
كأنّ عصيم الوَرْس منهنَّ جاسـدٌ |
استطراد لغوي
والغراب ضروب، ويقع هذا الاسم في أماكن، فالغراب حدُّ السكين والفأسِ، يقال فأْسٌ حديدة الغراب، وقال الشّماخ:
عدُوٌّ لأوْساطِ العِضاهِ مُشارِزُ |
|
فأنحى عليها ذات حدٍّ غرابها |
المشارزة:
المعاداة والمخاشنة.
والغراب:حدُّ الورك ورأسه الذي يلي الظهر، ويبْدأ من مؤخَّر الرِّدف، والجمعُ
غِربان، قال ذو الرُّمَّة:
تَقَوَّب من غِربان أوراكها الخطْرُ |
|
وقَرَّبْنَ بالزُّرقِ الحمائل بعـدَ مـا |
تقوَّب: تقشر ما على أوراكها من سلْحِها وبولها، من ضربها بأذنابها.
غراب البين
وكلّ غراب فقد يقال له غراب البين إذا أرادوا به الشؤم، أمّا غراب البين نفسه، فإنَّه غرابٌ صغير، وإنِّما قيل لكلِّ غراب غراب البين، لسقوطها في مواضعِ منازلهم إذا بانوا عنها، قال أبو خولة الرِّياحيّ:
ولا دَنس يسودُّ منه ثيابُـهـا |
|
فليس بيربوعٍ إلى العقْل فاقَةٌ |
لهم هذه أم كيف بعدُ خِطابها |
|
فكيف بنوكي مالك إن كفرتم |
ولا ناعبٍ إلاّ ببينِ غرابهـا |
|
مَشَائم ليسُوا مُصلحين عشيرةً |
الوليد بن عقبة وعبد اللّه بن الزبير
ومن الدَّليل على أنّ الغرابَ من شرارِ الطَّير، ما رواه أبو الحسن قال: كان ابنُ الزبير يقعد مع معاوية على سريره، فلا يقدر معاوية أن يمتنع منه، فقال ذات يومٍ: أما أحدٌ يكفيني ابن الزبير? فقال الوليد بن عقبة: أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين،فسبق فقعد في مقعده على السرير، وجاء ابن الزبير فقعد دون السرير، ثمَّ أنشد ابن الزبير:
وَقَدْ كان ذَكْوانٌ تكنّى أبا عمرِو |
|
تسمّى أباناً بعد ما كان نافـعـاً |
فانحدرَ الوليدُ حتى صار معه، ثم قال:
|
صفِيَّةُ ما عُدِدْتم في النَّـفـيرِ |
|
ولولا حُرَّة مهَدَتْ عـلـيْكـمْ |
|||
|
ولا جلس الزبير على السرير |
|
ولا عُرفَ الزبـيرُ ولا أبـوه |
|||
فكنتم شرَّ طيرٍ في الطيور |
|
وددْنا أنَّ أمّـكـم غـراب |
|
|||
القواطع والأوابد
قال أبو زيد: إذا كان الشتاء قطعت إلينا الغربان، أي جاءت بلادنا، فهي قواطعُ إلينا، فإذا كان الصيف فهي رواجع، والطير التي تقيم بأرض شتاءها وصيفها أبداً فهي الأوابد، والأوابد أيضاً هي الدواهي، يقال جاءنا بآبدة، ومنها أوابد الوحْش، ومنها أوابد الأشعار، والأوابد أيضاً: الإبل إذا توحَّش منها شيءٌ فلم يُقدرَ عليه إلا بعقْر، وأنشد أبو زيد في الأوابد:
طامٍ فلمْ ألْقَ به فُرَّاطا |
|
ومَنْهل وَرَدْته التقاطـا |
|
|
إلاَّ القطا أوابداً غطاطا |
صوت الغراب
ويقال نغق الغراب ينغِق نغيقاً، بغين معجمة، ونعت ينعب نعيباً بعين غير معجمة، فإذا مرّت عليه السِّنون الكثيرة وغلظ صوته قيل شحَج يشحج شحيجاً، وقال ذو الرُّمَّة:
مثاكيلُ من صُيّابةِ النُّوب نُوَّح |
|
ومُسْتَشْحجاتٍ بالفراقِ كأنّهـا |
والنُّوبة
توصف بالجزع.
أثر البادية في رجال الروم والسند وأصحاب الإبل يرغبون في اتخاذ النوبة والبربر
والرُّوم للإبل، يرون أنهم يصلحون على معايشها، وتصلح على قيامهم عليها.
ومن العجب أنَّ رجال الرُّوم تصلح في البدو مع الإبل، ودخول الإبل بلاد الروم هو
هلاكها، فأمّا السند؛ فإنَّ السِّنديَّ صاحب الخرْبة إذا صار إلى البدو، وهو طفل،
خرج أفصحَ من أبي مَهْديّة، ومن أبي مطرف الغنويّ، ولهم طبيعة في الصَّرْفِ، لا
ترى بالبصرة صيْرَفِيّاً إلا وصاحب كيسه سِنْديٌّ.
نبوغ أهل السند واشترى محمّد بن السّكن، أبا رَوْح فرَجاً السِّندي، فكسب له المال
العظيم، فقلَّ صيدلانيٌّ عندنا إلاّ وله غلامُ سنديٌّ، فبلغوا أيضاً في البَرْبهار
والمعرفة بالعقاقير، وفي صحّة المعاملة، واجتلاب الحُرفاء مبلغاً حسناً.
وللسِّندِ في الطبخ طبيعة، ما أكثر ما ينجبون فيه.
وقد كان يحيى بن خالد أراد أن يحوِّل إجراء الخيل عن صبيان الحبشان والنُّوبة، إلى
صبيان السند، فلم يفلحوا فيه، وأراد تحويل رجال السّند إلى موضع الفرَّاشين من
الرُّوم،فلم يفلحوا فيه، وفي السِّند حلوق جياد، وكذلك بنات السنِّد.
استطراد لغوي والغراب يسمّى أيضاً حاتماً، وقال عوف بن الخرِع:
مَثَبَّجةً لاقت من الطَّيرِ حاتما |
|
ولكنّما أهْجُو صفيّ بن ثابت |
وقال المرقِّش، من بني سدُوس:
أغدُو على واق وحاتم |
|
ولقد غَدوتُ وكنتُ لا |
مِنِ والأيامِنُ كالأشائِمْ |
|
فإذا الأشـائمُ كـالأيا |
شرٌّ على أحدٍ بـدائِمْ |
|
وكـذاك لا خـيرٌ ولا |
وأنشد لخُثيم بن عَديٍّ:
يقولُ عدانيِ اليوم واق وحاتـمُ |
|
وليس بهيّابٍ إذا شـدّ رحْـلـه |
إذا صَدَّ عنْ تلك الهناتِ الخُثارِمُ |
|
ولكنّه يمضي على ذاك مُقدمـاً |
والخثارم: هو المتطيِّر من الرِّجال، وأما قوله: واق وحاتمُ فحاتم هو الغراب، والواقي هو الصَّرد، كأَنَّه يرى أنّ الزَّجْر بالغراب إذا اشتقَّ من اسمه الغَرْبة، والاغتراب، والغريب، فإنَّ ذلك حتم، ويشتق من الصُّرَد التصريد، والصَّرَد وهو البرد، ويدلك على ذلك قوله:
وصاح بذاتِ البيْنِ منها غرابُهـا |
|
دعا صَردٌ يوماً على غصْنِ شوْحَطٍ |
فهذا لعمري نأيُها واغتِـرابُـهـا |
|
فقلتُ: أتصريدٌ وشحـطٌ وغـرْبة |
فاشتقّ
التَّصْريدَ من الصُّرَدِ، والْغُرْبةَ مِنَ الْغُرابِ، والشَّحْطَ من الشَّوْحطِ.
ويقال أُغرب الرّجُل: إذا اشتدَّ مرضه، فهو مُغْرَب.
قال: والعنقاء المغْرِب، العقاب، لأنها تجيء من مكان بعيد.
أصل التطير في اللغة قال: وأصل التطيُّر إنما كان من الطّير ومن جهة الطير، إذا
مرَّ بارحاً أوْ سانحاً، أو رآه يتفلى وينتَتِف، حتى صاروا إذا عاينوا الأعورَ من
النّاس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيَّروا عندها، كما
تطيَّروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال، فكان زجر الطّير هو الأصل، ومنه اشتقوا
التطيّر، ثمَّ استعملوا ذلك في كلِّ شيء.
أسماء الغراب
والغراب
لسواده إن كان أسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع، ولأنّه غريب يقطع إليهم، ولأنّه
لا يوجد في موضع خيامهم يتقمَّم، إلاَّ عند مباينتهم لمساكنهم، ومزايلتهم لدورهم،
ولأنّه ليس شيءٌ من الطير أشدَّ على ذوات الدَّبر من إبلهم من الغربان، ولأنه
حديدُ البصر فقالوا عند خوفهم من عينه الأعور، كما قالوا: غراب لاغترابه وغربته
وغراب البين، لأنَّه عند بينونتهم يوجد في دُورهم.
ويسمُّونه ابن داية، لأنّه ينقب عن الدَّبر حتَّى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل
بها من خرزات الصُّلبِ، وفقار الظهر.
مراعاة التفاؤُل في التسمية
وللطَّيَرة سمَّت العرب المنهوش بالسَّليم، والبرّيّة بالمفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير، والأسود أبا البيضاء، وسمّوا الغراب بحاتم، إذ كان يحتم الزّجر به على الأمور، فصار تطيُّرهم من القعيد والنَّطيح ومن جرد الجراد، ومن أن الجرادة ذاتُ ألوان، وجميعِ ذلك - دون التَّطيُّرِ بالغراب،
ضروب من الطِّيَرة
ولإيمان العرب بباب الطِّيرة والفأل عقَدُوا الرَّتائم، وعشَّروا إذا دخلوا القرى تعشير الحمار، واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربِّص، وهنَّ غيرُ قداح الأيسار.
قاعدة في الطيرة
ويَدُلُّ على أنهم يشتقُون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون، قولُ سَوّار ابن المضرّب:
على غصنين من غَرْبِ وبانِ |
|
تغنّى الطائران ببـينِ لـيلـى |
وفي الغَرْب اغترابٌ غيرُ دانِ |
|
فكان البانُ أن بانتْ سُلـيمـى |
فاشتقَّ
كما ترى الاغتراب من الغَرْب، والبينُونة من البان.
وقال جران العود:
عُقابٌ وشَحَّاج من البين يَبْرحُ |
|
جرى يوم رُحْنا بالجمال نُزِفُّهـا |
وأمّا الغُراب فالغريب المطوَّحُ |
|
فأمَّا العُقاب فهي منها عقـوبة |
فلم
يجد في العُقاب إلاّ العقوبة، وجعل الشَّحاجَ هو الغراب البارح وصاحب البين،
واشتقَّ منه الغريب المطوّح.
ورأى السَّمهريُّ غراباً على بانةٍ ينتف ريشه، فلم يجد في البان إلاّ البينونة،
ووجد في الغراب جميع معاني المكروه، فقال:
يُنتِّف أعلى ريشـهِ ويُطـايرُهْ |
|
رأيتُ غراباً واقعاً فـوق بـانةٍ |
بنفسي للنهديِّ: هل أنت زاجرُه |
|
فقلت ولو أني أشاء زَجَـرتُـه |
وبالبان بينٌ من حبيب تعاشـرُه |
|
فقال: غرابُ باغتراب من النَّوى |
فذكر الغراب بأكثر ممَّا ذُكر به غيرُه، ثمَّ ذكر بعدُ شأنَ الريش وتطايره، وقال الأعشى:
مِنْ غرابِ البين أو تيسٍ بَرَحْ |
|
ما تَعِيف اليومَ في الطيرِ الرَّوَحْ |
فجعل
التَّيس من الطّير، إذ تقدم ذكر الطير، وجعله من الطير في معنى التطيُّر.
وقال النَّابغة:
وبذاك خبّرنا الغرابُ الأسْودُ |
|
زَعَمَ البوارِحُ أنَّ رِحْلتنا غَداً |
وقال عنترة:
وجرى بِبَيْنِهِم الغُرابُ الأبقـعُ |
|
ظَعَنَ الذين فراقَهُـمْ أتـوقَّـعُ |
جَلمانِ بالأخبارِ هَشٌّ مُـولَـعُ |
|
حَرِقُ الجناحِ كأنَّ لَحْيَي رأسِـه |
أبداً ويُصْبِحَ خائفاً يتـفـجَّـعُ |
|
فزَجرتُـه ألاّ يُفـرِّخَ بـيضُـه |
هم أسهرُوا ليلى التِّمامَ فأوْجَعُوا |
|
إنَّ الذين نَعَبَ لي بفـراقِـهـمْ |
فقال: وجرى ببينهم الغراب لأنّه غريب، ولأنه غراب البين، ولأنّه أبقع، ثم قال:حَرِق الجناح تطيراً أيضاً من ذلك، ثمَّ جعل لَحَيَيْ رأسهِ جِلمَين، والجلَم يقطع، وجعله بالأخبار هشَّاً مُولعاً، وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم.
التشاؤُم بالغراب
قال:
فالغراب أكثر من جميع ما يُتطيَّرُ به في باب الشؤم، ألا تراهم كلما ذكروا ممَّا
يتطيرون منه شيئاً ذكروا الغراب معه.
وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كلّ واحدٍ من هذا الباب لا
يمكنهم أنْ يتطيروا منه إلاّ من وجهٍ واحد، والغراب كثير المعاني في هذا الباب،
فهو المقدَّم في الشؤم، دفاع صاحب الغراب قال صاحبُ الغراب: الغرابُ وغير الغراب
في ذلك سواءٌ، والأعرابيُّ إن شاء اشتقَّ من الكلمة، وتَوهَّمَ فيها الخيرَ، وإن
شاء اشتقَّ منها الشرّ،وكلُّ كلمة تحتملُ وجوها.
