كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2022

مجلد 4. الحيوان للجاظ

 

مجلد 4.

الجزء الرابع

بِسم الله الرحمن الرحِيمِ

وصَلَّى اللَّهُ على سَيِّدنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبْهِ وَسلَّمَ نَبدأ في هذا الجزء، بعَوْن اللهِ وتأييدِه، بالقول في جُمْلة الذّرّة والنملة، كما شرطنا به آخِرَ المصحَفِ، الثَّالث، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه العليِّ العظيم.

خصائص النملة

قد علمنا أنَّ ليس عندَ الذَّرَّةِ غَنَاءُ الفرَسِ في الحرب، والدَّفْع عن الحريم، ولكنّا إذا أردْنا موضِعَ العجَبِ والتَّعجيب، والتَّنْبيه على التدبير،، ذكرنا الخسيسَ القليلَ، والسَّخِيفَ المهِين، فأرَيْناكَ ما عنده من الحِسِّ اللطيفِ، والتَّقْديرِ الغريب، ومِن النظر في العواقب، ومشاكلةِ الإنسان ومزاحمَتِه.
والإنسانُ هو الذي سُخِّر له هذا الفَلكُ بما يشتمل عليه.


وقد علمنا أنَّ الذَّرَّةَ تدّخرُ للشتاء في الصَّيف، وتتقدَّمُ في حال المُهلةِ، ولا تُضِيعُ أوقاتَ إمكانِ الحزم، ثم يبلغ من تفقُّدها وحُسْنِ خبرها والنظر في عواقب أمْرها، أنَّها تخافُ على الحبوب التي ادَّخَرَتْها للشِّتاءِ في الصيف، أنْ تعفنَ وتُسوِّسَ ، يقبلها بطن الأرض، فتخرِجها إلى ظهرها، لتُيبِّسها وتُعيدَ إليها جُفوفها، وليضربها النَّسِيمُ، وينفَى عنها اللَّخَنَ والفساد، ثمَّ رّبما كان، بل يكون، أكثر - مَكانُها ندياً وإن خافتْ أن تنبت نَقَرتْ موضع القطْميِر، من وسط الحبّة، وتعلم أنّها من ذلك الموضع تبتدئُ وتنبتُ وتنقل، فهي تفلق الحبّ كلَّه أنصافاً، فأمّا إذا كان الحب من حبِّ الكُزْبُرة، فلقته أرباعًا، لأنَّ أنْصافَ حبِّ الكزبرة ينبت منْ بين جميع الحبوب، فهي على هذا الوجه مجاوزةٌ لفِطنةِ جميع الحيوان، حتَّى ربَّما كانت في ذلك أحزمَ من كثير من الناس، ولها، مع لطافة شخْصها وخِفَّة وزنها، وفي الشمِّ والاستراوح ما ليس لشيء. وربّما أكل الإنسانُ الجرادَ أو بعض ما يشبه الجرادَ، فتسقط من يدِه الواحدةُ أو صدرُ الواحدة، وليس يرى بقُربِه ذَرَّةً ولا له بالذّرِّ عَهْدٌ في ذلك المنزلِ، فلا يلبثُ أن تُقْبِل ذَرَّة قاصدةٌ إلى تلك الجرادة، فترومها وتحاول قَلْبها ونقلها، وسحبها وجرَّها، فإذا أعجزتْها بَعْدََ أن بلغَتْ عُذْرًا، مضتْ إلى جُحرِها راجعةً، فلا يلبَثُ ذلك الإنسانُ أن يراها قد أقبلتْ، وخَلفها صُويحباتُها كالخيطِ الأسودِ الممدوُد، حتى يتعاونَّ عليها فيحملنها، فأوَّلُ ذلك صِدْق الشَّمَّ لما لا يشَمُّه الإنسان الجائع، ثمَّ بُعْدُ الهمَّةِ، والجراءةُ على محاولةِ نقل شيءٍ في وزْنِ جسمِها مائةَ مرَّة، وأكثر من مائةِ مرّة، وليسَ شيءُ من الحيوان يقْوى على حملِ ما يكونُ ضعف وزنه مرارًا غيْرَها، وعلى أنها لا ترضى بأضعْافِ الأضعافِ، إلاّ بعد انقطاعِ الأنفاس،

كلام النمل

فإن قلت: وما علَّمَ الرَّجُلَ أنَّ الَّتي حاولتْ نَقْل الجرادَةِ فعجَزت، هي التي أخْبَرَتْ صُوَيحباتِها من الذَّرّ، وأنها كانت على مقدَّمتهن? قلنا: لِطُول التَّجربة، ولأنّا لم نر ذَرَّةً قط حاولَتْ نقل جرادةِ فعجزتْ عنها، ثمَّ رأيناها راجعةً، إلاّ رأينا معها مثْلَ ذلك، وإنْ كنّا لا نَفْصِلُ في العين بينها وبينَ أخواتها، فإنَّه ليس يقعُ في القلب غيرُ الذي قلنا، وعلى أنَّنا لم نرَ ذَرَّةً قطُّ حملت شيئاً أو مضت إلى جُحرِها فارغةً، فتلقاها ذَرّةٌ، إلاّ واقَفَتْها ساعة وخبَّرتْها بشيء، فدَلَّ ذلك على أنّها في رجوعها عن الجرادة، إنَّما كانت لأشباهها كالرَّائد لا يكذبُ أهْلَهُ ومن العجب أنَّك تُنْكر أنَّها توحي إلى أخْتِها بشيءٍ، والقرآنُ قد نطق بما هو أكثرُ من ذلك أضعافاً، وقال رُؤْبة بن العجَّاج:

عِلْمَ سُلَيْمانَ كلامَ النَّمْـلِ

 

لو كُنْتُ عُلِّمْتُ كلامَ الحُكْلِ

وقال اللّه عز وجلّ: "حَتى إذا أتَوْا على وادي النَّمْلِ قالتْ نَمْلةٌ يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلوا مساكِنَكُمْ لا يحْطِمَنَّكُمْ سُليمانُ وجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعرُونَ، فَتبَسَّمَ ضاحِكاً منْ قَولها وقالَ ربِّ أَوْزعْني أنْ أشكُرَ نعْمتك الَّتي أنعمت عليَّ" فقد أخبر القرآنُ أنها قد عرَفَتْ سليمان وأثبتتْ عيْنَهُ، وأنَّ علْمَ منطقها عندَه، وأنها أمرتْ صُويحباتها بما هو أحزَمُ وأسلم، ثمَّ أخْبَرَ أنها تعرِفُ الجنودَ من غير الجنود، وقد قالت: )وَهُمْ لا يَشْعُرُون(، ونخَالُك أيها المنكِرُ تبسُّمَهُ بحالهنَّ ، أنّك لم تعرفْ قَبْلَ ذلك الوقتِ وبَعْدَهُ، شيئاً مِنْ هذا الشكل من الكلام، ولا تدْبيرًا في هذا المقدار، وأمّا ما فوق ذلك فليس لك أن تدَّعيه، ولكن، ما تُنكِرُ من أمثاله وأشباهه وما دُون ذلك، والقرآنُ يدلُّ على أنّ لها بياناً، وقولاً، ومنطقاً يفصلُ بين المعاني التي هي بسبيلها? فلعلها مكلَّفة، ومأمورةٌ منهيَّة، ومُطيِعةٌ عاصية، فأوّل ذلك أن المسألة من مسائل الجهالات، وإنّ مَنْ دَخلتْ عليه الشُّبهة من هذا المكانِ لناقصُ الرَّوِيَّة، رَديُّ الفكْرة.
وقد علمنا، وهم ناس ولهم بذلك فضيلةٌ في الغريزةِ وفي الجنسِ والطَّبيعة، وهم ناسٌ إلى أن ينتهوا إلى وقت البلوغ ونزول الفَرْض حتى لو وَردت ذَرّةٌ لشرِبتْ مِنْ أعلاه.

شعر فيه ذكر النمل

استطراد لغوي قال أبو زيد: الحمكة القمْلة، وجمعه حَمَك، وقد ينقاسُ ذلك في الذَّرّةِ.
قال أبو عبيدة: قرية النمل من التُّراب وهي أيضاً جرُثومة النمل، وقال غيره: قرية النمل ذلك التراب والجُحرُ بما فيه من الذرِّ والحبِّ والمازنِ، والمازنُ هو البيض، وبه سمَّوا مازن.
قال أبو عَمْرو : الزِّبال ما حملت النملة بفيها، وهو قول ابن مُقبل :

فلم يُرْتَزَأ برُكوب زبالا

 

كريم النِّجارِ حَمَى ظهره

شعر في التعذيب بالنمل

وأنشد ابن نُجيمْ:

ثمَّ بالنَّحس والضِّباب الذُّكور

 

هَلكوا بالرُّعافِ والنمل طوْراً

وقال الأصمعيّ في تسليط الله الذَّرَّ على بعض الأمم:

 

لا ترى عُقْرَ دارهم بالمبينِ

 

لحقوا بالزّهْوَيَين فأمـسـوا

 

ن فجازاهُمُ بدارٍ شَطـون

 

سلَّط الله فازرا وعُقـيفـا

تحت ظلِّ الهدى بذات الغُصون

 

يتبعُ القارَّ والمسافرَ مِـنْـهُـمْ

 








فازر، وعقيفان: صنفان من الذَّرّ، وكذلك ذكروه عن دغفل بن حنظلة الناسب، ويقال: إنّ أهل تهامة هلكوا بالرُّعافِ مرتينِ، قال: وكان آخِرُ من مات بالرُّعاف من سادة قريش، هِشامَ ابن المغيرة.
قال أميّةُ بن أبي الصَّلت في ذلك:

وأراهُ العذاب والتَّدمـيرا

 

نُزِعَ الذِّكْرَ في الحياةِ وغنا

وسِنيناً فأهلكَتْهُمْ ومُـورا

 

أرسلَ الذَّرَّ والجرادَ عليهم

رَّ وإن الجراد كان ثُبُورا

 

ذَكَرُ الذَّرِّ إنَّه يفعل الشـر

النبي سليمان والنملة

وقرأ أبو إسحاق قوله عز وجلَّ: "وَحُشِرَ لِسُليمانَ جُنودُهُ مِن الجنِّ والإنسِ والطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعونَ"، حتَّى إذا أَتَوْا على وادي النَّمْلِ، فقال: كان ذلك الوادي معروفاً بوادي النمل، فكأنّه كان حِمى، وكيف نُنْكِرُ أن يكون حمى? والنَّمْلُ ربَّما أجْلتْ أمَّةً من الأُممِ عن بلادهم.
ولقد سألت أهل كسكر فقلت: شَعِيرُكُمْ عَجبٌ، وأرْزكُمْ عَجبٌ، وسمككم عجب، وجِداؤكُمْ عجب، وبطُّكم عَجبٌ، ودَجاجُكم عجب، فلو كانت لكم أعناب فقالوا: كلُّ أرضٍ كثيرة النَّمْلِ لا تصلُح فيها الأعناب، ثمَّ قرأ: قالتْ نَمْلَةٌ يا أيها النّمْلُ ادْخُلوا مساكِنكُمْ فجعل تلك الجِحَرةَ مساكن، والعربُ تسميها كذلك ثمَّ قال: لا يحْطمنَّكُمْ سُليمانُ وَجنودهُ فجمعتْ من اسمه وعينه، وعرفت الجنُدَ من قائد الجند، ثم قالت: "وَهُمْ لا يشعْرُونَ" فكانوا معذورين، وكنتم ملومين، وكان أشدَّ عليكم، فلذلك قال: فتبسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قوْلِها لما رأى مِنْ بُعْدِ غوْرها وتسديدها، ومعرفتها، فعند ذلك قال: رَبِّ أوْزعْني أن أشْكُرَ نِعْمتكَ الَّتي أنعمْتَ عليَّ وعلى والديَّ وأنْ أعملَ صالِحاً ترضاهُ وأدْخلني بِرحْمتِكَ في عِبادِكَ الصَّالحينَ،

أمثال في النمل

قال: ويقال: ألطف من ذَرَّةٍ و: أضْبطُ مِنْ نملة، قال: والنملةُ أيضاً: قُرحَةٌ تعرضُ للسَّاق، وهي معروفةٌ في جزيرة العرب، قال: ويقال: أنْسَبُ مِنْ ذَرّ قول في بيت من الشعر فأمَّا قوْلُهُ:

رِّ عَلَيْها لأنْدَبَتْها الكلـومُ

 

لَوْ يَدِبُّ الحوْلِيُّ مِنْ وَلدِ الذَّ

فإنَّ الحوليَّ منها لا يُعرفُ منْ مَسانِّها، وإنما هو كما قال الشاعر:

من الحيِّ أمْسَتْ بالحبيبَين بلْقعا

 

تلقّط حَوْلِيّ الحصى في منازلٍ

قال: وحوليُّ الحصى: صغارها، فشبَّهه بالحوليِّ من ذوات الأربع،

أحاديث وآثار في النمل

ابن جُريج، عن ابن شهاب، عن عُبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن عباس، أنَّ رسول اللهًًِ صلى الله عليه وسلم قال: مِنْ الدَّوابِّ أربَعٌ لا يُقْتَلْنَ: النّملة، والنَّحْلة، والصُّرَد، والهُدهُد، وحدَّثنا عبدُ الرحمن بنُ عبدِ الله المسعودي، قال: حدّثنا الحسن بن سعد، مولى علي بن عبد الرحمن بن عبد اللّه قال: نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منزلاً فانطلق لحاجته، فجاء وقد أوقد رجلٌ على قريَةِ نَمْلٍ، إمَّا في شجرةٍ وإمَّا في أرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :مَنْ فَعلَ هذا? أطْفِئها أطْفئها، ويحيى بن أيوب، عن أبي زرعة بن جرير، قال أنبأنا أبو زرعة عن أبي هريرة قال: نزل نَبِيٌّ من الأنبياء تحتَ شجرةٍ، فعضَّتْه نملةٌ، فقام إلى نَمْلٍ كثيرٍ تحتَ شجرةٍ فقتلهُنَّ، فقيل له: أفلا نَمْلةً واحدةً?.
وعبد اللّه بنُ زيادٍ المدنيُّ، قال: أخبرني ابنُ شهابٍ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: نزَلَ نبيٌّ من الأنبياء تحتَ شَجَرةٍ، فقرَصَتْهُ نَمْلَةٌ، فأمَرَ بجَهازه فأُخرجَ مِنْ تحتها، ثمَّ أمرَ بقَرْيِة النَّمْلِ فأُحرقَتْ، فأوْحى اللهُ إليه: أفي أن قَرَصَتْكَ نملةٌ أهلكتَ أُمَّةً من الأممِ يسبِّحون الله تعالى ? فهلاَّ نمْلةً واحدةً، ٍيحيى بن كثير، قال: حدّثنا عمر بن المغيرة بن الحارث الزِّمَّاني، عن هشامٍ الدَّسْتوائي قال: إنَّ النَّمْلَ والذَّرَّ إذا كانا في الصَّيفِ كلِّه ينقُلْن الحبَّ، فإذا كان الشتاءُ وخِفْنَ أن ينبت فلقْنَه،  هشام بن حسّان، أنّ أهلَ الأحنفِ بن قيس لَقوا من النَّمْلِ أذًى، فأمرَ الأحنف بكُرْسيٍّ فوُضِع عند جُحْرهنَّ، فجلَسَ عليه ثمَّ تشهَّد فقال: لَتَنْتَهُنَّ أوْ لنُحَرِّقنّ عليْكُنَّ، أو لنفعلنَّ أوْ لنفعَلنَّ قال: فذهبن، وعوف بن أبي جميلة عن قسامةَ بن زُهير قال: قال أبو موسى الأشعريّ: إنَّ لكلِّ شيء سادةً، حتَّى إنَّ للنمل سادة، عبد اللّه بن زيادٍ المدنيُّ، قال: أنبأنا ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: خرج نبيٌّ من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هُمْ بنملة رافعة رأسها إلى السماء، فقال ذلك النبيُّ: ارجِعُوا فقد استُجيبَ لكم منْ أَجْلِ هذا النَّمْلِ، مِسْعَر بن كِدام، قال حدّثنا زيد القمِّيُّ، عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي قال: خرج سليمانُ بنُ داود - عليهما الصلاة والسلام - يستسقي فرأى نملةً مستلقيةً على ظهرها، رافعةً قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهمَّ إنَّا خلقٌ من خَلْقك، ليس بنا غنًى عن سقْيك، فإمّا أنْ تسقينا وترزُقنا، وإمَّا أنْ تُميتنا وتُهلكنا فقال: ارجعوا فقد سُقيتمْ بدعوة غيركم.
تأويل آية وحدثني أبو الجهجاه قال: سأل أبو عمرو المكفوف عن قوله تعالى: )حتى إذا أَتَوْا على وادِي النّمْلِ قالتْ نَمْلةٌ يا أيُّها النَّملُ ادْخُلُوا مساكِنَكُمْ لا يحْطِمَنَّكُمْ سُليمانُ وجنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرونَ(، فتبسَّم ضاحكاً منْ قَولِهاٍ فقلت له: إن نذيرًا يعجب منه نبيٌّ من الأنبياء ثمَّ يعظمُ خطرهُ حتى يُضحِكه لَعَجيب قال: فقال: ليس التأويل ما ذهبتَ إليه، قال: فإنَّه قد يضْحك النبيُّ، عليه السلام، من الأنبياء مِنْ كلامِ الصبيِّ، ومِنْ نادرةٍ غريبة، وكلُّ شيءٍ يظهَرُ من غير معدِنه، كالنَّادرة تُسمع من المجنون، فهو يُضْحِك، فتبسُّمُ سُليمانَ عندي على أنّه استظرف ذلك المقدارَ من النّملة، فهذا هو التأويل

سادة النمل

وقال أبو الجهجاه: سألتُه عن قول أبي موسى: إنَّ لكلِّ شيءٍ سادةً حتى الذَّرُِّ، قال: يقولون: إنّ سادتها اللَّواتي يخرُجْنَ من الجُحْر، يرتَدْنَ بجماعتها، ويستبقن إلى شمِّ الذي هُو مِنْ طعامهنَّ، تأويل شعر لزهير وقال زهير:

عَدُوِّي بألْفٍ مِنْ وَرائي مُلجَّـمِ

 

وقالَ سأقضِي حاجَتي ثمَّ أتَّقـي

لدى حيثُ ألقَتْ رَحْلها أمُّ قشْعمِ

 

فشَدَّ ولم تفْزَع بُيُوت كـثـيرةٌ

قال بعض العلماء: قرية النمل استطراد لغوي قال: ويقال في لسانه حُبْسة: إذا كان في لسانه ثِقَلٌ يمنَعُه من البيان، فإذا كان الثِّقلُ الذي في لسانه من قِبَل العُجْمةِ قيل: في لسانه حُكْلة، والحُكلُ من الحيوان كلِّه ما لم يكن له صوتٌ يُستَبان باختلاف مخارجه، عند حَرَجِه وضجَره، وطلبهِ ما يغذُوه، أو عندَ هِياجه إذا أراد السِّفاد، أو عند وعيدٍ لقتالٍ، وغير ذلك من أمره.
رأي الهند في سبب اختلاف كلام الناس وتزعم الهندُ أنّ سبب ماله كثر كلامُ الناس واختلفتْ صُوَرُ ألفاظهم، ومخارج كلامهم، ومقاديرُ أصواتهم في اللِّين والشّدّةِ، وفي المدِّ والقطْع كثرةُ حاجاتهم، ولِكثرةِ حاجاتهم كثرتْ خواطرُهم وتصاريفُ ألفاظهم، واتّسعتْ على قدْرِ اتِّساع معرفتهم،  قالوا: فحوائج السَّنانير لا تعدو خمسة أوجه: منها صياحُها إذا ضربت، ولذلك صورة، وصياحُها إذا دعت أخَواتها وآلافَها، ولذلك صورة، وصياحُها إذا دعَتْ أولادَها للطُّعْم، ولذلك صورة، وصياحُها إذا جاعَتْ، ولذلك صورة، فلما قلَّتْ وجوهُ المعرفةِ ووجوهُ الحاجات، قلَّتْ وجوهُ مخارج الأصواتِ، وأصواتها تلك فيما بينها هو كلامها، وقالوا: ثمَّ من الأشياء ما يكونُ صوتها خفيّاً فلا يفهمه عنها إلا ما كان مِن شكلها، ومنها ما يفهم صاحبَه بضروبِ الحركات والإشاراتِ والشمائل، وحاجاتها ظاهرةٌ جليَّة، وقليلةُ العددِ يسيرة، ومعها من المعرفة مالا يقصِّر عن ذلك المقدار، ولا يجوزُه، ورَاضَةُ الإبل، والرِّعاءُ، وَرُوَّاضُ الدَّوَابِّ في المُروجِ، والسُّوَّاسُ، وأصحابُ القنْص بالكلابِ والفهود، يعرفون باختلاف الأصواتِ والهيئات والتشوُّف، واستحالة البصرِ، والاضطراب، ضروباً من هذه الأصناف، ما لا يعرف مثله من هو أعقلُ منهم، إذا لم يكن له مِنْ مُعاينةِ أصنافِ الحيوان ما لهمْ، فالحُكلُ من الحيوان من هذا الشكل، وقد ذكرناه مرَّة قال رُؤبة:

أوْ أنَّني أُوتيتُ علمَ الحُكْـلِ

 

لَوْ أَنَّني عُمِّرْتُ عُمْرَ الحِسْلِ

عِلْمَ سُليمانٍ كلامَ النّمل تأويل بيت للعماني وقال أبو العباس محمَّد بن ذُؤيب الفُقيميُّ، وهو الذي يقال له العُمانيُّ في بعض قصائده في عبد الملك بن صالح، والعُمانيُّ ممن يُعدُّ ممن جمع الرَّجزَ والقصيد، كَعُمَرَ بن لجأ، وجرير بن الخطفي، وأبي النّجم وغيرهم.
قال العُمانيّ:

تُساودُ أُخرى لم يَفُتْهُ سِوادُها

 

ويَعْلم قَوْلَ الحُكْل لو أنَّ ذَرَّة

يقول: الذَّرُّ الذي لا يُسمع لمناجاته صوت، لو كان بينها سِوادٌ لفهمه، والسِّواد هو السِّرار، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: أذنكَ حتى أساودك أي تسمع سِوادي، وقالت ابنةُ الخُسِّ: قُرْب الوسادِ وطولُ السِّواد قال أبو كبير الهُذَليُّ:

حتى نَظَرْتُ إلى السِّماكِ الأعزلِ

 

ساودت عنها الطَّالبينَ فلـمْ أنَـمْ

وقال النمرُ بنُ تَوْل:

وشهدْتُ عند اللَّيل مُوقِدَ نارها

 

ولقد شهِدْتُ إذا القداحُ تَوَحَّدَتْ

وكأنَّ لَوْن الملحِ تحت شفارها

 

عن ذاتِ أوْليةٍ أساودُ رَبّـهـا

وقد فسَّرنا شأن الحكل، وقال التيميُّ الشاعرُ المتكلم وأنشد لنفسه وهو يهجو ناساً من بني تغْلبَ معروفين:

عِبادةُ أعلاجٍ عليها البرانسُ

 

عُجْم وحُكْلٌ لا تُبِينُ، ودِينُها

ففصل بين الحُكْل والعُجْم فجعل العجم مثل ذواتِ الحافر والظِّلف والخفِّ، وجعل الحُكْلَ كالذّرِّ والنَّمل والخنافس، والأشكال التي ليست تصيحُ من أفواهها، فقال لي يومئذ حفصٌ الفَرْدُ: أشهدُ أنّ الذي يقال فيه حقٌّ، كان والله نصرانيًّا، ثمَّ صار يخبر عن النصارى كما يخبر عن الأعراب بين الأصمعي والمفضَّل وقال الأصمعيّ للمفضَّل، لما أنشد المفضَّلُ جعفرَ بن سليمانَ قولَ أوسِ بن حجر:

تُصْمِتُ بالماء تَوْلباً جَدِعا

 

وذاتُ هدمٍ عارٍ نواشِرُها

فجعل الذَّال معجمة، وفتحها، وصحَّف، وذهب إلى الأجذاع، قال الأصمعيّ: إنما هي: تَوْلباً جَدِعا الدَّال مكسورة، وفي الجَدِع يقول أبو زُبيد:

عن التضبُّبِ لا عَبْلٌ ولا جَدِعُ

 

ثُمَّ استقاها فلم يقطع نظائمهـا

وإنما ذلك كقول ابن حَبْناء الأشجعي:

ولا جَدِعُ النَّباتِ ولا جَدِيبُ

 

وأرْسَلَ مُهْمَلاً جَدِعاً وخُفّاً

فنفخ المفضَّلُ، ورفع بها صوته، وتكلَّم وهو يصيح، فقال الأصمعي: لو نفخت بالشَّبُّور لم ينفعك تكلَّمْ بكلامِ النَّملِ وأصِبْ والشَّبُّور: شيء مثل البُوق، والكلمة بالفارسية، وهو شيءٌ يكون لليهود، إذا أراد رأسُ الجالوت أن يحرِّم كلام َرجلٍ منهم نفخُوا عليه بالشَّبُّور.
حريم الكلام لدى اليهود والنصارى  وليس تحريمُ الكلام من الحدود القائمة في كتبهم، ولكنَّ الجاثَلِيقَ ورأس الجالوتِ، لا يمكنُهُما في دار الإسلام حبسٌ ولا ضرْب، فليس عندهما إلاّ أنْ يغرِّما المال، ويُحرِّما الكلام، على أنَّ الجاثليق كثيراً ما يتغافل عن الرَّجلِ العظيمِ القدْر، الذي له من السُّلطان ناحيةٌ، وكان طيمانو رئيس الجاثليق، قدْ همَّ بتحريم كلام عَونٍ العباديِّ، عندما بلغه من اتخاذ السَّراري، فتوعّده وحلف: لئن فعل ليُسْلِمنَّ وكما ترك الأشقيل وميخاييل وتوفيل، سَمْلَ عيْنِ مَنْويل وفي حكمهم أنَّ من أعان المسلمين على الرُّوم يقتل؛ وإن كان ذا رأي سَملوا عينيه ولم يقتلوه فتركوا سُنَّتهم فيه، وقد ذكرنا شأنهم في غير ذلك، في كتابنا على النَّصَارى فإن أردته فاطلبهْ هنالك معنى بيت لابن أبي ربيعة وقال عمر بن أبي ربيعة:

لأَبَانَ مِنْ آثارهـنَّ حُـدُورُ

 

لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فوقَ ضاحِي جِلْدِها

والحَدْر: الورم والأثرُ يكون عن الضَّرْب.

التسمية بالنمل

وقد يسمَّى بِنَمْلة ونُمَيْلة، ويكتنون بها، وتسمَّوا بذَرٍّ، واكتنوا بأبي ذرّ، ويقال: سيفٌ في مَتْنهِ ذَرٌّ، وهو ذَرِّيُّ السَّيف

أشعارفي صفة السيف

قال أوسُ بنُ حجر، في صفة السَّيْفِ:

ومَدْرج ذرّ خافَ برْداً فأسْهلاَ

 

كأن مدبَّ النَّمْلِ يتَّبِـعُ الـرُّبـا

كفى بالَّذي أبلى وأنعتُ مُنْصُلاَ

 

على صفحتيه بعد حين جـلائه

انتقام عقيل بن علفة ممن خطب إحدى بناته قال: وخطب إلى عقيل بن عُلَّفة بعض بناتهِ رجلٌ من الحُرْقة من جُهينة، فأخذه فشَدَّهُ قِماطاً، ودهن استه برُبٍّ وقمطهُ وقرَّبه من قرية النَّمل، فأكل النملُ حُشْوَةَ بطنهِ.
شعر فيه ذكر النمل وقال ذو الرمة:

مُداخَلَةٍ أبوابُها بُنِـيَتْ شَـزْرا

 

وَقَـرْيةِ لا جِـنٍّ ولا أَنَـسِـيّةٍ

ولكنَّها كانت لمنزلنـا قَـدْرا

 

نَزلْنا بها ما نبتغي عندها القِرَى

وقال أبو العتاهية:

جثْل الفُرُوعِ كثيرةٌ شُعَبُه

 

أخْبِثْ بدارٍ هَمُّها أشِـبٌ

لَبِقَدْرِ ما تَعْلو بِهِ رُتَبُـه

 

إنَّ استهانتها بمنْ صرعتْ

حتى يطير فقدْ دنا عطبه

 

وإذا استوتْ للنَّمل أجنحة

وقال البعيث:

لمولاه إلاّ سَـعْـيه بـنـمـيم

 

ومولًى كَبَيْتِ النملِ لاَ خَيْرَ عنده

بعض ما قيل في النمل

قال: وقد سمعت بعض الأعراب يقول: إنهُ لنمامٌ نمْليٌّ، على قولهم: كذبَ عليَّ نَمِلٌ إذا أرادوا أنْ يخبروا أنه نمام، وقال حميد بن ثوْر، في تهوين قوَّة الذّرّ:

على جِلْدِها بضّتْ مدارجهُ دما

 

منعَّمَة، لو يُصْبحُ الذَّرُّ سـاريًا

وقال اللّه عز وجل: "فَمَنْ يَعْمَلْ مثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يرَهُ، ومنْ يَعْمَلْ مثْقَال ذَرَّةٍ شرًّا يَرَه"" قال: وقيل لعائشة - رضي الله تعالى عنها، وقد تصدَّقتْ بحبَّةِ عنب: أتصَدَّقينَ بحبَّةِ عنب? قالت: إن فيها لمثاقيل ذَرّ.

لغز في النّمْل

وممّا قيل في الشِّعر من اللُّغز:

وليس يضُرُّ ولا ينفعُ

 

فما ذُو جناحٍ له حافر

يعني النَّمل، فزعم أنّ للنَّمل حافرًا، وإنَّما يحفْر جُحره، وليس يَحفْرِهُ بفمه، التعذيب بالنمل وعذّب عُمَرُ بن هُبيرة سعيد بن عمرو الحَرَشيّ بأنواع العذاب فقيل له: إن أردت ألاّ يُفْلِحَ أبداً فمُرْهُمْ أن ينفخُوا في دُبُرِه النّمل، ففعلوا فلم يفلح بعدها.

ما يّدخر قوته من الحيوان

قالوا: وأجناسٌ من الحيوان تَدَّخرُ، وتُشبَّهُ في ذلك بالإنسان ذي العقل والرَّوِيَّة، وصاحب النَّظرِ في العواقب، والتفكير في الأمور: مثلُ الذّرّ، والنّمل، والفأر، والجرذان، والعنكبوت، والنّحل، إلاّ أنَّ النحل لا يدَّخر من الطعام إلاّ جنساً واحداً، وهو العسل.

أكل الذَّرّ والضباع للنمل

وزعم اليقطريّ أنّك لو أدخَلْتَ نملةً في جُحر ذرٍّ لأكلتها، حتى تأتي على عامّتها، وذكر أنَّه قد جرَّب ذلك، وقال صاحب المنطق: إنَّ الضِّباع تأكل النمل أكلاً ذريعاً، وذلك أن الضِّباع تأتي قريةَ النَّمْلِ في وقتِ اجتماعِ النّمل، فتلحَس ذلك النَّملَ بلسانِها، بشهوةٍ شديدةٍ، وإرادة قويّة.

أكل النمل للأرضة

قالوا: وربّما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم، وأكلتْ كلَّ شيءٍ لهم، ولا تزالُ كذلك حتى يَنْشُوَ في تلك القرى النَّمل، فيسلِّط اللّه ذلك النّملَ على تلك الأرَضة، حتى تأتيَ على آخرها، وعلى أنَّ النَّمْلَ بعد ذلك سيكونُ له أذى، إلاّ أنَّه دونَ الأرضةِ تعدِّياً، وما أكثرَ ما يذهَبُ النَّمل أيضاً من تلك القُرى، حتى تتمَّ لأهلها السَّلامةُ من النَّوعينِ جميعاً،وزعم بعضُهم أنَّ تلك الأرَضَة بأعيانها تستحيل نَمْلاً، وليسَ فَناؤُها لأكلِ النَّمْلِ لها، ولكنَّ الأرضةَ نفسَها تستحيلُ نملاً، فعلى قدْرِ ما يَستحيل منها يُرَى النقص في عددِها، ومضَرَّتِها على الأيام.

مثل في النمل

قال: وبِالنَّمْلِ يُضرب المَثل؛ يقال: جاؤوا مِثْلَ النَّمْلِ. والزِّنْج نوعان: أحدهما يفخَر بالعدد، وهم يسمَّون النَّمل، والآخَر يفخَر بالصَّبرِ وِعظَم الأبدان، وهم يسمَّون الكلاب، وأحدهما يكبو والآخرُ ينبو، فالكلابُ تكْبو، والنَّمل تنبو.

أجنحة النَّمل

قال: ومن أسبابِ هلاك النّمْلِ نباتُ الأجنحة له، وقد قال الشاعرُ:

حتى يَطِيرَ فقَدْ دَنَا عَطبُه

 

وإذا استَوَتْ للنّمْلِ أجنحةٌ

وإذا صارَ النَّمل كذلك أخصبَتِ العصافير؛ لأنها تصطادها في حال طيرَانها.

وسيلة لقتل النمل

قالوا: وتُقْتَلُ بأنْ يصبَّ في أفواه بيوتها القَطِران والكِبريتُ الأصفر، ويُدَسَّ في أفواهها الشَّعر، وقد جرَّبنا ذلك فوجدناه باطلاً، انتهى.

جملة القول في القِرْدِ والخِنزير

وفي تأويل المَسْخ، وكيف كان، وكيف يُمسَخُ الناس على خلقتهما دونَ كلِّ شيء، وما فيهما من العِبرة والمحنة؛ وفي خصالهما المذمُومة، وما فيهما من الأمُورِ المحمودة؛ وما الفَصْل الذي بينهما في النَّقص، وفي الفَضْل، وفي الذمِّ وفي الحمد.
ما ذكر في القرآن من الحيوان وقد ذكر اللّه عزَّ وجلَّ في القرآن العنكبوتَ، والذّرَّ والنَّمْلَ، والكلبَ، والحِمار، والنَّحلَ، والهُدهدَ، والغُرابَ، والذئب، والفِيلَ والخيل، والبغال، والحمير، والبقَرَ، والبعوضَ، والمعز، والضأن، والبقرة، والنعجة، والحوت، والنُّون، فذكر منها أجناساً، فجعلها مثلاً في الذِّلَّة والضَّعف، وفي الوهْن، وفي الْبَذَاءِ، والجهل.

هوان شأن القرد والخنزير

وقال اللّه عزَّ وجلَّ: "إنَّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا" فقلَّلهَا كما ترَى وَحقّرها، وضرب بها المثل، وهو مع ذلك جلَّ وعلا، لم يمسخ أحداً من حَشْو أعدائه وعظمائِهم بعوضة. وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ"، إنَّمَا قرَّع الطالب في هذا الموضعِ بإنكاره وضعفه، إذ عجز ضعفُه عن ضَعْفِ مطلوبٍ لا شيءَ أضعَفُ منه، وهو الذباب، ثمّ مع ذلك لم نجدْه جلَّ وعلا، ذَكَرَ أنَّهُ مسخ أحداً ذُباباً.وقال: "وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ" فَدَلَّ بوهْن بيتِه على وهْن خَلْقه، فكان هذا القولُ دليلاً على التّصغيرِ والتّقليل، وإنما لم يقل: إنِّي مسخْتُ أحداً من أعدائي عنكبوتاً.
 وقال تعالى: "فَمَثَلَهُ كَمَثَلِ الْكلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ" فكان في ذلك دليلٌ على ذمِّ طباعه، والإخْبار عن تسَرُّعِهِ وبَذائِه، وعن جهله في تدبيره، وترْكِهِ وأخْذه، ولم يقل إني مسخْتُ أحداً من أعدائِي كلباً.وذكر الذّرَّة فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ فكان ذلك دليلاً على أنَّه من الغايات في الصِّغَر والقِلَّة، وفي خِفَّة الوزْن وقلة الرجحان، ولم يذكُرْ أنّه مسَخَ أحداً مِن أعدائه ذرّة، وذكر الحِمار فقال: كَمَثَلِ الحِمار يَحمِلُ أَسْفَاراً فجعله مثلاً في الجهل والغفلة، وفي قِلَّةِ المعرفةِ وغِلَظِ الطَّبيعة، ولم يقلْ إنِّي مسخْتُ أحداً من أعدائي حماراً، وكذلك جميع ما خَلَق وذَكرَ من أصناف الحيوان بالذَّمِّ والحمد.
فأمَّا غير ذلك ممّا ذكر من أصناف الحيوان، فإنّه لم يذكرْهُ بذمٍّ ولا نقص، بل قد ذكر أكثَرَهنّ بالأمور المحمودة، حتَّى صار إلى ذكر القرد فقال: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخنَازِيرَ فلمْ يكنْ لهما في قلوبِ النَّاس حال، ولو لم يكن جعل لهما في صُدور العامّة والخاصّة من القُبْح والتَّشويه، ونذالةِ النَّفس، ما لم يجعلْهُ لشيءٍ غيرهما من الحيوان، لما خصَّهما اللّه تعالى بذلك، وقد علمنْا أنَّ العقربَ أشدُّ عداوةً وأذًى، وأفسَدُ، وأنَّ الأفعى والثُّعْبانَ وعامَّةَ الأحناش، أبغَضُ إليهم وأقتَلُ لهم، وأنَّ الأسَدَ أشَدُّ صَوْلةً، وأنَّهم عن دفعهم له أعجز، وبغضَهم له على حسب قوّته عليهم، وعجزِهم عنه، وعلى حَسبِ سوءِ أثره فيهم، ولم نَرَهُ تعالى مسَخَ أحداً من أعدائه على صورة شيءٍ من هذه الأصناف،ولو كان الاستنذالَ والاستثقالَ والاستسقاطَ أراد، لكان المسخ على صورة بناتِ وَرْدانَ أولى وأحقّ، ولو كان التَّحقيرَ والتَّصْغيرَ أرَادَ، لكانت الصُّؤابة والجِرْجِسَة أولى بذلك، ولو كان إلى الاستصغار ذهَبَ لكان الذّرُّ والقمْل والذُّبابُ أولى بذلك، والدَّليل على قولنا قوله تبارك وتعالى: "إنّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيمِ، طَلعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِيِن" ولَيْسَ أن النَّاسَ رأوْا شيطاناً قطُّ على صورة، ولكنْ لما كان اللّه تعالى قد جعل في طِباع جميع الأمم استقباحَ جميعِ صُور الشَّياطين، واستسماجَه وكراهتَهُ، وأجرى على ألسنة جميعهم ضرْبَ المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتّنفير، وبالإخافة والتقريع، إلى ما قد جعله اللّه في طباع الأوَّلين والآخِرين وعندَ جميعِ الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم،وهذا التأويل أشبهُ مِن قولِ مَنْ زعَمَ مِن المفسِّرين، أنّ رُؤوسَ الشّياطين نبات نبت باليمن.
وقال اللّه عزّ وجلّ لنبيِّه:" قُلْ لاَ أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ، فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإنّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيم" فذكر أنه رِجْسٌ، وذكر الخنزير، وهو أحد المسوخ، ولم يذكر في هذه الآية التي أحصى فيها أصنافَ الحرام، وأباح ما وراء ذلك القرْدَ. وصار بعضهم إلى تحريمه من جهة الحديث، وهو عند كثيرٍ منهم يحتمل المعارَضة.

الخنزير

مساوئ الخنزير فلولا أنَّ في الخنزير معنًى متَقَدِّماً سوى المسخ، وسِوى ما فيهِ من قبح المنظر وسَماجة التمثيل، وقبح الصوت، وأكل العَذِرة، مع الخلاف الشديد واللِّواط المفْرط والأخلاقِ السمجة، ما ليس في القرد الذي هو شريكه في المسخ لَمَا ذَكَرَه دونه تحريم الخنزير في القرآن دون القرد وقد زعم نَاسٌ أنَّ العربَ لم تَكنْ تأكلُ القُرودَ، وكان من تنصَّرَ مِن كبار القبائل وملوكِها يأكلُ الخِنزير، فأظهر لذلك تحريمهُ؛ إذ كان هناكَ عالَمٌ من الناس، وكثير من الأشراف والوضعاء، و الملوكِ والسُّوقة، يأكلونُه أشدَّ الأكل، ويرغَبون في لحمه أشدّ الرغبة،  قالوا: ولأنَّ لحم القرد يَنْهَى عن نفسِهِ، ويكفي الطبائعَ في الزّجرِ عنهُ غَنَثُه، ولحم الخنزير ممّا يُسْتَطابُ ويتواصَف، وسَبيلُ لحم القردِ كسَبيلِ لحمِ الكلب، بل هو شرٌّ منهُ وأخبَث، وقد قال الشاعر للأَسديِّ الذي لِيمَ بِأكل لحمِ الكلب:

لو خافَكَ اللّهُ عليهِ حَرَّمهْ

 

يا فقعسيُّ لِمْ أكَلْتُه لِـمـهْ

فما أكَلْتَ لحمهُ ولاَ دَمَهْ وليس يريد بقوله: لو خافك اللّه عليهِ أنّ اللّه يخافُهُ على شيءٍ أو يخافه من شيء، ولكنَّهُ لمَّا كانَ الكلبُ عندَهُ مما لا يأكله أحد وَلاَ يُخَافُ عََلَى أَكْلِهِ إلاّ المضطرُّ، جعل بدل قوله: أمِنَ الكلبُ على أكْل لحمه، أنَّ اللّه هو الذي لم يخَفْ ذلك فيحرِّمه، وهذا ممّا لا تقف الأعرابُ عليه، ولا تَتَّبعَ الوهمُ مواضِعَه؛ لأنَّ هذا بابٌ يدخل في باب الدِّين، فيما يُعرَف بالنَّظر.
ما قيل في جودة لحوم الكلاب وقد يأكل أجْراءَ الكلاب ناسٌ، ويستطيبونها فيما يزعمون، ويقولون: إنّ جرو الكلب أسمنُ شيءٍ صغيراً، فإذا شبَّ استحال لحمه، كأنَّه يشبّه بفرخ الحمام مادام فرخاً وناهضاً، إِلى أن يستحكم ويشتدّ ذكر من يأكل السنانير وما أكثر من يأكل السَّنانير، والذين يأكلونها صِنفان من الناس: أحدهما الفتى المغرور، الذي يقال له أنت مسحور، ويقال له: من أكل سِنّوراً أسودَ بهيماً لم يعمَلْ فيه السحر، فيأكله لذلك، فإذا أكله لهذه العلَّة، وقد غسل ذلِكَ وعصره، أذهب الماءُ زُهُومَته، ولمْ يكن ذلك المخدوعُ بمستقذِرٍ ما استطابه، ولعلّهُ أيضاً أن يكون عليه ضربٌ من الطَّعام فوق الذي هو فيه، فإذا أكله على هذا الشَّرط، ودبّر هذا التدبير، ولم ينكره، عاوده، فإذا عاوده صار ذلك ضَراوةً له.
والصِّنف الآخر أصحاب الحمام؛ فما أكثر ما ينصِبُون المصائد للسَّنانير، التي يُلقَّوْنَ منها في حمامهم، وربَّما صادف غيظ أحدهم وحَنَقُه وَغَضَبُهُ عليه، أن يكون السِّنَّور مُفرِطَ السِّمن، فيدعُ قتْله ويذبَحُه، فإذا فعل ذلك مرَّةً أو مرتين، صار ضراوةً عليها، وقد يتقَزَّز الرَّجلُ من أكل الضّبِّ والوَرَل والأرنب، فما هو إلاَّ أنْ يأكُله مرَّةً لبعضِ التَّجرِبة، أو لبعضِ الحاجة، حتى صار ذلك سبباً إلى أكلها، حتى يصير بهم الحال إلى أن يصيروا أرغبَ فيها من أهلها، طيب لحم الجراد وها هنا قومٌ لا يأكلون الجرادَ الأعرابيّ السمين، ونحن لا نعرف طعاماً أطيبَ منه، والأعراب إنَّما يأكلون الحيَّاتِ على شبيهٍ بهذا الترتيب ولهذه العوارض، أكل الأفاعي والحيات وزعم بعضُ الأطبَّاء والفلاسفة، أنَّ الحيَّاتِ والأفاعيَ تؤكل نِيئَةً ومطبوخة، ومشويَّة، وأَنَّهَا تغذُو غِذَاءً حسَناً، رؤبة وأكل الجراذن وزعم أبو زيد، أنَّه دخل على رؤبة، وعنده جِرذانٌ قد شَوَاهُنّ، فإذا هو يأكلهنَّ، فأنكر ذلك عليه، فقال رؤبة: هُنّ خيرٌ من اليرابيعِ والضِّبابِ وأطيَبُ؛ لأنها عندكم تأكُلُ الخبزَ والتمرَ وأشباهَ ذلك، وكفاك بأكل الجرذان، ولولا هول الحيَّاتِ في الصُّدور من جهة السُّموم، لكانت جهة التقذُّر أسهلَ أمراً من الجرذان، أكل الذبان والزنابير وناسٌ من السُّفالة يأكلون الذّبَّان، وأهلُ خُراسانَ يُعجَبون باتخاذ البَزْماوَردِ من فِراخ الزَّنابير، ويعافون أذنابَ الجرادِ الأعرابيِّ السمين، وليسَ بين ريح الجَرادِ إذا كانت مشويَّةً وبينَ ريح العقارِبِ مشْويَّةً فرق، والطَّعْمُ تبعٌ للرائِحة: خبيثُها لخبيثها، وطيِّبها لطيّبها،وقد زعم ناسٌ، ممن يأكلون العقاربَ مشويَّة ونيئةً، أنها كالجراد السِّمان، وكان الفضلُ بنُ يحيى يوجِّه خدمَهُ في طلب فراخِ الزَّنابير ليأكلها، وفراخُها ضربٌ من الذُّبان.
أكل لحوم البراذين فأمَّا لحوم البراذين فقد كثُر علينا وفينا، حتى أنِسْنا به، وزعم بعضهم أنَّه لم يأكلْ أطيبَ من رأسِ بِرْذَونٍ وسُرَّتِه، فأمّا السُّرَّةُ والمَعْرَفة فإنهم يزاحِمون بها الجِدَاءَ والدَّجاج، ويقدِّمون الأسرامَ المحشوَّة، أكل السراطين ونحوها  ومِن أصحابنا مَن يأكل السراطين أكلاً ذريعاً، فأما الرق والكوسج فهو من أعجب طعام البحْريِّين، وأهل البَحر يأكلون البلبل فهو اللّحم الذي في جوف الأصداف، والأعرابيُّ إذا وجد أسودَ سالخاً، رأى فيهِ ما لا يرى صاحب الكسمير في كسميره.
أكل ديدان الجبن وخَبَّرني كم شِئْتَ من الناس، أنَّه رأى أصحابَ الجُبْن الرَّطبِ بالأهوازِ وقراها، يأخذون الِقطعةَ الضَّخمةَ من الجبْن الرَّطب، وفيها ككواء الزنابير، وقد تولَّدَ فيها الدِّيدان، فينفضها وسْطَ رَاحتِه، ثمَّ يقمَحُها في فيهِ، كما يقمَحُ السَّويق والسُّكَّر، أو ما هو أطيبُ منه.
ذكربعض أنواع العذاب وقد خبَّر اللّه تعالى عن أصحاب النِّقم، وما أنزل اللّهُ من العذاب، وما أخذ من الشكل والمقابلات، فقال: "فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِه فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا"، وقال: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ، وَأرسَلَ عَلَيْهمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ" وليس من هذه الأصنافِ شيءٌ أبلغُ في المُثْلة والشُّنْعةِ، ممَّن جَعلَ منهم القرَدَة والخنازير ما يقبل الأدب من الحيوان فالخنزير يكون أهلياً ووحشياً، كالحمير والسَّنانير، مما يعايش النَّاس، وكلها لا تقبل الآداب، وإنَّ الفُهودَ وهي وحشيَّةٌ تقبل كلها، كما تقبَلُ البوازِي، والشَّواهين، والصقورة، والزُّرَّق، واليُؤيؤ، والعُقَاب، وعَناق الأرض، وجميعُ الجوارحِ الوحشيَّات، ثمَّ يفضلُها الفهدُ بخَصْلةٍ غريبة وذلك أنّ كبارَها ومَسانَّها أقبَلُ للآدابِ، وإن تقادَمتْ في الوحْش، مِنْ أولادها الصغار، وإن كانت تقبل الآداب؛ لأنَّ الصغيرَ إذا أُدِّبَ فبلغ، خرج جبينًا مُواكِلاً، والمسنَّ الوحشيَّ يخلُص لك كُله، حتى يصير أصيدَ وأنفعَ، وصغارُ سباعِ الطَّير وكبارُها على خلاف ذلك، وإن كان الجميعُ يقبل الأدب، والخنزيرُ وإن كان أهليّاً فإنُه لا يقبل الأدبَ على حال، حتى كَأَنَّهُ وإن كان بهيمةً في طباع ذئب، وذلك أن أعرابيّاً أخذَ جرْوَ ذئبٍ وكان التقطه التقاطاً، فقال: أخذْتهُ وهو لا يعرف أبوَيهِ ولا عملَهُما، وهو غِرٌّ لم يصِدْ شيئاً، فهو إذا رَبَّيناه وألَّفناه، أنفعُ لنا مِن الكلب، فلمّا شبَّ عدا على شاة لهُ فقتلَها وأكل لحمها، فقال الأعرابيُّ:

فَمنْ أَدْرَاكَ أنَّ أباكَ ذيبُ

 

أكَلْتَ شُوَيهتي وَرُبيتَ فينَا

فالذئب وجرو الذئب إذا كانا سبعين وَحْشِيَّيْنِ كانا ثمَّ من أشدِّ الوحْش توحُّشاً وألزمِها للقِفار، وأبعَدها من العمران، والذِّئب أغدَر من الخنزير والخِنّوص وهما بهيمتان.
ضرر الخنزير  وأمَّا ضرره وإفساده، فَمَا ظنُّك بشيءٍ يُتَمَنَّى له الأسَد? وذلك أن الخنازير إذا كانت بقرب ضِيَاع قومٍ، هلَكتْ تلك الضِّياع، وفسَدتْ تلك الغلاّت، وربَّما طلب الخنزير بعضَ العروقِ المدفونَةِ في الأرض فيخرِّب مائَةَ جريبٍ، ونابه ليس يغلبه مِعْول، فإذا اشتدَّ عليهم البلاءُ تمنَّوا أن يصير في جَنْبتهم أسد، ولربَّما صار في ضياعهم الأسد فلا يَهِيجونَه، ولا يؤذونَه، ولو ذهب إنسانٌ ليحفر له زُبيةً منعوه أشدَّ المنع؛ إذ كان ربَّمَا حَمَى جانبَهم من الخنازير فقط، فما ظنّك بإفسادها، وما ظنّك ببهيمةٍ يُتَمَنَّى أن يكون بدلَها أسد? ثمَّ مع ذلك إذا اجتمعوا للخنازير بالسِّلاح، وبالآلاتِ والأدوات التي تقتل بها، فربَّما قتل الرَّجُلَ منهم، أو عقرَهُ العقرَ الذي لا يندمِل؛ لأنَّه لا يضرب بنابه شيئاً إلاَّ قطعَه، كائناً ما كان، فلو قَتلوا في كلِّ يوم منها مائَةً وقتلتْ في كلِّ يومٍ إنساناً واحداً، لما كان في ذلك عِوض.والخنازير تطلب العَذِرَة، وليست كالجلاَّلة؛ لأنها تطلب أحَرَّها وأرطبَها وأنتنَها، وأقربها عهداً بالخروج، فهي في القرى تعرِف أوقاتَ الصُّبحِ والفجْر، وَقبلَ ذلك وبعدَه؛ لبُروزِ النَّاس للغائط، فيعرف من كان في بيته نائِماً في الأسحار ومع الصُّبح، أنَّه قد أسْحَر وأصبح، بأصواتها ومرورِها، ووقْعِ أرجلها في تلك الغيطان، وتلك المتبرَّزَات، وبذلك ضربُوا المثلَ ببكور الخنزير، كما ضربوا المثل بحذَرِ الغراب ورَوَغان الثَّعلب،على أنَّ الثَّعلبَ ليس بأرْوَغَ من الخِنْزير، ولا أكَدَّ للفارس، ولا أشدَّ إتعاباً لصاحبه.
بعض أسباب مسخ الإنسان فأمَّا قُبْحُ وجهِه فلو أنَّ القُبح والإفلاس، والغَدْر والكذب، تجسَّدت ثمَّ تصوَّرتْ لَمَا زادتْ على قُبح الخنزير، وكلّ ذلك بعضُ الأسباب التي مُسخ لها الإنسان خنزيراً، وإنَّ القرد لَسَمِجُ الوجْه، قبيحٌ كلِّ شيء، وكفاك به أنَّه للمثل المضروب ولكنَّهُ في وجهٍ آخَرَ مليحٌ، فمِلْحُه يعترض على قُبْحه فيمازجُه ويُصلِح منه، والخنزيرُ أقبح منه لأنَّه ضربٌ مُصمَتٌ بهيم، فصار أسمجَ ببعيدٍ.
وثب الذكورة على الذكورة وحدَّثَني بعضُ أهل العلم، ممَّن طال ثَواؤه في أرض الجزيرة، وكان صاحبَ أخبار وتجربة، وكان كلفاً يحبِّ التبيّن، معترضاً للأُمور، يحبُّ أنْ يُفضِيَ إلى حقائقها، وتثبيت أعيانها بعللها، وتمييز أجناسها، وتعرّف مقاديرِ قُواها وتصرُّف أعمالها، وتنقُّل حالاتها؛ وكان يعرِفُ للعلم قَدْرَهُ، وللبيان فضلهُ، قال: ربَّما رأيت الخنزير الذَّكر وقد ألجأه أكثرُ مِن عِشرينَ خنزيراً إلى مَضِيق، وإلى زاوية، فينزُون عليه واحداً واحداً، حتى يبلغ آخرُهم،وخبَّرني هذا الرَّجل وغيرهُ من أهل النظر وأصحابِ الفكر، أنَّهم رأوا مثلَ ذلك من الحمير، وذكروا أنّ ذلك إما تأنيثٌ في طبعه، و إمّا أنْ يكون له في أعينها من الاستحسان شبيهٌ بالذي يعتري عيونَ بعضِ الرجال في الغلمان، والأحداثِ الشَّبَاب.وقد يكون هذا بين الغَزانِق والكَرَاكيّ، والتَّسافُد بين الذَّكر والأنثى، والسافد والمسفود إذا كانا من جميع الذكورة، كثيرٌ في جميع أصناف الحيوان، إلاّ أنَّه في جميع الخنازير والحمير أفشى، وأمَّا تسافُد الحمام الذَّكر والأنثى للذَّكر، فأكثرُ من أن يكون فيه تنازع.
معارف في الخنزير وباب آخر ممَّا ذكر صاحب المنطق، فزعم أنّ من الخنازير ما له ظِلف واحد، وليس لشيء من ذوات الأنياب في نابه من القوَّة والذَّرَب ما للخنزير الذكر، وللجمل، والفهد، والكلب، قال: والإنسان يلقي أسنانه، وكذلك الحافر والخفّ، قال: والخنزير لا يلقي أسنانَه البتّة.
من لم يثغر ويقال: إنّ عبد الصَّمد بنَ عليٍّ لم يُثغر قط، وأنَّه دخل قبره بأسنان الصِّبا.
أسنان الذئب والحية وزعم بعضهم أنَّ أسنانَ الذِّئبِ مخلوقَةٌ في الفكّ، ممطولةٌ في نفس العظم، وذلك ممَّا توصف به أسنان الحيَّة، قال الشَّاعرُ:

الرَّأسِ وَأَشْدَاقٍ رَحِيبـاتِ

 

مُطِلْنَ في اللّحْيَيْنِ مَطْلاً إلى

والشَّاعِرُ يمدحُ الشيءَ فيشدِّدُ أمرَه، ويقوِّي شأنُه، وربَّما زاد فيه، ولعلَّ الذي قال في الذِّئب ما قال، هذا أراد، ولا يشكُّون أنّ الضَّبع كذلك.
مرق لحم الحيوان  قال وليس يجمُدُ مرق لحم الحيوان السَّمين، مثل الخنزير والفرس، وأمَّا ما كان كثير الثرب فمرقته تجمد، مثل مرق لحم المِعْزَ.
طباع الخنزير قال: والخنزير الذَّكر يقاتِل في زمن الهيْج، فلا يدَعُ خنزيراً إلاَّ قتله، ويدنو من الشَّجرة ويدلُكُ جلدَه، ثمّ يذهب إلى الطين والحمأة فيتلطخ به، فإذا تساقط عاد فيه.
قال: وذكورة الخنازير تطرد الذُّكورة عن الإناث، وربّما قتل أحدُهما صاحبَه وربّما هلكا جميعاً، وكذلك الثِّيرانُ والكِبَاشُ والتُّيوس في أقاطيعها، وهي قبل ذلك الزَّمان متسالمة.
ما يعرض لبعض الحيوان عند الهيج والجمل في تلك الحالة لا يدَعُ جملاً ولا إنساناً يدنو من هَجْمَتهِ، والجمل خاصَّة يكره قُربَ الفَرَس، ويقاتله أبداً.ومثل هذا يعرِض للذِّئبة والذِّئب، والأُسد ليس ذلك من صفاتها؛ لأنَّ بعضَها لا يأوي إلى بعضٍ، بل ينفرد كلُّ واحدٍ بلبؤته، وإذا كان للذِّئبة الأنثى جِرَاء ساءت أخلاقُها وصَعُبت، وكذلك إناث الخيل والفيل: يسوء خلقها في ذلك الزَّمان، والفَيَّالون يحمونها النَّزْو؛ لأنها إذا نزت جهِلت جهلاً شديداً، واعتراها هَيْجٌ لا يُقام له، وإذا كان ذلك الزَّمانُ أجادوا عَقْله، وأرسلوه في الفِيَلة الوحشيّة، فأمَّا الخنزير والكلبُ فإنهما لا يجهلان على النَّاس؛ لمكان الألفة، قال: وزعم بعضُ النَّاس أنَّ إناثَ الخيلِ تمتلئ ريحاً في زمان هيْجها، فلا يباعدون الذُّكورة عنها، وإذا اعتراها ذلك ركضَتْ ركضاً شديداً، ثمَّ لا تأخذ غرباً ولا شرقاً، بل تأخذ في الشَّمالِ والجنوب،ويعرض مثل هذا العَرَضِ لإناث الخنازير، فإذا كان زمَنُ هَياج الخنازير، تطأطئ رؤوسها، وتحرِّك أذنابهَا تحريكاً متتابعاً، وتتغيّر أصواتُها إذا طَلبت السِّفاد، وإذا طلبت الخنزيرةُ السِّفادَ بالت بولاً متتابِعاً.
تناسل الخنازير قال: وإِناث الخنازير تحمل أربعةَ أشهرٍ، وأكثَرُ ما تحمل عشرون خِنَّوصاً وإذا وضعت أجراءً كثيرَةً لم تَقْوَ على رِضاعها وتربيتها.
قال: وإناث الخنازير تحمل مِنْ نزوةٍ واحدة، وربما كان من أكثر، وإذا طلبت الذَّكرَ لم تنزع حتى تطاوع وتسامحَ، وترخي أذنابها، فإذا فعلت ذلك تكتفي بنزْوةٍ واحدة،ويُعلَفُ الذَّكَرُ الشَّعيرَ في أوان النَّزْو، ويصلُح للأُنثى.
مدد الحمل للحيوان والخنزيرة تضع في أربعة أشهرٍ، والشَّاةُ في خمسة، والمرأة والبقرةُ في تسعة أشهر، والحافر كله في سنة خصائص الخنزير قال: ومتى قلعت العينُ الواحدة من الخنزير هلك، وكثيرٌ من الخنازير تبقى خمسة عشر عاماً، والخنزير ينزو إذا تمّ له ثمانية أشهر، والأنثى تريد الذَّكر إذا تمَّت لها ستَّة أشهر، وفي بعض البلدان ينزو إذا تمّ له أربعة أشهر، والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر، ولكنَّ أولادهما لا تجيء كما يريدون، وأجود النَّزْو أن يكون ذلك منه وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين، وإذا كانت الخنزيرة بكراً ولدت جِراءً ضعافاً وكذلك البكر من كل شيء،الحلال .
وقالَ اللّهُ تَبارك وتعالى: "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشكُرُوا للّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ" ثمَّ ذكر غيْرَ الطيِّبات فقال: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنْخَنِقَةُ وَ المَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ على النُّصُبِ، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ، ذَلِكُمْ فِسْقٌ" ثمّ قال: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّه مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرُّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" وقال: "يَا أَيّها الّذينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِين".
استطراد لغوى  وقوله تعالى: طَيِّبَاتِ تحتمل وجوهاً كثيرة، يقولون: هذا ماءٌ طيِّب، يريدون العُذوبة، وإذا قالوا للبُرِّ والشَّعيرِ والأرز طيِّب، فإنما يريدون أنَّه وَسَطٌ، وأنّه فوقَ الدُّون، ويقولون: فمٌ طيِّب الرِّيح، وكذلك البُرّ، يريدون أنَّه سليم من النّتن، ليس أنَّ هناك ريحاً طيبة ولا ريحاً منتنة، ويقولون: حلالٌ طيِّب، وهذا لا يحل لك، ولا يَطيب لك، وقد طاب لك أي حل لك، كقول: "فَانْكِحُوا مَا طَاب لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ".
قال طُوَيْسٌ المغنِّي لبعضِ ولد عثمانَ بن عفّان: لقدْ شَهِدْتُ زفاف أمِّك المبارَكَةِ إلى أبيك الطيِّب، يريد الطَّهارَة، ولو قال: شهدت زفاف أمِّك الطيِّبة إلى أبيك المبارك، لم يحسُنْ ذلك؛ لأنَّ قولك طيِّب إنَّمَا يدلّ على قدر ما اتَّصلَ به من الكلام.
وقد قال الشّاعِرُ:

والطيِّبون مَعاقِدَ الأُزْرِ

وقد يخلو الرَّجلُ بالمرأة فيقول: وجدتها طيِّبة، يريد طَيِّبة الكَوْم، لذيذةَ نفس الوطء، وإذا قالوا: فلان طيِّب الخُلُق، فإِنما يريدون الظَّرْفَ والمِلْح،وقال اللّهُ عزَّ وجلَّ: "حَتَّى إذَا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ" يريد ريحاً ليستْ بالضعيفة ولا القويّة.
ويقال: لا يحلُّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاَّ عن طيبِ نفْسٍ منه، وقال اللّه عزّ وجلَّ: "فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً" وقال: "لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ في مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ" وذلك إذْ كانت طيّبة الهواءِ والفواكِه، خصيبةً، وقال: "إنَّاا لّذينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" ثم قال: "الخَبيثَاتُ لِلْخَبيثِينَ وَالخَبيثُونَ لِلخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ".
وفي هذا دليلٌ على أنّ التأويلَ في امرأةِ نوحٍ وامْرأة لوط، عليهما السلام، على غير ما ذهب إليه كثيرٌ من أصحاب التَّفسير: وذلك أنهم حينَ سمِعوا قولَه عزّ وجلَّ: "ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنهُمَا" فدلَّ ذلك على أنَّه لم يَعْنِ الخيانَةَ في الفرْج، وقد يقع اسمُ الخيانة على ضروب: أوّلها المالُ، ثمَّ يشتقُّ من الخيانة في المال الغشُّ في النصيحةِ والمشاورةِ، وليس لأحدٍ أنْ يوجِّه الخبرَ إذا نزل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحُرَم الرُّسُل، على أسمَجِ الوجوه، إذا كان للخبر مذهبٌ في السَّلامة، أو في القُصُور على أدنى العيوب،وقد علمْنا أنّ الخيانةَ لا تتخطَّى إلى الفرج حتّى تبتدئ بالمال، وقد يستقيم أن يكونا من المنافقين فيكون ذلك منهما خيانة عظيمة، ولا تكون نساؤهم زواني، فيلزمهم أسماءٌ قبيحة، وقال اللّه عزّ وجلّ: "إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً" وقال: "فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً" وقال: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلْنُحْييَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" وقال تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" وقال: "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ" و "مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ" وقال: "وَظَللَّنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَارَزَقْنَاكُمْ" فقوله: "طيِّب"، يقعُ في مواضعَ كثيرةٍ، وقدْ فصَّلنا بعض ذلك في هذا الباب.
ثم رجع بنا القولُ إلى موضعنا من ذِكر الخنزير  ثمَّ قال: "قُلْ لاََ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيمٌ" ألاَ تراه قد ذكر أصنافَ ما حرَّم ولم يذكرْها بأكثرَ من التَّحريم، فلمّا ذكر الخنزير قال: فَإنَّهُ رِجْسٌ فجعل الخنزير وإنْ كان غير مِيتة أو ذكَرَ الذّابح عليه اسم اللّه، أنَّه رِجْسٌ، ولا نعلم لهذا الوجه إلاَّ الذي خصّهُ اللّه به من ذكر المسخ، فأراد تعظيمَ شأنِ العِقاب ونزولِ الغضَب، وكان ذلك القول ليس ممّا يضرّ الخنزير، وفيه الزَّجر عن محارمه، والتّخويفُ من مواضع عذابه، وإنْ قِيلَ: ينبغي أن يكون مسَخَ صورة القرد، فهلاَّ ذكره في التحريم مع أصناف ما حرَّم، ثمّ خصَّهُ أيضاً أنَّه من بينها رجس، وهو يريد مذهبه وصفته? قلنا، إنّ العربَ لم تكن تأكلُ القرودَ، ولا تلتمسُ صيدَها للأكل، وكلُّ مَن تنصَّرَ من ملوك الرُّومِ والحبشَةِ والصِّين، وكلّ مَن تمجَّس من مَلكٍ أو سُوقة، فإنَّهُمْ كانوا يرون لِلَحْمِ الخنزير فضيلة، وأنّ لحومَها ممَّا تقوم إليهِ النفوسُ، وتنازِع إليه الشّهوات، وكان في طباع الناس من التكرُّه للحوم القِرَدةِ، والتقذُّر منها ما يُغني عن ذكرها، فذكر الخنزيرَ إذْ كان بينهما هذا الفرق، ولو ذكر ذلك وألحقَ القردَ بالخنزير لموضع التحريم، لكان ذلك إنما كان على وجه التوكيد لما جعله اللّه تعالى في طبائعهم من التكرُّه والتقذّر، ولا غير ذلك.
وقال اللّه عَزَّ وَجَلَّ: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإنَّا لَصَادِقُون".
وجوه التحريم وقد أنبأَك كما ترى عن التّحريم أنّهُ يكون مِنْ وجوه: فمنها ما يكون كالكذب والظلم والغَشم والغدْر؛ وهذه أمورٌ لا تحلُّ على وجهٍ من الوجوه، ومنها ما يحرم في العقْل مِن ذبح الإنسانِ الطِّفلَ، وجعَلَ في العقول التبيُّنَ بِأَنّ خالق الحيوانِ أو المالكَ له، والقادرَ على تعويضِهِ، يقبح ذلك في السماع على ألسنة رسله، وهذا مِمَّا يحرم بعَينِهِ و بذاته لاَ أَنه حرِّم لعلة قد يجوز دفعها، والظلم نفسهُ هو الحرام، ولم يحرَّم لعلة غير نفسِه.
وهو ما جاء من طريق التعبُّد، وما يعرف بالجملة، ويعرف بالتفسير.
ومنهُ ما يكون عقاباً، ويكون مع أنهُ عِقابٌ امتحاناً واختباراً، كنحو ما ذكر من قوله: "ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ" وكنحو أصحاب البقرةِ الذين قيلَ لهُمْ: اذْبَحُوا بَقَرَةً فإنِّي أريد أن أضرِبَ بها القتيل ثم أحْييهما جميعاً، ولو اعترضوا مِن جميع البقر بقرة فذبحوها، كانوا غيرَ مخالفين، فلمّا ذهَبوا مذهب التلكؤ والتعلّل، ثم التعرُّض، والتعنُّت في طريق التعنّت، صار ذلك سبب تغليظ الفرض وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً" وقال اللّه تعالى: "الَّذِينَ يَتّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يُجِدُونَه مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ" ومثله: "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا" يجوز أن يكونَ إنَّمَا يريدون صَرْف العذاب، ويجوز أن يكون إنما يريدون تخفيف الفرائض، وقد يجوز أن يكونَ على قول من قال: لا أستطيع النظرَ إلى فلانٍ، على معنى الاستقبال.
وبابٌ آخرُ من التّحريم، وهو قَوْله: "كُلُّ الطّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة" شعر في الخنزير  وقال مروان بن محمد:

كمشي خِنزيرةٍ إلى عَذِرَهْ

 

يَمْشِي رُوَيْداً يُرِيدُ ختلكـم

وقال آخر:

ثَى إذا ما غدا، أبُو كـلـثـوم

 

نِعْمَ جَارُ الخنزيرةِ المرضِعُ الغَر

مِنْ ثـريدٍ مُـلَـبَّـدٍ مَــأدُوم

 

طاوياً قد أصاب عنـد صـديق

سِ فَأَلْقى كالمِعْلَفِ المـهْـدُومِ

 

ثمّ أنْحَى بجَعْرِهِ حاجبَ الـشَّـم ْ

جرير والحضرمي وقال أبو الحسن: وفد جريرٌ على هشامٍ، فقال الحضرمي: أيُّكُمْ يشتمهُ? فقالوا: ما أحدٌ يقْدِمُ عليهِ قال: فأنا أشتمهُ ويرضَى وَيَضْحَك قال: فقام إليهِ فقال: أنت جرير? قال: نعم، قال: فلا قرّبَ اللّه دارَك ولاَ حيَّا مَزَارك يا كَلْب فجعل جريرٌ ينتفخ، ثمَّ قال لهُ: رَضيتَ في شرفك وَفضْلك وَعَفافك أنْ تُهاجِيَ القردَ العاجز? يعني الفرزدق، فضحك.
فحدَّث صديقٌ لي أبا الصَّلَع السِّنديَّ بهذا الحديث، قال: فشِعْري أعجبُ من هذا لأني شتمت البُخَلاءَ، فشتمت نفسي بأشدَّ ممّا شتمتهم، فقال: وَما هو? قال قولي:

أبداً يُسْمَعُ مِنِّـي

 

لاَ تَرَى بيتَ هجاءٍ

قَدْرُهُ يصغُرُ عنِّي

 

