كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2022

مجلد5. الجزء الخامس الحيوان للجاحظ

 

الجزء الخامس

بِسم اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

نبدأ في هذا الجزءِ بتمام القول في نيران العربِ والعجَمِ، ونيرانِ الدِّيانة ومبلغِ أقدارِها عند أهلِ كلِّ مِلَّةٍ وما يكون منها مَفْخَراً، وما يكونُ منها مذموماً، وما يكون صاحبها بذلك مهجوراً.


ونبدأ بالإخبار عنها وبدئها، وعن نفس جوهرها، وكيفَ القولُ في كُمونها وظهورها، إن كانت النارُ قد كانت موجودةَ العينِ قبلَ ظهورها، وعن كونها، على المجاورة كان ذلك أم على المداخَلة، وفي حدوث عَينها إن كانت غيرَ كامنة، وفي إحالة الهواء لها والعودِ جَمْراً، إن كانت الاستحالةُ جائزة، وكانت الحجّة في تثبيت الأعراض صحيحة، وكيف القولُ في الضِّرام الذي يظْهر من الشجر، وفي الشَّرَر الذي يظهر من الحجَر، وما القولُ في لون النار في حقيقتها، وهل يختلفُ الشَّرَار في طبائعها، أم لا اختلافَ بين جميعِ جواهرها، أم يكون اختلافها على قدْر اختلافِ مخارجِها ومَداخلها، وعلى قدر اختلافِ ما لاقاها وهَيّجها?

الكلام على النار

قول النظام في النار

ونبدأ، باسم اللّه وتأييده، بقول أبي إسحاق.


قال أبو إسحاق: الناس اسمُ للحَرِّ والضِّياء، فإذا قالوا: أحْرَقَتْ أو سخّنَتْ، فإنما الإحراقُ والتسخينُ لأحدِ هذين الجنسين المتداخِلين، وهو الحرُّ دون الضياء.
وزعمَ أن الحرَّ جوهَر صعَّادٌ، وإنما اختلفا، ولم يكن اتِّفاقهما على الصعود موافقاً بين جواهرهما؛ لأنهما متى صارا من العالَم العُلويِّ إلى مكانٍ صار أحدهما فوقَ صاحبِه.


وكان يجزِم القولَ ويُبْرِم الحُكم بأنّ الضياءَ هو الذي يَعْلو إذا انفردَ، ولا يُعْلَى.


قال: ونحنُ إنما صِرْنا إذا أطفأنا نارَ الأتُّون وجَدْنا أرضه وهواهُ وحيطانه حارّة، ولم نجدْها مضيئة، لأن في الأرض، وفي الماء الذي قد لابسَ الأرض، حَرّا كثيراً، وتداخلاً مُتشابِكاً؛ وليس فيهما ضياء، وقَدْ كانَ حَرُّ النارِ هَيَّجَ تِلْكَ الحَرَارَةَ فَأَظْهَرَهَا، ولَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضِياءٌ من مُلاَبِس فَهَيَّجهُ الضياءُ وأظهره، كما اتصل الحرُّ بالحرِّ فأزاله من موضعهِ، وأَبرزهُ من مكانه، فلذلك وجدْنا أرضَ الأتُّون، وحيطانها، وهواها حارَّةً، ولم نجِدْها مضيئة.
وزعم أبو إسحاقَ أنَّ الدليل على أن في الحجر والعود ناراً مع اختلاف الجهات، أنه يلزَمُ من أنكرَ ذلك أن يزعُمَ أن ليس في السِّمسم دُهْنٌ ولا في الزَّيتون زيت.
ومن قال ذلك لزِمهُ أنْ يقولَ: أنْ ليس في الإنسان دَم، وأنَّ الدَّمَ إنّما تَخَلَّقَ عند البطّ، وكان ليس بين مَن أنكرَ أن يكون الصَّبِرُ مرّ الجوهر، والعسلُ حُلْوَ الجوهر قبل ألاّ يذاقا، وبين السمسمِ والزيتون قبلَ أن يُعصرا - فَرْق.


وإنْ زَعَم الزاعم أنّ الحلاوة والمرارةَ عَرَضانِ، والزيتَ والخلّ جوهر، وإذا لزم مَنْ قال ذلك في حلاوة العسل، وحموضة الخلِّ، وهما طعمان - لزمه مثلُ ذلك في ألوانهما، فيزعم أنَّ سوادَ السَّبَج، وبياضَ الثلجِ، وحُمْرَةَ العُصْفُر، وصُفرة الذهب، وخُضْرَةَ البقْل، إنما تحدُث عندَ رؤية الإنسان، وإن كانت المعاينةُ والمقابلة غيرَ عاملتين في تلك الجواهر. قال: فإذا قاسَ ذلك المتكلِّم في لَوْنِ الجسم بعد طعمه، وفي طوله وعرضه وصورته بعد رائحته، وفي خفتِه وثقل وزنه، كما قاس في رخاوته وصلابته - فقد دخل في باب الجهالات، ولِحق بالذين زعموا أن القِرْبة ليس فيها ماء، وإنْ وجدوها باللمس ثقيلة مزكورة وإنما تخلَّق عند حلِّ رِباطها، وكذلك فليقولوا في الشمسِ والقمرِ، والكواكب، والجبال، إذا غابتْ عن أبصارهم


قال: فمن هرب عن الانقطاع إلى الجهالات، كان الذي هرب إليه أشدَّ عليه.


وكان يضرِبُ لهما مثلاً ذكرته لِظَرَافته: حُكِيَ عن رجل أحدبَ سقطَ في بئر، فاستوت حدَبتُهُ وحَدَثَتْ له أُدْرَةٌ في خُصيته، فهَنَّاه رجلٌ عن ذهاب حَدَبته، فقال: الذي جاء شرٌّ من الذي ذهب.


رد النظام على ضرار في إنكار الكمون وكان أبو إسحاق يزعُم أن ضِرَارَ بنَ عَمرو قد جَمعَ في إنكاره القولَ بالكُمُونِ الكفرَ والمعاندةَ؛ لأنه كان يزعُمُ أن التوحيدَ لا يصحُّ إلا مع إنكار الكمون، وأن القولَ بالكمون لا يصحُّ إلا بأنْ يكون في الإنسان دمٌ، وإنما هو شيءٌ تَخَلَّق عند الرُّؤية.
قال: وهو قد كان يعلمُ يقيناً أنَّ جوفَ الإنسانِ لا يخلو من دم.