ولذلك قال الشاعر:
ضُحَيّاً وقد أفْضى إلى اللَّبَبِ الحَبْلُ |
|
نظرتُ وأصحابي ببطن طـويلـع |
يجاذبها الأفنان ذو جُـدد طـفـل |
|
إلى ظبيةٍ تعطو سيالاً تَـصـورُه |
تجذَّذ من سلماك وانصرم الحبْـل |
|
فقلتُ وعِفت: الحبلُ حبلُ وصالهـا |
تصورُ غُصُوناً صار جثمانها يعلو |
|
وقلت:سيال قَدْ تسلَّـت مـودَّتـي |
فقلت لأصحابي: مضيُّكم جَـهـل |
|
وعفت الغريرَ الطِّفل طفلاً أتت به |
كذلك كان الزَّجْرُ يَصْدُقني قبْـلُ |
|
رُجوعِيَ حَزْمٌ وامتـرائيَ ضِـلّةٌ |
وقال ابن قيس الرُّقيَّات:
مرحباً بالذي يقول الغرابُ |
|
بَشَّر الظَّبيُ والغُرابُ بُسعْدى |
وقال آخر:
سنيحٌ فقال القَوْم: مرَّ سـنـيحُ |
|
بَدا إذ قصَدْنا عَامِدينَ لأرضـنـا |
فقلت لهم: جـار إلـيَّ ربـيحُ |
|
وهابَ رجالٌ أن يقولوا وجمْجموا |
مضت نيَّةٌ لا تسْتطاعُ طـرُوحُ |
|
عقابٌ بإعقاب من الدار بَعْدَ مـا |
وعاد لنا غض الشباب صـريحُ |
|
وقالوا: دمٌ دامت مودّة بـينـنـا |
هدًى وبيانٌ في الطريق يلـوحُ |
|
وقال صحابي: هُدهُدٌ فوق بـانة |
وطلحٌ فنيلت والمطيُّ طـلـيحُ |
|
وقالوا: حمامات فحُمَّ لقـاؤُهـا |
قالوا:
فهو إذا شاء جعل الحمام من الحِمام والحميم والحمى، وإن شاء قال: وقالوا حماماتٌ
فحمَّ لقاؤها وإذا شاء اشتق البين من البان، وإذا شاءَ اشتقَّ منه البيان.
وقال آخر:
دنتْ بعد هَجْرٍ منـهـمُ ونـزوحُ |
|
وقالوا: عقابٌ قلتُ عُقْبى من الهوى |
وعاد لنا حُلوُ الـشّـبـابِ رَبـيحُ |
|
وقالوا: حمامات فحُـمَّ لـقـاؤُهـا |
فقلت: هُدًى نغـدو بـه ونَـرُوحُ |
|
وقالوا: تغنَّى هدهـدٌ فـوقَ بـانة |
ولو
شاء الأعرابيّ أن يقول إذا رأى سوادَ الغراب: سواد سودد، وسواد الإنسان: شخصه،
وسواد العراق: سعف نخله، والأسودان: الماء والتمر، وأشباه ذلك - لقاله.
قال: وهؤلاء بأعيانهم الذين يصرِّفون الزَّجر كيف شاؤوا، وإذا لم يجدوا من وقوع
شيءٍ بعد الزَّجر بُدّاً - هم الذين إذا بدا لهم في ذلك بداء أنكروا الطِّيَرةَ
والزَّجْر البتّة.
تطير النابغة وما قيل فيه من الشعر وقد زعم الأصمعي أنَّ النَّابغةَ خرج مع
زَبَّان بن سيّار يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النَّابغةُ وإذا
على ثوبه جرادةٌ تجرد ذاتُ ألوان، فتطيَّر وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه فلما
رجع زبّان من تلك الغزوة سالماً غانماً، قال:
لتخْبِرَه وما فيهـا خـبـيرُ |
|
تخبَّـر طـيْرَهُ فـيهـا زيادٌ |
أشار له بحكْمته مُـشـيرُ |
|
أقام كأنَّ لقْمـان بـن عـادٍ |
على متطيرٍ وهو الثُّـبـور |
|
تعـلَّـمْ أنَّـه لا طــير إلاّ |
أحايينا وباطـلـه كـثـيرُ |
|
بلى شيءٌْ يوافق بعض شيءٍ |
فزعم كما ترى زَبّان - وهو من دهاة العرب وساداتهم - أنّ الذي يجدونه إنَّما هو شيءٌ من طريق الاتفاق، وقال:
على متطيِّر وهو الثُّبُور |
|
تعلَّـمْ أنَّـه لا طـيْرَ إلا |
وهذا
لا ينقض الأول من قوله: أمّا واحدة فإنه إنْ جعل ذلك من طريق العقاب للمتطير لم
ينقضْ قوله في الاتفاق، وإن ذهب إلى أنّ مثل ذلك قد يكون ولا يشعر به اللاّهي عن
ذلك والذي لا يؤمن بالطيرة، فإنّ المتوقِّع فهو في بلاء مادام متوقعاً، وإن وافق
بعضُ المكروه جعله من ذلك.
تطير ابن الزبير ويقال إنَّ ابن الزبير لما خرج مع أهله من المدينة إلى مكّة، سمع
بعض إخوته ينشد:
ولم يَبْقَ من أعْيانِهمْ غيْرُ واحدِ |
|
وكلُّ بني أُمٍّ سَيُمْسُـون لـيلةً |
فقال
لأخيه: ما دعاك إلى هذا? قال: أما إني ما أردته قال: ذلك أشدُّ له.
وهذا منه إيمان شديد بالطيرة كما ترى، بعض من أنكر الطيرة وممن كان لا يرى الطيرة
شيئاً المرقش، من بني سدوس، حيث قال:
|
أغدو على واق وحاتمْ |
|
إني غدوت وكنـت لا |
|||
|
من والأيامِنُ كالأشائمْ |
|
فإذا الأشـائمُ كـالأيا |
|||
شرٌّ على أحد بدائمْ |
|
فكذاك لا خير ولا |
|
|||
قال سلامة بن جندل:
على سلامتهِ لا بدَّ مشـؤوم |
|
ومن تعرَّض للغِرْبان يزْجُرها |
وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك، الحارث بن حلزة، وهو قوله - قال أبو عبيدة: أنشدنيها أبو عمرو، وليست إلا هذه الأبيات، وسائر القصيدة مصنوع مولد - وهو قوله:
لا يثْنِكَ الحازِي ولا الشاحِجُ |
|
يا أيها المزمِعُ ثم انثـنـى |
هاجَ له من مَرْبَعٍ هـائِجُ |
|
ولا قعيد أغضـبٌ قـرْنُـهُ |
تَاحَ له من أمْره خـالِـجُ |
|
بينا الفتى يَسعى وَيُسْعى له |
يعيثُ فيه همَـجٌ هـامِـجُ |
|
يتركُ ما رَقَّح من عـيشـه |
إنك لا تَدْري من النـاتـجُ |
|
لا تكسع الشّول بأغبارهـا |
وقال الأصمعي: قال سَلْم بن قتيبة: أضللت ناقة لي عشراء، وأنا بالبدو، فخرجت في طلبها، فتلقاني رجلٌ بوجهه شينٌ من حَرْق النار، ثم تلقَّاني رَجُلٌ آخذ بخطام بعيره، وإذا هو ينشد:
ة فما البغاة بواجدينا |
|
فلئِنْ بغيت لها البغا |
ثم
من بعد هذا كلّه، سألت عنها بعض من لقيتُه، فقال لي: التمسْها عند تلك النار،
فأتيتهم فإذا همّ قد نتجوها حُواراً، وقد أوقدُوا لها ناراً فأخذْت بخطامها
وانصرفتُ.
عدم إيمان النَّظَّام بالطيرة وأخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّارِ النَّظَّام
قال:جعْت حتَّى أكلت الطين، وما صِرت إلى ذلك حتَّى قلبت قلبي أتذَّكر: هلْ بها
رجلٌ أصيبُ عنده غداءً أو عشاء، قما قدرت عليه، وكان علي جُبَّةٌ وقميصان، فنزعتُ
القميص الأسفل فبعته بدريهمات، وقصدْتُ إلى فُرْضَة الأهواز، أريد قصبةَ الأهواز،
وما أعرف بها أحداً، وما كان ذلك إلاّ شيئاً أخرجه الضَّجر وبعض التعرُّض، فوافيتُ
الفرضةَ فلم أصبْ فيها سفينة، فتطيَّرتُ من ذلك، ثم إني رأيت سفينةً في صدرها
خَرْق ٌوهشم فتطيرتُ من ذلك أيضاً، وإذا فيها حمولة، فقلت للملاح: تحملني? قال:
نعم، قلت: ما اسمك? قال: داوداذ وهو بالفارسية الشّيطان، فتطيرت من ذلك، ثم ركبت
معه، تصكّ الشمال وجْهي، وتُثير بالليل الصَّقيعَ على رأسي، فلما قربنا من الفرصة
صِحْت: يا حمّال معي لحافٌ لي سَمل، ومضْربة خلق، وبعضُ ما لا بُدَّ لمثلي منه،
فكان أول حمّال أجابني أعور فقلت لبقّار كان واقفاً: بكم تكري ثورك هذا إلى الخان?
فلما أدناه من متاعي إذا الثَّور أعضبُ القرن، فازددتُ طيرة إلى طيرة، فقلت في
نفسي: الرُّجوع أسلم لي، ثم ذكرت حاجتي إلى أكل الطين فقلت: ومن لي بالموت? فلما
صرتُ في الخان وأنا جالس فيه، ومتاعي بين يديَّ وأنا أقول: إن أنا خلفته في الخان
وليس عنده من يحفظه فُشّ البابُ وسرق، وإن جلست أحفظُه لم يكن لمجيئي إلى الأهوازِ
وَجْه، فبينا أنا جالس إذ سمعت قرْع الباب، قلت: من هذا عافاك الله تعالى? قال:
رجلٌ يريدك، قلت: ومن أنا? قال: أنت إبراهيم، فقلت: ومن إبراهيم? قال: إبراهيم
النَّظَّام، قلت: هذا خَنّاق، أو عدوٌّ، أو رسولُ سلطان ثم إني تحاملتُ وفتحتُ
البابَ، فقال: أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز ويقول: نحن وإن كُنّا اختلفنا في
بعض المقالة، فإنَّا قد نرجِع بعد ذلك إلى حقوقِ الإخلاق والحرِّيَّة، وقد رأيتك
حين مررت بي على حال كرهتها منك، وما عرفتك حتى خبّرني عنك بعضُ من كان معي وقال:
ينبغي أن يكون قد نزعتْ بك حاجة، فإن شئت فأقِمْ بمكانك شهراً أوشهرين، فعسى أن
نبعث إليك ببعضِ ما يكفيك زمناً من دهرك، وإن اشتهيت الرُّجوع فهذه ثلاثون
مثقالاً، فخذها وانصرف، وأنت أحقُّ من عَذرَ.
قال: فهجم واللّه عليَّ أمرٌ كاد ينقضني، أما واحِدَةً: فأنِّي لم أكنْ ملكتُ قبل
ذلك ثلاثين ديناراً في جميع دهري، والثّانية: أنّه لم يطلع مقامي وغيبتي عن وطني،
وعن أصحابي الذين هم على حال أشكل بي وأفهم عنِّي، والثّالثة: ما بيّن لي من أنَّ
الطيرة باطل؛ وذلك أنّه قد تتابع عليّ منها ضروبٌ، والواحدة منها كانت عنْدهُمْ
مُعطبة.
قال: وعلى مثل ذلك الاشتقاقِ يعملُ الذين يعبِّرون الرُّؤيا.
عجيبة الغربان بالبصرة
وبالبصرة من شأن الغِرْبان ضروبٌ من العجب، لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات: لكان
عندهم من أجودِ الطِّلَّسم، وذلك أنّ الغربان تقطع إلينا في الخريف، فترى
النَّخْلَ وبعضها مصرومة، وعلى كلِّ نخلة عدَد ٌكثيرٌ من الغربان، وليس منها شيءٌ
يقرب نخلةً واحدةً من النّخل الذي لم يُصرم، ولو لم يبق عليها إلا عذقٌ واحد،
وإنّما أوكار جميع الطير المصوِّت في أقلاب تلك النّخل، والغراب أطيرُ وأقوى منها
ثم لا يجترئ أن يسقط على نخلة منها، بعد أن يكون قد بقي عليها عِذْق واحدٌ.
منقار الغراب
ومنقار الغراب معْوَل، وهو شديدُ النَّقْر، وإنّه ليصِلُ إلى الكمأة المنْدفِنة في الأرض بنقْرة واحِدة حتى يشخصها، ولهو أبصرُ بمواضع الكمأة من أعرابيٍّ يطلبها في منبتِ الإجردِّ والقِصيص، في يومٍ له شمس حارَّة، وإن الأعرابيّ ليحتاجُ إلى أن يرى ما فوقها من الأرض فيه بَعْضُ الانتفاخِ والانصدَاع، وما يحتاجُ الغرَاب إلى دليل، وقال أبو دُؤادٍ الإياديّ:
نَفْي الغراب بأعلى أنْفهِ الغَـرَدا |
|
تَنْفي الحصى صُعُداً شرقِي منْسمها |
ولو أنّ الله عزَّ وجلّ أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها الثّمرة لذهبت، وفي ذلك الوقت لو أنّ إنساناً نقر العِذْق نقرةً واحدَةً لانتثر عامَّة ما فيه، ولهلكتْ غلاّتُ الناس، ولكنّك ترى منها على كلّ نخلة مصرومةِ الغِربانَ الكثيرة، ولا ترى على التي تليها غراباً واحداً، حتى إذا صرموا ما عليها تسابقن إلى ما سقط من التمر في جوف الليف وأصول الكرَب لتستخرجه كما يستخرج المنْتَاخُ الشّوك.
حوار في نفور الغربان من النخل
فإن
قال قائل: إنما أشباح تلك الأعذاق المدلاّةِ كالخِرَق السُّود التي تُفزع الطير
أنْ يقع على البزُور، وكالقودام السُّودِ تغرزُ في أسنمةِ ذوات الدبَرِ من الإبل،
لكيلا تسقط عليها الغربان، فكأنها إذا رأت سواد الأعذاق فزعت كما يفزع الطير من
الخِرَق السُّود.
قال الآخر: قد نجدُ جميع الطير الذمي يفزع بالخِرَق السُّود فلا يسقط على البزور،
يقع كله على النخل وعليه الحمل، وهل لعامّة الطيَّر وكور إلا في أقلابِ النّخل
ذوات الحمل.
قال الآخر: يشبه أن تكون الغربان قطعتْ إلينا من مواضع ليس فيها نَخْلٌ ولا أعذاق،
وهذا الطير الذي يفزع بالخِرَقِ السُّود إنَّما خُلقتْ ونشأت في المواضع التي لم
تزل ترى فيها النَّخيل والأعذاق، ولا نعرف لذلك علة سوى هذا.