الهِجَا أَرْفَعُ مِمَّـنْ

طريفة قال أبو الحسن: كان واحدٌ يسخَر بالنَّاس، ويدَّعي أنَّه يَرقِي من الضِّرس إذا ضربَ على صاحبه، فكان إذا أتاه مَن يشتكي ضِرسه قال له إذا رقاه: إيَّاك أنْ تذكر إذا صِرتَ إلى فِراشك القِردَ؛ فإنَّك إنْ ذكرته بَطَلَتِ الرُّقْية فكان إذا آوى إلى فراشه أوَّلَ شيء يخطر على باله ذِكرُ القرد، ويبيت على حاله من ذلك الوَجَع، فيغدو إلى الذي رقَاه فيقول له: كيف كنت البارحة? فيقول: بِتُّ وَجِعاً فيقول: لعلَّك ذكرْت القرد فيقول: نعم فيقول: مِنْ ثَمَّ لم تنتفع بالرُّقية شعر لبعض ظرفاء الكوفيين وقال بعضُ ظُرَفاءِ الكوفيِّين:

وَإنْ كانت معتَّقَةً عُـقَـارَا

 

فَإنْ يشْرَبْ أبو فَرُّوخَ أشْرَبْ

وإن كانت خَنانِيصاً صِغـار

 

وإن يأكلْ أبو فـرُّوخَ آكُـلْ

قرد يزيد بن معاوية وقال يزيد بن معاوية:

جِيَادَ أميرِ المؤمـنـين أَتَـانُ

 

فَمَنْ مبلِغُ القِردِ الذي سَبقَتْ به

فليس عليها إن هلَكْتَ ضَمَان

 

تَعَلَّقْ أبا قَيْسٍ بها إنْ أطعتَنـى

جزع بشار من شعر الحماد وزعم الجرداني، أنَّ بشَّاراً الأعمى، لم يجزَعْ من هجاءٍ قطُّ كجزَعِه مِن بيتِ حمَّادِ عَجردٍ، حيث يقول:

إذا ما عَمِي القِرْد

 

ويا أقبَحَ مِن قـرد

شعر في الهجاء وقال بُشَير بن أبي جَذِيمة العَبْسيّ:

وهل يستعدُّ القِرْدُ للخَـطَـرَانِ

 

أتَخْطِرُ لِلأَشْرافِ حِذْيمُ كـبـرة

ولُؤْمُ قُرودٍ وَسْط كـلِّ مـكـانِ

 

أبى قِصرُ الأذْنابِ أن يخْطِرُوا بها

وأحسابُكم في الحيِّ غيرُ سِمـان

 

لقد سمِنَتْ قِرْدانُـكُـمْ آلَ حِـذْيم

الأصمعيُّ عن أبي الأشهب عن أبي السليل قال: ما أبالي أخنزيراً رأيتُ يُجَرُّ برجله، أو مثل عبيد ينادي: يالَ فُلان استطراد لغوي الأصمعيُّ عن أبي ظبيان قال: الخُوز هم البُناة الذين بنَوا الصَّرح واسمُهم مشتقٌّ من الخنزير، ذهب إلى اسمه بالفارسية خوك، فجعلت العرب خُوك خُوزاً، إلى هذا ذهب.
تناسل المِسخ وقد قال النَّاسُ في المَسْخ بأقاويلَ مختلفة: فمنهم من زعم أنّ المِسخَ لا يتناسل ولا يبقى إلاَّ بقدر ما يكونُ موعظةً وعِبْرة، فقطعوا على ذلك الشهادةَ، ومنهم مَن زعم أنَّه يبقَى ويتناسل، حتى جعل الضَّبَّ والجِرِّيَّ، والأرانب، والكلاب وغيرَ ذلك، من أولادِ تلك الأمم التي مُسِخت في هذه الصُّور، وكذلك قولُهم في الحيَّات،وقالوا في الوزَغ: إن أباها، لمّا صنع في نار إبراهيمَ وبيت المقْدِس ما صنع، أصمَّهُ اللّه وأبرصَه، فقيل: سامّ أبرص، فهذا الذي نرى هو من ولده؛ حتَّى صار في قتله الأجرُ العظيم، ليس على أنّ الذي يقتلُه كالذي يقتل الأُسْدَ والذِّئاب، إذا خافها على المسلمين، وقالوا في سهيلٍ، وفي الزُّهَرة، وفي هارُوت وماروت، وفي قيرى وعيرى أبَوَي ذي القرنين، وجُرْهم، ما قالوا.
القول في المسخ  فأمَّا القول في نفس المَسْخ فإنَّ النَّاس اختلفوا في ذلك: فأمَّا الدُّهريّة فهم في ذلك صِنفان: فمنهم مَن جَحَد المسْخَ وأقرَّ بالخسْف والرِّيح والطّوفان، وجعل الخسْف كالزَّلازل، وزعم أنَّه يقِرُّ من القذْف بما كان من البَرَد الكِبَار؛ فأمّا الحجارة فإنَّها لا تجيء من جهة السَّماء، وقال: لستُ أجوِّز إلاَّ ما اجتمعتِ عليهِ الأمَّة أنَّه قد يحدث في العالم، فأنْكَرَ المسْخَ البتّة.
أثر البيئة وقال الصِّنف الآخَر: لا ننكر أنْ يفسُدَ الهواءُ في ناحِيةٍ من النواحي فيفسدَ ماؤهم وتفسُدَ تُربتهم، فيعملَ ذلك في طباعهم على الأيَّام، كما عمل ذلك في طباع الزِّنج، وطباع الصَّقالبة، وطباع بِلادِ يأجوج ومأجوج،وقد رأينا العَرب وكانوا أعراباً حينَ نزلوا خراسانَ، كيف انسلخوا من جميع تلك المعاني، وترى طباعَ بلاد الترك كيفَ تطبَعُ الإبلَ والدَّوابَّ وجميعَ ماشيتهم: من سبُعٍ وبهيمةٍ، على طبائعهم، وترَى جرادَ البقولِ والرَّياحِين ودِيدانَها خَضراءَ، وتراها في غير الخُضرة على غير ذلك، وترى القمْلة في رأس الشابِّ الأسودِ الشَّعر سوداء، وتراها في رأس الشَّيخ الأبيضِ الشَّعرِ بيضاءَ، وتراها في رأس الأشْمط شمطاءَ، وفي لون الجملِ الأورق، فإذا كانت في رأس الخَضِيب بالحمرة تراها حمراء، فإنْ نَصَلَ خضابه صار فيها شُكْلةٌ، من بين بيضٍ وحُمْر، وقد نرى حَرَّة بني سُليم، وما اشتملت عليه من إنسانٍ، وسبع، وبهيمةٍ، وطائِر، وحشرة فتراها كلَّها سوداء، وقد خبَّرَنَا من لا يُحصَى من النَّاس أنّهم قد أدركوا رجالاً من نبَط بَيسان، ولهم أذنَابٌ إلاّ تكنْ كأذنَاب التماسيح والأسد والبقر والخيل؛ وإلاَّ كأَذنَاب السَّلاحف والجِرْذان، فقد كان لهم عُجوبٌ طِوالٌ كالأذنَاب، وربَّما رأينا الملاّح النَّبَطِيَّ في بعض الجعفريّات على وجههِ شبهُ القِرْد، وربَّما رأيْنا الرَّجلَ من المغرِب فلا نجد بينهُ وبين المِسخ، إلاّ القليل، وقد يجوز أن يصادف ذلك الهواء الفاسدُ، والماءُ الخبيثُ، والتربةُ الرديَّةُ، ناساً في صفةِ هؤلاء المغربيِّين والأنباط، ويكونون جُهّالاً، فلا يرتحلون؛ ضَنَانَةً بمساكنهم وأوطانهم، ولا ينتقلون، فإذا طال ذلك عليهم زادَ في تلك الشعور، وفي تلك الأذناب، وفي تلك الألوان الشُّقْر، وفي تلك الصُّوَر المناسبةِ للقرود، قالوا: ولم نعرفْ، ولم يثبُتْ عندنا بالخبر الذي لا يعارَض، أنّ الموضع الذي قلب صُوَر قومٍ إلى صور الخنازير، هو الموضع الذي نقل صُوَر قَوْمٍ إلَى صُوَرِ القرود، وقد يجوز أن تكون هذه الصُّورُ انقلبت في مهبِّ الريح الشمالي، والأخرى في مهبِّ الجنوب، ويجوز أن يكون ذلك كان في دهرٍ واحد؛ ويجوز أن يكون بينهما دهرٌ ودهور، قالوا: فلسْنا ننكر المِسْخ إن كان على هذا الترتيب؛ لأنَّه إن كان على مجرى الطَّبائع، وما تدور به الأدوار، فليس ذلك بناقضٍ لقولِنا، ولا مثْبتٍ لقولكُمْ، قال أبو إسحاق: الذي قلتم ليسَ بمُحالٍ، ولا يُنْكَر أن يحدُثَ في العالَم برهاناتٌ، وذلك المِسخْ كان على مجرى ما أُعطُوا من سائِر الأعاجيب، والدَّلائِل والآيات، ونحن إنَّما عرفنا ذلك من قِبَلهم، ولولا ذلك لكان الذي قلتمْ غيرُ ممتنِع، ولو كان ذلك المِسْخُ في هذا الموضع على ما ذكرتم، ثمَّ خبر بذلك نبيٌّ، أو دَعا بِهِ نبيٌّ، لَكان ذلك أعظَمَ الحُجَّة، فأما أبو بكر الأصمّ، وهشام بن الحكم، فإنَّهُما كانا يقولان بالقلْب، ويقولان: إنَّه إذا جاز أنْ يقلب اللّهُ خَرْدلةً من غير أن يزيد فيها جسماً وطولاً أو عرضاً جاز أن يقلب ابنَ آدمَ قِرداً من غير أن ينقُص من جسمه طولاً أو عرضاً.
وأمَّا أبو إسحاقَ فقد كان لولا ما صَحَّ عنده من قول الأنبياء وإجماع المسلمين على أنّه قد كان، وأنَّه قد كان حُجَّةً وبرهاناً في وقته لكان لا ينكر مذهبهم في هذا الموضع، وقوله هذا قولُ جميعِ من قال بالطَّبائع، ولم يذهَبْ مذهب جهمٍ، وحفصٍ الفَرْدِ.
وقال ابن العنسيّ يذكر القرد:

تُؤَامِرُهَا في نَفْسها تَسْتَشِيرُها

 

فهَلاَّ غَدَاةَ الرَّمْلِ يَا قِرْدَ حِذْيمٍ

القول في تحريم الخنزير  قال: وسأل سائلون في تحريم الخنزير عن مسألةٍ؛ فمنهم من أراد الطّعن، ومنهم من أراد الاستفهام، ومنهم مَنْ أحبَّ أن يعرف ذلك من جهة الفُتيا؛ إذْ كان قولُه خلافَ قولنا.
قالوا: إنَّمَا قال اللّه: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ"، فذكر اللَّحمَ دونَ الشّحم، ودونَ الرَّأس، ودونَ المخِّ، ودونَ العصَب، ودون سائرِ أجزائه؛ ولم يذكره كما ذكر المَيْتة بأسرها، وَكذلك الدَّم؛ لأنَّ القول وقع على جملتهما، فاشتمل على جميع خصالهما بِلفظٍ واحد، وهو العموم، وليس ذلك في الخنزير؛ لأنّه ذكر اللّحم من بين جميع أجزائه وليس بين ذِكْر اللَّحْم والعظْم فرق، ولا بينَ اللَّحْمِ والشَّحم فرق، وقد كان ينبغي في قياسكُمْ هذا لو قال: حرِّمت عَلَيْكُمُ الميتَةُ والدَّم وشَحْم الخنزير، أن تحرِّموا الشحم، وإنَّما ذكر اللَّحم، فلِمَ حرّمتم الشحم؛ وما بالُكُمْ؛ تحرِّمونَ الشّحم عند ذكْر غيرِ الشّحم فهلاّ حرَّمتم اللَّحم بالكتاب، وحرَّمتم ما سِواه بالخبر الذي لا يُدْفَع? فإن بقيَتْ خصلةٌ أو خَصلتانِ ممَّا لم تُصيبوا ذِكْره في كتابٍ منَزَّل، وفي أثَرٍ لا يدفع، رددتموه إلى جهة العقل، قُلنا: إنّ النَّاس عاداتٍ، وكلاماً يعرِّف كل شيءٍ بموضعه، وإنما ذلك على قدْر استعمالهم له، وانتفاعهم به،وقد يقول الرجل لوكيله: اشتر لي بهذا الدِّينارِ لحماً، أو بهذه الدراهم، فيأتيهِ باللّحم فيهِ الشّحم والعظْم، والعِرق والعصب والغُضروف، والفُؤَاد والطِّحالُ، والرِّئة، وببعض أسقاط الشاة وحشو البطن، والرأس لحمٌ، والسَّمك أيضاً لحم، وقال اللّه تعالى: "هُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيَّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها"، فَإنْ كانَ الرَّسول ذهب إلى المستعمَل من ذلك، وترَكَ بَعْضَ ما يقع عليهِ اسمُ لحم، فقد أخذَ بما عَلَيْهِ صاحبه، فإذا قال حَرَّمتُ عَلَيْكُمْ لحماً، فكأَنّه قال: لحم الشّاة والبقرة والجزور، ولو أنّ رجُلاً قال: أكلت لحما وإَنمَا أكل رأساً أو كبداً أو سمكاً لم يكنْ كاذباً، وللنّاس أن يضعُوا كلامَهم حيثُ أحَبُّوا، إذا كان لهم مجازٌ؛ إلاَّ في المعامَلات، فإنْ قُلت: فما تقول في الجلدِ? فَلَيس للخنزير جلد، كما أنّه ليس للإنسان جلدٌ إلاّ بقطع ما ظهر لك منه بما تحتَه، وإنّما الجلْد ما يُسْلخُ ويُدْحَس فيتبرأ ممَّا كان بِه مُلتزقاً ولم يكن مُلتحماً، كفرق ما بين جلد الحَوْصَلة والعِرْقين.
فإنْ سألتَ عن الشَّعر، وعن جلد المنْخَنِقة والمَوقُوذةِ والمتردِّيَة والنَّطِيحة وما أكل السَّبُعُ، فإنِّي أزعم أنّ جلدهُ لاَ يُدْبَغ وَلاَ يَنْتَفِعُ بِه إلاّ الأساكفة، والقول في ذلك أنّ كلَّهُ محرّم، وإنما ذلك كقوله تعالى: "ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرهُ" وكَقَوْله عَزَّ وجَلَّ: "وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ" والعَربُ تقُول للرَّجُل الصانع نجَّاراً، إن كان لاَ يعمل بالمِثْقَبِ والمنشار ونحوه ولاَ يضرب بالمضلع ونحو ذلك، وتسميِّه خبَّازا إذا كان يطبخ ويعجن، وتسمِّي العِيرَ لطيمة، وإن لم يكن فيها ما يحمل العِطْر إلاّ واحد، وتقول: هذه ظُعُنُ فُلاَنٍ؛ للهوادج إذا كانت فيها امرأةٌ واحدة، ويقال: هولاء بنو فُلان؛ وإن كانت نساؤهم أكثرَ من الرجال، فلما كان اللحم هو العمود الذي إليه يُقْصَد، وصار في أعظم الأجزاء قَدْراً، دَخَل سائرُ تلك الأجزاءِ في اسمهِ، ولو كان الشّحمُ معتزلاً من اللّحم ومفْرَداً في جميع الشِّحام، كشحوم الكُلى والثُّروب، لم يجزْ ذلك، وإذا تكلمَتْ على المفردات لم يكن المخُّ لحماً، لا الدِّماغ، ولا العظم، ولا الشّحم، ولا الغُضروف، ولا الكروش، ولا مَا أَشبه ذلك، فلما قال: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزيْرِ" وكانت هذه الأشياء المشبَّهة باللَّحم تدخُل في باب العموم في اسم اللحم، كان القَوْلُ واقعاً على الجميع.
وقال الشاعر:

فالهَامُ مَنْضَجَةٌ لَدَى الشَّحَّامِ

 

مَنْ يَأْتِنَا صُبحاً يريدُ غَدَاءَنَا

يُؤْتَى به مِنْ قَبْلِ كلِّ طعامِ

 

لحمٌ نَضِيجٌ لاَ يُعنِّي طابخـاً

مسألة الهدهد  وإذْ قد ذكرْنَا بَعض الكلامِ، والمسائل في بعْض الكلام، فسنذكر شأْنَ الهدهُد والمسأَلة في ذلك، قال اللّه عزَّ وجلَّ: "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبينَ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبينٍ" ثم قال: "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ" يعني الهدهُد، فقال لسليمان المتَوعد له بالذَّبح عقُوبة لَه والعقوبة لا تكون إلا على المعصية لبشريٍّ آدَميّ لم تكن عقوبته الذَّبح، فدلّ ذلك على أنّ المعصية إنما كانت له، ولا تكون المعصيةُ للّه إلاّ ممّن يعرف اللّه، أو ممَّن كان يمكنُه أن يعرفَ اللّه تعالى فَتَرَكَ ما يجِبُ عليه من المعرفة وفي قولهِ لسليمان: "أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجئْتُكَ مِنْ سَبَأ بنبإٍ يَقِينٍ، إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ"، ثمّ قال بعد أنْ عرفَ فصْل ما بين الملوك والسُّوقة، وما بين النِّساء والرجال، وعرف عِظم عرشِها، وكثرةَ ما أوتيت في ملكها، قال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ فَعَرَف السُّجُود للشمس وأنْكَرَ المعاصي، ثمَّ قال: "أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلّه الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يَعْلِنُونَ" ويتعجَّب من سجودهم لغير اللّه، ثمَّ علمَ أنَّ اللّه يعلم غيبَ السَّمواتِ والأرض، ويَعلم السِّرَّ والعلانية، ثمَّ قال: "اللّهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" وهذا يدلُّ على أنّهُ أعْلمُ مِن ناسٍ كثيرٍ من المميِّزين المستدلِّين الناظرين.
قال سليمان: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبينَ ثمَّ قال: "اذْهَبْ بكِتَابي هذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنهُمْ فَانْطُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ". "فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُم بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ". وذلك أنَّها قالت: إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ثمَّ قال سليمانُ للهدهد: ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ وقال: "يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أن يَأتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَويٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بهِِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إَليْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنيٌّ كرِيم" فطعن في جميع ذلك طاعِنون، فقال بعضهم: قد ثبتَ أنّ الهدهد يحتمل العقاب والعتاب، والتَّكليف والثّواب، والوِلاية، ودخولَ الجنَّة بالطّاعة، ودخولَ النَّار بالمعصية؛ لأنَّ المعرفةَ تُوجِب الأمرَ والنهيَ، والأمرَ والنهيَ يوجبان الطاعةَ والمعصية، والطاعةَ والمعصية يوجبان الوَلاَية والعَداوة، فينبغي للهداهد أنْ يكون فيها العدوُّ والوليُّ، والكافر والمسلم، والزِّنديق والدَّهريّ. وإذا كان حُكْمُ الجنس حُكماً واحداً لزم الجميعَ ذلك، وإن كان الهدهدُ لا يبلغ عندَ جميع الناس في المعرفة مبلغَ الذرّة، والنملة، والقملة، والفيلِ، والقرد، والخنزير، والحمام وجميع هذه الأمَمِ، تُقَدِّمُهَا عليه في المعرفة فينبغي أن تكونَ هذه الأصنافُ المتقدِّمَةُ عليه، في عقول هذه الأمَّة والأنبياء، وقد رأينا العلماء يتعجَّبون من خُرافات العَرَب والأعرابِ في الجاهليَّة ومن قولهم في الدِّيك والغراب، ويتعجَّبون من الرِّواية في طوق الحمام فإنّ الحمام كان رائدَ نوح على نبينا وعليه السلام،وهذا القول الذي تؤمنون به في الهدهد، من هذا النوع،قُلنا: إنّ اللّه تعالى لم يقل: وتَفَقّدَ الطَّير فقال ما لي لا أرى هدهداً من عُرْض الهداهد، فلم يوقع قولَه على الهداهد جُملة، ولا على واحدٍ منها غير مقصودٍ إليه، ولم يذهب إلى الجنس عامَّة، ولكِنَّهُ قالَ: "وَتَفَقّدَ الطّيرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ" فأدخَلَ في الاسم الألفَ واللام، فجعله معرفة فدلَّ بذلك القصد على أنَّه ذلك الهدهدُ بعينه، وكذلك غُرابُ نوح، وكذلك حمارُ عُزير، وكذلك ذِئب أُهبانَ بن أوس؛ فقد كانَ لِلّهِ فيه وفيها تدبيرٌ، وليجعَل ذلك آيةً لأنبيائه، وبرهاناً لرسله،ولا يستطيع أعقلُ الناس أن يعملَ عمل أجرإ النَّاس، كما لا يستطيع أجرأُ النَّاس أن يعملَ أعمالَ أعقلِ الناس، فبأَعمال المجانينِ والعُقلاءِ عرَفنا مقدارهما من صحّة أذهانهما وفسادها، وباختلاف أعمالِ الأطفالِ والكهول عرفْنا مقدارَهما في الضعْف والقوَّة، وفي الجهل والمعرفة، وبمثل ذلك فَصَلنا بين الجماد والحيوان، والعالِمِ وأعلمَ منه، والجاهلِ وأجْهلَ منهُ، ولو كان عند السِّباعِ والبهائم ما عند الحكماء والأدباء، والوزَراء والخَلفاء والأمَمِ والأنبياء، لأثمرت تلك العقول، باضطرارٍ، إثمارَ تلك العقول، وهذا بابٌ لا يخطئ فيهِ إلاَّ المانِيَّةُ وأصحابُ الجهالات فقط، فأَمَّا عوامُّ الأمم، فضلاً عن خواصهم، فهم يعلمون مِن ذلك مثلَ ما نعلم، وإنما يُتفاضَل بالبيان والحِفظ، وبنسق المحفوظ، فأَمَّا المعرفة فنحن فيها سواء، ولم نعرف العقلَ وعدَمه ونقصانه، وإفادته، وأقدارَ معارفِ الحيوان إلاَّ بِمَا يظهر منها، وبتلك الأدلَّة عرفنا فرقَ ما بين الحيِّ والميت، وبين الجماد والحيوان، فإن قال الخصم: ما نعرف كلامَ الذِّئب، ولا معرفة الغُراب، ولا علمَ الهدهد، قلنا: نحن ناسٌ نؤمن بأَنَّ عيسى عليه السلام خُلِق من غير ذكرٍ وإنَّما خُلق من أُنثى؛ وأنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ خُلقا من غير ذكرٍ وأنثى، وأنَّ عيسى تكلَّم في المهد، وأنَّ يحيى بن زكريَّا نطق بالحكمةِ في الصِّبا، وأنَّ عقيماً ألقَحَ، وأنَّ عاقراً ولدت؛ وبأَشياءَ كثيرةٍ خرجت خارجيةً من نَسَقِ العادة، فالسّبب الذي به عرَفنا أنّه قد كان لذلك الهدهد مقدارٌ من المعرفة، دونَ ما توهَّمتم وفوق ما مع الهدهد، ومتى سأَلتمونا عن الحجَّة فالسبيل واحدة، ونحن نقرُّ بأَنّ مَن دخل الجَنة من المجانين والأطفال يدخلون عقلاَءَ كاملين، من غير تجاربَ وتمرينٍ وترتيب، فمسأَلتكُمْ عما ألهم الهدهد، هي المسأَلة عمَّا ألهم الطفل في الجنة، فإن قال قائل: فإنّ كانَ ذلك القولَ كلَّه، الذي كان من الهدهد، إنما كان على الإلهام والتّسْخير، ولم يكن ذلك عن معرفةٍ منه، فلم قال: "لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنّهُ"? قلنا: فإنّه قد يتوعَّد الرَّجُلُ ابنَه وَهو بَعْدُ لم يَجر عَلَيْهِ الأحكامُ بالضَّرب الوجيعِ، إن هو لم يأْتِ السُّوق، أو يحفظْ سورَةَ كَذَا وَكَذَا؛ فلا يعنِّفُهُ أحدٌ على ذلك الوعيد، ويكذبُ فيضربه على الكذب، ويضرب صبياً فيضربه لأَنه ضربه، وهو في ذلك قد حَسُنَ خطّه، وجاد حسابُه، وشدَا من النَّحو والعروض والفرائض شدْواً حسناً، ونفع أهلَه، وتَعلم أعمالاً، وتكَلَّم بكلام، و أجاب في الفتيا بكلامٍ فَوْقَ معاني الهدهد في اللّطافة وَالغموض، وَهُوَ في ذلك لم يكمُل لاحتمال الفرض وَالْوَِلاية وَالعَداوَة،فإن قال: فهل يجوز لأحدٍ أن يقول لابنِه: إنْ أنت لم تأتِ السُّوق ذبحتك؛ وَهُوَ جادّ? قُلنا: لا يجوز ذلك، وَ إنَّمَا جاز ذلك في الهدهد لأنّ سليمان وَمَنْ هو دونَ سليمان من جميع العالم له أن يذبح الهدهدَ والحمامَ والدِّيك،  والعَناق والجدْي، والذَّبحُ سبيلٌ من سُبُل مناياهم، فلو ذبحهُ سليمانُ لم يكن في ذلك إلاَّ بقدر التَّقديم والتأْخير، وإلاَّ بقدْر صَرفِ ما بين أن يموت حتْفَ أنفِهِ، أو يموتَ بالذَّبح، ولَعَلَّ صَرْفَ ما بينهما لا يكون إلاَّ بمقدار ألم عِشرين دِرَّة، ولعلَّ نتْف جناحِه يَفي بذلك الضرب، وإذا قلنا ذلك فقد أعطينا ذلك الهدهدَ بعينه حقَّ ما دلَّت عليه الآية، ولم نجزْ ذلك في جميع الهداهد، ولم نَكُنْ كَمَنْ ينكر قدرة اللّه على أن يُرَكِّبَ عصفوراً من العصافير ضرباً من التراكيب يكون أدهى من قيس بن زهير، ولو كان اللّه تعالى قد فعل ذلك بالعصافير لظهرت كذلك دلائل، على أنَّا لو تأوَّلنا الذَّبحَ على مثالِ تأويلِ قولنا في ذبْح إبراهيم إسماعيلَ عليهما السلام - وَإنما كان ذلك ذبحاً في المعنى لغيره أو على معنى قول القائل: أمّا أنا فقد ذبحته وضربت عنقَه، ولكن السيف خانني، أو على قولهم: المِسْك الذَّبيح، أو على قولهم: فجئت وقدْ ذَبَحَنِي العطش لكان ذلك مجازاً، ولو أنَّ صَبيّاً مِن صبياننا سُئل، قبل أن يبلُغَ فرضَ البلوغ بساعة، وكان رأى مَلِكة سبإٍ في جميع حالاتها، لما كان بعيداً ولا ممتنعاً أن يقولَ: رأيتُ امرأةً مِلكَةً، ورأيتها تسجُد للشَّمس من دون اللّه، ورأيتُها تُطيعُ الشَّيطانَ وتَعصِي الرَّحمن، ولا سيما إنْ كانَ من صِبيان الخلَفاء والوُزراء، أو مِنْ صبيان الأعراب،والدَّليل على أنَّ ذلك الهدهدَ كان مسخَّراً وميَسَّراً، مَضِيُّه إلى اليمن، ورجوعُه من ساعته، ولم يكن من الطَّير القواطعِ فرجع إلى وكره، والدَّليل على ذلك أنَّ سليمان عليه السلام لم يقل: نعم قد رأيت كلَّ ما ذكرتَ، وأنت لم تعلم حين مضَيت بطّالاً هارباً من العمل، أتُكْدِي أم تنجح، أو ترى أُعجوبةً أو لا تراها، ولكنَّهُ توعَّدهُ على ظاهر الرَّأي، ونافره القول؛ ليُظهرَ الآيةَ والأعجوبة.ناق والجدْي، والذَّبحُ سبيلٌ من سُبُل مناياهم، فلو ذبحهُ سليمانُ لم يكن في ذلك إلاَّ بقدر التَّقديم والتأْخير، وإلاَّ بقدْر صَرفِ ما بين أن يموت حتْفَ أنفِهِ، أو يموتَ بالذَّبح، ولَعَلَّ صَرْفَ ما بينهما لا يكون إلاَّ بمقدار ألم عِشرين دِرَّة، ولعلَّ نتْف جناحِه يَفي بذلك الضرب، وإذا قلنا ذلك فقد أعطينا ذلك الهدهدَ بعينه حقَّ ما دلَّت عليه الآية، ولم نجزْ ذلك في جميع الهداهد، ولم نَكُنْ كَمَنْ ينكر قدرة اللّه على أن يُرَكِّبَ عصفوراً من العصافير ضرباً من التراكيب يكون أدهى من قيس بن زهير، ولو كان اللّه تعالى قد فعل ذلك بالعصافير لظهرت كذلك دلائل، على أنَّا لو تأوَّلنا الذَّبحَ على مثالِ تأويلِ قولنا في ذبْح إبراهيم إسماعيلَ عليهما السلام - وَإنما كان ذلك ذبحاً في المعنى لغيره أو على معنى قول القائل: أمّا أنا فقد ذبحته وضربت عنقَه، ولكن السيف خانني، أو على قولهم: المِسْك الذَّبيح، أو على قولهم: فجئت وقدْ ذَبَحَنِي العطش لكان ذلك مجازاً، ولو أنَّ صَبيّاً مِن صبياننا سُئل، قبل أن يبلُغَ فرضَ البلوغ بساعة، وكان رأى مَلِكة سبإٍ في جميع حالاتها، لما كان بعيداً ولا ممتنعاً أن يقولَ: رأيتُ امرأةً مِلكَةً، ورأيتها تسجُد للشَّمس من دون اللّه، ورأيتُها تُطيعُ الشَّيطانَ وتَعصِي الرَّحمن، ولا سيما إنْ كانَ من صِبيان الخلَفاء والوُزراء، أو مِنْ صبيان الأعراب،والدَّليل على أنَّ ذلك الهدهدَ كان مسخَّراً وميَسَّراً، مَضِيُّه إلى اليمن، ورجوعُه من ساعته، ولم يكن من الطَّير القواطعِ فرجع إلى وكره، والدَّليل على ذلك أنَّ سليمان عليه السلام لم يقل: نعم قد رأيت كلَّ ما ذكرتَ، وأنت لم تعلم حين مضَيت بطّالاً هارباً من العمل، أتُكْدِي أم تنجح، أو ترى أُعجوبةً أو لا تراها، ولكنَّهُ توعَّدهُ على ظاهر الرَّأي، ونافره القول؛ ليُظهرَ الآيةَ والأعجوبة.
طعن الدهرية في ملك سليمان  ثمَّ طعَن في مُلك سُليمانَ ومَلِكةِ سبإ، ناسٌ من الدُّهريَّة، وقالُوا: زعمتم أنَّ سُليمان سأل ربَّه فقال: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ منْ بَعْدِي" وأنَّ اللّه تعالى أعطاه ذلك، فملَّكه على الجنِّ فضلاً عن الإنْس، وعلَّمه منطِق الطَّير، وسخَّر له الرِّيح، فكانت الجِنُّ له خَوَلاً، والرِّياحُ له مسخرة ثمَّ زعمتم وهو إمّا بالشَّام وإمَّا بسَوَادِ العِراق أنَّه لا يعرف باليمن مَلِكَةً هذه صفتُها، وملوكُنا اليومَ دونَ سليمانَ في القدْرة، لا يخفى عليهم صاحب الخَزَرِ، ولا صاحبُ الروم، ولا صاحبُ الترك، ولا صاحبُ النُّوبة، وكيف يجهل سليمانُ موضِعَ هذه المِلكة، مع قرْبِ دارِها واتِّصَالِ بلادها وليس دونَها بحارٌ ولا أوعارٌ؛ والطريق نهجٌ للخُفِّ والحافر والقدَم، فكيف والجنُّ والإنسُ طوعُ يمينه، ولو كان، حين خبَّره الهدهدُ بمكانها، أضرَب عنها صفحاً، لكان لقائلٍ أن يقول: ما أتاه الهدهدُ إلاّ بأمرٍ يعرفه، فهذا وما أشبهَهُ دليلٌ على فساد أخباركم.
قُلنا: إنّ الدُّنيا إذا خلاّها اللّه وتدبيرَ أهلها، ومجاريَ أمورِها وعاداتها كان لعمري كما تقولون، ونحن نزعمُ أنَّ يَعْقوبَ بنَ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ كَانَ أنبَهَ أهْلِ زمانِه؛ لأنّه نبيٌّ ابنُ نبيٍّ، وكان يوسُف وزير مَلِكِ مصر من النَّباهة بِالموضع الذي لا يُدفَع، وله البُرُدُ، وإليهِ يرجع جوابُ الأَخبار، ثمَّ لم يعرِفْ يَعقوبُ مكانَ يوسُفَ، ولا يوسفُ مكانَ يَعقوبَ عَليهما السلام - دهراً من الدُّهور، مع النَّباهةِ، والقُدْرةِ، واتِّصال الدار وكذلك القولُ في موسى بنِ عمرانَ ومَنْ كَانَ معه في التِّيه، فقد كانوا أمَّةً من الأمم يتَكَسَّعُونَ أربعين عاماً، في مقدارِ فراسخَ يسيرةٍ ولا يهتدون إلى المخرج، وما كانت بلادُ التِّيه إلاّ من ملاعبهم ومُنْتَزَهاتهم، ولا يعدم مثلُ ذلك العسكرِ الأَدلاّءَ والجَمَّالين، والمُكارِينَ، والفُيُوجَ، والرُّسلَ، والتّجار، ولكنَّ اللّه صَرَفَ أوهامَهم، ورفع ذلك الفَصْلَ مِن صدورهم.وكذلك القول في الشَّياطين الذين يسترِقون السّمْعَ في كلِّ ليلة، فَنَقُولُ: إنَّهم لو كان كلما أراد مُريدٌ منهم أن يصعَدَ ذَكَرَ أنَّه قد رُجم صاحبُه، وأنَّه كذلك منذ كان لم يصل معه أحدٌ إلى استراقِ السَّمْع، كان مُحالاً أن يرومَ ذلك أحَدٌ منهم مع الذِّكر والعِيان.
ومثل ذلك أَنّا قد علمْنا أنّ إبْليسَ لا يزالُ عاصِياً إلى يومِ البَعث، ولو كان إبْليسُ في حال المعْصِيَة ذَاكِراً لإخبارِ اللّه تَعالى أنَّه لا يزالُ عاصياً وهو يَعلم أنّ خَبرَه صِدقٌ، كان محالاً أنْ تدعُوَه نفسُه إلى الإيمانِ، ويطمَعَ في ذلك، مع تصديقِهِ بأنّه لا يختار الإيمانَ أَبداً.
ومن المحال أن يجمَع بين وجودِ الاستطاعة وعدم الدَّواعي وجواز الفعل. ولو أنّ رجلاً عَلِم يقيناً أنّه لاَ يخرُج من بيتِه يومَه ذلك، كان محالاً أن تدعُوَه نفسه إلى الخروج، مع علمه بأنّه لا يفعل، ولكِن إ بْليس لما كانَ مصروفَ القَلبِ عن ذِكْر ذلك الخبر، دخل في حَدِّ المستطيعين، ومثل ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا بشره اللّه بالظّفرِ وتمام الأمر بشرّ أصحابَه بالنَّصر، ونزولِ الملائكة، ولو كانوا لذلك ذاكرين في كلّ حالٍ، لم يكن عليهم مِنَ المحاربة مؤونة، وإذا لم يتكلفوا المؤونة لم يؤجَروا، ولكِنّ اللّه تَعالى بنظره إليهم رَفَع ذلك في كثيرٍ من الحالات عن أوهامهم؛ ليحتملوا مشقَّة القِتال، وهم لا يعلمون: أيغلِبُون أم يُغْلَبون؛ أو يَقْتُلُونَ أم يُقتلون،ومثل ذلك ما رفع من أوهام العَرب، وصرف نفوسهم عن المعارَضَةِ للقرآن، بَعْدَ أنْ تحدَّاهم الرَّسولُ بنظْمه، ولذلك لم نَجِدْ أحَداً طمِع فيه، ولو طمِعَ فيه لتَكلفه، ولوتكلف بَعضهُمْ ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شُبهة لعظمت القصَّة على الأعْراب وأشباه الأعراب، والنِّساءِ وأشباه النساء، ولأَلقَى ذلك للمسلمين عملاً، ولطَلبوا المحاكمةَ والتراضي ببعض العرب، ولكثُر القيلُ والقال، فقد رأيتَ أصحابَ مُسيْلمَة، وأصحاب ابن النواحة إنما تَعَلّقُوا بما ألَّف لهُمْ مُسَيلمة من ذلك الكلام، الذي يَعلمُ كلُّ مَن سَمِعه أنَّه إنَّما عَدا على القرآن فسلَبه، وأخَذَ بَعضَه، وتَعاطى أن يُقَارِنَه، فكان للّه ذلك التَّدبيرُ، الذي لا يبلغه العِبَادُ ولو اجتَمَعوا له، فإنْ كان الدُّهريُّ يريدُ من أصحَابِ العِبَادَاتِ والرُّسُلِ، ما يريد من الدُّهريِّ الصِّرفِ، الذي لا يُقِرُّ إلا بما أوجَدَه العِيان، وما يَجري مَجرَى العِيان فَقَدْ ظَلَمَ.وقَد علم الدُّهريُّ أنّنا نعتقِد أنّ لنا رَبّاً يخترع الأجسامَ اختراعاً وأنّهُ حَيٌّ لا بحياة، وعالمٌ لا بعلم، وأنّه شيءٌ لا ينقسم، وليس بذِي طُول ولا عرْض ولا عُمق، وأنّ الأنبياء تحيي الموتى، وهذا كلُّه عنْدَ الدهريِّ مستنكَر، وإنَما كان يكون له عَلَيْنَا سبيل لو لم يكن الذي ذكرنا جائِزاً في القِياس، واحتجْنا إلَى تثبيت الرُّبوبيَّةِ وتصديقِ الرِّسالة، فإذا كان ذلك جائِزاً، وكانَ كونُه غيرَ مستنكَرٍ، ولا محالٍ، ولا ظُلم، ولا عيبٍ، فلم يبقَ له إلاّ أنْ يسألَنَا عن الأصْلِ الذي دعا إلى التَّوحِيدِ، وإلَى تثبيت الرسل،وفي كتابِنا المنزّل الذي يدلُّنا على أنّه صِدْقٌ، نَظْمُه البدِيع الذي لايقدِر على مثله العباد، مَعَ ما سِوَى ذلك من الدّلائِلِ التي جَاء بها مَنْ جَاء به، وفيه مسطورٌ أنّ سليمانَ بنَ داودَ غبَرَ حِيناً وهو ميّت معتمِداً على عصاه، في الموضع الذي لا يُحْجَب عنه إنْسِيٌّ ولا جِنِّيٌّ، والشَّياطينُ مهُمْ المَكْدُودُ بالعَمَل الشديد، وَمِنْهُمْ المحبوسُ والمستعبد، وكانوا كما قال اللّه تعالى: "يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجَوَابِي وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ" وقال "وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأَصْفَادِ"، وَأَنَّهُ غَبَرَ كذلك حيناً وهو تُجاهَ أعيُنِهم، فلا هُمْ عرَفُوا سجيَّةَ وُجوهِ الموتَى، ولا هو إذْ كان ميِّتاً سقَط سُقوطَ الموتى، وثبتَ قائِماً معتمداً على عصاه، وعصاه ثابتةٌ قائمةٌ في يده، وهو قابضٌ عليها، وليستْ هذه الصِّفَةُ صفَة موتانا، وقال: "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ" ونحنُ دونَ الشَّياطينِ والجِنِّ في صِدْق الحسِّ، ونُفوذِ البصر، ولوْ كُنَّا مِن بعضِ الموتى بهذا المكان، لما خَفَي علينا أَمرُه وكان أدنى ذلك أنْ نظنَّ ونرتاب، ومتى ارتابَ قومٌ وظَنُّوا وماجُوا وتكلموا وشاوروا، لَقِنُوا وثُبِّتُوا، ولا سيَّما إذا كانوا في العذاب ورأوْا تَبَاشِيرَ الفرَج، ولولا الصَّرْفة، التي يُلقيها اللّه تعالى على قَلْبِ مَنْ أَحَبَّ، ولولا أنّ اللّه يقدِرُ على أنْ يشغَلَ الأوهامَ كيف شاء، ويذكِّر بما يشاء، ويُنَسِّي ما يشاء، لما اجتمع أهلُ داره وقصْره، وسُورِه ورَبَضِه، وخاصَّتُه،  ومن يخدُمه من الجنِّ والإنْس والشَّياطين، على الإطباق بأنَّه حَيٌّ، كذلك كان عندهم، فحدث ما حَدَثَ من موته، فلمَّا لم يشعُروا به كانوا على ما لم يزالوا عليه، فعِلمْنا أنَّ الجنَّ والشّياطينَ كانت تُوهِم الأغبياء والعَوَامَّ والحُشْوَة والسِّفلة، أنَّ عندهما شيئاً من عِلْمِ الغيب والشياطين لا تعلم ذلك فأراد اللّه أَنْ يكشِف من أمْرهم للجُهَّال ما كان كَشَفَه للعلماء، فبهذا وأشباهه من الأمور نحنُ إلى الإقرار به مضطرون بالحجَج الاضطراريَّة فليس لخصومنا حِيلةٌ إلاَّ أن يواقِفُونَا، وينظروا في العلَّة التي اضطرتنا إلى هذا القول؛ فإن كانت صحيحةً فالصَّحيحُ لا يُوجِب إلا الصحيح، وإنْ كانت سقيمةً علِمْنا أنَّما أُتِينَا من تأويلنا، وأما قوله: "لأُعَذِّبَنَّهُ" فَإنَّ التعذيبَ يكون بالحبس، كما قال اللّه عزّ وجلّ: "لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا في الْعَذَابِ المُهِينِ"، وإنَّما كانُوا مُخَيَّسِينَ،وقد يقول العاشق لمعشوقتِه: يا معذِّبتي وقد عذّبتني ومن العذَابِ ما يكُونُ طويلاً، ومِنْه ما يكونُ قصيرَ الوقْت، ولو خَسَفَ اللّه تَعالى بقومٍ في أقلَّ من عُشْر ساعة لجاز لقائل أن يقول: كان ذلك يومَ أحلَّ اللّه عذابَه ونِقمَتَه ببلاد كذا وكذا. يخدُمه من الجنِّ والإنْس والشَّياطين، على الإطباق بأنَّه حَيٌّ، كذلك كان عندهم، فحدث ما حَدَثَ من موته، فلمَّا لم يشعُروا به كانوا على ما لم يزالوا عليه، فعِلمْنا أنَّ الجنَّ والشّياطينَ كانت تُوهِم الأغبياء والعَوَامَّ والحُشْوَة والسِّفلة، أنَّ عندهما شيئاً من عِلْمِ الغيب والشياطين لا تعلم ذلك فأراد اللّه أَنْ يكشِف من أمْرهم للجُهَّال ما كان كَشَفَه للعلماء، فبهذا وأشباهه من الأمور نحنُ إلى الإقرار به مضطرون بالحجَج الاضطراريَّة فليس لخصومنا حِيلةٌ إلاَّ أن يواقِفُونَا، وينظروا في العلَّة التي اضطرتنا إلى هذا القول؛ فإن كانت صحيحةً فالصَّحيحُ لا يُوجِب إلا الصحيح، وإنْ كانت سقيمةً علِمْنا أنَّما أُتِينَا من تأويلنا، وأما قوله: "لأُعَذِّبَنَّهُ" فَإنَّ التعذيبَ يكون بالحبس، كما قال اللّه عزّ وجلّ: "لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا في الْعَذَابِ المُهِينِ"، وإنَّما كانُوا مُخَيَّسِينَ،وقد يقول العاشق لمعشوقتِه: يا معذِّبتي وقد عذّبتني ومن العذَابِ ما يكُونُ طويلاً، ومِنْه ما يكونُ قصيرَ الوقْت، ولو خَسَفَ اللّه تَعالى بقومٍ في أقلَّ من عُشْر ساعة لجاز لقائل أن يقول: كان ذلك يومَ أحلَّ اللّه عذابَه ونِقمَتَه ببلاد كذا وكذا.
قوة الخنزير وشدة احتماله وقال أبو ناصرة: الخنزير ربَّما قتل الأسد، وما أكْثرَ ما يَلْحَقُ بصاحب السَّيفِ والرُّمح، فيضربُه بِنابِهِ، فيقطَعُ كلّ ما لِقيه من جسَده: من عظمٍ وعصَبٍ، حتى يقتلَه، وربَّما احتال أن ينبَطح على وجهِه على الأرض، فلا يغني ذلك عنْه شيئاً: وليس لشيءٍ من الحيوان كاحتمال بدنِه لِوَقْع السهام، ونفوذِها فِيهِ.
بعض طباع الخنزير وهو مع ذلك أرْوَغُ من ثعلب، إذا أراده الفارس، وإذا عدا أطمَعَ في نفْسه كلّ شيء، وإذا طولب أعيا الخيْلَ العِتاق، والخنزيرُ مع ذلك أنْسَلُ الخلْق؛ لأنَّ الخِنزيرةَ تَضَعُ عِشرين خِنَّوْصاً، وهو مَع كَثرة إنساله مِنْ أقوَى الفحُول على السِّفاد، ومَعَ القُوّة على السِّفاد هو أطولها مُكْثاً في سفادِه، فهْوَ بذلك أجمَعُ للفُحُولة،وإذا كانَ الكلبُ والذِّئبُ موصوفَينِ بشدّة القَلْبِ؛ لطُول الخَطْم، فالخنْزِيرُ أولى بذلك، وللفِيل نابٌ عجيب، ولكِنَّهُ لقصر عنقه لا يبلغ النَّابُ مبلغاً، وإنَّمَا يستعينُ بخُرطومِهِ، وخُرطومُهُ هو أنفه، والخَطْمُ غير الخرطوم.
ما قيل في طيب لحمه وإهالته قال أبو ناصرة: وله طيب، وهُو طِيبُ لحمِه ولحمُ أولاده، وإذا أرادُوا وصفَ اختلاط ودَك الكُرْكيِّ في مَرَق طبيخ، قا لُوا كأَنَّ إهالتَه إهالة خنزير؛ لأنَّه لا يسرع إليها الجمود، وسرعةُ جمودِ إهالة الماعز في الشِّتاء عيب، وللضَّأن في ذلك بعضُ الفضيلة على الماعز؛ ولا يلحق بالخنزير.
قبول عظم الخنزير للالتحام بعظم الانسان وإذا نقص من الإنسان عَظْمٌ واحْتِيجَ إلى صلتِهِ في بعض الأمراض لم يلتحِمْ بهِ إلاّ عَظْمُ الخنْزِير. صوت الخنزير وإذا ضُرِب فصاح لم يكن السَّامِعُ يفصِلُ بينَ صَوتِه وبينَ صوت صبيٍّ مضروب.
طيب لحمه وفي إطباقِ جميع الأممِ على شهوةِ أكله واستطابَةِ لحمِه، دليلٌ على أنَّ له في ذلِكَ ما ليس لغيْره.

زعم المجوس في المنخنقة ونحوها

والمجوس تزعم أنَّ المُنخنقَة والموقُوذَة والمتردِّية، وكلَّ ما اعْتُبط ولم يمت حَتْف أنفِه، فهو أطْيب لَحْماً وأحلى؛ لأَنَّ دَمَه فِيهِ، والدم حُلوٌ دَسِم، وإنما عافَه مَن عافَه من طَريق العادة والدِّيانة، لا من طريق الاستقذار والزُّهْدِ الذي يكُونُ فِي أصل الطبيعة.
اختلاف ميل الناس إلى الطعام وقد عافَ قومٌ الجِرِّيَّ والضِّبابَ على مثل ذلك، وشُغِف بِهِ آخرون، وقد كانت العربُ في الجاهليَّة تأكل دمَ الفصْد، وتفضِّل طَعمه، وتُخبر عَمَّا يورثُ من القوَّة، قال: وأيُّ شيءٍ أحسَنُ من الدّم، وهل اللَّحمُ إلا دَمٌ استحالَ كما يستحيل اللَّحمُ شحماً? ولكنّ الناس إذا ذَكروا معناه، ومن أين يخرج وكيف يخرج، كانَ ذلِكَ كاسِراً لهُمْ، ومانعاً من شهوتِه.
بعض ما يغير نظر الإنسان إلى الأشياء وكيف حال النَّار في حسنها، فإنّه ليس في الأرض جسمٌ لم يصبغ أحسن منْه، ولَوْلاَ معرفتهُمْ بقتْلها وإحْراقِها وإتلافها، والألم والحُرْقةِ المولدين عنها، لتضاعف ذلك الحُسْن عِنْدَهُمْ، وإنَّهم ليَرَوْنَها في الشِّتاءِ بغير العُيونِ التي يرونَها بها في الصَّيف، ليس ذلك إلاَّ بقدْر ما حدَثَ من الاستغناءِ عنها، وكذلك جِلاءُ السَّيف؛ فإنَّ الإنسانَ يَستحسِنُ قَدَّ السَّيفِ وخَرْطَه، وَطبْعَهُ وبرِيقَه، وإذا ذكر صنيعَه والذي هُيئَ له، بَدَا لهُ في أكثرِ ذلك، وتبدَّل في عينه، وشَغلَه ذلك عن تأمُّل محاسنه، ولولا علْم النَّاس بعداوة الحيَّاتِ لهم، وأنهَها وحشيَّة لا تَأْنَس ولا تقبل أَدَباً، ولا تَرْعَى حقَّ تربِية، ثمَّ رأوا شيئاً من هذه الحيَّاتِ، البيض، المنقّشَةِ الظُّهور لَمَا بَيَّتُوها ونوّمُوها إلاَّ في المهد، مع صِبيانهم.
ردٌّ على من طعن في تحريم الخنزير فيقال لصاحب هذه المقالة: تحريم الأغذيَةِ إنَّمَا يكونُ من طريق العبادة والمِحْنة، وليس أنهَ جوهَرَ شيء من المأكول يوجِبُ ذلك، وإنَّمَا قلنا: إنَّا وجدْنا اللّه تعالى قد مسَخَ عباداً من عباده في صُوَرَ الخنزير دونَ بقِيَّة الأجْناس، فعلمنا أنَّه لم يَفْعَلْ ذلك إلاَّ لأُمور اجتمعتْ في الخنزِير، فكان المسخ على صورته أبلَغ من التَّنكيل، لم نقُلْ إلاّ هذا.

القرد

طباع القرد والقرد يَضحَكُ ويَطْرَب، ويُقعي ويَحكي، ويتناولُ الطَّعامَ بيديه ويضعُه في فيه، ولَهُ أصابعُ وأظفار، ويَنقي الجوز، ويأنس الأُنْسَ الشَّديد، وَيَلْقَنُ بالتَّلقين الكثير، وإذا سقَط في الماء غرِق ولم يسبَحْ؛ كالإنسانِ قبلَ أنْ يتعلَّمَ السِّباحة، فلم تجد النَّاسُ للذي اعترى القِرْدَ من ذلك دونَ جميعِ الحيوان عِلّةً إلاَّ هذه المعاني التي ذكرتها، من مناسَبة الإنسانِ مِنْ قِبَلِها،ويُحكى عنه من شدَّة الزَّواج، والغَيرةِ على الأزواج، ما لا يحكى مثلُه إلاَّ عن الإنسان؛ لأنَّ الخنزيرَ يَغَارُ، وكذلك الجملُ والفرَسُ، إلاّ أنهَا لا تزاوج، والحِمارُ يَغارُ ويحمي عانَتَهُ الدَّهر كُلَّهُ، ويضرِبُ فيها كضربه لو أصابَ أَتَاناً من غيرها، وأجناس الحمام تزاوج ولا تَغار، واجتمَع في القرد الزَّواج والغَيرة، وهما خَصلتانِ كريمتان، واجتماعُهما من مفاخرِ الإنسان على سائِر الحيوان، ونحن لم نَرَ وجْهَ شيءٍ غيرِ الإنسان أشبَهَ صورةً وشبهاً، على ما فيه من الاختلاف، ولا أشبَهَ فماً ووجْهاً بالإنسان من القِرْد، ورُبّما رأيْنا وجهَ بَعْضِ الحمر إذا كان ذا خطْمٍ، فلا نَجِدُ بَيْنَهُ وبين القِرْدِ إلاَّ اليسيرَ.
أمثال في القرد وتقول الناس: أكْيسُ من قِشَّة وأمْلَحُ مِنْ رُبَّاحٍ ولم يقل أحد: أكيس من خِنزير، وأملَحُ من خِنّوص، وهو قول العامّة: القرد قبِيحٌ ولكنّه مليح.
كف القرد وأصابعه وقال النَّاس في الضبِّ: إنه مِسخٌ، وقالوا: انْظُر إلى كفِّه وأصابعه، فكَفّ القرد وأصابعُه أَشْبَهُ وأصنَعُ، فقدَّمَتِ القردَ على الخنزير من هذا الوجه.
علة تحريم لحم الخنزير  وأمّا القولُ في لحمه، فإنَّا لم نزعمْ أنّ الخنزيرَ هو ذلك الإنسانُ الذي مُسخ، ولا هو من نَسله، ولم نَدعْ لَحمهُ من جهة الاستقذارِ لشَهْوته في العَذِرة، ونحن نجد الشّبُّوط والجِرّيَّ، والدّجاج، والجَرادَ، يشاركْنُه في ذلك ولكن للخصال التي عدّدنا من أسباب العبادات، وكيف صار أحقَّ بأنْ تمسخ الأعداءُ على صورته في خلقتِه.
حديث عبيد الكلابي قال: وقلت مَرّةً لعبيد الكلابيِّ وأظهَرَ مِن حُبِّ الإبل والشّغَفِ بها ما دَعاني إلى أن قلت لَهُ: أبينها وبينكم قرابة? قال: نعم، لها فينا خُؤولة، إنِّي واللّه ما أعني البَخاتيَّ، ولكني أعني العِرَاب، التي هي أعرب قلت لَهُ: مَسَخَك اللّه تعالى بعيراً قال: اللّه لا يمسخُ الإنسَانَ على صُورةِ كريمٍ، وإنما يمسخه على صورةِ لئيم، مثل الخنزير ثم القرد، فهذا قولُ أعرابيٍّ جِلْفٍ تكَلم على فِطرتِه.
قول في آية وقد تكلم المخالِفُون في قولِهِ تعالى: "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأتِيهِمْ كَذلكَ نَبلُوهُمْ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ" وقد طعَنَ ناسٌ في تأويل هذه الآيَةِ، بغِيرِ علمٍ ولا بيانٍ، فقالوا: وكيف يكون ذلك وليس بين أن تجيء في كلِّ هلال فرقٌ، ولا بينها إذا جاءت في رأس الهلال فرقٌ، ولا بينَها إذا جاءتْ في رأس السَّنَةِ فرق.
هجرة السمك وهذا بحرُ البَصرةِ والأُبلّة، يأتيهم ثلاثةَ أشهرٍ معلومة معروفة من السنة السَّمكُ الأسْبور، فيعرفون وقتَ مجيئهِ وينتَظِرُونه، ويَعرِفون وقتَ انقِطاعِه ومجيءِ غيره، فلاَ يمكث بهم الحالُ إلاَّ قليلاً حتَّى يُقْبِلَ السَّمكُ من ذلك البحر، في ذلِكَ الأوان، فَلاَ يَزَالونَ في صَيْدٍ ثَلاَثَةَ أشهرٍ معلومةٍ من السَّنَةِ، وذلِكَ في كلِّ سنةٍ مرَّتين لكل جنس، ومعلومٌ عندهم أنه يكون في أحد الزمانين أسمَنَ، وهو الجُواف، ثمَّ يأتيهم الأسْبور، على حساب مجيء الأسبور والجُوَافِ، فأمّا الأَسْبور فهو يقطع إليهم من بلادِ الزِّنج، وذلِكَ مَعْرُوفٌ عند البحْريِّينَ، وأنَّ الأَسْبور في الوقت الذي يقطَع إلى دِجلةِ البصرة لا يوجَد في الزِّنج، وفي الوقت الذي يُوجَدُ في الزنج لا يوجد في دِجلة، وربَّما اصطادُوا منها شيئاً في الطريق في وقت قطعِهَا المَعْرُوفِ، وفي وقت رجوعها، ومَع ذلِكَ أصنافٌ من السمك كالإرْبيان، والرَّقّ، والكَوْسَج، والبرد، والبَرَستُوج، وكلُّ ذلك معْرُوف الزَّمانِ، متوقعُ المخرَج،وفي السَّمكِ أوابدُ وقواطع، وفيها سيّارةٌ لا تقيم، وذلك الشبَهُ يُصابُ، ولذلك صارُوا يتكلمُونَ بخَمْسةِ السنة، يهذُّونها، سوى ما تَعَلَّقُوا به من غيرها، ثمَّ القواطع من الطير قد تأتينا إلى العِراق منهم في ذلك الإبَّان جماعاتُ كثيرةٌ، تَقْطَعُ إلينا ثمَّ تَعُودُ في وقتها.
رد على المعترض  قُلْنا لهؤلاء القَوْم: لَقَدْ أَصبتم في بَعض ما وصفتم، وأخْطأْتم في بَعضٍ، قال اللّه تعالى: "إذْ تَأتِيهمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأتِيهمْ" ويومُ السبتِ يدورُ مَعَ الأسابيعِ، والأَسابيعُ تدور مع شهورِ الْقَمَرِ، وهذا لا يكونُ مَعَ استواءٍ من الزمان، وقد يكون السبتُ في الشتاء والصَّيف والخريف، وفيما بين ذلك، ولَيْسَ هذا من باب أزمان قواطع السَّمكِ وهَيْجِ الحَيَوان وطلب السِّفاد، وأزمان الفلاحَةِ، وأوقاتِ الجزْر والمَدِّ؛ وفي سبيل الأَنواء، والشجر كيْفَ يَنْفُضُ الوَرَق والثمار؛ والحيّاتِ كَيف تَسلُخُ، والأيائِلُ كَيف تُلقي قُرونَها، والطيرِ كيف تَنطق ومتى تسكت، ولو قال لَنَا قائل: إني نَبِيٌّ وقُلْنَا لَهُ: وما آيتك? وعلامتك? فقال: إذا كان في آخر تَشرين َالآخِرِ أقبل إليكم الأسْبُور من جهة البحر، ضَحكُوا منه وسخِروا بِه،ولو قال: إذَا كانَ يَوْمُ الجمعَة أو يومُ الأحَد أقبل إلَيكم الأسْبُور، حَتَّى لا يزالُ يصنع ذلك في كلِّ جمعة علِمْنا اضطراراً إذَا عايَنَّا الذي ذَكَرَ على نَسَقه أنّه صادق، وأنَّه لم يعلمْ ذلك إلاّ من قِبَلِ خالِق ذلك، تعالى اللّه عن ذلك، وقد أقرَرْنا بعجيبِ ما نرى من مطالع النُّجوم، ومن تناهي المدِّ والجزْر على قدر امتلاءِ القمر، ونُقصانه وزيادته، ومحاقه واستراره، وكلُّ شيءٍ يأتي على هذا النَّسقِ من المجارِي، فإنَّمَا الآيةُ فيه لِلَّهِ وحدَه على وحدانيَّته، فإذا قال قائلٌ لأهل شريعةٍ ولأهل مُرسًى، من أصحابِ بحرٍ أو نهرٍ أو وادٍ، أو عينٍ، أو جدولٍ: تأتيكم الحِيتانُ في كلِّ سبت، أو قال: في كلِّ رمضان، ورمضانُ متحوِّلُ الأزمانِ في الشِّتاءِ والصيف والرَّبيعِ والخريفِ، والسَّبتُ يتحوَّل في جميع الأزمان، فإذا كان ذلك كانتْ تلك الأعجوبةُ فيه دالةً على توحيد اللّه تعالى، وعلى صِدقِ صاحب الخبَر، وأنَّه رسولُ ذلك المسخِّر لذلك الصِّنف، وكان ذلك المجيءُ خارجاً من النَّسق القائم، والعادةِ المعروفة، وهذا الفرقُ بذلك بَيِّنٌ، والحمدُ للّه.

شنعة الخنزير والقرد

قال اللّه تعالى: "فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" وفي الموضعِ الذي ذكَرَ أنَّه مسَخَ ناساً خنازير قد ذكر القُرُود، ولم يذكُرْ أنَّهُ مَسَخَ قوماً خنازير، ولم يمسَخْ منهم قروداً، وإذا كان الأمر كذلك فالمسخُ على صورة القِرَدة أشنَع؛ إذْ كان المسخُ على صورتهَا أعظمَ، وكان العقابُ به أكْبر، وإنّ الوقت الذي قد ذكر أنَّه قد مسخ ناساً قروداً فقد كان مسخَ ناساً خنازير، فلم يدَعْ ذِكْرَ الخنازير وذَكَرَ القرودَ؛ إلاَّ والقرودُ في هذا الباب أوجَعُ وأشنَع وأعظمُ في العُقوبة، وأدلُّ على شدَّة السَّخْطة، هذا قول بعضهم.
استطراد لغوي قال: ويقال لموضع الأنف من السِّباع الخطم، والخُرطوم وقد يقال ذلك للخنزير والفِنْطِيسة، والجمع الفناطيس، وقال الأعرابيّ: كأنّ فناطيسها كراكِرُ الإبل.
خصائص بعض البلدان وقال صاحب المنطق: لا يكونُ خِنزيرٌ ولا أيِّلٌ بحريّاً، وذكر أنَّ خَنازِيرَ بعض البُلدانِ يكونُ لها ظلفٌ واحد، ولا يكون بأرضِ نهاوَنْدَ حِمَارٌ؛ لشدَّة بردِ الموضع، ولأنَّ الحِمار صَرِدٌ.
وقال: في أرضِ كذا وكذا لا يكون بها شيءٌ من الخَلْدِ، وإن نقله إنسانٌ إليها لم يحفر، ولم يتَّخذ بها بيتاً، وفي الجزيرة التي تسمَّى صِقِلِّية لا يكُونُ بها صنفٌ من النمل، الذي يسمَّى أقرشا.
قول أهل الكتابين في المسخ وأهل الكتابَين يُنكرون أنْ يكون اللّه تعالى مسخَ النَّاس قروداً وخنازير، وإنما مسخ امرأة لوط حَجَراً، كذلك يقولون.

القول في الحيات

اللهمَّ جنِّبنا التكلفَ، وأَعِذْنَا من الخطَل، واحمِنا من العُجْبِ بمَا يكونُ منَّا، والثِّقةِ بمَا عندنا، واجعلْنا من المحسنين.

احتيال الحيات للصيد

حدثنا أبو جعفرٍ المكفوفُ النحويُّ العنبريُّ، وأخوه رَوحٌ الكاتب ورجالٌ من بني العنْبر، أن عندهم في رمال بلْعنبرِ حيَّةٌ تصيد العصَافير وصِغَارَ الطيرِ بأعجبِ صيدٍ، زعموا أنها إذا انتصَفَ النهارُ واشتدَّ الحرُّ في رمالِ بلعنبر، وامتنَعت الأرض على الحافي والمنتعل، ورَمِض الجندب، غمست هذه الحيّةُ ذنبَها في الرَّمل، ثم انتصبَتْ كأنها رمحٌ مركوزٌ، أو عودٌ ثابت، فيجيء الطائِر الصغيرُ أو الجرادةُ، فإذا رأى عوداً قائماً وكرِه الوُقُوعَ على الرَّمل لشدَّة حرِّه، وقَعَ علَى رأس الحيَّة، على أنّها عُود، فإذا وقَعَ على رأسها قبضَتْ عليه، فإن كان جرادةً أو جُعَلاً أو بَعْضَ ما لا يُشْبعها مثلُه، ابتلعته وبقيتْ على انتصابها، وإن كان الواقعُ على رأسها طائراً يُشبِعها مثلُه أكلتْهُ وانصرفت، وأنَّ ذلك دأبُها ما مَنَعَ الرَّمل جانِبَه في الصَّيفِ والقَيْظ، في انتصاف النهار والهاجرة، وذلك أنَّ الطائِرَ لا يشكُّ أنَّ الحيَّةَ عودٌ، وأَنُه سيقُوم له مقام الجِذْل للحِرْباء، إلى أَنْ يسكن الحرُّ ووَهَجُ الرَّمْلِ، وفي هذا الحديثِ من العَجَبِ أَنْ تكون هذه الحيَّةُ تَهتَدِي لمثل هذه الحيلة، وفيه جَهلُ الطائِرِ بفرقِ ما بين الحيوانِ والعُود، وفيه قلةُ اكتراثِ الحيَّة بالرَّمْل الذي عادَ كالجمر، وصلحَ أن يكون مَلَّةً وموضِعاً للخبزة، ثمَّ أن يشتمل ذلك الرَّمل على ثلث الحيَّة ساعاتٍ من النَّهَار، والرملُ على هذه الصفة، فهذه أعجوبةٌ من أعاجيب ما في الحيّات.

رضاع الحية وإعجابها باللبن

وزعم لي رِجَالٌ من الصّقالبةِ، خصيانٌ وفحول، أَنَّ الحيَّة في بلادهم تأتي البقرةَ المحفَّلةَ فتنطوي على فخذيْها ورُكبتيها إلى عراقيبها، ثمّ تُشْخص صدرَها نحو أَخلافِ ضَرْعِها، حتى تلْتقم الخِلف؛ فلا تستطيع البَقَرَةُ مع قوَّتها أَن تَتَرَمْرَمَ، فلا تزا لُ تمصُّ اللبن، وكلما مصَّت استرخت، فإذا كادت تتلفُ أَرسلتها، وزعموا أن تلك البقَرةَ إمّا أن تموتَ، وإمّا أَنْ يصيبَها في ضرعها فسادٌ شديدٌ تَعْسُرُ مداواته، والحيَّةُ تُعْجَبُ باللبن، وإذا وجدت الأفاعي الإناء غير مخَمَّر كرعت فيه، ورُبَّمَا مجَّت فيه ما صار في جوفها، فيصيبُ شاربَ ذلك اللبَنِ أذًى ومكروهٌ كثير، ويقال إنَّ اللبن محتَضر، وقد ذهب ناسٌ إلى العمَّار، على قولهم إنَّ الثوبَ المعصْفَر محْتضَر، فظنَّ كثيرٌ من العلماء أنَّ المعنى في اللبن إنَما رَجَعَ إلى الحيَّات.

ما تعجب به الحيات

والحيَّةُ تُعْجَبُ باللُّفَّاح والبِطِّيخ، وبالحُرْفِ، والخردل المرْخُوف؛ وتكره ريحَ السذاب والشِّيح، كما تكره الوَزَغُ ريحَ الزَّعفَران.

قوة بدن الحية

وليس في الأرض شيءٌ جسمه مثلُ جسم الحيَّةِ، إلا والحيّةُ أقوى بدناً مِنه أضعافاً، ومن قوَّتها أنها إذا أدخَلَتْ رأسها في جُحْرِها، أو في صَدْعٍ إلى صدرها، لم يستطعْ أقوى النّاس وهو قابضٌ على ذنبها بكلتَا يديه أنْ يخرجها؛ لشدَّةِ اعتمادها، وتَعاونِ أجزائِها، وليست بذاتِ قوائم لَهَا أظفارٌ أو مخالبُ أو أظلاف، تُنْشِبُهَا في الأرض، وتتشبث بها، وتعتمد عليها، وربما انقطَعَتْ في يدي الجاذِب لها، مَعَ أنها لد نَةٌ ملساءُ عَلِكَة فيحتاج الرفيق في أمرها عند ذلك، أنْ يُرسلها من يديهِ بعضَ الإرسال، ثمَّ ينشطُها كالمختطف والمختلس، وربما انقطع ذنبها في يد الجاذب لها، فأمَّا أذنابُ الأفاعي فإنها تنبُت،ومن عجيب ما فيها من هذا الباب، أنَّ نابَها يُقطَع بالكاز، فينبت حتى يتمَّ نباته في أقلَّ من ثلاث ليال.
نزع عين الخطاف والخُطَّاف في هذا الباب خلافُ الخنزير؛ لأنَّ الخطاف إذا قُلمتْ إحدى عينيه رجَعت، وعينُ البِرْذَوْنِ يركبها البَياضُ، فيذهب في أيَّامٍ يسيرة.

الاحتيال لناب الأفعى

وناب الأفعى يُحتالُ له بأن يُدخلَ في فيها حُمَّاض أترُجّ، ويطبق لحيُها الأعلى عَلَى الأسفل، فلا تقتل بِعَضّتها أياماً صالحة، والمِغْناطيس الجَاذب للحديد، إذا حُكَّ عليه الثُّوم، لم يجذب الحديد.