قال: ومن زعَمَ أن شيئاً من الحيوان يعيشُ بغير الدمِ، أو شيءٍ يشبهُ الدمَ، فواجبٌ عليه أن يقول بإنكار الطبائع؛ ويدفع الحقائقَ بقول جَهْم في تسخين النار وتبريد الثلج، وفي الإدراك والحسِّ، والغذاء والسُّمِّ، وذلك بابٌ آخر في الجهالات.
ومن زعم أن التوحيدَ لا يصلحُ إلا بألاّ يكون في الإنسان دم، وإلا بأن تكونَ النارُ لا توجب الإحراق، والبصرُ الصحيحُ لا يوجبُ الإدراك - فقد دَلّ عَلى أنه في غاية النقص والغباوة، أو في غاية التكذيب والمعاندة.
وقال أبو إسحاق: وجدنا الحطب عند انحلال أجزائه، وتفرُّق أركانِهِ التي بُني عليها، ومجموعاته التي رُكّبَ منها وهي أربع: نارٌ، ودخان، وماءٌ، ورَمَاد، ووجدنا للنار حرّاً وضياءً، ووجدنا للماء صوتاً، ووجدنا للِدُّخان طعماً ولوناً ورائحة، ووجدنا للرَّمَادِ طعماً ولوناً ويُبْساً، ووجدنا للماء السائل من كل واحد من أصحابه، ثمَّ وجدناه ذا أجناسٍ رُكِّبَتْ من المفرَدَات.
ووجدنا الحطب رُكِّبَ على ما وصفنا، فَزَعمنا أنه رُكِّب من المُزْدَوِجَاتِ، ولم يُرَكَّبْ من المفردات.
قال أبو إسحاق: فإذا كان المتكلمُ لا يعرف القياسَ ويُعطيه حقه فرأى أنَّ العُود حين احتكَّ بالعودِ أحدث النار فإنه يلزَمُه في الدخان مثلُ ذلك، ويَلزَمُه في الماء السائل مثلُ ذلك، وإنْ قاس قال في الرّماد مثلَ قوله في الدخان والماء، وإلا فهو إما جاهلٌ، وإمّا متحكم.
وإن زَعَمَ أنه إنما أنكرَ أنْ تكون النارُ كانت في العودِ، لأنه وَجَدَ النارَ أعظم من العود، ولا يجوز أن يكون الكبيرُ في الصغير، وكذلك الدخان - فليَزْعُمْ أن الدخانَ لم يكنْ في الحطبِ، وفي الزَّيت وفي النِّفْطِ.
فإن زعم أنهما سواءٌ، وأنه إنما قال بذلك لأن بَدَنَ ذلك الحطَب لم يكن يسعُ الذي عاين من بَدَن النارِ والدخان، فليس ينبغي لمنْ أنكر كُمونَهَا من هذه الجهة أَنْ يزعُمَ أنّ شَرَرَ القَدَّاحَةِ والحجَرِ لم يكونا كامنين في الحجَر والقدَّاحَة.
وليس ينبغي أن يُنْكِرَ كُمونَ الدم في الإنسان، وَكمونَ الدُّهْن في السمسم، وكمون الزيت في الزيتون، ولا ينبغي أن يُنْكِرَ من ذلك إلا ما لا يكون الجسمُ يَسَعُه في العين.
فكيف وهم قد أجْرَوْا هذا الإنكارَ في كلِّ ما غابَ عن حواسّهم من الأجسام المستَتِرة بالأجسام حتى يعود بذلك إلى إبطال الأعراض? كنحو حموضة الخلّ، وحلاوة العسلِ، وعذوبة الماء، ومَرارة الصبر.
قال: فإن قاسوا قولهم وزعموا أن الرمادَ حادثٌ، كما قالوا في النار والدُّخان، فقد وجبَ عليهم أن يقولوا في جميعِ الأجسام مثلَ ذلك كالدقيق المخالفِ للبُرِّ في لونه، وفي صلابَتهِ، وفي مساحته، وفي أمورٍ غير ذلك منه، فقد ينبغي أن يزعم أن الدقيقَ حادثٌ، وَأن البُرّ قد بطَلَ.
وإذا زعم ذلك زعم أنّ الزُّبْدَ الحادثَ بعد المخْضِ لم يكن في اللبنِ، وأنَّ جُبْنَ اللبنِ حادث، وقاسَ ماءَ الجُبْن على الجبن، وليس اللبنُ إلا الجُبْنَ والماءَ. وإذا زعم أنهما حادثان، وَأن اللبن قد بَطَلَ، لزمَه أن يكون كذلك الفَخَّارُ، الذي لم نجِده حتى عَجَنَّا الترابَ اليابسَ المتهافتَ على حِدَته، بالماءِ الرَّطْبِ السّيال على حِدَتِهِ، ثم شوَيناهُ بالنار الحارَّةِ الصَّعَّادَةِ على حِدَتِها، ووجدنا الفخار في العينِ واللمس والذَّوق والشَّمّ، وعند النَّقْر والصّكِّ - على خلاف ما وجدنا عليه النارَ وحدها، والماءَ وحده، والتُّرابَ وَحْدَهُ؛ فإنّ ذلك الفخار هو تلك الأشياءُ، والحطبَ هو تلك الأشياءُ، إلا أن أحدَها من تركيب العِباد، والآخرَ من تركيب اللّه.
والعبد لا يقلبُ المَركَّباتِ عن جواهرها بتركيبه ما ركب منها.
والحَجَرُ متى صَكَّ بيضةً كسَرَها، وكيف دارَ الأمرُ، سواءٌ كانت الرِّيح تقلبه أو إنسان.
فإن زعموا أن الفخار ليس ذلك التُّرابَ، وذلك الماءَ، وتلك النار، وقالوا مثل ذلك في جميعِ الأخبصة والأنبذة، كان آخرُ قياسهم أن يُجِيبوا بجواب أبي الجهجاه؛ فإنه زعم أن القائمَ غيرُ القاعد، والعجينَ غيرُ الدقيق، وزعم - ولو أنه لم يقل ذلك - أن الحبَّة متى فلقت فقد بطل الصحيح، وحدثَ جِسْمان في هيئةِ نصفَي الحبَّة، وكذلك إذا فلقت بأربعِ فلق، إلى أن تصيرَ سَويقاً، ثم تصيرَ دقيقاً، ثم تصير عجيناً، ثم تصير خُبزاً، ثم تعودَ رجيعاً وزبْلاً، ثم تعودُ رَيحاناً وبَقلاً، ثم يعود الرجيع أيضاً لبناً وزُبداً؛ لأن الجلاَّلة من البهائم تأكله، فيعودُ لحماً ودماً.
وقال: فليس القولُ إلا ما قال أصحابُ الكُمونِ، أو قولَ هذا.
ردّ النظام على أصحاب الأعراض قال أبو إسحاق: فإن اعترض علينا مُعترضٌ من أصحاب الأعراض فزعم أن النارَ لم تكن كامنةً، وكيفَ تكمُنُ فيه وهي أعظم منه? ولكنّ العودَ إذا احتكّ بالعود حَمِيَ العودان، وحمي من الهواءِ المحيط بهما الجزءُ الذي بينهما، ثم الذي يَلي ذلك منهما، فإذا احتدم رقّ، ثم جفّ والتهب، فإنما النارُ هواءٌ استحالَ.
والهواءُ في أصل جوهرهِ حارٌّ رقيق، وهو جسم رقيق، وهو جسمٌ خَوَّارٌ، جيِّد القبول، سريع الانقلاب.
والنار التي تراها أكثرَ من الحطب، إنما هي ذلك الهواءُ المستحيل، وانطفاؤها بطلان تلك الأعراضِ الحادثة من النارية فيه، فالهواءُ سريعُ الاستحالة إلى النار، سريعُ الرجوع إلى طبعهِ الأول، وليس أنها إذا عُدِمَتْ فقد انقطعتْ إلى شكل لها عُلْوِيٍّ واتصلت، وصارتْ إلى تِلادها، ولا أنَّ أجزاءَها أيضاً تفرقتْ في الهواء، ولا أنها كانت كامنةً في الحطَب، متداخلةً منقبضة فيه، فلما ظهرت انبسطت وانتشرت، وإنما اللهبُ هواءٌ استحال ناراً؛ لأن الهواءَ قريبُ القرابةِ من النار، والماءَ هو حجازٌ بينهما، لأنَّ النار يابسةٌ حارة، والماءَ رطبٌ بارد، والهواءَ حارٌّ رطب، فهو يُشبه الماء من جهة الرطوبة والصفاء، ويُشبه النار بالحرارةِ والخفة فهو يخالفهما ويوافقهما؛ فلذلك جازَ أن ينقلبَ إليهما انقلاباً سريعاً، كما ينعصر الهواء إذا استحال رطباً وحدث له كثافة، إلى أن تعود أجزاؤه مطراً، فالماء ضدُّ النار، والهواء خلافٌ لهما، وليس بضِدٍّ، ولا يجوز أن ينقلب الجوهر إلى ضده حتى ينقلب بَديّاً إلى خلافه، فقد يستقيم أن ينقلبَ الماء هواءً، ثم ينقلبَ الهواءُ ناراً، وينقلبَ الهواءُ ماء، ثم ينقلبَ الماءُ أرضاً، فلا بدّ في الانقلاب من الترتيبِ والتدريج، وكلُّ جوهر فله مقدمات؛ لأن الماءَ قد يحيل الطين صخراً، وكذلك في العكس، فلا يستحيل الصخرُ هواءً، والهواءُ صخراً، إلا على هذا التنزيل والترتيب.
وقال أبو إسحاق لمن قال بذلك من حُذَّاق أصحاب الأعراض: قد زعمتم أن النار التي عاينّاها لم تخرج من الحطَب، ولكنَّ الهواءَ المحيط بهما احتدَمَ واستحالَ ناراً، فلعلّ الحطب الذي يسيل منه الماءُ الكثيرُ، أن يكون ذلك الماءُ لم يكن في الحطَب، ولكنَّ ذلك المكان من الهواءِ استحالَ ماء، وليس ذلك المكان من الهواء أحقَّ بأن يستحيل ماءً من أن يكون سبيلُ الدخان في الاستحالةِ سبيلَ النار والماء.
فإن قاسَ القومُ ذلك، فزعموا أن النار التي عاينَّاها، وذلك الماء والدخان في كثافة الدخَان وسَوادِه، والذي يتراكمُ منه في أسافل القدور وسُقف المطابخ إنما ذلك هواء استحال، فلعلَّ الرماد أيضاً، هواءٌ استحالَ رماداً. فإِن قلتم: الدُّخان في أول ثقله المتراكم على أسافل القدور، وفي بُطونِ سُقُفِ مواقِدِ الحمامات، الذي إذا دُبِّرَ ببعض التدبير جاء منه الأنقاسُ العجيبةُ أحق بأن استحال أرضيّاً، فإن قاسَ صاحب العَرَضِ، وزعم أن الحطب انحلَّ بأسرِه، فاستحال بعضه رماداً كما قد كان بعضُه رماداً مرةً، واستحال بعضه ماءً كما كان بعضه ماءً مرة، وبعضه استحال أرضاً، كما كان بعضه أرضاً مرة، ولم يقلْ إن الهواءَ المحيطَ به استحالَ رماداً، ولكنَّ بعضَ أخلاطِ الحطبِ استحالَ رماداً ودُخاناً، وبعض الهواء المتصل به استحال ماءً وبعضه استحال ناراً، على قدرِ العوامل، وعلى المقابِلات له، وإذا قال صاحبُ العرض ذلك كان قد أجاب في هذه الساعةِ على حدِّ ما نزَّلتُه لك.
وهذا باب من القول في النار، وعلينا أن نستقصيَ للفريقَين واللّه المعين.

ردٌّ على منكري الكُمون

وبابٌ آخرُ، وهو أن بعض من ينكرُ كُمونَ النار في الحطب قالوا: إن هذا الحرّ الذي رأيناه قد ظهرَ من الحطب، لو كان في الحطب لكان واجباً أن يجده مَنْ مَسّه كالجمر المتوقد، إذا لم يكن دونه مانعٌ منه، ولو كان هناك مانعٌ لم يكن ذلك المانعُ إلا البردَ؛ لأن اللونَ والطعمَ والرائحة لا يفاسِد الحرَّ، ولا يُمانعه إلا الذي يُضادُّه، دون الذي يخالفه ولا يضاده.
فإِن زعم زاعمٌ أنه قد كان هناكَ من أجزاء البرد ما يعادلُ ذلك الحرَّ ويُطاوله، ويكافيه ويوازيهِ؛ فلذلك صرنا إذا مَسَسْنَا الحطبَ لم نجدْه مؤذياً، وإنما يظهر الحرْقُ ويُحْرِقُ لزوال البرد، إذا قام في مكانه وظهر الحرُّ وحْده فظهر عمله، ولو كان البردُ المعادلُ لذلك الحرِّ مقيماً في العود على أصلِ كمونه فيه، لكانَ ينبغي لمن مَسَّ الرَّمادَ بيده أن يجده أبرد من الثلج، فإذا كان مسه كمسِّ غيره، فقد علمنا أنه ليس هناك من البرد ما يعادلُ هذا الحرَّ الذي يُحرق كلّ شيءٍ لَقِيَه.
فإن زعم أنهما خرجا جميعاً من العود، فلا يخلو البردُ أن يكونَ أَخَذَ في جهته، فلِمَ وجدنا الحرّ وحده وليس هو بأحق أن نجده من ضِدّه، وإن كان البردُ أَخَذَ شَمَالاً، وأخذَ الحرُّ جنوباً، فقد كان ينبغي أن يجْمِد ويُهْلك ما لاقاه، كما أهلك الحر وأحرقَ وأذاب كلَّ ما لاقاه.
قالوا: فلما وجدنا جميعَ أقسامِ هذا البابِ، علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطبِ.
قال أبو إسحاق: والجواب عن ذلك أنا نزعم أن الغالبَ على العالَم السفليِّ الماءُ والأرض، وهما جميعاً باردانِ، وفي أعماقهما وأضعافهما من الحر ما يكون مغموراً ولا يكون غامراً، ويكون مقموعاً ولا يكون قامعاً؛ لأنه هناك قليل، والقليلُ ذليل، والذليلُ غريب، والغريبُ محقور، فلما كان العالَمُ السفلي كذلك، اجتذبَ ما فيه من قوة البرد وذلك البرد الذي كان في العود عند زوالِ مانعه؛ لأن العودَ مقيمٌ في هذا العالم، ثم لمْ ينقطع ذلك البردُ إلى برد الأرض، الذي هو كالقُرْص له، إلا بالطَّفرة والتخليف، لا بالمرور على الأماكن والمحاذاةِ لها وقام بَرْدَ الماء منه مقام قرصِ الشمسِ من الضياء الذي يدخل البيتَ للخَرْق الذي يكون فيه، فإذا سُدَّ فمع السَّدِّ ينقطعُ إلى قُرْصه، وأصلِ جوهره.
فإذا أجابَ بذلك أبو إسحاق لم يجد خصمُه بُدّاً من أن يبتدئ مسألة في إفساد القول بالطفرة والتخليف.
ولولا ما اعترض به أبو إسحاق من الجواب بالطفرة في هذا الموضع، لكان هذا مما يقع في باب الاستدلالِ على حدوثِ العالم.
قول النظام في الكمون وكان أبو إسحاق يزعُمُ أن احتراق الثوب والحطب والقطن، إنما هو خروجُ نيرانه منه، وهذا هو تأويل الاحتراق، وليس أن ناراً جاءت من مكانٍ فعملت في الحطب، ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على نفي ضدِّها عنها، فلما اتصلت بنار أخرى، واستمدَّت منها، قوِيَتَا جميعاً على نفي ذلك المانع، فلما زال المانع ظهرت، فعند ظهورها تجزَّأ الحطبُ وتجففَ وتهافتَ؛ لمكان عملها فيه، فإحراقك للشيء إنما هو إخراجك نيرانه منه.
وكان يزعم أن حرارة الشمس، إنما تحرق في هذا العالم بإخراج نيرانها منه، وهي لا تُحرق ما عقد العَرضُ وكَثَّفَ تلك النداوة؛ لأن التي عقدت تلك الأجزاء من الحر أجناس لا تحترق، كاللون والطعم والرائحة، والصوت، والاحتراقُ إنما هو ظهورُ النار عند زوال مانِعها فقط.
 وكان يزعم أن سمَّ الأفعى مقيماً في بدن الأفعى، ليس يَقْتُل، وأنه متى مازَجَ بدناً لا سمَّ فيه لم يقتل ولم يُتْلِفْ، وإنما يتلفُ الأبدان التي فيها سموم ممنوعة مما يُضَادُّها، فإذا دخل عليها سم الأفعى، عاون السم الكامنُ ذلك السمَّ الممنوعَ على مانعهِ، فإذا زال المانعُ تلف البدن، فكان المنهوشُ عند أبي إسحاقَ، إنما كان أكثرُ ما أتلفه السمّ الذي معه.
وكذلك كان يقول في حرِّ الحمَّام، والحر الكامنِ في الإنسان: أَنَّ الغَشْيَ الذي يعتريه في الحمام ليس من الحر القريب، ولكن من الحر الغريب، حرّك الحرَّ الكامن في الإنسانِ، وأمَدّهُ ببعض أجزائه، فلما قوِيَ عند ذلك على مانِعِهِ فأزاله، صار ذلك العملُ الذي كان يُوقعه بالمانع واقعاً به، وإنما ذلك كماءٍ حار يحرِقُ اليَد، صُبَّ عليه ماءٌ باردٌ، فلما دخل عليه الماء البارد صار شُغْله بالداخل، وصار من وضَعَ يده فيه ووضع يدَه في شيء قد شُغِل فيه بغيره، فلما دفع اللّه، عزّ وجلّ، عنه ذلك الجسم الذي هو مشغولٌ به، صار ذلك الشُّغْل مصروفاً إلى من وضع يده فيه؛ إذ كان لا ينفكُّ من عمله.
وكان مع ذلك يزعم أنك لو أطفأتَ نارَ الأتُّون لم تجدْ شيئاً من الضوء، ووجدت الكثير من الحر؛ لأن الضياء لما لم يكن له في الأرض أصلٌ ينسب إليه، وكان له في العلوِّ أصلٌ، كانَ أولَى به.
وفي الحقيقة أنهما جميعاً قد اتصلا بجوهرهما من العالم العلويِّ، وهذا الحر الذي تجده في الأرض، إنما هو الحرُّ الكامن الذي زال مانعه.
هكذا كان ينبغي أن يقول، وهو قياسُه.
وكان يزعم أنك إن أبصرتَ مصباحاً قائماً إلى الصُّبح أن الذي رأيته في أول وهلةٍ قد بَطلَ من هذا العالَم، وظَفِر من الدهن بشيء من وزنه وقدره بلا فضل، ثم كذلك الثالث والرابع والتاسع، فأنت إن ظننتَ أن هذا المصباحَ ذلك، فليس به، ولكن ذلك المكان لما كان لا يخلو من أقسامٍ متقاربة متشابهة، و لم يكن في الأول شِيةٌ ولا علامة، وقع عندك أن المصباحَ الذي رأيته مع طلوعِ الفجر، هو الذي رأيته مع غروب الشَّفقِ.
وكان يزعم أن نار المصباح لم تأكل شيئاً من الدُّهن ولم تشربْه، وأن النار لا تأكل ولا تشرب، ولكن الدهن ينقص على قدرِ ما يخرجُ منه من الدخان والنار الكامنَين، اللذَينِ كانا فيه، وإذا خرج كلُّ شيء فهو بُطْلاَنه.