قال الآخر: وكيف يكون الشأن كذلك ومن الغِربان غربانٌ أوابدُ بالعِراق فلا تبرَحُ
تعَشِّش في رؤوس النَّخل، وتبيض وتفْرخُ، إلاَّ أنَّها لا تقرب النَّخلة التي يكون
عليها الحمل.
والدّليل عَلَى أنها تعشش في نخل البصرة، وفي رؤوس أشجار البادية قولُ الأصمعيِّ:
يُناوح عيدانَه السـيمـكـان |
|
ومن زردَك مثل مكن الضِّبابِ |
ومن جيسرانٍ وبنْـداذجـان |
|
ومن شكر فيه عُشُّ الغـرابِ |
وقال أبو محمد الفقعسيُّ وهو يصف فحل هَجْمة:
أكلفُ مربدٌّ هصورٌ هـائضُ |
|
يتبعُهـا عَـدَبَّـسٌ جُـرائضُ |
|
|
بحيثُ يعتش الغرابُ البائضُ |
ما يتفائل به من الطير والنبات
والعامَّة
تتطيَّرُ من الغراب إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنَّى تفاءلتْ به.
والبوم عند أهل الرَّيِّ وأهل مَرْوٍ يُتفاءل بهِ، وأهل البصرة يتطيرون منه،
والعربيُّ يتطيرُ من الخلاف، والفارسي يتفاءل إليه، لأنَّ اسمه بالفارسية باذامك
أي يبقى، وبالعربية خلاف، والخلاف غيرُ الوفاق.
والريحان يُتفاءل به، لأنه مشتقٌّ من الرَّوح، ويتطيرَّ منه لأن طعمه مُرٌّ، وإن
كان في العين والأنف مقبولاً.
وقال شاعرٌ من المحدثين:
فبكى وأشفق مِنْ عيافة زاجرِ |
|
أهدى له أحـبـابُـه أُتْـرُجَّةً |
لونان باطنه خلافُ الظّاهـرِ |
|
متطيِّراً ممّا أتاه فطـعـمـه |
والفرس
تحبُّ الآس وتكره الورد، لأن الورد لا يدومُ، والآس دائم.
قال: وإذا صاح الغرابُ مرتين فهو شرٌّ، وإذا صاح ثلاث مرّاتِ فهو خير، على قدر عدد
الحروف.
عداوة الحمار للغراب
ويقال:
إنّ بين الغراب والحمار عداوةً، كذا قال صاحب المنطق.
وأنشدني بعض النحويِّين:
عداوة الحمار للغراب |
|
عاديتنا لا زلْت في تبابِ |
أمثال في الغراب
ويقال: أصحُّ من غراب، وأنشد ابن أبي كريمة لبعضهم، وهو يهجو صريع الغواني مسلم بن الوليد:
إلى الحيّاتِ منك إلى الغواني |
|
فما ريحُ السّذاب أشدُّ بُغْضـاً |
وأنشد:
ودُون صداعه حُمّى الغراب |
|
وأصلب هامةً من ذي حُيُود |
وزعم
لي داهيةٌ من دهاة العرب الحوّائين، أنّ الأفاعي وأجناس الأحناش، تأتي أصول
الشِّيحِ والحرْمل، تستظل به، وتستريح إليه.
ويقال: أغربُ من غراب، وأنشد قول مضرّس بن لقيط:
على كلِّ حال من نشاط ومن سأمْ |
|
كأني وأصحابي وكرِّي علـيهـمُ |
رأيْن لحاماً بالعراص على وضمْ |
|
غرابٌ من الغِـربـانِ أيّامَ قـرِّةٍ |
حديث
الطيرة وقد اعترض قومٌ علينا في الحديث الذي جاء في تفرقة ما بين الطيرة والفأل،
وزعموا أنّه ليس لقوله: كان يعجبه الفألُ الحسن ويكره الطيرة معنى، وقالوا: إن كان
ليس لقول القائل: يا هالك، وأنت باغٍ، وجهٌ ولا تحقيق، فكذلك إذا قال: يا واجد،
ليس له تحقيق، وليس قوله يا مضلُّ ويا مهلك، أحقَّ بأن يكون لا يوجبُ ضلالاً ولا
هلاكاً من قوله يا واجد، ويا ظافر، من ألاّ يكون يوجب ظفراً ولا وجوداً، فإمّا أنّ
يكونا جميعاً يوجبان، وإما أن يكونا جيمعاً لا يوجبان، قيل لهم: ليس التأويل ما
إليه ذهبتم، لو أن النّاس أمَّلوا فائدة اللّه عزَّ وجلَّ ورجوا عائِدته، عند كلِّ
سبب ضعيف وقويّ، لكانوا على خير، ولو غلطوا في جهة الرّجاء لكان لهم بنفس ذلك
الرّجاء خير، ولو أنهم بدل ذلك قطعوا أملهم ورجاءهم من اللّه تعالى، لكان ذلك من
الشرّ والفأل، أن يسمع كلمةً في نفسها مستحسنة، ثمَّ إن أحبَّ بعد ذلك أو عند ذلك
أنّ يحدث طمعاً فيما عند اللّه تعالى،كان نفس الطمع خلاف اليأس، وإنما خبَّر أنّه
كان يعجبه، وهذا إخبارٌ عن الفطرة كيف هي، وعن الطبيعة إلى أيِّ شيء تتقلب.
وقد قيل لبعض الفقهاء: ما الفأل? قال: أن تسمع وأنت مُضِلٌّ: يا واجد، وأنت خائف:
يا سالم، ولم يقل إنَّ الفأل يوجب لنفسه السلامة، ولكنّهم يحبُّون له إخراج اليأس
وسوء الظن وتوقُّعِ البلاء من قلبه على كل حال - وحال الطيرة حال من تلك الحالات -
ويحبون أن يكون لله راجياً، وأن يكون حسن الظن، فإن ظنَّ أن ذلك المرجوَّ يُوافقُ
بتلك الكلمة ففرح بذلك فلا بأس، تطير بعض البصريين وقال الأصمعيُّ: هرب بعض
البصريين من بعض الطَّواعين، فركب ومضى بأهله نحو سَفَوان، فسمع غلاماً له أسود
يحدوُ خلفه، وهو يقول:
ولا على ذي مَيْعَةٍ مَطَّارِ |
|
لن يُسْبَق اللّهُ على حِمـار |
قد يصبحُ اللّه أمام السّاري |
|
أو يأتيَ الحينُ على مقدارِ |
فلما سمع ذلك رجع بهم.
معرفة في الغربان
قال:
والغربان تسقط في الصحارى تلتمس الطُّعم، ولا تزال كذلك، فإذا وجبت الشمس نهضت إلى
أوكارها معاً، و ما أقلّ ما تختلط البُقْع بالسّود المصمتة.
الأنواع الغريبة من الغربان قال: ومنها أجناس كثيرة عظام كأمثال الحداء السُّود،
ومنها صغارٌ، وفي مناقيرها اختلاف في الألوان والصور، ومنها غربان تحكي كلّ شيء
سمعته، حتى إنها في ذلك أعجب من الببغاء، وما أكثر ما يتخلّف منها عندنا بالبصرة
في الصيف، فإذا جاء القيظ قلَّتْ، وأكثر المتخلِّفات منها البقع، فإذا جاء الخريف
رجعت إلى البساتين، لتنال مما يسقط من التمر في كرب النّخل وفي الأرض، ولا تقرب
النَّخلة إذا كان عليها عذق واحد، وأكثر هذه الغربان سود، ولا تكاد ترى فيهنّ
أبقع، قبح فرخ الغراب وقال الأصمعيّ: قال خلف: لم أرَ قطُّ أقبح من فرخ الغراب
رأيته مرَّة فإذا هو صغير الجسم، عظيم الرأس، عظيم المنقار، أجرد أسودُ الجلد،
ساقط النفس، متفاوت الأعضاء.
غربان البصرة قال: وبعضُها يقيم عندنا في القيظ، فأمَّا في الصَّيف فكثير، وأمَّا
في الخريف فالدُّهم، وأكثر ما تراه في أعالي سطوِحنا في القيظِ والصيف البُقع،
وأكثر ما تراه في الخريف في النخل وفي الشتاء في البيوت السُّود.
وفي جبل تكريت في تلك الأَيَّام، غِرْبانٌ سودٌ كأمثال الحدَاءِ السُّود عظماً.
تسافد الغربان وناس يزعمون أنَّ تسافدَها عَلَى غير تسافد الطير، وأنّها تزاقُّ
بالمناقير، وتلقح من هناك.
نوادر وأشعار نَذْكر شيئاً من نوادر وأشعار وشيئاً من أحاديث، من حارِّها
وباردها.
قال ابنُ نُجيْمٍ: كان ابن ميّادة يستحسن هذا البيت لأَرطأةَ بن سُهيّة:
هُريقَ شبابي واستَشَنَّ أديمي |
|
فقلت لها يا أمَّ بيضـاءَ إنّـه |
صار
شنّاً.
وكان الأصمعي يستحسن قولَ الطرمَّاح بن حكيم، في صفة الظَّليم:
قَدْراً وأسلم ما سِوَاهُ البَرجُدُ |
|
مجتاب شْملة بُرجُدٍ لسَرَاتِه |
ويستحسن قوله في صفة الثَّور:
سيفٌ علَى شرفٍ يُسلُّ ويُغمدُ |
|
يبدوُ وتَضمره البلاد كـأنَّـه |
وكان أبو نُواسٍ يستحسنُ قولَ الطّرماح:
عُرى المجدِ واسترخى عنان القصائد |
|
إذا قُبِضَتْ نفسُ الطّرماح أخلَـقَـتْ |
وقال كثير:
صَنيعَة بِرٍّ أو خِليلٍ توامِقُـه |
|
إذا المال يوجِبْ عليكَ عطاؤُه |
فلم يفتلتك المالَ إلاّ حقائقـه |
|
مَنَعْتَ وبعضُ المنْع حزمٌ وقُوَّةٌ |
وقال سهل بن هارون؛ يمدح يحيى بن خالد:
منوعٌ إذا ما منعُه كان أحزَمَا |
|
عدوُّ تِلادِ المال فيما ينـوبـه |
قال: وكان رِبعيُّ بن الجارود يستحسن قولَه:
وخير من زيارتك القُعودُ |
|
فخير منك من لا خير فيه |
وقال الأعشى:
وقد يَشِيطُ على أرماحنا البَطـلُ |
|
قد نطعُن العَيْرَ في مكنونِ فائلـه |
كالطَّعْنِ يذهبُ فيه الزَّيتُ والفُتُل |
|
لا تنتهون ولن يَنْهَى ذوي شَطَـطٍ |
وقال العلاء بن الجارود:
وعلى المنقوش دارُوا |
|
أظهروا للنَّاس نسكـاً |
ولَهُ حَجُّـوا وزارُوا |
|
وَلَه صامُوا وصَلَّـوا |
وله حلّـوا وسـاروا |
|
وله قامـوا وقـالـوا |
ولهم ريش لطـاروا |
|
لو غدا فوق الـثـريَّا |
وقال الآخر في مثل ذلك:
واحككْ جبينك للقضاء بثُـومِ |
|
شمر ثيابَك واستعدَّ لـقـابـلٍ |
حتى تصـيبَ وديعةً لـيتـيم |
|
وامشِ الدَّبيبَ إذا مشَيتَ لحاجةٍ |
وقال
أبو الحسن: كان يقال: من رقّ وجهُه رقّ عِلمُه.
وقال عمر: تفقَّهوا قبل أن تسودوا.
وقال الأصمعي: وُصلت بالعلم، وكسبت بالملح.
ومن الأشعار الطيبة قول الشاعرِ في السمك والخادم:
دسم الثَّوب قد شَوَى سمكاتِ |
|
مقبل مدبر خفـيف ذَفـيف |
حُدُب من شُحومها زَهماتِ |
|
من شبابيط لجةٍ ذات غَمْـر |
ففكِّر
فيهما فإنَهما سيمتعانك ساعةً.
وقال الشاعر:
لا أجزِه ببـلاءِ يومٍ واحـدِ |
|
إنْ أجزِ علقمَة بن سَيْفِ سعيَهُ |
رَمَّ الهَدِيِّ إلى الغنيّ الواجد |
|
لأحَبَّني حُبّ الصبيِّ ورَمَّنـي |
من آل مسعودٍ بمـاءٍ بـارد |
|
ولقَدْ شفيتُ غليلتي ونقَعتهـا |
وقال رجل من جرم:
بشنعاء فيها ثاملُ السُّمِّ مُنقَعـا |
|
نبئتُ أخوالي أرادوا عمومتي |
وإن شئتم من بعدُ كنت مجمِّعا |
|
سأركبها فيكم وأُدعى مفرِّقـاً |
وقال
يونس بن حبيب: ما أكلت في شتاءٍ شيئاً قطُّ إلاّ وقد برد، ولا أكلت في صيفٍ شيئاً
إلاّ وقدْ سخن.
وقال أبو عمرو المدينيّ: لو كانت البلايا بالحِصَص، ما نالني كما نالني: اختلفت
الجاريةُ بالشاة إلى التَّيَّاس اختلافاً كثيراً، فرجعت الجارية حاملاً والشاة
حائل.
وقال جعفر بن سعيد: الخلافُ موكّل بكلِّ شيء يكون، حتى القَذاة في الماء في رأس
الكوز، فإن أردتَ أن تشرب الماء جاءتْ إلى فيك، وإن أردتَ أن تصبَّ من رأسِ الكوزِ
لتخرج رَجَعت.
حديث أبي عمران وإسماعيل بن غزوان
وقال إسماعيل بن غزْوان: بكَرْت اليوم إلى أبي عمران، فَلزمتُ الجادَّةَ، فاستقبلني واحدٌ فلَزِمَ الجادَّة التي أنا عليها، فلما غشيني انحرفتُ عنه يَمْنَةً فانحرَفَ معي، فعُدتُ إلى سَمْتي فَعاد، فَعُدتَ فعاد ثمَّ عُدت فَعاد، فلولا أنَّ صاحبَ بِرذون فرَّق بيننا لكان إلى الساعة يكدُّني، فَدَخلت على أبي عمران فَدعا بغَدَائه، فأهويتُ بلقْمتي إلى الصِّباغ فأهوى إليه بعضُهم، فنحَّيت يدي فنحَّى يده، ثمَّ عُدْتُ فَعاد، ثمَّ نحيتُ فنحَّى، فقلت لأبي عمران: ألا ترى ما نحن فيه? قال سأحدِّثك بأعجبَ من هذا، أنا منذُ أكثر مِنْ سنة أشفقُ أن يراني ابن أبي عون الخياط، فلم يتَّفق لي أن يراني مرَّةً واحدة، فلما أن كانَ أمسِ ذكرتُ لأبي الحارث الصُّنع في السلامة من رؤيته، فاستقبلني أمسِ أربَعَ مَرَّات.