خصائص الأفعى

والأفعى لا تدورُ عينُها في رأسها، وهي تلد وتبيض، وذلك أنها إذا طَرَّقت ببيضها تحطّمَ في جوفها، فترمي بفراخِها أولاداً، حتى كأنها من الحيوان الذي يلد حيواناً مثلَه،وفي الأفاعي من العجَب أنها تُذبح حتى يُفرَى منها كلُّ ودَج، فتبقى كذلك أيَّامًا لا تموت، وَأمرتُ الحاويَ فقبض على خَرَزَة عنقها، فقلت له: اقبضها من الخَرَزَة التي تليها قبضاً رفيقاً، فما فَتَحَ بينها بقدر سَمِّ الإبرة حتَّى بَرَدَتْ ميّتة، وزعم أنّه قد ذبحَ غيرَها من الحَيَّاتِ فعاشَتْ على شبيهٍ بذلك، ثمَّ إنه فَصَلَ تلك الخَرَزة عَلَى مثالِ ما صنع بالأفعى، فماتت بأسرعَ من الطَّرْف.
قوة بدن الممسوح وكلُّ شيءٍ ممسوحِ البدن، ليس بِذِي أيدٍ ولا أرْجُل، فإنَّه يكون شديدَ البدن، كالسَّمكة والحيَّة، حديث في سم الأفعى وزعم أحمد بن غالب قال: باعني حَوّاءٌ ثلاثين أفعى بدينارين، وأهدي إليَّ خمساً اصطادها من قُبالة القلب، في تلك الصحارى على شاطئِ دجلة، قال: وأرَدْتها للتِّرياق، قال: فقال لي حين جاءني بها: قل لي: مَن يعالجها? قال: فقلت له: فلان الصيدلانيّ، فقال: ليس عن هذا سألتك، قل لي: من يذبحها ويسلُخها? قال: قلت: هذا الصيدلانيُّ بعينه، قال: أخاف أن يكون مغروراً من نفسه، إنَّه واللّه إن أخطأَ موضع المفصِل من قفاهُ، وحركتُه أسرعُ من البرق، فإن كان لا يحسن ولا يدري كيف يتغفله، فينقُرُه نَقْرَةً، لَمْ يُفْلِحْ بَعدَهَا أَبَداً، ولكني سَأَتَطَوَّعُ لك بِأَنْ أعمل ذلك بين يديه، قال: فبعثت إليه، وكان رأسه إلى الجَوْنة، فَيُغْفِلُ الواحدةَ فيقبِض على قفاها بأسرع من الطَّرْفِ، ثمَّ يذبحها، فإذا ذبحها سال من أفواهها لُعابٌ أبيض، فيقول: هذا هو السم الذي يقتُل قال: فجالت يدُه جَوْلةً، وقطرت من ذلك اللُّعاب قطرةٌ عَلَى طرَف قميصِ الصيدلانيِّ، قال: فَتَفَشَّى ذلك القاطرُ حتَّى صار في قدر الدِّرهم العظيم، ثم إنّ الحوّاء امتَحَن ذلك الموضع فتهافت في يده، وبقيت الأفاعي مُذَبَّحة تجول في الطست ويكدم بعضُها بعضاً، حتى أمسينا، قال: وبكرت على أبي رجاء إلى باب الجِسر، أحَدِّثه بالحديث، فقال لي ودِدْت أنِّي رأيت موضع القطْرة من قميص الصَّيدلاني قال: فواللّه مارِمْتُ حَتَّى مرَّ مَعي إلى الصَّيدَلانيِّ، فأَرَيْتُه موضعَه، وأصحابُنَا يزعمون أنَّ لعابَ الأَفاعي لا يَعمَلُ في الدَّم، إلاَّ أنّ أَحْمَدَ ابنَ المثنَّى زعم أنّ من الأفاعي جنساً لا يُضرُّ الفراريج من بينِ الأشياء، ولا أدري أَيُّ الخبرين أبعد: أخبَرُ ابن غالب في تفسيخ الثَّوب، أو خبر ابن المثنى في سلامة الفَرُّوجِ عَلَى الأَفعى ما تضيء عينه من الحيوان وزعم محمد بن الجهم أنّ العيون التي تضيء بالليل كأَنها مصابيحُ، عيُونُ الأسْد والنمورِ، والسَّنانيرِ والأفاعي، فبينا نحنُ عندَه إذْ دخل عليه بعضُ من يجلب الأفاعي من سِجسْتان، ويَعْمَلُ التِّرياقات، ويبيعها أحياءً ومقتولة، فقال له: حَدِّثهم بالذي حَدَّثتني به من عين الأفعَى، قال: نَعَم، كنتُ في مَنْزِلِي نائماً في ظلمة، وقد كنتُ جمعتُ رؤوس أفَاع كنَّ عندي، لأرميَ بها، وأغفلتُ تحت السَّرير رأساً واحداً، ففتحْتُ عَيني تجَاهَ السَّريرِ في الظلمةِ، فرأيت ضياءً إلاَّ أنَّه ضئيلٌ ضعيفٌ رقيق، فقلت: عينُ غولٍ أو بعضِ أولاءِ السَّعالى، وذهبَتْ نفسي في ألوانٍ من المعاني، فقمت فقدَحْت ناراً، وأخذتُ المصباح معي، ومضيت نحوَ السرير فلم أَجدْ تَحْتَهُ إلاَّ رأسَ أفعى، فأطفأتُ السِّراج ونمتُ وفتحْتُ عيني، فإذا ذلك الضوء على حاله، فنهضْتُ فصَنعتُ كصنيعي الأوَّل، حتى فعلتُ ذلك مِراراً، قال: فقلت آخر مرَّة: ما أرى شيئاً إلاَّ رأسَ أفعى، فلو نحَّيتَهُ فنحَّيتُه وأطفأتُ السِّراج، ثمّ رجعْتُ إلى منامي، ففتحْت عيني فلم أ رَ الضَّوء، فعلمت أنَّه من عين الأفعى، ثمَّ سألتُ عن ذلك، فإذا الأمرُ حَقٌّ، وإذا هو مشهورٌ في أهل هذه الصِّناعة علة قوة بدن الحية  قال: وربَّمَا قبضَ الرَّجلُ الشديدُ الأسْرِ والقُوَّةِ القبضةَ على قفا الحيَّة فتلتفُّ عليه فتصرعُهُ، وفي صُعودِها وفي سعيها خلفَ الرَّجلِ الشديدِ الحُضْر، أو عند هربِها حتَّى تفوتَ وتسبق، وليستْ بذاتِ قوائِم، وإنما تنسابُ عَلَى بطنها، وفي تدافُعِ أجزائِها وتَعاونها، وفي حَرَكَةِ الكلِّ من ذاتِ نفسها، دليلٌ على إفراطِ قُوَّةِ بدنها،ومن ذلك أنها لا تمضَغ، وإنما تبتلع، فربَّما كان في البَضْعة أو في الشيء الذي ابتلعَتْه عَظْمٌ، فتأتي جِذْمَ شجرةٍ، أو حَجراً شاخِصاً فتنطوي عليه انطواءً شديداً فيتحطَّم ذلك العَظْم حَتَّى يَصِيرَ رُفَاتاً، ثمَّ يُقطعُ ذنبُها فينبت، ثمَّ تعيشُ في الماء، إن صارت في الماء، بَعد أنْ كانَتْ برّيَّة، وتعيشُ في البرِّ بَعْدَ أن طال مُكثْها في الماء وصارتْ مائية، قال: وَ إنَّمَا أتتْها هذه القُوَّة، واشتدَّت فِقَرُ ظهرها هذه الشِّدَّةَ؛ لكثرةِ أضلاعِها، وذلك أنَّ لها من الأضلاع عددَ أيَّامِ الشَّهر، وهي مع ذلك أطولُ الحيوان عمراً، موت الحية ويزعمون أنَّ الحيَّة لا تموتُ حَتْفَ أنفها، وإنَّمَا تموتُ بِعَرَضٍ يَعْرِضُ لَها، ومع ذلك فإنه ليس في الحيوان شيءٌ هُوَ أصبرُ عَلَى جوعٍ من حَيَّةٍ؛ لأنَّها إن كانَتْ شَابَّةً فَدَخَلَتْ في حائطٍ صخرٍ، فتتبَّعُوا موضعَ مَدْخَلَها بوتِدٍ أو بحجر، ثمّ هدموا هذا الحائط، وجدُوها هنَاك منطوِية وهي حَيّةٌ، فالشّابةُ تُذكر بِالصَّبْر عند هذه العلَّة، فإن هَرِمَتْ صغُرت في بدنها، وأقنَعَهَا النَّسِيم، ولم تشتَهِ الطعم، وقد قَالَ الشاعرُ: وهُوَ جَاهليٌّ:

لُمَيْمَةً من حَنَشٍ أعـمَـى أصـمّْ

 

فابْعَثْ له من بعض أعراض اللَّمَم ْ

فكُلَّمَا أَقْصَدَ مِنْـهُ الـجُـوعُ شَـمّْ

 

قَدْ عاشَ حتى هُوَ لا يَمشـي بـدمّْ

وهذا القولُ لهذا المعنى، وفي هذا الوجه يقُول الشاعِرُ:

صِلّ صفاً ما ينطَوي من القِصَرْ

 

داهية قَدْ صغُرَتْ من الكِـبَـرْ

كمطرقٍ قد ذهبت به الفِـكـرْ

 

طويلة الإطراقِ من غير خَفَـر

جَاء بهَا الطوفان أيَّامَ زَخَ صَبْرُ الحية على فَقْدِ الطُّعْم ومن أعاجيبهَا أنها وإن كانَتْ مَوْصُوفَةً بالشَّرَهِ والنَّهَم، وسرعَةِ الابتلاع، فلها في الصّبر في أيَّامِ الشِّتاء ما ليس للزّهِيدِ، ثمَّ هي بَعْدُ ممَّا يصير بها الحالُ إلى أن تستغنِيَ عن الطُّعم،

النمس والثعابين

ثمّ قَدْ يزعمُون أنَّ بمصرَ دويْبَّةً يقال لها النمس يتَّخذهَا الناطور إذا اشتدّ خوفه مِنَ الثّعَابين؛ لأنَّ هذه الدَّابةَ تنقبضُ وتنضمُّ، تَتضَاءَلُ وتستدقّ، حتّى كأَنها قُدَيْدَة أو قطعةُ حبْل، فإذا عضَّها الثُّعبان وانطوى عليها زفَرتْ، وأخذَتْ بنَفَسها وزَخَرت جوفَها فانتفخ، فتفعل ذلك وقد انطوى عليها، فتقطعه قِطَعاً من شِدّةِ الزَّخْرة، وهذا من أعجب الأحاديث

القواتل من الحيات

والثَّعابينُ إحدَى القواتلِ، ويزعُمون أنها ثلاثةُ أجناسٍ لا ينجَعُ فيها رُقيةٌ ولا حِيلة، كالثعبان، والأفعى، والهنديَّة، ويقال: إنَّ ما سِواها فإنما يقتُلُ مع ما يُمدُّها من الفزَع؛ فقد يفعل الفَزَع وحْدَه؛ فكيف إذا قارنَ سُمَّهَا? وسُمُّهَا إنْ لم يقتُلْ أمرَضَ.
ما يفعل الفزع في المسموم ويزعمون أنَّ رجلاً قال تحتَ شجرةٍ، فتدلَّت عليه حيَّةٌ منها فعضَّت رأسَه، فانتبه محمرَّ الوَجْهِ، فحكَّ رأسَه، وتَلَفَّتَ، فلم يَرَ شيئاً، فوضع رأسَه ينامُ، وأقام مدَّةً طويلةً لا يرى بأساً، فقال له بَعْضُ مَنْ كان رأى تدلِّيَهَا عليه ثمّ تقلُّصَها عنه وهروبَها منه: هل علمتَ مِنْ أيِّ شَيءٍ كان انتباهُك تحتَ الشَّجرة? قال: لا واللّه، ما علمت، قال: بلى، فإنَّ الحيَّةَ الفُلانيَّة نزلت عليك حتّى عضَّتْ رأسَك، فلما جلست فزعاً تقلَّصتْ عنك وتراجعَتْ، فَفَزع فَزْعَةً وصَرَخَ صرخَةً كانَتْ فيها نَفْسُهُ، وكأنهُمْ توّهُموا أنَّه لما فزِع واضطرَبَ، وقد كان ذلك السمُّ مغموراً ممنوعاً فزال مانِعُه، وأوغله ذلك الفَزَعُ، حِينَ تفتَّحت منافسُه، إلى موضع الصَّميم والدِّماغِ وعمْقِ البدَن، فانحلَّ موضعُ العَقْد الذي انعقدَتْ عليه أجزاؤه وأخلاطُه. وأنشد الأصمعيُّ:

نَكِيثة تنهشه بمنبذ

وأنشدَ لأبي دُؤادٍ الإياديِّ:

طقَ إن النَّكِيثة الإقْحَـامُ

 

فأتاني تَقْحِيمُ كَعْبٍ ليَ المن

أثر الفزع في فعل السم قال: فالفزَعُ إمّا أنْ يكونَ يُوصِل السمَّ إلى المَقاتِل، وإمَّا أن يكون معيناً له، كتعاون الرَّجُلين على نزع وتِد، فهم لا يجزمون على أنّ الحيَّة من القواتل البتّة، إلاَّ أنْ تقتلَ إذا عضَّت النائِمَ والمغشيَّ عليه، والطفلَ الغريرَ، والمجنونَ الذي لا يَعْقِلُ، وحتّى تجَرَّبَ عليهِ الأدوية.

الترياق وانقلاب الأفعى

وكنت يوماً عند أبي عبد اللّه أحمد بن أبي دُؤاد، وكان عنده سَلَمويه وابن ماسويه، وبختيشوع بن جبريل، فقال: هل ينفع التِّرياق من نهشة أفعى? فقال بعضهم: إذا عَضَّتِ الأفعَى فأُدركَتْ قبل أن تَنْقَلب نفع الترياق، وإن لَمْ تُدْرَك لَمْ يَنْفَعْ؛ لأنهم إنْ قلَّلوا مِنَ التِّرياقِ قتَلهُ السُّمُّ، وإن كثّروا مِنْهُ قَتله الفاضلُ عن مقدار الحاجة، قلت: فإنَّ ابنَ أبي العجوزِ خبَّرني بأَنها ليست تنقلب لِمجِّ السمِّ وإفراغهِ، ولكنَّ الأفعى في نابها عَصَل، وإذا عضّت استفرغت إدخالَ النَّابِ كلِّه، وهو أحْجَنُ أعْصَل، فيهِ مشابه من الشِّصّ، فإذا انقلبَتْ كان أسهلَ لنزْعه وسلِّه، فأمَّا لصبِّ السّمّ وإفراغه فلا، قَالَ: واللّه لعلَّه ما قلت قلتُ: مَا أسْرَعَ ما شككْتَ ثمّ قلت له: فكأَنما وضعوا الترياق واجتلَبُوا الأَفاعيَ وضنُّوا وعزمُوا على أنه لا ينفع إلاّ بدَرْكِ الأَفْعى قبلَ أنْ تَنقلب وكيف صار التِّرياقُ بعد الانقلاب لا يكونُ إلاَّ في إحْدَى منزلتين: إمّا أن يقتل بكثرته، وإمَّا ألاّ ينْفَعَ بقلَّته فكأَنَّ الترياقَ ليس نفعُه إلاَّ في المنزلةِ الوسطى التي لا تكون فاضلةً ولا ناقصة ولكني أقولُ لك: كيف يكون نفعه إذا كان الترياقُ جَيِّداً قويَّاً، وعُوجل فسُقي المقْدَارَ الأَوسطَ، قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّميمَ، ويغوصَ في العُمْقِ، وعلى هذا وُضع، وهم كانوا أحْزَم وأحْذَقَ مِنْ أن يتكلَّفوا شيئاً، ومقدارُه من النَّفعِ لا يُوصَل إلى معرفته.
ويقول بعضُ الحُذَّاق: إنَّ سقي التِّرياقِ بعدَ النهش بساعةِ أو ساعَتين مَوْتُ المنهوش، ثم قلت له: وما عَلَّمك? وبأيِّ سببٍ أيقنتَ أنها تمجُّ من جوفِ نابها شيئاً? ولعله ليس هنالك إلاَّ مخالطةُ جوهَرِ ذلك النَّابِ لدم الإنسان أَوَلَسْنَا قد نَجِدُ من الإنسانِ مَنْ يَعَضُّ صاحبَهُ فيقتُلُهُ، ويكونُ معروفاً بذلك? وقد تُقِرُّون أنَّ الهنديَّة والثُّعبانَ يقتُلان، إمَّا بمخالطة الرِّيق الدم، وإمَّا بمخالطة السِّنِّ الدَّم، من غير أن تدَّعُوا أنَّ أسنانَهما مجوَّفة، وقد أجمع جميعُ أصحابِ التجارب أنَّ الحيَّة تُضرَبُ بِقَصَبَةٍ فتكونُ أشدَّ عليها من العصا، وقد يضرَبُ الرجلُ على جسَده بقُضْبان اللّوْزِ وَ قُضْبَانِ الرُّمان، وقُضبانُ اللَّوْزِ أعلَكُ وألْدَن، ولكنَّها أَسلَمُ، وقُضبان الرُّمَّان أخفُّ وأسخَفُ ولكنها أعطب، وقد يطأ الإنسانُ على عَظْمِ حَيّةٍ أو إبْرَةِ عَقْرَبٍ، وهما مَيْتَتان، فيلقى الجهد، وقد يُخْرَجُ السِّكِّينُ من الكِيرِ وهو مُحمًى، فيغْمَسُ في اللبن فمتى خالَطَ الدَّمَ قامَ مقامَ السمّ، من غير أن يكون مَجَّ في الدّم رطوبةً غليظَةً أو رقيقَةً.
وبعض الحجارة يُكْوَى بهاوهو رِخْوالأوْرَامُ حتى يفَرقها ويُحْمِصهَا من غير أن يكونَ نفذَ إلَيْهَا شيءٌ مِنْهُ، وليس إلاّ الملاقاة، قلتُ: ولعلَّ قُوًى قد انفصلَتْ من أنيابِ الأفاعي إلى دماء النَّاس، وقد رَوَوْا أنَّه قيل لجالينوس: إنّ ها هُنا رجلاً يَرقي العقاربَ فتموتُ، أو تنحلّ فلا تعمل، فرآه يرقيها ويتفُل عليها، فدعا به بحضرةِ جماعةٍ وهو على الرِّيق، ودعا بغَدائه فتغَدّى مَعَه، ثمَّ دُعِيَ له بالعقارب فَتَفَل عليها، فلم يَجدْ لعابه يصنَعُ شيئاً إلاَّ أنْ يكون ريقاً، وهُوَ حَدِيثٌ يدورُ بينَ أهل الطبِّ، وأنت طبيب، فلم أَرَهُ في يومه ذلك قال شيئاً إلاَّ مِن طريق الحَزْر والحَدْس، والبلاغات.
السموم  وسمومُ الحيَّاتِ ذواتِ الأنياب، والعقاربِ ذواتِ الإبر، إنَما تَعْمَلُ في الدّمِ بالإجمادِ والإذابة، وكذا سمومُ ذواتِ الشعر والقُرُونِ والجُمِّ، إنما تَعْمَلُ في العصب، ومنها ما يعمل في الدم.

شرب المسموم لِلَّبن

وحدَّثني بعضُ أصحابنا قال: كنتُ إمَّا برماي وإما بباري وهما بلادُ حيّاتٍ وأفاعٍ، ونحن في عُرْس، إذ أدخَلوا الخِدْرَ العروسَ فأبطؤوا عليه شيئاً، فأغفى وتَلوّتْ على ذراعه أفعى، فذهبَ ينفضها وَحَجَمَتْ على ذراعه وقد يقال ذلك إذا كانت العضَّة في صورةِ شَرْطِ الحجَّام فصَرَخَ وجاؤوا يتعادَوْن فوجدُوها فقتلوها، وسقَوه في تلك اللَّيلةِ لبَن أربعينَ عنزاً، كُلَّمَا استقرّ في جوفه قَعْبٌ من ذلك اللَّبَن قاءَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ كأمثال طَلْعِ الفُحَّال الأبيض، فيه طرائق من دَسَمٍ تعلُوه خُضرة، حتى استَوْفَى ذلك اللَّبَن كُله، قال: فعندها قال شيخٌ من أهل القرية: إن كنتم أخرَجْتم ذلك السّمَّ فقد أخرجتم نَفْسَهُ معَه قال: فغبَرَ أيَّاماً بأسوإ حالٍ ثمَّ مات، قال: وكنتُ أعجَبُ من سُرعةِ استحالة اللَّبَنِ وجُموده.

اكتفاء الحيات والضباب بالنسيم

قلتُ: والحيَّاتُ البرّيَّة إذا هرِمت تنسَّمت النَّسيمَ فاكتفَتْ بذلك، وكذلك الضِّبابُ إذا هرِمت، قال: ولا يكون ذلك للمائيّة من حيَّاتِ الغياضِ وشُطوطِ الأنهار، ومناقِع المياه.

الحيات المائية

قال: والحيَّات المائيَّة، إمَّا أن تكون برّيَّةً أو جبليَّةً، فاكتَسحتها السُّيولُ واحتملَتْها في كثير مِنْ أصناف الحشَراتِ والدَّوابِّ والسِّباع، فتوالدت تلك الحيَّاتُ وتلاقَحَتْ هناك، وإمَّا أنْ تكون كانت أمهاتُها وآباؤُها في حيَّات الماء، وكيف دارت الأمورُ فَإنَّ الحيَّاتِ في أصل الطّبع مائيّة، وهي تعيشُ في النَّدَى، وفي الماء، وفي البرِّ وفي البحر، وفي الصَّخر والرَّمل، ومن طباعها أن ترقّ وتلطف على شكلين: أحدهما لطول العمر، والآخر للبُعد من الرِّيف، وعلى حسب ذلك تعظُم في المياه والغياض.

ما أشبه الحيات من السمك

قال: وكلُّ شيء في الماء ممّا يعايش السمك، مما أشبه الحيَّات كالمارماهي والأنكليس فإنها كلها على ضربين: فأحدهما من أولاد الحيات انقلبت بما عرض لها من طباع البلد والماء، والآخر من نسل سمك وحيات تلاقَحَت؛ إذ كان طِبَاعُ السمك قريباً من طباع تلك الحيّات، والحيَّاتُ في الأصل مائيَّة، وكلّها كانت حيّات.
قرابة بعض النبات لبعض وقد زعم أهلُ البصرة أنّ مُشَان الكوفة قريبٌ من بُرْنيّ البصْرَة، قلبته البلدة،ويزعمُ أهلُ الحجاز أنَّ نخلَ النارجيل هو نخل المُقْل، ولكنّه انقلب لطباعِ البلدة، وأشباهُ ذلك كثير،ويزعمون أنَّ الفيلة مائية الطِّباع بالجاموسيَّة والخنزيريّة التي فيهاب والنسيم قال: والذِّئْبُ أيضاً، وإن كان عندهم مِمَّا لا يجتزي بالنَّسيم، فإنَّه من الحيوان الذي يفتح فاه للنَّسيم؛ ليبرد جوفه من اللهيب الذي يعتري السِّباع؛ ولأنَّ ذلك يمدّ قوَّته، ويقطع عنه ببرودته ولطافته الرِّيق، فإن كان ذا سُعْر إذا عدا احتشى ريحاً.
اختلاف صبر الذئب والأسد على الطعام ورّبما جاعَ الأسد ففعل فِعْلَ الذِّئب، فالأسد والذِّئب يختلفان في الجوع والصبر؛ لأنَّ الأسدَ شديدُ النَّهَمِ، رغيبٌ حريص شَرِهٌ؛ وهو مع ذلك يحتمِلُ أنْ يبقى أيّامًا لا يأكلُ شيئاً، والذِّئبُ وإن كان أقفر منزلاً، وأقلَّ خِصْباً، وأكثَرَ كَدّاً وإخفاقاً، فلا بدَّ له من شيء يُلقِيه في جوفه، فإذا لم يجدْ شيئاً استعارَ النسيم .
حيلة بعض الجائعين والنَّاس إذا جاعُوا واشتدَّ جوعُهم شدُّوا على بطونهم العمائِم، فإن استقلوا، وإلاَّ شَدُّوا الحَجَر شعر في الذئب وأنشَد:

على شَرَفٍ مُسْتَقْبِلَ الرِّيحِ يَلْحَبُ

 

كَسِيدِ الغَضَا العَادِي أضلَّ جِراءَهُ

كأنّه يجمع استِدْخالَ الرِّيحِ والنَّسيم، فلعلَّه أن يجِدَ ريحَ جِرائه.
وقالَ الرَّاجز:

بِمِثْلِ مِقْرَاعِ الصَّفَا المُوقَّعِ

 

يَسْتَخْبرُ الرِّيحَ إذا لم يَسْمَعِ

شمّ الظليم

والظَّليم يكون على بيضه فيشمُّ ريح القانص من أكثَرَ من غَلْوَةٍ، ويبعُد عَنْ رئالِه فيشمُّ ريحَها من مكانٍ بعيد. وأنشدني يحيى بن نُجيم بن زَمَعة قال:

أشمُّ من هَيَقٍ وأهْدَى من جَمَلْ

وأنشدني عَمْرُو بن كِركِرة:

مَا زَالَ يشتمُّ اشتمامَ الهَيْقِ

قال: وإنّمَا جعله ذئبَ غضاً لأنهم يقولون: ذئبُ الخَمر أخبث، ويقولون: شَيْطان الحَماطة: يريدون الحيّة.

بعض ضروب الحيّات

وكلُّ حيّةٍ خفيفةِ الجسم فهي شَيطان، والثِّقالُ لا تنْشط من أرضٍ إلى أرض، وتثقُلُ عَمَّا تبلُغُه المستطيلاتُ الخِفاف، وقال طرَفة:

تَعَمُّجُ شَيْطانٍ بذي خِرْوعٍ قَفْرِ

 

تلاعِبُ مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّـهُ

الكِرْماني عن أنَس ولا أدري مَنْ أنسٌ هذا فِي صفة ناقة:

حَبَابٌ بكفِّ الشَّأْوِ من أسطعٍ حَشْرِ

 

شَنَاحِيَةٌ فيهـا شـنـاحٌ كـأنّـهـا

والحَباب: الحيّة الذّكر.
بعض المضاف إلى النبات من الحيوان وكما يقولون: ذئب الخَمر، يقولون: أرنب الخلَّة، وتيس الرَّبْل، وضبُّ السَّحا، والسَّحَا بقلةٌ تحسُنُ حالُه مَنْ أكلها،وكذلك يقولون: ما هو إلاّ قُنْفَذُ بُرْقَةَ لأنه يكون أخبثَ له، وذلك كله علىقدر طبائع البلدان والأغذية العاملة في طبائع الحيوان.
بعض طبائع البلدان ألا ترى أنَّهم يزعُمون أنَّ مَن دخَلَ أرضَ تُبَّتَ لم يزَلْ ضاحكاً مسروراً، من غير عَجَبٍ حتّى يخرجَ منها، ومن أقام بالموصِل حولاً ثم تفقَّد قوَّته وجد فيها فضلاً، ومن أقام بالأهواز حَوْلاً فتفقَّد عقلَه ذُو فِراسةٍ وجد النُّقصانَ فيه بيِّناً، كما يقال في حُمَّى خَيبر، وطِحال البحْرين، ودماميل الجزيرة، وجَرَب الزِّنج، وقال الشمَّاخ:

بَكُورَ الوِرْدِ رَيِّثةَ القُلُوعِ

 

كأنَّ نَطاة خَيْبَرَ زَوَّدَتْـه

وقال أوسُ بن حجَر:

يَعُودُ عَلَيْهِ وِرْدُهَا وقلالُهَا

 

كأنَّ به إذْ جئتُهُ خَيْبَـرِيَّة

وقال آخر:

كأنّ حمَّى خَيبر تَمُلُّهُ

وكذلك القول في وادي جُحفة، وفي مَهْيَعَةَ، وفي أصول النخل حيث كان.وقال عبد اللّه بن همام السَّلوليُّ في دماميل الجزيرة:

غَلِيظُ الْقُصَيْرَى لحمُهُ مُتَكاوِسُ

 

أُتِيحَ له مِنْ شُرْطَةِ الحَيِّ جَانِبٌ

به من دَماميل الجَزيرةِ ناخسُ

 

تَرَاهُ إذا يَمْضِي يحكُّ كَأَنَّـمَـا

فحدَّثني أبو زُفَرَ الضِّراري قال: مات ضِرار بن عمرو وهو ابن تسعين سنةً بالدَّماميل، قلت: واللّه إنّ هذا لعجب قال: كلاَّ، إنَّمَا احتملها من الجزيرة،وكذلك القولُ في طواعِين الشّام، قال أحدُ بني المغيرة، فيمن مات منهم بِطَوَاعِينِ الشامِ، ومن مات منهم بطَعْن الرِّماح أيَّامَ تلك المغازي:

فالشَّامُ إنْ لَمْ يُفْـنِـهِ كَـاذِبُ

 

مَنْ يَنْزِلِ الشَّامَ وَ يَعْـرَسْ بِـهِ

عِشرينَ لم يُقْصَصْ لهم شارِبُ

 

أفْنى بني رَيْطَةَ فُرسـانَـهـمْ

لِمِثْلِ هذا عجِبَ الـعـاجِـبُ

 

ومن بني أعمامِهِمْ مِثْـلَـهـم

ذلك ما خطَّ لنـا الـكـاتـبُ

 

طَعْنٌ وطاعُـونٌ مـنـاياهُـمُ

قدوم عبد اللّه بن الحسن على عمر بن عبد العزيز وهشام قال: ولمّا قَدِمَ عبدُ اللّه بن الحسن بن الحسن رضي اللّه عنهم، على عمَرَ بنِ عبد العزيز رضي اللّه عنه في حَوَائجَ له، فلمَّا رأى مكانَه بالشام، وعَرَفَ سِنَّه وسمْتَه وعقلَه، ولسانَه، وصلاته وصيامه، فلم يكنْ شيءٌ أحبَّ إليه من أَلاَّ يراه أحدٌ من أهل الشام، فقال له: إنِّي أخافُ عَلَيكَ طَواعينَ الشَّام؛ فإنَّك لن تُغْنِمَ أهلَك أكثَرَ منك، فالحَقْ بهم؛ فإنَّ حوائجك ستسبِقُك إليهم، ثمّ قدم على هشامٍ، فكره عبدُ اللّه أن يدخل منزل له حتّى يأتيَه في ثيابِ سفَره؛ مخافة سوء ظنِّه، فلما أعلمه الحاجبُ مكانَه، ودخل عليه وعايَنه، كره أن يقيم بها طَرْفَة عين، قال: اذكر حوائجك، قال: أحطُّ رَحْلي وأضَعُ ثيابَ سفري، وأَتذكَّرُ حوائجِي، قال: إنَّك لنْ تجِدَني في حالٍ خيراً لك منِّي الساعة يريد أنّ القُلوبَ أرقُّ ما تكونُ إذا تلاقت العيونُ عن بُعْدِ عَهد، وليس ذلك أراد.
طحال البحرين والعامّة تنشد:

وَ يُغْبَطْ بما في بَطْنِهِ وَهُو جَائِعُ

 

مَنْ يَسْكُنِ البَحْرَينِ يعظُمْ طحالُهُ

ونظر دُكينٌ الرّاجزُ، إلى أبي العباس محمَّدِ بنِ ذُويبٍ الفُقَيميِّ الرَّاجز، وهو غُلَيِّمٌ مصفرٌّ مَطحُول، وهو يمتَحُ على بَكَرةٍ ويرتجز، فقال: من هذا العُمانيّ? فلزمته هذه النّسبة.
جرب الزنج وحدَّثني يوسفُ الزِّنجي أنّه لا بدَّ لكلِّ مَن قدِم من شِقِّ العراق إلى بلادِ الزِّنج ألاَّ يزالَ جَرِباً، ما أقام بها، وإنْ أكثَرَ من شُرْب نبيذِها، أو شَراب النَّارَجيل، طمَسَ الخُمَارُ على عقله، حتَّى لا يكونَ بينه وبين المعتوه إلاَّ الشَّيء اليسير.
طبيعة المصيصة وخبَّرني كم شئْتَ من الغُزاة، أن مَن أطالَ الصَّومَ بالمصيصة في أيَّام الصَّيف، هاج به المِرار، وأنَّ كثيراً منهم قد جُنُّوا عن ذلك الاحتراق.
طبيعة قصبة الأهواز فأمَّا قصَبَة الأَهواز، فإنَّها قلبَتْ كلَّ مَن نزَلها من بني هاشم إلى كثيرٍ من طِباعهم وشمائلهم، ولا بدَّ للهاشميِّ، قبيحَ الوجهِ كانَ أو حسناً، أو دميماً كان أو بارعاً رائعاً، مِنْ أن يكون لوجْهه وشمائله طبائعُ يَبينُ بها من جميعِ قريشٍ وجميعِ العرب، فلقد كادَتْ البلْدةُ أن تنقل ذلك فتبدِّله، ولقد تَخَيَّفَتْهُ وأدخلَت الضَّيمَ عليه، وبيَّنَتْ أثرَها فيه فما ظنُّك بصنيعها في سائر الأجناس? ولفسادِ عُقولِهم، ولؤمِ طبْع بلادِهم، لا تراهم مع تلك الأموالِ الكثيرةِ، والضِّياع الفاشية، يحبُّون من البنينَ والبناتِ ما يحبُّه أوساطُ أهلِ الأمصار على الثَّروة واليَسار، وإن طال ذلك، والمال مَنْبَهةٌ كما تعلمون، وقد يكتسبُ الرَّجُل، من غيرهم، المُوَيل اليسير، فلا يرضى لولده حتَّى يفرضَ له المؤدِّبين، ولا يرضى لنسائه مثل الذي كان يرضاه قبل ذلك، وليس في الأرض صناعةٌ مذكورةٌ، ولا أدبٌ شريفٌ؛ ولا مذهبٌ محمودٌ، لهم في شيءٍ منه نصيبٌ وإن خَسّ، ولم أرَ بِهَا وَجْنةً حمراءَ لصبيٍّ ولا صبيَّةٍ، ولا دمًا ظاهرًا ولا قريبًا من ذلك، وهي قتّالَةٌ للغُرَباء، وعلى أَنَّ حُمَّاها خاصَّةً ليست للغريب بأسرَعَ منها إلى القريب، ووباؤها وحُمَّاها، في وقت انكشاف الوَباءِ ونُزوعِ الحمَّى عن جميع البُلدانِ،وكلُّ محمومٍ في الأرض فإنَّ حُمَّاه لا تنْزِع عنه، ولا تفارِقُه وفي بدنه منها بقيَّة، فإذا نزَعَتْ عنه فقد أخَذَ منها عند نفسه البراءةَ، إلى أنْ يعود إلى الخلْط، وَأنْ يجمعَ في جوفه الفسادَ،وليست كذلك الأهواز لأنها تُعاوِد من نزَعتْ عنه من غير حدَث، كما تعاود أصحابَ الحدَث؛ لأنَّهم ليسوا يُؤْتَون من قبل النَّهَم، ومن قِبَل الخلْط والإكْثار، وإنَّما يُؤتَوْن من عينِ البلدة،وكذلك جمعَتْ سوقُ الأهوازِ الأفاعيَ في جبلِها الطَّاعِن في منازلها، المطِلِّ عليها؛ والجَرَّاراتِ في بيوتِها ومقابرها ومنابرها، ولَو كان في العالَم شيءٌ هو شرٌّ من الأفعَى والجرَّارة، لما قصَّرَت قصَبة الأهواز عن توليده وتلقيحه، وبَليتُها أنَّها من ورائها سِبَاخٌ ومناقِعُ مياهٍ غليظةٍ وفيها أنهارٌ تشُقها مَسَايلُ كُنُفِهم، ومياهُ أمطارهم ومُتَوضَّآتِهِمْ، فَإذا طلَعت الشَّمسُ فَطالَ مُقامُها، وطالت مقابلتُها لذلك الجبل، قبل بالصَّخْرِية التي فِيه تلكَ الجرّارات، فإذا امتلأَتْ يبَساً وحرارةً، وعادتْ جمرةً واحدةً، قذفت ما قَبلت من ذلك عليهم، وقد تُحدِث تلك السِّباخ وتلك الأنهار بُخَاراً فاسداً، فإذا التقى عليهم ما تُحدِث السِّباخُ وما قذفه ذلك الجبلُ، فسَدَ الهواء، وبفساد الهواء يفسُد كلُّ شيءٍ يشتملُ عليه ذلك الهواء.وحدَّثني إبراهيمُ بن عباس بنُ محمد بن منصورٍ، عن مَشْيخة من أهل الأهواز، عن القوابل، أنهنَّ ربّما قَبِلْنَ الطِّفلَ المولودَ، فيجدْنَهُ في تلك السَّاعةِ محموماً، يعرِفْنَ ذلك ويتحدَّثْن به.

عيون الحيات والخطاطيف

قال: ويعرِض لفراخِ الحيَّات مثلُ الذي يعرِض لفِراخِ الخَطاطِيف؛ فإنَّ نازعاً لو نزَع عيونَ فراخِ الخطاطيفِ، وفراخِ الحيّاتِ، لعادتْ بصيرةً.
مفارقة السلحفاة والرق والضفدع للماء وزعم أنَّ السُّلحفاةَ والرّقّ، والضّفدع، مّما لا بدَّ له من التنفُّس، ولا بدَّ لها من مفارقةِ الماء، وأنَّها تبيض وتكتسب الطعم وهي خارجة من الماء، وذلك للِنَّسب الذي بينها وبين الضّب، وإن كان هذا بَرِّيًّا وهذا بحريًّا. شبه بعض الحيوان البري بنظيره من البحري ويزعموُن أنّ ما كان في البرِّ من الضبِّ والورَل والحِرباء، والحلكاء، وشحْمة الأرض، والوزَغِ والعظاء مثل الذي في البحر من السُّلَحفاةِ والرّقّ، والتِّمساح، والضِّفدع، وأنَّ تلك الأجناسَ البرّيةَ وإن اختلفتْ في أُمورها، فإنّها قد تتشابه في أمور، وأنّ هذه الأجناسَ البحرية من تلك، ككلب الماء من كلب الأرض.
صوم بعض الحيوان وقد زعم صاحبُ المنطق أنّ الحيَّة وسامّ أبْرَص من العظاء، والتِّمساح، تسكنُ في أعشّتها الأربعة أشهر الشديدة البرد، لا تطعم شيئاً، وأنّ سائر الحيّاتِ تسكنُ بطنَ الأرض، فأمَّا الأفاعي فإنّها تسكن في صُدوع الصَّخر،وليس لشيءٍ من الحيوانِ من الصَّبر عن الطُّعمِ ما لهذه الأجناس، وإنَّ الفيل ليناسبُها من وجهين: أحدهما من طول العمر، فإنَّ منها ما قد عاش أربعمائة سنة، والوجه الآخر أنّ الفيلة مائيَّة وهذه الأجناس مائيَّة وإن كان بعضها لا يسكن الماء.
داهية الغَبَر قال: وسمعتُ يونُس بن حبيبٍ يقول: داهية الغبر قال: وقيل ذلك لأنها ربَّما سكنَتْ بقُربِ ماءٍ، إمَّا غديرٍ وإما عينٍ، فتحْمي ذلك الموضعَ، وربما غبر ذلك الماءُ في المنْقَع حيناً وقد حمتْه، وقال الكذَّابُ الحرمازيّ:

دَاهيةُ الدَّهرِ وصَمَّاءُ الغَـبَـر

 

يا ابنَ المعلَّى نزلتْ إحدى الكُبَر

قال: وسأل الحكم بنُ مروانَ بنِ زنباعٍ، عن بني عبد اللّه بن غطفان، قال: أفعى إنْ أيقظْتها لسعَتْك، وإن تركْتها لم تَضِرْك.

نادرة تتعلق بالحيات

وذكر عن سعيد بن صخر قال: نُهِش رجلٌ من أهل البادية كثيرُ المال، فأشفى على الموت، فأتاهم رجلٌ فقال: أنا أَرْقيه، فما تُعطوني? فشارطوه على ثلاثين درهماً، فرقاه وسقاه أشياء ببعض الأخلاط، فلمَّا أفاقَ قال الرَّاقي والمداوي: حقي قال الملدوغ: وما حقه، قالوا: ثلاثون درهماً، قال أُعطيه من مالي ثلاثينَ درهماً في نفثاتٍ نفثها، وَحَمْضٍ سقاه لا تُعطوه شيئاً.
حديث سكر الشطرنجي وحدَّثني بعض أصحابنا عن سكَّرٍ الشِّطرنجيّ، وكان أحمق القاصِّين، وأحذقَهم بلعب الشِّطرنج، وسألته عن خرق كان في خَرَمَةِ أنفه فقلت له: ما كان هذا الخرق? فذكر أنَّه خرج إلى جَبلَ يتكسَّب بالشِّطْرنج، فقدم البلدةَ وليس معه إلاّ درهمٌ واحد، وليس يَدري أينجَح أم يُخْفِق،ويَجِدُ صاحبَه الذي اعتمده أمْ لا يجده? فورد على حَوَّاءٍ وبين يديه جُوَن عِظامٌٌ فيها حياتٌ جليلة.
 والحيّة إذا عضَّت لم تكنْ غايتُها النَّهش أو العضّ، وأن ترضى بالنَّهش، ولكنَّها لا تعضُّ إلاَّ للأكل والابتلاع، وربَّما كانت الحيَّات عِظامًا جدًّا ولا سموم لها، ولا تَعْقِر بالعضّ، كحيات الجَوْلانِ،وفي البادية حيَّة يقال لها الحُفَّاث، والحُفَّاث من الحيَّات تأكل الفأر وأشباهَ الفأر، ولها وعيدٌ مُنكرٌ، ونفخٌ وإظهارٌ للصَّولة، وليس وراء ذلك شيء، والجاهل ربَّما مات من الفزع منها، وربَّما جمعت الحيَّة السَّمَّ وشدَّةَ الجَرْح، والعضَّ والابتلاع، وحَطْمَ العظم،فوقف سُكّرٌ على الحوّاء وقد أخرج من جونتهِ أعظم حَيَّاتٍ في الأرض، وادّعى نفوذَ الرُّقيةِ وجودةَ التِّرياق، فقال له سُكَّرٌ:خذْ منِّي هذا الدِّرهم، وارقني رُقْيةً لا تضرّني معها حيّةٌ أبداً قال: فإنِّي أفعل، قال: فأرْسِلْ قبل ذلك حَيَّةً، حتّى ترقيني بعد أن تعضَّني، فإنْ أفقْتُ علمتُ أنَّ رُقْيتك صحيحة، قال: فإنِّي أفعل، فاخترْ أيَّتَهنَّ شئت، فأشار إلى واحدةٍ ممّا تعضُّ للأكلِ دون السَّمّ، فقال:دعْ هذه، فإنَّ هذه إن قبضَتْ على لحمك لم تفارقك حتى تقطعك قال: فإنِّي لا أريد غيرها، وظنَّ أنّه إنّما زَوَاها عنه لفضيلةٍ فيها، قال: أمّا إذْ أبيت إلاَّ هذه فاخترْ موضعاً من جسدكَ حَتَّى أرسلها عليه، فاختارَ أنفه، فناشده وخوَّفه، فأبى إلاَّ ذلك أو يردَّ عليه دِرهَمَهُ، فأخذها الحّواءُ وطواها على يده، كي لا يدعها تنكز فتقطع أنفه من أصله، ثمَّ أرسلها عليه، فلما أنشبت أحد نابَيْها في شِقِّ أنفه صَرَخ عليه صَرخةً جمعتْ عليه أهل تلك البلْدة، ثُمّ غُشِي عليه، فأُخِذَ الحوّاءُ فوُضع في السِّجن، وقتلوا تلك الحيَّات، وتركوه حتّى أفاقَ كانّه أجنُّ الخلْق، فتطوَّعوا بحمله فحملوه مع المُكاري، وردُّوه إلى البصرة، وبقِي أثَرُ نابِها في أنفه إلى أن مات.
ما يغتصب بيت غيره من الحيوان قال: وأشياءُ من الحشراتِ لا تتخذ لنفسها ولا لبيضها ولا أولادها بيوتاً، بل تظلم كلَّ ذي جُحر جُحرَه، فتخرجُه منه، أو تأكلُهُ إنّ ثبتَ لها، والعربُ تقول للمُسيء: أَظْلَمُ مِنْ حَيّةٍ لأنَّ، الحيّة لا تتَّخذ لنفسها بيتاً،وَكُلُّ بيتٍ قصدَت نحوه هرب أهلُه منه، وأخْلَوْه لها.

عداوة الورل والحية

والورَل يقْوَى على الحيَّاتِ ويأكلها أكلاً ذريعاً، وكلُّ شِدَّةٍ يلقاها ذو جُحْر منها فهي تلقَى مثلَ ذلك من الورَل، والورَلُ ألْطفُ جِرْمًا من الضّبّ،وزعم أنَّهُمْ يقولون:أَظْلَمُ مِنْ وَرَل كما يقولون: أظْلَمُ مِنْ حَيّة، وكما يقولون:أظْلَمُ مِنْ ذِئْبٍ ويقولون:من اسْتَرْعى الذِّئْبَ ظلم .
الورل والضبّ وبراثن الوَرل أقوى من براثِنِ الضّبّ، والضِّبابُ تحفر جِحَرتها في الكُدَى، والوَرل لا يحفُرُ لنفسه بل يُخْرِجُ الضّبّ من بيته، فتزعم الأعرابُ أنَّه إنما صار لا يحفر لنفسه إبقاءً على براثنه، ويمنع الحيَّةَ أن تحفُر بيتها أنّ أسنانَها أَكَلُّ من أسنان الفأر ومن التي تحفر بالأفواه والأيدي، كالنمل والذّرِّ وما أشبه ذلك، والحيّة لا ترى أن تعانيَ ذلك، وَحَفْرُ غيرها ومعاناتُه يكفيها

شعر في ظلم الحية

وفي. ضَرْبِ المثل بظُلْم الحيّة، يقول مضرِّس بن لقيط:

إلى فقعسٍ ما أنصفتنى فقعـس

 

لعمرك إنى لو أخـاصـم حـيةً

سعى حاطبٌ منهم لآخر يقبـس

 

إذا قلت مات الداء بيني وبينهـم

ذئاب الغضا والذئب بالليل أطلس

 

فما لكم طلسـاً إلـى كـأنـكـم

وجعله أطلس؛ لأنّه حين تشتدُّ ظُلمة اللَّيل فهو أخفى له، ويكونُ حينئذٍ أخبث له وأضْرَى.
وقال حَرِيزُ بن نُشْبَة العَدَويّ، لبني جعفر بن كلاب، وضَرَبَ جَوْر الحيَّةِ والذِّئْبِ في الحُكْمِ مثلاً، فقال:

أسقيهم طرق ماء غير مشروب

 

كأنني حين أحبو جعفراً مدحـى

أو الأساود من صم الأهاضيب

 

ولو أخاصم أفعى نابهـا لـثـقٌ

نابٌ بأسفل ساقٍ أو بعرقـوب

 

لكنتم معها ألبـاً وكـان لـهـا

لجاءني جمعكم يسعى مع الذيب

 

ولو أخاصم ذئباً في أكلـيلـتـه

فم الأفعى

قال: والحيَّة واسعةُ الشَّحْوِ والفم، لها خطم، ولذلك ينفذ نابُها، وكذلك كلُّ ذِي فمٍ واسعِ الشَّحو، كفم الأسد، فإذا اجْتمعَ له سعَةُ الشَّحو وطولُ اللَّحيينِ، وكان ذا خَطمٍ وخُرطومٍ فهو أشدُّ له؛ كالخنزير، والذِّئب والكلْب، ولو كان لرأس الحيَّة عَظْمٌ كان أشدَّ لعضَّتها، ولكنَّه جلدٌ قد أطبقَ على عظمين رقيقينِ مستطيلين بفكِّها الأعلى والأسفل، ولذلك إذا أهوى الرَّجُلُ بحَجر أو عصًى، رأيتها تلوِّي رأسها وتحتال في ذلك، وتمنعه بكلِّ حيلةٍ، لأنَّها تعلم وتحسُّ بِضَعْفِ ذلك الموضع منها، وهو مَقْتَلٌْ، وما أكثر ما يكون في أعناقها تخصيرٌ، ولصدورها أغباب، وذلك في الأفاعي أعمُّ، وذلك الموضعُ المستدقّ إنَّما هو شيءٌ كهيئة الخريطة، وكهيئة فم الجِراب، مُنْضمُّ الأثْناء، مُثَنّى الغضُون، فإذا شئت أن تفتح انفتح لك فمٌ واسع،ولذلك قال إبراهيم بن هانئ: كان فَتْحُ فمِ الجرابِ يحتاجُ إلى ثلاثة أيدٍ، ولولا أنّ الحمالين قد جعلوا أفواههم بدل اليد الثَّالثةِ لقدكان ذلك ممتنعًا حتّى يستعينوا بيدِ إنسان.وهذا ممَّا يعدُّ في مجون ابن هانئ،وكذلك حُلوقُ الحيَّاتِ وأعناقها وصدورُها، قد تراها فتراها في العين دقيقةً، ولا سيَّما إذا أفرطَتْ في الطُّول.

شراهة الحية والأسد

وهي تبتلعُ فِراخ الحمام، والحيةُ أنهمُ وأشره من الأسد، والأسدُ يبلعُ البَضْعَةَ العظيمةَ من غير مضْعٍ، وذلك لما فيه من فَضْل الشرَه، وكذلك الحيّة، وهما واثقان بسهولةِ وسَعَةِ المخرج.
تِنِّين أنطاكية ومِمَّا عظَّمها وزادَ في فزع النَّاس منها، الذي يرويه أهلُ الشام، وأهْلُ الْبَحْرَيْن، وأهل أنطاكِيَةَ، وذلك أنِّي رأيتُ الثلث الأعلى من منارة مسجد أنطاكِية أظهرَ جِدَّةً من الثلثين الأسفلين، فقلت لهم: ما بالُ هذا الثلثِ الأعلى أجدَّ وأطْرى? قالوا: لأنّ تِنِّيناً تَرَفّعَ مِنْ بَحْرِنا هذا، فكان لا يمرُّ بشيءٍ إلاّ أهلكه، فمرَّ على المدينة في الهواء، محاذياً لرأس هذه المنارة، وكان أعلى ممَّا هي عليه، فضربه بذنبهِ ضَرْبَةً، حَذفت من الجميع أكثرَ من هذا المقدار، فأعادوه بعد ذلك، ولذلك اختلفَ في المنْظَرِ.
الخلاف في التنين ولم يزل أهلُ البقاع يتدافعون أمْرَ التِّنِّين، ومن العجب أنّكَ تكون في مجلسِ وفيه عِشروُن رَجُلاً، فيجري ذكرُ التِّنِّينِ فينكرهُ بعضهم، وأصحاب التثبت يدَّعون العِيانَ، والموضع قريب، ومَنْ يعاينهُ كثير، وهذا اختلافٌ شديد.

قول الأعراب في الأصلة

والأعراب تقول في الأصلة قولاً عجيباً: تزعُمُ أنَّ الحَّية التي يقال لها الأصَلة لا تمرّ بشيءٍ إلاّ احترق، مع تهاويلَ كثيرةٍ، وأحاديثَ شنيعةٍ.

الأجدهاني

وتزعم الفُرْس أنّ الأجدهاني أعظم من البعير، وأنّ لها سبعةَ رؤوس، ورّبما لَقِيتْ ناساً فتبتلع من كلِّ جهةِ فمٍ ورأْسٍ إنساناً، وهو من أحاديث الباعة والعجائز.

الحية ذات الرأسين

وقد زعم صاحبُ المنطق أنّه قد ظهرَتْ حَيّة ٌلها رأسانِ، فسألتُ أَعْرَابِيًّا عن ذلك فزَعَمَ أنّ ذلك حَقٌّ، فقلت له: فمن أَي جهةِ الرَّأسينِ تسعى? ومن أيِّهما تأكلُ وتعَضّ? فقال: فأمَّا السَّعْيُ فلا تَسْعَى، ولكنّها تَسْعَى إلى حاجتها بالتقلب، كما يتقلَّب الصِّبيانُ على الرَّمْل، وأَمّا الأكل فإنها تتعشى بفمٍ وتتغدّى بفم،وأمّا العضُّ فإنها تعضُّ برأسيها معًا فإذا به أكذبُ البريَّة، وهذه الأحاديثُ كلها، ممّا يزيد في الرعب منها،وفي تهويل أمرها.
فُرانق الأسد ومِثْلُ شأنِ التِّنِّين مِثْلُ أمْرُ فُرانِقِ الأسد، فإنّ ذكره يجري في المجلس، فيقول بعضهم: أنا رأيتهُ وسَمِعْتُهُ!

فزع الناس من الحية

وربما زاد في الرعب منها والاستهالة لمنظرها قولُ جميعِ المحدِّثين: إنَّ من أعظم ما خَلَقََ اللّهُ الحيةَ والسَّرطانَ والسّمك!

طول عمر الحية

وتقول الأعراب: إنَّ الحيةَ أطولُ عمرًا من النَّسر، وإن الناسَ لم يجِدُوا حَيةً قطُّ ماتت حتْفَ أنفِها، وإنما تموت بالأمر يعرض لها، وذلك لأمور؛ منها قولهم: إنَّ فيها شياطينَ، وإنَّ فيها مِنْ مِسخ، وإنّ إبليسَ إنما وسوس إلى آدم وإلى حوَّاء من جَوْفها.
زعم الفضل بن إسحاق  وزعم لي الفضلُ بن إسحاقَ، أنهُ كان لأبيه نُخَّانِ، وأنّ طولَ كُلِّ نخّ تسعةَ عشر ذراعاً

ضروب الحيات

ومن الحيَّات الجُرْد والزعْر، وذلك فيها من الغالب،ومنها ذواتُ شعر، ومنها ذواتُ قرون، وإنَّما يتخلق لها في كلِّ عام قشرٌ وغلاف فأما مقادير أجسامهافقط.
انسلاخ جلد الإنسان وأمَّا الجلودُ فإنَّ الأرمينيَّ زعم أنه كان عندهم رجلٌ ينقَشِر من جلده وينسلخُ في كلِّ شهرٍ مَرَّةً،قال فجمع ذلك فوُجد فيه مِلْءُ جراب أو قال: أكثرُ.

علة الفزع من الحية

وأمَّا الذي لا أشك في أنه قد زاد في أقدارها في النفوس، وعظَّم من أخطارها، وهوَّل مِن أمْرها، ونبّه على ما فيها من الآية العجيبةِ والبرهانِ النيِّر، والحجَّةِ الظاهرة، فَمَا في قلب العصا حَيَّة، وفي ابتلاعها ما هوّلَ به القوم وسحَروا من أعْيُنِ النَّاس، وجاؤوا به من الإفك، قال اللّه عزَّ وجلَّ: "وَقالَ مُوسَى يا فِرْعَوْنُ إنِّي رسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين حَقِيقٌ على أن لا أقُولَ على اللّه إلاَّ الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فأرْسِلْ مَعِيَ بني إسْرائيلَ قال إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ، فألْقَى عَصاهُ فإذا هي ثُعبَانٌ مُبِينٌ" إلى قوله: "فَأَلْقَوا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ" فإنْ قلت: إنه إنما حَوَّل العصا ثُعباناً لأنهم جاؤوا بحبال وعِصِيٍ؛ فحوَّلوها في أعين الناس كلها حيّات، فلذلك قلبَ الله العصَا حَيةً على هذه المعارضة، ولو كانوا حين سحرُوا أعيُنَ الناس جَعَلوا حبالهم وعصيَّهُمْ ذِئاباً في أَعْيُنِ الناسِ ونمُورًا، لجعلَ اللّهُ عصا مُوسى ذئبًا أوْ نَمِرًا، فلم يكن ذلك لخاصَّةَ في بَدَنِ الحيةِ، قلنا: الدّليل على باطل ما قلتم، قَوْلُ اللّه تعالى: "وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى، قال هي عَصايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وأَهُشُّ بها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مآرِبُ أُخْرَِى قال أَلْقِها يا مُوسى فألْقَاها فإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى" وقال اللّه عزَّ وجلّ: "إذْ قالَ مُوسى لأهْلهِ إنِّي آنَسْتُ ناراً" إلى قوله: "وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كأنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يعُقِّبْ يا مُوسى لا تخفْ إنِّي لا يخافُ لَدَيَّ المرْسلُونَ" فقلبت العصا جانًّا، وليس هناك حبالٌ ولا عِصِيٌّ، وقال اللّه: "قال لئِنِ اتخَذْتَ إلهاً غَيْري لأَجْعَلَنَّك مِنَ المَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبين قالَ فأْتِ به إنْ كنت من الصَّادِقينَ فألْقى عصاهُ فإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ" فقلْبُ العصا حَيَّةً كان في حالاتٍ شَتَّى، فكان هذا مِمّا زاد في قدْر الحية،وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال في دعائه أن لا يميتَه اللَّهُ لَديغاً، وتأويل ذلك: أنَّه صلى الله عليه وسلم ما اسْتَعَاذَ باللَّه من أن يموتَ لديغَاً، وأنْ تكونَ مِيتته بأكْلِ هذا العدوِّ، إلا وهو من أعداءِ اللَّهِ، بل من أشدِّهم عداوةوقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أشَدُّ النّاس عذاباً بومَ القيامةِ مَنْ قتلَ نَبِيًّا أو قَتَلَهُ نبيٌّ كأنَّهُ كان في المعلوم أنَّ النبيَّ لا يقتلُ أحدًا، ولا يتفَّقُ ذلك إلاَّ في أشْرار الخلْق، ويدلُّ على ذلك، الذي اتفَّق من قتل أُبيِّ بنِ خلفٍ بيده، والنَّضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي مُعيط، ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاصي صبراً.وحُدِّثت عن عبد اللّه بن أبي هند، قال: حدّثني صيفي بن أبي أيُّوب، أنه سمع أبا بَشِيرٍ الأنصاريّ يقول: كان رسول صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ من هؤلاء السَّبْع: كان يقول: اللهمَّ إني أعوذُ بك من الهَدْم وأعوذُ بك من التردِّي، وأعوذُ بك من الغَمِّ والغرَق، وأعوذ بك من الحَرَقِ والهَرَم، وأعوذ بك أن يتخبَّطني الشيَّطانُ عند الموت وأعوذ بك من أن أموتَ في سبيلك مُدْبِرًا، وأعوذ بك من أن أموت لديغاً.وطلحة بن عمرو قال: حدثني عطاء أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك من الأسَد والأسْوَدِ، وأعوذ بك من الهَدْم.
استطراد لغوي  قال: ويقال للحيَّة: صَفَرَتْ تَصْفِرُ صفيراً، والرجل يصفِر بالطير للتنفير، وبالدوابِّ وببعض الطير للتعليم، وتتخذ الصَّفّارة يُصْفَرُ بِها للحمامِ وللطيرِ في المزارع، قال أعشى هَمْدان يهجو رَجُلاً:

قَطَعَ النَّهارَ تأوُّهاً وصَفِيرا

 

وإذا جثا للزَّرع يوم حَصادِه

لسان الحية

والحيَّة مشقوقة اللسانِ سوداؤه، وزعم بعضهم أن لبعض الحيَّات لسانين، وهذا عندي غلطٌ، وأظنُّ أنَّهُ لما رأى افتراقَ طرف اللسان قضى بأنَّ له لسانين.
عجيبة للضب ويقال: إن للضَّبِّ أيْرَين، ويسمَّى أير الضَّبِّ نَزْكاً، قال الشاعر:

على كلِّ حافٍ في الأنام وناعِل

 

كَضَبٍّ له نِزْكانِ كانا فَـضِـيلة

قَالَ أبو خلف النمريّ: سئل أبو حيّة النميري عن أير الضَّبِّ، فزعم أنّ أيرَ الضّب كلسان الحيَّة: الأصل واحدٌ، الفرع اثنان

زعم بعض المفسرين في عقاب الحية

وبعض أصحاب التفسيرِ يَزْعُمُ أنّ اللّه عاقب الحيَّةَ حين أدخلت إبليس في جوفها، حتى كَلّمَ آدمَ وَحَوَّاءَ وخدعهما على لسانها، بعشر خِصال: منها شقُّ اللسان، قالوا: فلذلك ترى الحيَّة إذا ضُرِبَتْ للقَتْلِ كيف تخرج لسانها لتُرِيَ الضّارِبَ عقوبةَ اللّه، كأنها تَسْترحم، وصاحب هذا التفسير لم يقلْ ذلك إلاَّ لحيَّةٍ كانت عنْدَهُ تَتَكَلمُ، ولولا ذلك لأنكر آدمُ كلامها، وإن كان إبليسُ لا يحتال إلاّ من جهة الحيَّة، ولا يحتال بشيءٍ غيرِ مموّهٍ ولا مشبَّه.
استطراد لغوي قال: ويقال: أرضٌ مَحْوَاةٌ وَمَحْيَاة من الحيَّات، كما يقال أرض مَضَبَّة وَضَبِبَة من الضِّباب، وفائرة من الفأر.
قولهم:هذا أجل من الحرش وقال الأصمعيُّ في تفسير قولهم في المثل: هذا أَجَلُّ مِنَ الحَرْش: إنّ الضّبّ قال لابنه: إذا سمعت صَوْتَ الحرْشِ فلا تخرُجَنَّ قال: وذلك أنّهُم ْيزعمون أن الحرْشَ تحريك اليدِ عندَ جُحْر الضّبِّ، ليخرج إذا ظنَّ أنه حية قال: وسمع ابنهُ صوت الحفْر فقال: يا أَبَهْ هذا الحرش? قال: يا بنيَّ، هذا أجلُّ من الحرْش فأرسلها مثلاً.

أسماء ما يأكل الحيات

بين الحيات وبين الخنازير عداوة، والخنازيرُ تأكُلها أكلاً ذريعاً، وسمومُ ذواتِ الأنيابٍ من الحيّات، وَذوات ِالإبر، سريعةٌ في الخنازير، وهي تَهْلِكُ عند ذلك هلاكاً وشيكاً، فلذلك لا ترضى بقتلها حتى تأكلها، وتأكلُ الحيَّاتِ العِقْبانُ، والأيائِلُ، والأراويُّ، والأوعالُ، والسَّنانير والشّاهْمُرك، والقنفذُ، إلاَّ أن القنفذ أكثرُ ما يقصِدُ إلى الأفاعي، وإنما يظهر بالليل، قال الرَّاجز:

قنفذ ليلٍ دائم التَّجْآبِ

وهذا الراجز هو أبو محمد الفقعسي القول في القنفذ وكذلك يشبه النَّمَّامُ، والمُدَاخِلُ، والدَّسِيس، بالقنفذ، لخروجه بالليل دون النهار، ولاحتياله للأفاعي، قال عَبْدة بن الطبيب:

متنصحاً وهو السمام الأنـقـع

 

اعصوا الذي يلقى القنافذ بينكـم

حرباً كما بعث العروق الأخدع

 

يزجى عقاربه ليبعث بينـكـم

عسلٌ بماء في الإناء مشعشـع

 

حران لا يشفي غلـيل فـؤاده

بين القوابل بالعـداوة ينـشـع

 

لا تأمنوا قوماً يشب صبـيهـم

وهذا البيت الآخر يضم إلى قول مجنون بني عامر:

فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً فَتَـمَـكـنـا

 

أتاني هَوَاها قَبْل أنْ أعْرِفَ الهَوَى

ويضم إليه قول ابْنِ أوْدٍ: الطينة تَقْبَلُ الطبائع ما كانت لَيِّنَةً.
ثم قال عبْدة بنُ الطَّبيب، في صلة الأبياتِ التي ذكر فيها القنفذَ والنَّميمةَ:

يَشْفِي صُدَاعَ رُؤوسهِمْ أنْ تُصْرَعُوا

 

إنَّ الذين تُـرَوْنَـهُـمْ خُـلاَّنَـكُـمْ

جَذْعُوا قَنافِذَ بالنـمـيمة تـمـزَعُ

 

قومٌ إذا دمسَ الظَّـلاَمُ عَـلَـيْهِـمُ

وهذا الشعر من غُرر الأشعار، وهو مِمَّا يحفظ.
وقال الأوديّ:

خبٌّ إذا نامَ عَنْهُ الناس لم ينمِ

 

كقنفذ القُنِّ لا تخفى مدارِجُهُ

عهد آل سجستان على العرب  وفي عهد آل سجستان على العربِ حين افتتحوها: لا تقتلوا قُنْفُذًا ولا وَرَلاً وَلاَ تَصِيدُوا، لأنها بلادُ أفاعٍ، وأكثرُ ما يجتلبُ أصحابُ صنعة الترياق والحواؤون الأفاعي من سجستان، وذلك كَسْبٌ لهم وحِرْفَةٌ ومَتجرٌ،ولولا كثْرَةُ قنافِذِها لما كان لهم بها قرارٌ.

أكل القنفذ للحية

والقنفذُ لا يبالي أيّ موضع قبضَ من الأفعى، وذلك أنه إن قبض على رأسها أو على قفاها فهي مأكولةٌ على أسهل الوُجوه، وإن قَبضَ على وسطها أو على ذنبها، جذَبَ ما قبض عليه، فاستدار وتجمَّع، ومنحه سائِرَ بدَنِهِ،فمتى فَتَحَتْ فاها لتقبضَ على شيء منه، لم تصلْ إلى جلده مع شوكِهِ النََّابت فيه، والأفعى تهربُ منه، وطلبهُ لها وجراءتهُ عليها، على حَسَبِ هربِها منه وضعْفها عنه.
أمثال في الحية والوَرَل والضَّبِّ وأمَّا قولهم: أضل من حَيّةٍ؛ وأَضَلُّ من وَرَلٍ؛ وأضَلُّ من ضَبٍّ، فأمَّا الحيّة فإنَّها لا تتَّخذ لنفسها بيتاً، والذَّكَرُ لا يقيم في الموضع، وإنما يقيم على بيضها بقدر ما تخرج فراخُها وتقوى على الكَسْب والتماس الطعم، ثمَّ تصير الأنثى سَيَّارَةً، فمتى وَجَدت جُحْرًا دخلتْ واثقةً بأنَّ السَّاكِنَ فيه بين أمرين:إمّا أقام فصار طُعْماً لها، وإمَّا هرَب فصار البيتُ لها ما أقامت فيه ساعةً، كان ذلك من ليلٍ أو نهار.

بيض الحيات

وقد رأيتُ بيض الحيَّات وكسرتُها لأتعرَّفَ ما فيها، فإذا هو بيضٌ مستطيلٌ أكدرُ اللون أخضر، وفي بعضه نَمَشٌ ولُمَعٌ، فأمَّا داخلُه فلم أَرَ قَيْحًا قطُّ، ولا صدِيدًا خَرَجَ من جُرحٍ فاسدٍ، إلاَّ والَّذي في بيضها أسمجُ منه وأقذر، ويزعمون أنها كثيرةُ البيض جداً، وأنَّ السلامة في بيضها على دون ذلك، وأنَّ بيضها يكون منضَّدًا في جوفها طُولاً على غرار واحد، وعلى خيط واحد، وهي طويلة البطن والأرحامِ، وعددُ أضلاعها عددُ أيام الشهر، وكان ذلك بعض ما زاد في شدَّة بدنها.
أكثر الحيوان نسلاً والخلْق الكثير الذَّرء الدَّجاجُ، والضَّبُّ أكثَرُ بيضاً من الدَّجاجة، والخنزيرة تضعَ عشرين خِنَّوْصاً.
ويخرجُ من أجوافِ العقاربِ عقاربُ صغارٌ، كثيرةُ العدد جدًّا، وعامَّة العقارب إذا حَبِلَتْ كان حَتْفُها في ولادها، لأنَّ أولادها إذا اسْتَوى خَلْقُها أكلَتْ بطونَ الأمَّهاتِ حتّى تثقبها، وتكونُ الولادةُ من ذلك الثَّقب، فتخرج والأمهاتُ ميِّتة.
وأكثَرُ من ذلك كله ذَرْءُ السَّمك، لأنَّ الإنسان لو زَعَمَ أنّ بيضة واحدة من بَعْضِ الأسْبور عشرة آلاف بيضة، لكان ذلك لعظَمِ ما تحمِل، ولدِقَّة حَبّه وصِغره، ولكن يعتريها أمران: أحدهما الفساد، والآخر أنَّ الذكورة في أوانِ ولادة الإناث تَتْبَعُ أَذْنَابَها، فكُلَّما زَحَرَتْ بشيء التقمتْه والتهمتْه.
ثمَّ السَّمك بعد ذلك في الجملة إنما طبعها أن يأكل بعضُها بعضاً.
علة كثرة الأولاد ويزعمون أن الكثْرَةَ في الأولاد إنّما تكون من العفَنِ واللَّخَن، وعلى قدْرِ كثرةِ المائيَّة وقِلّتِها، فذهبوا إلى أنَّ أرحامَ الرُّوميَّاتِ والنَّصرانيَّاتِ أكثرُ لخنًا ورُطوبة، لأنّ غَسْلَ الفُرُوجِ بالماء البارد مرارًا في اليوم، مِمَّا يطيِّب الأرحامَ، وينفي اللَّخَنَ والعَفَن، ويزعمون أنَّ المرأة إذا كان فرجُها نظيفاً، وكانت مُعَطّرَة قويّة المُنّةِ قَلَّ حملُها، فإنْ أفرطَتْ في السِّمَنِ عادتْ عاقراً، وسِمانُ الرِّجال لا يكاد يعتريهم ذلك.
وكذلك العاقر من إناث الإبل والبقر والغنم والنَّخْل، إذا قويت النَّخلة وكانت شابّةً، وسَمِنَ جُمَّارُها، صارتْ عاقِرًا لا تحمل، فيحتالون عند ذلك بإدخال الوهن عليها.
اعتراض على التعليل السابق وقد طعن في ذلك ناسٌ فقالوا: إنّ في الضّبِّ على خلاف ما ذكرتم، قد تبيضُ الأنثى سبعين بيضة فيها سبعون حِسْلاً، ولولا أنّ الضَّبَّ يأكلُ ولدَه لانتفشت الصحارى ضِباباً، والضب لا يحفر إلاّ في كُدْية وفي بلادِ العَرَاد، وإذا هرمت تبلّغتْ بالنّسيم، وهذا كله مِمَّا يستدلُّ به على بُعْدِ طبعها من اللَّخَن والعفن.
وقيل لهم: قد يمكنُ أن يكون ذلك كذلك في جميع صفاتها إلاّ في أرحامها فقط.