المجاز والتشبيه الأكل

وقد يقولون ذلك أيضاً على المثل، وعلى الاشتِقاق، وعلى التشبيه.
فإن قلتم: فقد قال اللّه عزّ وجلّ في الكتاب: "الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللّه عَهِدَ إلَيْنا أَنْ لاَ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تأْكُلُهُ النَّارُ" علِمْنَا أن اللّه، عزّ وجلّ، إنما كلمهم بلغتهم.
وقد قال أوسُ بنُ حَجَر :

وألقى بأسبابٍ لـه وتـوكَّـلاَ

 

فأشْرَط فيها نفسَه وهْو مُعْصِمٌ

تَعَايا عليه طولٌ مَرْقًى تَوَصَّلاَ

 

وقد أكَلَتْ أظْفَارُه الصَّخْرُ كلما

فجعل النحتَ والتَّنَقُّصَ أكلاً.
وقال خفَافُ بن نَدْبَة:

فإنَّ قوْمِيَ لمْ تَأْكلْهُمُ الضبُعُ

 

أبا خُرَاشَةَ أَمَّا كنْتَ ذَا نَفَرٍ

والضَّبُع: السّنَة، فجعل تَنَقُّصَ الجدْبِ، والأزْمة، أكلاً.
باب آخر مما يسمونه أكلاً. وقال مِرْداسُ بن أُدَيّة:

وقرّبُوا لحِسَابِ القِسْطِ أعمالـي

 

وأدّتِ الأرضُ مِنِّي مِثْلَ مَا أَكَلَتْ

وأكْلُ الأرض لما صارَ في بطنها: إحالتها له إلى جَوْهَرِها.

باب آخر في المجاز والتشبيه بالأكل

وهو قول اللّه عزّ وجلّ: "إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظلْماً" وقوله تعالى، عزَّ اسمُه: "أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ"، وقد يقال لهم ذلك وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة، ولبسوا الحُللَ، وركبوا الدوابَّ، ولم ينفقوا منها دِرْهَماً واحداً في سبيل الأكل.
وقد قال اللّه عزّ وجلّ: "إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ ناراً"، وهذا مجازٌ آخر.
وقال الشاعر في أخذ السِّنِينَ من أجزاء الخمر:

وتَبَقَّى مُصَاصَهَا المكنونا

 

أكَلَ الدَّهْرُ ما تجسَّمَ منها

وقال الشاعر:

يأكُلُ منها بعضُهَا بعضَا

 

مَرّتْ بِنَا تَخْتَالُ فِي أرْبَعٍ

وهلْ قوله: وقد أكَلَتْ أظْفَارَه الصَّخْرُ، إلا كقوله:

كضَبِّ الكُدَى أفنى بِرَاثِنَهُ الحفْرُ

وإذا قالوا: أكلَهُ الأسَد، فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا: أكَلَهُ الأسْوَد، فإنما يعنون النَّهْشَ واللَّدْغَ والعضَّ فقط.
وقد قال اللّه عزّ وجلّ: "أيُحبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً"، ويقال: هم لحوم الناس.
وقال قائلٌ لإسماعيل بن حماد: أيّ اللُّحْمَانِ أطيب? قال: لحومُ الناس، هي واللّهِ أطيبُ من الدجاج، ومن الفراخ، والعُنُوز الحُمْر.
ويقولون في باب آخر: فلانٌ يأكل الناس، وإن لم يأكلْ من طعامهم شيئاً.
وأما قولُ أوس بن حَجَر:

له رَونقٌ ذرِّيُّهُ يتـأكَّـلُ

 

وذو شُطباتٍ قَدّهُ ابنُ مجدِّعٍ

فهذا على خلاف الأول، وكذلك قول دُهْمان النهري:

شَرِبَ الدَّهْرُ عليهمْ وأكَلْ

 

سألْتِني عنْ أُنَاسٍ أَكلُـوا

فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز.

باب آخر في مجاز الذوق

وهو قول الرَّجل إذا بالغ في عقوبةِ عبده: ذُقْ و: كيف ذقته? و: كيف وجدتَ طعمَه! وقال عزّ وجلّ: "ذُقْ إنَّك أَنْتَ العَزِيزُ الْكَرِيمُ".
وأما قولهم: ما ذقْت اليوم ذَواقاً، فإنه يعني: ما أكلتُ اليوم طعاماً، ولا شربتُ شراباً، وإنما أراد القليل والكثير، وأنه لم يذقه، فضلاً عن غير ذلك.
وقال بعض طبقات الفقهاء، ممن يشتهي أن يكون عند الناس متكلماً: ما ذقت اليوم ذواقاً على وجهٍ من الوجوه، ولا على معنًى من المعاني، ولا على سبب من الأسباب، ولا على جهةٍ من الجهات، ولا على لون من الألوان.
وهذا من عجيب الكلام.
قال: ويقول الرجل لوكيله: اِيتِ فلاناً فذُقْ ما عنده.
وقال شمّاخ بن ضِرار:

كَفى ولَهَا أن يُغرِقَ السهمَ حاجزُ

 

فذاق فأعطَتْه من اللِّين جانـبـاً

وقال ابن مُقْبِل:

أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لِينَا

 

أو كاهتزازِ رُدَيْنِيٍّ تَذَاوَقـهُ

وقال نَهْشَلُ بن حَرِّيٍّ:

وَنَتْ عنهُ الجعائلُ مستذاقِ

 

وعَهْدُ الغَانِيَاتِ كَعَهْدِ قَـيْن

الجعائلُ: من الجُعْل.
وتجاوزوا ذلك إلى أن قال يزيدَ بن الصّعِق، لبني سُليم حين صنعوا بسيِّدهم العباسِ ما صنعوا، وقد كانوا توّجوه ومَلَّكوه، فلما خالفَهُم في بعض الأمر وثَبوا عليه، وكان سببَ ذلك قلة رَهْطِه، وقال يزيد بن الصّعِق:

فلما ذاق خِفَّتَهَا قَلاَهـا

 

وإن اللّه ذاق حُلُوم قَيْسٍ

فخلاَّها تردَّدُ في خلاها

 

رآها لا تطيعُ لها أميراً

فزعم أن اللّه، عزَّ وجلَّ، يذوق.
وعند ذلك قال عباس الرِّعلي يخبر عن قلَّتِهِ وكثرتهم، فقال:

وأمُّ أخيكم كَزَّة الرِّحمِ عاقرُ

 

وأمُّكمُ تُزْجي التُّؤَام لِبَعْلِهَـا

وزعم يونس أنَّ أسلم بن زرعة لما أُنشدَ هذا البيت اغرَوْرَقَتْ عيناه.
وجعل عباسٌ أمّه عاقراً إذْ كانت نَزَوراً، وقد قال الغنويّ:

عَذْرَاءَ لا كَهْلٌ وَلا مَوْلُودُ

 

وتحدثوا مَلأً لِتُصْبِحَ أمُّنَـا

جَعَلَهَا إذْ قلَّ ولدُها كالعذراء التي لم تلد قَطُّ، لما كانت كالعذراء جعلها عذراء.
وللعربِ إقدام على الكلام، ثقةً بفهمِ أصحابهم عنهم، وهذه أيضاً فضيلةٌ أخرى.
وكما جوَّزُوا لقولهم أكل وإنما عضَّ، وأكَلَ وإنما أفْنَى، وأكلَ وإنما أحاله، وأكل وإنما أبطلَ عينه - جوّزوا أيضاً أن يقولوا: ذُقْتَ ما ليس بطعم، ثم قالوا: طعِمْت، لغير الطعام، وقال العرْجيُّ:

وإن شئتُ لم أطعمْ نُقاخاً ولا بَرْدَا

 

وإنْ شِئْتُ حَرَّمتُ النساءَ سِوَاكـمُ

وقال اللّه تعالى: "إنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَربَ مِنْهُ فلَيْسَ مِنِّي ومَنْ لَمْ يَطْعَمْه فإنهُ مِنِّي"، يريد: لم يذقْ طعمه.
وقال عَلقمة بن عَبَدَةَ:

حُمْرُ المَزاد ولحمٌ فيه تنشيمُ

 

وقد أُصاحِبُ فتياناً طعامُهُمُ

يقول: هذا طعامهم في الغزو والسفرِ البعيد الغايةِ، وفي الصيف الذي يُغَيِّرُ الطعام والشراب، والغزوُ على هذه الصفةِ من المفاخر؛ ولذلك قال الأول:

 

بُ ولا أُغيرُ عَلَى مُضَرْ

 

لا لا أعـقُّ ولا أحُــو

ضجَّ المَطِيُّ من الدَّبَرْ

 

لَكِنّـمـا غَـزْوي إذا

 








وعلى المعنى الأولِ قولُ الشاعر:

وكان تَمْري كهرةً وزَبرا

 

قالت ألاَ فاطْعِمْ عُمَيْراً تمرا

وعلى المعنى الأولِ قال حاتم: هذا فَصْدِي أنَهْ! ولذلك قال الرّاجز:

لعامراتِ البيتِ بالخرابِ

يقول: هذا هو عمارتها.