نوادر وبلاغات
وذكر
محمّد بن سلام، عن محمّد بن القاسم قال: قال جرير: أنّا لا أبتدي ولكنّي أعتدي.
وقال أبو عبيدة: قال الحجّاج: أنا حدِيدٌ حَقود حسود! قال: وقال قدَيد بن مَنيع،
لجُدىع بن عليٍّ: لَكَ حكم الصبيّ على أهله! وقال أبو إسحاق - وذكرَ إنساناً -: هو
واللّه أترَفُ من رَبيب مَلِك، وأخرق من امرأة، وأظلم من صبي.
وقال لي أبو عبيدة: ما ينبغي أن يكون كان في الدنيا مثل هذا النَّظام، قلت: وكيف?
قال: مرَّ بي يوماً فقلت: واللّهِ لأمتحننَّه، ولأسمعَنَّ كلامه؛ فقلت له: ما عيبُ
الزُّجاج - قال: يُسرع إليه الكسر، ولا يقبل الجبْر - من غير أن يكون فكّر أو
ارتدع.
قال: وقال جَبَّار بن سُلمى بن مالك - وذكر عامر بن الطفيل فقال: كان لا يضلُّ
حتّى يضلَّ النَّجم، ولا يَعطشُ حَتَّى يعْطَش البَعير ولا يهاب حتَّى يهاب السيل،
كان واللّه خيرَ ما يكون حينَ لاتظنُّ نفسٌ بنفسٍ خيراً.
وقال ابن الأعرابيّ: قال أعرابي: اللهمَّ لا تُنْزلني ماءَ سَوءٍ فأكونَ امرأ سَوء
يقول: يدعوني قلّتُهُ إلى منعه.
وقال محمَّد بن سلام، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس: إنّ الأحنف كان يكرَه
الصَّلاة في المقصورة، فقال له بعضُ القوم: يا أبا بحر، لم لا تصلي في المقصورة?
قال: وأنت لم لاتصلِّي فيها? قال: لا أُترك.
وهذا الكلامُ يدل على ضروب من الخير كثيرة.
ودخل عبد اللّه بن الحسن على هشامٍ في ثيابِ سفَرِه، فقال: اذكر حوائجك، فقالَ عبد
اللّه: ركابي مُناخةٌ، وعَلَيَّ ثيابُ سفري فقال: إنَّك لا تجدني خيراً منِّي لك
الساعة.
قال أبو عبيدة: بلغ عمرَ بن عبد العزيز قدومُ عبدِ اللّه بن الحسن، فأرسل إليه:
إني أخاف عليك طواعينَ الشام، وإنَّك لا تُغنِمَ أهلَك خيراً لهم منك فالحقْ بهم،
فإنّ حوائجهم ستسبقك.
وكان ظاهر ما يكلِّمونَهِ بهٍ ويُرُونه إيَّاه جميلاً مذكوراً، وكان معناهم
الكراهة لمقامه بالشام، وكانوا يرون جمالَهُ، ويعرفون بيانَه وكمالهُ فكان ذلك
العَملُ من أجودِ التدبير فيه عندَ نفسه.
شعر في الزهد والحكمة
وأنشد:
وللموتِ بابٌ أنتَ لابدَّ داخلُه |
|
تُليح من الموتِ الذي هو واقعٌ |
وقال آخر:
عشنْزَرَةٍ مقلَّدةٍ سِخابا |
|
أكلكُمُ أقام على عجوزٍ |
وقال آخر:
فليتَ شعريَ بعدَ الباب ما الدَّارُ |
|
الموتُ بابٌ وكل الناس داخلـه |
أجنَّة الخُلْدِ مأوانـا أم الـنَّـارُ |
|
لو كنتُ أعلم منْ يدري فيخبرني |
وقال آخر:
واعلمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ |
|
اصبرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجـلّـدِ |
فاذكرْ مصابَكَ بالنبيّ محمدِ |
|
فإذا ذكرتَ مصيبة تشجى بها |
وقال آخر:
دُّنيا ويُسعِدُها القَـمَـرْ |
|
والشمس تَنْعَى ساكِنَ ال |
رَكَمُ الجَنادِلِ والمَـدَرْ |
|
أين الـذين عـلـيهـمُ |
ءِ يهزُّ أجنحَةَ السَّحَـرْ |
|
أفناهُمُ غَلَس الـعِـشَـا |
وكأنَّ قلبَك من حجَـرْ |
|
ما للقـلـوب رقـيقةٌ |
دُكَ كلَّ يومٍ يُهتَصـرْ |
|
ولقلَّما تبْـقـى وعـو |
وقال زهير:
|
إلى مطمئن البرِّ لا يتجمـجـمِ |
|
ومن يُوفِ لايُذممْ ومَنْ يُفْضِ قلبه |
|||
|
ومن لا يكرِّم نفسَـه لا يكـرّمِ |
|
ومن يغترب يحسَب عدوًّا صديقه |
|||
وإنْ خالها تخْفى على النَّاسِ تُعلمِ |
|
ومهما تكن ْعندَ امرئ من خليقة |
|
|||
ولا يُعفِها يومًا من الـذّمِّ ينـدَمِ |
|
ومن لا يزلْ يسترحلُ النَّاسَ نفسَه |
|
|||
وقال زهير أيضاً:
ضارب حتَّى إذا ما ضارَبُوا اعتنقا |
|
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طُعِنُـوا |
وقال:
أمام الحيِّ عَقدُهما سـواءُ |
|
وجارُ البيتِ والرَّجلُ المنادِي |
وسِيَّانِ الكَفـالةُ والـتَّـلاءُ |
|
جوارٌ شاهدٌ عدْلٌ علـيكـم |
يَمينٌ أو نِفـارٌ أو جِـلاءُ |
|
فإن الحقَّ مقْطعُهُ ثـلاث: |
فتفهَّمْ هذه الأقسام الثلاثة، كيف فصّلها هذا الأعرابيّ.ُ وقال أيضاً:
ولكنَّ حمْدَ المرءِ ليسَ بمُخْلِـدِ |
|
فلو كان حمد يُخلِدُ النَّاسَ لم تمُتْ |
فأوْرِثْ بنيك بعضَهـا وتـزوَّدِ |
|
ولكنَّ مـنـهُ بـاقـياتٍ وِراثَةً |
وإنْ كرهتْه النَّفسُ آخِرُ معْهَـدِ |
|
تزوّدْ إلى يوم الممـاتِ فـإنَّـه |
وقال الأسديُّ:
وكالخُلد عندي أن أموت ولم أُلَمْ |
|
فإني أحبُّ الخُلدَ لو أستـطـيعُ |
وقال الحادرة:
بإحساننا إنَّ الثَّناءَ هو الخُلد |
|
فأثنوا علينا لا أبا لأبـيكُـم |
وقال الغنوي:
ومن الحديث مهالك وخُلودُ |
|
فإذا بلغتمْ أهلكم فتحـدَّثـوا |
وقال آخر:
جزاءَ العُطَاسِ لا يموت من اتَّأَرْ |
|
فقتلاً بتقتيل وعقراً بعـقْـرِكـم |
وقال زهير:
والبرُّ كالغَيثِ نبتُـه أَمِـرُ |
|
والإثمُ من شرِّ ما تصولِ به |
أي كثير، ولو شاء أن يقول:
والبرُّ كالماءِ نبتُه أمر ُ |
استقام الشعر، ولكن كان لا يكون له معنى، وإنّما أراد أن النبات يكون على الغيث أجود، ثمَّ قال:
معروفُهُ مُنكَر ولا حصرُ |
|
قد أشهَدُ الشَّاربَ المعذَّلَ لا |
ينسَوْنَ أحلامَهم إذا سَكِروا |
|
في فتيةٍ لَيِّني الـمـآزِرِ لا |
فون قضاءً إذا هُمُ نَـذَروا |
|
يشوُون للضَيف والعُفاةِ ويُو |
يمدحُ كما ترى أهلَ الجاهلّية بالوفاء بالنُّذور أنشدني حبَّان بن عِتْبان، عن أبي عبيدة، من الشَّوارد التي لا أربابَ لها، قوله:
أو يبخَلوا لم يحفِلوا |
|
إن يغْدِرُوا أو يفجُروا |
نَ كأنّهُمْ لم يفعَلُـوا |
|
يَغدُوا عليكَ مرجَّلي |
مٍ لونَـه يتـخـيَّلُ |
|
كأبي بَراقِشَ كلَّ يو |
وقال الصَّلتَان السعديُّ، وهو غير الصَّلتان العبْديِّ:
رَ كرُّ الغَداةِ ومرُّ الـعـشـي |
|
أشابَ الصغيرَ وأفنَى الكـبـي |
أتى بـعـد ذلـك يوم فَـتـي |
|
إذا لـيلةٌ هـرَّمْـت يومـهـا |
وحاجة من عاشَ لا تنقضـي |
|
نروح ونغدُو لـحـاجـاتـنـا |
وتبقى له حـاجةٌ مـا بـقـي |
|
تموت مع المرءِ حـاجـاتُـه |
أرُوني السَّريَّ أرَوْكَ الغنـي |
|
إذا قلتَ يَوْمًا لدى مَـعْـشـرٍ |
هِ وأوصيت عمرًا فنعم الوَصي |
|
ألم تَرَ لقمان أوصـى بـنـي |
وسرُّ الثَّلاثةِ غير الـخـفـي |
|
وسِرُّك ما كان عـنـدَ امـرئٍ |
أنشدني محمَّدُ بن زياد الأعرابيّ:
من الدِّين شيءٌ أن تميل به النَّفسُ |
|
ولا تُلبِثُ الأطماعُ من ليس عنـده |
بجُمْعِك أن ينهاه عن غيرك الترس |
|
ولا يُلْبثُ الدَّحْس الإهاب تـحـوزه |
وأنشدني أبو زيدٍ النحويُّ لبعض القدماء:
أرى قمر اللّيلِ المعذَّرَ كالفتَـى |
|
وَمهْمَا يكنْ رَيْب المَنُونِ فإنَّنـي |
ويعظم حتَّى قيل قد ثاب واستوى |
|
يعودُ ضـئيلاً ثـم يرجـعُ دائبـاً |
وتكرارُه في إثره بَعْدَ ما مضى |
|
كذلك زَيْدُ المرء ثمَّ انتـقـاصـه |
وقال أبو النَّجم:
مَرُّ اللَّيالي أبْطئي وأسرعي |
|
مَيَّز عَنهُ قُنزَعاً من قنْـزُعِ |
ثمَّ إذا واراكِ أُفق فارجعي |
|
أفناهُ قِيلُ اللّهِ للشَّمْس اطلعي |
وقال عمرو بن هند:
يُناغي نِسَاءَ الحيِّ في طرَّة البُـرْدِ |
|
وإن الذي ينهاكم عـن طـلابِـهـا |
كما تنقُص النِّيرَانُ من طَرفِ الزّندِ |
|
يعَلَّلُ والأيَّام تـنْـقـص عـمْـرَه |
وقال ابن ميَّادة:
سافي الرِّياحِ ومستنّ له طُنُب |
|
هل ينطقُ الرَّبع بالعَلياء غيّره |
وقال أبو العتاهية:
أسرَع في نقص امرئ تمامُه |
وقال:
حركاتٌ كأنَّهنّ سكُـون |
|
ولمرِّ الفناءٍ في كلِّ شيءٍ |
وقال ابن ميّادة:
دَوارِس أدنى عهدِهـنَ قـديمُ |
|
أشاقَك بالقِنعِ الـغَـداةَ رُسـومُ |
كما لاح في ظهر البنَان وشُوم |
|
يلحْنَ وقد جرَّمْنَ عشرين حِجَّةً |
وقال آخر:
علَى الضَّجيع وفي أنيابها شنَب |
|
في مرفَقيها إذا ما عُونِقتْ جَمَم |
وقال ابن ميَّادة في جعفر ومحمد ابني سليمانَ، وهو يعني أمير المؤمنين المنصور:
بِجَدِّ النُّهى إذ يقسِم الخير قاسِمُـهْ |
|
وفى لكما يا ابْني سليمان قـاسـم |
متى يَلق شيئاً مُحْدَثاً فَهو هادمُـهْ |
|
فبيتكُمـا بَـيتٌ رفـيع بـنـاؤه |
وكسَّر قَرْني كلِّ كبشٍ يصادمُـهْ |
|
لكُمْ كبْشِ صِدق شذَّبَ الشَّولَ عنكم |
من يهجى ويذكر بالشؤم
قال دِعبل بن عليّ، في صالح الأفقم - وكان لا يصحبُ رجلاً إلاَّ ماتَ أو قُتِل، أو سقطَتْ منزلته -:
قول امرئٍ شفقٍ عليه محامِ |
|
قل للأمينِ أمينِ آل محـمَّـدٍ |
في صالحِ بن عطيَّة الحجّامِ |
|
إيَّاك أن تُغترَّ عنك صنـيعة |
لكنهـنَّ طـوائلُ الإسـلام |
|
ليس الصَّنائعُ عندَه بصنـائعٍ |
جيشٌ من الطاعون والبِرسامِ |
|
اضربْ به نحرَ العدوِّ فإنَّـه |
وقال محمد بن عبد اللّه في محمد بن عائشة:
أبداً في كُلِّ عـامِ |
|
للِهلالـيّ قـتـيلٌ |
وعليَّ بنَ هـشـامِ |
|
قَتَلَ الفضلَ بن سهلِ |
مِ بأكناف الـشـآمِ |
|
وعجيفاً آخر القـو |
تَل بالسَّيف الحُسامِ |
|
وغدا يطلب من يق |
أحمداً خيرَ الأنـام |
|
فأعَاذَ اللّـهُ مـنـه |
يعني
أحمد بن أبي دؤاد.