سفاد الحيات

وليس للحيَّاتِ سِفادٌ معروف يَنْتَهي إليه علمٌ، ويقف عليه عيان، وليس عند الناس في ذلك إلاَّ الذي يَرَوْنَ من ملاقاة الحيّة للحيَّة، والتواءِ كلٍّ منهما على صاحبه، حتى كأنهما زوجُ خيزرانٍ مفتولٌ، أو خَلخَالٌ مفتولٌ، فأمَّا أن يقفوا على عضوٍ يدخل أو فرج يدخل فيه فَلا.
شعر في الأيم والجرادة الذكر والعرب تذكُرُ الحيّاتِ بأسمائها وأجناسها، فإذا قالوا:أَيْم، فإنما يريدون الذَّكَر دونَ الأنثى، ويذكرونه عِنْدَ جودةِ الانسيابِ، وخِفَّةِ البدن، كما تذكر الشُّعراء في صفة الخيل الجرادةَ الذَّكَرَ، دُونَ الأنثى، فهم وإن ألحقُوا لها فإنما يريدون الذَّكَرَ، قال بِشْرُ بن أبي خازم :

جَرَادَةَ هَبْوَةٍ فيها اصفرارُ

لأنّ الأنثى لا تكون صفراء، وإنما الموصوفُ بالصُّفْرة الذَّكر، لأن الأنثى تكون بين حالتين: إمّا أنّ تكون حُبْلى بِبَيْضِها فهي مُثْقلة، وإمّا أن تكون قد سرأت وقذَفت بيضها، فهي أضعفُ ما تكون.
قال الشاعر:

وفي اللَّيلِ أَيْمٌ حيثُ شاءَ يسيبُ

 

أَتذهَبُ سَلْمَى في اللِّمَامِ وَلا تُرى

آثار الحيات والعظاء في الرمال

وإذا انسابت في الكُثْبانِ والرّملِ، يبينُ مواضعُ مَزَاحِفها، وعُرِفت آثارُها.
وقال آخر:

قُبيلَ الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ

 

كأَنَّ مَزَاحِفَ الحيَّاتِ فيها

وكذلك يعرفون آثار العِظاء، وأنشدَ ابن الأعرابيِّ:

مَلاعِبُ وِلْدَانٍ تخطّ وتمصعُ

 

بها ضربُ أذناب العِظاء كأنها

وقال الآخر، وهو يصف حيّات:

جُرِرْنَ فُرَادَى ومَثْناتها

 

كأنَّ مَزاحِفها أُنـسـعٌ

وقال ثمامة الكلبيُّ:

خُدُودُ رَصائع جُدلتْ تؤاما

 

كأنَّ مَزَاحِفَ الهَزْلَى صباحاً

والهَزْلَى من الحيَّات، قال جرير أو غيره :

مَزَاحِفُ هَزْلَى بينها متباعـدُ

 

ومن ذات أصْفاءٍ سُهُوب كأَنها

وقال بعضُ المحدثين، وذكر حال البرامكةِ كيف كانتْ، وإلى أيِّ شيءٍ صارت:

قُلتَ: الشجاعُ ثوى بها والأرقمُ

 

وإذا نَظَرْتَ إلى التّرى بِعِرَاصهم

وقال البعيث:

فجاءتْ بيَتْنٍ للضيافَةِ أرْشَما

 

لَقًى حَمَلَتْهُ أُمُّةُ وهي ضَـيْفَةٌ

مسَارِبُ حَيَّاتِ تَسَرَّبْنَ سَمْسَما

 

مُدامِنُ جَوْعَاتٍ كأنّ عروقَـهُ

روعة جلد الحية

ولا ثوبَ، ولا جناحَ، ولا سِتْرَ عنكبوتٍ، إلا وَقشْرُ الحيَّةِ أحْسَنُ منه وأرقُّ، وأخفُّ وَأنْعَمُ، وأعجبُ صنعةً وتركيباً.
ولذلك وصف كُثَيِّرٌ قميص ملِكٍ، فشبَّهه بِسَلخ الحيَّة، حيث يقول:

حقوقٌ، فَكُرْهُ العاذلاتِ يوافقُه

 

إذا ما أفادَ المالَ أودَى بِفَضْلِـهِ

سَبِيءٌ لهَزْلَى لم تُقَطَّعْ شَرَانِقُهْ

 

يجرِّر سِرْبالاً علـيه كـأنّـه

والسَّبِيء: السَّلْخُ والجلد، قال الشاعر:

وقد نصلَ الأظْفارُ وانسَبَأ الجلْدُ

صمم النعام والأفعى

وتزعمُ العربُ أنَّ النَّعامَ والأفعى صُمٌّ لا تسمع، وكذلك هما من بينِ جميع الخَلْقِ، وسنذكرُ من ذلك في هذا الموضع طرفاً، ونؤخر الباقي إلى الموضع الذي نذكر فيه جملة القَوْل في النَّعام، أصحاب الدعاوى الكبيرة وقد ابتُلينا بضَرْبين من الناس، ودعواهما كبيرة، أحدهما يبلغ من حبه للغرائب أن يجعل سمْعه هدَفاً لتوليد الكذابين، وقلبه قرارًا لغرائب الزُّور، ولِكَلَفِهِ بالغريب، وشَغَفِهِ بالطُّرَفِ، لا يقفُ على التَّصحيح والتمييز، فهو يدخل الغثَّ في السمين، والممكنَ في الممتنع، ويَتَعَلَّقُ بأدنى سببٍ ثمَّ يدفع عنه كلّ الدَّفعِ.
والصِّنف الآخر، وهو أنَّ بعضهم يرى أنَّ ذلك لايكون منه عنْدَ من يسمعه يتكلم إلا من خاف التقزُّز من الكذب.
قول في صمم الأفعى وعماه فزعم ناسُ أنّ الدَّليلَ على أنّ الأفاعي صُمٌّ، قولُ الشاعر:

أصمَّ لا يَسْمَعُ للـرُّقَـاة

 

أنعَتُ نضناضاً من الحيَّاتِ

قد ذكروا بالصَّممِ أجناساً من خبيثات الحيَّات، وذهبوا إلى امتناعها من الخروج عند رُقيةِ الرَّاقي عند رأس الجُحْر، فقال بعضهم:

صَمَّاء لا تَسْمَعُ صَوْتَ الدَّاعي

 

وذاتِ قَرْنَيْنِ مـن الأفـاعـي

ويزعمونَ أنّ كلّ نَضْناضٍ أفعى، وقال آخر:

ةَ أَرْقَشَ ذي حُمَةٍ كالـرِّشـا

 

ومِنْ حَنَشٍ لا يُجِـيبُ الـرُّقـا

تِ مُنْهَرتِ الشدقِ عارِي النسَا

 

أصمَّ سَمِيعٍ طـويلِ الـسُّـبَـا

فزعم أنّه أصمُّ سميعٌ، فجاز له أن يجعله أصمّ بقوله: ومِنْ حَنَشٍ لا يُجِيبُ الرُّقاة وقال الآخر:

يَفْتَرُّ عَنْ عُصْلٍ حَـدِيداتِ

 

أصمَّ أَعْمى لا يُجيِبُ الرُّقى

والأفعى ليس بأعمى، وعينه لا تنطبق، وإنْ قُلِعَتْ عينهُ عادت، وهو قائمُ العَيْنِ كَعَيْنِ الجرادة، كأنها مِسمارٌ مضروب، ولها بالليل شُعاع خفيٌّ، قال الرَّاعي يصفُ الأفعى:

إلى رأسِ صِلٍّ قائمِ العَيْنِ أسفعِ

 

ويُدني ذِرَاعَيهِ إذا ما تـبـادَرَا

وهذه صفةُ سَليمِ الأفعى، فيجوز أن يكون الشاعِرُ وصفها بالتمنع من الخروج بالصَّممَ، كما وصفها بالعمى، لمكان السُّباتِ وطُولِ الإطراق.
قال الشاعِرُ:

مُنهرت الشِّدْقِ عَارِي القَرَا

 

أصمَّ سميع طَويل السُّبـاتِ

وقال آخر:

سارٍ طَـمُـورٍ بـالـدُّجُـنَّــاتِ

 

منهرتِ الشِّدقِ رَقُودِ الـضُّـحـى

من طُـولِ إطْـرَاقٍ وإخـبــاتِ

 

وتـارَةً تَـحْـسَـبُـهُ مَـيِّتـــاً

نَفخ ونفْـثٌ فـي الـمـغـارات

 

يُسْبِتُـهُ الـصُّـبْـحُ وَطَـوْراً لَـهُ

 

 

وَيُعْلَمُ أنَّهُ وصَفَ أفعى بقـولـه:

يَفْتَـرُّ عـن عُـصْـلٍ حَـدِيداتِ

 

أصمَّ أعمى لا يُجيِبُ الرُّقى

 

 

مُنْهَرِتِ الشِّدْقِ رَقُودِ الضُّحى "الخ"

ثم ذكر أنيابَهُ، فقال:

إلى صماخَيْنِ وَلـهْـوَاتِ

 

قُدِّمْن عَنْ ضِرْسَيْهِ واسْتَأْخَرا

فجعله أعصل الأنياب، منهرتَ الأشْداق، ثمَّ وصفها بالسُّباتِ وطولِ الإطراق، وبِسُرْعَةِ النَّشْطة، وخفّة الحركة، إذا هَّمت بذلك وكانت تعظم.
شعر امرأة جمع صفة الحية وقد وصفتها امرأة جاهليَّةٌ بجميع هذه الصِّفةِ، إلاَّ أنها زادت شيئاً، والشِّعرُ صحيح، وليس في أيدي أصحابنا مِنْ صِفَةِ الأفاعي مثلها.
وقد رأيتُ عند داودَ بن محمَّدٍ الهاشميِّ كتاباً في الحيَّات، أكثرَ من عشرة أجلادٍ، ما يصحُّ منها مقدارُ جلدٍ ونصف.
ولقد ولَّدُوا على لسانِ خلفٍ الأحْمَرِ،والأصمعيِّ، أرجازاً كثيرة، فما ظَنُّكَ بتوليدهم على ألسِنَةِ القُدماء.
ولقد ولَّدُوا على لسانِ جَحْشَوَيْهِ في الحلاق أشعاراً ما قالها جَحْشَوَيه قط، فلو تقَذَّرُوا من شيءٍ تقذَّرُوا من هذا الباب.
والشِّعر الذي في الأفعى:

من حُبِّكُمْ والخطبُ غيرُ كبـيرِ

 

قَدْ كاد يقتُلني أصـمُّ مُـرَقَّـشٌ

كالقُرْص فُلْطِحَ مِنْ دقيقِ شَعيرِ

 

خُلِقَتْ لَهَازِمُهُ عِـزينَ ورأسُـهُ

سَمْراءُ طاحَتْ مِنْ نَفيضِ بَرِيرِ

 

وَيديرُ عَينْاً لِلْوقـاع كـأنَّـهـا

مَلْقاكَ كِفَّةَ مُنْخُـل مـأطـورِ

 

وكأنَّ ملقـاه بـكـلِّ تَـنُـوفَةٍ

شِدْقَا عَجوز مضْمَضَتْ لِطهُورِ

 

وكأنَّ شِدْقَيْهِ إذا اسْتَعْرَضْـتَـهُ

فقد زعمت كما ترى أنها تدير عيناً، وزعم الأوَّلُ أنها قائمة العين، إلاَّ أنْ تزعُمَ أنها لم تُرِدْ بالإدارة أن مقلتها تزولُ عن موضعها، ولكنّها أرادتْ أنّها جَوّالةٌ في إدراك الأشخاص، البعيدةِ والقريبة، والمتيامِنَة والمتياسِرَة.
وقد يجوزُ أنْ يكونُ إنَّما جَعَلَها سميعةً لدقّة الحِسِّ، وكثرة الاكتراث وجودةِ الشمِّ، لا جَوْدَةِ السَّمْعِ؛ فإنّ الذين زعموا أنّ النّعامة صمّاء زَعمُوا أنّها تُدْرِكُ من جهة الشمِّ والعَيْنِ، جميع الأمورِ التي كانت تعرفها من قِبلَ السَّمْع لو كانَتْ سَمِيعَة، وقد قال الشاعِرُ في صفة الحيّة:

تَعَرُّدَ السَّيْلِ لاقَى الحَيْدَ فَاطّلَـعَـا

 

تَهْوِي إلى الصّوْت والظلماءُ عاكِفَةٌ

هذا بعد أن قال:

صيداً وما نالَ مِنْهُ الرِّيَّ والشِّبَعا

 

إني وما تَبْتغي منّي كملتـمـس

 

مِثْلُ العسيبِ تَرى في رَأسِه نزَعَا

 

أهْوى إلى بابِ جُحر في مقدّمِـه

عُصْلٌ تَرى السمَّ يجري بيْنها قِطَعَا

 

اللَّوْنُ أربَـدُ والأنـيابُ شـابـكةُ

أو شمّ من حَجَر أوْهاهُ فانْصدعَـا

 

أصم ما شمَّ مِنْ خَضراءَ أيبَسـهـا

فقد جَعَلَ لها أنياباً عُصْلاً، ووصفها بغاية الخُبْثِ، وزعم أنها تسمع، فهؤلاء ثلاثة شعراء.
الثقة بالعلماء فإن قلت: إنّ المولَّدَ لا يؤمن عليه الخطأ، إذْ كان دخيلاً في ذلك الأمر، وليس كالأعرابيِّ الذي إنما يحكي الموجودَ الظاهر له، الذي عليه نَشَأ، وبِمَعْرِفَتِهِ غُذي، فالعلماء الذين اتَّسَعوا في علم العرب، حتى صاروا إذا أخبروا عنهم بخبرٍ كانوا الثِّقاتِ فيما بيننا وبينهم، هم الذين نقلُوا إلينا، وسواءٌ علينا جعلوهُ كلاماً وحديثاً منثوراً، أو جعلوه رجزاً وقصيداً موزوناً.
وَمْتَى أخبرني بعضُ هؤلاء بخبر لم أسْتَظْهِرْ عليه بمسألة الأعراب، ولكنهُ إنْ تَكلم وتحدَّث، فأنكرتُ في كلامهِ بعضَ الإعراب، لم أجْعَلْ ذلك قُدوَةً حتى أُوقِفه عليه، لأنّه ممَّنْ لا يُؤْمنُ عَلَيْهِ اللَّحْنُ الخفيّ قبلَ التفكر، فهذا وما أشبههُ حكمهُ خلافُ الأوَّل.
الرُّقْية والرُّقْيَةُ تكونُ على ضروب: فمنها الذي يدّعيه الحَوَّاءُ والرَّقَّاء؛ وذلك يُشْبِه بالذي يدَّعي ناسٌ من العزائم على الشياطين والجن، وذلك أنهم يزعمون أن في تلك الرّقْيَةِ عزيمةً لا يمتنع منها الشيطانُ، فكيفَ العامر? وأن العامِرَ إذا سُئل بها أجاب، فيكونُ هو الذي يتولى إخراجَ الحياتِ من الصّخْر، فإنْ كان الأمرُ على ما قالوا فما ينبغي أن يكون بين خروج الأفاعي الصمِّ.
وغيرها فرقٌ، إذا كانت العزائم والرّقى والنَّفْثُ ليس شيئاً يعمل في نفس الحيّة، وإنَّما هو شيءٌ يَعْملُ في الذي يُخْرِجُ الحَيَّة، وإذا كان ذلك كذلك فالسَّميعُ والأصمُّ فيه سواءٌ.
وكذلك يقولون في التَّحبيب والتَّبغيض، وفي النُّشرة وحلِّ العُقْدة، وفي التَّعقيد والتحليل.
العزيمة ويزعمون أنَّ الجن لا تجيبُ صاحب العزيمةِ حتى يتَوَحَّشَ ويأتي الخراباتِ والبراريَّ، ولا يأنسَ بالناس، ويَتَشَبَّه بالجنِّ، ويغسل بالماء القراح، ويتبخَّر باللِّبان الذَّكر، ويراعي المشتري فإذا دقَّ ولطُفَ، وتوحّش وعزم، أجابتْهُ الجنُّ، وذلك بعد أن يكونَ بدنهُ يصلُح هيكلاً لها، وحتَّى يَلَذَّ دُخولَه واديَ منازلها، وألاَّ يكرهَ ملابسته والكَوْنَ فيه، فإنْ هو ألَحَّ عليها بالعزائم، ولم يأخُذ لذلك أهْبته خبَلتْه، وربَّما قتلتْه، لأنها تَظنُّ أنّهُ متى توحَّش لها، واحتمى، وتَنَظف فقد فرغ، وهي لا تُجيب بذلك فَقَطْ، حتى يكونَ المعزِّمُ مشاكلاً لها في الطِّباع.
فيزعمون أنّ الحيَّاتِ إنما تُخْرَجُ إخراجاً، وأنَّ الذي يخرجُها هو الذي يخرِج سمومها مِنْ أجساد النّاس، إذا عَزَم عليها.
?التعويذ والرُّقْيةَ الأخرى بما يُعْرفُ من التعويذ، قال أبُو عُبَيْدَة: سَمِعْتُ أَعْرَابياً يقول: قد جاءكم أحدُكُمْ يستَرْقِيكُمْ فارْقوه، قال: فَعَوَّذُوهُ ببعض العوائذ.
والوجه الآخر مشتقّ من هذا ومحمولٌ عَلَيْهِ، كالرّجُلِ يقول: ما زال فلانٌ يرقي فُلاناً حتَّى لانَ وأجابَ.

رقى الحيات

وقد قالت الشعراء في الجاهِلِيَّةِ والإسلامِ في رُقى الحيات، وكانوا يؤمنون بذلك ويصدقون به، وسنخبر بأقاويلِ المتكلمين في ذلك، وبالله التوفيق.
ومنهم مَنْ زعم أنَّ إخراجَ الحيّةِ من جُحْرها إلى الرَّاقي، إنما كان للعزيمة والإقْسام عليها، ولأنَّها إذا فهمتْ ذلك أجابَتْ ولم تمتنع.
وكان أمَيَّةُ بنُ أبي الصَّلت، لا يعرف قولهم في أنَّ العُمَّارَ هم الذين يُجيبون العزائم بإخراج الحيّات من بيُوتها، وفي ذلك يقول :

من جحرها أمنات الله والقسـم

 

والحية الذكر الرقشاء أخرجهـا

ذات الإله بدا في مشيهـا رزم

 

إذا دعا باسمها الإنسان أو سمعت

قد كان ثبتها في جحرها الحمـم

 

من خلفها حمةٌ لولا الذي سمعت

والخلق مختلفٌ في القول والشيم

 

نابٌ حـديدٌ وكـفٌ غـير وادعةٍ

 

لنافثٍ يعتديه الـلـه والـكـلـم

 

إذا دعين بأسماء أجـبـن لـهـا

عرجاء تظلع في أنيابها عـسـم

 

لولا مخافة ربٍ كـان عـذبـهـا

فليس في سمعها، من رهبةٍ صمم

 

وقد بلته فذاقت بعض مصـدقـه

وليس بينهما قـربـى ولا رحـم

 

فكيف يأمنها أم كـيف تـألـفـه

يقول: لو أنَّها أخرجت حين اسْتُحْلِفَتْ بالله لما خرجت، إذ ليس بينهما قُربى ولا رَحِم، ثمَّ ذكر الحُمَّةَ والنّاب.
وقال آخرون: إنما الحيَّة مثل الضبّ والضّبع، إذا سمع بالله والهدْم والصَّوت خرج ينظر، والحوَّاء إذا دنا من الجُحْر رفع صوتَه وصفَّقَ بيديه، وأكثر من ذلك، حتى يخرج الحيّة، كما يُخرجُ الضب والضَّبع.
وقال كثيِّر:

أنِيٍّ إذا الحاوي دنا فَصَدا لهـا

 

وسَودَاءَ مِطراق إليَّ مِن الصَّفا

والتَّصدية، التَّصفيق، قال اللّه تعالى: "وما كان صلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاَّ مُكاءً وتصْدِيةً" الآية، فالمُكاء: صوتٌ بين النَّفخ والصَّفير، والتَّصْدِيَةُ: تصفيق اليد باليد.
فكان الحوّاء يحتالُ بذلك للحيَّة، ويُوهم مَنْ حضرَ أنَّهُ بالرُّقية أخرجها، وهو في ذلك يتكلم ويعرِّض، إلاّ أنَّ ذلك صوتٌ رفيع، وهو لو رفَعَ صوته ببيتِ شعرٍ أو بخُرافةٍ، لكان ذلك والذي يظهر من العزيمة عند الحيَّة سَواءً، وإنَّما ينْكر الصَّوتَ، كما ينكره الضّبُّ وغيرُ ذلك من الوحش.
ثم قال:

من القَوْل حتَّى صدَّقَتْ ما وعى لها

 

كفَفْتُ يَداً عنها وأرضَيْتُ سَمْعـهـا

وقد جعلت أن ترعني النَّفْثَ بالهـا

 

وأشْعرتها نفْثاً بليغـاً فـلـو تـرى

إلى الكفّ لما سالمت وانسلالـهـا

 

تسلَّلْتُها من حيث أدركها الـرّقـى

فقال كما ترى: كففت يدًا عنها وأرضيتُ سمْعَها ثم قال:

وأشعرتها نَفْثاً بليغاً فلو ترى

وقال الأعشى:

بَنَى لِيَ عِزاً مَوْتُها وحياتُهـا

 

أبا مِسْمَعٍ إني امرؤ من قبيلةٍ

إذا ما سعت يوماً إليها سَفاتُها

 

فلا تُلْمِسِ الأفعى يديك تريدها

وقال آخر:

فإنْ أبى شَمَّ سَفا وِجَارِهِ

 

يَدْعُو بِهِ الحيَّةَ في أقطارِهِ

والسَّفا: التراب اليابس بين التربين، يقال سَفاً وسفاة.
تمويه الحواء والراقي والحوَّاء وَ الرَّاقي يُرِي النَّاس أنَّهُ إذا رأى جحراً لم يخْفَ عليه: أجحر حيَّةٍ هو أمْ جُحْر شيء غيره، فإن كان جُحر حيّةٍ لم يَخْفَ عليه أهي فيه أم لا، ثمَّ إذا رَقى وعزَّم فامتنعت من الخُرُوجِ، وخاف أنْ تكون أفْعى صَمَّاءَ لا تسمَعُ، وإذا أَرَاغَها ليأخُذَها فأخطأ، لم يأمن من أن تنقره نَقْرَةً؛ لا يُفْلِحُ بعدها أبداً، فهو عند ذلك يستبري بأن يشمَّ من تراب الجُحر، فلا يخفى عَلَيْهِ: أهي أفْعى أم حَيّةٌ من سائر الحيات، فلذلك قال:

يدعو به الحَية في أقطاره

والوجار: الجُحر.

ريح الأفعى

وزعم لي بَعْضُ الحوَّائين أنَّ للحيَّات نَتْناً وسهَكاً، وأن ريحَ الأفعَى معروفَةٌ، وليس شيءٌ أغلقَ، ولا أَعْنَقَ، ولا أسرعَ أخذاً لرائِحةٍ من طينٍ أو تراب، وَأَنَّهُ إذا شمّ من طينة الجُحْر لم يخْفَ عليه، وقال: اعتبِرْ ذلك بهذا الطين السداني والرَّاهطي إذا أُلقي في الزَّعفران والكافور، أو غيره ذلك من الطِّيب، فإنّه متى وُضع إلى جنب رَوْثَةٍ أو عَذِرَة، قَبِلَ ذلك الجسم، والرَّقاء يوهم النَّاسَ إذا دخَل دُورهم لاستخراج الحيَّاتِ أَنَّهُ يعرف أماكنها برائِحتها، فلذلك يأخُذُ قصبةً ويَشْعَب رأسها، ثم يطْعُن بها في سقف البيت والزَّوايا، ثمّ يشمها ويقول مرة: فيها حيّات؛ ويقول مَرَّةً: بلى فيها حيّات، على قدْر الطمع في القوم، وفي عقولهم.
تأثير الأصوات

 

 

 

 

 

وَأَمْرُ الصَّوتِ عجيبٌ، وتصرُّفُه في الوجوه عجب، فمن ذلك أنّ منه ما يقتل، كصوت الصاعقة، ومنها ما يسرُّ النفوس حتى يُفْرِط عليها السُّرُورُ؛ فتقلَقَ حتى ترقُص، وحَتَّى رُبما رمى الرَّجُل بنفْسه مِن حالق، وذلك مثلُ هذه الأغاني المطرِبة، ومن ذلك ما يُكْمد، ومن ذلك ما يزيل العقْل حتى يُغْشَى على صاحبه، كنحو هذه الأصواتِ الشجيةِ، والقراءَات الملحَّنة، وليس يعتريهم ذلك مِنْ قِبَلِ المعاني؛ لأنهم في كثير من ذلك لا يفهمون معاني كَلاَمهم، وقد بَكَى ماسرجويه من قراءَة أبي الخوخ، فقيل له: كيفَ بكيتَ من كتاب اللّه ولا تصدِّقُ به? قال: إنما أبكاني الشجا.
وبالأصوات ينوِّمون الصِّبيانَ والأطفالَ.
أثر الصوت في الحيوان والدَّوابُّ تَصُرُّ آذانها إذا غنَّى المُكارِي، والإبل تصرُّ آذانَها إذا حدا في آثارها الحادي، وتزداد نشاطاً، وتزيد في مشيها، ويَجمع بها الصَّيَّادُونَ السَّمك في حظائرهم التي يتَّخذونها له، وذلك أنّهم يضربون بعصيٍّ معهم، وَيُعَطْعِطُونَ، فتُقبل أجناسُ السَّمكِ شاخصةَ الأبصار مصغيةً إلى تلك الأصوات، حَتَّى تدخُلَ في الحظيرة ويُضْرَب بالطِّساس للطَّير، وتُصاد بها، ويضرَبُ بالطِّساس للأُسْدِ وقد أقبلَتْ، فتروعُها تلك الأصوات.
وقال صاحب المنطق: الأيائِلُ تُصَادُ بالصَّفيرِ والغناء، وهي لا تنامُ مادامت تسمَعُ ذلك من حاذقِ الصوت، فيشغلونها بذلك ويأتُون من خَلفِها فإنْ رأوْها مسترخيةَ الآذانِ وثَبُوا عليها، وإن كانت قائمة الأذنين فليس إليها سَبيل.
والصَّفير تُسْقى به الدوابُّ الماءَ، وتنفَّرُ به الطير عن البذور.
وزعم صاحبُ المنطق أنَّ الرَّعدَ الشَّدِيدَ إذا وافق سِبَاحَة السَّمك في أعلى الماء رَمَتْ ببيضها قبلََ انتهاء الأجَل، وربّما تمّ الأجل فتَسمع الرَّعدَ الشَّدِيدَ، فيتعطَّل عليها أيّاماً بعدَ الوقت.

قول لأبي الوجيه العكلي

وقال أبو الوجيه العُكْلِيُّ: أحِبُّ السّحابةَ الخَرْسَاءَ وَلاَ أُحِبها فقيل له: وكيف ذلك? قال: لأنها لا تخرَسُ حتى تمتلئَ ماءً وتصبُّ صَبّاً كثيراً، ويكونَ غيثاً طَبَقَاً، وفي ذلك الحَيَا، إلاّ أنّ الكماةَ لا تكون على قدْرِ الغيث، ذهب إلى أنّ للرَّعدِ في الكمأة عملاً.

دعابة لجعفر بن سعيد

وقال جعفر بن سعيد: سأل كسرى عن الكَمْأة فقيل له: لا تكونُ بالمطر دونَ الرَّعد، ولا بالرّعْد دونَ المطر، قال: فقال كسرى: رشُّوا بالماء واضربوا بالطبول وكان من جعفر على التمليح، وقد علم جعفرٌ أنّ كسرَى لا يجهل هذا المقدار.

أثر الصوت في الحية

فالحيَّة واحدةٌ من جميع أجناس الحيوان الذي للصَّوتِ في طبعه عمل، فإذا دنا الحوَّاء وصفق بيديه، وتكلم رافعاً صوتَه حتى يزَيِّد، خرج إليه كلُّ شيء كان في الجُحْر، فلا يشكُّ من لا علم له أنَّ من لا علم له أنَّ الحيّةَ خرجت من جهة الطاعةِ وخوْف المعصِيَةِ، وأنّ العامرَ أخرجها تعظيماً للعزيمة، ولأنّ المعتزم مُطاعٌ في العُمَّار، والعامّة أسرعُ شيءٍ إلى التَّصديق.

شعر في الروح وهيكلها

وفي الرُّوح، وفي أنّ البدنَ هيكلٌ لها، يقول سليمانُ الأعمى؛ وكان أخا مسلم ابن الوليد الأنصاريِّ، وكانوا لا يشكون بأنَّ سليمانَ هذا الأعمى، كان من مُسْتَجِيبِي بشارٍ الأعمَى، وأنَّه كان يختلف إليه وهو غلاَم فقبل عنه ذلك الدِّين، وهو الذي يقول:

لِطَلُوبِ الْعِلمِ مُقْتَبِـسِـهْ

 

إنّ في ذَا الجِسمِ مُعْتَبَـراً

عِرْقُهُ والصّوْتُ من نَفَسِهْ

 

هَيْكَلٌ للرُّوح ينـطـقـه

يُعْدَلُ الضِّلعُ عَلَى قَوَسِهْ

 

لا تَعِظْ إلاّ اللَّبِيبَ فـمـا

فَقَدَتْهُ كَفُّ مُغْـتَـرِسِـهْ

 

رُبَّ مَغْرُوسٍ يُعَاشُ بِـهِ

أقربُ الأشياءِ مِنْ عُرُسِه

 

وكذَاكَ الدَّهْرُ مـأتـمُـهُ

قول في شعر لأمية بن أبي الصلت

وكانت العربُ تقول: كان ذلك إذ كان كلُّ شيء ينطق، وكان ذلك والحجارةُ رَطبةٌ، قال أُمَيّةُ:

 

وإذ صم السلام لهم رطاب

 

وإذ هم لا لبوس لهم تقيهـم

 

وخان أمانة الديك الغراب

 

بآية قام ينطق كـل شـيءٍ

تدل على المهالك لا تـهـاب

 

وأرسلت الحمامة بعـد سـبـعٍ

 

وعاينة بها المـاء الـعـبـاب

 

تلمس هل ترى في الأرض عيناً

 

عليها التأط والطين الكـبـاب

 

فجاءت بعد مار كضت بقطـفٍ

 

لها طوقاً كما عقد السـخـاب

 

فلما فرسـوا الآيات صـاغـوا

 

وإن تقتل فلي لـه انـسـلاب

 

إذا ماتـت تـورثـه بـنـيهـا

 








فذكر رُطوبة الحجارة، وأنّ كلّ شيء قد كان ينطِق، ثمّ خَبّرَ عن منادمةِ الدِّيك الغرابَ، واشتراطِ الحمامة على نوح، وغيرِ ذلك ممّا يدلُّ على ما قُلْنَا، ثم ذكر الحيَّةَ، وشأنَ إبليسَ وشأنَها، فقال:

وذي الجنِّيِّ أرسَلَهَا تُسَابُ

 

كذي الأَفْعَى ترَبَّبَها لَـدَيْهِ

ولا الجنيُّ أَصبح يُسْتَتَابُ

 

فلا رَبُّ البريّة يأمَنَنْـهَـا

فإن قُلْتَ: إنَّ أميّة كانَ أعرابيّاً، وكان بَدَوِيّاً، وهذا من خرافاتِ أَعْرَاب الجاهليَّة، وزعمت أَنّ أُمَيّةَ لم يأخذ ذلك عن أهْل الكتاب فإني سأنْشِدُك لعدِيِّ بنِ زيدٍ، وكان نصرانيّاً دياناً، وتَرْجُمَاناً، وصاحبَ كتب، وكان من دُهاةِ أَهل ذلك الدَّهر.
قال عديُّ بن زيدٍ، يذكرُ شأن آدم ومعصيتِه، وكيف أَغواه، وكيف دخل في الحية، وأَنَّ الحَية كانت في صورة جَمَلٍ فمسخها اللّهُ عقوبة لها، حين طاوعت عَدُوَّه على وليِّه، فقال :

وكان آخرهـا أن صـور الـرجـلا

 

قضـى لـسـتة أيامٍ خـلـيقـتــه

بنفخة الروح في الجسم الذي جـبـلا

 

دعاه آدم صوتـاً فـاسـتـجـاب لـه

وزوجه صنعةً من ضلعـه جـعـلا

 

ثمت أورثه الفـردوس يعـمـرهـا

من شجـرٍ طـيب أن شـم أو أكـلا

 

لم ينهـه ربـه عـن غـير واحـدةٍ

كما ترى ناقة في الخلق أو جـمـلا

 

فكانت الحية الرقشـاء إذ خـلـقـت

بأمر حواء لم تـأخـذ لـه الـدغـلا

 

فعمدا للتـي عـن أكـلـهـا نـهـيا

من ورق التين ثوباً لـم يكـن غـزلا

 

كلاهما خاط إذ بزا لـبـوسـهـمـا

طول الليالي ولم يجعل لـهـا أجـلا

 

فلاطها الله إذ أغـوت خـلـيقـتـه

والترب تأكله حـزنـا وإن سـهـلا

 

تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت

وأوجدا الجوع والأوصاب والعـلـلا

 

فأتعبـا أبـوانـا فـي حـياتـهـمـا

نشفى بحكمته أحـلامـنـا عـلـلا

 

وأوتيا الملـك والإنـجـيل نـقـرؤه

فوق البرية أربابـاً كـمـا فـعـلا

 

من غير ما حاجةٍ إلا لـيجـعـلـنـا

عقاب حواء وآدم والحية

فرَوَوْا أنَّ كعبَ الأحبارِ قال: مكتوبٌ في التوارة أنَّ حَوَّاءَ عِنْدَ ذلك عُوقبتْ بعشر خصالٍ، وأنّ آدم لمَّا أطاع حَوَّاء وعصى رَبَّه عُوقب بعشر خصال، وأنَّ الحيَّة التي دخل فيها إبليس عُوقبت أيضاً بعشْر خِصال.
وأوَّلُ خِصال حَوّاء التي عُوقبت بها وجَع الافتضاض، ثم الطلق، ثمَّ النَّزْع، ثمّ بقناع الرَّأس، وما يصيبُ الوحَمى والنفساء من المكروه، والقَصْرُ في البيوت، والحيض، وأنَّ الرِّجال هم القوَّامون عليهنَّ، أن تكونَ عِنْدَ الجماع هي الأسفل.
وأمّا خصال آدم عليه السلام: فالذي انتقص من طوله، وبما جعله اللّه يخافُ من الهوامِّ والسِّباع، ونكَد العَيش، وبتوقع الموت، وبسكنى الأرض، وبالعُرْي من ثياب الجنَّة، وبأوجاع أهل الدنيا، وبمقاساة التحفظ من إبليس، وبالمحاسبة بالطّرف، وبما شاع عليه من اسم العصاة، وأمَّا الحيَّة فإنها عوقبت بنقص جَناحها، وقطعْ أرجلها، والمشي على بطنها، وبإعراء جلدها - حتى يقال: أعْرَى مِنْ حَيَّة وبشقِّ لسانها - لذلك كلما خافَتْ من القتل أخرجَتْ لسانها لتريَهم العُقوبة - وبما ألقِي عليها من عَداوةِ النَّاس، وبمخافة الناس، وبجعله لها أَوَّلَ ملعونٍ من اللّحم والدَّم، وبالذي يُنسب إليها من الكذب والظلم.

ظلم الحية وكذبها

فأمّا الظلم فقولهم: أظلم من حَيّةٍ وأما الكذب فإنها تنطوي في الرَّملِ على الطَّريق وتُدْخِلُ بَعض جسدِها في الرَّمل، فتظهر كأنها طَبقُ خيزُرانٍ، ومنها حَيَّاتٌ بيضٌ قِصَارٌ تجمعُ بين أطرافها على طُرُقِ الناس، وتستديرُ كأنها طَوْقٌ أوْ خلخالٌ، أو سوارُ ذهبٍ أو فضةٍ - ولما تلقي على نفسها من السُّبات، ولما تُظهر من الهَرَب من الناس، وكلّ ذلك إنَما تغرُّهُمْ وتصطادُهُمْ بتلك الحيلة، فذلك هو كِذبُها.
عقاب الأرض قال: وعُوقبت الأرضُ حين شَرِبَتْ دم ابن آدم بعشرِ خِصال: أنَبتَ فيها الشّوك، وصيَّر فيها الفيافيَ، وخرق فيها البحار، وملَّح أكثرَ مائها، وخَلقَ فيها الهوامَّ والسِّباع، وجَعَلَها قَرَاراً لإبْلِيسَ والعاصين، وجعل جهنَّم فيها، وجعَلها لا تُرْبِي ثمرتها، إلاَّ في الحرِّ، وهي تعذَّب بهم إلَى يوم القيامة، وجعلها تُوطأ بالأخْفافِ، والحوافِر، والأظلافِ، والأقدام، وجَعَلها مالحةَ الطَّعم.
شراب الأرض للدم ثم لم تشرب بعد دمِ ابنِ آدمَ دَمَ أحدٍ من ولده، ولا من غير ولده، قَالَ: وَلِذلِكَ قال عمر بنُ الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لأبي مريم الحنفيِّ: لأنَا أَشَدُّ لك بُغْضاً مِنَ الأَرْضِ للدم.
وزعم صاحبُ المنطق أنَّ الأرض لا تشرب الدَّم، إلاَّ يسيراً من دماء الإبل خاصَّة.
اختبار العسل وإذا أرادُوا أن يمتحنُوا جَوْدَة العسل من رداءته، قَطَرُوا على الأرض منه قَطْرَةً، فإذا استدارت كأنها قطعَة زِئبقٍ، ولم تأْخُذْ مِنَ الأرْضِ ولم تُعْطِهَا فهو الماذيُّ الخالصُ الذَّهبيُّ، فإن كان فيه غُشوشةٌ نفشت القَطْرة على قدر ما فيها، وأخَذَتْ من الأرض وأعطتها، وإن لم يقدِرُوا على اللّحم الغَريض دَفَنُوهُ وغرّقوه في العسل، فإنهم متى رجعوا فغسلوه عنه وجَدُوهُ غضّاً طريّاً، لأنَّهُ ذهبيُّ الطِّباع، ليس بينه وبين سائِر الأجرام شيء، فهو لا يعطيه شيئاً ولا يأخذ منه. وكذلك الذَّهَبُ إذا كان مدفوناً.
زمن الفطحل وهذه الأحاديثُ، وهذه الأشعارُ، تدلُّ على أنَّهُمْ قد كانوا يقولون: إنَّ الصُخورَ كانت رَطْبَةً ليِّنة، وإنَّ كلَّ شيءٍ قد كانَ يعرِف وينطق، وإنّ الأشْجَارَ والنَّخل لم يكن عليها شوكٌ، وقد قال العجَّاج، أو رُؤبة:

وَالصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كَطِينِ الوَحْلِ

 

أَوْ عُمْرَ نُوحٍ زَمَنَ الْفِطَحْلِ

مرويات كعب الأحبار

وأنا أظنُّ أنَّ كثيراً مِمَّا يُحكى عن كعبٍ أنَّهُ قال: مكتوبٌ في التوراة أنَّهُ إنّمَا قال: نجدُ في الكتب، وهو إنَّما يعني كتب الأنبياء، والذي يتوارثونه من كتب سليمان؛ وما في كتبهم من مثل كتب إشَعْياء وغيره، والذين يروون عنه في صفة عُمَرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه، وأشباهِ ذلك، فإن كانوا صَدَقوا عليه وكان الشيخ لا يضعُ الأخبارَ فما كان وجهُ كلامه عندنا إلاّ على ما قلتُ لك.

نطق الحية

وفي أنّ الحيّة قد كانت تسمَعُ وتنطق، يقول النّابِغَةُ في المثَل الذي ضَرَبَهُ، وهو قوله:

 

فيعذرنا من مرة المـتـنـاصـره

 

أليس لنا مولىً يحـب سـراحـنـا

 

محل عبيدان المـحـلإ بـاقـره

 

ليهنكم أن قد نـفـيتـم بـيوتـنـا

 

بلا عثرةٍ والنفس لا بـد عـاثـره

 

وإني للاقٍ من ذوي الضغن نكـبةً

 

وما انفكت الأمثال في الناس سائره

 

كما لقيت ذات الصفا من حليفـهـا

 

ولا تغشيني منك للظـلـم بـادره

 

فقالت له: أدعوك للعـقـل وافـراً

 

فكانت تديه الجزع خفياً وظاهـره

 

فواثقها باللـه حـتـى تـراضـيا

 

وجارت به نفسٌ عن الخير جائره

 

فلما توفـي الـعـقـل إلا أقـلـه

 

فيصبح ذا مـالٍ ويقـتـل واتـره

 

تفكر أني يجمع الـلـه شـمـلـه

 

ليقتلها والنفس للـقـتـل حـاذره

 

فظل على فأسٍ يحـد غـرابـهـا

 

ولله عينٌ لا تغـمـض سـاهـره

 

فلما وقاها اللـه ضـربة فـأسـه

 

على العقل حتى تنجزى لي أخره

 

فقال: تعالى نجعل الـلـه بـينـنـا

 

رأيتك ختاراً يمـينـك فـاجـره

 

فقالت يمين اللـه أفـعـل إنـنـي

وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقره

 

أبى لك قبرٌ لا يزال مواجـهـاً

 








فذهَب النّابِغَةُ في الحيَّاتِ مذهَبَ أميّة بن أبي الصّلْتِ، وعديِّ بن زيدٍ، وغيرهما من الشعراء.
الصخور والأشجار في ماضي الزمان وأنشدني عبدُ الرحمن بن كَيسان:

وكان خَضِيداً طَلْحُها وَسَيالُهَا

 

فكانَ رَطِيباً يومَ ذلك صخْرُها

فزعم كما ترى أنّ الصُّخورَ كانت لَيِّنَةً، وأنَّ الأشجارَ: الطلْحَ والسَّيالَ كانت خَضِيداً لا شوكَ عليها.
وزعم بعضُ المفسِّرين وأصحابُ الأخبار، أنّ الشّوك إنما اعتراها في صبيحة اليوم الذي زعَمتِ النّصارَى فيه أنّ المسيح ابنُ اللّه.
أثر قدم إبراهيم عليه السلام وكان مقاتلٌ يقولُ - حَدّثَنَا بذلك عنه أبو عقيل السّواق، وكما أحدَ رواتِه والحاملين عنه - إنَّ الصُّخورَ كانَتْ لَيِّنَةً، وإنّ قدمَ إبراهيم عليه السلام أثرت في تلك الصخرة، كتأثير أقدامِ الناس في ذلك الزّمان، إلاَّ أنَّ اللّه تعالى توفّى تلك الآثارَ، وعفَّى عليها، ومسَحَها ومحاها، وترَكَ أثرَ مقامِ إبراهيمَ عليه السلام، والحجَّةُ إنما هي في إفراده بذلك ومَحْوِ ما سواهُ من آثار أقدام الناس، ليس أنّ إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم كان وطئ على صخرة خلقاءَ يابسةٍ فأثَّرَ فيها.
فضل المتكلمين والمعتزلة وأنا أقول على تثبيت ذلك بالحجة، ونعوذُ باللّه من الهَذْر والتكلف وانتحالِ ما لا أقوم به، أقول: إنّهُ لولا مكانَ المتكلمين لهلكت العوامّ من جميع الأمم، ولولا مكانُ المعتزِلة لهلكت العََوَامُّ من جميع النِّحل، فإن لم أقل، ولولا أصحابُ إبراهيمَ وإبراهيمُ لهلكت العوامُّ من المعتزلة، فإني أقول: إنهُ قد أنهج لَهُمْ سُبُلاً، وفَتقَ لهم أموراً، واختصر لهم أبواباً ظهرتْ فيها المنفعة، وشملتهم بها النعمة.
ما يحتاج إليه الناس وأنا أزعُمُ أن الناس يحتاجون بَدِيّاً إلى طبيعةٍ ثم إلى معرفة، ثم إلى إنصاف، وأوَّل ما ينبغي أنْ يبتدئ به صاحبُ الإنصافِ أمرَه ألاَّ يعطَى نفسَه فوقَ حقها، وألاَّ يضعها دونَ مكانها، وأن يتحفظَ من شيئين؛ فإن نجاتَه لا تتمّ إلاّ بالتحفظ منهما: أحدهما تهمة الإلف، والآخر تُهمة السَّابِقِ إلى القلب - واللّه الموفق.
حديث عن تأليف هذا الكتاب وما أكثرَ ما يعرض في وقت إكبابي على هذا الكتاب، وإطالتي الكلام، وإطنابي في القول، بيتُ ابن هَرْمة، حيث يقول:

حَتى يلجَّ بهم عِيٌّ وإكثـارُ

 

إنَّ الحديثَ تغر القَوْمَ خَلوتُه

وقولهم في المثل: كل مُجْرٍ في الخَلاَءِ يُسَرُّ.
وأنَا أعوذُ باللّه أنْ أُغَرَّ من نفسي، عند غَيبةِ خَصمي، وتصفحِ العلماءِ لكلامي، فإني أعلم أن فِتنةَ اللسانِ والقلم، أشدّ من فِتنة النساء، والحرص على المال.
وقد صادف هذا الكتابُ مني حالاتٍ تمنعُ من بلوغِ الإرادة فيهِ، أوَّلُ ذلك العِلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طولُ الكتاب، والرابعة أني لو تكلفت كتاباً في طوله، وعدَدِ ألْفاظِهِ ومعانيهِ، ثمَّ كان من كُتب العَرَض والجوهر، والطَّفرة، والتولد، والمداخَلة، والغرائز، والتماس لكان أسهَلَ وأقصَرَ أياماً، وأسْرَعَ فراغاً؛ لأني كنت لا أفزَعُ فيه إلى تلقُّط الأشعار، وتتبُّعِ الأمثال، واستخراج الآيِ من القرآنِ، والحجَجِ من الرِّواية، مع تفرُّقِ هذه الأمورِ في الكتب. وتباعُدِ ما بين الأشكال، فإنْ وجَدْتَ فيه خللاً من اضطرابِ لفظٍ، ومن سوءِ تأليف، أو من تقطيعِ نظامٍ، ومن وقوع الشيء في غير موضعه - فلا تنكِرْ، بعدَ أنْ صوَّرتُ عندك حالي التي ابتدأتُ عليها كتابي.
ولولا ما أرجو من عَوْنِ اللّه على إتمامه؛ إذْ كنتُ لم ألتمسْ به إلاَّ إفهامَك مواقعَ الحُجَج للّه، وتصاريفَ تدبيره، والذي أَوْدَعَ أصنافَ خلْقه من أصناف حكمته لَمَا تعرَّضْتُ لهذا المكروه، فإنْ نَظَرْتَ في هذا الكتاب فانظُرْ فيه نظَرَ مَنْ يلتمس لصاحبه المخارجَ، ولا يَذْهَبُ مذهبَ التعنُّتِ، وَمَذْهَبَ مَنْ إذا رأى خيراً كتَمَهُ، وإذا رأى شَرّاً أذاعه. وليعْلم مَنْ فَعَلَ ذلك أنَّه قد تعرَّض لبابٍ إن أُخِذَ بمثله، وتُعَرِّض له في قوله وكتبه، أنْ ليس ذلك إلاّ من سبيل العُقوبةِ، والأخْذ منه بالظلامة، فلينظرْ فيه على مثال ما أدَّب اللّه به، وعرَّف كيف يكون النظر والتفكير والاعتبار والتعليم؛ فإنَّ اللّه عزَّ وجلّ يقول: "وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ".
الحكمة الجليلة في دقيق الأشياء فينبغي أنْ تكون إذا مررْتَ بذكر الآية والأعجوبةِ، في الفراشة والجِرجسَة، أَلاَّ تحقِرَ تلك الآية، وتصغِّر تلك الأعجوبة؛ لصغر قدرهما عندك، ولقلَّة معرفتهما عِنْدَ معرفتك، لِصغَر أجسامهما عند جسمك، ولكن كنْ عند الذي يظهَر لك من تلك الحكم، ومن ذلك التَّدبير، كما قال اللّه عزّ وجلّ: "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ" ثم قال: "فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا" ثمّ قال اللّه تعالى: "وَإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ"، وقد قال عامرُ بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجتْ من القَلْبِ وقعَتْ في القَلب، وإذا خَرَجَتْ من اللسانِ لم تجاوز الآذان.
حث على الإخلاص والتنبه عند النظر وأنا أعيذ نفسي باللّه أنْ أقول إلاّ لَهُ، وأعيذك باللّه أن تسمع إلاّ لَهُ، وقد قال اللّه عزّ وجلّ: "وَإنْ تَدْعُهُمْ إلَى الْهُدَى لاَ يَهْتَدُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ" فَاحْذَرْ من أنْ تكونَ منهم، وممَّن يَنْظُرُ إلى حكمة اللّه وهو لا يبصرها، وَمِمَّنْ يبصرها بفَتْح العَيْنِ واستماعِ الآذان؛ ولكن بالتوقف من القلْب، والتثبت من العقْل، وبتحفيظه وتمكينه من اليقين، والحجَّة الظاهرة، ولا يراها من يُعرِضُ عنها.
وقد قال اللّه عزّ وجلّ: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ" وقال: "إنَّ شَرَّ الدّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" ولو كانوا صمّاً بُكماً وكانوا هم لا يعقلون، لَمَا عيَّرهم بذلك، كما لم يعيِّر مَنْ خَلقَهُ معتوهاً كيف لم يعقل، وَمَنْ خَلَقُه أعمى كيف لم يبصر، وكما لم يَلُمِ الدوابَّ، ولم يعاقب السِّباع، ولكِنَّهُ سمّى البصير المتعامي أعمى، والسميعَ المتصامِمَ أصمَّ، والعاقلَ المتجاهلَ جَاهلاً.
وقد قال اللّه عزّ وجلّ: "فَانْظُرْ إلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنّ ذلِكَ لَمُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَانْظُرْ كما أمرك اللّه، وانظرْ من الجهة التي دلّك مِنْهَا، وخذْ ذلك بقوَة، قال تعالى: "خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ".
عود إلى الحيات ثمَّ رَجَعَ بنا القولُ إلى ما في الحيَّات من العِلم والعِبرة، والفائدةِ والحِكمة؛ ولذلك قال أبو ذَرٍّ الغفاريُّ: لقد تَرَكَنَا رَسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وما يمرُّ بنا طائرٌ إلا وِعِنْدَنَا من شأنه عِلْمٌ، وهذا القولُ صحيح عن أبي ذر، ولم يخصَّ أبو ذرٍّ خَشاش الطَّيرِ من بُغاثها وأحرارها، ولا ما يدخل في بابة الهمَج، وقد أريْناك من تحقيق قولِه طَرَفاً، ولعلك إن جمعْتَ نظرك إلى نظرنا، أنْ تستتمَّ هذا الباب، فقد قال الشاعر:

أشِيرَا عَلَيَّ الْـيَوْمَ مَـا تَـرَيَانِ

 

خليليَّ ليس الرأيُ في رأي واحدٍ

وقال الأحنَف: ما مِنْ الناس أحدٌ إلاَّ وقد تعلَّمْتُ منه شيئاً، حتَّى من الأمَةِ الوَرْهاءِ والعبْدِ الأوْرَه.
والحيَّات مختلفاتُ الجهاتِ جدّاً، وهي من الأمم التي يكثُر اختلافُ أجناسِها في الضَّررِ والسمّ، وفي الصِّغرِ والعِظَم، وفي التعرُّضِ للنَّاس،ِ وفي الهربِ منهم، فمنها ما لا يؤذي إلاَّ أنْ يكونَ الناس قد آذَوْهَا مَرَّة، وأمّا الأسوَدُ فإنَّهُ يحقِدُ ويُطالب، ويكمَُن في المتاع حتى يُدْرِك بطائلته، وله زمانٌ يقتلُ فيه كلَّ شيءٍ نهشَه. وأمَّا الأفعى فليس ذلك عندَها، ولكنها تَظهر في الصَّيفِ مع أوَّل الليل، إذا سكَنَ وهَجُ الرَّمْلِ وظاهِرُ الأرض؛ فتأتي قارِعَةَ الطَّريق حتى تستديرَ وتَطْحَنَ كأنَّها رَحًى، ثمَّ تُلصِقُ بَدَنَهَا بالأرض وتُشْخِصُ رأسها؛ لئلاَّ يدركَها السُّبات، معترضة؛ لِئلاَّ يطأها إنسانٌ أو دابَّةٌ فتنهشَه، كأنَّهَا تريد ألاَّ تنهَشَ إلاَّ بأن يُتَعَرَّضَ لها، وهي قدْ تعرَّضت لنَهْشه باعتراضها في الطَّرِيقِ وتناوُمها عليه وهي من الحيّات التي ترصد وتوصف بذلك، قال مَعْقِل بن خُويلد:

رُؤوسَ الأفاعِي في مَرَاصِدِهَا الْعُرْمِ

 

أبا مَعْقِلٍ لا تُوطِئَنْكُمْ بَـغَـاضَـتـي

يريد: الأفاعي في مراصدها، وكلُّ منقَّطَة فهي عَرْماء، مِنْ شاةٍ أو غير ذلك.
وقال آخر:

للسّفْرِ في أعلى البيات قاصِدِ

 

وكم طَوَتْ من حَنَشٍ وراصِدِ

والأفعى تقتُلُ في كلِّ حالٍ وفي كلِّ زمان، والشُّجاع يواثِبُ ويقوم على ذَنَبه، وربَّما بَلَغَ رأسُه رأسَ الفارس.

ما يقتل الحية والعقرب من الحيوان

وليس يقتلها - إذا تطوّقت على الطَّريق وفي المناهج، أو اعتَرضتْها لتقطعها عابرةً إلى الجانب الآخر - شيءٌْ كأقاطيع الشِّياهِ إذا مرَّت بها، وكذلك الإبلُ الكثيرةُ إذا مرَّت، فإنَّ الحيَّةَ إذا وَقَعَتْ بين أرجلها كان همتُها نفسَها، ولم يكن لها همةٌ إلاّ التَّخَلصَ بنفسها؛ لئلاّ تعجلها بالوطء، فإن نجَتْ من وطء أيديها، لم تنجُ من وطء أرجلها، وإنْ سلمَتْ مِن واحدةٍ لم تسلم من التي تليها، إلى آخرها.
وقال عمر بن لَجَأ، وهو يصف إبله:

تَعَرَّضُ الحيَّاتُ في غِشَاشها

وقال ذو الأهدام:

تُعْجِلها عن نهشها والنَّكْزِ

ومن ذلك أنّ العقربَ تَقَعُ في يد السِّنّور، فيلعب بها ساعة من اللَّيل وهي في ذلك مسترخيةٌ مستخذِيةٌ لا تضربه، والسَّنانير من الخلْق الذي لا تسرع السُّموم فيه.

مسالمة الأفعى للقانص والراعي

وربَّما باتت الأفعى عندَ رأسِ الرَّجُل وعلى فراشه فلا تنهشُه، وأكثَرُ ما يُوجَدُ ذلك من القانِص والرَّاعي، قال الشاعر:

مكانَ الحِبِّ مستَمِعَ السِّرارِ

 

تبيتُ الحيَّةُ النَّضْنَاضُ مِنْـهُ

قال: الحِبُّ: الحبيب، والنضناض من الحيَّات: الذي يحرِّك لسانَهُ، وعن عيسى بن عمر قال: قلتُ لذي الرُّمّة: ما النضناض? فأخرَجَ لسانَه يحرِّكه.
وإنما يصف القانص وأنّه يبيت بالقفر، ومثلهُ قولُ أبي النجم:

جَرْي الرّحَى تَجْري على ثِفالها

 

تَحكي لنَاَ الْقَرْنَاءُ في عِرْزالهـا

العِرْزال: المكان وفي ذلك يقول أبو وَجْزَة:

ربدٌ به عاذرٌ منهنّ كالجَرَب

 

تبيت جارتَه الأفعَى وسامرَه

وقوله: رُبْد، يريد البعوض، وعاذر: أثر.
قصة في مسالمة الأفعى قال: وبات يحيى بن منقاش مع دارم الدارميّ، فلما أصبح يحيى رأى بينهما أفعى مستويةً، فوثب يحيى ليقتلها، فقال له دارم، قد أعتقتُها وحرَّرتها ولمَ تقتُلُها وهي ضجيعتي من أوَّل الليل? فقال يحيى:

يُطِيفُ بنـا لـيلاً مُـحَـرَّرُ دارمِ

 

أعوذُ بربِّي أن تُرَى لي صحْبَتِـي

وإن كان معقوداً بحلْي التـمـائم

 

من الخُرْسِ لا ينجو صحيحاً سَليمُها

مسالمة العقارب للناس والعقاربُ في ذلك دونَ الحيَّات، إلاّ الجرَّارات، فإنها ربَّما باتت في لحافِ الرَّجُلِ اللَّيلَةَ بأسرها، وتكونُ في قميصه عامّة يومها، فلا تلسعه، فهي بالأفعى أشبَه.
فأمَّا سائرُ العقاربِ فإنها تقصِدُ إلى الصَّوت، فإذا ضربَتْ إنساناً فرَّتْ كما يصنع المسيء الخائف لِلعقَاب.
والعقرب لا تضرب الميتَ ولا المغشيّ عليه، ولا النائم إلاَّ أن يحرك شيئاً من جَسَدِه، فإنها عند ذلك تضربُه.
مسالمة الخنافس للعقارب والحيات ويقال إنها تأوي مع الخنافس وتسالمُها، ولا تصادق من الحيّات إلا كلّ أسودَ سالِخٍ.
عقارب نصر بن الحجاج وحدَّثَ أبو إسحاق المكي قال: كان في دار نَصْرِ بن الحجاج السُّلمي عقاربُ إذا لسعَتْ قَتَلَتْ، فدبّ ضيفٌ لهم على بعضِ أهْلِ الدَّار فضربَتْه عقربٌ على مذاكيره، فقال نصرٌ يعرِّض به:

أقَامَ الحُدُودَ بِهَا الْعَقْرَبُ

 

وَدَارِي إذا نَام سكَّانُهـا

فإِن عقاربها تضـرب

 

إذا غَفَلَ الناسُ عن دينهم

قال: فأدخَلَ النَّاسُ بها حَوّاءً، وَحَكَوْا لَهُ شأنَ تلك العقاربِ، فقال: إن هذه العقاربَ تستقي مِنْ أسوَدَ سالِخٍ، ونظر إلى موضعٍ في الدار فقال: احفُرُوا هاهنا، فحفَرُوا عن أسودَيْنِ: ذكرٍ وأنثى، وللذَّكر خُصيتان وَرَأَوْا حولَ الذَّكر عقاربَ كثيرةً فقتلوها.
قال: وقال الفضلُ بن عبَّاس حين راهنه عقرب بالشِّعر، وقيل لكلِّ واحدٍ منهما: لسْتَ في شيءٍ حَتَّى تغلِبَ صاحبك، فقال الفضل:

لا مرحباً بالعقرب التاجره

 

قد تجر العقرب في سوقنـا

وعقرب تخشى من الدابره

 

كل عدوٍ يتقـي مـقـبـلاً

فغير ذي أيدٍ ولا ضـائره

 

كل عدوٍ كيده فـي اسـتـه

بأن لا دنـيا ولا آخــره

 

قد ضاقت العقرب واستيقنت

وكانت النعل لها حاضـره

 

إن عادت العقرب عدنا لهـا

من سمى بعقرب واسم أم حارثة بن بدر، عقرب، وآل أبي موسى يكتنُون بأبي العقارب، ومن هؤلاء الذين يكتنون بالعقرب: ابن أبي العقرب الليثيُّ الخطيب الفصيح، الراوية.
وَرَوَوْا أنّ عقرباً لسعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: لَعَنَهَا اللّهُ، فإنَّها لا تُبَالي مَنْ ضربت! وقال الضّبيّ: أنا عقربٌ، أضرُّ ولا أنفع.
الجرارات وكان الرَّجُلُ تلسعه الجَرَّارة بعسكر مُكْرَم، أو بجند يسابور، فتقتله؛ وربّما تناثر لحمه، وربَّما تعفّنَ وأنتن، حتى لا يدنُوَ منه أحدٌ إلاَّ وهو مُخَمِّرٌ أنفه، مخافَةَ إعْدائه، ولا سيما إن كان قد نال من اللحم وهو لا يعلم أنَّ الوخْزَة التي وُخِزها كانت من جَرَّارة.
وكانوا إِذا شَعرُوا بها دَعوا حجاماً، يحجُم ذلك الموضعَ ويمصُّه، قبلَ أن يتفشى فيه السمُّ ويدخلَ تلك المداخل، فكان الحجَّام لا يجيئهم حتى يقبضَ دنانيرَ كثيرةً، وإنَما كانوا يجودون له بذلك؛ لِمَا كانَ لصاحبهم في ذلك من الفَرَج، وما على الحجام في ذلك من ضرر، وذلك أن وجهَه ربّما اسمارَّ واربَدّ، وربَّما عطّلت مقاديم أسنانه وتوجّعت عليه، فيلقى من ذلك الجهد، وذلك لما كان يتّصل إلى فيه من بُخار الدَّم، ومن ذلك السمّ المخالط لذلك الدّم، ثمَّ إنَّهم بعدَ ذلك حشَوْا أذناب المحاجِم بالقُطْن، فصار القُطْنُ لا يمنع قُوَّةَ المصِّ والجذْب، ولم يدَعْه يصلُ إلى فم الحجام، ثمّ إنَّهم بَعْدَ مدّة سُنَيّاتٍ أصابوا نَبتةً في بعض الشُّعب، فإذا عالجوا الملسوعَ بها حَسُنت حالُه.
والجرَّارات تألف الأخْواء التي تكون بحضرة الأتاتين، وتألف الحشوش والمواضع الناريّة، وسمُّها نار.
قول ماسرجويه في العقرب وقيل لماسرجويه: قد نجِدُ العقربَ تلسَعُ رَجُلَيْنِ فتقتلُ أحدَهما ويقتلها الآخرُ، وربّما نَجَتْ ولم تمُتْ، كما أنَّهُ ربَّما عُقِرت ولم تَفُتْ، ونجدُها تضربُ رجُلَين في ساعةٍ واحدة، فيختلفان في سوءِ الحال، ونجدُها تختلف مواضعُ ضَررِها على قدْر الأغذيةِ، وعلى قدر الأزمان، وعلى قدْر مواضعِ الجسَد، ونجدُ واحداً يتعالج بالمَسُوس فيحمَدُهُ، ونجد آخرَ يُدخِلُ يده في مدخلٍ حارٍّ من غير أنْ يكونَ فيهِ ماءٌ فيحمده، ونجدُ آخر يعالجه بالنّخالة الحارَّة فيحمدها، ونجد آخرَ يحجم ذلك الموضعَ فيحمَده، ونجد كلّ واحدٍ من هؤلاءِ يشكو خلافَ ما يوافقه، ثم إنَّا نجدُه يعاود ذلك العلاجَ عند لسعةٍ أخرى فلا يحمده.
قال ماسرجويه: لما اختلفت السُّمومُ في أنفسها بالجنْس والقدر، وفي الزَّمان، باختلاف مَا لاقاهُ اختلَفَ الذي وافقه على حسب اختلافه.
وكان يقول: إنَّ قولَ القائل في العقرب: شرُّ ما تكون حين تخرج من جُحرها، ليس يعنُون من ليلتها - إذْ كان لا بدَّ من أن يكون لها نصيبٌ من الشدّة - ولكنَّهُمْ إنما يَعْنُونَ: في أوَّل ما تخرج من جُحرها عند استقبال الصَّيف، بَعْدَ طولِ مُكْثِها في غير عالَمِنَا وغذائِنا وأنفاسنا ومعايشنَا.
زعم العامة في العقرب  والعامّة تزعم أنها شرُّ ما تكون إذا ضربت الإنسانَ وقد خرج من الحمام؛ لتفتح المسامِّ، وسَعة المجاري، وسخونة البدن، ولذلك صار سمها في الصيف أشدَّ، هذا قولُ أبي إسحاق، كأَنَّهُ كان يَرَى أنَّ الهواءَ كلما كان أحرَّ، وكان البدنُ أسخَنَ كان شَرّاً.
ونحن نجدهم يصرُخُون مِنْ لسعتها اللَّيْلَ كلَّه، وإذا طلعت الشمسُ سكن ما بهم، فإذا بقيت فضْلةٌ من تلك الجارحة في الشمس فما أكثر ما يسكن، وسمومها باللَّيل أشدُّ، إلاَّ أن يزعم أنَّ أجوافَ الناس في برد الليل أسخن وفي حرِّ النهار أفتر.
الدّساس وزعم لي بعضُ العلماء ممّن قدْ روَى الكتُب، وهو في إرثٍ منها، أنّ الحية التي يقال لها: الدسّاس، تلد ولا تبيض؛ وأنَّ أنثى النمور لم تضَعْ نمراً قط إلاّ ومعه أفعى.

زعم استحالة الكمأة إلى أفاع

والأعرابُ تزعم أنّ الكمْأة تبقَى في الأرض فتُمْطر مَطْرةً صَيفيّة، فيستحيل بعضُها أفاعي، فسمِعَ هذا الحديثَ منِّي بعضُ الرُّؤساء الطَّائيِّين، فزعم لي أنّه عايَنَ كمأةً ضخْمة فتأمَّلها، فإذا هي تتحرَّك، فنهض إليها فقَلَعها، فإذا هي أفعًى، هذا ما حدّثته عن الأعراب، حتّى برئت إلى اللّه من عيب الحديث.

معارف في الحيات عن صاحب المنطق

وزعم صاحبُ المنطق أنّ الوزَغة والحيَّاتِ تأكُلُ اللَّحمَ والعُشب، وزعَمَ أنَّ الحَيَّاتِ أظهَرُ كلَبَاً من جميع الحيوان، مع قلَّة شربِ الماء، وأنَّ الأسدَ مع نَهمه قليلُ شرب الماء، قال: ولا تضبِطُ الحيَّاتُ أنفسَها إذا شمَّت ريحَ السَّذاب، وربَّما اصطِيدَتْ به وإذا أصابوها كذلك وجدُوها وقد سكِرَتْ.
قال: والحيات تبتلع البيض، والفراخَ، والعُشب.
سلخ الحيوان وزعم أنَّ الحياتِ تسلَخُ جلودَها في أوَّل الرَّبيع، عند خروجها من أعشّتها وفي أوّل الخريف، وزعم أن السَّلْخ يبتدئَ من ناحية عيونها أوّلاً، قال: ولذلك يظنُّ بعض من يُعانِيها أنها عمياء، وهي تسلَخُ من جلودها في يومٍ وليلةٍ من الرَّأس إلى الذَّنَب، ويصيرُ داخل الجِلْد هو الخارج، كما يُسلخ الجَنينُ من المِشيمَة، وكذلك جميع الحيوان المحزَّز الجسد، وكلُّ طائر لجناحه غِلافٌ مثل الجُعَل والدّبْر وكذلك السَّرطان، يسلخ أيضاً، فيضعف عند ذلك من المشي.
وتسلخ جلودها مِراراً.
والسَّلخ يصيب عامّة الحيوان: أمَّا الطير فسلخُها تحسيرها، وأمّا ذوات الحوافر فسلخُها عقائقها، وسلخ الإبل طرحُ أوْبارها، وسلخُ الجراد انسلاخ جلودها، وسلخ الأيائِل إلقاء قرونها، وسلخ الأشجار إسقاط ورقها.

أصل الأسروع

والأسروع: دويبَّةٌ تنسلِخُ فتصيرُ فَرَاشَةً، وقال الطِّرِمَّاح شعراً:

وجرت بجالَيْها الحِدَابُ القَرْدَدُ

 

وتجرّدَ الأسْرُوعُ واطَّرَدَ السَّفَا

وُرْقُ الْفَرَاشِ لما يَشُبُّ المُوقِدُ

 

وانسابَ حيَّاتُ الكَثِيبِ وأقْبَلَـتْ

يصف الزَّمان.
والدُّعْمُوص ينسلخُ، فيصير إمَّا بعوضةً وإما فراشةً.

انسلاخ البرغوث

وزعم ثمامةُ عن يحيى بن برمك أنّ البرغوث ينسلخ فيصير بعوضة، وأنّهَ البعوضةَ التي من سَلْخ دعموص ربَّمَا انسلخت برغوثاً.
والنمل تحدث لها أجنحةٌ ويتغيَّر خَلْقهَا، وذلك هو سلخُها، وهُلْكُها يحين عند طيرانها.