تأويل النظام لقولهم النار يابسة

وكان أبو إسحاق يتعجبُ من قولهم: النار يابسة، قال: أما قولهم: الماء رَطْب، فيصح؛ لأنا نراه سيَّالاً، وإذا قال الأرض يابسة، فإِنما يريد الترابَ المتهافتَ فقط، فإن لم يُرِدْ إلا بَدَنَ الأرض الملازمَ بعضُه لبعض؛ لما فيها من اللُّدُونة فقط، فقد أخطأ، لأن أجزاءَ الأرض مخالطةٌ لأجزاءِ الماء، فامتنعتْ من التهافتِ على أقدار ذلك.
ومتى حفرنا ودخلنا في عُمْق الأرض، وجدنا الأرض طيناً؛ بل لا تزال تجدُ الطين أرطبَ حتى تصيرَ إلى الماء، والأرض اليوم كلها أرضٌ وماء، والماء ماءٌ وأرض، وإنما يلزمها من الاسم على قدر الكثرة والقلة، فأما النار فليست بيابسة البدن، ولو كانت يابسة البدنِ لتهافتتْ تهافت التراب، ولتَبَرّأ بعضها من بعض، كما أن الماء لما كان رطباً كان سيَّالاً.
ولكن القوم لما وجدوا النار تستخرج كل شيء في العودِ من النار فظهرت الرطوباتُ لذلك السببِ، ووجدوا العودَ تتميزُ أخلاطه عند خروج نيرانه التي كانت إحدى مراتعها من التمييز فوجدوا العودَ قد صار رماداً يابساً مُتهافتاً - ظنوا أن يُبْسَهُ إنما هو مما أعطته النار وولَّدتْ فيه.
والنارُ لم تُعْطِهِ شيئاً، ولكن نار العودِ لما فارقَتْ رطوباتِ العودِ، ظهرت تلك الرطوباتُ الكامنة والمانعة، فبقيَ من العودِ الجزءُ الذي هو الرماد، وهو جزء الأرض وجَوْهَرُها؛ لأن العود فيه جزء أرضيٌّ، وجزءٌ مائيٌّ، وجزءٌ ناريٌّ، وجزءٌ هوائيٌّ، فلما خرجتِ النارُ واعتزلت الرطوبة بقيَ الجزءُ الأرضيّ.
فقولهم: النار يابسةٌ، غلطٌ، وإنما ذهبوا إلى ما تراه العيون، ولم يغوصوا على مُغَيَّبَاتِ العِلَل، وكان يقول: ليس القوم في طريق خُلَّصِ المتكلمين، ولا في طريق الجهابذةِ المتقدِّمين.
قول النظام في علاقة الذكاء بالجنس وكان يقول: إنَّ الأُمَّة التي لم تنْضِجْها الأرحام، ويخالفون في ألوان أبدانِهم، وأحداقِ عيونهم، وألوانِ شعورهم، سبيلَ الاعتدال - لا تكون عقولهم وقرائحهم إلا على حسبِ ذلك، وعلى حسبِ ذلك تكون أخلاقهم وآدابهم، وشمائلهم، وتصرُّف هممهم في لؤمهم وكرمهم، لاختلاف السّبْكِ وطبقاتِ الطبخ، وتفاوتُ ما بين الفطير والخمير، والمقصِّر والمجاوز - وموضع العقل عضوٌ من الأعضاء، وجزءٌ من تلك الأجزاء - كالتفاوت الذي بين الصَّقالبِةِ والزّنج.
وكذلك القولُ في الصور ومواضع الأعضاء، ألا ترَى أن أهل الصين والتُّبَّتِ، حُذَّاقُ الصناعات، لها فيها الرِّفق والحِذْق، ولُطفُ المداخل، والاتساعُ في ذلك، والغَوْصُ على غامِضِه وبعيده، وليس عندهم إلا ذلك؛ فقد يُفْتَح لقوم في باب الصناعات ولا يُفتح لهم في سِوَى ذلك.
تخطئة من زعم أن الحرارة تورث اليبس قال: وكان يخطِّئهم في قولهم: إن الحرارة تورث اليُبْس، لأن الحرارة إنما ينبغي أن تورثَ السخونة، وتولّدَ ما يشاكلها، ولا تولدُ ضرباً آخر مما ليس منها في شيء، ولو جازَ أن تولّد من الأجناس التي تخالفها شكلاً واحداً لم يكن ذلك الخلاف بأحقَّ من خلافٍ آخر، إلا أن يذهبوا إلى سبيلِ المجاز: فقد يقول الرجلُ: إنما رأيتك لأني التفتُّ، وهو إنما رآه لطبع في البصر الدرَّاك، عند ذلك الالتفاتِ. وكذلك يقول: قد نجد النار تداخلُ ماءَ القُمقمِ بالإيقاد من تحته، فإذا صارت النارُ في الماء لابسَتْه، واتصلت بما فيه من الحرَاراتِ، والنار صَعَّادةٌ - فيحدثُ عند ذلك للماء غليانٌ؛ لحركة النار التي قد صارت في أضعافه، وحركتها تصعُّدٌ، فإذا تَرَفّعت أجزاءُ النار رَفَعَت معها لطائف من تلك الرُّطوباتِ التي قد لابَسَتْها؛ فإذا دام ذلك الإيقادُ من النار الداخلةِ على الماء، صعدت أجزاء الرطوباتِ الملابسةُ لأجزاء النار، ولقوة حركة النار وطلبِها التِّلاَدَ العُلْوِيَّ، كان ذلك، فمتى وجد من لا عِلْمَ له في أسفل القمقم كالجِبس، أو وجد الباقيَ من الماء مالحاً عند تصعُّدِ لطائفه، على مثال ما يعتري ماءَ البحر ظنَّ أن النار التي أعطته اليُبْسَ.
وإن زعموا أن النار هي الميَبِّسَة - على معنى ما قد فسرنا - فقد أصابوا، فإن ذهبوا إلى غير المجازِ أخطئوا.
وكذلك الحرارة، إذا مُكنت في الأجساد بعثَتِ الرطوبات ولابَسَتْهَا، فمتى قويَتْ عَلَى الخروج أخرجتها منه، فعند خروج الرطوباتِ توجد الأبدان يابسةً، ليس أن الحرّ يجوز أن يكون له عملٌ إلا التسخينَ والصعودَ؛ والتقلبُ إلى الصعود من الصعود، كما أن الاعتزال من شكل الزوال.
وكذلك الماء الذي يفيض إلى البحر من جميع ظهور الأرضينَ وبطونها، إذا صار إلى تلك الحفرة العظيمة، فالماء غسَّال مصّاص، والأرض تقذف إليه ما فيها من الملوحة.
وحرارةُ الشمس والذي يخرج إليه من الأرض، من أجزاء النيران المخالطة يرفعان لطائفَ الماء بارتفاعهما، وتبخيرهما، فإذا رَفَعَا اللطائفَ، فصار منهما مطرٌ وما يشبه المطر، وكان ذلك دأبهما، عادَ ذلك الماء ملحاً لأن الأرض إذا كانت تعطيه الملوحة، والنيران تخرجُ منه العذوبة واللطافة - كان واجباً أن يعود إلى الملوحة، ولذلك يكون ماء البحرِ أبداً عَلَى كيلٍ واحدٍ، ووزن واحد؛ لأن الحراراتِ تطلب القرارَ وتجري في أعماق الأرض، وترفع اللطائف؛ فيصير مطراً، وبَرَداً، وثلجاً، وطَلاًّ، ثم تعود تلك الأمواه سيولاً تطلب الحَدورَ، وتطلب القرار، وتجري في أعماق الأرض، حتى تصير إلى ذلك الهواء، فليس يضيع من ذلك الماء شيء، ولا يبطلُ منه شيء، والأعيانُ قائمة، فكأنه مَنْجَنُونٌ غرف من بحر، وصبَّ في جدول يفيضُ إلى ذلك النهر.
فهو عملُ الحرارات إذا كَانت في أجواف الحطب، أو في أجواف الأرَضينَ، أو في أجواف الحيوان.
والحر إذا صار في البدَن، فإنما هو شيء مُكْرَه، والمكرهُ لا يألو يتخلصُ وهو لا يتلخص إلا وقد حَمَل معه كلَّ ما قويَ عليه، مما لم يشتد، فمتى خرج خرج معه ذلك الشيءُ.
قال: فمن هاهنا غَلط القَوم.
قول الدُّهرية في أركان العالم قال أبو إسحاق: قالت الدهرية في عالَمِنَا هذا بأقاويلَ: فمنهم من زعم أن عالمنا هذا من أربعة أركانٍ: حرّ، وبرد، ويبس، وبِلَّة، وسائر الأشياء نتائجُ، وتركيبٌ، وتوليد، وجعلوا هذه الأربعة أجساماً.
ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعةِ أركانٍ: من أرض، وهواءٍ، وماءٍ، ونار، وجعلوا الحر، والبرد، واليُبْس، والبلَّة أعراضاً في هذه الجواهر، ثم قالوا في سائر الأراييح، والألوان، والأصوات: ثمارُ هذه الأربعة، عَلَى قدر الأخلاط، في القلة والكثرة، والرقة والكثافة.
فقدَّموا ذِكر نصيب حاسَّةِ اللمس فقط، وأضربوا عن أنصباء الحواسِّ الأربع.
قالوا: ونحن نجد الطُّعومَ غاذيةً وقاتلة، وكذلك الأراييح، ونجد الأصوات مُلذة ومؤلمة، وهي مع ذلك قاتلة وناقصةٌ للقوى مُتْلفة، ونجد للأَلوان في المضار والمنافع، واللّذَاذَةِ والألَمِ، المواقعَ التي لا تجهل، كما وجدنا مثل ذلك في الحر والبر، واليُبْس والبِلَّة، ونجن لم نجد الأرض باردة يابسة، غير أنا نجدها مالحة، أي ذات مَذاقةٍ ولون كما وجدناها ذات رائحةٍ، وذات صوتٍ متى قَرَعَ بعضها بعضاً.
فبردُ هذه الأجرامِ وحرها، ويُبْسُهَا ورطوبتها، لم تكن فيها لعلة كون الطُّعوم والأراييح والألوان فيها، وكذلك طعومها، وأراييحها وألوانها، لم تكن فيها لمكانِ كمون البرد، واليُبْس، والحر، والبِلَّة فيها.
ووجدنا كلَّ ذلك إما ضارّاً وإما نافعاً، وإما غاذياً وإما قاتلاً، وإما مؤلماً وإما مُلِذّاً. وليس يكون كون الأرض مالحة أو عذبة، ومنتِنَةً أو طيبة أحقَّ بأن يكون علة لكون اليُبْس والبرد، والحر والرطوبة، من أن يكون كون الرطوبةِ واليُبْس، والحر والبرد- عِلَّة لكون اللون والطعم والرائحةِ.