وقال عيسى بن زينب في الصخري، وكان مشؤوماً:
يأكلُ ما جمَّعَ مِـنْ وَفْـرِ |
|
يا قوم مَنْ كـان لـه والـدٌ |
يموتُ إن أُصْحِبَهُ الصخري |
|
فإنَّ عنـدي لابـنـهِ حـيلة |
يبرُد ما طال من العُـمْـر |
|
كأنما في كـفّـه مِـبـردٌ |
شعر في مديح وهجاء
وقال الأعشى:
وما إن بعظمٍ لهُ من وَهَنْ |
|
فما إنْ على قلبه غَمـرةٌ |
وقال الكميت:
كُرُّوا المعاذيرَ إنَّما حَسبُوا |
|
ولم يقلْ عِنْـدَ زَلَّةٍ لـهـمُ |
وقال آخر:
شِرارُ الرِّجال من يسيءُ فيُعذرُ |
|
فلا تعذراني في الإسـاءةِ إنَّـه |
وقال كلثوم بن عمر العتَّابي:
حُشِدتْ عليه نوائبُ الدَّهْـرِ |
|
رحل الرَّجاءُ إليك مغتـربـا |
وَثنى إليك عنَانَه شُـكـري |
|
ردَّت عليك ندامتي أمَـلـي |
ورجاء عفوك مُنْتَهَى عُذْري |
|
وجعلت عَتْبكَ عتْب موعظةٍ |
وقال أعشى بكر:
الإفضالِ والشَّيءُ حيثُ ما جُعلا |
|
قلَّدتك الـشِّـعـر يا سـلامة ذا |
تَنْزَلَ رعْدُ السَّحابةِ الـسَّـبَـلا |
|
والشِّعر يَسْتَنْزِلُ الكريمَ كما اسْ |
ما ورَد القومَ لم تكـنْ وشـلا |
|
لو كنت ماءً عِدّاً جمـمـتَ إذا |
إذْ نجلاهُ فَنِـعْـمَ مـا نَـجـلا |
|
أنـجَـبَ آبـاؤه الـكـرامُ بـه |
دِ ووَلَّى الـمـلامَة الـرَّجـلا |
|
استأثَر اللّهُ بالبَقـاء وبـالـحَـمْ |
وقال الكذَّاب الحِرْمازيُّ لقومه، أو لغيرهم:
أو كنتمُ ماءً لكنتم ثَمدا |
|
لو كنتمُ شاءً لكنتم نقـدا |
|
|
أو كنتُم قولاً لكنْتُم فَندا |
وقال الأعشى في الثياب:
|
س إذا شطَّ بالحبيبِ الفِراقُ |
|
فعلى مثلها أزورُ بني قـي |
|||
|
سّوءِ حتَّى إذا أفاق أفاقـوا |
|
المهينين ما لهم في زمانِ ال |
|||
لى وصارتْ لخيمها الأخـلاقُ |
|
وإذا ذو الفضول ضنَّ على المو |
|
|||
حى وأعيا المُسيم أيْنُ المسـاقِ |
|
ومشى القومُ بالعمادِ إلى الـرَّزْ |
|
|||
ري على عرِقْها الكرامُ العتاقُ |
|
أخذوا فضْلهُمْ هناكَ وقـد تـج |
|
|||
حَ وجُـنَّ الـتِّـلاعُ والآفـاقُ |
|
وإذا الغيث صوبُهُ وضع القِـدْ |
|
|||
رِ ولا اللَّهوُ فيهمُ والسِّـبـاقَ |
|
لم يزدْهُمْ سفاهةً شُربُ الـخـمْ |
|
|||
ناعماً غير أننـي مُـشـتـاقُ |
|
واضعاً في سراةِ نَجْرانَ رَحْلي |
|
|||
عن ثَواءٍ وهمُّهُـنَّ الـعِـراقُ |
|
في مطايَا أربابُهُـنَّ عِـجَـالٌ |
|
|||
وصَبُوحٌ مباكرٌ واغـتـبـاق |
|
دَرْمَكٌُ غُدوةً لـنـا ونـشـيلٌُ |
|
|||
ربَ مِنْهُمْ مصاعِبٌ أفـنـاقُ |
|
وندامى بيضُ الوجوةِ كأنَّ الشَّ |
|
|||
دةُ جَمْعاً والخاطِبُ المسْـلاق |
|
فيهمُ الخِصْبُ والسَّماحةُ والنـجْ |
|
|||
ومكيثُون والـحـلـومُ وثـاق |
|
وأبيُّون لا يُسـامُـون ضـيْمـاً |
|
|||
رابُ بالقَوْمِ والثِّـيابُ رقـاقُ |
|
وترى مجلساً يغصُّ به الـمـح |
|
|||
وقال أيضاً في الثّياب:
وقيساً هُمُ خيرُ أربابها |
|
أزور يزيدَ وعبدَ المسيحِ |
كِ حتّى تُناخِي بأبوابها |
|
وكعبة نَجْران حتم علي |
وجرُّوا أسافلَ هُدَّابهـا |
|
إذا الحِبراتُ تلوّتْ بهِـم |
وفي الثّياب يقول الآخر:
لعينٍ تُرَجِّـي أو لأذن تَـسَـمَّـعُ |
|
أُسَيْلم ذاكمُ لا خـفـا بـمـكـانـه |
وهابَ الرِّجال حَلقةَ البابِ قَعْقعـوا |
|
من النَّفرِ البيض الذين إذا انْتَـمَـوْا |
وطيب الدِّهانِ رأسه فهـو أنْـزَع |
|
جلا الأذفر الأحوى من الْمسك فرقه |
له حوك برديْهِ أجادُوا وأوسـعـوا |
|
إذا النَّفر السُّود اليمانـون حـاولـوا |
وقال كثيّر:
سبيُّ هلالٍ لم تفتق شرانقه |
|
يجرِّر سِرْبالاً عليه كـأنّـه |
وقال الجعدي:
بِلادُهمُ بأرضِ الخيْزُرانِ |
|
أتاني نصرهمْ وَهمُ بَعِـيدٌ |
يريد
أرض الخصب والأغصانِ اللَّيِّنةِ.
وقال الشاعر:
بكفِّ أرْوَع في عِرنينه شمم |
|
في كفِّهِ خَيْزُرانٌ ريحها عبِقٌ |
لأن الملك لا يختصرُ إلاَّ بِعُودِ لدْنٍ ناعِمٍ، وقال آخر:
يكاد يدنيها من الأرض لينها |
|
تجاوبُها أخرى على خيْزُرانةٍ |
وقال آخر:
حديثاً متى ما يأتِكُ الخَيْرُ يَنْفعِ |
|
نَبتُّم نباتَ الخيْزرانيِّ في الثرى |
وقال المسَيَّبُ بن علس:
كأنَّ وِطابَهُمْ مُوشى الضِّبابِ |
|
قِصار الهمِّ إلاَّ في صـديق |
عين الرضا وعين السخط
وقال المسيب بن علس:
حَسَنٌ برأي العين ما تمِقُ |
|
تامتْ فؤادك إذ عرضْتَ لها |
وقال ابن أبي ربيعة:
حسنٌ في كلِّ عينٍ من تودّْ |
وقال عبد اللّه بن معاوية:
ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدي المساويا |
|
وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ |
وقال رَوْح أبو همَّام:
وعينُ أخي الرِّضا عن ذاكَ تَعْمى |
|
وعينُ السُّخْطِ تبصِرُ كـلَّ عـيبِ |
شعر وخبر
وقال الفرزدق:
سألتُ ومنْ يَسْألْ عن العِلم يَعـلـمِ |
|
ألا خَبِّروني أيَّهـا الـنّـاسُ إنَّـمـا |
وما السائل الواعي الأحاديث كالعمي |
|
سؤال امرئٍ لم يُغْفِل العلـم صـدرُه |
وقيل لِدَغْفَلٍ: أنَّى لك هذا العلم? قال: لسانٌ سَؤُولٌ، وقلبٌ عقول وقال النابغة:
وغُودِرَ بالجوْلانِ حَزْمٌ ونائلُ |
|
فآبَ مُضلِوهُ بعـين جـلـيَّةٍ |
مُضِلوه:
دافنوه، على حدِّ قوله تعالى: "أإذا ضللنا في الأرضِ".
وقال المخبّل:
وفارسها في الدَّهْرِ قيس بن عاصمِ |
|
أضلَّتْ بنو قيس بنِ سَعْدٍ عمـيدهـا |
قوال زهيرٌ - أو غيره - في سِنانِ بن أبي حارثة:
ما تبتغي غطفانُ يومَ أضَلَّتِ |
|
إن الرَّزيَّة لا رزِيَّةَ مثلـهـا |
ولذلك زعم بعضُ النَّاس أنّ سِنان بن أبي حارثة خَرِفَ فذهب على وجهه، فلم يُوجد.
من هام على وجهه فلم يوجد
ويزعمون
أنَّ ثلاثة نفرٍ هامُوا على وجُوههم فلم يُوجَدوا: طالب بن أبي طالب، وسنان بن أبي
حارثة، ومرداس بن أبي عامر.
وقال جرير:
عليَّ من الفضْلِ الذي لا يرى ليا |
|
وإني لأستحْيي أخي أنْ أرى لـه |
وقال امرؤ القيس:
قليلُ الهمومِ ما يبيتُ بأوجالِ |
|
وهل يَعِمَنْ إلاَّ خليٌّ منَعَّـمٌ |
وقال
الأصمعي: هو كقولهم: استراحَ منْ لا عَقْل له.
وقال ابن أبي ربيعة:
وريَّانُ مُلْتفُّ الحدائق أخْضَرُ |
|
وأعجبها مِنْ عيشها ظِلُّ غرفةٍ |
فليستْ لشيءٍ آخِرَ اللَّيلِ تسهرُ |
|
ووالٍ كفاها كلَّ شيءٍ يَهُمُّهـا |
مديح الصَّالحين والفُقهاء
قال ابنُ الخيَّاط، يمدح مالك بن أنس:
والسائلونَ نَواكِـسُ الأذْقـان |
|
يأبى الجوابَ فما يُراجَعُ هَيْبَةً |
فهو المطاعُ وليس ذا سُلْطانِ |
|
هديُ التقيَّ وعز سلطان التُّقى |
وقال ابن الخياط في بعضهم:
ولم يقتبِسْ من علمه فهو جاهلُ |
|
فتى لم يجالس مالكاً منْذ أنْ نشا |
وقال آخر:
وبالنَّهارِ على سمْتِ ابن سيرين |
|
فأنت باللَّيل ذئبٌ لا حـرِيمَ لـه |
وقال
الخليل بن أحمد وذكروا عنده الحظَّ والجِدَّ، فقال: أمَّا الجِدُّ فلا أقول فيه
شيئاً، وأمّا الحظّ فأخزى اللّهُ الحظَّ، فإنه يبلِّد الطالبَ إذا اتّكل عليه
ويبعد المطلوب إليه من مذمَّةِ الطّالب.
وقال ابن شبرمة:
أو كابنِ طارق حولَ البيت والحرم |
|
لو شئت كنت ككرْز في تعـبُّـدِه |
وسارعا في طلاب العزِّ والكـرمِ |
|
قد حالَ دونَ لذيذِ العيش خوفهمـا |
وقال آخر يرثي الأصمعيّ:
بالأصمعيِّ لقدْ أبقتْ لنـا أسـفـا |
|
لا دَرَّ دَرُّ خطوبِ الدهرِ إذْ فجعتْ |
في الدَّهر منهُ ولا من عِلْمِهِ خلفا |
|
عش ما بدا لك في الدُّنيا فلست ترى |
وقال الحسنُ بن هانئ، في مرثية خلفٍ الأحمر:
لوألتْ شغْواءُ في أعلى الشَّعـفْ |
|
لو كان حيٌّ وائلاً مـن الـتَّـلـف |
مُزَغَّبِ الألغادِ لم يأْكـل بـكـفّْ |
|
أمُّ فُريخٍ أحرزَتْـه فـي لَـجـف |
تظلُّ في الطُّبَّاق والنَّـزْعِ الألـفّْ |
|
هاتيك أم عصماءُ في أعلى الشّرف |
قليْذمٌ من العـيالـم الـخـسـفْ |
|
أودى جماعُ العلم مذ أودى خلـف |
وقال يرثيه في كلمةٍ له:
وبات دمْعي إلاّ يَفِض يَكِـفِ |
|
بتُّ أعزّي الفؤاد عن خـلـفِ |
أضحى رهيناً للتُّربِ في جَدفِ |
|
أنسى الرَّزايا مَيتٌ فجعتُ بـه |
أفهامِ في لا خرقِ ولا عُنـفِ |
|
كان يسنَّى برفْقـه غـلـقُ ال |
حيْران، حتّى يشفيك في لُطفِ |
|
يجوبُ عنك التي عشيتَ لـهـا |
ء ولا لامـهـا مـع الألـف |
|
لا يهمُ الحاء في القراءة بالخـا |
يكون إسناده عن الصُّـحُـفِ |
|
ولا مضلاًّ سُبْـلَ الـكـلامِ ولا |
فليس إذْ مات عنهُ مِن خلـفِ |
|
وكان ممن مضى لنا خـلـفـاً |
وقال آخر في ابن شبرُمة:
والعزُّ والجُرثومةُ المقدَّمَـهْ |
|
إذا سألت الناس أين المكرمهْ |
تتابع النَّاسُ على ابن شُبرُمَهْ |
|
وأين فاروقُ الأمورِ المحكمه |
شعر مختار
وقال ابن عرفطة:
وتحديثك الشَّيْءَ الذي أنت كاذبُه |
|
ليهنيكَ بُغْض للـصَّـدِيق وظِـنَّةٌ |
بلاك، ومثل الشر يكره جانبُـهْ |
|
وأنَّك مشنوءٌ إلى كلِّ صـاحـبٍ |
شديد السِّبابِ رافعُ الصّوتِ غالبُه |
|
وإنّك مهداءُ الخنا نَطِف الـنّـثـا |
وقال النّابغة الجعدي:
إذا ما تبَيَّنت لم أرْتـب |
|
أبى لي البلاءُ وأنِّي امرؤٌ |
وليس
يريد أنّه في حال تبيُّنُه غير مُرتاب، وإنَّما يعني أنّ بصيرته لا تتغيّر.