انسلاخ الجراد

والجراد ينسلخ على غير هذا النوع، قال الرَّاجز:

مَلْعُونَةٍ تسْلَخُ لَوْناً لَوْنَيْنِ

أثر البلدان في ضرر الأفاعي ونحوها قال: وعضُّ السِّباع ذواتِ الأربع، ولدغُ الهوامّ، يختلفُ بقدر اختلافِ البُلدان؛ كالذي يبلغُنا عن أفاعي الرَّمْل، وعن جَرَّارات قرى الأهواز، وعقارب نَصِيبين، وثعابين مصر، وهِنْدِيّات الخرابات.
وفي الشِّبثان، والزَّنابير، والرُّتَيْلاَت ما يقتل، فأمَّا الطَّبُّوع فإنَّهُ شديدُ الأذى، وللضَّمْج أذًى لا يبلغ ذلك.
أقوال لصاحب المنطق وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمَّى باليونانية: طبقون حيَّةٌ صغيرة شديدة اللَّدْغ، إلا أن تُعالج بحجرٍ، يُخرَج من بعض قبور قدماء الملوك، ولم أفهم هذا، ولم كان ذلك.
وإذا أكل بعض ذوات السموم من جسَد بعضها، كانت أردأ ما تكون سماً، مثل العقارب والأفاعي.
 قال: والأيِّلُ إذا ألقى قُرونَه علم أنَّهُ قد ألقَى سلاحَه فهو لا يظهر، وكذلك إن سمن علم أنَّهُ يُطْلَبُ، فلا يظهر، وكذلك أوَّلَ ما ينبت قَرْنُهُ يعرِّضُه للشمس؛ ليصلُب ويجفّ، وإِن لدغت الأيِّلَ حيّةٌ أكلَ السَّراطينَ؛ فلذلك نَظُنُّ أنَّ السَّراطِينَ صالحةٌ لِلَّديغ من الناس.
قال: وإذا وضعت أنثى الأيّل ولداً أكلت مشيمتها، فَيُظَنُّ أنّ المشيمَةَ شيءٌ يتداوَى به من عِلّة النفاس.
قال: وَالدُّبَّةُ إذا هربت دفعت جِراءَها بين يديها، وإن خافت على أولادها غيَّبتها، وإذا لحقت صعِدَتْ في الشجر وحملَتْ معَها جِرَاءَهَا.
قال: والفهْدُ إذا عراه الدّاءُ الذي يقالُ له: خانِق الفهود أكل العَذِرَةَ فبرئ منه.
قال: والسِّباع تشتهي رائِحةَ الفهودِ، والفهدُ يتغيّب عنها، وربَّما فرَّ بعضها منه فَيُطْمِعُ في نفسه، فإذا أراده السّبعُ وثَبَ عليه الفهد فأكله.
قال: والتمساح يفتح فاه إذا غمّهُ ما قد تعلق بأسنانه، حتى يأتيَ طائِرٌ فيأْكلَ ذلك، فيكونَ طعاماً له وراحَةً للتِّمساح.
قال: وأمّا السُّلحفاة فإنَّها إذا أكلت الأفعى أكلت صَعْتَراً جبليّاً، وقد فَعَلت ذلك مراراً، فربما عادت فأَكلت منها ثمّ أكلت من الصَّعتر مراراً كثيرة، فإذا أكثرت من ذلك هلكت.
قال: وأمّا ابنُ عِرس، فإنَّه إذا قَاتَلَ الحيَّةَ بدأَ بأَكْلِ السَّذَاب، لأنّ رائحَةَ السَّذَاب مخالفَةٌ للحيَّةِ، كما أن سامَّ أبرصَ لا يدخلُ بيتاً فيه زعفران.
قال: والكلاب إذا كان في أجوافها دُودٌ أكلت سُنبل القمح.
قال: ونَظُنُّ أنّ ابنَ عرس يحتالُ للطيرِ بحيلة الذئب للغنم؛ فإنهُ يذبحها كما يفعل الذئب بالشاة، قال: وتتقاتل الحيّات المشترِكة في الطُّعم.
وزعَمَ أنَّ القنافِذَ لا يخفى عليها شيءٌ من جهة الرِّيح وتحوُّلها وهُبُوبها، وأنّهُ كان بِقُسْطَنْطِينِيَّةَ رجلٌ يُقَدّمُ وَيُعَظَّمُ؛ لأنه كان يَعْرِفُ هُبُوبَ الرِّيح ويخبرهم بذلك وإنما كان يَعرف الحالَ فيها بما يَرَى مِنْ هيئةِ القنافذ.
العيون الحمر العيُونُ الحمرُ لِلعَرَض المفارق، كعين الغضبان، وعينِ السّكران، وَعَيْنِ الْكَلْبِ، وَعَيْنِ الرَّمِدِ.
العيون الذهبية والعيُونُ الذهبيَّةُ، عيونُ أصناف البزاة من بين العُقاب إلى الزُّرَّق.
العيون التي تسرج بالليل والعيُون التي تُسْرِج بالليل، عيون الأسْد، وعيون النمور، وعيون السّنانير، وعيون الأفاعي، قال أبو حيَّة: خبر وشعر في العين

كَجَمْر الغَضا ذَكَّيتهُ فتـوقّـدَا

 

غِضابٌ يُثِيرُونَ الذُّحُولَ عُيُونُهمْ

وقال آخر:

محمرّةٍ عيناهُ كالكلب

 

وَمدَجِّجٍ يَسْعَى بشِكَّتهِ

رجع بالكلب إلى صفة المدجَّج.
وقَالَ معاويةُ لصُحارٍ العبديِّ: يا أحمر قال: والذهب أحمر قال يا أزرق قال: والبازي أزرق وأنشدوا:

كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عُيُونُها

 

ولا عيبَ فيها غيرُ شُكْلَة عينها

وقال آخر:

لكنت مكانَ العَيْنِ مَرْأًى وَمَسْمَعا

 

وشُكْلة عينٍ لَوْ حُبيت بِبَعْضِـهَـا

ومن العيون المغْرَب، والأزرق، والأشكل، والأسجَر، والأشهل، والأخْيَف، وذلك إذا اختلفا، وعين الفأرة كَحْلاء، وهي أبصَرُ بالليل من الفَرَسِ والعقابِ.
وفي حمرة العينين وضيائهما يقولُ محمَّدُ بنُ ذؤيبٍ العُمانيُّ، في صفة الأسد:

غَضَنْفَرٍ مضَبَّر رهَّـاس

 

أجرأُ مِنْ ذي لِبْدَةٍ هَمَّـاسِ

كأنَّمَا عيناهُ في مِـراس

 

مَنَّاعِ أخْيَاس إلى أخْـيَاس

 

 

شعاعُ مِقْبَاسٍ إلى مِقباس

وقال المرَّار:

كَأَنّمَا وَقْدُ عَيْنَيْهِ النَّمِر

أصوات خشاش الأرض

نحو الضبّ، والورل، والحيَّة، والقنفذ، وما أشبه ذلك.
يقال للضبّ والحيَّة والورَل: فَحَّ يفِحُّ فحيحاً، وقال رؤبة:

وَأنْ تُرَحِّي كَرَحَى المرحِّي

 

فِحّي فلا أفْرَقُ أنْ تَفِحِّـي

يحكِي سُعالَ النَّشَرِ الأبـحِّ

 

أصْبَحَ مِنْ نـحـنـحةٍ وأَحِّ

قال: الفحيح: صوتُ الحيَّة مِنْ فيها، والكشيش والنشيش: صوتُ جلدها إذا حكّت بعضَه ببعض، قال الرَّاجز في صفة الشَّخْب والحلْب:

حمراءَ منها شخْبَةٌ بالمخض

 

حَلَبْتُ لِلأَبْرَشِ وهو مُغْـضِ

كأنَّ صَوتَ شخْبها المرْفَضِّ

 

ليستْ بذات وَبَـرٍ مـبـيضّ

 

 

كشيشُ أفعَى أجْمعت لعَضِّ

ويقال للضّبّ والورل: كش يكِش كشيشاً، وأنشد أبو الجرّاح:

يكِشُّ له مستـنـكـراً ويُطـاوِلُـه

 

تَرَى الضَّبَّ إن لم يرهب الضبُّ غيرَه

ضرب المثل للرَّجُلِ الداهية وللحيِّ الممتنع بالحيّة

قال ذو الإصبع العَدْوانيُّ:

نَ كانوا حَيّةَ الأرض

 

عَذِيرَ الحيِّ مِنْ عَـدْوا

فلم يُرْعَ على بَعْـضِ

 

بَغَى بعضُهُمُ ظلـمـاً

تُ والموفُون بالقَرْض

 

وفيهم كانَتِ الـسَّـادا

يقال: فلانٌ حَيّةُ الوادي، وما هو إلاَّ صِلُّ أصلال، والصِّلُّ: الداهية والحيَّة، قال النَّابِغَةُ:

نَضْنَاضَةٍ بالرَّزايا صِلِّ أصلالِ

 

ماذَا رُزِئْنَا بِهِ من حَـيَّةٍ ذَكَـرٍ

وقال آخر:

سِمامَ ذيفانٍ مجيرات

 

صِلِّ صفاً تَنْطِفُ أنيابُهُ

وقال آخر:

أطْرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمَّ صِلُّ

 

مُطْرِقٌ يرشَح سمّـاً كـمـا

ومن أمثالهم: صَمِّي صَمَامِ، وَصَمِّي ابْنَةَ الجبل، وهي الحيَّة.
قال الكميت:

بها: صَمِّي ابْنَةَ الجَبَلِ السَّفِيرُ

 

إذَا لَقِيَ السَّفِيرَ لهـا وَنَـادَى

قولهم جاء بأم الربيق على أريق

ومن أمثالهم: جاءَ بأمِّ الرُّبَيق على أُرَيق، أمُّ الرُّبيق: إحدى الحيات، وأُرَيق: أمُّ الطّبق، ضربوا به مثلاً في الدواهي، وأصلها من الحيَّات قال:

فاذْهَبْ وَدَعْني أُمارِسْ حَيةَ الوادي

 

إذَا وجـدْتَ بـوادٍ حَـيَّةً ذَكَــراً

قولهم أدرك القويمة لا تأكلها الهويمة

وفي المثل: أدرك القُوَيِّمة لا تأكلها الهوَيِّمة يعني الصبي الذي يدرُج ويتناول كلَّ شيءٍ سنَح له، ويَهوي به إلى فيه، كأَنه قال لأمِّه: أدركيه لا تأكلْه الهامَّة وهي الحيّةُ، وهو قوله في التعويذ: ومن كلِّ شيطانٍ وهَامَّة، ونَفْسٍ وعينٍ لامَّة.

شعر للأخطل في ذكر الحية

وقال الأخطل، في جعلهم الرَّجلَ الشُّجاعَ وذا الرّأي الدَّاهية حية - وكذلك يجعلون إذا أرادوا تعظيمَ شأنها، وإذا أرادوا ذلك فما أكثر ما يجعلون الحَيّةَ ذكراً، قال الأَخطل:

وطالما سافهونا ثم ما ظـفـروا

 

أنبئت كلباً تمنى أن يسـافـهـنـا

مستحلقين كما يستلحق الـيسـر

 

كلفتمونا رجالا قاطـعـي قـرنٍ

خصلٌ وليس لهم إيجاب ما قمروا

 

ليست عليهم إذا عدت خصالـهـم

وقد أتتهم به الأنـبـاء والـنـذر

 

قد أنذروا حيةً في رأس هضبتـه

وليلهم ساهرٌ فيها وما شـعـروا

 

باتوا رقوداً على الأمهاد ليلـهـم

وما يكاد ينام الـحـية الـذكـر

 

ثمت قالوا أمات المـاء حـيتـه

حيَّة الماء

وما أكثَرَ ما يذكرون حيّة المَاء؛ لأنّ حَيَّاتِ المَاء فيها تفاوت، إمّا أن تكونَ لا تضُرُّ كبيرَ ضررٍ، وإمَّا أن تكونَ أقتَلَ من الحيَّاتِ والأفاعي.
الهنديات ويقال إنّ الهنديّات إنَّما تصير في البيوت والدُّور، والإصطبلات، والخرابات؛ لأنّها تُحمَلُ في القُضُب وفي أشباه ذلك.

علة وجود الحيات في بعض البيوت

والحيّاتُ تأكل الجرادَ أكلاً شديداً، فرّبما فتَحَ رأس كُرْزِه وجرابه وجوالقه، الذي يأتي الجراد، وقد ضَرَبَه برْدُ السَّحَر، وقد تراكم بعضُه على بعض؛ لأنَّها موصوفةٌ بالصَّرَدِ.
والحيّاتُ توصَفُ بالصَّرَد، كذلك الحمير، والماعزُ من الغنم، ولذلك قال الشاعرُ:

جِنَاباً ولا أكنافَ ذروة تخلُقُ

 

بليت كما يبلى الوِكاءُ ولا أرى

كما تَتلَوَّى الحيّة المتشـرِّقُ

 

أُلوِّي حَيازِيمي بهنَّ صَـبـابةً

وإنما تَشَرَّقُ إذا أدركها بَردُ السَّحَر ولم تصر بعدُ إلى صلاحها، وإذا خرجت بالليل تكتسب الطعم كما يفعل ذلك سائر السِّباع، فربما اجترف صَاحبُ الكرز الجراد، فأدخله كُرْزَه، وفيه الأفعَى وأسودُ سالخٌ، حتى يُنقلَ ذلك إلى الدُّور، فرّبما لقى النّاسُ منها جهداً.
 وقال بشر بن المعتَمر، في شعره المزاوَج:

مِنْ شاهدٍ وَقَلْبُهُ كالـغـائبِ

 

يا عجباً والدَّهرُ ذو عجـائب

في ظلمة الليلِ وفي سَـوَادِه

 

وحاطب يَحْطِبُ في بـجـادِهِ

والأَسوَدَ السَّالخ مكروهَ النَّظَرْ

 

يحْطب في بجاده الأيْمَ الذكـر

شعر في حية الماء فممن ذكر حَيَّةَ الماء، عبد اللّه بن هَمّام السلوليُّ فقال:

صُلْبُ المراس إذا ما حُلَّتُ النُّطقُ

 

كَحَيَّةِ الماء لا تنحاش مِـنْ أحَـدٍ

وقال الشّمّاخ بنُ ضِرار:

إذا تفصَّدْنَ من حَرِّ الصَّياخـيدِ

 

خُوصُ العيونِ تَبَارَى في أزِمَّتها

كحيةِ الماءِ وَلَّى غَيْرَ مَطْـرودِ

 

وكلُّهن تُبَارِي ثِنْـيَ مُـطَّـردٍ

وقال الأخطل:

فدل عليها صوتُها حَيَّةَ البَحْر

 

ضفادعُ في ظَلْماءِ ليلٍ تجاوَبَت

ما يشبّه بالأيم، فَالأيْم الحيَّةُ الذكر يشبهون به الزِّمام، وربَّما شبَّهُوا الجاريَةَ المجدولة الخميصةَ الخواصرِ، في مشيها، بالأيم؛ لأنَّ الحَيَّةَ الذّكرَ ليس له غَبَبٌ، وموضعُ بطنِه مجدولٌ غيرُ متراخٍ، وقال ابنُ ميَّادة:

وتجذب مِثْلَ الأَيْمِ في بلدٍ قَـفْـرِ

 

قعدت على السِّعلاة تنفض مسحَهَا

وتحمِلُ حاجاتٍ تضمَّنَها صَدْرِي

 

تيمِّمُ خَيْرَ النَّاسِ مِنْ آل حـاضـر

شعر في حمرة عين الأفعى وقال الآخر في حمرة عين الأفعى:

حَوْضَ المنيَّة قَتَّالٌ لِمَنْ عَلِقَا

 

لولا الهراوةُ والكِفّاتُ أوْرَدَنِي

لم يُغْذَ إلاّ المنايا مِنْ لَدُنْ خُلِقَا

 

أصمُّ منهرتُ الشِّدْقين ملتبـدٌ

جلاهُما مِدْوسُ التَّألاَقِ فائتَلَقَا

 

كأَنَّ عينيه مِسْمارَانِ مِنْ ذَهبٍ

شعر في حمرة عيون الناس وقال في حمرة عُيون النَّاس في الحرْب وفي الغضب، ابنُ ميَّادة:

كأَنَّ عيونَ القَوْم في نبضة الجمرِ

 

وعند الفَزَاري العراقي عـارض

وفي حمرة العين من جهة الخِلْقةِ، يقول أبو قُرْدُودة، في ابن عمارٍ حينَ قتله النُّعمان:

لا تأمَنَنْ أحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ وَالشعَرَهْ

 

إنِّي نهيتُ ابنَ عَمّارٍ وقلتُ لـه:

تَطِرْ بنارك مِنْ نِيرانهم شَـررَهْ

 

إنَّ الملوك متى تنزِل بساحتِهِـمْ

وَمَنْطِقاً مِثْلَ وَشْيِ الْيَمْنَةِ الحَبَرَهْ

 

يا جفنَةً كإزاء الحَوْض قد هُدِمَتْ

معرفة في الحية

وأكثرُ ما يذكرون مِنَ الحيات بأسمائِها دون صفاتها: الأفعى، والأسود، والشجاع، والأَرقم، قال عمر بن لجأ:

يلزق بالصّخْرِ لُزُوقَ الأرقَمِ

وقال آخر:

ووقعُ نبال مثل وقْع الأساوِدِ

 

ورفّع أولى القوم وقعُ خرادِلٍ

ذكر الأفاعي في بعض كتب الأنبياء

وفي بعض كتب الأنبياء، أنّ اللّه تبارك وتعالى قال لبني إسرائيل: يا أولادَ الأفاعي.
مثل وشعر في الحية ويقال: رَماهُ اللّه بأفْعى حَارية وهي التي تحري، وكلما كبرت في السن صغُرت في الجسم، وأنشد الأصمعيُّ في شدَّة اسوداد أسود سالخ:

كأنَما قَيِّظَ من لِيط جَـعَـل

 

مُهَرَّت الأشداق عَوْدٍ قد كمل

وقال جريرٌ في صفة عُرُوقِ بَطْنِ الشَّبْعَانِ:

فأعمَى وأمَّا ليله فـبـصـيرُ

 

وأعور من نَبْهَانَ أمَّا نـهـارُه

يكادُ سناها في السماءِ يَطـيرُ

 

رَفَعْتُ له مشبوبةً يلتوي بـهـا

عريضُ أفاعي الحالبَين ضريرُ

 

فلما استَوَى جنباه لاعَبَ ظلَّـهُ

قال: ويقال: أبْصَرُ من حيّةٍ، كما يقال: أسمعُ مِنْ فرس، و أسمَعُ مِنْ عُقاب، وقال الراجز:

أسمَعُ مِنْ فَرْخِ العُقابِ الأشْجَعِ

وقال آخر:

تساقَوْا عَلَى حَرْدٍ دِماءَ الأسَاودِ

 

أسودُ شَرًى لاقَتْ أُسودَ خفـيَّةٍ

ضَرَبَ المثَلَ بجنسين من الأسُود، إذْ كانا عندَه الغايةَ في الشدَّة والهوْل، فلم يقنع بذلك حتى ردَّ ذلك كُلَّهُ إلى سموم الحيّات.
ما يشبه بالأسود وفي هَوْل منظر الأسْوَد يقول الشاعرُ:

وَحَفيفُ نافجةٍ وكَلْبٌ مُوسَـدُ

 

مِنْ دُونِ سَيْبِكَ لونُ ليلٍ مُظلـمٍ

لا بَلْ أحَبُّهما إلـيكَ الأسْـوَدُ

 

والضَّيفُ عِنْدَكَ مِثْلُ أسوَد سالخٍ

ويصِفُون ذوائبَ الناس، فإذا بلغوا الغايةَ شبهوها بالأساود، قال جِرانُ العَوْدِ:

على الرَّأس منها والترائبُ وُضَّحُ

 

ألا لا تَغُـرَّنَّ امـرأً نَـوْفَـلـيَّةٌ

أساوِدُ يزهاها لعينـك أبْـطَـحُ

 

ولا فاحِمٌ يُسْقَى الدَّهـانَ كـأنَّـهُ

استطراد لغوي قال: والخرشاء: القشرة الغليظة بعد أن تنقب فيخرج ما فيها، وجماعهُ الخراشيّ، غير مهموز، قال: وخرشاء الحيّة: سلخها حين تَسْلخ، وقال: هذا أسود سالخ، وهذان أسودان سالخان.
وأساود سالخة، وقال مرَقِّش:

يَنْسلُّ عَنْ خِرْشَائِهِ الأرْقـمْ

 

إن يَغْضَبُوا يغضب لِذَاكُمْ كما

تعليق الحلي والخلاخيل على السليم وكانوا يَرَوْنَ أنَّ تعليقَ الَحَلْيِ، وخَشخشَةَ الخلاخيل على السَّليم، ممَّا لا يفيق ولا يَبْرَأ إلاَّ به، وقال زَيْدُ الخيل:

كما عُلِّقت فوقَ السليم الخَلاَخِلُ

 

أيم يكون النعل منه ضَـجِـيعَةً

وخبَّرني خالد بن عقبة، من بني سلمة بن الأَكوع، وهو من بني المسبع، أنّ رجُلاً من حَزْن، من بني عذرة، يسمَّى أسْباط، قال في تعليقهم الحَلْيَ على السَّليم:

وَبتُّ كما بَاتَ السليمُ مُقَـرَّعَـا

 

أرِقْتُ فلم تَطعَمْ لي الْعَيْنُ مَهْجَعَا

تَرَى حَوْلهُ حَلْيَ النِّساءِ مُرَصَّعَا

 

كأَني سليمٌ نَالـهُ كَـلْـمُ حَـيَّةٍ

وقال الذُّبيانيّ:

من الرُّقْشِ في أنيابها السّمُّ ناقعُ

 

فبتُّ كأنِّي ساورتْنـي ضَـئيلةٌ

لحلْي النِّسَاءِ في يديه قَعـاقِـع

 

يُسَهَّدُ من ليل التّمام سلـيمُـهـا

استطراد فيه لغة وشعر قال: ويقال لسان طلْق ذَلِقٌ، يقال للسليم إذا لُدِغ: قد طلِّق، وذلك حين تَرْجع إليه نفسُه، وهو قول النابغة:

تطلِّقُه طوراً وطوراً تُراجِـعُ

 

تناذَرها الرَّاقُون من سُوءِ سمِّها

وقال العبدي - إن كان قاله -:

تَبِيتُ الهُمُومُ الطَّارِقاتُ يَعُدْنَنِيكَمَا تَعْتَرِي الأَهْوَالُ رَأْسَ المطلَّقِ

وأنشد:

كما يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ

 

تُلاقِي مِنْ تَذَكُّرِ آلِ ليلـى

والعِداد: الوقت، يقال: إنّ تلك اللَّسعة لتعَادّه: إذا عاده الوجَع في الوقت الذي لُسِع فيه.
حديث الحمل المصْليّ وذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم السّمَّ الذي كان في الحَمَلِ المَصْلِيّ، الذي كانت اليهوديَّةُ قدّمته إليه فنَالَ منه، فقال: إنّ تِلك الأكْلَة لتُعَادُّني.

جلد الحية

وفي الحيّة قشْرُها، وهو أحسنُ من كلِّ ورقةٍ وثوبٍ، وجَناحٍ، وطائرٍ؛ وأعجبُ من سِتْر العنكبوت، وغِرْقِئ البيض.

ما يشبه بلسان الحية

ويقال في مثلٍ، إذا مدحوا الخُفَّ اللَّطيف، والقدَمَ اللَّطِيفة قالوا: كأنّه لِسَانُ حَيَّة.

نفع الحية

وبالحيّة يُتداوَى من سمّ الحيّة، ولِلدغ الأفاعي يُؤْخَذ التِّرياقُ الذي لا يُوجَدُ إلاّ بمتون الأفاعي، قال كثَيِّر:

وتُخْرِجُ مِنْ مَكَامِنِهَا ضِبَابِي

 

وما زالَتْ رُقَاك تَسُلُّ ضِغْنِي

أجَابَكَ حيَّةٌ تحْتَ الحِجـابِ

 

وَتَرْقِينيَ لك الحاوُون حَتَّـى

قصة امرأة لدغتها حية  جويبر بن إسماعيل، عن عمّه، قال: حججْتُ فإنّا لفي وَقْعَةٍ مَعَ قوم نزلوا منزلنا، ومعنا امرأة، فنامت فانتبهتْ وحيّةٌ منْطوية عليها، قد جمعَتْ رأسَها مع ذنبها بين ثدييها، فهالها ذلك وأزعَجَنا، فلم تزَلْ مُنطويةً عليها لا تضُرُّها بشيء، حتّى دخلْنا أنصاب الحرم، فانسابت فدخلَتْ مكّة، فقضَينا نسكَنا وانصرفْنَا، حتَّى إذ كنَّا بالمكان الذي انطوت عليها فيه الحيَّة، وهو المنزل الذي نزلناه، نزلَتْ فنامت واستيقظت، فإذا الحيَّةُ منطويَةٌ عليها، ثمّ صَفَرت الحيَّةُ فإذا الوادي يسيلُ حيَّاتٍ عليها، فنهشتْها حتّى نَقَتْ عظامَها، فقلت لجاريةٍ كانت لها: وَيْحَكِ: أخبرينا عن هذه المرأة، قالت: بغَتْ ثلاثَ مرّاتٍ، كلَّ مرّة تأتي بولدٍ، فإذا وضعَتْه سَجَرت التّنّور، ثمّ ألقته فيه.
قول امرأة في عليٍّ والزّبير وطلحة قال ونظرت امرأةٌ إلى عليٍّ، والزُّبير، وطلحة، رضي اللّه تعالى عنهم، وقد اختلفَتْ أعناقُ دوابِّهم حين التقَوا، فقالت: من هذا الذي كأنه أرقُمْ يتلمَّظ? قيل لها: الزُّبير، قالت: فمن هذا الذي كأنّه كُسِر ثمّ جُبِر? قيل لها: عليٌّ، قالت: فمن هذا الذي كأنّ وجهه دينارٌ هِرَقْليّ? قيل لها: طلحة.

استطراد لغوي

وقال أبو زيد: نهشت أنْهَشُ نهشاً، والنَّهش: هو تناولك الشَّيءَ بفيك، فتمضَغُه فتؤثِّر فيه ولا تجْرحه، وكذلك نهْش الحيَّة، وأمَّا نهْش السَّبع فتناوله من الدَّابَّةِ بفيه، ثمَّ يقطع ما أخذَ منه فوه، ويقال نهشت اللحم أنهَشُه نهشاً، وهو انتزاع اللّحم بالثَّنايا؛ للأَكل، ويقال نَشَطت العَقْد نَشْطاً: إذا عقدته بأنْشوطة، ونَشَطت الإبلُ تنشِط نَشْطاً: إذا ذهبتْ على هدًى أو غيرِ هدى، نزعاً أو غير نزْع، ونشطَتْهُ الحيَّةُ فهي تنشُطه نَشْطاً، وهو أن تَعَضَّه عضّاً، ونكزَتْهُ الحيَّةُ تنكُزُه نكْزاً، وهو طعنُها الإنسانَ بأنفها، فالنَّكْز من كلِّ دَابَّةٍ سوى الحيّة العضّ، ويقال: نَشَطَتْهُ شَعُوبُ نشْطاً وهي المنيَّة.
قال: وتقول العرب، نشطته الشَّعوب، فتدخل عليها التعريف.
علة تسمية النهيش بالسليم ويسمون النهيش سليماً على الطيرَة، قال ابنُ ميَّادة:

قتيلٌ لدَى أيدِي الرُّقاةِ سَلـيمُ

 

كأَنِّي بها لما عَرَفْتُ رُسومَها

شعر في الحية وممَّا يضرِبون به المثَلَ بالحيَّاتِ في دواهي الأمر، كقول الأقَيْبِل القينيّ:

أنَّ انطلاقي إلى الحَجَّاجِ تَغريرُ

 

لَقَدْ علِمْتُ وخَيرُ القَوْلِ أنْفَـعُـه

إنِّي لأحْمَقُ مَنْ تُحْدَى بِهِ الْعيرُ

 

لَئنْ ذَهَبْتُ إلى الحَجَّاجِ يَقْتُلُنِـي

وفي الصَّحائفِ حَيّاتٌ مَنَاكِـيرُ

 

مستحقباً صُحُفاً تَدْمَى طَوَابِعهـا

استطراد لغوي وقال الأصمعيّ: يقال للحيَّة الذَّكر أيِّم وأيم، مثقَّل ومخفف، نحو ليِّن ولين، وهيِّن وهَين، قال الشاعر:

سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أبْنَاءُ أيْسار

 

هَيْنُونَ لَيْنُون أيْسارٌ ذَوُو يسرٍ

وأنشد في تخفيف الأيم وتشديده:

زَمَنَ الرَّبِيع إلى شُهور الصّيّفِ

 

ولقد وَرَدْتَ الماء لم تَشْرَبْ بـهِ

باللَّيل مَوْرِدَ أيّم متـغـضِّـف

 

إلاّ عَوَاسِرُ كالمِـراط مُـعِـيدَةٌ

الصَّيِّف، يعني مَطَرَ الصّيف، والعواسر: يعني ذئاباً رافعة أذنابها.
والمِراط: السهام التي قد تمرَّط ريشها، ومُعيدة: يعني معاودة للوِرْد، يقول هو مكانٌ لخَلائه يكون فيه الحيَّاتُ، وتَردُه الذِّئاب، ومتغضِّف يريد بعضُهُ على بعض، يريد تثني الحيَّة.
وأنشد لابن هند:

كحيَّةٍ مُنْطَوٍ من بينِ أحجارِ

 

أودَى بأمِّ سُليمَى لاطِئٌ لَبِـدٌ

وقال محمد بن سَعيد:

تُورَدْ عِرَاكاً ولم تعصر على كَدَرِ

 

قريحة لم تُدنِّيهـا الـسِّـياط ولـم

في الصَّدر ما لم يهيِّجْها على زَوَرِ

 

كمنْطَوَى الحيَّةِ النَّضناضِ مكمنهـا

والحيَّةُ الصِّلُّ نجْل الحَيَّةِ الـذَّكَـرِ

 

الليث للَّيثِ منـسـوبٌ أظـافِـرُهُ

وقال ذو الرّمّةِ:

حَبَا تحتَ فينانٍ من الظِّلِّ وارفِ

 

وأحْوَى كأيم الضَّالِ أطْرَقَ بَعْدَمَا

قال: ويقال انبسَّت الحيَّات: إذا تفرَّقت وكثُرت، وذلك عند إقبال الصَّيف، قال أبو النَّجم:

وانبسَ حيَّاتُ الكثيبِ الأهْيَلِ

وقال الطِّرمَّاح:

وَجَرَتْ بجالَيْهَا الحِدَابُ القَرْدَدُ

 

وَتَجَرَّدَ الأسروعُ وَاطَّرَدَ السَّفَا

وانسابَ حَيّاتُ الكثيبِ وأقبلَتْ وُرْق الفَرَاشِ لما يَشُبُّ المُوقِدُ.
قال: ويقال جبأ عليه الأسودُ من حجره: إذا فاجأه، وهو يجبأ جبأَ وجَبْواً.
وقال رجلٌ من بني شيبان:

وَمَا أَنَا مِنْ سَيْبِ الإلهِ بِيَائِس

 

وَما أَنَا مِنْ رَيْبِ المَنُونِ بجُبأ

ما يشرع في اللبَن قال: ويقال: اللّبن مُحْتَضَرٌ فغطِّ إناءك، كأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أنّ الجنَّ تَشْرَع فيه، على تصديقِ الحديث في قَول المفقود لعمر، حينَ سأَله وقد استَهْوَتْهُ الجانّ: ما كان طعامهم? قال الرِّمَّة، يريد العظم البالي، قال: فما شرابهم? قال: الجَدَف، قال: وهو كلُّ شراب لا يُخمَّر.
وتقول الأعراب: ليس ذلك إلاّ في اللّبَن، وأمّا النَّاس فيذهبون إلى أَنَّ الحَيَّاتِ تشرع في اللَّبَنِ، وكذلك سامُّ أبرص، كذلك الحيّات تشرع في كثير من المرق.
حديث في المعصفر وجاء في الحديث: لا تَبيتُوا في المعَصْفر؛ فإنها مُحْتَضَرَةٌ أي يحضرها الجنُّ والعُمَّار.
وقال الشاعر فيما يمجُنُونَ به، من ذكر الأفعى:

ولا عافَاكَ من جَهدِ البَـلاَء

 

رَمَاكَ اللّهُ مِنْ أيرٍ بِأَفْـعًـى

وَنَعْظاً ما تفتِّرُ في الخَـلاء

 

أجُبْناً في الكريهة حِينَ تَلْقَى

ولولا البولُ عُوجِلَ بالخِصاء

 

فلولا اللّه ما أمْسى رَفيقـي

وقال أبو النّجم:

من حُسْنها ونظرتُ في سِرباليا

 

نظَرَتْ فأَعَجبها الذي في دِرْعِهَا

وعثا روادفُهُ وأخْـثَـمَ نـاتـيا

 

فرأتْ لها كفلاً ينوء بخَصْرِهـا

رِخْواً حمائلُهُ وَجِلْـداً بـالـيا

 

ورأيتُ منتشرَ العِجَانِ مُقَبَّضَـا

أُدني إليه عقاربـاً وأفـاعـيا

 

أُدْنِي له الرَّكَبَ الحَلِيقَ كأَنَّـمَـا

وقال آخر:

تخافُ على أحشائها أنْ تَقَطَّعـا

 

مريضةُ أثْناءِ التَّهادِي كـأَنّـمَـا

يرفِّع من أطرافه ما ترفَّـعَـا

 

تسيب انسيابَ الأيْم أخْصَرَه النَّدَى

شعر في العقربان وقال إياسُ بن الأرَتِّ:

عقْرَبةٌ يَكُومُها عُقْـرُبـانْ

 

كَأَنَّ مَرْعَى أمَّكُـمْ سـوءَة

وَخْزٌ حَدِيدٌ مِثْلُ وخْزِ السنانْ

 

إكليلُها زَوْلٌ وفي شَوْلـهـا

وأمُّكُمْ قد تُتّقَى بالعِـجَـانْ

 

كلُّ امرئٍ قَدْ يُتَّقَى مُقْـبِـلاً

وقال آخَرُ لِمُضِيفِهِ:

كأَنَّكَ عِنْدَ رأسي عُقْرُبانُ

 

تَبيتُ تُدَهْدِهُ القِذَّانَ حَوْلِـي

شَكَرْتُكَ وَالطّعامُ له مكانُ

 

فلو أطعمتني حَمَلاً سَمِيناً

شعر في الحيات الأفاعي

وقال النّابغة:

مَذَاكِي الأفاعي وأطفالُها

 

فلو يستطيعون دبَّتْ لنـا

وقال رجلٌ من قريش:

حتَّى أظلّ عليهـم حَـيّةٌ ذكَـرُ

 

ما زالَ أَمْرُ وُلاةِ السُّوءِ مُنْتشِراً

عَفُّ الشَّمائِل قَدْ شُدَّت له المِرَرُ

 

ذو مِرّةٍ تَفْرَقُ الحيَّاتُ صَوْلَتَـهُ

حَتّى أَتَاهُمْ به عن نَفْسِهِ الخبـرُ

 

لم يأتِهِم خَبَرٌ عَـنْـهُ يلِـينُ لـه

وقال بشار:

حُمَاتُ الأفاعي ريقهُنّ قَضَاءُ

 

تزِلُّ القَوَافي عَنْ لِسَانِي كَأنَّها

وقال:

شجاعٍ له نابٌ حديدٌ ومِخْـلَـبُ

 

فكم من أخٍ قد كان يأمُلُ نفعَكُـمْ

رُؤوسَ الأفاعي عَضّ لا يتهيَّبُ

 

أخ لو شَكَرْتُمْ فِعْلَهُ لَو عَضَضْتُم

وقال الحارث دعيُّ الوليد، في ذكر الأسْوَدِ بالسمّ من بين الحيّات:

عُرِفْتُ وإلاّ كنتُ فَقْعاً بِـقَـرْدَدِ

 

فإنْ أنتَ أقرَرْتَ الغَدَاةَ بِنِسْبتـي

عَمَرْتُ لهم سُمّاً على رأس أسْوَدِ

 

ويَشْمَتُ أعداءٌ ويجـذَلُ كـاشـحٌ

وقال آخر:

سمُّ الأساوِدِ يغلي في المواعيدِ

 

ومَعْشَرٍ مُنْقَعٍ لي في صُدُورِهِمُ

وَسْمَ المعيديِّ أعناقَ المقاحـيدِ

 

وَسَمْتهُم بالقوافي فَوْقَ أعينهـم

وقال أبو الأسود:

جَعَلتَها مِنْـكَ آخِـر الأبَـدِ

 

ليتَكَ آذنـتـنـي بـواحـدةٍ

فإنّ فيها بَرْداً على كَبِـدِي

 

تحْلِفُ ألاّ تَـبَـرَّنـي أبـداً

في نَاظِرَي حَيّةٍ على رَصَدِ

 

إن كان رزقي إليك فارْم به

وقال أبُو السَّفّاح يرثي أخاه يحيى بن عميرة ويسمِّيه بالشجاع:

كما عدا اللّيْثُ بوادي السِّباعْ

 

يَعْدُو فلا تكـذبُ شَـدَّاتُـهُ

ثُمَّتَ يَنْبَاعُ انْبِيَاعَ الشجـاعْ

 

يجمَعُ عَزْماً وَأَنَـاةً مَـعـاً

وقال المتلمِّس:

مَسَاغاً لنَابَيْهِ الشُّجَاعُ لَصَمَّـمَـا

 

فأطْرَقَ إطرَاقَ الشجَاعِ ولو يَرَى

وقال معمر بن لقيط أو ابن ذي القروح:

وإن كان ذا حَزمٍ من القَوْم عادَيا

 

شموسٌ يظلُّ القوم معتصماً بـه

وأغدُو على همِّي وإن بتُّ طَاويَا

 

أبيت كما بات الشجاع إلى الذُّرَى

رهيفٍ وشيخٍ ماجدٍ قَدْ بَنَى لـيا

 

وإنِّي أهُضُّ الضَّيم منِّي بصـارمٍ

وهكذا صفة الأفعَى؛ لأَنها أبداً نابتةٌ مستوية، فإنْ أنكَرَتْ شيئاً فَنَشْطتها كالبَرْقِ الخاطِف، ووصف آخرُ أفعى، فقال:

وذاتِ قرْنَيْنِ طَحُونِ الضِّرْس

 

وَقَدْ أُراني بطـويِّ الـحـسِّ

تدير عَيْناً كشهاب القَـبْـسِ

 

نضناضةٍ مثلِ انثناء المَـرْسِ

حتى قنَصْتُ قَرْنَهَا بِخَمْـسِ

 

لمّا التَقَيْنَا بمَضِـيقٍ شَـكْـسِ

وهم يتهاجَوْنَ بأَكل الأَفاعي والحيّات، قال الشاعر:

فإن لديه الموتَ والحتمَ قاضيا

 

فإياكمُ والرِّيفَ لا تَقـرُبـنَّـهُ

وأنتمْ حُلولٌ تشتَوون الأفاعـيَا

 

همُ طردوكم عن بلادِ أبيكُـمُ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

مصابيحُ شُبَّت بالعِشَـاء وأنـؤُرُ

 

ولمَّا فَقَدْتُ الصَّوتَ منهم وأُطْفِئَتْ

وروَّح رُعيانٌ وهَـوَّمَ سُـمَّـرُ

 

وغاب قُميرٌ كنت أرجُو مَغِـيبَـه

حُبَابِ ورُكني خِيفَةَ القـومِ أزْوَرُ

 

ونفَّضت عنِّي اللَّيلَ أقبلتُ مِشْيَة ال

ضرب المثل بسمّ الأساود

وضَرَبَ كلثومُ بن عمرٍو، المثلَ بسمِّ الأساود، فقال:

طوى الدَّهْرُ عنها كلَّ طِرْفٍ وتالِدِ

 

تلوم على تَرْك الغنـى بَـاهـلـيَّة

مقـلَّـدةً أجـيادُهـا بـالـقـلائِد

 

رأتْ حولها النِّسوانَ يرفُلْنَ في الكُسَا

من الملك أو ما نال يحيى بنُ خالد

 

يسرُّكِ أنِّي نلتُ ما نالَ جـعـفـرٌ

مَعَضَّهمَا بالمرْهَفَـاتِ الـبَـوَارد

 

وَأنّ أميرَ المؤمنـين أعَـضَّـنِـي

ولم أتَقَحَّمْ هَوْلَ تـلـكَ الـمـواردِ

 

ذريني تجئني مِيتتـي مُـطْـمـئِنَّةً

بمستَوْدَعاتٍ في بطـونِ الأسـاودِ

 

فإن كريماتِ المعـالـي مَـشُـوبَةٌ

حيات الجبل

وفي التشنيع لحيَّات الجبل، يقول اللَّعِينُ المِنْقَرِيُّ، لرؤبة بن العجَّاج:

يا رُؤبَ والحيَّةُ الصَّماء في الجَبَلِ

 

إني أنا ابن جلا إن كنت تعرفنـي

وفي الأراجيز جَلْبُ اللؤمِ والكَسَلِ

 

أبا الأراجِيزِ يا ابنَ اللؤمِ تُوعدنـي

خبران في الحيات

الأصمعيُّ، قال: حدَّثني ابن أبي طرفة، قال: مرَّ قومٌ حُجَّاجٌ من أهل اليمن مع المساء، برجلٍ من هُذيل، يقال له أبو خِراش، فسألوه القرَى، فقال لهم: هذه قدرٌ، وهذه مِسْقَاةٌ، وبذلك الشَّعب ماء فقالوا: ما وفّيتنا حقّ قِرانا فأخذ القِرْبَة فتقلّدَها يسقيهم، فنهشته حَيَّة.
 قال أبو إسحاق: بلغني وأنا حدث، أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن اخْتِنَاث فمِ القِرْبة، والشربِ منه، قال: فكنت أقولُ إنّ لهذا الحديث لشأناً، وما في الشرب من فم قِرْبَةٍ حتّى يجيء فيها هذا النهي? حتّى قيل: إنّ رجلاً شرِبَ من فمِ قِربةٍ، فوكعته حيَّةٌ فمات، وإنَّ الحيَّاتِ تدخُل في أفواه القِرَب، فَعَلِمْتُ أنّ كُلّ شيء لا أعرفُ تأويلَه من الحديث، أنّ له مذهباً وإن جَهِلْتُه.

شعر في سلخ الحية

وقال الشاعرُ في سَلْخِ الحيَّة:

وعادَ كالميسَمِ أحمَاهُ الْقَـيْنْ

 

حَتَّى إذَا تَابَعَ بَيْنَ سَلْـخَـيْنْ

بِسَمِّهِ الرَّأسَ ونَهْشِ الرِّجْلَيْنْ

 

أقبَلَ وهو واثقٌ بِثـنْـتَـيْنْ:

قال: كأنهُ ذهب إلى أنّ سمَّه لا يكونُ قَاتِلاً مُجْهِزاً حتَّى تأتيَ عليه سنتان.
وزعم بعضهم أنّ السّلخَ للحيّةِ مثلُ البزُولِ والقروح للخف والحافر، قال: وليس ينسلخ إلاّ بعد سِنينَ كثيرةٍ، ولم يقِفُوا من السِّنين على حَدٍّ.
قول في سلخ الحية وزعم بعضهم أنّ الحَيّةَ تَسْلخُ في كُلِّ عامٍ مرَّتين، والسلخ في الحيات كالتَّحسير من الطير، وأنّ الطير لا تجتمع قويّةً إلاّ بعد التحسيرِ وتمامِ نباتِ الرِّيش، وكذلك الحيَّة، تضعُف في أيامِ السَّلخ ثمَّ تشتدُّ بعد.

تأويل رؤيا الحية

قال الأصمعيّ: أخبرني أبو رفاعة، شيخٌ من أهل البادية، قال: رأيتُ في المنام كأني أتخطّى حَيّات، فمطرت السماء، فجعلت أتخطى سُيولاً.
وحكى الأصمعيُّ أنَّ رجلاً رأى في المنام في بيوته حَيَّاتٍ، فسأل عن ذلك ابن سِيرِينَ أو غيره، فقال: هذا رجلٌ يدخل منزلَه أعداءُ المسلمين، وكانت الخوارجُ تجتمعُ في بيته.
شعر للعرجي والشماخ في الحيات قال العرْجِيُّ، في دبيب السمِّ في المنهوش:

كمشي حُمَيَّا الكَأسِ في جِلد شاربِ

 

وأُشْرِبَ جِلْدِي حُبَّها وَمَشـى بِـهِ

كما دَبَّ في الملسوع سمُّ العَقاربِ

 

يَدِبُّ هَوَاهَا في عظامي وحبـهـا

وقال العرجيُّ في العرماءِ من الأفاعي، وكونها في صُدوعِ الصَّخْر، فقال:

بها حافظ هاد ولم أرق سلـمـا

 

تَأتي بليلٍ ذُو سعاة فـسَـلَّـهـا

إذا الرِّيحُ هبت من مكانٍ تَضَرَّمَا

 

كمثل شِهاب النَّارِ في كفِّ قابسٍ

حِمَاهُ محاماة من الناس فاحتمى

 

أبرَّ على الحُوَّاءِ حتى تَـنَـاذَرُوا

إذا بُعِثت لَمْ تَـألُ إلاّ تَـقَـدُّمـا

 

يظلّ مُشيحاً سامعـاً ثـمَّ إنـهـا

قال: ويقال: تطوَّت الحيَّة، وأنشد العرجِيُّ:

فرقا عند عرسه في الثياب

 

ذكَرَتْني إذْ حَيَّةٌ قد تطـوّتْ

وقال الشَّماخ، أو البَعيث:

على حَدِّ نَابَيْهِ الذُّعافُ المسـمِّـمُ

 

وأطرَقَ إطراقَ الشجاعِ وقَدْ جَرَى

ما ينبح من الحيوان والأجناس التي تُذْكَرُ بالنُّبَاحِ: الكلب، والحيَّةُ، والظَّبْيُ إذا أسنَّ، والهُدهدُ، وقد كتبنا ذلك مرة ثَمَّ، قال أبو النَّجم:

وباتت الأفعى على مَحْفُورِهـا

 

والأسد قد تَسْمَعُ مِـنْ زئيرِهـا

مرّ الرَّحَى تجري على شَعيرها

 

تأسِيرُها يحتَكُّ في تـأسـيرهـا

تضرُّمَ القَصْباء في تَنُّـورهـا

 

كرَعْدَة الجـرَاء أو هـديرِهـا

تعلّم الأشياء في تـنـقـيرهـا

 

توقّر النَّفس على تـوقـيرهـا

 

 

في عاجل النفْسِ وفي تأخيرها

قول في آية وسنذكر مسألة وجوابها، وذلك أنَّ ناساً زعموا أنّ جميع الحيوان على أربعة أقسام، شيء يطير، وشيءٍ يمشي، وشيء يعوم، وشيءٍ ينساح.
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ".
 وقد وَضَعَ الكلامَ على قسمة أجناس الحيوان، وعلى تصنيف ضروبِ الخلْق، ثمَّ قَصَّرَ عن الشيء الذي وضعَ عليه كلامَهُ، فلم يذكر ما يطير وما يعومُ، ثمَّ جعل ما ينساحُ، مثلُ الحيَّاتِ والدِّيدان، ممَّا يمشي؛ والمشي لا يكون إلاّ برجل، كما أنَّ العضّ لا يكون إلا بفمٍ، والرَّمْح لا يكون إلاَّ بحافر؛ وذكر ما يمشي على أربعٍ، وها هنا دوابُّ كثيرةٌ تمشي على ثمانِ قوائِمَ، وعلى ستٍّ، وعلى أكثرَ من ثمانٍ، ومَن تفقَّدَ قوائِمَ السَّرطانِ وبناتِ وَرْدَانَ، وأصنافَ العناكب عرَفَ ذلك.
قلنا: قد أخطأتم في جميع هذا التَّأويل وَحَدِّه، فما الدَّليلُ على أنَّهُ وضع كلامَهُ في استقصاءِ أصناف القوائِم? وبأيِّ حُجةٍ جزَمْتم على ذلك? وقد قال اللّه عزَّ وجلّ: "وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" وتَرَكَ ذِكْرَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّارُ لهُمْ آكَلُ، وعذابُهم بها أشدُّ، فَتَرَكَ ذِكرَهم من غير نسيان، وعلى أنَّ ذلك معلومٌ عند المخاطب، وقد قال اللّه عزَّ وجلّ: "خَلَقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً" أخرج من هذا العموم عيسى ابنَ مريم، وقد قَصَدَ في مخرَج هذا الكلام إلى جَميعِ ولِد آدمَ، وقال: "هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً" أدَخَلَ فيها آدمَ وحوَّاءَ، ثمَّ قال على صلة الكلام: "إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيه" أخرج منها آدمَ وحوَّاءَ وعيسى ابنَ مريمَ.
وحَسنُ ذلك إذ كان الكلامُ لم يُوضَع على جميع ما تعرفه النُّفوسُ من جهةِ استقصاءِ اللَّفظ، فقوله: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى أَرْبَعٍ" كان على هذا المثال الذي ذكرنا، وعلى أنّ كُلَّ شيءٍ يمشي على أربع فهو مما يمشي على رجلين، والذي يمشي على ثمانٍ هو مما يمشي على أربعٍ، وعلى رجلين وإذا قلت: لي على فلان عشرة آلاف درهم، فقد خبَّرت أنّ لك عليه ما بين درهمٍ إلى عشرة آلاف.
وأمَّا قولكم: إنَّ المشي لا يكون إلاَّ بالأرجل، فينبغي أيضاً أنْ تقولوا "فَإذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَى" إنّ ذلك خَطأ؛ لأنَّ السَّعي لا يكون إلاّ بالأرجل.
وفي هذا الذي جهِلتموه ضروبٌ من الجواب: أمّا وجهٌ منه: فهو قولُ القائل وقول الشَّاعر: ما هُوَ إلاَّ كَأَنهُ حيّة وكأنّ مِشيته مِشْيةُ حيّة يَصِفُونَ ذلك، ويذكرون عِنْدَهُ مِشيةَ الأيم والحُبَابِ، وذكورِ الحيَّات، وَمَنْ جَعَلَ للحَيّاتِ مَشياً من الشعراء، أكثرُ من أن نقف عليهم، ولو كانوا لا يسمُّون انسيابَها وانسياحَها مشياً وَسَعْياً، لكان ذلك مما يجوزُ على التشبيه والبدل، وَأَنْ قَامَ الشيءُ مقامَ الشيءِ أو مقام صاحبه؛ فمن عادة العرب أن تشبِّه به في حالاتٍ كثيرة، وقال اللّه تعالى: "هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ" والعذاب لا يكون نزُلاً، ولكِنّهُ أجراه مُجْرَى كلامهم، كقول حاتمٍ حينَ أمرُوهُ بِفَصْدِ بعيرٍ، وَطَعَنه في سَنامه، وقال: هذا فَصْدُهُ.
وقال الآخر:

فكان تمْري كَهْرَةً وَزَبْـرَا

 

فقلتُ يا عمرُو اطْعِمَنِّي تَمْرَا

وذمَّ بعضهم الفأرَ، وذكرَ سوءَ أثرِها في بيته، فقال:

لِعامرات البيتِ بالخرابِ

 

يا عَجّلَ الرَّحْمنُ بالعقابِ

يقول: هذا هو عمارتُها، كما يقول الرّجُل، ما نَرَى مِنْ خيرك وَرفْدِك إلاّ ما يبلُغُنا منْ حَطبك علينا، وفتِّكَ في أعضادِنا.
وقال النَّابغة في شبيهٍ بهذا، وليس به:

بِهِنّ فلولٌ من قِراعِ الكتائب

 

ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفهم

ووجهٌ آخر: أنَّ الأعرابَ تزعُمُ - وكذلك قال ناسٌ من الحوَّائين والرَّقائين - إنّ للحيَّة حزوزاً في بطنه، فإذا مَشَى قامت حُزُوزُه، وإذا تَرَكَ المشْيَ تراجَعتْ إلى مكانها، وعادتْ تلك المواضعُ مُلْساً، ولم تُوجَدْ بِعَيْنٍ ولا لَمْس، ولا يبْلغها إلاَّ كلُّ حَوَّاءٍ دقيقِ الحِسِّ. وليس ذلك بأعجَبَ من شِقْشِقَةِ الجمل العربيِّ؛ فإنّه يظهرُها كالدَّلْو، فإذا هو أعادها إلى لَهَاتِهِ تراجَعَ ذلك الجلدُ إلى موضعه، فلا يقدِرُ أحدٌ عليه بلمْسٍ ولا عَين، وكذلك عروق الكُلَى إلى المثانة التي يَجْرِي فيها الحَصَى المتولِّد في الكُلية إذَا قَذَفَتْهُ تلك العروقُ إلى المثانة، فإذا بال الإنسانُ انضمّت العروقُ واتَّصلت بأماكنها، والتحمتْ حتى كان موضعُها كسائِر ما جاوز تلك الأماكن.
ووجهٌ آخر: وهو أنَّ هذا الكلام عربيٌّ فصيح؛ إذ كانَ الذي جاءَ به عربيّاً فصيحاً، ولو لم يكنْ قرآناً من عند اللّه تبارك وتعالى، ثمَّ كان كلامَ الذي جاء به، وكان ممّن يجهل اللَّحنَ ولا يعرفُ مواضعَ الأسماء في لُغته، لكان هذا - خاصَّةً - ممَّا لا يجهلُه.
فلو أنَّنا لم نجعل لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فضيلة في نُبُوَّةٍ، ولا مزيَّةً في البيان والفصاحة، لكُنَّا لا نجد بُدّاً من أن نعلم أنَّهُ كواحدٍ من الفصحاءِ، فهل يجوزُ عندكم أن يخطئَ أحدٌ منهم في مثلِ هذا في حديثٍ، أو وصفٍ أو خُطبةٍ، أو رسالة، فيزعُمَ أن كذا وكذا يمشي أو يسعى أو يطير، وذلك الذي قال ليس من لُغته ولا من لغة أهله? فمعلومٌ عندَ هذا الجواب، وعند ما قبله، أنَّ تأويلَكُمْ هذا خطأ.
وقال اللّه عزَّ وجلَّ: "إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُون" وأصحابُ الجنّة لا يوصفون بالشُّغُل، وإنَما ذلك جوابٌ لقول القائل: خبِّرني عن أهل الجنَّة، بأيِّ شيءٍ يتشاغلون? أم لهم فراغٌ أبداً? فيقول المجيب: لا، ما شُغُلهم إلاَّ في افتضاضِ الأبكار، وأكْلِ فواكه الجنَّة، وزيارةِ الإخوانِ على نجائب الياقوت .
وهذا على مثالِ جَوابِ عامر بنِ عبد قيس، حين قيل له وقد أقبل مِنْ جهة الحلبة، وهو بالشام: مَنْ سَبَقَ? قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيل: فَمَنْ صَلَّى? قال: أبو بكر قال: إنَّمَا أسألك عن الخيل قال: وأنا أجيبك عن الخير.
وهو كقول المفسِّر حين سُئل عن قوله: "لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وعَشِيّاً" فقال: ليس فيها بُكرةٌ وعشيٌّ، وقد صدَقَ القرآنُ، وصَدَق المفسِّر، ولم يتَناكرا، ولم يتنافيا؛ لأنَّ القرآن ذهبَ إلى المقادير، والمفسِّرَ ذهبَ إلى الموجودِ، مِن دوَران ذلك مع غروب الشَّمس وطلوعِها.
وعلى ذلك المعنى رُوِي عن عمر أنَّهُ قال: مُتْعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أنا أنْهَى عنهما وأضربُ عليهما.
قد كان المسلمون يتكلمون في الصَّلاة ويطَبِّقُون إذا ركعوا، فنَهَى عن ذلك إمامٌ من الأئمَّةِ، وَضَرَبَ عليه، بعد أن أظهَرَ النَّسخ، وعرَّفهم أن ذلك من المنسوخ، فكأَنَّ قائلاً قال: أتنهانا عن شيءٍ، وقد كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، وقد قدَّم الاحتجاجَ في النَّاسخ والمنسوخ.
ومن العجَب أنَّ ناساً جعلُوا هذا القولَ على المِنبرِ من عيوبه، فإن لم يكن المعنى فيه على ما وصفنا، فما في الأرضِ أجهلُ من عُمَرَ حين يُظهِرُ الكُفْرَ في الإسلام على مِنبر الجماعة، وهو إنَّما علاه بالإسلام، ثمَّ في شيءٍ ليس له حُجَّةٌ فيه ولا عِلة، وأعجَبُ منه تلك الأمّة، وتلك الجماعة التي لم تُنْكِرْ تلك الكلمةَ في حياته، ولا بَعْدَ موته؛ ثمّ تَرَكَ ذلك جميعُ التَّابعين وأتباعِ التَّابعين، حتَّى أفضَى الأمرُ إلى أهْلِ دهرنَا هذا.
وتلك الجماعة هم الذين قتلوا عُثمان على أن سيَّرَ رجلاً، وهذا لا يقوله إلاّ جاهلٌ أو معاند، وعلى تأويل قوله: "هذَا نُزُلُهمْ يَوْمَ الدِّين" قال: "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهَادُ" وقال تعالى: "حَتَّى إذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا، قَالُوا بَلَى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الْكَافِرِين" فجعل للنَّار خزائن، وجعل لها خزنة، كما جعل في الجنَّةِ خزائن وجعل لها خَزَنة.
 ولو أنَّ جهنَّمَ فُتحَتْ أبوابُهَا، ونُحّي عنها الخَزَنَة، ثمّ قيل لكلِّ لصٍّ في الأرض، ولكلِّ خائن في الأرض: دونَكَ؛ فقد أُبِيحَتْ لكلَمَا دنا منها، وقد جُعِل لها خزائنٌ وخَزَنة، وإنَّمَا هذا على مثالِ ما ذكرنَا، وهذا كثيرٌ في كَلاَمِ العَرَب.
والآيُ التي ذكرنا في صِدْقِ هذا الجواب، كلها حُجَجٌ على الخوارج في إنكارهم المنْزِلة بين المنزلتين.
شعر لخلف الأحمر في الحيات وقال خَلفٌ الأحمرُ في ذكر الحيّات:

وصلٌ صفاً لـنـابـيه ذبـاب

 

يرون الموت دونى أن رأونـي

حرامٍ مـا يرام لـه جـنـاب

 

من المتحرمات بكهـف طـودٍ

ولا تسرى بعقـوتـه الـذئاب

 

أبى الحاوون أن يطئوا حـمـاه

وقطراناً أمـير بـه كـبـاب

 

كأن دماً أمـير عـلـى قـراه

لساناً دونه الموت الضـبـاب

 

إذا ما استجرس الأصوات أبدى

سرى أصمى تصيح له الشعاب

 

إذا ما الليل ألبـسـتـه دحـاه

فقلت لحيّان بن عتبي: لِمَ قال موسى بنُ جابر الحنفيُّ:

وَنَفَى الحَيّاتِ عَنْ بَيْض الحجلْه

 

طَرَدَ الأرْوَى فمـا تـقـرَبُـهُ

قال: لأنَّ الذِّئاب تأكُلُ الحيّات، قلت: فلم قال خلفٌ الأحمر:

ولا تسري بعَقوته الذئاب

قال: لأنَّ الذِّئاب تأكُل الحيّات، فَظننت أنَّه حَدَسَ ولم يقُل بعلم.
وقال الزِّياديُّ في يحيى بن أبي حفصة:

صَيْداً وما نال منه الرِّيَّ والشِّبَعـا

 

إني ويحيى وما يبغي كملتَـمِـسٍ

مِثْلُ الْعَسيبِ تَرَى في رأسه قَزَعا

 

أَهْوَى إلى باب جُحْرٍ في مقدَّمـهِ

عُصْلٌ تَرَى السُّمَّ يجري بينها قِطَعَا

 

اللَّوْنُ أَرْبَـدُ والأنـيابُ شـابِـكَةٌ

تَعَردَ السّيْلِ لاقى الحَيْدَ فاطَّلَـعَـا

 

يَهْوي إلى الصَّوْتِ والظلماءُ عاكفةٌ

بَيْضَاءَ قد جللت أنيابهـا قـزعـا

 

لو نَالَ كفَّكَ آبَتْ منه مـخـضـبة

من الهُزَالِ أبوها بعد ما ركـعـا

 

بِيعَتْ بوَكْسٍ قليلٍ فاستقـلّ بـهـا

فردَّ عليه يحيى فقال:

يَحْمَى لِرَيْدَيْهِ قد غادرتُـه قِـطَـعـا

 

كم حيّةٍ ترهَبُ الحـيَّاتُ صَـوْلَـتَـهُ

يُسْقَى به القِرْنُ من كأس الرَّدى جُرَعا

 

يلـقَـيْنَ حَـيَّةَ قـفٍّ ذا مُـسَــاوَرَةٍ

يَعلَمْنَ مـنـه إذا عـايَنَّـهُ قَـزَعَـا

 

تكاد تسقُطُ منهـنَّ الـجـلـودُ لِـمَـا

أو مسّ من حجر أوْهاه فانْصَـدَعَـا

 

أصمَّ ما شمَّ من خَضْـرَاءَ أيبـسـهـا

شعر في الحيات وقال آخر:

للسفر في أعلى الثـنـيات

 

وكم طوت من حنشٍ راصدٍ

يفتر عن عصـلٍ حـديدات

 

أصم أعمى لا يجيب الرقـى

سارٍ طمورٍ في الدجـنـات

 

منهرت الشدق رقود الضحى

من الدواهي الجـبـلـيات

 

ذي هامةٍ رقطاء مفطـوحة

سمـام ذيفـانٍ مـجـيرات

 

صل صفاً تنطـف أنـيابـه

رأس وأشـداقٍ رحـيبـات

 

مطلن في اللحيين مطلاً إلى

إلى سماخـين ولـهـوات

 

قدمن عن ضرسين واستأخرا

نفخٌ ونفثٌ في المـغـارات

 

يسبته الصبح وطـوراً لـه

من طول إطراق وإخبـات

 

وتارةً تـحـسـبـه مـيتـاً

قال آخر، وهو جاهليٌّ:

 

وخانني في علمه وقـد عـلـم

 

لاهم إن كان أبو عمـروٍ ظـلـم

 

لميمةً من حنشٍ أعـمـى أصـم

 

فابعث له في بعض أعراض اللمم

 

قد عاش حتى هو لا يمشي بـدم

 

أسمر زحافاً من الرقط الـعـرم

 

حتى إذا أمسى أبو عمـروٍ ولـم

 

فكلما أقصد منـه الـجـوع شـم

 

قام وود بـعـدهـا أن لـم يقـم

 

يمس منه مـضـضٌ ولا سـقـم

 

ولا لخـوفٍ راعـه ولا لـهـم

 

ولـم يقـم لإبـلٍ ولا غـنـــم

 

فخاضه بين الشـراك والـقـدم

 

حتى دنا من رأس نضناضٍ أصـم

كأن وخز نابه إذا انتـظـم

 

بمذربٍ أخرجه من جوف كم

 








ومخالب الأسد وأشباهِ الأسد من السِّباع، تكون في غُلُفٍ، إذا وطئت على بُطونِ أكُفها ترفّعت المخالبُ ودخلَتْ في أكمام لها، وهو قولُ أبي زُبَيْد:

يَقِيها قِضَّةَ الأرْض الدَّخيسُ

 

بحُجْنٍ كالمحاجِنِ في فتـوخ

وكذلك أنياب الأفاعي، هي ما لم تعضَّ فَمصُونَةٌ في أكمام، ألا تراه يقول:

بِمِذْرَبٍ أخرَجَهُ من جَوْفِ كِمّْ

 

فَخَاضَهُ بَينَ الشِّرَاكِ والقَـدَمْ

رجز وشعر في لعاب الحية وقال آخر:

مولده كمولِدِ ابن الدّهْـرِ

 

أنعتَ نضناضاً كثِيرَ الصَّقْرِ

يظلُّ في مَرْأًى بَعِيدِ القَعْرِ

 

كانا جميعاً وُلِدَا في شَهْـرِ

 

 

بَيْنَ حوَافِي سَدِرٍ وصَخْرِ

وقال:

عِنَاداً لِنَابَيْ حَـيّةٍ قـد تَـربَّـدا

 

وكيفَ وقد أَسْهَرْتَ عَيْنَك تبتغي

وما عَاد إلاَّ كانَ في الْعَوْدِ أَحْمَدَا

 

من الصُّمِّ يكفي مرَّةٌ من لُعَابِـهِ

شعر لخلف في الأفعى وقال خلفٌ الأحمر وهي مخلوطةٌ فيها شيء، وله شيء، من الغبرة وما علمتُ أنّ وصف عَيْنَ الأفعى على معرفةٍ واختبار غيرَه وهو قولُه:

داهية قد صغـرت مـن الـكـبـرْ

 

أفعَى رَخُوف العين مِطْرَاق البُـكـرْ

الإطـراقِ مـن غـير حـســـرْ

 

صِلّ صَفاً ما ينطوي من القِصَرْ طويلة

شُقَّتْ له العَيْنانِ طُولاً فـي شَـتَـرْ

 

كأَنَّما قَـدْ ذهـبَـتْ بِـهِ الـفِـكَـرْ

جاءَ بهـا الـطُّـوفـان أيامَ زَخَـرْ

 

مهروتة الشدقَينِ حـولاء الـنـظـرْ

نِشيشُ جمر عنـدَ طـاهٍ مـقـتَـدِرْ

 

كأَنّ صوتَ جـلـدِهـا إذا اسـتـدرّ

أحاديث في الوزغ هشام بن عروة قال: أخبرني أبي أنَّ عائشة أمَّ المؤمنين رضي اللّه عنها كانَتْ تَقْتُلُ الأوْزَاغ، يحيى بن أبي أُنَيسة، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول للوزغ: "فويسِق".
قالت: "ولم أسمَعْ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمَرَ بقتله".
قال: قالت عائشة رضي اللّه عنها : "سمعت سعداً" يقول: أمرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتله.
عبد الرحمن بن زياد قال: أخبرني هشامٌ عن عروة عن عائشة أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للوَزَغ: "الفُويسق" أبو بكر الهذليُّ، عن مُعاذ عن عائشة قالت: دخلَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليَّ وفي يدي عُكَّازٌ فيه زُجٌّ، فقال: يا عائشة مَا تَصنعِين بهذا? قلت: أقتُلُ به الوَزَغَ في بيتي، قال: إن تفعلي فإنّ الدَّوَابَّ كلها، حين ألقي إبراهيمُ صلى اللّه عليه وسلم في النَّار، كانت تُطفئ عنه، وإنّ هذا كانَ ينفخُ عليه، فَصَمّ وبَرِص.
وهذه الأحاديثُ كلها يحتجُّ بها أصحابُ الجهالات، وَمَنْ زَعَمَ أنّ الأشياءَ كلها كانتْ ناطقةً، وأنها أممٌ مجراها مجرى الناس.
تأوُّل آيات من الكتاب وتأوّلوا قوله تعالى: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْض ولاَ طَائرٍ يَطِير بِجنَاحَيِه إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فيِ الْكِتابِ مِنْ شَيءٍ"، وقالوا: قال اللّه عزَّ وجلَّ: "إنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَالجبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً" وقال تعالى: "يَا جِبَالُ أَوّبي مَعَهُ وَالطَّيْرَ" وقال: "وَإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَما يَتَفجرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإنَّ مِنها لَما يشَّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشيْةِ اللّهِ".
فذهبت الجهمية وَمَنْ أَنْكَرَ إيجاد الطّبائع مذهباً، وذهب ابنُ حائِطٍ ومن لَفَّ لَفّهُ من أصحابِ الجهالاتِ مذهباً، وذهب ناسٌُ من غير المتكلمين، واتّبعوا ظاهرَ الحديثِ وظاهرِ الأشعَار، وزعموا أنّ الحجارة كانت تعْقِلُ وتَنْطِق، وإنَما سُلبت المنْطِق فقط، فأمَّا الطير والسِّباع فعلى ما كانَتْ عليه.
 قالوا: والوَطواط، والصُّرد، والضفدعُ، مطيعاتٌ ومُثابات والعقرب، والحيَّةُ والحِدَأة، والغراب، والوَزَغ، والكلب، و أشباهُ ذلك، عاصياتٌ معاقَبات.
ولم أقف على واحدٍ منهم فأقول له: إنَّ الوزَغةَ التي تقتلها على أنَّها كانت تُضْرِم النَّار على إبراهيم أهي هذه أم هي مِن أولادِها فمأخوذة هيَ بذَنب غيرها? أم تزعم أنَّهُ في المعلوم أنْ تكون تلك الوزَغُ لا تلد ولا تَبِيضُ ولا تُفْرخُ إلاَّ من ثيدين بدينها، ويذهبُ مذهبها? وليس هؤلاء مِمَّنْ يَفهَمُ تأويلَ الأحاديث، وأيَّ ضرب منها، يكون مردوداً، وأيَّ ضربٍ منها يكون متأوَّلاً، وأيَّ ضربٍ منها يقال إنَّ ذلك إنَّما هو حكايةٌ عن بَعْضِ القبائل.
ولذلك أقولُ: لولاَ مكانُ المتكلمين لهلكت العوامُّ، واختُطِفَتْ واستُرِقتْ، ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون.
أحاديث في قتل الوزع شريكٌ عن التَّخَمِيِّ، عن ليثٍ، عن نافع، أنّ ابن عمرَ كان يقتُلُ الوزَغ في بيته ويقول هو شيطان.
هشام بنُ حسَّان، عن خالد الرَّبعيِّ، قال: لم يكن شيءٌُ من خَشاشِ الأرض إلاَّ كان يُطفئُ النّار عن إبراهيم، إلاّ الوَزَغ، فإنَّهُ كان ينفخ عليه.
حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت القاسمَ بنَ محمَّد يقول إنَّ الأوازغَ كانت يومَ حُرِق بيت المَقْدِس تنفُخُه والوطاوطَ بأجنِحَتها.
شريكٌ عن النَّخَعيّ، عن جابرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: الوَزَغ شَرِيكُ الشيطان.
أبو داود الواسطيّ قال: أخبرنا أبو هاشم، قال : مَنْ قَتَلَ وزغةً حطَّ الله عنه سَبعين خَطيئةً، ومن قتل سبعاً كان كَعِتْقِ رقَبة.
هشامُ بن حسّان، عن واصل مولى أبي عيينة، عن عقيل، عن يحيى بن يعمر، قال: لأَنْ أقتُلَ مائَةً من الوَزغ أحبُّ إليَّ من أنْ أعتِقَ مائَةَ رقبة.
وهذا الحديثُ ليس من شكل الأوّل، لأنّ يحيى بنَ يعمر لم يزعمْ أنّهُ يقتله لكفره أو لكفر أبيه، ولكنها دابّةٌ تُطاعمُ الحيَّاتِ وتُزَاقُّها وتقاربُها، وربَّما قتلَتْ بِعَضَّتها، وتكرَع في المرَقِ واللَّبن ثُمَّ تمجُّه في الإناء فينالُ النَّاسَ بذلك مكروهٌ كبيرٌ، من حيث لا يعلمون، وقتْلُه في سبيل قَتْلِ الحَيّاتِ والعقاربِ.
صنع السم من الأوزاغ وأهلُ السِّجْنِ يعملون منها سموماً أنفَذَ من سمِّ البِيش، ومن ريق الأفاعي، وذلك أنَّهم يُدخِلون الوزَغَ قارورةً، ثمَّ يصبُّون فيها من الزَّيت ما يغمرُها، ويضعونها في الشَّمسِ أربعين يوماً، حتَّى تختلط بالزَّيت وتصيرَ شيئاً واحداً، فإنْ مسَحَ السَّجِين منه على رغيف مَسْحةً يسيرةً فأكَلَ منه عشرةُ أنفسٍ ماتُوا، ولا أدري لِمَ توَخّوْا من مواضع الدَّفْنِ عَتَبَ الأبواب.
حديث فيه نصائح يحيى بن أبي أُنَيسة، عن أبي الزُّبير، عن جابر بن عبد اللّه، قال: أَمَرَنَا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأرْبَعٍ ونَهانا عن أربع، أمَرَنا أَن نُجيفَ أبوابنا، وأنْ نخمِّر آنيتنا، وأنْ نوكي أسِقيَتَنا، وأنْ نُطفئَ سُرُجَنا، فإنَّ الشَّيطانَ إذا وجد باباً مُجَافاً لم يفتحْه، وإناءً مخمَّراً لم يكشِفْه، وسقاءً مُوكًى لم يحلّه، وإنَّ الفُويسقَة تأتي المصباح فَتُضْرِمُه على أهل البيت، ونهانا عن أربع: نهانا عن اشتمال الصَّمَّاء، وأنْ يمشيَ أحدُنا في النَّعْلِ الواحدة أو الخُفِّ الواحد، وأنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ مِنَّا في الثَّوبِ الواحِدِ ليس عليه غيره، وأنْ يستلقي أحدُنا على ظهره ويرفَعَ إحدى رجليه على الأخرى.
وهذا الحديث ليس هذا موضعَه، وهو يقع في باب جملة القول في النّار، وهو يقع بعد هذا الذي يلي القول في النعام.