وقد هجم الناسُ على هذه الأعراض الملازمةِ، والأجسام المشاركةِ هجوماً واحداً، عَلَى هذه الحِلْية والصورة ألفَاها الأولُ والآخِرُ.
قال: فكيف وقع القول منهم عَلَى نصيب هذه الحاسَّةِ وحدها ونحن لم نر من البِلَّة، أو من اليُبْس نفعاً ولا ضرّاً، تنفرد به دونَ هذه الأمور?.
قال: والهواء يختلف على قَدْرِ العوامل فيه من تحت ومن فوق، ومن الأجرام المشتملة عليه والمخالطة له، وهو جسم رقيق، وهو في ذلك محصورٌ، وهو خَوّارٌ سريعَ القَبول، وهو مع رقّته يقبل ذلك الحصر؛ مثل عمل الريح والزِّقِّ، فإنها تدفعه من جوانبه، وذلك لعلة الحصر ولقَطْعه عن شكلهِ.
والهواء ليس بالجسم الصعاد، والجسمِ النَّزَّال، ولكنه جسم به تعرف المنازل والمصاعد.
والأمور ثلاثة: شيء يصعدُ في الهواء، وشيء ينزِل في الهواء، وشيء مع الهواء، فكما أن الصاعد فيه، والمنحدرَ - لا يكونان إلا مخالفين، فالواقُع معه لا يكون إلا موافقاً.
ولو أنَّ إنساناً أرسل من يده - وهو في قَعْر الماء - زِقّاً منفوخاً، فارتفع الزِّقُّ لدفع الريح التي فيه، لم يكن لقائل أن يقول: ذلك الهواءُ شأنه الصعود بل إنما ينبغي أن يقول: ذلك الهواء من شأنه أن يصير إلى جوهره، ولا يقيم في غير جوهره؛ إلا أن يقول: من شأنه أن يصعد في الماء، كما أن من شأن الماء أن ينزل في الهواء، وكما أن الماء يطلبُ تِلاَدَ الماء، والهواءَ يطلب تلاد الهواء.
قالوا: والنار أجناسٌ كثيرة مختلفة، وكذلك الصاعد، ولا بدّ إذا كانت مختلفة أن يكون بعضها أسرع من بعض، أو يكون بعضها إذا خرج من عالم الهواء، وصار إلى نهاية، إلى حيث لا منفذ - ألاّ يزال فوق الآخر الذي صعد معه، وإن وجد مذهباً لم يقم عليه.
ويدلُّ على ذلك أنا نجد الضياء صعَّاداً، والصوت صعّاداً، ونجد الظلام رابداً، وكذلك البردَ والرُّطوبة، فإذا صح أن هذه الأجناس مختلفة، فإذا أخذت في جهة، علمنا أن الجهة لا تخالف بين الأجناس ولا توافق، وأن الذي يوافق بينهما ويخالف اختلافُ الأعمال.
ولا يكون القطعانِ متفقين، إلا بأن يكون سرورهما سواء، وإذا صارا إلى الغاية، صار اتصال كل واحد منهما بصاحبه، كاتصال بعضِه ببعض، ثم لا يوجد أبداً، إلا إمّا أعْلَى، وإما أسفل.
قال أبو إسحاق: فيستدل على أن الضياء أخفُّ من الحر بزواله، وقد يذهب ضوء الأتّون، وتبقى سخونته.
قال أبو إسحاق: لأمر ما حُصر الهواء في جوف هذا الفَلَك، ولا بد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر شدة الحصار، وكذلك الماء إذا اختنق.
قال: والريح هواء نزل لا غير، فلِمَ قضَوا على طبع الهواء في جوهريته باللدونة، والهواء الذي يكون بقرب الشمس، والهواء الذي بينهما على خلاف ذلك? ولولا أن قُوَى البرد غريزيةٌ فيه، لما كان مروِّحاً عن النفوس، ومنفِّساً عن جميع الحيوان إذا اختنق في أجوافها البخارُ والوهجُ المؤذي، حتى فزعتْ إليه واستغاثتْ به، وصارت تجتلب من رَوْحه وبردِ نسيمه، في وزن ما خَرَجَ من البخار الغليظ، والحرارة المسْتَكِنَّة.
قال: وقد علموا ما في اليُبْس من الخصومة والاختلاف، وقد زعم قومٌ أَن اليُبْس إنما هو عدم البلَّة، قالوا: وعلى قدر البلة قد تتحول عليه الأسماء، حتى قال خصومهم: فقولوا أيضاً إنما نجدُ الجسم بارداً على قدر قلة الحَرِّ فيه.
وكذلك قالوا في الكلام: إن الهواء إنما يقع عندنا أنه مُظلم لفِقْدان الضياء، ولأن الضياء قرصٌ قائم، وشعاع ساطعٌ فاصل، وليس للظلام قرص، ولو كان في هذا العالم شيء يقال له ظلامٌ، لما قام إلا في قرص، فكيف تكون الأرض قُرْصَةً، والأرض غبراء، ولا ينبغي أن يكون شعاع الشيء أسبغَ منه.
قال: والأول لا يشبِه القول في اليُبْس والبلة، والقولَ في الحر والبرد، والقول في اليُبْس والرطوبة، والقول في الخشونة واللين، لأن التراب لو كان كله يابساً، وكان اليبس في جميع أجزائه شائعاً، لم يكن بعضه أحق بالتقطيع والتبرد والتهافت، من الجزء الذي نجده متمسكاً. قال خصمه: ولو كَان أيضاً التهافت الذي نجده فيه إنما هو لعدمِِ البلة، وكله قد عدم البِلَّة، لكان ينبغي للكل أن يكون متهافتاً، ولا نجد منه جزأين متلازقين.
فإن زعمتم أنه إنما اختلف في التهافت على قدر اختلاف اليُبْس، فينبغي لكم أن تجعلوا اليُبْس طبقات، كما يُجعل ذلك للخُضرة والصُّفرة.
وقال إبراهيم: أرأيت لو اشتمل اليُبس الذي هو غاية التُّراب كله كما عرض لنصفه، أما كان واجباً أن يكون الافتراقُ داخلاً على الجميع? وفي ذلك القولُ بالجزء الذي لا يتجزأ.
وأبو إسحاق، وإن كان اعترض على هؤلاء في باب القول في اليبس، فإنّ المسألة عليه في ذلك أشد.
وكان أبو إسحاق يقول: من الدليل على أن الضياء أخفُّ من الحرِّ أنَّ النارِ تكون منها على قاب غلوة فيأتيك ضوؤها ولا يأتيك حرها، ولو أن شمعة في بيت غير ذي سقف، لارتفع الضوء في الهواء حتى لا تجد منه عَلَى الأرض إلا الشيء الضعيف، وكان الحرُّ عَلَى شبيهٍ بحاله الأول.
رد النظام على الديصانية وقال أبو إسحاق: زعمت الديصانية أن أصلَ العالَمِ إنما هو من ضياءٍ وظلام، وأن الحرَّ والبردَ، واللون والطعمَ والصوت والرائحة، إنما هي نتائج عَلَى قدر امتزاجهما.
فقيل لهم: وجدنا الحِبْر إذا اختلطَ باللبن صار جسماً أغبر، وإذا خلَطْتَ الصَّبِرَ بالعسل صار جسماً مُرَّ الطعم عَلَى حساب ما زدْنا، وكذلك نجدُ جميع المركبات، فما لنا إذا مزجنا بين شيئين من ذواتِ المناظر، خرجنا إلى ذوات الملامس، وإلى ذوات المَذَاقة والمشَّمة? وهذا نفسُه داخلٌ عَلَى من زعم أن الأشياء كلها تولدت من تلك الأشياء الأربعة، التي هي نصيبُ حاسةٍ واحدة.
نقد النظام لبعض مذاهب الفلاسفة وقال أبو إسحاق: إنْ زعَمَ قومٌ أن ههنا جنساً هو روحٌ، وهو ركن خامس - لم نخالفهم.
وإن زعموا أن الأشياء يحدثُ لها جنسٌ إذا امتزجتْ بضربٍ من المزاجِ، فكيف صار المزاجُ يُحْدِث لها جنساً وكلُّ واحد منه إذا انفرد لم يكن ذا جنس، وكان مفْسِداً للجسم، وإن فصَل عنها أفسدَ جنسها? وهل حكمُ قليلِ ذلك إلا كحكم كثيرهِ? ولم لا يجوز أن يُجمعَ بين ضياءٍ وضياءٍ فيحدُثَ لهما منع الإدراك?.
فإن اعتلَّ القومُ بالزاج والعفْص والماء، وقالوا: قد نجدُ كلَّ واحد من هذه الثلاثة ليس بأسودَ، وإذا اختلطت صارت جسماً واحداً أشدَّ سواداً من الليل، ومن السَّبَج، ومن الغراب - قال أبو إسحاق: بيني وبينكم في ذلك فَرْق، أنا أزعمُ أن السواد قد يكون كامناً ويكون ممنوع المنظرة، فإذا زال مانعهُ ظهر، كما أقولُ في النار والحجَرِ وغير ذلك من الأمور الكامنة، فإن قلتم بذلك فقد تركتم قولَكم، وإن أبيتم فلا بدَّ من القول، قال أبو إسحاق: وقد خلط أيضاً كثيرٌ منهم فزعموا أن طباع الشيخ البلغَم.
ولو كان طباعُهُ البلغَم، والبلغم ليّنٌ رَطْبٌ أبيضُ، لما ازداد عَظمه نحولاً، ولونهُ سواداً، وجلدهُ تقبُّضاً.
وقال النَّمِرُ بنُ تَوْلب:

صَنَاعٍ عَلتْ مِنِّي به الجِلْدَ مِنْ عَلُ

 

كَأَنَّ مِحَطَّاً فـي يَدَيْ حَـارِثِـيّةٍ

وقال الراجز:

وكثرت فواضل الإهابِ

قال: ولكنهم لما رأَوْا بَدَنَهُ يَتَغَضّنُ، ويظهرُ من ذلك التغضُّنِ رطوبات بدنية كالبلغم من الفم، والمخاطِ السائل من الأنف، والرَّمَص والدمع من العين، ظنوا أن ذلك لكثرة ما فيه من أجزاء الرطوبات، وأرادوا أن يقسِّموا الصِّبا والشباب، والكهولة والشيوخة على أربعة أقسام كما تهيأ لهم ذلك في غير بابٍ.
وإذا ظهرت تلك الرطوباتُ، فإنما هي لنفْي اليُبْس لها، ولعَصْرِهِ قُوى البَدَنِ، ولو كان الذي ذكروا لكان دمعُ الصِّبا أكثرَ ومخاطه أغزرَ، ورطوباته أظهر، وفي البقول والرياحين والأغصان والأشجار ذلك؛ إذ كانت في الحداثة أرطبَ، وعَلَى مرور السنينَ والأيام أيْبَس.
قال الرَّاجز:

نوم العشي وسعال بـالـسـحـر

 

اسمع أنـبـئك بـآيات الـكـبـر

وقلة الطعـم إذا الـزاد حـضـر

 

وقلة النوم إذا الـلـيل اعـتـكـر

وتركي الحسناء في قبل الطـهـر

 

وسرعة الطرف وضعف في النظر

والناس يبلون كما يبلى الشـجـر

 

وحـذر أزداده إلــى حـــذر

وكان يتعجَّب من القول بالهيولَى. وكان يقول: قد عرفنا مقدارَ رزانة البِلَّة، وسنعطيكم أن للبرد وزناً، أليس الذي لا تشُكُّونَ فيه أن الحر خفيف ولا وزن له، وأنه إذا دخل في جِرمٍ له وزنٌ صار أخفّ، وإِنكم لا تستطيعون أن تثبتوا لليبس من الوزن مثل ما تثبتون للبِلَّة، وعلى أنَّ كثيراً منكم يزعم أن البرد المجْمِدَ للماء هو أيبس.
وزعم بعضهم أن البرد كثيراً ما يصاحب اليبس، وأن اليبس وحده لو حلَّ بالماء لم يُجمِدْ، وأن البرد وحده لو حلَّ بالماء لم يَجْمُدْ، وأن الماء أيضاً يجمد لاجتماعهما عليه، وفي هذا القولُ أن شيئين مجتمعين قد اجتمعا على الإجماد، فما تنكرون أن يجتمع شيئان عَلَى الإذابة?.
وإن جاز لليبس أن يُجمد جاز للبِلَّة أن تُذِيب.
قال أبو إسحاق: فإن كان بعض هذه الجواهر صعّاداً وبعضها نزَّالاً، ونحن نجد الذهب أثقلَ من مثله من هذه الأشياء النزّالة، فكيف يكون أثقل منها وفيه أشياء صَعّادة?.
فإن زعموا أن الخفة إنما تكونُ من التَّخَلْخُل والسُّخْف، وكثرةِ أجزاء الهواء في الجرم، فقد ينبغي أن يكون الهواء أخفَّ من النار، وأن النار في الحجَرِ، كما أن فيه هواءً، والنار أقوى رفع الحجَر من الهواء الذي فيه.
وكان يقول: من الدليل على أن النار كامنةٌ في الحطب، أن الحطب يُحرقُ بمقدار من الإحراق، ويُمنع الحطب أن يخرج جميع ما فيه من النيران، فيجعل فحماً، فمتى أحببت أن تستخرِج الباقيَ من النار استخرجته، فترى النار عند ذلك يكون لها لهبٌ دون الضرام، فمتى أخرجت تلك النار الباقية، ثم أوقدْت عليها ألف عامٍ لم تَسْتَوْقِدْ، وتأويل: لم تستوقد إنما هو ظهور النار التي كانت فيه، فإذا لم يكن فيه شيءٌ فكيف يستوقد?.
وكان يُكثِر التعجُّبَ من ناس كانوا ينافسون في الرّآسة، إذا رآهم يجهلون جهلَ صغارِ العلماء، وقد ارتفعوا في أنفسهم إلى مرتبةِ كبار العلماء.
وذلك أن بعضهم كان يأخذ العود فيَنقِيه فيقول: أين تلك النار الكامنة? ما لي لا أراها، وقد ميّزْتُ العود قشراً بعد قشر?.

استخراج الأشياء الكامنة

فكان يقول في الأشياء الكامنة: إن لكل نوع منها نوعاً من الاستخراج، وضرباً من العلاج، فالعيدَانُ تُخرجُ نيرانُها بالاحتكاك، واللبنُ يُخرَج زبدُه بالمخْض، وجُبْنه يُجمع بإنْفَحَّةٍ، وبضروب من علاجه.
ولو أن إنساناً أراد أن يخرج القَطِرَانَ من الصّنَوْبَرِ، والزِّفْتَ من الأَرْزِ؛ لم يكن يخرج له بأن يقطع العود ويدُقّه ويقشِره، بل يوقد له ناراً بقربه، فإذا أصابه الحرُّ عَرِق وسالَ، في ضروب من العلاج.
ولو أن إنساناً مَزَجَ بين الفضة والذهب، وسبكهما سبيكة واحدة، ثم أراد أن يعزل أحدهما من صاحبهِ لم يُمكنه ذلك بالفَرْضْ والدَّق، وسبيل التفريق بينهما قريبة سهلة عند الصَّاغة، وأرباب الحُمْلانات.
رد النظام على أرسطاطاليس وزعم أبو إسحاق أن أرسطاطاليس كان يزعم أن الماء الممازِجَ للأرض لم ينقلب أرضاً، وأن النار الممازجة للماء لم تنقلب ماء، وكذلك ما كان من الماء في الحجَر، ومن النار في الأرض والهواء، وأن الأجرامَ إنما يخفُّ وزنها وتَسْخُفُ، على قدر ما فيها من التخلخلُ ومن أجزاء الهواء، وأنها ترزُنُ وتصلب وتَمْتُن على قدر قلَّةِ ذلك فيها.
ومن قال هذا القولَ في الأرض والماء والنار والهواء، وفيما تركّب منها من الأشجار وغير ذلك - لم يصل إلى أن يزعمَ أن في الأرض عرضاً يحدث، وبالْحَرَا أن يَعجِز عن تثبيت كون الماء والأرض والنار عرضاً.
وإذا قال في تلك الأشجار بتلك القالة، قال في الطول والعرض، والعُمق، وفي التربيع والتثليث والتدوير، بجواب أصحاب الأجسام، وكما يُلزِمُ أصحابُ الأعراضُُ أصحابَ الأجسام بقولهم في تثبيت السكون والحركة أن القول في حِرَاكِ الحجَر كالقول في سكونه - كذلك أصحاب الأجسام يلزِمون كلّ من زعم أن شيئاً من الأعراض لا يُنقَض أنَّ الجسمَ يتغير في المَذَاقةِ والملْمَسَة والمنْظرَةِ والمشَمّة من غير لون الماء، وفي برودة نفس الأرض وتثبيتها كذلك.
ومتى وجدْنا طينة مربَّعة صارت مدوَّرة، فليس ذلك بحدوثِ تدويرٍ لم يكن، فكان عنده تغيُّره في العَين أوْلَى من تَغَيُّر الطينةِ في العين من البياض إلى السواد، وسبيلُ الصلابة والرَّخاوة؛ والثقل والخِفَّة، سبيل الحلاوةِ والملوحة، والحرارة والبرودة. أصحاب القول بالاستحالة وليس يقيس القول في الأعراض إلا من قال بالاستحالة، وليس في الاستحالة شيءٌ أقبحُ من قولهم في استحالة الجبل الصَّخير إلى مقدار خردلةٍ، من غير أن يدخل أجزاءَه شيءٌ على حال، فهو عَلَى قولِ من زعم أنّ الخردلة تتنصَّفُ أبداً أحسن، فأما إذا قال بالجزء الذي لا يتجزأ، وزعم أن أقلَّ الأجسام، الذي تركيبه من ثمانيةِ أجزاءٍ لا تتجزأ، أو ستة أجزاءٍ لا تتجزأ، يستحيل جسْماً عَلَى قدر طول العالَم وعرضه وعُمْقه - فإنّا لو وجدناه كذلك لم نجد بدّاً من أن نقول: إنا لو رفعنا من أوهامنا من ذلك شبراً من الجميع، فإن كان مقدار ذلك الشبرِ جزءاً واحداً فقد وجدناه جِسماً أقلَّ من ثمانية أجزاء ومن ستة أجزاء، وهذا نقضُ الأصل، مع أنّ الشبرَ الذي رفعناه من أوهامنا، فلا بدَّ إن كان جسماً أن يكون من ستةِ أجزاء أو من ثمانية أجزاء، وهذا كله فاسد.

الأضواء والألوان

والنار حرٌّ وضياء، ولكلِّ ضياء بياضٌ ونور، وليس لكلِّ بياض نورٌ وضياء، وقد غلط في هذا المقام عالمٌ من المتكلمين.
والضياء ليس بلون، لأن الألوان تتفاسد، وذلك شائعٌ في كلها، وعامٌّ في جميعها؛ فاللبَن والحِبر يتفاسدان، ويتمازجُ التراب اليابس والماء السائل، كما يتمازج الحارُّ والبارد، والحلو والحامض، فصنيع البياض في السواد، كصنيعِ السواد في البياض، والتفاسُدُ الذي يقع بين الخُضْرَةِ والحمرة، فبذلك الوزنِ يقع بين البياض وجميعِ الألوان.
وقد رأينا أن البياضَ مَيّاعٌ مفسِدٌ لسائر الألوان، فأنت قد ترى الضياء عَلَى خلافِِ ذلك؛ لأنه إذا سقط عَلَى الألوان المختلفةِ كان عملُه فيها عملاً واحداً، وهو التفصيل بين أجناسها، وتمييزُ بعضها من بعض، فيبين عن جميعها إبانة واحدة، ولا تراه يخصُّ البياضَ إلا بما يخص بمثله السواد، ولا يعملُ في الخُضْرة إلا مثلَ عملِه في الحُمرة، فدلَّ ذلك عَلَى أن جنسه خلافُ أجناسِ الألوان، وجوهرَه خلافُ جواهرها، وإنما يدل عَلَى اختلافِ الجواهرِ اختلافُ الأعمال؛ فباختلاف الأعمالِ واتفاقها تعرِفُ اختلافَ الأجسام واتفاقَها.

جملة القول في الضد والخلاف والوفاق

قالوا: الألوان كلها متضادّة، وكذلك الطعوم، وكذلك الأراييح، وكذلك الأصوات، وكذلك المَلاَمِس: من الحرارة والبرودة، واليبس والرطوبة، والرخاوة والصلابة، والملاَسة والخشونة، وهذه جميع الملامس.
وزعموا أن التضادُ إنما يقع بين نصيبِ الحاسّة الواحدةِ فقط، فإذا اختلفت الحواس صار نصيب هذه الحاسةِ الواحدة من المحسوسات، خِلاف نصيب تلك الحاسة، ولم يضادّها بالضِّدِّ كاللَّون واللون؛ لمكان التفاسد، والطعم والرائحة؛ لمكان التفاسُد.
ولا يكون الطعم ضدَّ اللون، ولاَ اللون ضدَّ الطعم، بل يكونُ خِلافاً، ولا يكون ضداً ولا وفاقاً، لأنه من غير جنسه، ولا يكون ضدّاً، لأنه لا يفاسده.
وزعم من لا علم له من أصحاب الأعراض، أن السوادَ إنما ضادّ البياضَ، لأنهما لا يتعاقبان، ولا يتناوبان، ولأنهما يتنافيان.
قال القوم: لو كان ذلك من العلة، كان ينبغي لذهابِ الجسمِ قُدُماً أن يكون بعضه يضاد بعضاً، لأن كونَه في المكان الثاني لا يوجدُ مع كونه في المكان الثالث، وكذلك التربيع: كطينة لو رُبِّعت بعد تثليثها، ثم رُبِّعت بعد ذلك، ففي قياسهم أن هذين التربيعين ينبغي لهما أن يكونا متضادَّين، إذ كانا متنافيين، لأن الجسم لا يحتمل في وقت واحد طولَين، وأن الضدَّ يكون عَلَى ضدين: يكون أحدهما أن يخالف الشيءُ الشيءَ من وجوهٍ عدة، والآخرُ أن يخالفه من وجهين أو وجهٍ فقط.
قالوا: والبياض يخالف الحمرةَ ويضادُّها، لأنهُ يُفاسِدُها ولا يفاسِدُ الطعم؛ وكذلك البياض للصفرة والحُوّةِ والخُضرة، فأما السواد خاصة فإن البياض يضاده بالتفاسد، وَكذلك التفاسد، وكذلك السواد.
وبَقِيَ لهما خاصة من الفصول في أبواب المضادة: أن البياض ينصبِغ ولا يَصْبُغ، والسواد يصبغ ولا ينصبغ، وليس كذلك سائر الألوان لأنها كلها تصبُغ وتَنْصَبِغ.
قالوا: فهذا بابٌ يساق.