وقال ابنُ الجهم، ذات يوم: أنا لا أشكُّ قال له المكيُّ: وأنا لا أكاد أوقن وقال
طرفة:
كسيد الغضى في الطَّخْية المتورِّدِ |
|
وكرِّي إذا نادى المُضافُ مُحَنّـبـا |
ببهكنةٍ تحت الخبـاء الـمـمـدَّدِ |
|
وتقصيرُ يوم الدَّجنِ والدّجن معجب |
كقبْرِ غويٍّ في البطالةِ مُفْـسِـدِ |
|
أرى قبر نحَّامٍ بـخـيلِ بـمـالـه |
لكالطَّولِ المُرْخى وثنْـياه بـالـيد |
|
لعمرُك إنَّ الموت ما أخطأ الفتـى |
بعيداً غداً، ما أقرب اليومَ من غد |
|
أرى الموت أعداد النُّفوس ولا أرى |
على المرْءِ من وقع الحسامِ المهنَّد |
|
وظلْم ذوي القربى أشد مضـاضة |
إذا خطرَتْ أيدي الرِّجالِ بمشهـد |
|
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجرٌ |
الجعلان والخنافس
وسنقولُ
في هذه المحقرات من حشرات الأرض، وفي المذكور من بغاث الطّير وخشاشه، مِمَّا يقتات
العذِرة ويُوصف باللؤم، ويُتَقزَّزُ من لمسه وأكلِ لحمه، كالخنفساء والجعل،
والهداهِدِ والرَّخم، فإنَّ هذه الأجناس أطلبُ للعذرة من الخنازير.
فأوَّل ما نَذْكُر من أعاجيبها صداقةُ ما بين الخنافس والعقارب، وصداقة ما بين
الحيّات والوزَغ، وتزعمُ الأعراب أنّ بين ذكورةِ الخنافس وإناث الجعلان تسافداً
وأنهما ينتجان خلقاً ينزع إليهما جميعاً.
وأنشد خَشْنامُ الأعور النحويُّ عن سيبويه النَّحويّ، عن بعض الأعراب في هِجائهِ
عدوّاً له كان شديد السَّواد:
عداوة الأوعالِ حيَّاتِ الجبَـلْ |
|
عاديتنا يا خُنْفساً كـامُ جُـعـلْ |
يخْرِقُ إنْ مسّ وإنْ شمّ قَتَـلْ |
|
من كلّ عوْدٍ مُرهَفِ النّابِ عُتُلّْ |
ويثبت أكل الأوعال للحيّات الشِّعرُ المشهور، الذي في أيدي أصحابنا، وهو:
في التماسٍ بعضَ حيَّاتِ الجبلْ |
|
عَلَّ زيداً أن يُلاقـي مَـــرَّةً |
ليس من حيّات حُجْرِ والقلـل |
|
غاير العينينِ مَفطوح الـقـفـا |
رَبِذُى الخطْفةِ كالقِدحِ المُـؤلْ |
|
يتـوارى فـي صُـدوعٍ مـرَّة |
كشعاع الشّمسِ لاحتْ في طَفَلْ |
|
وترى السمّ عـلـى أشـداقـه |
ونفى الحيَّاتِ عن بيضِ الحَجَلْ |
|
طرد الأرْوى فمـا تـقـربُـهُ |
وإنما ذكر الأروى من بين جميع ما يسكن الجبال من أصناف الوحش، لأنَّ الأروى من بينها تأكلُ الحيّات، للعداوة التي بينها وبين الحيّات.
استطراد لغوي
والأرْوى: إناث الأوعال، واحدتها أُرويّة، والناس يُسمُّون بناتِهم باسم الجماعة، ولا يسمُّون البنت الواحدة باسم الواحدة منها: لا يسمُّون بأرويَّة، ويسمُّون بأرْوى، وقال شماخ بن ضِرار:
بأدنى من مُوقَّفةٍ حَـرُونِ |
|
فما أرْوى وإنْ كرُمتْ علينا |
وأنشد أبو زيدٍ في جماعة الأوريّة:
ولاقيتِ كلاباً مُطـلاًّ ورامـيا |
|
فما لك من أرْوى تعاديت بالعمى |
يقال:
تعادى القومُ وتفاقدوا: إذا مات بعضهم على إثر بعض.
وقالت في ذلك ضباعةُ بنت قُرْط، في مرثية زوجها هشام بن المغيرة:
وإنَّ صمتاً عن بُكاهُ لَحُوبْ |
|
إنَّ أبا عثمـان لـم أنْـسـهُ |
أيَّ ذنوب صوّبوا في القليبْ |
|
تفاقَدُوا من معشرٍ ما لـهـمْ |
طلب الحيّات البيض
وأما قوله:
ونفى الحيَّاتِ عنْ بيْضِ الحجل |
فإنَّ
الحيّات تطلبُ بيض كلِّ طائر وفراخه، وبيضُ كلِّ طائرٍ مما يبيض على الأرض أحبُّ
إليها، فما أعرف لذلك عِلَّةً إلا سهولة المطْلب.
والأيائل تأكل الحيَّاتِ، والخنازيرُ تأْكل الحيَّاتِ وتعاديها.
عداوة الحمار للغراب
وزعم صاحبُ المنطق أن بين الحمار والغراب عداوة، وأنشدني بعضُ النحويِّين:
عَدَاوَة الحمارِ للغُرابِ |
|
عاديتنا لا زِلْتَ في تبابِ |
وأنشد ابنُ أبي كريمة لبعض الشُّعراء في صريع الغواني:
إلى الحيَّاتِ منك إلى الغواني |
|
فما ريحُ السَّذابِ أشدَّ بُغْضـاً |
أمثال
ويقال:
ألجُّ من الخنفساء، وأفحشُ من فاسية وهي الخنفساء وأفحش من فالية الأفاعي.
والفساء يُوصف بن ضربان من الخَلْق: الخنفساء، والظَّرِبان.
وفي لجاج الخنفساء يقولُ خلفٌ الأحمر:
كثيرُ الخطاءِ قليلُ الـصّـوابِ |
|
لنا صاحبٌ مُولعٌ بـالـخـلافِ |
وأزْهى إذا ما مشى منْ غرابِ |
|
ألجُّ لجاجاً من الخـنـفـسـاء |
طول ذماء الخنفساء
وقال
الرقاشي: ذكرت صبر الخنزير على نفوذ السهام في جنبه، فقال لي أعرابيٌّ: الخنفساء
أصبر منه، ولقد رأيت صبيّاً من صبيانكم البارحة وأخذ شوكة وجعل في رأسها فتيلةً،
ثمَّ أوقد نهاراً، ثمَّ غرزها في ظهر الخنفساء، حتَّى أنفذ الشَّوْكة، فغبرْنا
ليلتنا وإنَّها لتجولُ في الدّارِ وتُصبِح لنا، واللّهِ إنِّي لأظنها كانتْ
مُقْرِباً، لانتفاخ بطنها.
قال: وقال القنانيُّ: العَوَاساء: الحامل من الخنافس، وأنشد:
بكْراً عواساءَ تفاسا مُقْرِبا |
أعاجيب الجعل
قال: ومن أعاجيب الجعل أنَّه يموت من ريح الورد، ويعيش إذا أعيد إلى الرَّوث، ويضرب بشدَّة سوادِ لونِه المثل، قال الرَّاجزُ وهو يصفُ أسود سالخاً:
كأنَّما قُمِّص من لِيطِ جُعَـلْ |
|
مُهَرّت الأشداق عود قد كَمَلْ |
والجعل يظَلُّ دهراً لا جناحَ له، ثم ينبت له جناحان، كالنمل الذي يغْبُر دهراً لا جناح له، ثم ينْبت له جناحان، وذلك عند هَلَكَتِه.
تطورالدعاميص
والدّعاميص
قد تغبر حيناً بلا أجنحة، ثم تصير فراشاً وبعوضاً، وليس كذلك الجراد والذِّبَّان،
لأنَّ أجنحتها تنبت على مقدار من العمر ومرور من الأيام.
وزعم ثمامة، عن يحيى بن خالد: أنَّ البرغوث قد يستحيل بعوضة.
عادة الجعل
والجعل يحرسُ النّىام، فكلما قام منهم قائمٌ فمضى لحاجته تبِعه، طمعاً في أنَّه إنَّما يريد الغائط، وأنشد بعضهم قول الشاعر:
كأنَّه شرطيٌّ باتَ في حَـرَسِ |
|
يبيتُ في مجلس الأقوامِ يرْبؤُهم |
وأنشد بعضهم لبعض الأعراب في هجائه رجلاً بالفسولة، وبكثرة الأكل، وبعظم حَجْم النَّجو:
لجارَتيه ثـمَّ ولَّـى فَـنـثـلْ |
|
حتَّى إذا أضحى تدرَّى واكتحـل |
|
|
رزْقَ الأنوقينِ القرنْبى والجَعَلْ |
سمى القرنبي والجعل - إذ كانا يقتاتان الزِّبل - أنُوقين، والأنوق: الرَّخمة، وهي أحد ما يقتات العذرة، وقال الأعشى:
يُعْجِلُ كفَّ الخارئ المُطيبِ |
|
يا رَخماً قاظ على يَنْخـوب |
المطيب: الذي يستطيب بالحجارة، أي يتمسَّح بها، وهم يسمُّون بالأنوق كلَّ شيءٍ يقتات النّجْو والزِّبل، إلاَّ أنّ ذلك على التشبيه لها بالرّخم في هذا المعنى وحدهُ، وقال آخر:
يدعُو عليَّ كلما قـام يُصَـلّ |
|
يا أيهذا النّابحي نَبْحَ الـقَـبَـلْ |
وقد ملأتُ بطْنه حتـى أتـل |
|
رافعَ كفَّيهِ كما يفري الجُعـلْ |
|
|
غيظاً فأمسى ضغْنُه قد اعتدل |
والقبل: ما أقبل عليك من الجبل، وقوله أتل، أي امتلأ عليك غيْظاً فقصّر في مشيِته، وقال الجعديّ:
وأخُو الغَدْر إذا هَمَّ فعلْ |
|
منعَ الغدر فلم أهممْ بـه |
إنما ذكري كنار بقَبَـلْ |
|
خشيةُ اللّه وأنِّي رجـلٌ |
وقال الرَّاجز - وهو يهجو بعضهم بالفُسولة، وبكثرة الأكل، وعِظَم حجْم النَّجْو:
باتَ يعشِّي وحْده ألْفي جُعَل |
وقال عنترة:
فإني لائمٌ للجعْـدِ لاحـي |
|
إذا لاقيتَ جمع بني أبـان |
ردائي بعد عُرْيٍ وافتضاحِ |
|
كسوتُ الجعد جَعْد بني أبان |
ثم شبَّهه بالجعل فقال:
هُدوجاً بين أقلـبةٍ مِـلاحِ |
|
كأنَّ مؤشر العضديْنِ جَحْلاً |
بُكوراً أو تهجَّر في الرَّواحِ |
|
تضمن نعمتي فغدا عليهـا |
وقال الشمَّاخ:
مفرّضُ أطراف الذِّراعينِ أفلجِ |
|
وإن يُلقيا شأواً بأرْضٍ هوى له |
استطراد
لغوي والشأو هاهنا: الرَّوث، كأنَه كثره حتَّى ألحقه بالشأو الذي يخرج من البئر،
كما يقول أحدهم إذا أراد أن يُنْقي البئر: أخرِجْ من تلك البئُر شأْواً أو شأْوين،
يعني من التراب الذي قد سقط فيها، وهو شيءٌ كهيئة الزَّبيل الصَّغير.
والشاو: الطِّلْق، والشأو: الفَوْت.
والمفرّض الأفلج الذي عنى، هو الجعل، لأنَّ الجعل في قوائمه تحزيز، وفيها تَفْريج.
معرفة في الجعل
وللجعل
جناحان لا يكادان يُريانِ إلاَّ عند الطَّيران، لشَّدة سوادهما، وشبههما بجلده،
ولشِدّة تمكنهما في ظهره.
قال الشاعر، حيثُ عدّد الخَوَنَة، وحثَّ الأمير على محاسبتهم:
واشْفِ الأرامل من دُحروجة الجُعلِ |
|
واشدُدْ يديك بزيْدٍ إن ظـفِـرْت بـه |
والجعل
لا يدحرج إلاّ جعراً يابساً، أو بعرة.
وقال سعد بن طريف، يهجو بلال بن رباح مولى أبي بكر:
كأنَّه جُعلٌ يمشي بِقِرْواحِ |
|
وذاك أسودُ نوبيٌّ له ذفرٌ |
وسنذكر شأْنه وشأْن بلالٍ في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
أبو الخنافس وأبو العقارب
وكان بالكوفة رجلٌ من ولد عبد الجبّار بن وائل بن حُجْر الحضرميّ يكنى أبا الخنافس راضياً بذلك، ولم تكن الكنية لقباً ولا نَبزاً، وكان من الفُقهاء، وله هيئة ورواءٌ، وسألته: هل كان في آبائه من يكنى أبا الخنافس? فإن أبا العقارب في آل سلم مولى بني العباس كثيرٌ على اتّباع أثر، وكان أبو الخنافس هذا اكتنى به ابتداءً.
طول ذماء الخنفساء
وقال
لي أبو الفضل العنبريّ: يقولون: الضّبُّ أطول شيءٍ ذماء، والخنفساء أطول منه ذماء،
وذلك أنه يُغرز في ظهرها شوكةٌ ثاقبة، وفيها ذبالةٌ تستوقدُ وتُصْبِحُ لأهل
الدّار، وهي تدِبُّ بها وتجول وربما كانت في تضاعيف حبل قتٍّ، أو في بعض الحشيش
والعُشب والخلا، فتصيرُ في فم الجمل فيبتلعها من غير أن يضْغم الخنفساء، فإذا وصلت
إلى جوفه وهي حيَّةٌ جالت فيه، فلا تموت حتى تقتله.
فأصحاب الإبل يتعاورون تلك الأواريّ والعلوفاتِ، خوفاً من الخنافس.
هجاء جواس لحسَّان بن بحدل وقال جَوّاس بن القعْطل في حسَّان بن بَحْدل:
دَنِسُ الثيابِ كطابخِ القـدْرِ |
|
هل يُهلكنِّـي لا أبـالـكـم |
زَمِرُ المروءةِ ناقصُ الشَّبْر |
|
جُعلٌ تمطَّى في عمـايتـه |
والعاجز التَّدبير كالـوَبْـرِ |
|
لزبابَةٍ سـوداء حـنـظـلةٍ |
فأمَّا
الهجاء والمدح، ومفاخرة السُّودان و الحمران، فإنَّ ذلك كلَّه مجموعٌ في كتاب
الهجناء والصُّرحاء.