ما جاء في الحيات من الحديث

شعبة أبو بسطام، قال أخبرني أبو قيس، قال: جلست إلى علقمة بن قَيْس ، وربيع بن خثيم فقال ربيع: قولوا وافعَلُوا خيْراً تُجْزَوْا خيراً، وقال علقمة: مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ ألاَّ يَرَى الحيَّة، إلاَّ قَتَلَهَا إلاَّ التي مثل الميل؛ فإنَّها جانٌّ، وإنَّهُ لا يضرُّه قتل حَيَّةٍ أو كافر.
إسماعيل المكي، عن أبي إسحاق، عن علقمة قال: قال عبد اللّه بن مسعود: من قتل حيَّةً فقتل كافراً.
ثم سمعت عبد الرحمن بن زَيد يقول: من قتل حَيَّةً أو عقرباً قَتَلَ كافراً. وهذا ممَّا يتعلق به أصحابُ ابن حائِطٍ ، وتأويله في الحديث الآخَر.
 عبد الرحمن بن عبد اللّه المسعودي قال: سمعت القاسم بن عبد الرحمن، يقول: قال عبد اللّه: من قَتَلَ حَيَّةً أو عقرباً فكأنَّما قَتَلَ كافراً، فعلى هذا المعنى يكونُ تأليف الحديث.
سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة أن رسول اللّه صلى اللّه عَلَيْهِ وسلم قال: "مَا سَالمْنَاهُنّ مُذْ حَارَبْنَاهُنّ".
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قالت عائشة: "مَنْ تَرَكَ قَتْلَ حَيَّةٍ مخافَةَ أثْآرِهَا فعليه لَعْنَةُ اللّه والملائكة".
الرَّبيعُ بن صبيحٍ عن عَطاء الخُراسانيّ قال: كان فيما أُخِذَ على الحيّاتٍ أَلاَّ يَظْهرْن، فَمَنْ ظهَرَ منهنَّ حلَّ قتلُه، وقتالُهنَّ كقتال الكفَّار، ولا يَتْركُ قتلَهُنّ إلا شَاكٌّ.
وهذا ممَّا يتعلَّق به أصحابُ ابنِ حائِطِ.
محمد بن عَجْلانَ قال: سمعت أبي يحدِّث عن أبي هُريرة قال: قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلم: "ما سالَمْنَاهُنَّ مُذْ حَارَبْنَاهُنَّ".
ابن جُريج قال: أخبرني عبد اللّه بن عُبيد بنِ عميْر قال: أخبرَني أبو الطفيل أنَّه سمع علي بنَ أبي طالب رضي اللّه عنه يقول: اقتلوا من الحيَّات ذا الطفيتين، والكلب الأسودَ البهيم ذا الغُرّتَين.
قال: والغُرّة: حُوّة تكون بعينيه.
طعام بعض الحيوان قال صاحب المنطق: الطير عَلَى ضربين: أوابدُ وقواطعُ، ومنه ما يأكل اللحم لا يأكل غيْرَه وإن لم يكن ذا سلاح، فأمَّا ذو السِّلاح فَوَاجِبٌ أن يكون طعامُهُ اللَّحم، ومن الطَّير ما يأكُلُ الحُبُوبَ لا يَعْدُوها، ومنه المشترك الطِّباع، كالعصْفور والدَّجاج والغُراب، فإنها تأكلُ النوعين جميعاً، وكطير الماء، يأكُلُ السَّمَكَ ويلقط الحبّ، ومنه ما يأكل شيئاً خاصّاً، مثل جنس النّحل المعَسِّل الذي غذاؤه شيء واحد، وجنس العنكبوت، فإن طُعْمَ النحل المعسِّل العسل، والعنكبوت يعيشُ من صيد الذباب.
ما له مسكن من الحيوان ومن الحيوان ما له مسكنٌ ومأوًى، كالخُلْد، والفأر، والنَّملِ، والنَّحل، والضّبّ، ومنه ما لا يتَّخذُ شيئاً يرجع إليه كالحيَّاتِ لأنَّ ذُكورةَ الحيَّاتِ سَيَّارةٌ، وإناثُهَا إنَّما تُقيم في المكان إلى تمامِ خُروج الفِرَاخ من البَيض، واستغناء الفِرَاخِ بأنفُسِها، ومنها ما يكونُ يأوي إلى شُقوقِ الصُّخورِ والحِيطانِ ، والمداخِل الضَّيّقة، مثل سامّ أبرص.
قال: والحيّات تألفها كما تألف العقاربُ الخنافس، والعَظايا تألف المزابِلَ والخراباتِ، والوزَغُ قريبةٌ من النَّاس.

زعم زرادشت في العظايا وسوامّ أبرص

وزعم زَرَادَشْت أنَّ العظايا ليستْ من ذواتِ السُّموم، وأنَّ سامَّ أبرصَ من ذواتِ السُّموم، وأنّ أهرمن لما قعد ليقسِمَ السُّمومَ، كان الحظ الأوْفرُ لكلِّ شيء سبقَ إلى طلبه، كالأفاعي، والثَّعابين والجرّارات، وأنّ نصيبَ الوزَغ نصيبٌ وسَطٌ قصْد، لا يكمل أن يقتُل، ولكنّه يزاقُّ الحيَّة، فَتُميرُهُ ممّا عندها، ومتى دَبَرَ الوزَغُ جاءَ منه السمُّ القاتل، أسرعَ من سمّ البِيش، ومن لُعاب الأفاعي، فأمَّا العَظاية فإنّها احتبسَتْ عن الطَّلبِ حتى نَفَذَ السمُّ، وأخذ كلُّ شيء قِسْطَهُ، على قَدْرِ السَّبق والبكور، فلما جاءت العظاية وقد فَني السمُّ، دخلها من الحسرةِ، وممّا علاها من الكِرْب، حتى جعلت وجههَا إلى الخرابات والمزابل، فإذا رأيْتَ العظايةَ تمشي مشْياً سريعاً ثمّ تقِفُ، فإنَّ تلك الوقْفة إنَّمَا هي لما يعرضُ لها من التذكُّر والحسْرة على ما فاتها مِنْ نصيبها من السمّ.
رد عليه ولا أعلم العَظايةَ في هذا القياس إلاَّ أكثر شُروراً من الوزَغَ؛ لأنها لولا إفراط طباعها في الشَّرارة، لم يدخلها من قوَّة الهمِّ مثلُ الذي دخلَها ولم يستَبن للِنَّاس من اغتباط الوزَغ بنصيبه من السمِّ، بقدْرِ ما استبان من ثُكل العظايةِ، وتسلُّلها وإحضارها وبكائها وحُزْنها، وأسَفِها على ما فاتها من السُّمِّ.
زعم زرادشت في خلق الفأرة والسِّنّور  ويزعم زَرَادشْت، وهو مذهبُ المجوسِ، أنَّ الفأرةَ مِنْ خلق اللّه، وأنّ السِّنّورَ من خَلْق الشَّيطان، وهو إبليس، وهو أَهْرمَن، فإذا قيل له: كيف تقول ذلك والفأرةُ مُفسِدةٌ، تجذب فَتيلة المِصباحِ فتحرق بذلك البيتَ والقبائلَ الكثيرةَ، والمدنَ العِظام، والأرباضَ الواسعة، بما فيها من النَّاسِ والحيوانِ والأموال، وتقرِضُ دفاتر العلْم، وكتبَ اللّه ، ودقائق الحساب، والصِّكاكَ، والشُّروطَ؛ وتقرِضُ الثِّيابَ، وربَّما طلبت القُطنَ لتأكُلَ بِزْرهَ فتدَعُ اللِّحاف غِرْبالاً، وتقرِض الجُرُب، وأَوْكِية الأسِقيَةِ والأزْقاقِ والقربِ فتخرجُ جميعَ ما فيها؛ وتقع في الآنية وفي البئر، فتموت فيه وتُحْوِج النَّاسَ إلى مُؤَنٍ عظام؛ وربَّما عضّت رِجْلَ النَّائم، وربَّما قتلت الإنسان بعضّتها، والفَأر بخُراسانَ ربَّما قَطَعتْ أذن الرَّجُل، وجرْذَانُ أنْطاكِيةَ تَعْجِزُ عنها السَّنانير، وقد جلا عنها قومٌ وكرهَها آخرون لمكانِ جِرْذانها،وهي التي فجرت المسنَّاة، حتى كان ذلك سببَ الحَسْر بأرض سبأ؛ وهي المضروب بها المثَلَ، وسَيْل العَرِم ممَّا تؤرِّخُ بزمانه العَرب، والعَرِم: المسنَّاة، وإنما كان جُرَذاً.
وتقتل النَّخْل والفَسِيل، وتخرِّب الضَّيعة، وتأتي على أَزِمَّةِ الركاب والخُطُمِ، وغير ذلك من الأموال.
والنّاسُ ربما اجتلبوا السَّنانير ليدفعوا بها بوائق الفأر فكيفَ صار خَلقُ الضَّارِّ المفسِدِ من اللّه، وخَلقُ النّافِع من الضَّرَرِ منْ خَلق الشيطان? والسِّنَّور يُعدى به على كلِّ شيء خَلقَهُ الشَّيطانُ من الحيَّاتِ، والعقارب، والجِعلان، وبناتِ ورْدان، والفأرةُ لا نَفْعَ لها، ومُؤَنها عظيمة.
قال: لأنَّ السِّنَّورَ لو بَالَ في البحر لَقَتَلَ عشْرَة آلافِ سمكة.
فهَلْ سمعت بحُجّةٍ قطُّ، أو بحيلةٍ، أو بأضحوكةٍ، أو بكلام ظهر على تلقيح هرة، يبلغ مُؤَن هذا الاعتلال? فالحمد للّه الذي كان هذا مقدارَ عقولهم واختيارهم.
وأنشد أبو زَيْد:

لكنْتُ عبداً آكلُ الأبارصا

 

واللّه لو كنْتُ لهذا خالِصَا

يعني جماعَ سامِّ أبْرص: أبارص.
أثر أكل سام أبرص ونحوه وسامُّ أبرص ربَّما قتَلَ أكله، وليس يُؤكل إلاَّ من الجوع الشَّديد، وربما قتَلَ السَّنانيرَ وبناتِ عِرْس، والشَّاهْمُرْكَ، وجميع اللَّقاطَات.
وقال آخر:

فهُمْ نَعِجُونَ قد مالَتْ طُلاَهمْ

 

كَأنَّ الْقَوْمَ عُشُّوا لَحْمَ ضَـأنٍ

وهو شيءٌُ يعرض عن أكْلِ دَسَم الضَّأن، وهو أيضاً يلقى على دسمه النّعاس، وقد يفعل ذلك الحبق، والخشخاش.
والخشخاشُ يسمَّى بالفارسيّة أنارْ كِبُو وتأويله رمَّان الخسّ، وإنما اشتقَّ له ذلك إذ كان يورثُ النُّعاس، كما يورثه الخس.
أكل السماني وأكلُ الطّعام الذي فيه سمَان يُورِثُ الدُّوَار، وزعموا أنَّ صبيّاً من الأعراب فيما مضى من الدَّهر، صادَ هامةً عَلَى قبر، فظنها سُمانَ، فأكلها فغثَتْ نفسه، فقال:

نفسي تَمَقَّسُ مِنْ سُمَانَ الأقبرِ

استطراد لغوي ويقال: غَثَت نفسه غَثَىاناً وغَثْياً ، وَلَقِسَتْ تَلْقسُ لَقَساً، وَتَمَقَّست تَتَمقَّسُ تمقساً: إذا غَثِيت.

أكل الأعراب للحيات

وأخبرني صباح بن خَاقان، قال: كنتُ بالبادية، فرأيت ناساً حَولَ نَارٍ فسأَلتُ عنهم، فقالوا: قد صادوا حياتٍ فهم يشوُونها ويأكلونها؛ إذْ نَظَرْتُ إلى رجلٍ منهم ينهش حَيةً قد أخرَجَها من الجمر، فَرأيته إذا امتنعتْ عليه يمدُّها كما يُمدُّ عصَبٌ لم ينضَجْ، فما صرفْتُ بصري عنه حتّى لُبِطَ به، فما لبِثَ أن مات، فسألتُ عنْ شأنه،فقيلَ لي: عجَّلَ عليها قبلَ أن تنضَج وتَعمَلَ النّار في مَتْنها.
وقد كان قد بَغدادَ وفي البَصْرةِ جماعةٌ من الحوّائين، يأكلُ أحدُهم أيَّ حيّةٍ أشرتَ إليها في جَوْنَتهِ، غير مشويَّة، وربَّما أخَذَ المرَارَةَ وسْط راحِته، فلَطَعها بلسانه، ويأكلُ عشرين عقربانة نِيَّةً بدرهم، وأما المشويُّ فإنَّ ذلك عنده عُرْسٌ.
شعر في الحيات وقال كُثَيِّر:

فتُخْرِجُ من مكامِنِها ضِبابي

 

وما زَالَتْ رُقَاكَ تَسُلُّ ضِغْني

أجابَتْ حَيَّةٌ خَلفَ الحِجَـاب

 

وتَرْقِيني لك الحاوُونَ حتّـى

وقال أبو عَدنان، وذكر ابنَ ثَرْوانَ الخارجيَّ، حين كان صار إلى ظَهْر البصرة، وخرج إليه مَنْ خرج مِنْ بني نُمير:

لَقِيتَهُمُ بالأمْس: ذُهلاً ويَشْـكُـرَا

 

حَسِبْتَ نُميراً يا ابن ثَرْوَان كالأُلَى

جَمِيعِ الكُوَى جَهْلاً فرَِاخاً وأطيُرَا

 

كما ظَنَّ صَيَّادُ العَصَافِيرِ أنَّ فـي

فشَرْشَرَهُ بالنَّهش حتى تشَرْشَـرَا

 

فأدْخَل يوماً كفَّهُ جُـحْـرَ أسـوَدٍ

أراد قول رؤبة:

فأخْطأ الأفْعَى وَلاَقَى الأسْوَدَا

 

كنتُمْ كمن أدْخَلَ في حُجْرٍ يَدَا

بالشَّمِّ لا بالسمِّ منه قـصـدا

 

لو مسّ حَرْفيْ حجَرٍ تَقَصَّـدا

فَقَدَّمَ الأسوَدَ على الأفعَى، وهذا لا يقوله مَن يعرف مقدار سمِّ الحيات.
وقال عنترة:

نزايلُكُمْ حتّى تَهِرُّوا العَوالـيا

 

حلَفْنا لَهُمْ والخيلُ تَرْدِي بنا معاً

هَريرَ الكلابِ يَتَّقِينَ الأفاعيا

 

عَوَالِيَ سُمْرٍ مِنْ رماحِ رُدَينةٍ

حديث في الحية وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ والأبتَر".
شبّه الخيطينِ على ظهره بخُوص المقْل، وأنْشِدْتُ لأبي ذُؤيب:

وأقْطاعِ طُفْيٍ قد عَفَتْ في المعاقل

 

عَفَتْ غَيْرَ نُؤْيِ الـدَّارِ لأْياً أُبِـينُـهُ

وَالطُّفْي: خُوص المقْل.
وهم يَصفونَ بَطْن المرأةِ الهيفاء الخميصَةِ البطْن، ببطن الحيَّةِ، وهي الأيْم، وقال العجَّاج:

وبَطْنَ أيمٍ وقَوَاماً عُسْلُجَا

مناقضة شعرية وقال أدْهَمُ بنُ أبي الزَّعْراء، وشبَّه نفسَه بحيَّةٍ:

إذا حلبةٌ جاءت ويطرق للـحـس

 

وما أسودٌ بالبأس ترتاح نـفـسـه

تنضح نضحاً بالكحيل وبـالـورس

 

به نقطٌ حمـرٌ وسـودٌ كـأنـمـا

قبيل غروب الشمس مختلط الدمس

 

أصم قطـارىٌ يكـون خـروجـه

به السم لم يظهر نهارا إلى الشمس

 

له منزلٌ أنف ابن قتـرة يغـتـذى

تزل العقاب عن نفانفها المـلـس

 

يقيل إذا ما قـال بـين شـواهـقٍ

إذا الحرب دبت أو لبست لها لبسى

 

بأجرأ مني يا ابنة القوم مـقـدمـاً

فأجابه عَنْتَرَةُ الطائي، فقال:

بأرْقَمَ يُسْقى السمَّ مِنْ كلِّ مَنْطِفِ

 

عَسَاكَ تمنى مِنْ أَراقمِ أرْضِـنَـا

وقال عنترة:

وقد علقت رجلاك في ناب أسودا

 

أترجو حياةً يا ابن بشر بن مسهرٍ

تزايل عنـه جـلـده فـنـبـددا

 

أصم جبالـيٍ إذا غـض عـضةً

إذا ما رآه صاحب الـيم أرعـدا

 

بسلع صفاً لم يبد للشمس قبلـهـا

وسائره عن متنـه قـد تـقـددا

 

له ربقةٌ في عنقه من قمـيصـه

إذا سمع الإجراس مكحال أرمدا

 

رقود ضحياتٍ كـأن لـسـانـه

وابن أبرق الحاوي عليه وأرعدا

 

يفيت النفوس قبل أن يقع الرقـى

شعر في الحية وقال آخر:

ولا يجاورها وحشٌ ولا شـجـر

 

لا ينبت العشب في وادٍ تكون بـه

ينبو من اليبس عن يافوخها الحجر

 

ربداء شـابـكة الأنـياب ذابـلة

ولو تكنفها الحاوون مـا قـدروا

 

لو سرحت بالندى ما مسها بـلـلٌ

وخاتلوها فما نالوا ولا ظـفـروا

 

قد حاوروها فما قام الرقاة لـهـا

نكزاً ويهرب عنها الحية الذكـر

 

تقصر الورل العادي بضربتـهـا

جملة القول في الظليم

فممّا فيه من الأعاجيب أنّه يغتذي الصّخرَ، ويبتلع الحِجارةَ، ويعمد إلى المرْوِ، والمرْوُ من الحجارة التي توصف بالملاسة، ويبتلع الحصى، والحصى أصلب من الصَّخْر، ثم يُمِيعه ويذيبه في قانصته، حتَّى يجعله كالماء الجاري، ويقصدُ إليه وهو واثقٌ باستمرائه وهضْمه، وأنّه له غذاءٌ وقِوامٌ.
وفي ذلك أعجوبتان: إحداهما التَّغذِّي بما لا يُتَغذَّى به، والأخرى استمراؤه وهضْمُه للشيء الذي لو أُلقِيَ في شيء ثم طبخ أبداً ما انحلّ ولا لان، والحجارة هو المثل المضروبُ في الشدَّة، قال الشاعر:

حتى يَلِينَ لِضِرْسِ الماضغِ الحَجرُ

وقال آخر:

تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمـومُ

 

مَا أطْيَبَ العَيْشَ لو أنَّ الْفتَى حَجَرٌ

ووصف اللّه قلوب قومٍ بالشدَّة والقسوة، فقال: "فَهِي كالحِجَارةِ أوْ أَشَدُّ قَسْوَةً"، وقال في التشديد: "نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ"، لأنه حين حذر النَّاسَ أعلمهم أنّه يُلقي العُصاة في نار تأكلُ الحجارة.
ومن الحجارةِ ما يتّخذه الصفّارونَ عَلاةً دونَ الحديد؛ لأنّه أصبرُ على دقِّ عِظام المطارق والفِطِّيسات. فجوفُ النعامةَ يُذِيب هذا الجوهرَ الذي هذه صفته.

شواهد لأكل النعام الحصى والحجارة

وقال ذو الرُّمّة:

أبو ثَلاثينَ أمْسى وهو منْقَـلِـبُ

 

أذَاكَ أمْ خاضبٌُ بِالسِّيِّ مرتـعُـهُ

من المُسوحِ خِدَبٌّ شوقَب خَشـبُ

 

شخت الجزارة مثلُ البيتِ سـائرُه

صَقْبانِ لَمْ يَتَقَشَّرْ عنهما النّـجَـبُ

 

كأنَّ رجليه مِسْماكانِ من عُـشَـرٍ

مِنْ لائحِ المرْوِ والمَرْعَى له عُقَب

 

الهَـاهُ آءٌ وَتَـنُّـوم وعُـقْـبَـتُـهُ

وقال أبو النَّجْم:

في سَرْطمٍ مَادَ على التوائهِ

 

والْمَروُ يُلْقِيه إلى أمـعـائه

تَمَعُّجَ الحيَّةِ في غِـشَـائِهِ

 

يَمُورُ في الحلقِ على عِلْبَائِهِ

 

 

هادٍ ولو حَارَ بحَوصَلائِهِ

إذابة جوف الظليم للحجارة

ومَنْ زَعَمَ أنَّ جَوفَ الظَّليمِ إنما يُذيبِ الحجارة بقَيظ الحرارة فقد أخطأ، ولكنْ لا بدَّ من مقدار للحرارة و نحو غرائز أخر، وخاصّيّات أخر، ألا ترَى أنَّ القُدورَ التي يُوقد تحتها الأيَّامَ واللَّياليَ، لا تذوب.

القول في الخاصِّيَّات والمقابلات والغرائز

وسأدلك على أنّ القولَ في الخاصّيّاتِ والمقابلات والغرائز حقٌّ، ألا ترى أنَّ جوفَ الكلْب والذِّيبِ يذيبان العظام ولا يذيبان نَوَى التمر، ونَوَى التمر أرخَى وألين وأضعفُ من العظام المصْمَتة، وما أكثر ما يَهضِم العظم، وقد يهضم العظمَ جوفُ الأسد وجوفُ الحيَّةِ، إذا ازدردت بضع اللحْمِ بالشَّرَهِ والنَّهَم، وفيها بعضُ العِظام.
والبراذين التي يُحِيلُ أجوافُها القَتَّ والتِّبن رَوْثاً، لا تستمري الشعير.
والإبلُ تقبضُ بأسنانِها على أغصانِ أمِّ غَىْلان، وله شوكٌ كصَياصي البقر، والقُضبانُ علكة يابسةٌ جرد، وصلاب متينة، فتستمرئُها وتجعَلُها ثَلْطاً، ولا تقْوَى على هضْم الشَّعِير المنْقَع، وليس ذلك إلاَّ بالخصائص والمقَابلات.
وقد قُدِّر كلُّ شيء لشيء، ولولا ذلك لما نفذ خرطومُ البعوضةِ والجِرجسة في جلد الفيلِ والجاموسِ، ولَمَا رأيت الجاموسَ يهربُ إلى الانغماس في الماء مرّةً، ومرّةً يتلطَّخ بالطِّين، ومرّةً يجعله أهله على ربيث الدكان، ولو دفعوا إليك مِسَلّةً شديدةَ المتْن، لَمَا أدخلْتَها في جلد الجاموس إلاّ بَعدَ التكلُّفِ، وإلاّ ببَعْضِ الاعتماد.
والذي سخَّر جلدَ الجاموسِ حَتّى انفرَى وانصدع لطَعْنةِ البعوضة، وسخَّر جلد الحمار لطْعنة الذُّباب، وسخَّر الحجارة لجوف الظليمِ، والعَظْمَ لجوف الكلب هو الذي سخَّر الصَّخْر الصُّلبَ لأذناب الجراد، إذا أرادتْ أن تُلقي بيضها؛ فإنَّها في تلك الحال مَتَى عقدَتْ ذنبها في ضاحي صخْرةٍ انصدعَتْ لها، ولو كان انصداعُها من جهة الأَسْر، ومن قوَّة الآلة، ومن الصَّدم وقوَّة الغمز، لانصدعت لما هُو في الحسِّ أشدُّ وأقوى، ولكنَّه على جهة التَّسخير، والمقابلات، والخصائص.
وكذلك عُود الحَلْفاء، مع دِقّته ورخَاوته ولِين انعطافه، إذا نَبتَ في عُمق الأرضِ، وتلَقَّاه الآجُرُّ والخزَفُ الغليظ، ثَقَبَ ذلك، عند نباته وشبابه، وهو في ذلك عبقَرٌ نضير.
وزعم لي ناسٌ من أهل الأردُنِّ، أنّهم وجَدوا الحلْفاء قد خَرَقَ جوف القار.
وزعم لي أبو عتّاب الجرّار، أنّه سمع الأكَرَة يُخبِرونَ أنَّهم وجدوه قد خَرَقَ فَلْساً بَصْريّاً.
وليس ذلك لشدَّةِ الغمزِ وحِدّة الرأس، ولكنه يكون على قدْر ملاقاة الطباع.
ويزعمون أنَّ الصَّاعقة تسقُطُ في حانوت الصَّيقل فتُذيب السُّيوفَ بطبعها، وتدع الأغمادَ عَلَى شبيهٍ بحالها، وتسقُطُ عَلَى الرَّجلِ ومعه الدراهمُ فتُسبك الدَّراهم، ولا يصيبُ الرجُلَ أكثَرُ من الموت.
 والبحريُّونَ عندنا بالبصرة والأُبُلَّة التي تكون فيها الصَّواعق، لا يدعون في صحُون دُورهم وأعالي سُطوحهم، شيئاً من الصُّفر إلاَّ رَفعوه؛ لأنّها عندهم تنقضُّ من أصل مخارجها، على مقدارٍ من محاذاة الأرض، ومقابلة المكان، فإذا كان الصُّفر لها ضاحياً، عَدَلتْ إليه عن سَنَنها.
وما أنكر ما قالوا، وقد رأيتُهم يستعمِلون ذلك.
وقد يَسْقط النَّوى في تُرابِ المتوضَّأ، فَإذا صهرِجَ نَبَتَ، فإذا انتهى إلى الصَّاروج أمسك، وإن كان الصَّاروج رقيقاً فإنْ قُيِّرَ، وجُعل غِلظُهُ بقدر طول الإبهام، نبت ذلك النَّوى حتَّى يخرِق ذلك القار.
ولو رام رَجُلٌ خرْقَه بمسمار أو سِكّة، لما بلغ إرادته حتى يشقَّ على نفْسه.
والذي سخّر هذه الأمورَ القويَّة في مذْهب الرَّأي وإحساسِ النَّاس، هو الذي سخَّر القُمقُم، والطَّيجن، والمِرْجل، والطَّستَ، لإبرة العقرب، فما أُحصي عدَدَ مَنْ أخبرني من الحوّائين، من أهل التَّجارب، أنّها ربَّما خرجتْ من جُحرها في اللَّيلِ لطلَب الطُّعم، ولها نشاط وعُرَام، فتضرِب كلّ ما لِقَيتْ ولقِيها: من حيوانٍ، أو نبات، أو جماد.
وزعم لي خاقانُ بن صبيح واستشهد المثنَّى بنَ بِشْر، وما كان يحتاجُ خبَرُه إلى شاهدِ؛ لصدقه أنّه سمعَ في داره نَقْرَةً وقعتْ على قُمقُم وقد كان سمع بهذا الحديث فنهض نحوَ الصَّوت، فإذا هو بعقرب فتعاورها هو والمثني بنعالهما حتى قتلاها، ثمَّ دعَوَا بماء فصبَّاه في القُمقُم في عشِيَّتهِما، وهو صحيحٌ لا يسيل ُمنه شيء.
فمن تعجّبَ من ذلك فليصرِفُ بَدِيّاً تعجُّبَه إلى الشيء الذي تقذفه بذنبها العقربُ في بدَن الإنسان والحميرِ والبغالِ، فليفكِّرْ في مقدار ذلك من القلة و الكثرة، فقد زعم لي ناسٌ من أهل العَسْكر أنّهم وزنوا جَرََّارَةً بعد أنْ ألْسَعُوها فوجدوا وزنَها على تحقيق الوزن على مقدارٍ واحد، فإن كان الشيء المقذوفُ من شكل الشيء الحارّ، فلم قصَّرت النَّارُ عن مبلغ عمله? وإن كان من شِكل الشيء البارد فلم قصَّر الثلج عن مَبْلغ عمله? فقد وَجَبَ الآنَ أنَّ السمَّ ليس يقتل بالحرارة، ولا بالبرودة إذا كان بارداً، ولو وجَدْنا فيما أردنا شيئاً بلغ مبلَغَ الثَّلجِ والنار لذكرْناه.
فقد دلَّ ما ذكرنا على أنّ جوفَ النَّعامةِ ليس يذُيبُ الصَّخرَ الأملسَ بالحرارة، ولكنَّه لا بدّ على كلِّ حالٍ من مقدارِ من الحرارة، مع خاصِيَّات أُخَرَ، ليستْ بذاتِ أسماء، ولا تعرفُ إلاَّ بالوهم في الجملة.
علة قتل السم والسمّ يقِتل بالكمّ والكَيف والجنِس، والكَمُّ المقدار، والكيف: الحدّ، والجنس: عَيْنُ الجوهرِ وذاتُه، وتزعمُ الهنْدُ أنّ السمّ إنما يقتُل بالغَرابة، وأنّ كلّ شيء غريب خالَطَ جَوْفَ حيَوَانٍ قَتَلهُ، وقد أبى ذلك ناسٌ فقالوا: وما بالُه يكون غريباً إذا لاقى العصَبَ واللَّحم، وربَّما كان عاملاً فيهما جميعاً، بل ليس يقتل إلاّ بالجنس، وليس تُحسُّ النّفسُ إلاّ بالجنس، ولوكان الذي يميت حِِسَّهُما إنَّما يميتهُ لأنّهُ غريبٌ ، جَازَ أيضاً أنْ يكون الحَسَّاس إنما حَسّ لأنه غريب، ولو كان هذا جائزاً لقيل في كلِّ شيء.
وقال ابن الجهم: لولا أنّ الذهب المائعَ، والفِضّة المائعة، يجمدان إذا صارا في جوف الإنسان، وإذا جَمَدَا لم يجاوزَا مكانهَما لكانَا من القواتل بالغرابة.
وهذا القول دعْوَى في النَّفس، والنّفْسُ تضيق جدًّا، وما قرأت للقدماء في النفْس الأجلادَ الكثيرة، وإنما يستدلُّ ببقاءِ تلك الكتبِ على وَجْهِ الدَّهر إلى يومنا هذا، وَنسْخِ الرِّجَال لها أمَّةً بعدَ أمَّة، وعمراً بعد عمر، على جهل أكثرِ النّاسِ بالكلام، والمتكلمون يريدون أن يَعْلمُوا كلّ شيء، ويأبى اللّه ذلك، فهذا بابٌ من أعاجيب الظليم.

باب آخر وهو أعجب من الأول

وهو ابتلاعُهُ الجمرَ حتى ينفُذَ إلى جوفه، فيكونَ جوفُه هو العامل في إطفائه، ولا يكون الجمرُ هو العامل في إحراقه. وأخبرني إبو إسحاقَ إبراهيمُ بن سَيّارٍ النّظّام وكنَّا لا نرتاب بحديثه إذا حكى عن سماعٍ أو عِيان أنّهُ شَهدَ محمد بنَ عبد اللّه يلقي الحجَر في النّار، فإذا عاد كالجمر قَذَف به قُدّامَهُ، فإذا هو يبتلعه كما يبتلع الجَمْرَ، كنتُ قلت له: إنَّ الجَمْرَ سخيفٌ سريعُ الانطفاءِ إذا لقي الرُّطوبات، ومتى أطبقَ عيه شيء يحُولُ بَيْنَهُ وبين النّسيم خَمَدَ، والحَجَرَ أشدُّ إمساكاً لما يتداخله من الحرارة، وأثقَلُ ثِقَلاً، وألزق لزُوقاً وأبطأ انْطِفاءً، فلو أحميْتَ الحجارة فأحماها ثم قذف بها إليه، فابتلع الأولى فارتَبت به ، فلما ثنى وثلّثَ اشتدّ تعجبي له ، فقلت له: لو أحميت أواقيَّ الحديدِ، ما كان منها رُبْعَ رِطلٍ ونصف رطل ففعل، فابتلعه، فقلت: هذا أعجبُ من الأوّلِ والثّاني، وقد بقيَتْ علينا واحدةٌُ، وهو أن ننظر: أيَسْتَمْري الحديد كما يستمْرِي الحجارة? ولم يتركنا بعضُ السفهاء وأصحاب الخُرْقِ أن نَتَعرَّفَ ذلك على الأيَّام، وكنت عَزْمتُ على ذبْحه وتفتيش جَوْفه وقانصته، فلعلّ الحديد يكون قد بقي هناك لا ذائباً ولا خارجاً فعمَد بعضُ نُدمائه إلى سِكّينٍ فأُحْمِيَ، ثم ألقاه إليه فابتلعه، فلم يجاوز أعلى حلقه حتى طلع طرفُ السّكين من موضع مَذْبحه، ثمَّ خرّ مَيِّتاً، فَمنَعَنَا بخُرقِه من استقصاء ما أردْنا.

شبه النعامة بالبعير وبالطائر

وفي النَّعامة أنّها لا طائرٌ ولا بعير، وفيها من جهة المنْسمِ والوظيف والخَرَمَةِ، والشقّ الذي في أنفه، ما للبعير، وفيها من الرِّيش والجَناحَين والذَّنبِ والمنِقْارِ، ما للطائر، وما كان فيها من شكل الطَّائر أخرَجَها ونقَلها إلى البيض، وما كان فيها من شكل البعير لم يخرجها ولم ينقلها إلى الوُلدِ، وسماها أهل فارس: أشْتُرْمُرْْغ، كأنّهم قالوا: هو طائر وبعير.
وقال يحيى بن نوفل:

تَصير إلى الخَبيثِ من المصِير

 

فأنتَ كساقطٍ بين الـحـشَـايا

تعاظُمِها إذا ما قـيل طِـيرِي

 

ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَـى بـعـيراً

مِنَ الطَّير المُرِبَّةِ بالـوُكـورِ

 

فإن قيل احْمِلي قالت فـإنِّـي

ثمَّ هجا خالداً فقال:

تَصُول من المَخافةِ للـزَّئيرِ

 

وكنتَ لَدَى المُغيرة عَيرَ سَوْءٍ

كَبيرِ السِّنِّ ذي بصَرٍ ضَريرِ

 

لأعلاجٍ ثمـانـيةٍ وعِـلْـج

شراباً ثمَّ بُلْتَ عَلى السَّـرِيرِ

 

هَتْفتَ بكلِّ صَوْتِكَ: أطْعِمُوني

وإنما قيل ذلك في النَّعامة؛ لأنّ النَّاسَ يضربون بها المثلَ للرّجل إذا كان مِمَّنْ يعتلُّ في كُلِّ شيء يكلفونه بعِلة، وإن اخْتَلَفَ ذلك التكليف، وهو قولهم: إنما أنتَ نعامةٌ، إذا قيل لها احملي قالت: أنا طائر، وإذا قيل لها طيري قالتْ: أنا بعير.

قصة أذني النعامة

وتزعمُ الأعرابُ أنَّ النّعامة ذهبَتْ تطلُبُ قرنَين، فرجعت مقطوعةَ الأذنين؛ فلذلك يسمُّونه الظليم، ويصفونه بذلك.
وقد ذكر أبو العِيالِ الهُذليّ ذلك، فقال:

إذ جاءكم بتعطُّفٍ وسـكـونِ

 

وإخال أنَّ أخاكـم وعِـتَـابَـه

صِفْرٍ ووجهِ ساهمٍ مَـدْهُـونِ

 

يُمْسِي إذا يُمسِي ببطن جـائع

مِثْقالُ حَبَّةِ خَـرْدلٍ مـوزُونِ

 

فَغَدَا يمُثُّ ولا يُرى في بَطْنِـهِ

ليُصَاغ قَرْنَاهَـا بِـغَـيْرِ أذين

 

أو كالنّعامةِ إذْ غدت من بيتهـا

صَلماءَ ليسَتْ مِنْ ذَواتِ قُرُون

 

فاجْتَثَّتِ الأذْنان منها فانْثَـنَـتْ

تقليد الغراب للعصفور ويقولون: ذهَبَ الغُراب يَتَعَلمُ مشيةَ العُصفور، فلم يتعلّمْها، ونسِيَ مِشيتَهُ، فلذلك صارَ يحجِلُ ولا يَقفزُ قَفزان العُصْفور.
مشي طوائف من الحيوان والبرغوث والجرادةُ ذات قَفز، ولا تمشي مِشْيةَ الدِّيكِ والصّقرِ والبازي، ولكن تمشي مِشية المقيَّد أو المُحَجَّل خِلْقَه.
قال أبو عِمران الأعمى، في تحوُّل قُضاعةَ إلى قحطانَ عَنْ نزار:

الخَليطَ فلا عزَّ الَّذين تَحَمَّـلـوا

 

كما اسْتَوحَشَ الحيُّ المقيمُ ففارقُوا

لأخرى ففاتَتْهُ فأصبَحَ يَحْـجِـل

 

كتاركِ يوماً مِشْيَةٍ مِـنْ سَـجِـيَّةٍ

عظام النعامة

ومن أعاجيبها أنّها مع عظَمِ عظامها، وشدّة عدْوها، لا مخَّ فيها.
وفي ذلك يقول الأعلم الهذلي:

واعدِ ظَلَّ في شَرْيِ طِـوال

 

عَلَى حتِّ البُرَايةِ زَمْخَريِّ السّ

يعني ظليماً شبّه بهِ عدْوَ فرسِه، والحَتُّ: السريع، والشّري: الحنظل، وبُرايته: قوّته على ما يَبْريه من السَّير، والسَّواعد: مجاري مخّه في العظم وكذلك مجاري عُروق الضّرع، يقال لها السَّواعد.
قال: ونظنّ إنَّما قيل لها ذلك لأنّ بعضَها يُسْعِدُ بعضاً، كأنّه من التّعاون أو من المواساة.
قال: والزَّمْخَريّ: الأجوف، ويقال: إنَّ قصَبَ عظْمِ الظَّليمِ لا مخَّ له، وقال أبو النَّجْم:

هاوٍ يظلُّ المخُّ في هَوائِهِ

وواحد السَّواعد: ساعد.
وقال صاحب المنطق: ليس المخُّ إلاَّ في المجوّفة، مثل عَظْمِ الأَسَدِ.
وفي بعض عظامه مخٌّ يسير، وكذلك المخُّ قليلٌ في عِظام الخنازير، وليس في بعضها منه شيءٌ البتَّة.

بيض النعام وما قيل فيه من الشعر

ومِنْ أعاجيبها أنّها مع عِظَم بيضها تكثِّرُ عددَ البيضِ، ثمَّ تضَع بيضَها طولاً، حتى لو مددْت عليها خيطاً لما وجدتَ لها مِنْهُ خُروجاً عن الأخرى، تُعطي كلَّ بيضةٍ من ذلك قسْطَه، ثم هي مع ذلك ربَّما تركت بيضها وذهبَتْ تلتمسُ الطَّعام، فتجِدُ بيضَ أُخرَى فتحضنُه، وربَّما حضنت هذه بيضَ تلك،وربّما ضاع البيضُ بينهما.
وأمّا عَددُ بيضها ورئالها فقد قال ذُو الرُّمّةِ:

أبو ثَلاَثِينَ أمْسَى وهو مُنْقَلِب

 

أذاك أم خاضِبٌ بالسِّيِّ مرتَعُهُ

وفي وضعها له طولاً وعرضاً على خطٍّ وسَطْرٍ، يقول:

سُقِينَ بِزَاجَلٍ حَتَّى رَوِينَـا

 

وَمَا بَيْضَاتُ ذِي لِبَدٍ هِجَفٍّ

هِجانُ اللَّون لم تقرع جَنينا

 

وُضِعْنَ فكلُّهُنَّ على غِرارٍ

وَيَلْحَفهُنّ هَفهَافاً ثخـينـا

 

يَبِيتُ يَحفهُنّ بِمـرْفَـقَـيْهِ

وقال الآخر:

فتلٌ صلابٌ مياسيرٌ معاجـيل

 

تهوى بها مكرباتٌ في مرافقها

كأنه من جناه الشرى مخلـول

 

يدا مهاةٍ ورجلا خاضبٍ سنـقٍ

زعراء ريش جناحيها هراميل

 

هيقٍ هجفٍ وزفانيةٍ مـرطـى

من العفاء بليتـيهـا ثـآلـيل

 

كأنما منثتى أقماع ما هصـرت

إلى القنان التي فيها المداخـيل

 

تروحا من سنام العرق فالتبطـا

بما أصابا من الأرض الأفاعيل

 

إذا استهلا بشؤبوب فقد فعلـت

منها الرثال لها منها سرابـيل

 

فصادفا البيض قد أبدت مناكبها

كأنها ورق البسباس مغسـول

 

فنكبا يبقفان البيض عن بـشـرٍ

تشبيه القدر الضخمة بالنعامة

والشُّعراء يشبِّهون القِدْرَ الضَّخْمةَ التي تكون بمنزِلِ العَظيم وأشباهِهِ من الأجواد، بالنَّعامة، قال الرّمّاحُ، ابنُ مَيّادة:

كذلك تقري الشوك ما لم تردد

 

وقلت لهـا لا تـعـجـلـي

عوازبـــه فـــــوق

 

إلى جامعٍ مثل النَّعامة يلتقـي

جامع: يعني القدر، وجعلها مثل النَّعامة.
وقال ابن ميادة يمدح الوليدَ بنَ يزيد:

روابدُها مثلُ النّعامِ العواطِفِ

 

نتاج العِشَار المنْقِيات إذا شتَتْ

وقال الفرزدق:

بأجْذالِ خُشْبٍ زالَ عَنْهَا هشيمها

 

وقدرٍ كحيزُوم النّعامة أُحْمِشَـتْ

الذئب والنعام

وضحك أبو كَلْدَةَ حين أُنشِد شعرَ ابن النَّطَّاح، وهو قوله:

والذِّئب يلعب بالنّعام الشَّارد

قال: وكيف يلعب بالنّعام، والذِّئبُ لا يَعْرِضُ لبيض النَّعام وفراخه حين لا يكونان حاضرَين، أو يكونُ أحدهما، لأنَّهُمَا متى ناهضاه ركَضَهُ الذَّكرُ فرماه إلى الأنثى، وأعجلَتْهُ الأنثى فَرَكَضَتْهُ ركضةً تُلقيه إلى الذَّكر فلا يزالان كذلك حتى يقتُلاه أو يعجزَهُما هَرَباً، وإذا حاوَلَ ذلك منه أحَدُهُمَا لم يقْوَ عليه، قال: فكيف يقول:

والذِّئب يلعبُ بالنَّعام الشَّارد

وهذه حالُه مع النَّعام.

وزعم أنَّ نعامتين اعتَوَرَتا ذِئباً فهزَمتاه، وصعِد شجرةً ، فجالدهما، فنقره أحدُهما، فتناوَلَ الذِّئبُ رأسَه فقطَعه، ثم نزل إلى الآخرَ فساوَرَه فهزَمَه.

جُبن الظليم ونفاره

والظَّليم يُوصَف بالجُبْن، ويوصف بالنِّفار والتَّوحُّش. وقال سَهم بن حنظلة، في هجائه بني عامر:

رأيتَ جَفاءً وَنُوكاً كثيرا

 

إذا ما رَأيتَ بني عامـرٍ

ويمنَعها نُوْكها أن تَطيرا

 

نعامٌ تَجُرُّ بأعْنَـاقـهـا

ضرر النعامة

والنّعامة تتخذها النّاسُ في الدُّور، وضررُها شديدٌ، لأنّها ربَّما رأتْ في أذن الجارية أو الصبيَّة قُرطاً فيه حجرٌ، أو حبّةٌ لؤلؤٍ، فَتَخْطَفُهُ لتأكله، فكم أذنٍ قد خرَقتها وربّما رأتْ ذلك في لَبَّةِ الصبيِّ أو الصبيّة، فتضربه بمنقارها، فربَّما خرقت ذلك المكانَ.

شعر في تشبيه الفرس بالظليم

وممَّا يشبَّه به الفَرَسُ ممَّا في الظليم، قولُ امرئ القيس بن حُجْر:

كَجؤجؤ هَيْقٍ دفُّه قد تموّرا

 

وخدٌّ أسيلٌ كالمِسنِّ وبِـرْكةٌ

وقال عُقْبَةُ بن سَابق:

ولَبانٌ مضرَّجٌ بالخِضَاب

 

وله بِركة كَجُؤجُؤِ هَـيْقٍ

وقال أبو دُاؤد الإيادي:

ينِ يُتابِعانِ أشقَّ شاخصْ

 

يَمْشِي كمشي نَعـامَـتَ

وقال آخر:

مقلَّصة على سَاقَيْ ظَلِيمِِ

 

كأنَّ حَماتَه كُردُوسُ فَحْلٍ

وقال أبو داؤدٍ الإياديُّ:

وَلَّى تَقُولُ مُلَمْلَمٌ ضـرْبُ

 

كالسِّيدِ ما استقبلـتـه وإذا

متتابعاً ما خانَـهُ عَـقْـبُ

 

لأْمٌ إذا استقبلته وَمَـشَـى

أُخْرَى إذا مَا رَاعَهَا خَطْبُ

 

يَمْشِي كمَشْيِ نَعامَةٍ تَبِعَـتْ

القولُ فيما اشتُقَّ له من البَيْض اسم قال العَدَبَّس الكِنانيّ: باضت البُهْمَى: أي سقطت نِصالُها وباضَ الصَّيف، وباضَ القَيظُ: اشتدَّ الحرُّ وخرج كلُّ ما فيه من ذلك.
وقال الأسَدِيّ:

فَتًى مِنْ عُيُوبِ المُقْرِفِينَ مُسَلَّمَا

 

فجِئنا وقد باضَ الكَرَى في عُيونِنا

وقال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْتِ:

لم يُحِسُّوا منها سِواهَا نذيرا

 

رَكِبَت بيضةُ البَيَاتِ عليهـم

وقال الرَّاعي، يهجو ابنَ الرِّقاع:

يا ابنَ الرِّقاع ولكنْ لسْتَ مِنْ أحَدِ

 

لو كنْتَ مِنْ أَحدٍ يُهجَى هجَوْتُكُـمْ

وابنَا نِزارٍ فأنتم بَيضةُ الـبَـلَـدِ

 

تأبَى قُضاعةُ لمْ تقبَلْ لكمْ نسـبـاً

وفي المديح قولُ عليِّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أنا بَيْضَةُ البَلد، ومنه بيضة الإسلام، وبيضة القبّة: أعلاها، وكذلك الصَّوْمَعَةُ، والبَيْضُ: قلانس الحديد.
وقال أبو حيَّة النُّميريّ:

وما إنْ كان ذلك عن تَقَالي

 

وصَدَّ الغانياتُ البِيضُ عَنِّـي

وأفْسَدَ ما عَلَيَّ من الجَمَـالِ

 

رأيْنَ الشَّيبَ بَاضَ على لِدَاتِي

وبَيضُ الجُرْح والخُرَاجِ والحِبْنِ: الوعاء الذي يُجْمعُ فيه الصَّديد، إذا خَرَجَ برئَ وصلُح، وقد يُسمُّون ما في بطونِ إناث السَّمك بَيْضاً، وما في بطونِ الجَرادِ بيضاً، وإن كَانُوا لا يَرَوْنَ قِشْراً يشتمِلُ عليه، ولا قَيْضاً يكونُ لما فيه حِضْناً.
والخِرشَاءُ: قِشرةُ البَيْض إذا خَرَجَ ما فيه، وسَلْخ الحيَّةِ يقال له الخِرشاء.
شعر في التشبيه بالبيض وقال الأعشى في تشبيه اللّفاءِ الحسناءِ بالبيضة:

أو دُرَّةٍ سِيقَتْ إلى تَـاجِـرِ

 

أو بيضةٍ في الدِّعصِ مكنونةٍ

وقال في بيض الحديد:

إذا شامَ يوماً للصَّريخِ المُندَّدِ

 

كأنَّ نَعامَ الدَّوِّ بَاض عليهِـمُ

وقال الأعشى:

وقد رُفِعَتْ نِيرانُها فاستقلَّتِ

 

أَتَتْنَا مِنَ البَطْحاءِ يَبْرُقُ بَيضُهَا

وقال زيد الخيل:

فَأَحْدَاقُهُمْ تَحْتَ الحَدِيدِ خوازِرُ

 

كأنَّ نَعَامَ الدَّوِّ باض علـيهـمُ

استطراد لغوي

 

 

 

 

 

قال: ويقال تقيَّضَت البيضةُ، والإناءُ، والقارورة، تقيُّضاً: إذا انكسرت فِلَقاً، فإذا هي لم تَتَفَلَّقْ فِلَقاً وهي متلازقةٌ، فهي منْقَاضَةٌ انقِياضاً، وقَيض البيضة: قشرتها اليابسة، وغِرْقِئها: القشرة الرَّقيقة التي بين اللَّحم وبين الصَّميم، قال: والصَّميم: الجلدة.
قال: ويقال غرقَأَت البيضةُ: إذا خرجَتْ وليس لها قشرٌ ظاهر غير الغِرقِئة.
قال الرَّدَّاد: غرقأَت الدَّجاجَةُ بيضها، فالبيضة مُغَرْقأة، والخِرشاء: القشرة الغليظة من البيضة، بعد أن تثقَب فيخرجَ ما فيها من البلل؛ وجماعُها الخَراشيّ، غير مهموز.
قال: وقال ردَّاد: خِرْشاءُ الحيّة: سَلْخَها حين تنسَلخ.
قال: وتغدّى أعرابيٌّ عندَ بعضِ الملوك، فدبَّت على حلْقِه قملةٌ، فتناولها فقصَعَها بإبهامه وسَبَّابتهِ، ثمَّ قتلها، فقالوا له: ويلك ما صنعت? فقال: بأبي أنتُمْ وأمي، ما بقي إلا خِرشاؤها.
وقَالَ المُرَقّشُ:

يَنْسَلُّ من خِرْشائه الأرقـمْ

 

إن تَغْضَبُوا نَغْضَبْ لذاكم كما

وقال دُريد بن الصِّمَّةِ في بَيض الحديد: قال: ويقال في الحافر نزَا ينزو، وأمَّا الظّليمُ فيقال: قَعَا يقعُو، مثل البعير، يقال: قاع يقوعُ قَوْعاً وقِيَاعاً، وقَعَا يقعُو قَعْواً، فهذا ما يسوُّون فيه بينه وبين البعير، ويقال: خفّ البعير، والجمع أخفاف، ومنسِمُ البعير، والجمع مناسم؛ وكذلك يقال للنّعامة.
وقال الرّاعي:

وَظِيفٌ على خُفِّ النّعامةِ أرْوحُ

 

ورِجْل كرجْل الأخْدَريِّ يُشِيلُهـا

وقال جران العود:

أزجُّ كَظُنْبُوب النَّعَامةِ أروحُ

 

لَهَا مثل أظفَار العُقَاب ومَنْسِمٌ

قال: والزَّاجَل: ماء الظَّليم؛ وهو كالكِرَاضِ من ماءِ الفحْل، وأَنْشد لابْنِ أحمر:

سُقِين بزَاجَلٍ حَتَّى رَوِينَا

 

وما بيضاتُ ذي لِبَدٍ هِجَفٍّ

وقال الطِّرِمَّاح:

ةٌ أَمَارَتْ بالبَوْلِ مَاءَ الكِرَاض

 

سَوْفَ تُدْنِيك مِنْ لَمِيسَ سَبَنْـدَا

وربَّما استعاروا المناسم، قال الشاعر:

إذا عَدَت تأظبت أدات

 

توعدني بالسِّجن والآدات

 

 

تربطُ بالحبل أُكَيْرِعَاتِ

قال: ويقال لولد النَّعام: الرَّأل، والجمع رِئال ورئلان؛ وَحَفَّانٌ، وَحَفّانة للواحدة، والجمع حَفَّان؛ وحِسْكل، ويقال: هذا خَيطُ نعامٍ وخِيطان، وقال الأسودُ بن يُعْفُر:

لعِبَ الرِّئال بها وخِيطُ نَعامِ

 

وكأنّ مرجعهم مَنَاقفُ حَنْظَلٍ

ويقال: قَطيعٌ من نَعام، وَرَعْلةٌ من نعام.
وقال الأصمعيُّ: الرَّعلة: القِطعة من النَّعَام، والسِّرب من الظِّبَاءِ والقَطَا، والإجْل من الظِّلف، وقال طُفَيلٌ الغَنَوِيُّ في بيضة الْحَيِّ وما أشبه ذلك:

أذاعَتْ برَيْعَانِ السَّوَام المعزَّبِ

 

ضَوَابِعُ تَنْوِي بَيْضَةَ الْحَيِّ بعدما

قال: ويقال: للظليم إذا رَعى في هذا النَّبات ساعةً وفي هذا ساعةً قد عَقَّبَ يُعَقِّبُ تعقِيباً، وأنشدني لذي الرُّمَّة:

مِنْ لائحِ المرْوِ والمَرْعَى لَهُ عُقَبُ

 

ألهـاه آءٌ وتَـنُّـومٌ وَعُـقْـبَـتُـه

قال: ويقال للرجل، إذا كان صغير الأذنين لاصقَتين بالرَّأس: أصمع؛ وامرأةٌ صَمْعاء، ويقال: خَرَجَ السهمُ متَصَمِّعاً: إذا ابتلَّتْ قُذَذُه من الدَّم وانضمّت، وقال أبو ذُؤيب:

سهماً فَخَرَّ وَريشُهُ متصمِّعُ

ويقال: أتانا بثريدةٍ مُصَمَّعَة: إذا دَقَّقَهَا وَحَدَّدَ رأسَها، وصومعة الرّاهبِ منه؛ لأنها دقيقة الرأس، وفلانٌ أصمع القلْبِ: إذا كان ذكياً حديداً ماضياً، وقال طرفة:

وَمَرَّ قُبَيْلَ الصُّبح ظبيٌ مصمِّعُ

 

لَعَمْرِي لقد مَرَّتْ عواطِسُ جَمّةٌ

أراد: ماضياً.
شعر في البيض وقال الشاعر في بيضة البَلدِ:

حَسِبْتَ رَهْطك عِنْدِي بَيْضَةَ البَلَدِ

 

أقْبَلْتَ تُوضِعُ بِكْراً لا خِطامَ لهـا

ويُشبَّه عظامُ جماجمِ الرؤوس ببَيض النّعامِ، وقال الأعرج القَيْنِيّ:

على قَتْلَى بناصفةٍ كِـرامِ

 

بكَينا بالرِّماح غداةَ طَـرْقٍ

كأَنَّ فَرَاشَها بَيضُ النّعـامِ

 

جَماجمَ غُودِرَتْ بحمامِ عِرْقٍ

وقال مقاتل بن طَلَبَةَ:

تَنِيكُ بأيديها وتَأبَى أُيُورُهَا

 

رأيتُ سحيماً فاقَدَ اللّهُ بَيْنَهَا

وقال السُّحيمي يردّ عليه:

وإن لم تبشِّرها فأنتَ أميرُها

 

مُقَاتِلُ بشِّرْها ببَيضِ نَعـامةٍ

وقال أبو الشِّيص الخُزاعي في بيضة الخِدْر:

وأعجَلَ الرَّوْعُ نصلَ السَّيفِ يُخْتَرَط

 

وأبرزَ الخِدْر من ثِنْيَيْهِ بَـيْضَـتَـهُ

والشَّيخُ يفديك والوِلدانُ والشُّـمُـط

 

فثَمَّ تَفـديك مِـنّـا كـلُّ غـانـيةٍ

وقال جحشُ بنُ نصيب:

خَذَارِيفُ بَيْضٍ عَجَّلَ النَّقْفُ طائرُه

 

كأَنَّ فُلاق الهام تحتَ سُـيوفِـنـا

وقال مهلهلٌ في بيضة الخِدر:

يمسَحْنَ فَضْلَ ذَوائِبِ الأيتـامِ

 

وتجولُ بيضاتُ الخُدورِ حواسراً

وهو وما قبله يدلان على أنهم لا يُشَبِّهون بِبَيْضِ النّعام إلاّ الأبكار.
قال الشاعِرُ:

سَماوةَ بيض كالخباء الـمـقـوَّضِ

 

وَبِيض أفقْنَا بالضُّحَى من مُتـونـهـا

مَتَى يُرْمَ في عَيْنَيْهِ بِالشَّخْصِ يَنْهَضِ

 

هجومٌ عَليهَا نَـفْـسَـهُ غَـيْرَ أَنَّـهُ

يعني بالبِيضِ بَيْض النَّعام، وَسماوة الشيء: شخصه، لأنّ الظَّليم لما رآهم فَزِع ونهضَ، وهذا البيت أيضاً يدلّ على أنَّهُ فَرُوقَةٌ.
وقال ذو الرُّمَّة في بيض النَّعام:

غرابيبُ من بِيضٍ هَجَائِنَ دَرْدَقُ

 

تراه إذا هبّ الصَّبا دَرَجَتْ بـه

قال: والصَّبَا والجنوبُ تهبَّان في أيام يُبس البقْل، وهو الوقتُ الذي يثقُبُ النَّعام فيه البيض، يقول: درجت به رِئلانٌ سودٌ غرابيب، وهي من بِيضٍ هجائن: أي بَيْض، والدَّردَق: الصِّغار، وهو من صُغَرِ الرِّئْلاَن.

الحصول على بيض النعام

قال طُفيل بن عوفٍ الغنَويّ، وذكر كيف يأخذون بيضَ النّعام:

ولم تَر نَاراً تِمَّ حَوْلٍ مـجـرَّمِ

 

عَوازبُ لم تسمَعْ نُبُوح مَقَـامَةٍ

أغَنَّ من الخُنْسِ المناخِرِ تَوْءَمِ

 

سِوى نار بَيض أو غَزالٍ مُعْفَّرٍ

هذه إبلُ راعٍ معزِبٍ صاحب بوادٍ وبدوةٍ لا يأتي المحاضرَ والمياهَ حيثُ تكون النّيران، وهو صاحب لبنٍ وليس صاحبَ بقْل، فإبله لا ترى نَاراً سوى نَارِ بَيض أو غزالٍ.
نار الصَّيد وهذه النَّارُ هي النّارُ التي يُصطاد بها الظِّباءُ والرِّئلانُ وبَيْضُ النَّعام لأنَّ هذه كلَّها تعشى إذا رأتْ ناراً، ويحدُثُ لها فكرةٌ فيها ونظر، والصبيُّ الصغير كذلك، وأوَّلُ ما يعابِثُ الرَّضيعُ، أوَّلَ ما يناغي، المصباحُ.
وقد يعتري مثلُ ذلك الأسدَ، ويعتري الضِّفدعَ؛ لأنَّ الضِّفدعَ ينقّ، فإذا رأى ناراً سكَت، وهذه الأجناس قد تُغترُّ بالنَّار، ويُحْتَالُ لها بها.

تشبيه الغيوم بالنّعام

وتوصف الغيومُ المتراكمة بأنَّ عليها نعاماً، قال الشَّاعر:

بِ نَعامٌ تَعَلَّقَ بالأرْجُلِ

 

كأنَّ الرَّبَاب دُوَينَ السَّحا

وقال آخر:

له كلُّ أَمْـرٍ أنْ يَصُـوبَ ربـيعُ

 

خَلِيلَيّ لا تَسْتَسْلِمَـا وَادْعُـوا الّـذِي

وفي العَظْم شيءٌ في شَظَاهُ صُدُوع

 

حَياً لبلاَد أَبْعَدَ المَـحْـلُ أهـلـهـا

جِبالٌ عليهنَّ الـنُّـسـورُ وُقُـوعُ

 

بمنتضكٍ غرِّ النَّشَـاص كـأنـهـا

استطراد لغوي وقال آخر:

من بين مَخْفُوضٍ وبينِ مظَلَّلِ

 

وَضَعَ النَّعَامَات الرِّجالُ برَيْدِهَا

والنعائم في السماء، والنعائم والنّعامتان من آلات البئر، والنعامة: بيت الصائد.
وقال في مثل ذلك عروةُ بن مُرَّة الهذليّ:

طريقها سَرِبٌ بالنّاسِ مجبُوبُ

 

وذاتِ رَيْدٍ كَزَنْق الفَأسِ مُشْرِفَةٍ

حالانِ منهزمٌ منها ومَنصوبُ

 

لم يَبْق من عَرْشها إلاّ نعامتُهـا

مسكن النعام

وفي المثل: ما يُجمَعُ بين الأرْوَى والنّعام لأنَّ الأرْوَى تسكن الجبال ولا تُسهِل، والنّعامَ تسكن السهل ولا تَرْقى في الجبال، ولذلك قال الشاعِرُ:

كمشْيِ الوُعول على الظّاهِرَهْ

 

وَخَيْلٍ تُكَرْدِسُ بـالـدّارِعِـينَ

وقال كثيِّر:

بنيَاط أَغْبَرَ شَاخِص الأمْيَالِ

 

يَهدي مَطَايَا كالحَنِيّ ضَوَامِراً

وَهْداً فَوَهْداً نَاعِـقٌ بـرئالِ

 

فَكأَنَّه إذْ يَغْتَدِي مُتَسَـنِّـمـاً

شعر في تشبيه النعام وقال الأعشى، في تشبيه النَّعام بما يتدلَّى من السَّحاب من قطع الرَّباب:

جَبَلَيْنِ يُعْجِبُني انجِيابُـه

 

يا هَلْ تَرى بَرْقاً على ال

زَجَلٍ أرَبَّ به سَحابُـه

 

مِنْ ساقط الأكنـافِ ذِي

لمَّا زَقَا ودنـا رَبـابُـه

 

مثلِ النَّعامِ مُـعَـلَّـقـاً

وقال وشبَّهَ ناقَتهُ بالظَّلِيم:

ومسافراً ولجا به وتَـزَيَّدَا

 

وإذا أطاف لبابه بسَديسِـهِ

رَبْدَاءَ في خَيْطٍ نَقَانِقَ أربدا

 

شَبَّهْتهُ هِقْلا يُبارِي هِقْـلَةً

وذكر زهيرٌ الظَّليمَ وأولاده، حتّى شبَّه ناقتَه بالظَّليم:

على خاضب الساقين أرعن نقنق

 

كأني وردفي والقراب ونمـرقـي

سماوة قشراء الوظيفين عوهـق

 

ترامى به حب الصحارى وقد رأى

لدى سكنٍ من بيضها المتفـلـق

 

تحن إلى ميل الجنـاحـين جـثـمٍ

وعن حدق كالسبج لم يتـفـلـق

 

تحطم عنها عن خـراطـم أسـيح

السَّبج: الخَرزُ.

النعامة فرس خالد بن نضلة

وكان اسمُ فرسِ خالدِ بن نَضْلة: النَّعامة، قال:

وَدُودَانَ أدَّتْهُ إليَّ مُكبَّـلا

 

تَدَارَكَ إرخَاءُ النَّعامةِ حَنْثَراً

تشبيه مشي الشيخ بمشي الرئال وقال عُروة بن الوَرد:

فيأمَنَ أعدائي ويَسْأَمَنِي أهْلِـي

 

أليسَ ورائي أن أدِبَّ على العَصَا

يُطِيفُ بيَ الوِلْدَانُ أَهْدِجُ كالرَّألِ

 

رَهِينَةَ قَعْرِ البيتِ كلّ عَـشِـيّةٍ

شَبَّه هَدَجَانَ الشَّيخ الضَّعيفِ في مشيته بهدَجَان الرَّأْل.
وقال أبو الزَّحْف:

وَهَدَجَاناً لم يكنْ في مِشْيتـي

 

أشكو إليك وَجَعاً بركبـتـي

 

 

كَهَدَجَانِ الرَّألِ حَوْلَ الهَيْقَتِ

وقال آخر، ولست أدري أيُّهما حَمَل على صاحبه:

وَهَدَجَاناً لم يكنْ في خُلقـي

 

أشكُو إليكَ وَجَعاً بمرفَقِـي

 

 

كَهَدَجَانِ الرَّألِ حَوْلَ النِّقْنِقِ

ولم يفضحْه إلاَّ قوله:

أشكو إليك وجعاً بمرفقي

لأنَّ الأوَّلَ حكى أنَّ وجعَه في المكان الذي يُصيبُ الشُّيوخَ، ووجعُ المرفقِ مثلُ وجَعِ الأذنِ، وضربانِ الضّرس ليس من أوجاع الكِبَر في شيء.
شعر فيه ذكر النعامة وقال ابن ميَّادة، وذكر بني نَعامةَ من بني أسد - وقد كان قَطَرِيُّ بن الفجاءة يكنى أبا نعامة -:

نَعامةُ مِفْتاحُ المخازِي وبابُها

 

فهل يمنَعَنِّي أنْ أسِيرَ ببَلْـدَةٍ

وهجا دُريدُ بن الصِّمّةِ رَجُلاً فجعل البيضةَ الفاسدةَ مثلاً له، ثمَّ ألحقَ النَّسرَ بأحرار الطَّيرِ وكرامها - وما رأيتُهُمْ يعرِفون ذلك لنسرٍ - فقال:

بحيث التَقَى عيطٌ وبِيضُ بني بـدْر

 

فإنِّي على رغْم العَـذولِ لَـنَـازلٌ

فهل أنْتَ إن هاجَيْت إلاَّ من الخُضْرِ

 

أيا حَكَمَ السَّوْءَاتِ لا تَهْجُ وَاضْطَجِعْ

ثَوَتْ في سُلوخِ الطيرِ في بلدٍ قفْـرِ

 

وهل أنْتَ إلاَّ بَيْضَةٌ مات فَرْخُـهـا

وَسُلاَّءُ ليستْ من عُقابٍ ولا نسْـرِ

 

حَوَاهَا بغاثٌ: شرُّ طير علمـتَـهـا

استطراد لغوي ويقال للأنثى من ولد النَّعامة: قلوص؛ على التشبيه بالنَّعام من الإبل، وهذا الجمع إلى ما جعلوه له من اسم البعير، وإلى ما جعلوا له من الخفِّ والمنسمِ، والخَرَمَةِ، وغير ذلك.
قال عنترة:

حِزَقٌ يَمَانِيَةٌ لأعجَمَ طِمْطِـمِ

 

تأوِي له قُلُصُ النَّعامِ كما أوَتْ

وقال شماخ بن ضِرار:

قلوص نَعامٍ زِفّها قد تَموّرَا

وصف الرئال ووصف لبيدٌ الرِّئالَ فقال:

وَعَزْفاً بعد أحـياءٍ حِـلاَلِ

 

فأضْحَتْ قد خَلَتْ إلاَّ عِرَاراً

كأَنَّ رِئالهـا وُرْقُ الإفـالِ

 

وخَيطاً من خَوَاضِبَ مزلفات

وقال حسانُ بن ثابتٍ، رضي اللّه عنه:

كإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النّعامِ

 

لعمرُك إنّ إلَّكَ في قُريشٍ

وقد عاب عَلَيْهِ هذا البيتَ ناسٌ، وَظَنّوا أَنَّهُ أراد التبعيد، فذكر شيئين قد يتشابهان من وجوهٍ، وحسانُ لم يردْ هذا، وإنما أراد ضعْفَ نَسَبه في قُريش، وأنَّه حِينَ وَجَدَ أدنى نَسب انتحل ذلك النَّسب.