إن الصفرة متى اشتدت صارت حُمْرة

ومتى اشتدت الحمرةُ صارت سواداً، وكذلك الخضرةُ متى اشتدت صارتْ سواداً.

والسواد يضاد البياضَ مضادة تامة، وصارت الألوان الأخر فيما بينها تتضاد عادة، وصارت الطُّعوم والأراييح والملامس تخالفها ولا تضادها.
أصل الألوان جميعها وقد جعل بعض من يقول بالأجسام هذا المذهب دليلاً عَلَى أن الألوان كلَّها إنما هي من السواد والبياض، وإنما تختلفان عَلَى قدر المزاج، وزعموا أن اللونَ في الحقيقة إنما هو البياض والسواد، وحكموا في المقالة الأولى بالقوة للسواد علَى البياض؛ إذ كانت الألوان كلها كلما اشتدت قربت من السواد، وَبَعُدت من البياض، فلا تزال كذلك إلى أن تصيرَ سواداً.
وقد ذكرنا قبل هذا قولَ من جعل الضياء والبياض جنسين مختلفين، وزَعَم أن كلَّ ضياء بياضٌ وليس كلُّ بياضٍ ضياء.
عِظَم شأن المتكلمين وما كان أحْوَجَنَا وأحوجَ جميعَ المرضى أن يكون جميعُ الأطباء متكلمين، وإلى أن يكون المتكلمون علماء؛ فإن الطبّ لو كان من نتائج حُذاق المتكلمين ومن تلقيحهم له، لم نجدْ في الأصول التي يبنون عليها من الخَلَلِ ما نجدُ.
ألوان النِّيران والأضواء وزعموا أن النار حمراء، وذهبوا إلى ما ترى العينُ، والنار في الحقيقة بيضاء، ثم قاسوا عَلَى خلافِ الحقيقة المِرَّة الحمراء، وشبّهوها بالنار، ثم زعموا أن المرة الحمراء مُرّة، وأخْلِقْ بالدخان أن يكون مرّاً، وليس الدخان من النار في شيء.
وكل نور وضياء هو أبيض، وإنما يحمرُّ في العين بالعرَض الذي يَعرِض للعين، فإذا سَلِمَتْ من ذلك، وأفضت إليه العين رأته أبيضَ، وكذلك نار العود تنفصل من العود، وكذلك انفصال النار من الدُّهن ومعها الدخَان 0.ً لأجزائها، فإذا وقعت الحاسة على سوادٍ أو بياض في مكان واحد، كان نتاجهما في العين منظرةَ الحمرة.
ولو أنَّ دخاناً عرض بينك وبينه قرص الشمس أو القمر لرأيته أحمر، وكذلك قرص الشمس في المشرق أحمر وأصفر، للبخار والغبارِ المعترض بينك وبينه، والبخار والدخان أخوانِ.
ومتى تحلَّق القرص في كبد السماء، فصار على قمة رأسك؛ ولم يكن بين عينيك وبينه إلا بقدر ما تمكن البخار من الارتفاع في الهواء صُعُداً - وذلك يسيرٌ قليل - فلا تراه حينئذٍ إلا في غاية البياض.
وإذا انحطَّ شرقاً أو غرباً صار كلُّ شيء بين عينيك وبين قرصها من الهواء، ملابساً للغبار والدخان والبخار، وضروب الضَّباب والأنداء فتراها إما صفراء، وإما حمراء.
ومن زعم أن النار حمراءُ فلم يكذب إن ذهب إلى ما ترى العين، ومن ذهب إلى الحقيقة والمعلوم في الجوهرية، فزعم أنها حمراءُ، ثم قاس على ذلك جهِلَ وأخطأ.
وقد نجد النار تختلف على قدر اختلاف النِّفط الأزرقِ، والأسود، والأبيض، وذلك كله يدور في العين مع كثرة الدخانِ وقلته.
ونجد النار تتغير في ألوانها في العين، عَلَى قدر جفوفِ الحطَب ورطوبته، وعَلَى قدر أجناس العيدان والأدهان، فنجدُها شقراء، ونجدها خضراء إذا كان حطبُها مثلَ الكبريت الأصفر.
علة تلون السحاب ونجد لون السحاب مختلفاً في الحمرة والبياض، عَلَى قدر المقابلات والأعراض، ونجد السحابةَ بيضاء، فإذا قابلت الشمسَ بعض المقابلة، فإن كانت السحابة غربية أفقية والشمسُ منحطَّة، رأيتَها صفراء، ثم سوداء، تعرض للعين لبعض ما يدخلُ عليها.
شعر في ألوان النار وقال الصَّلَتَان الفهْمِيّ في النار:

ليعْشُو إليها كلُّ بـاغٍ وجـازِعِ

 

وتُوقدها شقراءَ في رأسِ هَضْبةٍ

وقال مزرِّد بن ضِرار:

بعلياء نَشْزٍ للعيونِ الـنـواظـرِ

 

فأبصَرَ ناري وهْيَ شقراءُ أُوقِدَتْ

وقال آخر:

مع الليل هَبّاتُ الرياح الصَّوَارِدُ

 

ونار كسَحْرِ العَوْد يرفعُ ضَوْءَها

والغبار يناسب بعضَ الدخان، ولذلك قال طُفَيْلٌ الغَنَويّ:

بجانبها الأقصى دواخنُ تَنضُبِ

 

إذا هبطتْ سَهْلاً كأنّ غبـارَه

لأن دخَانَه يكون أبيض يشبه الغبار، وناره شقراء.
والعرب تجمَعُ الدخان دواخِن، وقال الأزرق الهمْدَانيّ:

وَلَلْكُمْتُ أرْوَى للِنِّزَالِ وأشْبَـعُ

 

ونوقدها شقراء من فَرعِ تَنضُبٍ

وذلك أن النار إذا أُلْقِيَ عليها اللحمُ فصار لها دخَان، اصْهَابَّتْ بدخَان ماء اللحم وسوادِ القُتَار، وهذا يدل أيضاً عَلَى ما قلنا.
وفي ذلك يقول الهَيّبَان الفَهميّ:

ونار لا تضرم للـصـلاء

 

له فوق النجاد جفان شـيزى

طليح الهم مستلب الفـراء

 

ولكن للطبيخ، وقد عـراهـا

كمرتكم الغمامة ذي العفاء

 

وما غذيت بغير لظى، فنارى

وقال سحر العود:

لكلِّ مُرْعَبَلِ الأهدام بالي

 

له نارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَـاعٍ

مُبَجّلَةٌ تَقَاذَفُ بالمَحَـالِ

 

ونار فوقها بُجْرٌ رِحَـابٌ

علة اختلاف ألوان النار ويدلُّ أيضاً على ما قلنا: أن النار يختلف لونُها على قدر اختلاف جنس الدُّهن والحطب والدخَان، وعََلَى قدر كثرةِ ذلك وقلَّته، وعَلَى قدر يُبْسه ورطوبته - قولُ الراعي حين أراد أن يصف لونَ ذئبٍ فقال:

ورأى بعقوته أزل نـسـولا

 

وقع الربيع وقد تقارب خطوه

هش اليدين تخاله مشكـولا

 

متوضح الأقراب فيه شهـبة

غر ثان ضرم عرفجاً مبلولا

 

كدخان مرتجل بأعلى تلـعة

المرتجل: الذي أصاب رِجلاً من جرادٍ، فهو يشويه، وجعله غَرْثان لكون الغَرِث لا يختار الحطب اليابس عَلَى رطْبه، فهو يشويه بما حضَره، وأدار هذا الكلام، ليكون لون الدخَان بلون الذئب الأطحل متفقين.