وقد قدّمنا في صدر هذا الكتاب جملةً في القول في الجعْلانِ وغيرِ ذلك من الأجناس
اللئيمة والمستْقذرة، في باب النَّتن والطّيب، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
الهدهد
وأما
القول في الهدهد، فإنَّ العرب والأعراب كانوا يزعمون أنَّ القنزعة التي على رأسه
ثوابٌ من اللّه تعالى على ما كان من بِرِّه لأُمِّه لأنَّ أمَّه لما ماتتْ جعل
قبرها على رأسه، فهذه القنزعة عوضٌ عن تلك الوَهْدة.
والهدهد طائرٌ مُنتن الريحِ والبدن، من جوهره وذاته، فربَّ شيءٍ يكونُ مُنتِناً من
نفسه، من غيرِ عرَض يعرِضُ له، كالتيوس والحيّاتِ وغير ذلك من أجناس الحيوان.
فأمَّا الأعراب فيجعلون ذلك النَّتْنَ شيئاً خامره بسبب تلك الجيفةِِ التي كانت
مدفونةً في رأسه، وقد قال في ذلك أميَّة أو غيرُه من شعرائهم، فأمَّا أميَّة فهو
الذي يقول:
صنيعٌ ولا يخفى على اللّه مُلحِدُ |
|
تعَلمْ بأنَّ اللّه ليس كصـنُـعْـهِ |
أخرى على عينٍ بما يتعـمَّـدُ |
|
وبكلِّ منكـرةٍ لـهُ مَـعْـرُوفة |
وخزائنٌ مفتـوحة لا تـنـفـدُ |
|
جُددٌ وتوشـيم ورسـمُ عـلامةٍ |
لا يستقـيم لـخـالـق يتـزيَّد |
|
عمن أراد بها وجـاب عِـيانَـه |
أزْمانَ كفَّنَ واسترادَ الهـدهُـدُ |
|
غيم وظلماء وغـيث سـحـابةٍ |
فبنى عليها في قفـاهُ يُمْـهـدُ |
|
يبغي القرارَ لأمِّه لـيُجـنَّـهـا |
في الطَّيرِ يحملهـا ولا يتـأوَّد |
|
مَهداً وطيئاً فاستقلَّ بحـمْـلـهِ |
ولدًا، وكلف ظهره ما تفـقـد |
|
من أمِّهِ فجُزي بصالحِ حملهـا |
فيها وما اختلف الجديد المسنـد |
|
فتراه يدْلحُ ما مشى بـجـنـازةٍ |
معرفة الهدهد بمواضع المياه
ويزعمون أنَّ الهدهد هو الذي كان يدلُّ سليمان عليه السلام على مواضع المياه في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها.
سؤال ومثل في الهدهد
ويروُون
أنّ نجْدة الحرُوريَّ أو نافع بن الأزرق قال لابن عباس: إنّك تقول إنَّ الهدهدُ
إذا نقر الأرض عرف مسافة ما بينه وبين الماء، والهدهُد لا يُبْصر الفخَّ دُوَين
التراب، حتى إذا نقر التّمْرة انضمّ عليه الفخُّ فقال: ابنُ عبَّاس إذا جاء القدرُ
عمي البصرُ.
ومن أمثالهم: إذا جاء الحينُ غطّى العين.
وابن عباسٍ إن كان قال ذلك فإنّما عنى هدهُد سليمان عليه السلام بعينه؛ فإنَّ
القول فيه خلافُ القولِ في سائر الهداهد.
وسنأتي على ذكر هذا الباب من شأنه في موضعه إن شاء اللّه تعالى.
وقد قال الناس في هُدهُد سُليمان، وغرابِ نوح، وحِمار عُزير، وذئبِ أُهبان بن أوس،
وغير ذلك من هذا الفنّ، أقاويل، وسنقول في ذلك بجملةٍ من القول في موضعه إن شاء
اللّه.
بيت الهدهد
وقد
قال صاحبُ المنطق وزعم في كتاب الحيوان، أنَّ لكلِّ طائرٍ يعشِّش شكلاً يتخذ عشَّه
منه، فيختلف ذلك على قدر اختلاف المواضع وعلى قدر اختلاف صور تلك القراميص
والأفاحيص، وزعم أنَّ الهدهُد من بينها يطلب الزِّبل، حتّى إذا وجده نقل منه، كما
تنقل الأَرضَةُ من التّراب، ويبني منه بيتاً، كما تبني الأرضة، ويضع جُزءاً على
جُزْء، فإذا طال مُكثه في ذلك البيت، وفيه أيضاً ولد، أو في مثله، وتربّى ريشه
وبدنه بتلك الرائحة، فأخلِقْ به أيضاً أن يُورث ابنه النَّتْن الذي عَلِقه، كما
أورث جدُّهُ أباه، وكما أوْرثه أبوه، قال: ولذلك يكون منتِناً.
وهذا وجهُ أنْ كان معلوماً أنّه لا يتَّخِذ عشَّه إلاّ من الزِّبل.
فأمَّا ناسٌ كثير، فيزعمون أن رُبَّ بدنٍ يكونُ طيب الرَّائحة، كفأرة المسك التي
ربما كانت في البيوت، ومن ذلك ما يكونُ مُنْتِنَ البَدنِ، كالذي يحكى عن الحيَّاتِ
والأفاعي والثَّعابين، ويوجدُ عليه التُّيوس.
اغتيولس وذكر صاحب المنطق أنَّ الطير الكبير، الذي يسمى باليونانية اغتيولس، يحكم
عُشَّه ويتقنُه، ويجعله مستديراً مُداخلاً كأنَّه كرة معمولة، وروى أنَّهم يزعمون
أنَّ هذا الطائر يجلب الدّارصينيَّ من موضعه، فيفْرشُ به عشَّه، ولا يعشِّش إلاّ
في أعالي الشّجَر المرتفعة المواضع، قال: وربّما عمد الناسُ إلى سهامٍ يشدُّون
عليها رصاصاً، ثمَّ يرمون بها أعشتها، فيسقط عليهم الدّارصينيُّ، فيلتقطونه
ويأخذونه.
من زعم البحريين في الطير ويزعمُ البحْريُّون أنَّ طائرين يكونان ببلاد السُّفالة،
أحدُهما يظهر قبل قُدوم السفن إليهم، وقبل أن يُمكِنَ البحرَ من نفسه، لخروجهم في
متاجرِهم فيقول الطائر: قرب آمَدْ، فيعلمون بذلك أنَّ الوقت قدْ دنا، وأنْ الإمكان
قد قرب.
قالوا: ويجيء بهِ طائرٌ آخر، وشكل آخر، فيقول: سمارو، وذلك في وقت رجوع من قد غاب
منهم، فيسمُّون هذين الجنسين من الطير: قرب، وسمارو، كأنَّهم سمَّوهما بقولهما،
وتقطيع أصواتهما، كما سمَّت العربُ ضرباً من الطَّير القطا، لأن القطا كذلك تصيح،
وتقطيع أصواتها قطا، وكما سمَّوا الببغاء بتقطيع الصَّوتِ الذي ظهر منه.
فيزعم أهل البحر أنّ ذينك الطائرين لا يطير أحدهما أبداً إلاّ في إناث، وأنّ الآخر
لا يطير أبداً إلاّ في ذكورة.
وفاء الشفنين
وزعم لي بعضُ الأطباء ممن أصدّق خبره، أنّ الشِّفنين إذا هلكت أنثاه لم يتزوَّج وإن طال عليه التعزُّب، وإن هاج سفد ولم يطلب الزواج.
من عجائب الطير
وحكوا
أنَّ عندهم طائرين، أحدهما وافي الجناحين وهو لم يطِرْ قطّ، والآخر وافي الجناحين،
ولكنه من لدُنْ ينهض للطَّيرانِ فلا يزالُ يطيرُ ويقتات من الفراش وأشباه الفراش،
وأنَّه لا يسقط إلاَّ ميِّتاً، إلاَّ أنهم ذكروا أنه قصير العمر.
كلام في قول أرسطو ولست أدفع خبر صاحب المنطق عن صاحب الدارصيني، وإن كنت لا
أعرف الوجه في أنَّ طائراً ينهض من وكره في الجبال، أو بفارس أو باليمن، فيؤمُّ
ويعمد نحو بلاد الدارصيني، وهو لم يجاوز موضعه ولا قرب منه، وليس يخلو هذا الطائر
من أن يكون من الأوابد أو من القواطع، وإنْ كان من القواطع فكيف يقطع الصَّحصحان
الأملس وبطون الأوْديةِ، وأهضامَ الجبال بالتّدويم في الأجواء، وبالمضيِّ على
السَّمت، لطلب ما لم يرَهُ ولم يشمُّه ولم يذقْه، وأخرى فإنّه لا يجلب منه بمنقاره
ورجليه، ما يصير فِراشاً له ومهاداً، إلا بالاختلاف الطويل، وبعد فإنّه ليس
بالوطيء الوثير، ولا هو له بطعام.
فأنا وإن كنت لا أعرفُ العلَّة بعينها فلست أنكر الأمور من هذه الجهة، فاذكرْ هذا.
قول أبي الشيص في الهدهد
وقال أبو الشِّيص في الهدهد:
غيري وغيْرك أو طيِّ القراطيسِ |
|
لا تأمننَّ على سِـرِّي وسِـرِّكـمُ |
ما زال صاحبَ تنقير وتدسـيسِ |
|
أو طائر سأحَـلِّـيهِ وأنـعـتـه |
صُفر حمالِقه في الحسنِ مَغمُوس |
|
سودٍ بـراثِـنـه مـيلٍ ذوائبُــه |
لولا سِعايته في ملك بـلـقـيس |
|
قد كان همَّ سليمـانٌ لـيذبـحـه |
وقد قدَّمنا في هذا الكتاب في تضاعيفه، عدَّة مقطَّعات في أخبار الهدهُد.
الرخم
و يقال: إنّ لئامَ الطير ثلاثة: الغِربانُ، والبُوم، والرَّخَم
أسطورة الرخم
ويقال:
إنّه قيل للرَّخمة: ما أحمقك قالت: وما حُمْقي، وأنا أقطعُ في أوّلِ القواطع،
وأرْجِع في أوَّلِ الرَّواجِع، ولا أطير في التَّحسير، ولا أغتر بالشَّكير، ولا
أسقط على الجفِير.
وقد ذكرْنا تفسير هذا، وقال الكميت:
في الطَّير إنّك شرُّ طائرْ |
|
إذْ قيل يا رَخَمَ انطـقـي |
بعض الملوك العجم والجلندي الزدي وقال أبو الحسن المدائني: أمَر بعضُ ملوك العجم الجُلنْدي بنَ عبد العزيز الأزديَّ، وكان يقال له في الجاهلية عرجدة، فقال له: صِد لي شرَّ الطير، واشوه بشرِّ الحطب، وأطعِمْه شرَّ الناس، فصاد رخمةً وشواها ببَعْر، وقرَّبها إلى خوزيّ، فقال له الخوزيُّ: أخطأت في كلِّ شيء أمرك بهِ الملك: ليس الرَّخمةُ شرَّ الطير، وليس البعرةُ شرَّ الحطب، وليس الخوزيُّ شرّ الناس، ولكن اذهب فصِد بومة، واشوها بدفلى، وأطعمها نبطيّاً ولدَ زِنى، ففعل، وأتى الملك فأخبره، فقال: ليس يُحْتاج إلى ولد زِنى يكفيه أن يكون نبطيّاً.
الغراب والرخمة
والغراب
يقوَى على الرَّخمة، والرخمة أعظم من الغراب وأشدُّ، والرَّخمة تلتمس لبيضها
المواضعَ البعيدة، والأماكنَ الوحشيَّة، والجبالَ الشامخة، وصُدوعَ الصَّخر، فلذلك
يقالُ في بيضِ الأنوقِ ما يقال.
ما قيل في بيض الأنوقِ وقال عُتبة بن شمّاس:
ثمَّ أولى أنْ يكون حـقـيقَـا |
|
إنَّ أولى بالحقِّ في كلِّ حـقٍّ |
نَ ومنْ كانَ جدُّهُ الفـارُوقـا |
|
منْ أبوهُ عبد العزيزِ بنُ مروا |
في ذُرى شاهقٍ تفُوت الأنوقا |
|
ردَّ أموالنا عليْنـا وكـانـتْ |
وطلب رجلٌ من أهل الشام الفريضة من معاوية فجاد له بها، فسأل لولدِه، فأبى، فسأله لعشيرته، فقال معاوية:
لمْ يجدْهُ أراد بيضَ الأنُوق |
|
طلب الأبْلقَ العقوق فلمّـا |
وليس
يكون العَقُوق إلاَّ من الإناث، فإذا كانت من البُلق كانت بلقاء، وإنما هذا
كقولهم: زَلَّ في سَلَى جَمَلِ، والجمل لا يكون له سلًى.
وقد يرون بيض الأنوق، ولكنَّ ذلك قليلاً ما يكون، وأقلَّ من القليل، لأنَّ بيضها
في المواضع الممتنعة، وليست فيها منافع فيتعرض في طلبها للمكروة.
وأنا أظنُّ أن معاوية لم يقل كما قالوا: ولكنَّهُ قدم في اللّفظ بيض الأنوق، فقال:
طلب بيض الأنوق، فلما لم يجدْه طلب الأبلق العقوق.
ما يسمَّى بالهدهد وأمَّا قول ابن أحمر:
شمِّ السنابك لا تقي بالجدجد |
|
يمشي بأوظفةٍ شديدٍ أسْرُهـا |
وفؤادُه زجلٌ كعزْفِ الهدهد |
|
إذ صبَّحته طـاوياً ذا شِـرَّةٍ |
فقد
يكون ألاّ يكون عنى بهذا الهدهد، لأنَّ ذكورة الحمام وكلَّ شيء غنّى من الطير وهدر
ودعا، فهو هُدهد، ومن روى كعَزْفِ الهدهدِ فليس من هذا في شيء.
وقد قال الشاعر في صفة الحمام:
مِثْلُ المداكِ خضبته بجسـادِ |
|
وإذا اسْتشرنَ أرنَّ فيها هدهدٌ |
قصة في ميل بعض النساء إلى المال وخطب رجلٌ جميلٌ امرأةً، وخطبها معه رجل دميم فتزوجت الدَّميم لماله، وتركته، فقال:
بأحسن من صلّى وأقبحِهِمْ بعـلاَ |
|
ألا يا عبادَ اللهِ ما تأمُـرونـنـي |
دبيبَ القَرنْبى بات يقرو نقاً سَهْلا |
|
يدِبُّ على أحشائهـا كـلَّ لـيلة |
ما يطلب العذرة
والأجناس
التي تريد العذِرة وتطلبها كثيرة، كالخنازير، والدَّجاج، والكلاب، والجراد، وغير
ذلك، ولكنها لا تبلغ مبلغ الجُعل والرّخمة.