النعامة فرس الحارث بن عباد

وقال الفرزدقُ - وذكَرَ الفرَسَ الذي يقال له: النّعامة وهو فرسُ الحارث بن عُبَاد، التي يقول فيها:

لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عن حِيَالِ

 

قرِّبا مَرْبِطَ النّعامةِ مِـنِّـي

وقولُ الفرزدق:

كرامُ بناتِ الحارثِ بْنِ عُبـادِ

 

تُريِكِ نُجومَ اللَّيل والشَّمْسُ حَيّة

من الحُتِّ في أجْبالها وَهَـدَادِ

 

نساءٌ أبوهنّ الأغرّ، ولم تَـكُـنْ

أبَتْ وَائِلٌ في الحَرْبِ غَيْرَ تَمادِ

 

أبوها الذي آوى النَّعامةَ بعدمـا

وقد مَدحوا بناتِ الحارث بن عباد هذا، فمن ذلك قوله:

جَاؤُوا ببنتِ الحارثِ بنِ عُباِد

 

جاؤُوا بحارِشَةِ الضِّبابِ كأنَّهُمْ

ويلحق هذا البيت بموضعه، من قولهم، باضَ الصَّيف، وباضَ القَيظ.
وقال مضرِّس:

وباضت عليها شمسه وحرائِرُه

 

بلمّاعةٍ قد بَاكَرَ الصَّيفُ ماءَها

ابن النعامة، فرس خزز بن لوذان وابن النّعامة: فرس خُزَز بن لَوْذَان، وهو الذي يقول لامرأته حين أنكرتْ عليه إيثاره فرسَه باللبَن:

إنْ كنْتِ سائلتي غَبوقاً فاذْهَبِي

 

كَذَبَ العَتِيق ومَاءُ شَنٍّ بـارِدٌ

هذا غبارٌ ساطعٌ فتَـلَـبَّـبِ

 

إنِّي لأَخْشَى أن تقولَ خليلتـي

إنْ يأخُذوكِ تَكَحَّلي وتخضبي

 

إنَّ العدوَّ لهـم إلـيكِ وسـيلةٌ

وابنُ النَّعامة يوم ذَلِك مَرْكَبي

 

ويكون مَرْكَبُك القَعودَ وحِدْجَه

شعر في النعامة

وقال أبو بكر الهذليُّ:

يُرْفَعْنَ بَينَ مُشَعشَعٍ وَمُهَلَّـل

 

وَضَعَ النَّعاماتِ الرِّجالُ بِرَيْدِها

وقال ذُو الإصبع العَدْوانيّ:

مخالفٌ لي أقْلـيه ويقـلـينـي

 

ولي ابنُ عَمّ على ما كان مِنْ خُلُقٍ

فَخَالني دُونَهُ بل خِلْـتُـهُ دُونـي

 

أزْرَى بنا أنَّنا شالَتْ نعـامـتُـنـا

وقال أبو داؤدٍ الإياديُّ في ذكر الصَّيد، وذَكر فرَسه:

بحقير بـنـانـه أضـمـارُ

 

وأخذنا به الصِّرارَ وقـلـنـا

ضِ شَدّاً وقد تَعَالَى النهـارُ

 

وأتى يبتغي تَفَرُّسَ أمِّ الـبَـي

ونعـامٍ خِـلالَـهـا أثْـوارُ

 

غَيْرَ جُعْـف أوابـدٍ ونـعـامٍ

حين يَنْهَضْنَ بالصَّباحِ عِـذارُ

 

في حوال العقارب العمر فيها

ثم قال:

قُسِّمَتْ بينهنَّ كأسٌ عُقَارُ

 

يتكشَّفْن عَنْ صَرائعَ ستٍّ

وظليمٍ مَعَ الظَّليمِ حمارُ

 

بينَ ربْدَاءَ كالمِظَلَّةِ أفْـقٍ

وسيوبٌ كأنّـه أوْتَـارُ

 

ومهاتين حربـين ورِئال

ووصف علْقمة بن عبدة ناقَته، وشبّهها بأشياءَ منها، ثُمّ أطنب في تشبيهه إيّاها بالظَّليم:

 

كما توجس طاوى الكشح موشوم

 

تلاحظ السوط شزراً وهي ضامزة

 

أجنى له باللوى شـرىٌ وتـنـوم

 

كأنها خاضـب زعـرٌ قـوائمـه

 

وما استطف من التنوم مـخـذوم

 

يظل في الحنظل الخطبان ينقفـه

 

أسك ما يسمع الأصوات مصلوم

 

فده كتق العـصـا لايا تـبـينـه

 

كأنه حاذرٌ للنخـس مـشـهـوم

 

يكاد منـه اخـتـل مـقـلـتـه

 

يوم رذاذٍ عليه الـريح مـغـيوم

 

حتى تذكر بـيضـاتٍ وهـيجـه

 

ولا الزفيف دوين الشد مـسـئوم

 

فلا تزيده فـي مـشـيه نـفـقٌ

 

كأنهـن إذا بـركـن جـرثـوم

 

يأوي إلى حسكلٍ زعرٍ حواصلهـا

 

كأنه بتناهي الروض عـلـجـوم

 

وضاعةٌ كعصى الشرع جؤجـؤه

 

أدحى عرسين فيه البيض مركوم

 

حتى تلافي وقرن الشمس مرتفعٌ

 

كما تراطن في أفدانهـا الـروم

 

يومي إليها بإنقـاضٍ ونـقـنـقةٍ

بيتٌ أطافت به خرقاءٌ مهجوم

 

صعلٌ كان جناحيه وجؤجـؤه

 

تجيبه بزمارٍ فـيه تـرنـيم

 

تحفه هقلةٌ سطعاء خـاضـبةٌ

 








رؤيا النعامة

الأصمعيّ قال: أخبرني رجلٌ من أهل البَصرة قال: أرسلَ شيخٌ من ثَقيفٍ ابنَه فلاناً - ولم يحفظ اسمه - إلى ابن سيرين، فكلمه بكلامٍ، وأمُّ ابنه هذا قاعدةٌ، ولا يظنُّ أنّها تفطِنُ، فقال له: يا بنيَّ اذهبْ إلى ابن سِيرِينَ، فقل له: رجلٌ رأى أنَّ له نعامةً تطحَن، قال: فقلت له؛ فقال: هذا رجلٌ اشترى جاريةً فَخَبَّأَهَا في بني حنيفة، قال: فجئت أبي فأخبرتُه، فنافرَتْهُ أمِّي، وما زالت به حتى اعترف أنّ له جارية في بني حنيفة.
وما أعرفُ هذا التأويل، ولولا أنّه من حديث الأصمعي مشهورٌ ما ذكرته في كتابي.
مسيلمة الكذاب وأمَّا قول الشاعِرِ الهذليِّ في مسيلمة الكذاب، في احتياله وتمويهه وتشبيهِ ما يحتال به من أعلام الأنبياء، بقوله:

وتوصيل مَقصوصٍ من الطيرِ جادِفِ

 

بِبَـيْضَةِ قَــارُورٍ وَرَايَةِ شَـــادنٍ

قال: هذا شعرٌ أنشدَنَاهُ أبو الزَّرقاء سَهْمٌ الخثعمي، هذا منذُ أكثَرَ من أربعينَ سنة، والبيتُ من قصيدةٍ قد كان أنشدنيها فلم أحفَظْ منها إلاّ هذا البيت.
فذكر أنَّ مسيلمة طاف قبلَ التنبِّي، في الأسواق التي كانت بين دُور العجم والعرَب، يلتقُون فيها للتسوُّق والبياعات، كنحو سُوق الأَُبُلّة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحِيرة.
قال: وكان يلتمس تعلُّم الحِيَل والنِّيرَجَات، واختيارات النُّجوم والمتنبئين، وقد كان أحكَمَ حِيَل السّدَنَةِ والحُوَّاءِ وأصحابِ الزَّجْر والخطّ ومذهبَ الكاهنِ والعَيَّاف والسَّاحر، وصاحبِ الجنّ الذي يزعم أنّ معه تَابِعَهُ.
قال: فَخَرَجَ وقد أحكم من ذلك أموراً، فمن ذلك أنّهُ صبّ على بيضَةٍ من خَلٍّ قاطع - والبيضُ إذا أطيل إنقاعُه في الخلِّ لان قشرُه الأعلى، حَتَّى إذا مددته استطال واستدقّ وامتدّ كما يمتدُّ العِلْكُ، أو على قريبٍ من ذلك - قال: فلمَّا تمَّ له فيها ما طاوَل وأمّل، طَوّلها ثمَّ أدخَلَها قارورةً ضيِّقةَ الرَّأسِ، وتركها حتّى جفَّت ويبِست، فلمّا جفّت انضمّت، وكلما انضمَّت استدارتْ، حتى عادت كهيئتها الأولى، فأخرجها إلى مُجَّاعَة، وأهل بيته، وهم أعراب، وادَّعى بها أعجوبةً، وأنّها جُعِلت له آية، فآمَنَ به في ذلك المجلس مُجّاعَة، وكان قد حمل معه ريشاً في لون ريشِ أزواجِ حمامٍ، وقد كان يَرَاهُنَّ في منزل مُجّاعةَ مَقاصِيصَ، فالتفت، بعد أن أراهم الآيةَ في البيض، إلى الحمام فقال لِمُجَّاعَةَ: إلى كم تعذِّب خَلْقَ اللّه بالقصِّ? ولو أراد اللّه للطَّير خلافَ الطَّيرَانِ لَمَا خَلَقَ لها أجنحةً، وقد حَرّمْتُ عليكم قصّ أجنحة الحمام فقال لَهُ مُجَّاعة كالمتعنت: فَسَلِ الذي أعطاك في البيضِ هذه الآيةَ أنْ يُنبِت لك جَنَاح هذا الطائر الذَّكَرِ السَّاعةَ.
فقلت لسهم: أمَا كان أجوَدَ من هذا وأشبَهَ أنْ يقول: فَسل الذي أدْخَلَ لك هذه البيضة فَمَ هذه القارُورة أنْ يخرجها كما أدخَلها، قال، فقال: كأنَّ القَومَ كانُوا أعراباً، ومثلُ هذا الامتحانِ من مُجَّاعة كثير، وَلَعَمْرِي إنَّ المتنبئ لَيخدع ألفاً مثلَ قيس ابن زهير، قبل أن يخْدَع واحداً من آخِرِ المتكلمين، وإن كان ذلك المتكلم لا يشقُّ غبارَ قيس فيما قيسٌ بسبيله.
قال مسيلمة: فإنْ أنا سألتُ اللّه ذلك، فانتبِهْ له حتى يطيرَ وأنتم ترونَهُ، أتعلمون أني رسول اللّه إليكم? قالوا: نعم، قال: فإني أريد أنْ أناجيَ ربِّي، وللمناجاة خَلوةٌ، فانهضوا عنِّي، وإن شئتم فادخلوه هذا البيت وأدخلوني معه، حتى أخرجه إليكم السَّاعةَ في الجناحَينِ يطير، وأنتم ترونَهُ، ولم يكن القوم سَمِعُوا بتغريز الحمام، ولا كان عندهم بابُ الاحتياط في أمْر المحتالين، وذلك أن عُبَيداً الكيِّس، فإنّه المقدَّم في هذه الصناعة، لو منعوه السِّتر والاختفاء، لَمَا وصل إلى شيءٍ من عمله جلّ ولا دَقَّ؛ ولكان واحداً من النَّاس. فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيَّأه، فأدخل طرَف كلِّ ريشةٍ ممَّا كانَ معه، في جَوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقَصِّ، وقَصَبُ الرِّيش أجوَفُ، وأكثَرُ الأصولِ حِدَادٌ وصلاب، فلما وفَّى الطَّائرَ ريشَهُ صارَ في العَين كأنَّهُ بِرْذَوْنٌ موصول الذَّنب، لا يعرِف ذلك إلاَّ من ارتاب به، والحمام بنفسه قد كان له أصولُ ريشٍ، فلما غُرِّزَتْ تمت فلما أرسله من يده طار، وينبغي ألاَّ يكونَ فَعَلَ ذلك بطائرٍ قد كانوا قطوه بعد أن ثبت عندهم، فلما فعل ذلك ازداد مَنْ كان آمَنَ به بصيرةً، وآمَنَ به آخرون لم يكونوا آمنوا به، ونزع منهم في أمْره كلُّ من كان مستبصِراً في تكذيبه.
قال: ثمّ إنَّه قال لهم - وذلك في مِثْل ليلةٍ مُنكَرَةِ الرِّيَاحِ مُظلمةٍ، في بعض زمان البوارح - إنَّ المَلكَ عَلَى أن ينزل إليّ، والملائكة تطير، وهي ذوات أجنحة، ولمجيء المَلكِ زَجَلٌ وخشخشة وقعقعة، فمن كان مِنْكُمْ ظاهراً فَلْيَدْخُلْ منزلَه؛ فإنَّ من تأمّل اختُطِف بصرُه.
ثمّ صنَعَ رايةً من رايات الصِّبيان التي تعمل من الورق الصِّينيّ، ومن الكَاغَدِ، وتُجْعَلُ لها الأذنابُ والأجنحة، وتعلَّق في صدورها الجلاجل، وترسَل يوم الرِّيح بالخيوط الطِّوال الصِّلاب، قال: فبات القومُ يتوقَّعون نزولَ المَلَك، ويلاحظون السَّماءَ، وأبطأ عنهم حتَّى قام جلُّ أهلِ اليمامة؛ وأطْنبت الرِّيح وقويت، فأرسلها، وهم لا يَرَوْنَ الخيوطَ، واللَّيلُ لا يُبينُ عن صورة الرَّقِّ، وعن دقَّةِ الكاغد، وقد توهَّموا قبل ذلك الملائكة، فلمّا سَمِعُوا ذلك ورأوه تصارَخُوا وصاح: من صَرَفَ بَصَره ودخلَ بيتَه فهو آمن فأصبح القومُ وقد أطبَقُوا على نصرتِه والدُّفعِ عنه، فهو قوله:

وتوصيل مَقصوص من الطيرِ جادِفِ

 

ببـيضَة قَــارُورٍ وَرَايَةِ شَـــادنٍ

فقلت لسهمٍ: يكون مثلُ هذا الأمْرِ العجيب، فَلاَ يقولُ فِيهِ شَاعرٌ، ولا يَشِيعُ به خبر? قال: أوَكلما كان في الأرض عجبٌ، أو شيء غريبٌ، فقد وجَبَ أن يشيع ذكرُه، ويقالَ فيه الشِّعرُ، ويجعلَ زمانُهُ تاريخاً ألسْنَا معشَرَ العربِ نزعُمُ أنَّ كسرى أبرويز، وهو من أحرار فارسَ، من الملوكِ الأعاظمِ، وسليلُ ملوكٍ، وأبو مُلوك، مع حَزْمه ورأيه وكماله، خطبَ إلى النُّعمان بن المنذر، وإلى رجلٍ يرضى أن تكونَ امرأتُه ظِئراً لبعض ولدِ كسرى، وهو عامله، ويسمِّيه كسرى عبداً، وهو مع ذلك أحَيْمِرُ أقَيْشِرُ، إمَّا من أشلاء قصيّ بن معد، وإما من عُرْض لخم، وهو الذي قالوا: تَزَوَّجَ مومسةً - وهي الفاجرِةُ؛ ولا يقال لها مومسةٌ إلاَّ وهي بذلك مشهورة - وعرفها بذلك، وأقام عليها، وهُجِيَ بها ولم يَحفِلْ بهجائهم، وممّا زاد في شهرتها قصّة المرقش، وناكها قُرَّة بن هُبيرة حين سباها، فعلم بذلك وأقامَ عليها، ثمّ لم يرضَ حتَّى قال لها: هل مَسّكِ? قالت: وأنت واللّه لو قَدَر عليك لَمَسَّكفلم يَرْضَ بها حتى قال لها: صِفِيهِ لي، فوصَفَتْهُ حَتَّى قالتْ: كأنَّ شعر خَدّيْهِ حَلَقُ الدِّرْع وبال على رأسه خلف ابن نوالة الكناني عامَ حَجّّ، وَنَصّرَه عديُّ بنُ زيد بأحْمَقِ سَبَب، وَخَطَبَ أخُوهُ المنذرُ إلى عبيدة بن همام، فردّه أَقْبَحَ الرّد، وقال:

وقد طَرَقُوني بأمْرٍ نُكرْ

 

أَتَوْنِي ولم أرْضَ ما بَيَّتُوا

وهل يُنْكِح الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرّ

 

لأُنْكِحَ أيِّمَـهُـمْ مُـنْـذِراً

ثمّ مع ذلك خطب إليه كسرى بعضَ بناتِه فرغِب بها عنه، حتَّى كان ذلك سببَ هربه وعِلَّةً لقتله فهل رَأيت شاعراً في ذلك الزَّمان مع كثرة الشعراء فيه، ومع افتخارهم بالذي كان منهم في يوم جَلولى ويومِ ذي قار، وفي وقائع المثنَّى بن حارثة وسعد بن أبي وقَّاص - فهل سَمِعْتَ في ذلك بشعرٍ صحيحٍ طَريف المخرج، كما سمعته في جميع مفاخرهم ممّا لا يداني هذا المَفْخَر?.
ولقد خَطَبَ بَعْضُ إخوَتِهِ إلى رجالٍ من نِزار، من غَير أهل البيوتات، فرغبوا عنهم. وأمّ النعمان سَلْمَى بنت الصَّائغ: يهوديّ من أنباط الشام، ثمَّ كان نَجْلُهُ لِفعلٍ غيرِ محمود.
وقد قال جَبَلةُ بن الأيْهم، لحسَّان بن ثابت: قد دَخَلْتَ عليَّ ورأيتَني، فأينَ أنا من النّعمان? قال: واللّهِ...
 فالنّعمان مع هذه المثالب كلِّها قد رَغِبَ بنفسه عن مصاهرة كِسْرَى، وهو من أنْبَهِ الأكاسرة، وكما كان أَبْرَوَيزُ أعْظَمَ خَطَراً، كانَتْ أَنَفَتُهُ أَفْخَرَ للعَرَبِ، وأدلَّ على ما يدَّعون من العلوِّ في النسب وكان الأمر مشهوداً ظاهراً، وَمُرَدَّداً على الأسماع مستفيضاً، فإذْ قد تهيَّأ أن يكون مثلُ هذا الأمر الجليل، والمفْخِر العظيم، والعربُ أَفْخَرُ الأمم، ومع ذلك قد أغفلوه - فشَأنُ مسيلمَةَ أحقُّ بأن يجوزَ ذلك عليه.
وأنشدني يوسفُ لبعضِ شعراء بني حنيفة، وكان يُسَمَّى مُسَيلَمَةَ وَيُكْنَى أبا ثُمامة:

لهفي على رُكْنَيْ شمامَهْ

 

لهفي عَلَيْكَ أبا ثُـمـامَـهْ

كالشَّمْسِ تَطْلُعُ مِنْ غمَامَهْ

 

كم آيةٍ لأبـــيهــــمُ

وقد كتبنا قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ ابن النَّوَّاحَةِ في كتابنا الذي ذكرنا فيه فَصْلَ ما بين النبيِّ والمتنبي وَذَكَرْنَا جميعَ المتنبئين، وشأنَ كلِّ واحدٍ منهم على حِدَتِهِ، وبأيِّ ضربٍ كان يَحتالُ، وَذَكَرْنَا جملةَ احتيالاتِهِمْ، والأبوابَ التي تدور عليها مَخاريقهم، فإنْ أردتَ أَنْ تعرفَ هذا البابَ فاطلبْ هذا الكتاب؛ فإنّهُ موجود.
هجاء النعمان وقد هجا عبدُ القيس بنُ خُفافٍ البُرْجُمِيُّ، النُّعْمَانَ بن المنذر، في الجاهليَّةِ، وذكر ولادة الصَّائِغِ له فقال:

ابنَ ذَا الصَّائِغِ الظلومَ الجهولا

 

لَعَنَ اللّهُ ثمَّ ثـنَّـى بِـلَـعـنٍ

ثمَّ لا يرزأُ الـعـدُوّ فَـتِـيلا

 

يجمعُ الجيشَ ذا الألوفِ ويغزُو

سَهْمٌ الحنفي وكان سَهْمٌ الحنفيُّ يلي طبَرِسْتان، لمعن بن زائِدة، مع حداثة سنه يومئذ، وكان له مروءةٌ وَقَدْرٌ في نفسه.
كثرة الشعر وقلته في بعض قبائل العرب وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشِدّةِ بأسهم، وكثرة وقائعهم، وَحَسَدِ العربِ لهم على دارهم وتخُومهم وَسْطَ أعدائِهم، حتى كأنهم وَحْدَهُمْ يعدِلون بَكْراً كلها - ومع ذلك لم نَرَ قبيلةً قَطُّ أقَلَّ شعراً منهم، وفي إخوتهم عِجْلٌ قَصِيدٌ وَرَجَزٌ، وَشُعَرَاء ورَجَّازُون، وليس ذلك لمكانِ الخِصْب وأنّهم أهلُ مَدَر، وأكّالو تمرٍ؛ لأنَّ الأوْسَ والخزرج كذلك، وهم في الشعر كما قد علمت، وكذلك عبدُ القيس النَّازلة قرى البحْرين، فقد تعرفُ أنَّ طعامَهم أَطْيبُ من طعام أهل اليمامة.
وثقيفٌ أهلُ دارٍ ناهيك بها خِصْباً وطِيباً، وهم وإن كان شعرُهم أقلَّ، فإنَّ ذلك القليلَ يدلُّ على طبْعٍ في الشعر عجيب، وليس ذلك مِنْ قِبَلِ رداءة الغِذاء، ولا من قِلَّة الخِصب الشَّاغل والغِنَى عن النَّاس؛ وإنَّمَا ذلك عن قَدْر ما قَسَمَ اللّه لهم من الحظوظ والغرائزِ، والبلاد والأعراقِ مكانها.
وبنو الحارث بن كعب قبيلٌ شريفٌ، يجزون مَجارِي ملوك اليمن، ومجاريَ ساداتِ أعراب أهْلِ نَجْدٍ ولم يكن لهم في الجاهليَّة كبيرُ حَظٍّ في الشعر، ولهم في الإسلام شعراءُ مفْلِقُونَ.
وبنو بَدْرٍ كانوا مفْحَمين، وكان ما أطلق اللّه به ألسنةَ العرب خيراً لهم من تصيير الشعر في أنفسهم.
وقد يَحْظَى بالشعر نَاسٌ ويخرُج آخَرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم، ولم تُمْدَح قبيلةٌ في الجاهليَّة، من قريش، كما مُدحت مخزوم، ولم يتهيَّأ من الشَّاهد والمثلِ لمادحٍ في أحدٍ من العرب، ما تهيَّأ لبني بدر.
وقد كان في ولد زُرارة لصُلبه، شعر كثير، كشعر لقيط وحاجبٍ وغيرهما من ولده، ولم يكن لحذَيفة ولا حِصْن، ولا عيينَةَ بن حِصن، ولا لحَمِل بنِ بدْر شِعْرٌ مذكور.
حظوة الخلفاء الولاة بالشعر وقد كان عبدُ العزيز بن مَرْوَانَ أَحْظَى في الشعر من كثير من خلفائهم، ولم يكنْ أحَدٌ من أصحابنا، من خُلفائنا وأئمتنا، أحظَى في الشعر من الرَّشيد، وقد كان يزيد ابن مَزْيَد وَعمُّهُ، ممَّنْ أحْظَاهُ الشِّعْرُ.
وما أعلمُ في الأرض نعمة بَعْدَ وِلاَيَةِ اللّهِ، أعْظَمَ من أنْ يكونَ الرَّجُلُ ممدوحاً.

الصُّمُّ من الحيوان

تقول العرب: ضربانِ من الحيوان لا يَسمعان الأصوات، وذلك عامٌّ في الأفاعي والنّعام، واعتدّ من ادّعى للنّعام الصّمَمَ بقول عَلْقَمة:

أسَكُّ ما يَسْمَعُ الأصْوَاتَ مَصْلومُ

 

فُوهُ كَشَقِّ العَصَا لأْياً تَـبَـيَّنـه

قال: ولا يصلح أن تكون ما في الموضع الذي ذَكَرَ؛ لأنَّ ذلك يصير كقول القائل: التمر حلو، والثَّلج بارد، والنّار حارَّة، ولا يحتاج إلى أن يُخبر أنّ الذي يُسْمَعُ هذا الصَّوتُ؛ لأنهُ لا مسموعَ إلاَّ الصَّوت.
قال خصمه: فقد قال عَلْقَمَةُ بن عَبَدَة:

أُدْحيَّ عِرْسَيْنِ فيه البَيضُ مَرْكومُ

 

حَتَّى تلافَى وقرنُ الشَّمْسِ مرتفعٌ

كما تَرَاطَنَُ في أفْدانهـا الـرُّومُ

 

يوحِي إليها بإنقاض وَنـقْـنَـقَةٍ

ثم قال:

تجيبُهُ بزِمارٍ فيه تَرنيمُ

 

تحفُّهُ هِقْلةٌ سفعاءُ خاذلة

واحتجّ من زعم أنها تسمع، بقوله:

وَبَيْضٍ تُؤَامٍ بينَ مَيْثٍ وَمِذْنـبِ

 

وَصُحْمٍ صِيَامٍ بين صَمْدٍ وَرِجْلَةٍ

يُجيبُ زِمَاراً كاليَرَاعِ المُثَقبِ

 

مَتَى مَا تَشأ تَسْمَع عراراً بِقَفْرَةٍ

وقال الطِّرِمَّاح:

أَلِمٌ تجاوبُه النِّساءُ الـعُـوَّدُ

 

يدعو العِرارُ بها الزِّمَارَ كأنَّهُ

قال: وَصَوْتُ النعامة الذّكر: العِرارُ، وصوت الأنثى: الزِّمَار.
وأنشدَ الذي زَعَمَ أَنَّهَا لا تسمع، قولَ أسامةَ بنِ الحارِث الهذَليِّ:

كما ذكرت بَوّاً من اللَّيل فَاقِـدُ

 

تذَكَّرْتُ إخْواني فَبِتُّ مُسَـهَّـداً

عَنِ الشَّام إمّا يَعْصِيَنَّكَ خـالـدُ

 

لعمري لقد أَمْهَلتُ في نَهْيِ خالدٍ

تَسَمَّع بالنَّهْيِ النَّعامُ المُـشَـرَّدُ

 

وَأَمْهَلْتَ في إخوانه فكـأَنَّـمـا

وقال الذي زعم أنّها تسمع: فقد قال اللّه عزَّ وَجَلَّ: "أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" ولو عنَى أَنَّ عَماهم كعمى العُمْيان، وصممَهم كصمَمِ الصُّمَّان، لما قال: "أَفلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا" وإنّما ذلك كقوله: "إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ" وكيف تُسمِعُ المدبرَ عنك ولذلك يقال: إنَّ الحُبَّ يُعمِي وَيُصمُّ، وقد قال الهذليُّ:

تَسَمَّعَ بِالنَّهْيِ النَّعَامُ المُشَرَّدُ

والشارد النافر عنك لا يوصف بالفهم، ولو قال: تسمع بالنَّهْي، وسكت - كان أبلغَ فيما يريد، وهو كما قال اللّه تعالى: "وَلاَ تَسْمِعُ الصمَّ الدُّعَاءَ إذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ"، قال الرَّاجز:

كُدْرِيَّةٍ أعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَـا

 

رِدِي رِدِي وِرْد قَطَاةٍ صَمّا

أي لأنها لا تسمع صوتاً يَثنيها ويَرُدُّهَا.
وأنشد قول الشاعر:

دَعَوْتُ به ابنَ الطَّوْدِ أَوْ هُوَ أسْرَعُ

 

دَعَوْتُ خُلَيْداً دَعْـوَةً فَـكـأنـمـا

والطَّود: الجبل، وابنُهُ: الحجر الذي يَتَدَهْدَهُ منه، كقوله:

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّه السَّيْلُ مِنْ عَلِ

وقال الرَّاجز:

بَصِيرِ أخْرَى وَأصَمِّ الأذْنَيْنْ

 

وَمَنُهَلٍ أَعْوَرِ إحْدَى العَيْنَيْن

كأنَّهُ كانَ في ذلك المنهَلِ بِيرَانِ، والآبارُ أعينٌ، فغُوِّرَتْ إحدى البِيرَين وتُرِكت الأخْرى وقوله: أصَمِّ الأُذْنَيْنِ لِمَا أنْ كان عنده في الأرض فَضَاءٌ وَخَلاَءٌ، حيثُ لا يسمع فيه صوت، جعله أنْ كان لا يسمَعُ صوتاً أصمَّ؛ وإنْ كان ذلك لِفَقْدِ الأصواتِ.

شاهد من الشعر لسمع الناقة

قال: وقد قال الحارثُ بن حِلِّزَةَ قولاً يدلُّ على أنَّهَا تسمع، حيث قال:

مِّ إذا خفَّ بالثَّوِيِّ الثَّوَاءُ

 

ولقد أَسْتَعِينُ يوماً على اله

مُّ رِئالٍ دَوِّيَّةٌ سفـعـاءُ

 

بزَفُوفٍ كأنها هِـقْـلَةٌ أُ

ثم قال:

اص عَصْراً وقد دنا الإمْسَاءُ

 

آنسَتْ نَبْأَةً وأَفْزَعَهَـا الْـقُـنّ

يِ مَنِينـاً كـأنَّـهُ أهـبـاءُ

 

فترى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَة المَشْ

ولو قال: أفْزَعَها القُنَّاصُ ولم يقل: آنَسَتْ نبأة - والنَّبْأة الصَّوت - لكان لَكُمْ في ذلك مَقَال، وقال امرؤ القيس:

كأنَّ مكانَ الرِّدْفِ منه على رَالِ

 

وصمٌّ صِلاَبٌ ما يَقين من الوَجَى

وإنما يعني أنها مُصْمَتَةٌ غير جَوفاء، وقال الآخَر:

حِلْمِي أصمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّـاءِ

 

قُلْ ما بدا لك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبٍ

يريد أنَّ حلمَهُ ليس بسخيف متخلخِل، وليس بخفيف سَارٍ، ولكنّه مصمَت، قال الشاعرُ:

وأسأل من صمَّاء ذاتِ صَليل

وإنَّمَا يريد أرضاً يابسة، ورملةً نَشَّافَةً، تسأل الماء: أي تريده وتبتلعه؛ وهي في ذلك صمّاء،

ذكر الصُّمِّ في القرآن الكريم

وقد قال اللّه لناسٍ يسمعون: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" ذلك على المثل، وقال: "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"، وذلك كلّه على ما فَسّرنا، وقال: "وَالّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَليْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً" وقال أيضاً: "إنّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ".

شعر في معنى الصمم

وقال عَنترة:

وخُرْصَانَ صُمِّ السَّمْهريِّ المثقفِ

 

ظَلِلْنَا نكرُّ المشْـرَفـيَّةَ فـيهـمُ

وقال العُجَيرُ السَّلوليّ:

ففيهنَّ عنْ صُلْع الرِّجال حُسُـورُ

 

وقد جَذَب القومُ العصائبَ مؤخـراً

سَلَى فَرَسٍ تحْتَ الرِّجال عقـورُ

 

فظلَّ نِدَاءُ العَصْبِ مُلقًـى كـأَنّـه

لَرُحْنَ وفي أعْرَاضِهِنَّ فُـطـورُ

 

لو ان الصُّخُور الصُّمَّ يَسْمَعْنَ صَلْقَنا

وقال زهير:

صَخْرَةً صمَّاءَ في كَبِدِ

 

ليتَنِي خُلِقْـتُ لـلأَبَـدِ

خُلِقَتْ غَليظَةَ الكبـدِ

 

لا تشكَّي شرَّ جارتِهـا

وقالت جُمْل بنتُ جَعْفَر:

بكلِّ رُدينيٍّ وأبيضَ ذي أثْـرِ

 

بني جَعْفَرٍ لا سِلْمَ حَتَّى نَزُورَكمْ

?وَحتَّى تَرَوْا وَسْطَ الْبُيُوتِ مُغيرةً=تُصمُّكُمُ بِالضَّرْبِ حَاشِيةَ الذُّعْرِ

وَيُبْصِرُها الأعْمَى وَيَسْمَعُ ذو الْوَقْرِ

 

تبِينُ لِذِي الشَّكِّ الذي لـم يكـن دَرَى

وقال دريد:

عَلَيَّ ولايةٌ صَمَّاءُ مِنِّي

 

متى كان الملوك قَطِيناً

مثل وحديث في الصمم

ومن الأمثال قولهم: صمَّتْ حَصَاةٌ بِدَم قال: فأصله أنْ يكثُرَ القتْلُ وسفْكُ الدِّماءِ، حتَّى لو وقَعَتْ حَصَاةٌ على الأرضِ لم يُسْمَعْ لها صوتٌ؛ لأنَّها لا تلقى صلابةَ الأرض.
وقد جاء في بعض الحديث: إذا كانت تلك الملاحِمْ بلغَت الدِّماءُ الثُّنَنَ يعني ثُنَنَ الخيل، وهو الشَّعر الذي خلف الحافر.

صمت السيف

وقال الزُّبير بن عبد المطَّلب:

عنِّي جُرَازُ الحَدِّ ضَرْبَتُهُ صَمُوتُ

 

وَيُنْبِـي نَـخْـوَةَ الـمـخـتَـال

لأنَّ السَّيفَ إذا مرَّ في العظْم مَرًّا سريعاً فلم يكن له صوت - كان في معنى الصامت.

شعر في مجاز الصمم

وقال ابن ميَّادة:

إلى فَزَعٍ تُركَبْ إلَيَّ خُيُولُـهَـا

 

متى أدعُ في قيْسِ بن عَيْلاَنَ خائفاً

رَدَاحٍ يصمُّ السَّامعين صليلُـهـا

 

بملمومة كالطَّودِ شهْباء فَـيْلَـقٍ

لأنَّ الصَّوت إذا اشتدَّ جدّاً لم يُفْهَمْ معناه، إنْ كان صاحبه أراد أن يخبر عن شيءٍ، ومتى كثُرت الأصواتُ صارت وَغًى، ومنع بعضُها بعضاً من الفهم، فإذا لم يفهمها صار في معنى الأصمّ، فجاز أن يسمّى باسم الأصمِّ.
وعلى ذلك قال الأضْبَط بن قُريع، حين آذوه بنو سعدٍ فتحوَّل من جوارهم في آخرين فآذوه، فقال: بِكُلِّ وادٍ بَنُو سَعْدٍ.
وقال جرانُ العَود:

وأخفافَها بالجَنْدَلِ الصُّمِّ تـقـذِفُ

 

وقَالَتْ لنا وَالْعِيسُ صُعْرٌ من البُرَى

قول منكر صمم النعام

وقال الذي ينكر صَمَم شيءٍ من الخلق: اعتللتم في صَمَم النّعام بقول زهير:

لَهُ بِالسِّـيِّ تَـنُّـومٌ وَآءُ

 

أصَكَّ مُصَلَمِ الأُذْنَيْنِ أَجْنَى

وبقول أوس بن حجر:

وَأَرْفَعُ صَوْتِي للنّعامِ المـخـزّمِ

 

وَيَنْهَى ذَوي الأحْلاَمِ عنِّي حُلومُهم

يريد خَرْقَ أنفه، وهو في موضعِ الخَرَمَةِ من البعير.
وأمَّا قوله: وَأَرْفَعُ صَوْتِي للنّعام فإِنما خصَّ بذلكَ النّعامَ لأنَّهَا تَجْمَعُ الشّرُودَ والنِّفَار، إلى المُوقِ وسوءِ الفهْم، ولو قال: وأرفع صَوتي للحَمير والدّوَابِّ لكان كذلك، والمصلَّمة: السُّكّ التي ليس لآذانها حَجم.
رد عليه قال: قَوْلُ الذي زعم أنها ليست بصماءَ لا يجوز؛ لأنَّ الدواب تسمعُ وتَفهم الزَّجْر، وتجيب الدُّعاء، بل لو قال: وأرفع صوتي للصخور والحِجارة، كان صواباً، وكان لِرَفْع صوته معنًى؛ إذْ كان الرّفْعُ والوضْعُ عند الصُّخور سَوَاءً، وليس كذلك الدوابُّ، ولو كان إنما جعله مصلَّماً، وجعلَ آذانَ النّعام مصلومةً، لأنه ليس لآذانها حَجْم فالطير كله كذلك إلاَّ الخفّاش، وكلُّ شيءٍ يبيض من الحيوان فليس لها حَجْم آذَان، ففي قَصْدهم بهذه الكلمة إلى النّعامِ، بين جميعِ ما ليس لأذنَيه حجْم، دليلٌ على أنَّ تأويلَكم خطأ، قال عَلْقمة بن عَبَدَة:

أَسكُّ ما يَسْمَعُ الأصواتَ مصلومُ

 

فُوه كشَقِّ العَصَا لأياً تـبـيَّنُـهُ

وقالت كَبْشة بنت مَعْدِ يكَرِب:

إلى قومه ألاَّ تَغُلُّوا لهُـمْ دَمـي

 

وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللّهِ إذ حـانَ يومُـهُ

وَأُتْرَكَ في بيتٍ بِصَعْدَةَ مُظْـلِـمِ

 

ولا تأخُذُوا منهمْ إفـالاً وَأَبْـكُـراً

بني مَازِنٍ أَنْ سُبَّ راعي المخزَّمِ

 

جَدَعْتُمْ بعبد اللّه آنُفَ قَـوْمِـكُـمْ

فَمَشُّوا بآذَانِ النّعامِ المـصـلَّـمِ

 

فإن أنتمُ لـم تـثْـأرُوا لأخِـيكُـمُ

فلو كانت إنَّما تريد أنّه ليس لمسامِعِها حجمٌ، كانت الدُّنيا لها مُعرضة، وقال عنترة:

بِقَرِيبِ بَيْنَ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّـمِ

 

وكأنَّما أَقِصُ إلإكامَ عَـشِـيَّةُ

حِزَقٌ يَمَانِيَةٌ لأَعْجَمَ طمطـمِ

 

تأوِي له حِزَقُ النَّعامِ كما أَوَتْ

ولو كان عنترة إنَّمَا أراد عدَم الحجم، لقد كانت الدُّنيا له مُعرضة.
وقال زُهير:

قطاف في الرِّكاب ولا خِلاَءُ

 

بآرزةِ الفَقَارةِ لم يَخُـنْـهـا

من الظلمانِ جُؤجُؤه هَـواءُ

 

كأنَّ الرحْلَ منها فَوْقَ صَعْلٍ

له بِـالـسِّـيِّ تَـنَّـومٌ وَآءُ

 

أصَكَّ مُصَلَّمِ الأُذْنَيْنِ أَجْـنَـى

رد منكر صمم النعام قال القوم: فإنَّا لا نقول ذلك، ولكنّ العربَ في أمثالها تقول: إنَّ النَّعامةَ ذهبَتْ تطلبُ قرنَين فقطعوا أذنيها، ليجعلوها مثلاً في المُوقِ وسوء التدبير، فإِذا ذكر الشَّاعِرُ الظَّليمَ، وذكَرَ أنَّهُ مصلَّم الأذنين، فإنما يريد هذا المعنى، فكثُرَ ذلك حَتى صار قولهم: مصلم الأذنين، مثلَ قولهم صَكَّاء، وسواءٌ قال صَكَّاء، أو قال نعامة، كما أنّهُ سواء قال خنْساء أو قال مهاة وَنَعْجَة وبقرة وظبية؛ لأنَّ الظَّباء والبقرَ كلها فُطْس خُنْسٌ وإذا سَمَّوا امْرَأَةً خنْساءَ فليسَ الخَنَسَ وَالفَطَسَ يُريدون، بل كأنهم قالوا: مَهَاةٌ وَظَبية، ولذلك قال المسيَّبُ بنُ علَسٍ، في صفة النَّاقة:

حَرَجٍ إذا اسْتَدْبَرْتَهَا هِلوَاعِ

 

صَكّاءَ ذِعْلِبَةٍ إذا استَقْبَلْتَهـا

فتفهَّمْ هذا البيت، فإنهُ قد أحْسَن فيه جدّاً.
وَالصَّكَكُ في الناس، والاصطكاك في رجلي الناقة عيب، فهو لم يكنْ ليصِفَها بما فيه عيب، ولكنَّه لا يفرق بين قولهِ صَكّاء، وبين قَوْلِهِ نعامة، وكذلك لا يفرّقون بين قولهم أعلم، وبين قولهم: بَعِيرٌ، قال الراجز:

أخو خَناثِيرَ يَقُودُ الأعْلَمَا

 

إني لِمن أنكَرَ أو تَوََسَّما

كأنه يقول: يقودُ بعيراً، وهو كقول عنترة:

تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ

 

وحَليلِ غانيةٍ تَرَكْتُ مجـدّلاً

ردّ مدّعي الصَّمم فقال مَن ادّعى للنَّعام الصَّمَم: أمَّا قولكم: من الدَّليل على أن النَّعامة تسمعُ قولُ الشاعِرِ:

تدعُو النّعام به العِرار

وقوله:

يجيب زِمَاراً كاليَرَاعِ المثقَّبِ

 

متى ما تَشَأ تسمع عِرَاراً بقَفْرَةٍ

وقوله:

الْقنَّاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ

 

آنَسَـتْ نَـبْـأَةً وَأَفْـزَعـهـا

فليس ذلك أراد، وقد يراك الأخرسُ مِن النّاس - والأخرس أصمُّ - فيعرف ما تقول، بما يرى مِنْ صُورة حَرَكَتكَ، كما يعرف معانيكَ من إشارتك، ويدعُوك ويطلُبُ إِليك بصوتٍ؛ وهو لم يسمَعْ صوتَكَ قط فيقصِدَ إليه، ولكنه يريد تلك الحركَةَ، وتلك الحركُة تولد الصّوت، أراده هو أو لم يرده، وَيُضْرَبَ فيصيح، وهو لم يقصِدْ إلى الصِّياح، ولكنّه متى أَدار لسانَهُ في جَوْبَةِ الفم بالهواء الذي فيه، والنَّفس الذي يُحضِره جُمّاع الفم، حدَثَ الصَّوت، وهذا إنما غايَتُه الحركة فيعرف صورة تلك الحركة.
والأخرس يرى النَّاس يصفِّقون بأيديهم، عند دعاءِ إنسانٍ، أو عند الغضب والحَدِّ، فيعرف صورة تلك الحركةِ؛ لطول تَرْدادِها على عينيه، كما يعرف سائِر الإشارات، وإذا تعجَّبَ ضربَ بيدَيهِ كما يضربون.
فالنّعامة تعرفُ صورةَ إشارة الرِّئلان وإِرادتها، فتعقل ذلك، وتجاوبها بما تعقل عنها من الإشارة والحركة، وغدت لحركتها أصواتٌ، ولو كانا يسمعان لم تزد حالهما في التّفاهُم على ذلك.
شم النعامة والعرب تقول: أَشَمُّ مِنْ نَعامةٍ وأَشَمُّ مِنْ ذَرّةٍ، قال الرَّاجز:

أشمُّ مِنْ هَيْقٍ وَأَهْدَى مِنْ جَمَلْ

وقال الحِرْمازيُّ، في أرجُوزته:

وهو يَشْتَمُّ اشتِمامَ الهَيْقِ

قال: وأخبرنا ابنُ الأعرابيِّ أنَّ أعرابيّاً كلم صَاحِبَهُ، فرآه لا يفهَمُ عنه ولا يسمعُ فقال: أَصَلَخٌ كَصلَخِ النَّعَامَةِ.
شم الفرس والذئب والذر وقد يكون الفرَسُ في الموكِب وخلفه، على قاب غلوتين، حِجْرٌ أو رَمكة، فَيَتَحَصَّنُ تحتَ راكبِه، من غير أن تكونَ صهلَتْ.
والذِّئب يشتَمُّ ويستروحِ منْ مِيلٍ، والذّرَّة تَشْتمُّ ما ليس لَهُ ريحٌ، ممّا لو وضعْتَهُ على أنفكَ ما وجَدْتَ لَهُ رائحة وإن أجَدْتَ التشمُّمَ، كرِجْل الجرادة تَنْبِذُهَا من يدك في موضعٍ لم تر فيه ذرَّة قطّ، فلا تلبث أن ترى الذّرّ إليها كالخيط الأسودِ الممدود.
وقال الشَّاعر، وهو يصف استرواح الناس:

لِعَقْبَيْهِ مِنْ وَقْعِ الصُّخورِ قعاقعُ

 

وجاءَ كمِثْلِ الرَّأْلِ يَتْبَعُ أَنْـفَـهُ

فإنَّ الرَّألَ يشتم رائحة أبيه وأمِّه والسَّبعُ والإنْسَانِ من مكانٍ بعيد، وشبَّهَ به رَجُلاً جاءَ يتَّبع الرِّيح فيَشتمُّ.
استطراد لغوي وقال الآخر:

أو عِرْسِه لكَريهةٍ لم يَغْضَبِ

 

والمرء لم يغضَبْ لمطْلَبِ أَنْفِهِ

ومطْلَب أنفه: فَرْجُ أمِّه؛ لأنَّ الولد إذا تمَّتْ أيَّامهُ في الرّحم، قَلا مَكانَهُ وكرهَه، وضاق به موضِعُهُ، فطلبَ بأنفه مَوضع المخرَجِ مِمَّا هو فيه من الكرب، حتَّى يَصِير أَنفه ورأسُهُ على فم الرَّحم، تِلقاءَ فم المخرج، فالأَناء والمكانُ يرفعانه في تلك الجهة، والولد يلتمِسُ تلك الجهةَ بأنْفه، ولولا أنَّه يطلبُ الهواءَ من ذاته، ويكرهُ مكانَه من ذاته، ثمَّ خرج إلى عالَمٍ آخَرَ خلافِ عالمه الذي رُبِّي فيه، لَمَاتَ؛ كما يموت السَّمَكُ إذا فارقه الماء، ولكنَّ الماءَ لمّا كانَ قابلاً لطباع السمك غاذياً لها، والسَّمكُ مريداً له، كان في مفارقته له عطبُه، وكان في مفارقة الولد لجَوْف البطن واغتذائه فضلاتِ الدَّم، مَا لاَ يَنْقُصُ شيئاً من طباعِه وطباع المكان الذي كان له مَرَّةً مَسْكناً، فلذلك قال الشَّاعر الجاهلي:

أو عِرسه لكريهةٍ لَمْ يغضَبِ

 

والمرءُ لم يغضب لمطْلَبِ أنفه

يقول: متى لم يَحْمِ فرجَ أمِّه وامرأته، فليس مِمّن يغضب من شيءٍ يؤُول إليه.

قول المتكلِّمين في صمم الأخرس

وزعم المتكلِّمون أنَّ الأخرسَ أصمُّ، وأنّه لم يُوتَ من العجْز عن المنطق لشيءٍ في لسانه، ولكنّه إنّما أُتي في ذلك؛ لأنّه حين لم يسمع صوتاً قطُّ، مؤلَّفاً أو غير مؤلَّف، لم يعرف كيفيَّته فيقصدَ إليه، وأنّ جميعَ الصُّمِّ ليس فيهم مُصْمَت، وإنما يتفَاوَتُون في الشِّدَّةِ واللِّين؛ فبعضهم يسمع الهدّة والصَّاعقة، ونَهِيق الحمار إذا كان قريباً منه، والرَّعد الشّديدَ، لا يسمَعُ غير ذلك، ومنهم من يَسمع السِّرار، وإذا رفَعْت له الصَّوتَ لم يسمَعْ، ومتى كلَّمته وقرَّت الشِّكاية في أذنه، فهِمَ عنك كلَّ الفهم، وإن تكلَّمْت على ذلك المقدار في الهواءِ، ولم يكن ينفذُ في قناةٍ تحصُرُه وتجمعُه، حتّى تُؤَدِّيه إلى دِماغه - لم يفهمه.
فالأصمُّ في الحقيقة إنَّما هو الأخرس، والأخرس إنَّما سمِّي بذلك على التشبيه والقرابة، ومتى ضَرَب الأصمُّ من النَّاس إنساناً أو شيئاً غيرَه، ظنَّ أنَّه لم يبالِغْ، حتّى يسمعَ صوتَ الضربة، قال الشّاعر:

عَرَانِينَ، لايأتيه للنَّصرِ مُحْلِبُ

 

أشَارَ بهمْ لَمْعَ الأصمِّ فأقْبَلُـوا

وقال الأسَدِيّ:

فقَدْ تعلمُونَ بـأنْ لا خُـلـودَا

 

وَأُوصِيكُمُ بطِعَـانِ الـكُـمَـاةِ

حَنْظَلَ شَابَةَ يَجنى الـهـبـيدا

 

وَضَرْبِ الجماجمِ ضَرْبَ الأصَمِّ

وقال الهذلي:

فالطعْنُ شَغْشَغَةٌ وَالضَّرْبُ مَعْمَعَةٌضَرْبَ المُعَوِّل تَحْتَ الدِّيَمةِ العَضَدا

وإنَما جعله تحتَ الدِّيمة؛ لأنّ الأغصانَ والأشجارَ تصير ألْدَنَ وأعْلَك، فيحتاج الذي يضربُ تلك الأُصولَ قبل المطر، إلى عشْر ضَرَباتٍ حتَّى يقطع ذلك المضروب؛ فإِذا أصابه المطَرُ احتاج إلى أكثرَ من ذلك.
تحقيق معنى شعري وأنشدني يحيى الأغر:

دِ يومَ الجنائب ضرباً وَكيدا

 

كَضَرْبِ القُيونِ سَبِيك الحدي

فلم أعرفه؛ فسألتُ بعضَ الصَّياقلة فقال: نعم، هذا بَيِّنٌ معروف، إذا أَخْرَجْنا الحديدةَ من الكِيرِ في يومِ شَمَال، واحتاجت في القطْع إلى مائة ضربةٍ، احتاجَت في قطْعها يومَ الجَنُوب إلى أكثر من ذلك، وإلى أشدّ من ذلك الضَّرب؛ لأَنّ الشمالَ يُيَبِّسُ ويقصِف، والجنوب يرطِّب ويلدِّن.
الأخرس والإنسان أبداً أَخْرسُ، إذا كان لا يسمع ولا يتبيَّن الأصوات التي تخرج من فيه، على معناه، ويقال في غير الإنسان، على غير ذلك، قال كثيِّر:

سَلِمْتِ وأسقَاكِ السّحَابُ البوارقُ

 

ألم تَسْألي يا أمّ عَمْرٍو فَتُخْبَـرِي

ونعق ولم يُسْمَعْ لهـن صـواع

 

بكياً لِصَوْتِ الرَّعدِ خرس روائح

وتقول العرَب: مازلت تحت عينٍ خرساء، والعين: السحابة تبقى أيّاماً تمطر، وإذا كثر ماؤها وكثُف، ولم يكن فيها مخارق تُمدحْ ببرق.
سرعة الضوء وسرعة الصوت ومتى رأيتَ البرقَ سَمِعتَ الرَّعْدَ بعدُ، والرَّعدُ يكون في الأصل قبلَه، ولكنَّ الصَّوتَ لا يصل إليك في سرعة البرق؛ لأنَّ البارقَ والبصر أشدُّ تقارباً من الصَّوتِ والسَّمْع، وقد ترى الإنسانَ، وبينك وبينه رحْلهُ فيضرب بعصاً إمَّا حجراً، وإمّا دَابَّةً، وإمَّا ثوباً، فترى الضَّرْب، ثمّ تمكثُ وقتاً إلى أن يأتيَك الصَّوت.

السحابة الخرساء

فإذا لم تصوِّت السَّحابةُ لم تبشِّر بشيءٍ، وإذا لَمْ يكن لها رِزٌّ سمِّيت خَرْساءَ.

الصخرة الصماء

وإِذا كانت الصَّخرةُ في هذه الصِّفة سمِّيت صماءَ، قال الأعشَى:

مَكْرُوهَةٌ يخشى الكُمَاةُ نِزَالهَا

 

وإذا تجيءُ كتيبةٌ ملـمُـومَةٌ

وعلى غير هذا المعنى قال كثيِّر:

من الصُّمِّ لو تمشي بها العصْمُ زَلَّتِ

 

كأني أنادي صَخْرَةً حين أعْرَضَـتْ

ومن هذا الشّكل قولُ زُهير:

إلا المشيَّعُ ذُو الفُؤَاد الهادي

 

وَتَنُوفَةٍ عَمْياءَ لا يَجْتـازُهـا

وذِراعٌ مُلْقِيَةِ الجِرَانِ وسِادِي

 

قَفْرٍ هَجَعْتُ بها ولستُ بنـائِمٍ

لَحَّاظةٍ طَفَلَ العشيِّ سِـنَـادِ

 

وَوَقَعْتُ بَيْنَ قُتُودِ عنْس ضَامِرٍ

فجعل التَّنُوفَةَ عَمْياءَ، حين لَمْ تكن بها أمارات.

الزبابة

ودابَّة يقال لها الزَّبابَة، عمياء صَمَّاء، تشبه الفأرة؛ وليست بالخُلْد؛ لأنَّ الخُلْدَ أعمى وليس بأصمّ، والزبَاب يكون في الرَّمل، وقال الشاعِر:

لا تَسْمَعُ الآذَانُ رَعْدَا

 

وَهمُ زَبَـابٌ حـائر

وكلُّ مولودٍ في الأَرض يُولد أعمَى، إن كان تأويل العمى أنّهُ لا يُبصر إلاّ بعد أيام، فمنه ما يفتح عينيه بعد أيَّامٍ كالجِرْوِ؛ إلاّ أولادَ الدّجاج؛ فإنَّ فراريجها تخرُج كاسِيَة كاسِبة.
شعر فيه مجون وقال أبو الشمقمق - وجعل الأيْر أعمى أصمَّ على التشبيه - فقال:

وصوِّت له بالحارثِ بن عُبـادِ

 

فسلِّمْ عليه فاتِرَ الطرْفِ ضاحكاً

مُعَاوِدِ طَعْنٍ جَـائفٍ وسـنـاد

 

بأصْلَعَ مِثْلِ الجرْوِ جَهْمٍ غَضَنْفَرٍ

يسير على مَيْلٍ بـغـير قـيادِ

 

أصمّ وأعْمَى يُنْغِضُ الدَّهْرَ رَأسَهُ

قول لمن زعم أن النعامة تسمع وقال مَنْ زعَم أنَّ النَّعامة تسمع: يدلُّ على ذلك قول طَرَفَة:

أمْ هَلْ بِرَبْع الجميعِ مِنْ أَنَسِ

 

هَلْ بِالدِّيارِ الغَدَاةَ من خَـرَسِ

وَجُؤذَُرٍ يَرْتَعِي على كَنَـسِ

 

سِوَى مَهاة تَقْـرُو أَسِـرَّتَـه

متى تَرُعْهُ الأَصْوَاتُ يهتَجِسِ

 

أو خضابٍ يرتعي بهِقْلَـتِـهِ

 

 

فقد قال طَرَفة كما تـرى:

 

 

متى ترُعْهُ الأصوات يهتجس

وقال الآخر: جوابُنا في هذا هو جوابنا فيما قبله.
فكاهة وروى الهيثم بنُ عديٍّ، وسمعه بعضُ أصحابنا من أبي عبيدة، قال: تضارَط أعرابيَّان عند خالد بن عبد اللّه، أحدُهما تميميٌّ والآخر أزْديٌّ فضَرَط الأزْديُّ ضَرْطَةً ضئيلة، فقال التميميّ:

حَبَقْتُ لأَسْمَعْتُ النّعَامَ المشَرَّدَا

 

حَبَقْتَ عَجِيفاً مُحْثَلاً ولَوَ أنَّنِـي

يبذُّ هَزيمَ الرَّعْدِ بدءَا عَمـرّدَا

 

فمرَّ كمٍّر المنْجَنِيق وصَوْتُـهُ

من لقبه: نعامة وزعم أبو عمرو الشَّيبانيُّ عن بعض العرب، أنَّ كلّ عربيّ وأعرابيّ كان يلقَّب نَعامة، فإنما يلقَّب بذلك لشدّة صَمَمِه، وأنّهُ سأله عن الظليم: هل يسمع? فقال: يَعرِفُ بأنفه وعينِه، ولا يحتاج معهما إلى سمْع، وَأَنْشَدَنِي:

ولا عَرْفَ إلاّ سَوْفُهَا وَشَمِيمُها

 

فجئْتُكَ مِثْلَ الهِقْلِ يشتمُّ رَأْلَـهُ

وزعم أَنَّ لَقَبَ بيهس نَعامةٌ، وأنه لقِّب بذلك لأَنّه كان في خُلُق نعامة، وكان شديدَ الصَّمَم مائقًا، فأنْشَدَ لعديِّ بن زَيد:

قَصِيرٌ وَخاضَ المَوْتَ بالسَّيْفِ بَيْهَسُ

 

وَمِنْ حَـذَرِ الأَيَّامِ مَـا حَـزّ أَنْـفـهُ

تَبَيَّنَ في أَثْـوَابـهِ كـيفَ يَلْـبـسُ

 

نعامةٌ لَمَّا صرّع الـقـومُ رَهْـطَـهُ

وقال المتنخِّل الهذَليٌّ وذكر سَيْفاً:

خَدْباءُ كالعَطِّ من الخِذْعِلِ

 

مُنْتَخَبُ اللّبِّ لهُ ضَـرْبَة

يقول: هذا السَّيف أهوجُ لا عَقْل له، والخَدَب في هذا الموضوع: الهوَجُ، وتهاوِي الشيءِ لا يَتَمَالك، ويقال للسِّيف لا يُبالِي ما لَقِيَ.
شعر في النعام والتشبيه به وقال الأعشى في غير هذا الباب:

إذا جُلِيَتْ بَعْدَ إقْعَـادِهـا

 

كَحَوْصَلة الرَّالِ في جَرْيِهَا

كحوصلة الرَّأل يصف الخَمْرَ بالحمرة، جليت: أخرجت؛ وهو مأخوذ من جَلوة العروس القاعدة، إذا قَعَدَت عن الطَّلَب، ومثله في غَير الخمر قولُ علقمة:

كأَنَّهُنَّ إذا بَرَّكْـنَ جُـرثـومُ

 

تأوي إلى حِسْكِلٍ حُمْرٍ حواصِلُه

وقال الأخنس بن شهاب:

إمَاءٌ تُزَجِّي بالمسَاءِ حَواطبُ

 

تظِلُّ بها رُبْدُ النَّعامِ كأنَّـهَـا

تُزجِّي: تَدْفَعُ؛ وذلك أَنَّهُ يثقل ِحِملها فتمشي مِشْيَة النَّعامةِ، وقال الرَّاجز:

رَتَكَ النَّعامُ إلى كَثِيفِ العَرْفَجِ

 

وإذا الرِّياحُ تَرَوَّحَتْ بِعَشِـيَّةٍ

والرّتَكُ: مشْيٌ سريع، يقول تبادِرُ إلى الكثيف تستتر به من البَرْد، وقال:

رَتْكَ النّعامةِ في طريقٍ حامِ

استقبال الظليم للريح  وليسَ لقولِ مَنْ زعَم أنَّ الظليم إذا عدا استقْبَل الرِّيح، وإنّمَا ذلك مخافَةَ أن تكونَ الرِّيحُ من خلفه فتَكبِتَه - معنى؛ لأنَّا نجدُهم يصفون جميع ما يستدعونه باستقبال الرِّيحِ، قال عَبْدة بن الطَّبِيب، يصف الثَّور:

لسانُه عَنْ شِمالِ الشِّدْقِ مَعْدُولُ

 

مستقبل الرِّيح يهفُو وَهوَ مُبْتَرِكٌ

ووصف الذِّيبَ طُفيلٌ الغَنَويُّ، فقال:

عَلَى شَرَفٍ مُسْتَقْبلَ الرِّيح يلحَب

 

كسيدِ الغَضَا العادِي أضَلَّ جِرَاءَهُ

استطراد ويُلحَقُ بموضع ذِكْر الضَّربِ الشديد، قولهم في المثَل: ضَرَبْنَاهُمْ ضَرْبَ غَرَائبِ الإبِلِ، قال أبو حيّة:

 

جَدِيرُونَ يَوْمَ الرَّوْعِ أَنْ يخْضِبُوا القَنَاوَأَنْ يترُكُوا الكَبْشَ المدجَّجَ ثاويا

غرائب تـــغـــشـــاهُ حِـــراراً ضـــــــواريا

 

ضَرَبْنَاهُمُ ضرب الجنابَى على جبًى




وإذا جاءت عِطاشاً قَدْ بَلَغ منها العطشُ واليُبْسُ، قيل: جاءَتْ تَصِلُّ أجوافُها صَليلاً، قال الرَّاعي:

لِلماءِ في أجوافهِنَّ صَلـيلاَ

 

فَسَقَوا صَوَادِيَ يَسْمَعُون عِشيَّةً

قال: وأنشدنا أبو مَهديَّة، لمزاحمٍ العُقَيليّ:

تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَِيزاء مَجْهَل

 

غَدَتْ مِنْ عَليه بعدَ مَا تمّ ظِمْؤُهَا

قال الزَّيزاءُ: المكان الغليظ.
وقال آخر:

إِذا عَبْرَةٌ نَهنَهتُهـا فَـتَـجـلَّـتِ

 

ألمْ تَعلمي يا أمَّ حَـسَّـانَ أَنَّـنِـي

إذا قُرِعَتْ صِفْراً مِنَ الماءِ صلَّتِ

 

رجَعت إلى صَدْرٍ كجرَّةِ حَنْـتـمٍ

اختبار أمير المؤمنين المننصور لأحد الحواء وزعَمَ ابن أبي العجوز الحَوّاءُ، أنَّ الأفاعيَ صُمٌّ، فلذلك لا تُجيب الرُّقَى، ثُمَّ زعم لي في ذلك المجلس أنَّ أميرَ المؤمِنينَ المنصورَ، أراد امتحان رُقَى حَيَّةٍ وأنْ يتعرّف صحَّتها من سُقْمها، وأنَّهُ أَمَرَ فصاغوا له أَفْعًى من رَصاص، فجاءَت ولا يشكُّ النَّاظر فيها؛ وأنَّهُ أمر بإلزاقها في موضعٍ من السَّقف؛ وَأَنَّهُ أحضرهُ وقال له: إنَّ هذه الأفعى قد صارَتْ في هذه الدّارِ، وقد كرِهْتُهَا لمكانِهَا؛ فإِن احْتَلْتَ لي برُقْيَةٍ، أو بما أحببْتَ أحسنتُ إليك، قال: إن أَرَدْتُ أَنْ آخذها هَرَبَتْ، ولكنْ أرقيها حتى تنزل فرقاها فلما رآها لا تتحرَّكُ زادَ في رفْع صوتِه وألقى قِنَاعَهُ، فلما رآها لا تتحرَّكُ نزعَ عِمامَتَهُ وزاد في رفعِ صوتِه، فلما رآها لا تتحرَّك نزَعَ قلنسُوتَهُ وزادَ في رفْعِ صوتِه، فلما رآها لا تتحرَّك نَزَعَ ثِيابَهُ، وزادَ في رَفْعِ صَوْتِهِ، حَتَّى أزْبَد، وتمرّغَ في الأرض، فلما فعل ذلك سال ذلك الرّصاصُ وذابَ، حتى صار بينَ أيديهم، فأقرّ عند ذلكَ المنصورُ بجودَةِ رُقيته.
فقلت له: ويلك زعمتَ قُبَيْلُ أَنَّ الأَفَاعِيَ لا تُجيب الرُّقَى؛ لأنها لا تسمع، وهي حيوان، ثمَّ زعمتَ أَنَّها أجابت، وهي جماد.
شعر وخبر في نفار النعامة وقال الشَّاعِرُ:

سِوَى الرُّبْدِ من أنْسٍ بتلك المجاهِلِ

 

وربداء يَكِفيها الشَّميمُ ومـا لَـهـا

يخبر أنَّ النّعامة لا تستأنسُ بشيءٍ من الوحْش، وَأَنَّ الشَّمّ يغنيها في فهم ما تحتاج إليه، وهي مع ذلك إذا صارتْ إلى دور النّاس، فليس معها من الوحْشة منهم، على قدر ما يذكرون، وفي الوحش ما يأنس، وفيها ما لا يأنس، وقال كثيِّر:

وَإنْ شَحَطَتْ دارٌ وَشَطّ مَـزَارُهـا

 

فأقْسَمْتُ لاَ أَنْسَاكِ ما عِشْـتُ لَـيْلَةً

بِبيض الرُّبا أنسـيُّهـا وَنَـوَارُهَـا

 

وما استَنّ رَقراقُ السّرَابِ وما جَرَتْ

ووصف بلاداً قفاراً غيرَ مأنوسة فقال:

قُرْبَهَا غيرَ رابداتِ الـرِّئَال

 

ما تَرَى الْعَيْنُ حولَها مِنْ أنِيسٍ

خصّها بالذِّكْر؛ لأنها أَنْفَرُ وأشرَد، وَأَقَلُّ أنْساً من جميع الوحش.
وقال الأحيمر: كنتُ آتي الظَّبْيَ حتى آخُذَ بذراعيه؛ وما كان شيءٌ من بهائِم الوحْش ينكرُني إلاّ النّعام، وَأَنْشَدَ قَوْلَ ذي الرُّمّة:

أخو الإنْسِ من طُول الخَلاءِ المغفّلِ

 

وكلّ أَحَمِّ الـمـقْـلـتـين كـأنّـهُ

يدلّ على ذلك في قَدْرِ ما شاهدنا أنّهم يخرجون إلى الصّحارى الأغفال، التي لم يُذْعَر صيدُها، ولا يطَؤُها النَّاس، فيأتون الوحْشَ فوضَى هَمَلاً، ومعهم كلابُهم وفهودُهم تتلوى بأيديهم، فيتقدّمون إلى المواضع التي لو كانوا ابتدؤوا الصّيْدَ مِنْ جهتها لأخَذُوا ما أخذوا فإذا نفرَتْ وحوش هذه الأرْضِ، ومرَّت بالأرْضِ المجاوِرَةِ لها، نفرت سُكّانُ تلك الأرضِ مع هذه النّوافر، ولا تعودُ تلك الصحارى إلى مثل ما كانت عليه، مِنْ كثْرَة الوَحْشِ حيناً.
ومتى لم تنفِّرها الأعرابُ بالكلابِ والقِسيِّ، ونصْب الحبائل، رتَعتْ بقُربهم، ثمَّ دنتْ منهُمْ أوَّلاً فأوَّلاً، حتى تطأ أكنافَ بيوتهم، وهي اليوم في حَيْرِ المعتصم باللّه والواثق باللّه على هذه الصِّفة.
هجرة الظباء إلى الناس وخبّرني إبراهيم بْنُ السِّنديِّ قال خبرني عبدُ الملك بنُ صالح، وإسحاق بن عيسى، وصالحٌ صاحب الموصِل، أَنّ خالدَ بنَ بَرْمَكَ، بينا هو على سطحٍ من سُطوح القُرى مع قَحْطَبَةَ، وهم يتغدّون، وذلك في بَعض منازلهم، حين فصلوا من خُراسَانَ إلى الجبل، قال: وبين قَحْطَبَةَ وبين الأعداء مَسِيرَةُ أيَّامٍ وليال، قال: فبينا خالدٌ يتغدَّى معه وذلك حين نزلوا وبهم كَلاَلُ السَّير، وحينَ عَلّقُوا على دوابِّهم، ونصبوا قُدُورَهُمْ، وَقَرَّبُوا سُفَرَهُمْ.
قال فَنَظَرَ خالدٌ إِلى الصَّحراءِ، فرأى أقَاطيع الظِّباءِ قد أقبَلتْ من جهة الصَّحَارَى، حتى كادت تخالِطُ العَسْكَر، فقال لِقَحْطَبَةَ: أَيُّهَا الأمير نَادِ في النَّاس: يا خَيلَ اللّه ارْكَبي؛ فإنّ العدوّ قد حثّ إليكَ السَّير، وغاية أصحابك أنْ يسرِجوا ويُلجموا قبل أن يروا سَرَعان الخيل، فقام قحطبة مذْعوراً، فلما لم ير شيئاً يَرُوعه، وَلَمْ يَرَ غُباراً قال لخالد: ما هذا الرّأيُ قال: أيُّها الأمير لا تتشاغل بي وبكلامي، وَنَادِ في النَّاس، أما تَرَى أقاطيعَ الوحْش قد أقبلت، فارقت مواضعَها حتَّى خالطت الناس? إنّ وَرَاءَهَا جَمْعاً عظيماً، قال: فواللّه ما ألجموا وَأَسْرَجُوا حتى رَأَوْا ساطِعَ الغُبَار، ولا تلبَّسوا وتسلَّحوا حَتَّى رأوا الطليعة، فما التأموا حَتى استوى أصحابُ قحطبة على ظُهورِ خيولهم، ولولا نَظْرَةُ خالد بنِ برمَكَ وُفِراستُهُ، لقد كان ذلك الجيش اصطُلِم.
قصة في قوة الشمّ وكان إِبراهيم بنُ السِّنديِّ يُحَدِّثُنا مِنْ صدقِ حِسِّ أبيه في الشَّمِّ، بشيءٍ ما يُحكى مثلُهُ إلاَّ عن السِّباع والذَّرّ والنَّعام، وزعم أنَّ أباه قال ذات يوم: أجدُ ريحَ بولِ فأرة ثمَّ تَشَمّمَ وأَجَالَ أَنْفَهُ في المجلس، فقال: هو في تلك الزّاوية فنظروا فإذا على طرف البِساط من البلَلِ بقدْر الدِّرْهم، أو أَوْسَعُ شيئاً، فقضَوْا أَنَّهُ بولُ فأرة.
قال: وَشَهِدْتُهُ مَرَّةً وَأَشْرَاطُهُ قيامٌ على رأسِه في السِّمَاطين، فقال: أجدُ رِيحَ جَوْرَبٍ عَفِنٍ مُنْتن فتشمَّمْنا بأجمعنا، فلم نَجِدْ شَيْئاً، ثمَّ تشمَّمَ وقال: انزَعُوا خُفَّ ذاك، فنزعوا خُفّه، فكلَّما مدَّ النازعُ له شيئاً بدا من لِفافَته، فما زَال النَّتْنُ يَكْثُفُ ويزدادُ، حتى خَلَعَ خُفَّهُ ونزَعَهُ مِنْ رِجْله، فَظَهَرَ من نَتْنِ لِفَافَتِهِ ما عُرِفَ به صِدْقُ حسِّه، ثمَّ قال: انزَعُوا الآنَ أَخْفَافَكُمْ بأجمعكم، فلا بُدَّ من ألاَّ يكونَ في جميع اللَّفائفِ مُنْتِنٌ غيرُ لِفافته، أو تكونَ لِفافتُه أنتَنها؛ فَنَزَعُوا، فلم يَجِدُوا في جميعها لِفافةً منتنةً غيرها.
وَأَنْشَدُوا:

ثَناءً كنَتْنِ الجوربِ المتخـرِّقِ

 

غزا ابْنُ عُميرٍ غَزوةً تركت لنا

أقوى درجات التشمم  وليس الذي يُحكَى من صِدق الحسِّ في الشَّم - عن بعض النَّاس، وعن النَّعام والسِّباع، والفأر والذَّرّ، وضروبٍ من الحشرات - من شكل ما نطق به القرآنُ العظيمُ، من شأن يعقوبَ ويوسفَ عليهما الصلاة والسَّلام حين يقول تعالى: "قَالَ أَبُوهُمْ إنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ، قَالوا تَاللّهِ إنَّكَ لفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ"، وكان هذا من يعقوبَ بعد أنْ قال يوسف: "اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ"، ولذلك قال: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ" ثمَّ قال: "فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً".
وإنّمَا هذا علامةٌ ظهرَتْ له خاصة؛ إذ كان النَّاسُ لا يشتمُّون أرواحَ أولادِهم إذا تباعَدُوا عن أنوفهم، وما في طاقة الحصان الذي يجدُ ريح الحِجْر ممَّا يجوزُ الغَلوتين والثَّلاث، فكيف يجِدُ الإنسانُ وهو بالشَّام ريحَ ابنه في قميصه، ساعَةَ فَصَلَ من أرض مصر? ولذلك قال: "أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".
بعض المجاعات وقد غَبَرَ موسى وهو يَسِيرُ أَرْبَعِينَ عَاماً، لا يذوق ذَوَاقاً، وجاع أهل المدينة في تلك الحُطْمَةِ ، حتى كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يشدُّون الحَجَرَ على بُطُونِهِمْ، من الجُوعِ والجَهْد ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين يقول: إنِّي لَسْتُ كأَحَدِكُمْ، إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي، يُطْعِمُنِي وَيَسْقِيني.
حجاج في ذبح الحيوان وقتله ورجَالٌ مِمَّنْ ينتحل الإسلام، يُظهِرُونَ التقذُّرَ من الصَّيدِ، وَيَرَوْنَ أنَّ ذلكَ من القَسوة، وَأنَّ أصحابَ الصَّيدِ لَتُؤَدِّيهم الضَّراوةُ التي اعترتهم مِنْ طرُوقِ الطَّيرِ في الأوكار، وَنَصْبِ الحبائل للظِّباء، التي تنقطع عن الخشْفَانِ حتى تموتَ هُزْلاً وجُوعاً، وإشلاء السِّباعِ على بهائِم الوحش وًسَتُسْلِمُ أهلَها إلى القَسْوة، وإلى التهاوُن بدماء النَّاس.
والرَّحْمةُ شكلٌ واحد، وَمَنْ لم يَرْحَمِ الْكَلْبَ لم يَرْحَمِ الظَّبيَ، وَمَنْ لَمْ يرْحَم الظَّبيَ لَمْ يَرْحَمِ الجَدْيَ، وَمَنْ لَمْ يَرْحَمِ الْعُصْفُوُرَ لَمْ يَرْحَمِ الصَّبيَّ، وصِغارُ الأمور تؤدِّي إلى كبارها.
وليسَ ينبغي لأحدٍ أن يتهاونَ بشيءٍ ممَّا يؤدي إلى القَسْوة يَوماً مَا، وأكثَرُ ما سمعت هذا البابَ، مِنْ نَاسٍ من الصُّوفِيّة، ومن النَّصَارَى؛ لمضَاهاة النَّصارى سبيلَ الزَّنَادِقَة، في رفضِ الذبائح، وَالْبُغْضِ لإراقة الدِّماءِ، وَالزُّهدِ في أكل اللُّحْمَانِ.
وقد - كان يرحَمُك اللّه - على الزِّنديق ألاَّ يأتي ذلك في سِبَاع الطَّيرِ، وذواتِ الأربع من السّباع، فأما قتْلُ الحَيَّةِ والعقرب، فما كان ينبغي لهم الْبَتَّةَ أَنْ يَقِفُوا في قتلهما طَرْفَةَ عَينٍ؛ لأنَّ هذه الأمورَ لا تخلو مِنْ أن تكونَ شرًّا صِرْفاً، أو يكون ما فيها من الخير مغْموراً بما فيها من الشرِّ، والشَّرُّ شيطانٌ، والظُّلمة عدُوُّ النُّور، فاستِحْياءُ الظلمة وأنتَ قادرٌ على إماتتها، لا يكونُ من عمل النُّور، بل قد ينبغي أن تكونَ رحمة النُّورِ لجميعِ الخلائِقِ والنَّاس، إلى استنقاذهما من شُرور الظّلمة.
وكما ينبغي أن يكون حَسَناً في العقْل استحياءُ النُّور والعمَلُ في تخليصه والدَّفْعُ عنه - فكذلك ينبغي أنْ يكونَ قتْلُ الظُّلْمة وإماتتُها، وَالعَوْنُ على إهلاكها، وتوهينِ أمرها - حسناً.
والبهيمة التي يَرَوْنَ أن يدفعُوا عنها أيضاً ممزُوجة، إلاَّ أنَّ شَرّهَا أقلُّ، فهم إذا استَبْقَوْها فقد استبْقَوا الشُّرورَ المخالطَة لها.
فإنْ زَعموا أنَّ ذلك إنَّما جاز لهم؛ لأنَّ الأغلب على طِباعها النُّور فلْيغتفروا في هذا الموضعِ إدخالَ الأذى على قليل ما فيها من أجزاء الشَّرِّ كما اغتفروا ما في إدخال الروح والسُّرور على ما في البهيمة من أجزاء الظُّلْمة لدفعهم عن البهيمة؛ إذْ كان أكثر أجزائها من النُّور.
 وإِنَّما ذكرتُ ما ذكرت؛ لأنَّهم قالوا: الدَّليلُ على أنَّ الذي أنتم فيه، مِنْ أكل الحيوان كلَّ يومٍ من الذبائِح، مكروهٌ عِنْدَ اللّهِ، أَنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا قطُّ ذبّاحي الحيوان ولا قَتَّالي الإنسان، ولا الذين لا يقْتاتون إِلاَّ اللّحْمَان يفلحون أبداً، ويستغنون؛ كنحو صيَّادِي السّمك وصيَّادي الوحْش وأصناف الجزَّارِين والقَصَّابين، والشَّوّائين والطهَّائين والفهَّادِين والبيَازِرة والصَّقَّارِينَ والكلابين؛ لا ترى أَحَداً منهم صار إلى غِنًى وَيُسْرٍ، ولا تراهُ أبداً إلا فقيراً مُحَارَفاً، وعلى حالٍ مشبهَةٍ بحاله الأولى.
وكذلك الجلادون، ومن يضرِبُ الأعناقَ بين يَدَي المُلوكِ، وكذلك أصحابُ الاستخراج والعذَابِ، وإن أصابوا الإصابات، وجميع أهل هذه الأصناف.
نَعَمْ؛ وَحَتَّى ترى بعضَهم وإن خَرَجَ نَادِراً خارجيّاً، ونال منهم ثَروةً وَجَاهاً وسُلطاناً، فإمَّا أن يقْتَلَ، وإمّا يُغْتَصَبَ نَفْسَهُ بميتَةٍ عاجلة، عندَ سرورِه بالثَّروة، أو يبعث اللّه عليه المحق فلا يَنْمُو له شيء، وإما ألاَّ يجعل مِنْ نسلهم عَقِباً مذكوراً، ولا ذِكْراً نبيهاً وَذُرِّيَّةً طَيبةً، مثل الحجّاج بن يوسف، وأبي مسلم، ويزيد بن أبي مسلم ومثل أبي الوعد، ومثل رجَالٍ ذكروهم لا نحبُّ أن نسميهم.
قال: فإنَّ هؤلاءِ، مع كثرة الطَّرُوقَةِ وظُهُورِ القدْرة، ومع كثرة الإنسال، قد قَبَحَ اللّه أمرَهم، وأخْمَلَ أولادَهم، فهم بين مَنْ لم يُعقِبْ، أو بَيْنَ مَنْ هُوَ في معنى مَن لم يُعقب.
فقلت للنّصَارَى بديّاً: كيف كان النّاسُ أيَّامَ الحُكم بما في التَّوْراة أيَّامَ موسى وَدَاودَ، وهما صاحبا حُروبٍ وَقَتْلٍ، وَسِبَاءٍ وذبائحَ? نعم حتى كان القُربان كُله أو عَامَّتُهُ حيواناً مذبوحاً، لذلك سَمَّيتم بيت المَذْبحِ.
وَلَسْنَا نسألكم عن سِيرَة النَّصارَى اليومَ، ولكِنَّا نسألُكُمْ عَنْ دينِ مُوسى وَحُكْمِ التَّوْراةِ، وَحُكْمِ صاحب الزَّبور، وما زالوا عندكم إلى أن أنكروا رُبُوبِيّةَ المسيح، على أكثَرَ من حالنا اليومَ في الذبَائح، وأنتم في كثيرٍ من حالاتكم تُغْلُونَ علينا السَّمَكَ، حتى نتوخَّى أيّاماً بأعيانها، فلا نشترِي السَّمَكَ إلا فيها؛ طلباً للإمكانِ والاسْتِرْخَاصِ، وهي يومُ الخَميسِ، ويوم السّبْتِ، ويومُ الثُّلاثاء؛ لأنَّ شراءكم في ذلك اليومِ يَقِلُّ، على أنَّكم تُكْثِرُونَ مِنَ الذَّبائِح في أيَّام الفِصْح، وهلْ تَدَعُونَ أكْلَ الحيوانِ إلاّ أيّاماً معدودةً، وساعاتٍ مَعْلومةً?.
فإذا كانت الحِرْفةُ والمحن إنَّما لزِمَا القصَّابين والجزَّارِين والشَّوَّائين، وأَصنافَ الصّيَّادين، من جهة العقوبة - فأنتمْ شركاءُ صيَّادِي السَّمَكِ خَاصّةً؛ لأنَّكم آكَلُ الخلْقِ له، وأنتم أيضاً شُرَكَاءُ القصَّابين في عامَّة الدّهْرِ، فلا أنتم تَدِينُونَ للإسلام فتعرفوا ما عليكم ولكم، وفصْل ما بين الرّحمةِ والقَسوة، وما الرَّحمة، وفي أيِّ موضعٍِ يكونُ ذلك القتلُ رحمَةً? فقد أجمعوا على أنّ قَتْلَ الْبَعْضِ إحياءٌ للجميع، وَأنّ إصلاح النَّاس، في إقامةِ جزاءِ الحسنة والسيئة، "وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ".
وَالْقَوَدُ حَيَاةٌ، وهذا شيءٌ تَعْمَلُ به الأممُ كلها، غَيْرَ الزَّنَادِقَةِ، وَالزَّنَادِقَةُ لَمْ تَكُنْ قَطُّ أُمَّةً، ولا كان لها مُلْكٌ وَمَمْلَكَةٌ، وَلَمْ تزَلْ بَيْنَ مَقْتُولٍ وهاربٍ ومنافق، فلا أنتم زَنَادِقَةٌ، ولا ينكر لمن كان ذلك مَذْهَبَهُ أن يقول هذا القَوْلَ.
فأنتم لا دهْرِيَّة، ولا زَنَادِقَةَ، ولا مُسلمون؛ ولا أنتم رَاضُونَ بِحُكْمِ اللّهِ أيّامَ التّوراة.
فإن كانَ هذا الحكْمُ قد أمرَ اللّه به - وهو عَدْلٌ - فليس بين الزَّمَانَيْنِ فرق.
 وَبَعْدُ فَإنَّا نَجدُكم تَأْكُلونَ السَّمك أكْلاً ذَريعاً، وتتقذرون من اللُّحمانَ أفِلأنَّ السّمكَ لا يألَمُ الْقَتْلَ، أم لأنَّ السَّمكَ لَمَّا قتلتُمُوه بلاَ سِكِّين لم يُحِسَّ قَتلهُ? فالجميع حيوانٌ، وكلُّ مقتول يألَمُ، وكلٌّ يُحِسّ، فكيف صار أكْلُ اللَّحْمِ قَسْوَةً، وَأَكْلُ السَّمَكِ لَيْسَ بقَسوة?، وكيف صار ذبْح البهائمِ قسوة ولا تَكون تفرِقَةُ ما بين السَّمَكِ والماءِ حَتَّى تَموت قسوة وكيف صار ذبح الشَّاةِ قَسوَةً وصيدُ السمكِ بالسَّنَانير المذَرّبة المعقّفة ليس لها شعائِر تخالف العقاف المنصوص في جهاتها، وكيف وهي وإنْ لم تنشَبْ في أجوافها، وتَقْبِضْ على مجامع أرواحِها، لم تقدِرْ على أخْذِها?.
وكيف صار وَجْء اللَّبَّة من الجزور أقسى من ضَرْب النبائل? أم كيف صار طَعْن العَير بالرُّمح، ونصْبُ الحبائل للظِّباء، وإرسالُ الكلابِ عليها أشَدَّ مِنْ وقع النَّبائل في ظَهْرِ السّمَك?.
ولأنَّكُمْ تكْثِرونَ قَولَكُمْ: لا نأكل شيئاً فيه دمٌ أيّامَ صومِنا، فللسَّمك دمٌ، ولا بدَّ لجميع الحيوان من دمٍ أو شيءٍ يُشاكِلُ الدَّم، فما وجْهُ اعتلالِكم بالدَّم? ألأَنَّ كلَّ شيءٍ فيه دمٌ فهو أشدُّ ألماً? فكيف نعلم ذلك? وما الدَّليلُ عليه?.
فإن زعمتم أنَّ ذلك داخلٌ في باب التعبُّدِ والمصْلَحة، لا في باب القِياسِ والرَّحمَةِ والقَسْوة، فهذا باب آخر، إلاَّ أنْ تَدَّعُوا أنَّ ذَواتِ الدِّماء أقوى للأبدان، وآشَرُ للنُّفوس، فأردتم بذلك قلَّة الأشَرِ وضَعْفَ البدن، فإنْ كان ذلك كذلك فقد ينبغي أن يكونَ هذا المعنى مُستبيناً في آكلي السَّمَكِ من البحريين.
وأمّا ما ذكَرْتُم مِنْ مُلازَمةِ الحِرْفَة لهؤلاء الأصْناف، فإنَّ كلَّ مَنْ نزلَتْ صِناعَتُه، ودَقّ خَطَرُ تِجَارته، كذلك سَبيلُه.
وأحلُّ الكَسْبِ كُلِّه وأطْيَبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ النّاس سَقْيُ الماء، إمَّا على الظَّهر، وإمَّا على دَابَّة، ولم أرَ سَقَّاءً قَطُّ بَلَغَ حالَ اليَسارِ والثّروة وكذلك ضَرَّابُ اللّبِنِ، والطَّيّانُ، والحَرَّاثُ، وكذلك ما صَغُرَ من التِّجاراتِ والصِّناعاتِ.
ألا ترون أنَّ الأمْوالَ كثيراً ما تكونُ عند الكُتَّاب، وعندَ أصْحَابِ الجَوهرِ، وعندَ أصحابِ الوَشْيِ والأنماط، وعند الصّيارِفَةِ والحنَّاطين، وعند البحْريِّين والبصريين، والجُلاَّبُ أبداً، والبيازِرَة أيسر ممّنْ يَبْتَاع منهم.
وجُمَلُ الأموالِ حَقٌّ بأنْ تُربحَ الجُمَلَ مِنْ تفاريق الأموال، وكذلك سبيل القصّاب والجزّار، والشَّوّاءِ، والبازيار، والفَهَّاد.
وأمّا ما ذكرتم من انقطاعِ نَسْلِ القُساةِ، وخمولِ أولادِهم، كانقطاع نَسْل فِرعَونَ، وهامان، ونُمرُود، وبُخْت نَصّر، وأشباههم، فإنّ اللّه يقول: "وَلاَ تزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".
وإن شئتم أن تعدّوا من المذكورين بالصَّلاحِ أكثَرَ مِن هؤلاء ممّن كان عقيماً أو كان ميناثاً، أو يكونُ مِمّنْ نَبَتَ لهم أَوْلاَدُ سَوءٍ عقّوهُمْ في حياتهم، وعرّضوهُمْ للسَّبِّ بعد موتهم - لوجَدْتمُوهُمْ.
وعلى أني لم أَنْصِبْ نَفسي حَرْباً لِلْحَجّاجِ بن يوسف، ويزيد بن أبي مسلم، أتحرى بهما، وهما عِندي من أهل النَّارِ، ولكِنِّي عرَفْتُ مَغْزاكم، وعلى أنّكُمْ ليسَ الْقَصّابينَ أَرَدْتُمْ، وَلكِنَّكُمْ أَرَدْتُمْ دِينَ المسلِمين.
وَقَدْ خَرَجَ الحَجَّاجُ من الدُّنْيَا سَلِيماً في بَدَنِهِ، وظَاهِرِ نعمته، وعليِّ مرتَبَتِهِ من الملْك، وَمَكانِهِ من جَوازِ الأمْرِ وَالنَّهْي.
فإِنْ كان اللّه عِنْدَكُمْ سَلَّمَهُ وَعاقَبَ أولاَده، وكان ذلك دينَكم فإنّ هذا قولٌ إن خاطبتم به الجبْريّةَ فعسى أن تتعلّقُوا منهمْ بسبب فأمّا مَنْ صَحَّحَ القَوْلَ بالْعَدْل فإنّ هذا القولَ عِنْدَه من الخطأ الفاحش الذي لاَ شُبهَةَ فيه.
شعر في القانص وفقره وكان ممَّا أنشدُوا من الدَّلِيل على أنّ القانِصَ لا يزالُ فقيراً - قَوْلُ ذي الرّمةِ:

 

حَتَّى إذَا مَا لَهَا فِي الجَدْرِ وَاتَّخَذَتْشَمْسُ النَّهَار شُعَاعاً بينها طِبَبُ

كَأَنّـهُ حِـينَ يَعْـلُـــو عَـــاقِـــراً لَـــهَـــبُ

 

وَلاحََ أَزْهَرُ مَشْهُورٌ بِنُقْبَتِهِ

 

شَوَازبٌ لاَحَهَا التَّغْريث وَالجَنِبُ

 

هَاجَتْ بِهِ جُوّعٌ طُلْسٌ مُخَصَّـرَةٌ

 

 

مثلُ السَّرَاحِينِ في أعناقهَا الْعَذَبُ

 

جُرْدٌ مُهَرَّتَةُ الأشْـدَاقِ ضَـارِيَةٌ

 

 

ألفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ يكتَسـبُ

 

وَمُطعَمُ الصَّيْدِ هَبّالٌ لِـبُـغْـيَتِـهِ

 

 

إلاّ الضِرَاءَ وَإلاّ صَيْدَهَا نَشَـبُ

 

مقزَّعٌ أَطْلسُ الأطمَارِ لَـيْسَ لـه

 

 

يلحبن لا يأتلي المطلوبُ والطَّلبُ

 

فانصاعَ جَانِبَهُ الوَحْشِيَّ وَانْكَدَرَتْ

 








قال: فجعله كما ترى مقزَّعاً أطلسَ الأطمار، وخَبَّرَ أنّ كِلاَبَه نشَبُه، وأنَّه ألفَى أباه كذلك، وأنشَدُوا في ذلك قول الآخر:

رعى النبع والظيان في شاهقٍ وعر

 

وأعصم أنسته المـنـية نـفـسـه

بنيقٍ مزلٍ غـير كـدرٍ ولا نـزر

 

موارده قلتٌ تصفـقـه الـصـبـا

عليه غصونٌ دانياتٌ من السـمـر

 

قرته السحاب ماؤهـا وتـهـدلـت

هتوفٌ وأشباه تخيرن من حـجـر

 

أتـيح لـه طـلـحٌ إزاه بـكـفـه

لقوحاً ولا عنزاً وليس بـذي وفـر

 

أو صـبـيةٍ لا يسـتـدر إذا شـتـا

فطيم تناجيه وآخر في الـحـجـر

 

له زوجةٌ شمطاء يدرج حـولـهـا

تقتر هندياً بلـيلٍ عـلـى جـمـر

 

مشوهةٌ لم تعب طيبـاً ولـم تـبـت

تعرقها الأوذار من فقر الحـمـر

 

محددة العرقـوب ثـلـم نـابـهـا

تقدرها بالليل والأخـذ بـالـقـدر

 

مسفعة الـخـدين سـود درعـهـا

ولم تدر ما زي الخرائد بالمـصـر

 

كغول الفلاة لم تخضب بـنـانـهـا

فأنفذ حصينه فخر على الـنـحـر

 

فأرسل سهماً أرهف الـقـين حـده

مساءلة المنانية كان أبو إسحاق يسأل المنانِيَّة، عن مسألةٍ قريبة المأخَذِ قاطعةٍ، وكان يزعُمُ أنّهَا ليست له.
وذلك أنَّ المنانيَّةَ تزعُمُ أنَّ العَالمَ بما فيه، من عشرةِ أجناس: خمسةٌ منها خيرٌْ ونورٌ، وخمسةٌ منها شرٌّ وظُلْمَة، وكلُّها حاسَّةٌ وَحارَّة.
وأنَّ الإنسانَ مركَّبٌ مِنْ جميعِها على قدْر ما يكونُ في كلِّ إنسانٍ من رُجْحانِ أجناس الخير على أجناس الشَّرِّ، ورُجْحانِ أجْنَاسِ الشَّرِّ على أجناسِ الخير.
وأنَّ الإنسانَ وإن كان ذا حَواسَّ خمسةٍ، فإنَّ في كُلِّ حاسَّةٍ متوناً من ضدِّه من الأجْناس الخمسة، فمتى نَظَرَ الإنسانُ نظْرَةَ رحمةٍ فتلك النَّظْرَةُ من النُّور، ومن الخير، ومتى نَظَرَ نَظْرَةَ وعيدٍ، فتلك النَّظْرَةُ من الظلمة،وكذلك جميع الحواسِّ.
وأنَّ حاسَّة السَّمعِ جنسٌ على حِدَةٍ، وأنَّ الذي في حاسَّة البصر من الخير والنُّور، لا يعين الذي في حاسَّة السَّمع من الخيرِ ولكنه لا يضادُّهُ، ولا يُفاسِدُهُ، ولا يمنعه، فهو لا يعينه لمكان الخِلاف والجِنس، ولا يعين عليه؛ لأنَّهُ ليس ضِدّاً.
وأنَّ أجناسَ الشَّرِّ خلافٌ لأجناس الشَّرِّ، ضِدٌّ لأجناس الخير، وأجناسَ الخيرِ يخالفُ بعضُها بَعْضاً ولا يضادُّ، وأنَّ التَّعاونَ والتآدِي لا يقعُ بين مختلِفها، ولا بين متضادِّها، وإنما يقع بين متفقها.
قال: فيقال للمنانيِّ: ما تقول في رَجُلٍ قال لرجُلٍ: يا فلان، هل رأيت فلاناً? فقال المسؤول: نعم قد رأيتُه، أليسَ السَّامعُ قد أدَّى إلى النَّاظِرِ، والنَّاظِرُ قد أدّى إلى الذَّائِق? وإلاَّ فِلمَ قال اللِّسَانُ: نَعَمْ إلاَّ وقد سَمِعَ الصَّوْتَ صاحبُ اللِّسَانِ? وهذه المسألة قصيرةٌ كما ترى، ولا حِيلةَ له بأنْ يَدْفَعَ قَوْلَهُ.
مُساءَلَة زنديق  ومسألةٌ أخرى، سأل عنها أميرُ المؤمنين الزِّنديقَ الذي كان يكنى بأبي عليٍّ، وذلك عندما رأَى من تطويلِ مُحَمَّدِ بن الجهم وعجْز العُتبِي وسوءِ فهم القاسم بن سَيَّار، فقال له المأمون: أَسألُكَ عن حَرفين فقط، خبِّرني: هل ندِم مُسيءٌ قَطّ على إساءته، أو نكون نحنُ لم نندَمْ على شيءٍ كان منّا قط? قال: بل ندِم كثيرٌ من المسِيئينَ على إساءتهم، قال: فَخَبِّرْنِي عن النَّدَم على الإساءَة، إساءَةٌ أو إحسان? قال: إحسان، قال: فالذي ندم هو الذي أساءَ أو غَيْرُهُ? قال: الذي نَدِم هو الذي أساءَ، قال: فأُري صاحبَ الخير هو صاحب الشَّرِّ، وقد بطل قولكم: إنّ الذي ينظر نَظَرَ الوعيد غيرُ الذي ينظر نَظَرَ الرحمة، قال: فإني أزعم أنّ الذي أساءَ غَيرُ الذي ندِم، قال: فندم على شيءٍ كان منه أو على شيءٍ كان من غيره? فقطعه بمسألته، ولم يتُبْ ولم يرجِعْ، حتى مات، وأصْلاَه اللّه نارَ جَهنَّمَ.
شعر في هجو الزنادقة وقد ذكر حمَّادُ عجردٍ ناساً في هجائه لبشار، فقال:

أو كنت أعبد غير رب محمد

 

لو كنت زنديقاً عمار حبوتنـي

كالنضر أو ألفيت كابن المقعد

 

أو كنت عندك أو تراك عرفتني

جبل وما جبل الغوى بمرشـد

 

أو كابن حمادٍ ربـيئة دينـكـم

فجفوتني بغضاً لكل مـوحـد

 

لكنني وحدت ربي مخلـصـاً

والأرض خالقها لها لم يمهـد

 

وحبوت من زعم السماء تكونت

منه الحصيد ومنه ما لم يحصد

 

والنسيم مثل الزرع آن حصاده

وحمّادٌ هذا أشهر بالزّنْدَقَةِ من عُمارَة بن حربية، الذي هجاه بهذه الأبيات.
وأمَّا قوله:

وَحَبَوْتَ مَنْ زَعَمَ السَّمَاءَ تَكَوَّنَتْ

فليس يقول أحدٌ: إنّ الفلكَ بما فيه من التّدْبير، تكوَّنَ بنفسه ومِنْ نفسه فَجَهْلُ حمّادٍ بهذا المقدارِ من مقالة القَوْم، كأَنّهُ عندي ممّا يعرفه من براءَته الساحة، فإن كان قد أجابَهُمْ فإنما هو من مقلِّديهم.
وهجا حمّادُ بن الزِّبرقان، حماداً الراوية فقال:

ويقيمُ وقْتَ صَلاَتِـهِ حَـمَّـادُ

 

نِعْمَ الفَتَى لَوْ كَانَ يَعْرِفُ رَبَّـهُ

مِثْلُ الْقَدُومِ يَسُنّـهـا الـحـدّادُ

 

هدَلَتْ مَشَافرَهُ الدِّنَانُ فـأَنْـفُـهُ

فبيَاضُه يوم الحـسـابِ سَـوَادُ

 

وَابْيَضّ مِنْ شُرْبِ المُدَامَةِ وَجْهُهُ

فقد كان كما ترى:

مثـلُ الـقـــدوم ...

 

هدَلَتْ مَشَافِرَهُ الدنَانُ فأنفهُ

فقد رأيتُ جماعةً ممَّنْ يُعاقرُِون الشَّراب، قد عظمت آنُفهُمْ، وصارتْ لهم خراطيمُ، منهُمْ رَوْحٌُ الصّائغ، وعبدُ الواحد صاحب اللؤلويّ وجماعة من نَدْمانِ حمّاد بن الصّباح، وعبد اللّه أخو نهر ابن عسكر وناس كثيرٌ.
ويدلُّ على ذلك من المنافرَةِ قولُ جَرِيرٍ للأَخطل:

سكَرَ الدِّنَانِ كأَنَّ أَنْفكَ دُمّلُ

 

وشَرِبتَ بعد أبي ظهير وابنه

وكان منهم يُونس بن فروة، وفي يونس يقول حمّادُ عجرد:

من كبره أير الحمـار الـقـائم

 

أما ابن فروة يونـسٌ فـكـأنـه

والخلق عندك ما خلاك بـهـائم

 

ما الناس عندك غير نفسك وجدها

سيزول عنك وأنف جارك راغم

 

إن الذي أصبحت مفتـونـاً بـه

فرطت فيه كما يعض الـنـادم

 

فتعض من ندمٍ يديك على الـذي

وإخاهم لك بـالـمـعـرة لازم

 

فلقد رضيت بعصبةٍ آخـيتـهـم

أني لعرض في إخائك ظـالـم

 

فعلمت حين جعلتهم لـك دخـلة

ذكر بعض الزنادقة وكان حمّادُ عجرد، وَحَمَّاد الرّاوية، وحمّادُ بن الزّبرقان، ويونس بن هارون، وعلي بن الخليل، ويزيد بن الفيض، وعُبادة وجميل بن محفوظ، وقاسم، ومطيع، ووالبة بن الحباب، وأبانُ بن عبد الحميد، وعمارة بن حربية، يتواصلون، وكأنهم نفس واحدة وكان بشّارٌ ينكر عليهم.
ويونس الذي زعم حمادُ عجْردٍ أنّهُ قد غَرََّ نفسه بهؤلاءِ، كانَ أشهَرَ بهذا الرّأي منهم، وقد كان كتبَ كتاباً لملك الرُّومِ في مثالب العرب، وعيوب الإسلام، بزعمه.
هجاء في أبان والزنادقة  وذكر أبو نواسٍ أبانَ بْنَ عبد الحميد اللاّحقي، وبعضَ هؤلاء، ذِكْرَ إنسانٍ يَرَى لهم قَدْراً وخطراً، في هجائيّةٍ لأبان، وهو قوله:

لادر در أبــــان

 

جالست يومـاً أبـانـاً

أمير بالـنـهـروان

 

ونحن حضر رواق ال

ولـى أتــت لأذان

 

حتى إذا ما صلاة الأ

فصـاحةٍ وبـــيان

 

فقـام ثـم بـهـا ذو

إلى انقضـاء الأذان

 

فكل ما قال قـلـنـا

بذا بـغـير عــيان

 

فقال كيف شهـدتـم

تعـاين الـعـينـان

 

لا أشهد الدهر حتـى

فقال سبحان مـانـي

 

فقلت سبحـان ربـي

فقال من شـيطـان

 

فقلت عيسى رسـولٌ

مهيمـن الـمـنـان

 

فقلت موسى كلـيم ال

لةٍ إذاً ولـســـان

 

فقال ربـك ذو مـق

أم من فقمت مكانـي

 

فنفسـه خـلـقـتـه

بالكفر بالـرحـمـن

 

عن كافـرٍ يتـمـرى

بالعصبة المـجـان

 

يريد أن يتـســوى

والوالبي الهـجـان

 

بعجـردس وعـبـادٍ

ريحانة الـنـدمـان

 

وقاسمٍ ومـطـيعـس

وتَعَجُّبي من أبي نواس، وقد كان جالسَ المتكلمين أشدُّ من تعجُّبي من حَمَّادٍ، حين يَحكي عن قومٍ من هؤلاء قَولاً لا يقولهُ أحد، وهذه قُرَّة عَينِ المهجُوّ، والذي يقول: سبحانَ ماني يعظم أمر عيسى تعظيماً شديداً فكيف يقول: إنَّه من قِبَلِ شيطان?.
وأما قوله: فنفسه خلقَتْه أم من فإنَّ هذه مسألةٌ نجدُها ظاهرةً على ألْسُنِ العوامّ، والمتكلمون لا يحكُون هذا عن أحد.
وفي قوله: والوالبيِّ الهِجان دليلٌ على أنَّه من شكلهم.
والعجب أنَّه يقول في أبان: إنَّه ممَّن يتشبه بعَجْرد ومُطيعٍ، ووالبةَ بن الحباب، وعلي بن الخليل، وأصبغ وأبان فَوقَ ملء الأرضِ مِنْ هؤلاء، ولقد كان أبان، وهو سكرانُ، أصحَّ عَقلاً من هؤلاء وهم صحاةٌ، فأمَّا اعتقادُه فَلاَ أدري ما أقول لك فيه: لأنَّ النَّاس لم يُؤْتَوْا في اعتقادهم الخطأَ المكشوفَ، من جهة النظر، ولكنْ للِنَّاس تأسٍّ وعاداتٌ، وتقليدٌ للآباء والكُبراء، ويعملون على الهوى، وعلى ما يسبق إلى القلوب، ويستثقلون التَّحصيلَ، ويُهمِلون النَّظَرَ، حتى يصيروا في حالٍ متى عاودوه وأرادوه، نظروا بأبصار كليلة، وأذهان مدخُولة، ومع سوء عادَة، والنّفسُ لا تجيبُ وهي مُسْتَكرَهةٌ، وكان يقال:العقلُ إذا أكرِه عَمِي، ومتى عَمِي الطِّباعُ وجَسَا وغلط وأهمل، حتَّى يألف الجهل، لم يكد يفهم ما عليه وله، فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف، والسَّابق إلى القلب.

شعر لحماد عجرد

وقال حمَادُ عجْرَد:

ثمناً عنـدي ثَـمـينَـا

 

اعـلَـمُـوا أَنَّ لـوُدِّي

قَدْ أراكُمْ تَحْكُمُـونَـا

 

لَيْتَ شِعْرِي أَيَّ حُكْـمٍ

نَ وأنتـمْ تـأخـذونَـا

 

أَنْ تكونوا غَيْرَ مُعْطِي

في اسْتِ هذا الدِّينِ دينا

 

ابْنِ لُقْمَـانَ بـنَ عـادٍ

وما رأيت أحداً وضع لقمانَ بنَ عاد في هذا الموضع، غيرَه.
وقال حَمَّادُ عجردٍ في بشار:

ثمناً عنـدي ثـمـينـا

 

اعـلـمـوا أن لـودي

قد أراكم تحكمـونـا

 

ليت شعري أي حكـمٍ

ن وأنتـم تـأخـذونـا

 

أن تكونوا غير معطي

في است هذا الدين دينا

 

ابن لقمـان بـن عـادٍ

وما رأيت أحداص وضع لقمان بن عاد في هذا الموضع، غيره! وقال حماد عجردٍ في بشار:

ك لم تكن ذات اكتتام

 

يا ابن الخبـيثة إن أم

أير المضبر والعرام

 

وتبدلت ثوبـان ذا ال

بأرواث حـســام

 

ثوبـان دقـاق الأزز

ير يبيلها عند الرطام

 

عرد كقائمة الـسـر

بالمصمئلات العظام

 

وأتت سميعة بعدهـا

أن تسافح من قـيام

 

أخت لهم كانت تكابر

وقال حَمَّاد يذكر بشاراً:

سُمَيعة الناعية الفهرا

 

غزالة الرجسة أو بنتها

وقال وذكر أمّه:

ليَحقكُمْ أنْ تفرَحوا لا تَجزعُوا

 

أبَني غَزَالة يا بنِي جُشَمِ اسْتها

حماد عجرد وبشار

وما كان ينبغي لبشَّارٍ أنْ يناظِرَ حماداً من جهة الشعرِ وما يتعلَّقُ بالشِّعر، لأنَّ حمَّاداً في الحَضِيَض، وَبشَّاراً مع العَيُّوق، وليس في الأرض مولّد قَرَوِيٌّ يُعَدُّ شعرُه في المحدث إلاّ وبَشَّارٌ أشعرُ منه.
شعر في هجو بعض الزنادقة وقال أبو الشمقمق في جميل بن محفوظ:

وَقَدْ كانَ يعدُو عَلَى رِجْلِهِ

 

وهذا جميلٌ على بغـلـه

وَيرْجعُ صِفْراً إلى أهلِه

 

يَرْوحُ ويغدو كأَيْرِ الحمارِ

وأنَّ التَّزَنْدُقَ من شَكْلِـهِ

 

وقدْ زَعموا أَنَّه كـافـرٌ

وآذن ربُّكَ في قَـتْـلـهِ

 

كأني به قد دعاهُ الإمـامُ

غلو أبي النواس في شعره وأمّا أبو نُواسٍ فقد كان يتعرّضُ لِلْقَتْلِ بجهْدِه، وقد كانوا يعجَبون من قوله:

مَنْ رسُولُ اللّهِ مِنْ نَفَرِه

 

كيف لا يُدْنيك مِنْ أمَـلٍ

فلما قال:

واشكُرْ لها الجَزْلَ مِنْ مواهبها

 

فاحْبِبْ قُريشاً لحبّ أحَمـدِهَـا

جاء بشيء غطَّى على الأوَّلِ.
وأنكروا عليه قولَه:

لو أكثر التَّسْبيح ما نجَّاه

فلما قال:

قُمْ سَيِّدي نَعْصِ جَبَّارَ السَّموَاتِ

 

يا أحْمَدَ الْمرْتَجَى في كُلِّ نائبةٍ

غَطّى هذا على الأوَّل، وهذا البيت مع كفره مَقِيتٌ جداً، وكان يُكثِرُ في هذا الباب.
وأما سوى هذا الفنِّ فلم يعِرفُوا له من الخطإ إلاَ قولّه:

أنا مكان الدار لا أنطقُ

 

أَمستخبرَ الدّارِ هلْ تنطِقُ

بينَ ذَوي تَفْنِيدِهِ مُطْرِقُ

 

كأنها إذْ خَرِسَتْ جَـارِمٌ

فعابوه بذلك، وقالوا: لا يقول أحد: لقد سكت هذا الحَجَرُ، كَأَنَّهُ إنسانٌ ساكت، وإنما يُوصَف خَرَسُ الإنسانِ بخَرَسِ الدَّارِ، ويشبَّهُ صممه بصمَمِ الصَّخر.
وعابوه بقوله، حين وصف عَينَ الأسد بالجُحوظِ، فقال:

بارِزَةَ الجفْنِ عينُ مخنوقِ

 

كأَنَّ عَيْنَهُ إذا التـهـبَـتْ

وَهُمْ يَصِفُونَ عينَ الأسد بالغؤورِ، قال الرَّاجز:

كأنما يَنْظُرُ من جَوْفِ حَجَرْ

وقال أبو زُبَيد:

قِيضَا اقتياضاً بأطراف المناقير

 

كأَنَّ عَينيه في وَقْبَين من حَجَرٍ

ومع هذا فإنَّا لا نعرف بَعْدَ بَشَّارٍ أشعَرَ منه.
وقال أبو زُبَيد:

ترى فيهما كالجَمْرَتَينِ تَسَـعَّـرُ

 

وَعَينانِ كالوَقْبين في ملء صَخْرَةٍ

قصة راهبين من الزَّنادقة وحدَّثني أبو شُعيب القَلاَّلُ، وهو صُِفْرِيٌّ، قال: رُهبان ُالزَّنادقَةِ سَيّاحون؛ كأنهم جعلوا السِّياحَةَ بدلَ تعلقِ النَّسطوري في المطامير.
ومُقامُ المُلكانيِّ في الصَّوامع، ومُقامُ النَّسطورِيّ في المطامير.
قال: ولا يَسِيحون إلا أَزواجاً، ومتى رأيتَ منهم واحداً فالتفتَّ رأيتَ صاحبَه، والسِّياحة عندهم ألاَّ يبيت أَحَدُهم في منزل ليلتَين، قال: ويسِيحون على أربع خصال: على القُدْس، والطّهر، والصِّدق، والمسكنَة، فأمَّا المسكنة، فأَنْ يأكلَ من المسألة، وممَّا طابت به أنفُسُ النَّاس له حَتَّى لا يأكلُ إلاَّ من كسْبِ غيره الذي عليه غُرْمُهُ ومأثمه، وأمَّا الطهر فترك الجِمَاعِ، وأمّا الصِّدق فعلى ألاّ يكذبَ، وأما القُدْس فعلى أن يكتُمَ ذنبَه، وإن سئل عنه. قال: فدخل الأهوازَ منهم رجلان، فمضى أحَدُهما نحو المقابرِ للغائط، وجلس الآخَرُ بقربِ حانوتِ صائغٍ، وخرجت امرأةٌ من بعض تلك القُصُور ومعها حُقٌّ فيه أحْجارٌ نَفيسة، فلما صَعِدَت من الطَّريق إلى دكان الصَّائغ زلقت فسقَطَ الحقُّ من يدها، وظَليمٌ لِبعضِ أهل تلك الدُّور يتردَّدُ فلما سقَطَ الحُقُّ وبايَنَهُ الطّبََق، تبدّدَ ما فيه مِنَ الأحْجار، فالتَقَمَ ذلك الظَّليمُ أعظَمَ حَجرٍ فيه وَأَنْفَسهُ، وذلك بِعَيْنِ السّائح؛ ووثب الصّائغُ وغلمانهُ فجمَعُوا تلك الأحْجَارَ، وَنَحّوا النَّاسَ وصاحُوا بهم فلم يَدْنُ منهم أحَدٌ، وفقدوا ذلك الحجَر، فصرخت المرأةُ، فكشفَ القَوْمُ وتناحَوْا، فلم يصيبوا الحَجَرَ، فقال بعضهم: واللّهِ ما كان بقربنا إلاّ هذا الرّاهبُ الجالسُ، وما ينبغي أن يكون إلاّ معه فسألوه عن الحجر؛ فكِره أنْ يخبرَهم أنه في جوف الظليم فَيُذْبَحَ الظليمُ، فيكونَ قد شاركَ في دَم بعضِ الحيوان، فقال ما أخذْتُ شيئاً وبحثُوه وفَتّشُوا كلّ شيء معه وألحُّوا عليه بالضّرب، وأقبل صاحِبُهُ وقال: اتَّقُوا اللّهَ فأخذُوهُ وقالوا: دفعتَه إلى هذا حَتَّى غَيَّبَهُ فقال: ما دفعتُ إليه شيئاً فضرَبوهما ليموتَا، فبينما هما كذلك إذْ مَرَّ رَجُلٌ يَعْقِلُ، ففهم عنهُمُ القِصَّة، ورأى ظَليماً يتردّدُ فقال لهم: أكان هذا الظليمُ يتردَّد في الطريق حِينَ سقَطَ الحجر? قالوا: نعمْ، قال: فهو صاحبكم، فعوَّضُوا أصحابَ الظليم، وذبحوه وشقُّوا عن قانصته، فوجدوا الحجَر وقد نَقَصَ في ذلك المقدارِ من الزَّمانِ شَبيهاً بِشَطْره، إلاّ أنها أعطتْهُ لَوْناً صارَ الذي استفادُوه من جهةِ اللَّوْنِ أربحَ لهم من وزْنِ ذلك الشَّطر أنْ لَوْ كانَ لم يَذْهَبْ.
ونارُ القانصةِ غيرُ نارِ الحجَر.

القول في النِّيران وأقسامها

ونحنُ ذاكرِون جُمَلاً من القَول في النِّيرانِ وأجناسها، ومواضِعِها، وأيَّ شيء منها يضافُ إلى العجَم، وأيِّ شيء منها يضاف إلى العرَب، ونُخبِرُ عن نيران الدِّيانات، وغير الدِّيانات، وعمَّن عظَّمها وعمَّن استهانَ بها، وعمَّنْ أفرَطَ في تعظيمها حتَّى عَبَدَها، ونُخبِرُ عن المواضعِ التي عُظّمَ فيها مِنْ شأن النَّار.

نار القربان

فمن مواضعها التي عُظِّمَتْ بها أنَّ اللّه عزَّ وجلّ جعلها لبني إسرائيلَ في موضعِ امتحان إخلاصهم، وَتَعَرُّفِ صدق نياتهم ، فكانوا يتقرَّبون بالقرْبان، فَمَنْ كانَ منهم مُخلِصاً نزلتْ نارٌ من قِبَلِ السّماء حَتَّى تُحيطَ به فتأكُلَهُ، فإذا فَعَلَتْ ذلك كان صاحبُ القُرْبَان مُخْلِصاً في تَقَرُّبِه، ومَتَى لَمْ يَرَوْهَا وَبَقِيَ القُرْبَانُ على حَاله، قَضَوْا بأنَّه كانَ مدخولَ القلْب فاسِدَ النِّيةِ، ولذلك قال اللّه تعالى في كتابه: "الَّذينَ قَالوا إنَّ اللّه عَهِدَ إلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تأْكُلُه النّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مَنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ".
والدَّليل على أنّ ذلك قَدْ كَانَ معلوماً، قولُ اللّه عزّ وجلّ: "قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بالْبَيِّنَاتِ وَبالذِي قُلْتمْ" ثمَّ إنّ اللّه سَتَرَ على عبادِه، وجعَلَ بيانَ ذلك في الآخرة، وكان ذلك التّدبيرَ مصلحةَ ذلك الزّمانِ، ووفق طبائعهم وعللهم، وقد كانَ القوم من المعاندةِ والغَباوة على مقدارٍ لم يكنْ لينجع فيهم وَيَكمُلَ لمصلحتهم إلا ما كان في هذا الوزْن، فهذا بَابٌ من عِظَم شأنِ النَّار في صُدور النَّاس. وممَّا زاد في تعظيم شأنِ النَّار في صدور النَّاس قولُ اللّه عزَّ وجلَّ: "وَهَلْ أَتَاكَ حَديثُ مُوسَى، إذْ رَأَى نَاراً فَقَال لأَهْلِهِ امْكُثوا إنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبَسٍ أَوْ أجِدُ عَلَى النَّار هُدًى، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى، إنِّي أنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْليْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي المُقَدَّسِ طُوًى"، وقال عزّ وجلّ: "إذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَها نُوِديَ أنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعالَمِينَ".
وكان ذلك مما زاد في قَدْرِ النّار في صدور النَّاس.
ومن ذلك نار إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم، وقال اللّه عزّ وجلّ: "قَالُوا سَمِعْنَا فتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبرَاهيمُ، قَالوا فَأْتُوا بِه عَلَى أَعْيُنِ النَّاس لَعَلَّهمْ يَشْهَدُونَ" ثم قالَ: "قَالوا حَرِّقُوهُ وَاْنصُرُوا آلهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاَعِلينَ" فلما قال اللّه عزّ وجلّ: "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيم" كانَ ذلك ممَّا زاد في نباهة النَّار وَقَدْرِهَا في صُدور النّاس.

تنويه القرآن الكريم بشأن النار

وهو قوله عزَّ وجلَّ: "الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ".
والنَّار مِنْ أكْبَر الماعون، وأعظَمِ المنافع المرافق في هذه الدنيا على عباده، ولو لم يكنْ فيها إلاّ أنَّ اللَّه عزّ وجلّ قد جَعَلهَا الزاجرةَ عن المعاصي، لكان ذلك ممّا يزيدُ في قَدْرِها، وفي نَباهة ذِكْرها.
وقال تعالى: "أَفَرَأَيْتمُ النّار الَّتي تُورُونَ أأنتمْ أَنْشَأتمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ". ثم قال: "نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ"، فقف عند قوله: "نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتاعاً" فإنْ كنت بهذا القول مؤمناً فتذكَّرْ ما فيها من النعمة أولاً ثم آخراً، ثم توهَّمْ مقادير النعم وتصاريفها.
وقد علمنا أَنَّ اللّه عذَّب الأممَ بالغَرقَ، والرِّياحِ، وبالحاصِب، والرُّجُمِ، وبالصّواعق، وبالخسْف، والمسخ، وبالجُوع، وبالنقص من الثمرات، ولم يبعث عليهم نَاراً، كما بعث عليهم ماءً وَريحاً وحجارة، وإنما جعلها من عقاب الآخرة وعذاب العُقبَى، ونهى أن يُحرق بها شيء من الهوامّ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُعَذِّبُوا بِعَذَاب اللّه، فَقَدْ عَظَّمَهَا كما ترى".
فتفهَّمْ رَحِمَك الله فقد أرادَ اللّهُ إفهَامك.
وقال اللّه تعالى لِلثَّقَلَيْنِ: "يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فلاَ تَنْتَصِرَانِ، فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"، فجعل الشُّواظ والنُّحَاسَ، وهما النّارُ وَالدُّخانُ، من الآية، ولذلك قال على نَسَق الكلام: "فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" ولم يَعْنِ أن التّعْذيبَ بالنّار نعمةٌ يومَ القيامة، ولكِنه أرادَ التّحذيرَ بالخوفِ والوَعِيدِ بها، غيرَ إدخالِ النَّاس فيها، وإحراقهم بها.
شعر في بعض النبات وقال المرَّار بن منقذ:

بِلِوَى عُنَيزةَ مِنْ مَقيلِ التُّرمُـسِ

 

وكأَنَّ أرحُلنا بجـوٍّ مُـحْـصِـبٍ

يأتيك قابسُ أهْلهَـا لـم يُقْـبَـسِ

 

في حيثُ خالطت الخزامى عَرْفَجاً

أراد خصْبَ الوادي ورطوبَتَهُ، وإذا كان كذلك لم تَقْدَح عيدانُهُ، فإنْ دَخَلها مستقبسٌ لم يُوِر ناراً، وقال كُثَيِّر:

عَفَارُ وَمَرْخٌ حَثَّهُ الوَرْيُ عاجلُ

 

له حسبٌ في الحيِّ وارِ زِنَـادُهُ

والعَفار والمَرْخ، من بين جميع العِيدان التي تُقْدَحُ، أَكثَرُها في ذلك وأسرعُها.
قال: ومن أمثالهم: في كُلِّ الشَّجَرِ نارٌ، واستمجَدَ المَرْخُ والعَفار.

نار الاستمطار

ونارٌ أخرى، وهي النّار التي كانوا يَسْتَمْطِرُونَ بها في الجاهليَّةِ الأولى؛ فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزَمَات ورَكَدَ عليهم البلاءُ، واشتدّ الجَدْب، واحتاجوا إلى الاستِمْطار، استجمعوا وَجَمعُوا ما قَدَرُوا عليه من البَقَر، ثم عقَدُوا في أذنَابها وبينَ عَراقِيبها، السَّلَعَ والعُشَر، ثمَّ صعدوا بها في جبلٍ وعْرٍ، وأشعَلُوا فيها النِّيرانَ، وضجُّوا بالدُّعاء والتضرُّع، فكانوا يَرَوََْن أنّ ذلك من أسبابِ الشُّقيا، ولذلك قال أُمَيَّةُ:

س ترى للعضاه فيها صريرا

 

سنةٌ أزمةٌ تـخـيل بـالـنـا

قبل لا يأكلون شيئاً فـطـيرا

 

إذ يسفون بالدقـيق وكـانـوا

ل مهازيل خشيةً أن يبـورا

 

ويسوقون باقراً يطرد السـه

ناب عمداً كيما تهيج البحورا

 

عاقدين النيران في شكر الأذ

ثم هاجت إلى صبيرٍ صبيرا

 

فاشتوت كلها فهاج علـيهـم

ر وأمسى جنابهم ممطـور

 

فرآها الإله ترشم بـالـقـط

ث منه إذ رادعوه الكـبـيرا

 

فسقاها نشاصه واكف الغـي

عائلٌ ما وعالت البنـقـورا

 

سلعٌ ما ومثله عـشـرٌ مـا

هكذا كان الأصمعيُّ ينشِدُ هذه الكلمة، فقال له علماءُ بَغدادَ: صحفْتَ، إنما هي البيقور، مأخوذة من البقر.
وأنشد القحذمي للوَرَلِ الطائيّ:

يَسْتمْطِرونَ لَدَى الأَزْمَاتِ بالعُشَرِ

 

لا دَرّ درُّ رِجَالٍ خاب سَعْـيُهُـمُ

ذَريعةً لك بين اللّهِ والـمَـطَـرِ

 

أجاعلٌ أنتَ بيْقُـوراً مُـسَـلَّـعَةً

استطراد لغوي قال: ويقال بقر، وبَقِير، وبَيقور، وباقر، ويقال للجماعة منها قطيع ، وإجْل، وكَوْر، وأنشد:

بواقِرُ جُلْحٌ أسكنَتها المراتعُ

 

فسكَّنتهم بالقَولِ حتى كأنَّهم

وأنشد:

عَنْ كَوْرهِ كَثْرَةُ الإغْراء والطَّرَدُ

 

ولا شَبُوبٌ مِنَ الثـيران أفْـرَدَهُ

نار التحالف والحلف

ونار أخرى، هي التي توقَدُ عند التَّحالُف؛ فلا يعقِدُونَ حِلفهُمْ إلاَّ عندَها، فيذكرون عند ذلك منافعها، ويَدْعُونَ إلى اللّه عزَّ وجلَّ، بالحرمان والمنع من منافعها، على الذي يَنْقُضُ عَهْدَ الحِلف، ويَخيس بالعهد.
ويقولون في الحلف: الدَّمُ الدَّمُ، والهدَمُ الهدَمُ، يحرِّكون الدّالَ في هذا الموضع ؛ لا يزيده طلوعُ الشمس إلا شَدًّا، وطولُ اللَّيالي إلاَّ مَدّاً، ما بلَّ البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رَضْوَى.
وكلُّ قومٍ يذكرون جبلهم، والمشهورَ من جبالهم.
وَربّما دَنَوْا منها حتى تكاد تحرقهم، ويهوِّلون على من يُخافُ عليه الغَدْرُ، بحقوقها ومنافعها، والتَّخويفِ مِنْ حِرْمانِ منفعتها، وقال الكُمَيت:

ن للحالِفينِ وما هَوّلوا

 

كهُولةِ ما أوقد المحلفُو

وأصل الحِلْف والتَّحالف، إنما هو من الحَلِفِ والأيمان، ولقد تحالفت قبائلُ من قبائل مُرَّةَ بنِ عَوف، فتحالفوا عندَ نارٍ فَدَنَوْا منها، وعشُوا بها، حَتَّى مَحَشَتهم، فَسُمُّوا: المحاشَ.
وكان سيدَهم والمطاعَ فيهم، أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة، ولذلك يقول النَّابغة:

جَمَّعْتُ يرْبُوعاً لكم وتميمـا

 

جَمِّعْ محَاشَكَ يا يزيدُ فإنَّنـي

وتركْتَ أصلاً يا يزيدُ ذَميما

 

ولحِقتُ بالنَّسَبِ الذي عَيّرتَني

وقوله: تميم يريد: تميمة، فحذف الهاء.
التحالف والتعاقد على الملح وربّما تحالفوا وتعاقدوا على الملح، والملحُ شيئان: أحدهما المرَقة، والأخرى اللَّبَن، وأنشدوا لشُتيم بن خُويلدٍ الفَزاريّ:

والمِلْحُ ما وَلدَت خَالدَهْ

 

لا يبعد اللّهُ رَبُّ العباد

وأنشدوا فيه قول أبي الطَّمَحَانِ:

وما بَسَطتْ مِنْ جِلْدِ أشْعَثَ أَغْبَرَا

 

وإني لأَرْجُو مِلْحَهَا في بطونِكـم

وذلك أَنَّهُ كان جاورهم، فكان يَسقيهم اللَّبن؛ فقال: أرجو أن تشكروا لي رَدَّ إبِلي، عَلَى ما شَربتم من ألبانها، وما بَسَطَتْ من جِلْدِ أَشْعَثَ أغبر، كأنَّهُ يقول: كنتم مهازيل والمهزولَ يتقشَّف جِلْدُهُ وينقبض فَبَسَطَ ذلك من جُلودِكم. نار المسافر

ونار أخرى، وهي النّار التي كانوا ربَّما أوقدوها خَلْفَ المسافر، وَخَلفَ الزَّائرِ الذي لا يحبُّونَ رُجُوعَه، وكانوا يقولون في الدُّعاءِ: أبعده اللّه وأسحقه، وَأَوْقَدَ نَاراً خلفَه، وفي إثره وهو معنى قولِ بشار - وضرَبَهُ مثلاً:

وردَّ عليك الصِّبَا ما اسْتَعارا

 

صَحوتَ وأوقَدْتَ للجهل نَارَا

وأنشدوا:

لتوقِدَ نَاراً إثرهم للتـنـدُّمِ

 

وجَمَّةِ أقوامٍ حَمَلْتَ ولم تكنْ

والجَمَّة: الجَمَاعة يمشون في الصلح، وقال الراجز في إبله:

تقسَمُ في الحقِّ وَتُعْطَى في الجُمَمْ

يقول: لا تندم على ما أعطيت في الحمالة، عند كلام الجَماعة فتوقد خلفهم ناراً كي لا يعودوا،

نار الحرب

ونار أخرى وهي النَّار التي كانوا إذا أرادوا حرْباً، وتوقَّعُوا جيشاً عظيماً، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاً على جبلهم نَاراً؛ ليبلغ الخبرُ أصحابَهم.
وقد قال عمرُو بنُ كلثومٍ:

رَفَدْنَا فَوْقَ رَِفْدِ الرَّافدينَا

 

ونحنُ غَدَاةَ أُوقِدَ في خَزَازٍ

وإذا جَدُّوا في جَمْعِِ عشائرهم إليهم أوْقَدْوا نَارَيْنِ، وهو قول الفرزدق:

سَدّ العدوُّ عليكَ كـلَّ مـكـانِ

 

لولا فوارِسُ تَغْلِـبَ ابـنَةِ وائِلٍ

نارَينَ أشرفَتَا علـى الـنِّـيرانِ

 

ضربُوا الصَّنائِع والملوكَ وَأوقَدوا

نار الحرَّتين

ونار أخرى، وهي نار الحرّتين، وهي نار خالد بن سنان، أحد بني مخزوم، من بني قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْس، ولم يكن في بني إسماعيل نبيٌّ قبلَهُ، وهو الذي أطفأ اللّه به نار الحَرَّتَينِ، وكانت ببلاد بني عبس، فإذا كان اللَّيلُ فهي نارٌ تسطَعُ في السَّماء، وكانت طيِّئٌ تُنْفِشُ بها إبلها من مسيرةِ ثلاث، وربّما ندَرَتْ منها العُنُق فتأتي على كلِّ شيء فتحرقُه، وإذا كان النهارُ فإنما هي دخانٌ يفور، فبعث اللّه خالدَ بنَ سنانٍ فاحتفَرَ لها بئراً، ثمّ أدخلها فيها، والنَّاس ينظرون؛ ثمّ اقتحم فيها حتى غيَّبها، وسمع بعض القوم وهو يقول: هَلَكَ الرَّجُلُ فقال خالدُ بن سنِانٍ: كذب ابنُ راعية المعز، لأخرجنَّ منها وجبيني يَنْدَى فلمَّا حضَرَتْهُ الوفاة، قال لقومه: إذا أنا متُّ ثمَّ دفنتموني، فاحضُروني بعدَ ثلاثٍ؛ فإنَّكم تَرَوْنَ عَيراً أَبتَرَ يطوفُ بقبري، فإذا رأيتم ذلك فانبشوني؛ فإني أخبرُكم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فاجتمعوا لذلك في اليوم الثالث، فلما رأوا العَيْرَ وذهبوا ينبشونه، اختلفوا، فصاروا فرقتين، وابنُه عبد اللّه في الفِرقة التي أَبَتْ أن تنبشه، وهو يقول: لا أفْعَلُ إني إذاً أُدْعَى ابنَ المنبوش فتركوه.
وقد قدِمَتْ ابنَتُهُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَبَسطَ لها ردِاءهُ وقال: هذه ابنةُ نَبِيٍّ ضيَّعهُ قومُهُ.
قال: وسَمِعتْ سورَةَ: "قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ" فقالت: قدكان أبي يتلو هذه السورة.
نبوة خالد بن سنان والمتكلّمون لا يؤمنون بهذا، ويزعمون أنَّ خالداً هذا كان أعرابيّاً وبَرِيّاً، من أهل شَرْجٍ ونَاظِرَة، ولم يبعث اللّه نبيًّا قطُّ من الأعرابِ ولا من الفدَّادِينَ أهلِ الوَبَرِ، وإنما بعثهم من أهل القرَى، وسُكَّانِ المُدُنِ.
وقال خُلَيْدُ عَيْنَيْن:

وَهَلْ كانَ حُكْمُ اللّهِ إلاّ مَع النَّخْلِ

 

وأي نبيٍّ كانَ في غير قَـوْمِـهِ

وأنشدُوا:

يُصِمُّ مَسَامِعَ الرَّجُلَ السّمِيعِ

 

كَنَارِ الحرَّتَينِ لهـا زفـيرٌ

عبادة النار وتعظيمها

وما زالَ النَّاسُ كافَّةً، والأممُ قاطبةً حتى جَاءَ اللّه بالحقّ مُولَعين بتعظيم النَّار؛ حتى ضلَّ كثيرٌ من النَّاس لإفراطهم فيها، أنهم يعبدونها.
فأما النار العُلويَّة، كالشمس والكواكب، فقد عُبدت البتَّة،قال اللّه تعالى: "وَجَدتُها وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للِشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّه".
وقد يجيء في الأثرِ وفي سُنَّةِ بعض الأنبياء، تعظيمها على جهة التعبُّد والمحنة، وعلى إيجاب الشكر على النِّعمة بها وفيها، فيغلط لذلك كثيرٌ من النَّاس، فيجوزُون الحدّ. ويزعم أهلُ الكِتاب أنَّ اللّه تعالى أوصاهُمْ بها، وقال: لا تُطفئوا النِّيران مِنْ بُيوتي، فلذلك لا تجد الكنائس والبيَع، وبيوت العبادات، إلاَّ وهي لا تخلو من نارٍ أبداً، ليلاً ولا نهاراً؛ حتَّى اتَّخذت للنِّيرانِ البُيُوتَ وَالسَّدَنَةَ، ووقَفُوا عليها الغَلاَّتِ الكثيرة.
إطفاء نيران المجوس أبو الحسن عن مسلمة وقحدم، أنَّ زياداً بعث عَبد اللّه بنَ أبي بَكرة، وأمرهُ أن يطفئ النيران، فأراد عبد اللّّه أنْ يَبْدَأَ بنارِ جُور فيطفِئَها، فقيل له: ليست للمجوس نَارٌ أعْظََمُ من نار الكارِيانِ من دار الحارث، فإن أطفأتها لم يمتنع عََليْكَ أحدٌ، وإنْ أطفأت سافِلَتَهَا استعدُّوا للحَرْب وامتَنَعُوا، فابْدَأ بها، فخرجَ إلى الكاريان فتحصَّنَ أهلُها في القَلعة، وكان رَجُلٌ من الفرس من أهل تلك البلاد معروف بالشدّة، لا يقدِرُ عليه أحد، وكان يمرُّ كلّ عشيَّةٍ ببابِ منزله استخفافاً وإذلالاً بنفسه، فغمَّ ذلك عبدَ اللّه، فقال: أما لِهذا أحدٌ? وكان معَ عبد اللّه بن أبي بكْرة رجلٌ من عبد القيس، مِنْ أشدِّ النَّاس بطشاً، وكان َجباناً، فقالوا له: هذا العبدي، هو شديدٌ جَبان، وإن أَمَرْتَهُ به خافَ القتالَ فلم يَعْرِضْ له، فاحتل له حيلةً، فقال: نعم.
قال: فبينا هو في مجلسه إذْ مرَّ الفارسِيُّ، فقال عبد اللّه: مارأيتُ مِثلَ خلْقِ هذا، وما في الأرض كما زعموا أشدُّ منه بطشاً ما يقوى عليه أحد فقال العبدي: ما تجعلون لي إن احتملتُه حتَّى أدْخِلَه الدَّارَ وأكْتِفَهُ? فقال له عبد اللّه: لك أربعةُ آلافِ درهم، فقال: تَفُونَ لي بألفٍ? قال: نَعَمْ فلمّا كان الغُد مرَّ الفارسيُّ، فقام إليه العبديُّ فاحتمله فيما امتَنَع ولا قَدَرَ أن يتحرّك، حتَّى أدخَله الدَّار وَضربَ به الأرض ووثَبَ عليه النَّاسُ فقتلوه، وغُشِيَ على العبدي حين قتلوه، فلما قُتِلَ أعْطَى أهلُ القلعةَ بأيديهم، فقتل ابنُ أبي بَكْرةَ الهرابذةَ ، وأطفأ النَّارَ، ومضى يُطفئُ النِّيرانَ حتَّى بَلَغَ سِجِسْتَان.
تعظيم المجوس للنار والمجوسُ تقدّم النّارَ في التَّعظيم على الماء، وتقدِّم الماءَ في التَّعظيم على الأرض، ولا تكاد تذكر الهواء.

نار السعالي والجن والغيلان

ونار أخرى، التي يحكونها من نيران السَّعالِي والجنِّ وهي غَيرُ نار الغِيلان، وأنشد أبو زيد لسَهم بن الحارث:

بدارٍ لا أريدُ بهـا مُـقـامَـا

 

وَنَارٍ قد حضأتُ بُـعـيْد هُـدءٍ

أكالئُها مخـافَة أنْ تَـنَـامَـا

 

سوَى تحلـيلِ رَاحـلةٍ وعَـيْنٍ

فقالوا: الجنُّ قلت: عِمُوا ظَلاَمَا

 

أتَوْا نارِي فقلْتُ مَنُـون أنـتـمْ

زَعيمٌ: نحسُدُ الإنْسَ الطعـامَـا

 

فقلت: إلى الطّعامِ فقال منهـم

وهذا غلط وليس من هذا الباب، وسنضعه في موضعه إن شاء اللّه تعالى، بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عُبيدِ بنِ أيُّوبَ:

لصاحِب قفرٍ خائفٍ متقفِّرِ

 

فَللّه درُّ الغُـول أيُّ رَفـيقةٍ

حَوَالَيَّ نِيرَاناً تبوخُ وَتَزْهَرُ

 

أرَنّتْ بِلَحْنٍ بَعْدَ لْحنٍ وأوقَدَت

نار الاحتيال

وما زالت السَّدَنَة تحتالُ للنَّاس جهةَ النِّيران بأنواع الحيل، كاحتيال رُهبانِ كَنيسةِ القُمامةَ ببيت المقدس بمصابيحها، وأنَّ زَيْتَ قناديلها يَسْتَوْقِدُ لهم من غير نَارٍ، في بعض ليالي أعيادِهم.
قال: وبمثل احتيال السَّادنِ لخالد بن الوليد، حين رماه بالشَّرَر؛ ليوهمه أنَّ ذلك من الأوثان،أو عقوبةٌ على ترك عبادتها وإنكارها، والتعرُّض لها؛ حتى قال:

إنِّي وَجَدْتُ اللّهَ قد أهَانَكِْ

 

يا عُزُّ كُفْرَانَكِ لا سُبْحَانَكِ

حتى كشف اللّه ذلك الغطاءَ، من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

نار الصيد والبيض

ونار أخرى، وهي النَّار التي تُوقدُ للظباء وصيدها، لتعشى إذا أدامت النَّظر، وتُخْتَل من ورائها، ويطلب بها بيض النعام في أفاحيصها ومكناتها.
ولذلك قال طُفيلٌ الغنوي:

 

وَلَمْ تَرَ نَاراً تِمَّ حَوْلٍ مُجَـرَّمِ

 

عوازب لم تسمع نُبُوحَ مَقامَةٍ

أغنَّ مِنَ الخُنْسِ المَناخِرِ تَوْأَمِ

 

سِوى نَار بَيْض أو غَزَالٍ بقَفرَة

 








وقد يُوقدون النِّيران يُهَوِّلون بها على الأُسْد إذا خافوها، والأسَدُ إذا عايَنَ النَّار حدقَ إليها وتأمَّلها، فما أكْثَرَ ما تَشْغلهُ عن السَابلة.
قصة أبي ثعلب الأعرج وَمرَّ أَبُو ثعلب الأعرج، على وادي السّباع، فَعَرََض له سبع، فقال لَهُ المُكارِي: لو أمرت غِلمانَكَ فأوْقدوا ناراً، وضَربوا على الطَّساس الذي معهم ففعلوا فأحْجَمَ عنها، فأنشدني لهُ ابن أبي كريمة، في حُبّه بعد ذلك للنّار، وَمَدْحِهِ لها وللصوتِ الشَّديد، بَعد بُغْضِه لهمَا وهو قوله:

ولو في صَميمِ النَّار نَار جَهـنَّـمِ

 

فأحْبَبْتها حُباً هـويتُ خِـلاَطَـهَـا

وأطْربُ من صَوْت الحمار المرقَّم

 

وصِرْتُ أَلذُّ الصَّوتَ لو كان صاعِقاً

وروي أنَّ أعرابيَّاً اشتدَّ عليه البردُ، فأصاب ناراً، فدنا منها ليصطلي بها، وهو يقول: اللّهم لا تَحْرمنيها في الدُّنيا ولا في الآخرة.
حيرة الضفدع عند رؤية النار وممّا إذا أبصر النّار اعترَتْهُ الحيرةُ، الضّفدعُ،؛ فإنَّهُ لا يزالُ يَنِقُّ فإذا أبْصَر النّار سَكَتَ.

نار الحباحب

ومن النِّيران نار الحُباحِب وهي أيضاً نارُ أبي الحباحب، وقال أبو حَيّة:

عليهنّ في قفٍّ أَرَنَّتْ جنادِلُهْ

 

يُعَشِّرْ في تقريبهِ فإذا انحنـى

غَضاً تتراقى بينهنَّ ولاوِلُـهْ

 

وَأوْقَدْنَ نيرانَ الحباحب والتقى

وقال القُطاميُّ في نار أبي الحُباحب:

تَصَوَّبَتِ الجَوْزَاءُ قَصْدَ المغَارِبِ

 

تُخَوِّدُ تخْويدَ النّعـامةِ بَـعْـدَمـا

لطارقِ ليْلٍ مثلُ نارِ الحباحـبِ

 

ألا إنما نِيرَانُ قيْسٍ إذا اشْتـوت

ويصفون ناراً أخرى، وهي قريبةٌ من نار أبي الحباحب، وكلُّ نار تراها العينُ ولا حقيقة لها عند التماسها، فهي نار أبي الحباحب، ولم أسمعْ في أبي حباحب نفسِهِ شيئاً.

نار البرق

وقال الأعرابيُّ، وذَكَرَ البرْق:

والنَّارُ تُشْعِلُ نِيرَاناً فتحترِقُ

 

نَارٌ تعُود به للعُودِ جِـدّتُـه

يقول: كلُّ نار في الدُّنيا فهي تحرِقِ العِيدانَ وتُبْطلها وتُهلكها، إلاَّ نار البرق، فإنَّها تجيء بالغيث، وإذا غِيثَتِ الأرضُ ومُطِرَتْ أحدَثَ اللَّه للِعىدَانِ جِدَّةً، وللأَشْجارِ أغصاناً لم تكن.

نار اليراعة

ونارٌ أخرى، وهي شبيهةٌ بنار البرق، ونار أبي حباحب، وهي نار اليراعة، واليراعة: طائر صغير، إنْ طار بالنَّهار كان كبعض الطَّير، وإن طار باللَّيل كان كأنَّهُ شهابٌ قُذِفَ أو مصباحٌ يطير.
الدفء برؤية النار وفي الأحاديث السَّائرة المذكورة في الكتب، أنَّ رَجُلاً أُلقيَ في ماء راكِدٍ في شتاء بارد، في ليلةٍ من الحنادِس، لا قمر ولا ساهور وإنما ذكر ذلك ،لأنَّ ليلة العَشْر والبدر والطَّوق الذي يستدير حول القمر، يكون كاسِراً من بَرْد تلك الليلة قالوا: فما زال الرجُل حيّاً وهو في ذلك تَارِزٌ جامِد، ما دام ينظر إلى نَارٍ، كانت تُجاهَ وجهه في القرية، أو مصباحٍ، فلما طَفئتْ انْتَفَضَ.

نار الخلعاء والهُرَّاب

وقال الشَّاعر:

حَيَا النَّارِ قد أوْقَدْتُهَا للمُسَافـرِ

 

ونارٍ قُبيلَ الصُّبحِ بادَرْتُ قَدْحَها

يقول: بادرت اللَّيل، لأنَّ النَّارَ لا تُرى بالنهار، كأنه كان خليعاً أو مطلوباً.
وقال آخر:

وَتُضْحِي بها الوَجْناءَ وَهْيَ لَهيدُ

 

وَدَوِّيّةٍ لا يثقب النَّار سَفْـرُهَـا

كأَنَّهم كانوا هُرّاباً، فمِنْ حثهم السّيرَ لا يُوقدون لبُرْمَةٍ ولا مَلَّة؛ لأنّ ذلك لا يكون إلاّ بالنزول والتمكثِ، وإنما يجتازون بالبَسيسَةِ، أو بأدنى عُلقة، وقال بعض اللُّصوص:

نبَّهْتُ عنهن غلاماً غُسَّـا

 

ملساً بذَوْدِ الحدَسِيّ مَلْـسَـا

مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى كأنّ الشّمسَا

 

لمَّا تَغَشَّى فَرْوَةً وَحِلْـسـا

لا تخبزا خَبْزاً وَبُسّا بَسّـا

 

بالأفُق الغربيِّ تكْسَى وَرْسَا

وَجَنِّباها أسَداً وَعَـبْـسـا

 

ولا تُطيلا بمُناخٍ حَـبْـسَـا

قال: والبَسيسة: أن يبلّ الدَّقيق بشيء حتى يجتمع ويؤكل.

نار الوشْم

ونار أخرى، وهي نار الوشمِ والمِيسَمِ يقال للرجل: ما نار إبلِك? فيقول: عِلاط، أو خِبَاط، أو حَلْقة أو كذا وكذا.
رجز لبعض اللصوص وقرّب بعضُ اللُّصوص إبلاً من الهُواشة، وقد أغار عليها من كلِّ جانب، وجَمعها من قبائلَ شتى، فقرّبها إلى بعض الأسواق، فقال له بعض التّجار: ما نارك? وإنما يسأله عن ذلك؛ لأنهم يعرفون بميسم كل قومٍ كرََمَ إبلهِمْ من لؤمها، فقال:

إذْ زعزعُوها فَسَمَتْ أبصارُها

 

تَسْألُني البَاعَةُ ما نِـجَـارُهـا

وكلُّ نَارِ العَالمـينَ نـارهـا

 

فكـلُّ دارٍ لأنـاسٍ دَارُهــا

وقال الكردوس المرادي:

وذلك عِلْمٌ لا يُحيط به الطّمْشُ

 

تسائلني عن نارها وَنِتَاجـهـا

والطّمْشُ: الخلقُ، وَالوَرَى: النَّاس خاصّة.

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...