بعض ما يأكل الأعراب من الحيوان وقال ابن أبي كريمة: كنتُ عند أبي مالك عمرِو بن
كِرْكِرة، وعنده أعرابيٌّ، فجرى ذكر القرنْبى، قال: فقلت له: أتعرف القرنْبى? قال:
وما لي لا أعرف القرنبى? فو اللّه لربّما لم يكن غدائي إلاّ القرنبى يُحسْحسُ لي،
قال: فقلت له: إنها دويْبّة تأكل العذرة، قال: ودجاجكم تأكل العذرة.
وقال: قال بعض المدنيِّين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيّاتِ والعقاربَ والجعْلان
والخنافس? فقال: نأكل كلَّ شيء إلاّ أمَّ حُبين، قال: فقال المدنيّ: لتَهْنِ أمَّ
الحبينِ العافية.
قال: وحدثنا ابن جريجٍ، عن ابن شهاب، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن
عباس، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: من الدوابِّ أربعٌ لا يُقْتلن:
النملة، والنَّحلة، والصُّرَد، والهدهُد.
الخفاش
فأوّل ذلك أنَّ الخفّاش طائر، وهو مع أنّه طائرٌ من عَرَضِ الطير فإنّه شديد الطَّيران، كثير التكفّي في الهواء، سريع التقلُّب فيه، ولا يجوز أن يكون طُعمه إلا من البعوض، وقوتُه إلا من الفراشِ وأشباه الفراش، ثمَّ لا يصيده إلاّ في وقت طيرانه في الهواء، وفي وقت سلطانه، لأنَّ البعوض إنَّما يتسلط بالليل، ولا يجوز أن يبلغ ذلك إلاّ بسرعة اختطافٍ واختلاس، وشدّةِ طيران، ولين أعطاف وشدّة متن، وحسن تأتٍّ، ورفقٍ في الصّيد، وهو مع ذلك كلِّه ليس بذي ريش، وإنما هو لحم وجلد، فطيرانه بلا ريش عجب، وكلما كان أشدَّ كان أعجب.
من أعاجيب الخفاش
ومن أعاجيبه أنّه لا يطير في ضوءٍ ولا في ظلمة، وهو طائر ضعيفُ قُوَى البصرِ، قليلُ شعاعِ العين الفاصِلِ من النَّاظر، ولذلك لا يظهر في الظُّلمة، لأنّها تكون غامرة لضياء بصره، غالبةً لمقدار قوى شعاع ناظره، ولا يظهر نهاراً، لأنَّ بصره لِضعف ناظره يلتمع في شدة بياض النهار، ولأنَّ الشيء المتلألئ ضارُّ لعيونِ الموصوفين بحدَّة البصر، ولأن شعاع الشمس بمخالفة مخرج أصوله وذهابه، يكون رادعاً لشعاع ناظره، ومفرِّقاً له، فهو لا يبصر ليلاً ولا نهاراً، فلما علم ذلك واحتاج إلى الكسب والطُّعم، التمس الوقت الذي لا يكون فيه من الظلام ما يكون غامراً قاهراً، وعالياً غالباً، ولا من الضِّياء ما يكون مُعْشياً رادعاً، ومفرِّقاً قامِعاً، فالتمس ذلك في وقت غروب القُرص، وبقيّةِ الشّفق، لأنّه وقت هيْج البعوض وأشباه البعوض، وارتفاعها في الهواء، ووقت انتشارها في طلب أرزاقها، فالبعوض يخرج للطعم، وطعمه دماء الحيوان، وتخرج الخفافيش لطلب الطعم، فيقع طالبُ رزق على طالب رزق، فيصير ذلك هو رزقه، وهذا أيضاً مما جعل اللّه في الخفافيش من الأعاجيب.
علاقة الأذن بنتاج الحيوان
ويزعمون
أن السُّك الآذان والممسوحة، من جميع الحيوان، أنها تبيضُ بيضاً، وأنّ كلَّ أشرف
الآذان فهو يلد ولا يبيض، ولا ندْري لم كان الحيوان إذا كان أشرفُ الآذان ولد،
وإذا كان ممسوحاً باض.
ولآذان الخفافيش حجمٌ ظاهر، وشخوص بيِّن، وهي وإن كانت من الطير فإنَّ هذا لها،
وهي تحبل وتلد، وتحيض، وترضع.
ما يحيض من الحيوان
والناس
يتقزّزون من الأرانب والضِّباع، لمكان الحيض.
وقد زعم صاحب المنطق أنَّ ذوات الأربع كلَّها تحيضُ، على اختلافٍ في القلَّة
والكثرة، والزّمان، والحمرة والصفرة، والرقّة والغلظ، قال: ويبلغ من ضنِّ أنثى
الخفافيش بولدها ومن خوفها عليه، أنها تحمله تحت جناحها، وربّما قبضت عليه بفيها،
وربّما أرضعته وهي تطير، وتقوى من ذلك، ويقوى ولدُها على ما لا يقوى عليه الحمام
والشَّاهْمرْك، وسباع الطير.
معارف في الخفاش
وقال
معمرٌ أبو الأشعث: ربَّما أتأمتِ الخفافيشُ فتحمل معها الولدين جميعاً، فإنْ عظُما
عاقبتْ بينهما.
والخفّاش من الطير، وليس له منقار مخروط، وله فمٌ فيما بين مناسر السِّباع وأفواه
البوم، وفيه أسنانٌ حداد صلاب مرصوفة من أطراف الحنك، إلى أصول الفك، إلاّ ما كان
في نفس الخطم، وإذا قبضتْ على الفرخ وعضتْ عليه لتطير به، عرفت ذَرَب أسنانها،
فعرفت أي نوعٍ ينبغي أن يكون ذلك العض، فتجعله أزْماً ولا تجعله عضّاً ولا
تنْيِيباً ولا ضَغْماً، كما تفعل الهرَّة بولدها، فإنّها مع ذربِ أنيابها، وحدَّة
أظفارِها ودِقَّتها، لا تخدش لها جلداً، إلا أنها تُمْسِكها ضرباً من الإمساك،
وتأزم عليها ضرباً من الأزم قد عَرفته.
ولكل شيءٍ حدٌّ به يصلح، وبمجاوزته والتقصير دُونه يفسد.
وقد نرى الطَّائر يغوص في الماء نهاره، ثم يخرج منه كالشَّعرة سَلَلْتها من
العيجن، غير مبتلِّ الرِّيش، ولا لثقِ الجناحين، ولو أنَّ أرفق الناس رِفقاً، راهن
على أن يغمس طائراً منها في الماء غمسةً واحدة ثمّ خلَّى سِربه ليكون هو الخارج
منه، لخرج وهو متعجِّن الريش، مُفْسد النظم، منقوضُ التأليف، ولكان أجود ما يكون
طيراناً أن يكون كالجادفِ، فهذا أيضاً من أعاجيب الخفاش.
من أعاجيب الخفافيش
ومن أعاجيبها تركها ذرى الجبال وبسيط الفيافي، وأقلاب النخل، وأعالي الأغصان، ودَغل الغياض والرياض، وصُدوع الصّخر، وجزائر البحر، ومجيئها تطلب مساكن الناس وقربهم، ثم إذا صارت إلى بيوتهم وقربهم، قصدت إلى أرفع مكان وأحصنه، وإلى أبعد المواضع من مواضع الاجتياز، وأعرض الحوائج.
طول عمر الخفاش
ثمَّ
الخفّاشُ بعد ذلك من الحيوان الموصوف بطول العمر، حتى يجوز في ذلك العُقابَ
والورشان إلى النسر، ويجوز حد الفِيَلة والأُسْد وحَميرِ الوحش، إلى أعمار
الحيّات.
ومن أعاجيب الخفافيش أنّ أبصارها تصلح على طول العمر، ولها صبرٌ على طول فقد
الطُّعم، فيقال إنّ اللواتي يظهرن في القمر من الخفافيش المسنّاتُ المعمَّرات،
وإنّ أولادهن إذا بلغن لم تقو أبصارهُنَّ على ضياء القمر.
ومن أعاجيبها أنها تضخم وتجسم وتقبل الشّحم على الكبر وعلى السنّ.
القدرة التناسلية لدى بعض الحيوان
وقد
زعم صاحبُ المنطق أنَّ الكلاب السلوقيَّة كلما دخلتْ في السنِّ كان أقوى لها على
المعاظلة.
وهذا غريبٌ جداً، وقد علمنا أنّ الغلام أحدُّ ما يكون وأشبقُ وأنكحُ وأحرصُ، عند
أوّل بلوغه، ثم لا يزالُ كذلك حتى يقطعه الكبر أو إصفاء أو تعرض له آفة.
ولا تزال الجاريةُ من لدُنْ إدراكها وبلوغِها وحركة شهوتها على شبيه بمقدارٍ واحد
من ضعف الإرادة، وكذلك عامَّتهنَّ، فإذا اكتهلن وبلغت المرأة حدّ النَّصَف فعند
ذلك يقوى عليها سلطانُ الشَّهوةِ والحرص على الباهِ، فإنما تهيج الكهلة عند سُكون
هيج الكهل وعند إدبار شهوته، وكلال حدِّه.
قول النساء في أشباهن في الخفافيش
وأما
قول النساء وأشباه النساء في الخفافيش، فإنهم يزعمون أن الخفاش إذا عضَّ الصبي لم
ينزع سنه من لحمه حتى يسمع نهيق حمار وحشيٍّ، فما أنسى فزعي من سِنِّ الخفاش،
ووحشتي من قربه إيماناً بذلك القول، إلى أن بلغت.
وللنساء وأشباه النساء في هذا وشبهه خرافاتٌ، عسى أن نذكر منها شيئاً إذا بلغنا
إلى موضعه إن شاء اللّه.
ضعف البصر لدى بعض الحيوان
ومن
الطير وذوات الأربع ما يكون فاقد البصر بالليل، ومنها ما يكون سيّءَ البصر، فأمّا
قولهم: إنَّهَ الفأرة والسنّور وأشياء أُخر أبصرُ باللَّيل، فهذا باطل.
والإنسان رديء البصر باللَّيل، والذي لا يبصر منهم باللَّيل تسمّيه الفرْس شبْكُور
وتأويلُهُ أنَّهُ أعْمى ليْلٍ، وليْسَ لهُ في لُغةِ العربِ اسم أكثَرُ من أنّه
يُقالُ لمنْ لا يُبْصِرُ باللَّيل بعينه: هُدَبِد، ما سمعتُ إلاّ بهذا، فأمّا
الأغطش فإنّه السيِّءُ البصر بالليل والنهار جميعا.
وإذا كانت المرأة مُغْرَبَةَ الْعَيْنِ فكانت رديَّة البصر، قيل لها: جَهْراء،
وأنشد الأصمعيُّ في الشاء:
بصراً ولا مِنْ عَيْلةٍ تُغنينـي |
|
جهراء لا تألو إذا هي أظهرتْ |
وذكروا أنَّ الأجهر الذي لا يبصر في الشمس، وقوله لا تألو أي لا تستطيع، وقوله: أظهرت صارت في الظهيرة، والعَيْلة: الفقر، قال: يعني به شاة. وقال يحيى بن منصور، في هجاء بعض آل الصَّعِق:
كيف اقتصاصك من ثأْرِ الأحابيش |
|
يا ليتني والمنى ليستْ بمـغْـنـيةِ |
أمْ تغْمِضون كإغماضِ الخفافيش |
|
أتنكحون مواليهم كمـا فـعـلـوا |
وقال أبو الشمقمق، وهو مروان بن محمد:
نٌ وبالبصـرة داري |
|
أنا بالأهواز مـحـزو |
حيث أهلي وقـراري |
|
في بني سعدٍ وسـعـد |
صِرُ في ضوء النهار |
|
صرت كالخفاش لا أُبْ |
وقال الأخطل التغلبيّ:
على الزّاد ألقته الوليدة في الكسرِ |
|
وقد غبرَ العَجْلان حيناً إذا بـكـى |
فقُبِّح من وجهٍ لئيمٍ ومن حَـجْـرِ |
|
فيصبح كالخُفاش يدلـك عـينـه |
وقالوا: السحاة مقصورة: اسم الخفاش، والجمع سحاً كما ترى.
لغز في الخفاش
وقالوا في اللُّغز، وهم يعنون الخفّاش:
وقد ذَهَبُوا في الشِّعر في كلِّ مذهبِ |
|
أبى شعراءُ النَّاس لا يُخبـرونـنـي |
وأظْفارِ يَرْبوعٍ وأنـيابِ ثـعـلـب |
|
بجلـدةِ إنـسـان وصُـورةِ طـائرٍ |
النهي عن قتل الضفادع والخفافيش
هشامٌ
الدَّسْتوائي قال: حدَّثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عبد اللّه بن عمر أنّه
قال: لا تقتلوا الضَّفادِعَ فإنَّ نقيقَهُنَّ تسبيح، ولا تقتلوا الخفَّاش فإنَّه
إذا خرب بيت المقْدسِ قال: يا ربِّ سلِّطني على البحر حتّى أغرقهم.
حماد بن سلمة قال: حدّثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، قال: قال عبد اللّه بن عمر: لا
تقتلوا الخفَّاش، فإنّه استأذنَ في البحر:أن يأخذ من مائه فيطفئ نار بيت المقدسِ
حيث حرق، ولا تقتلوا الضَّفادع فإنَّ نقيقها تسبيح.
قال: وحدثنا عثمان بن سعيد القرشي قال: سمعت الحسن يقول: نهى رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم عن قتل الوَطْواطِ، وأمر بقتل الأوزاغ.
قال: والخفاش يأتي الرُّمانة وهي على شجرتها، فينقب عنها، فيأكل كلَّ شيءٍ فيها
حتى لا يدع إلاّ القشر وحده، وهم يحفظون الرُّمَّان من الخفافيش بكلِّ حيلة.
قال: ولحوم الخفافيش موافقةٌ للشواهين والصُّقورة والبوازي، ولكثير من جوارح
الطير، وهي تسمن عنها، وتصحّ أبدانُها عليها، ولها في ذلك عملٌ محمودٌ نافعٌ عظيمُ
النَّفْع، بيِّنُ الأثر، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
=