تعظيم زرادُشت لشأن النار

وزرادُشت هو الذي عظم النار وأمر بإحيائها، ونهى عن إطفائها، ونهى الحيَّض عن مسها والدنوِّ منها، وزعم أن العقاب في الآخرة إنما هو بالبردِ والزمهرير والدَّمَق.
علة تخويف زرادشت أصحابه بالبرد والثلج وزعم أصحاب الكلام أن زَرَادُشت - وهو صاحب المجوس - جاء من بَلْخ، وادعى أن الوحي نزل عليه عَلَى جبال سيلان، وأنه حين دعا سكان تلك الناحية الباردة، الذين لا يعرفون إلا الأذى بالبرد، ولا يضربون المثل إلا به؛ حتى يقول الرجل لعبده: لئن عدت إلى هذا لأنزعنَّ ثيابك، ولأقيمنَّك في الريح، ولأُوقفنَّك في الثلج فلما رأى موقِع البردِ منهم هذا الموقع، جعل الوعيد بتضاعُفِه، وظنَّ أنّ ذلك أزجَرُ لهم عما يكره.
وزَرادُشت في توعده تلك الأمة بالثلج دون النار، مُقِرٌّ بأنه لم يُبعث إلا إلى أهل تلك الجبال، وكأنه إذا قيل له: أنت رسول إلى من? قال لأهل البلاد الباردة، الذين لابدّ لهم من وعيدٍ، ولا وعيدَ لهم إلا بالثلج.
وهذا جهلٌ منه، ومن استجاب له أجهلُ منه.
ردٌّ على زرادشت في التخويف بالثلج والثلج لا يكْمُل لمضادَّة النار، فكيف يبلغ مبلغها? والثلج يُؤْكَلُ ويشرب، ويُقضم قضماً، ويمزَج بالأشربة، ويدفن فيه الماء وكثير من الفواكه.
وربما أخذ بعض المترفين القطعة منه كهامَة الثور، فيضعها عَلَى رأسه ساعة من نهار، ويتبرّد بذلك.
ولو أقام إنسان عَلَى قطعة من الثلج مقدارِ صخرة في حَمدان ريح ساعةً من نهار، لما خيفَ عليه المرض قَطُّ.
فلو كان المبالغة في التنفير والزجر أراد، وإليه قَصدَ؛ لذَكَر ما هو في الحقيقة عند الأمم أشدُّ، والوعيد بما هو أشد، وبما يعم بالخوف سكان البلاد الباردة والحارة أشبه، إذا كان المبالغةَ يريد.
والثلج قد يداوَى به بعض المرضى، ويتولد فيه الدود، وتخوضه الحوافرُ، والأظلاف، والأخفاف، والأقدام، بالليل والنهار، في الأسفار.
وفي أيام الصيد يهون عَلَى من شرِب خمسة أرطال نبيذ أن يعدوَ عليه خمسة أشواط.
معارضة بعض المجوس في عذاب النار وقد عارضني بعض المجوس وقال: فلعلَّ أيضاً صاحبكم إنما توعَّد أصحابه بالنار، لأن بلادهم ليست ببلاد ثلج ولا دَمقَ، وإنما هي ناحية الحرور والوهَج والسَّموم، لأن ذلك المكروه أزجر لهم، فرأي هذا المجوسي أنه قد عارضني فقلت له: إن أكثر بلاد العرب موصوفة بشدة الحر في الصيف، وشدة البرد في الشتاء؛ لأنها بلاد صخور وجبال، والصخر يقبل الحر والبرد ولذلك سمت الفرس بالفارسية، العرب والأعراب: كَهْيَان، والكَه بالفارسية هو الجبل، فمتى أحببت أن تعرف مقدار برد بلادهم في الشتاء وحرِّها في الصيف، فانظر في أشعارهم، وكيف قسَّموا ذلك، وكيف وضعوه لتعرف أن الحالتين سواء عندهم في الشدة.
القول في البرودة والثلج  والبلاد ليس يشتد بردها عَلَى كثرة الثلج، فقد تكون بلدة أبرد وثلجها أقل، والماء ليس يجمدُ للبرد فقط، فيكون متى رأينا بلدة ثلجها أكثر، حكمنا أن نصيبها من البرد أوفر.
وقد تكون الليلة باردة جداً، وتكون صِنّبْرَةً فلا يجمد الماء، ويجمد فيما هو أقلُّ منها برداً، وقد يختلف جمود الماء في الليلة ذات الريح، عَلَى خلاف ما يقدِّرون ويظنون.
وقد خبرني من لا أرتاب بخبره، أنهم كانوا في موضعٍ من الجبَل، يستَغْشُونَ به بلبس المبطَّنات، ومتى صبوا ماءً في إناء زجاجٍ، ووضعوه تحت السماء، جَمَدَ من ساعته.
فليس جُمُود الماء بالبرد فقط، ولا بد من شروطٍ ومقادير، واختلافِ جواهر، ومقابلات أحوال، كسرعة البرد في بعض الأدهان، وإبطائه عن بعض وكاختلاف عمله في الماء المغْلَى، وفي الماء المتروك عَلَى حاله وكاختلاف عمله في الماء والنبيذ، وكما يعتري البَوْل من الخُثُورة والجمود، عَلَى قدر طبائع الطعام والقلة.
والزَّيت خاصة يصيبه المقدار القليل من النار، فيستحيل من الحرارة إلى مقدار لا يستحيل إليه ما هو أَحرّ.
ردٌّ آخر على المجوس وحجةٌ أخرى عَلَى المجوس، وذلك أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم، لو كان قال: لم أُبعثْ إلا إلى أهل مكة - لكان له متعلق من جهة هذه المعارضة، فأما وأصل نبوَّته، والذي عليه مخرجُ أمرهِ وابتداءُ مبعثه إلى ساعة وفاته، أنه المبعوث إلى الأحمر والأسود، وإلى الناس كافة، وقد قال اللّه تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللّه إلَيْكُم جَمِيعاً" وقد قال تعالى: "نذِيراً لِلْبَشَرِ" فلم يبق أن يكون مع ذلك قولهم معارضة، وأن يُعَدّ في باب الموازنة.
مما قيل في البرد ومما قالوا في البرد قول الكميت:

ووَحْوَحَ ذو الفَرْوَةِ المُرْمِلُ

 

إذا التفّ دون الفتاةِ الضَّجِيعُ

كإحدى أوائلها المـرسَـلِ

 

وراح الفَنِيقُ مع الرائحاتِ

وقال الكميت أيضاً في مثل ذلك:

وَضَنَّ من قِدْره ذُو القِدْرِ بالْعُـقَـبِ

 

وجاءت الريح من تلقاء مَغْـرِبـهـا

واستدفأ الكلب في المأسور ذي الذِّئب

 

وكهْكَهَ المدْلِجُ المـقـرورُ فـي يَدِهِ

وقال في مثله جِرَانُ العَودِ:

بعيد السمعِ، كالقمر المـنـير

 

ومشبوح الأشـاجـعِ أريحـيٍ

عَلى العِلاتِ في الخلقُ اليسير

 

رفيع الناظرين إلى المعالـي

إذا دُفع اليتيمُ عن الـجـزورِ

 

يكاد المجدُ ينضـحُ مـن يديهِ

وآل نباحهنّ إلـى الـهـرير

 

وألجأتِ الكلاب صبـاً بـلـيلٌ

مع الهلاك من عَرَنِ القـدور

 

وقد جعلتْ فتاةُ الحي تـدنـو

وقال في مثل ذلك ابن قميئة:

 

ليس طعمي طعم الأنامل إذ قلَّص درُّ اللقاح في الصنبرِ

لي عـكـوفـاً عَـــلـــى قـــرارة قِـــدر

 

ورأيتَ الإماء كالجعثنِ البا

جنِ ينـبـــاع مـــن وراء الـــســـتـــرِ

 

ورأيتَ الـــدخَـــان كـــالـــــــودع الأه

رُّ خــروسٍ مـــن الأرانـــبِ بـــكـــرِ

 

حاضـــر شـــركـــم وخـــيركـــــمُ دَ

وقال في مثل ذلك:

واستعجلت نَصْبَ القدور فملَّتِ

 

وإذا العَذارى بالدُّخان تَقَنَّـعـتْ

بيديَّ من قَمَع العشار الجِـلَّةِ

 

دَرَّتْ بأرزاق العيالِ مَغَـالِـقٌ

وقال الهذليّ:

يختصُّ بالنَّقَرَى المثْرينَ دَاعيها

 

وليلة يصطلي بالفرث جازرُها

من الشِّتاء ولا تَسرِي أفاعيهـا

 

لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحـدةٍ

وفي الجَمدِ والبرد والأزمات يقول الكميت:

إذا لم تعط دِرَّتها الغـضـوبُ

 

وفي السنةِ الجمادِ يكون غيثـاً

ولم تُعْطَف عَلَى الرُّبَعِ السَّلوبُ

 

ورُوِّحت اللِّقـاحُ مُـبْـهَـلاَتٍ

تعيش به وهُيِّبـت الـرقـوب

 

وكان السَّوف للفتـيان قـوتـاً

وفي هذه القصيدة يقول في شدة الحر:

لأفئدة الكماةِ لهـا وَجِـيب

 

وخَرْقٍ تعزف الجِنَّانُ فـيه

يكاد حَصَى الإكام به يذوب

 

قطعتُ ظلامَ ليلته ويومـاً

وقال آخر لمعشوقته:

وأوردتِنيه فانظري أيَّ مورِدِ

 

وأنتِ التي كلفتني البرد شاتياً

فما ظنك ببرد يؤدِّي هذا العاشق إلى أن يجعل شدَّته عذراً له في تركه الإلمام بها، وذلك قوله في هذه القصيدة:

تروَّحْ فشيعنا إلى ضحوة الغَـدِ

 

فيا حسنها إذ لم أعُجْ أن يقالَ لي

سِوى ذكرها كالقابض الماءَ باليد

 

فأصبحتُ مما كان بيني وبينـهـا

ومما يقع في الباب قبل هذا، ولم نجد له باباً قول مسكين الدَّارِميّ:

أسبُّ الناسَ كالكلب العقور

 

وإني لا أقومُ على قنـاتـي

ولا آوي إلى البيتِ القصيرِ

 

وإني لا أحلُّ ببـطـن وادٍ

ولا أدعو دعائي بالصغيرِ

 

وإني لا أحاوِص عقدَ نـاد

إذا أوقدتَ بالعودِ الصغيرِ

 

ولستُ بقائل للعَبْـدِ أو قـدْ

ولو تأملتَ دخان أتُّون واحد، من ابتدائه إلى انقضائه، لرأيت فيه الأسود الفاحم، والأبيض الناصع.
والسواد والبياض، هما الغاية في المضادَّة، وذلك عَلَى قدر البخار والرطوبات، وفيما بينهما ضروب من الألوان.
وكذلك الرماد، منه الأسود، ومنه الأبيض، ومنه الأصهب، ومنه الخَصِيف، وذلك كله على قدر اختلاف حالات المحترق وجواهره.
فهذا بعضُ ما قالوا في البرد.

بعض ما قيل في صفة الحر

وسنذكر بعض ما قالوا في صفة الحر، قال مضرِّس بن زُرارة بن لقيط:

من الحر يُرمى بالسكينة نُورُها

 

تدلّت عليها الشمسُ حتى كـأنـه

علاها صداعٌ أو فَوَالٍ يصُورها

 

سجوداً لدَى الأرْطَى كأن رؤوسها

وقال القطاميُّ:

والريحُ ساكنةٌ والظلُّ معـتـدلُ

 

فهن معترضاتٌ والحصى رمِضٌ

كاد المُلاءُ من الكتَّان يشتـعـلُ

 

حتى وردْن رَكِيَّاتِ الغُوَيْرِ وقـد

وقال الشماخ بن ضِرار:

من الحقب لاحتْه الجداد الغـوارز

 

كأن قُتودي فوق جـأب مـطـرد

جرَت في عِنان الشِّعرَيين الأماعزُ

 

طوى ظمأها في بيضة القيظ بعد ما

إلى الشمس هلا تدنو، ركيٌّ نواكز

 

وظلتت بيمؤودٍ كـأن عـيونـهـا

ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدِّمان الشماخَ بغاية التقديم.
وقال الراعي:

من الشِّعرى نصْبتُ لها الجبينا

 

ونـار وديقة فـي يوم هَـيْجٍ

جَنادُبها وكان العيسُ جُـونـا

 

إذا مَعزاءُ هـاجـرةٍ أونَّـتْ

وقال مسكينٌ الدارمي:

إذا ما أتَّقتها بالقرون سجـودُ

 

وهاجرةٍ ظَلَّتْ كأنّ ظبـاءَهـا

كما لاذَ من حَرِّ السِّنان طريدُ

 

تلوذ لشُؤبوبٍ من الشَّمس فوقَها

وقال جرير:

وللنومُ أحلى عنده من جنى النحلِ

 

وهاجدِ موماةٍ بعثتُ إلى السُّـرى

غشاشاً ولا يدنون رحلا إلى رحل

 

يكون نزولُ الركب فيها كَـلاَ وَلاَ

وظلَّ المها صوراً جماجمها تغلي

 

ليوم أتتْ دون الظلال سمـومـهُ

وفيها يقول جرير:

وما ذاد عن أحسابهم ذائدٌ مثلي

 

تمنَّى رجال من تميمٍ لي الرّدى

احتجاج النظام للكمون

وقال أبو إسحاق: أخطأ من زعم أن النار تصعدُ في أول العود، وتنحدر وتغوص فيه، وتظهر عليه، وتأخذ منه عَرَضاً.
وقال: العود، النار في جميعه كامنة، وفيه سائحة، وهي أحد أخلاطه، والجزء الذي يُرى منها في الطرف الأول، غير الجزء الذي في الوسط والجزء الذي في الوسط غير الجزء الذي في الطرف الآخر، فإذا احتكّ الطرف فحميَ زال مانعه، وظهرت النار التي فيه، وإذا ظهرت حَمِيَ لشدة حرها الموضعُ الذي يليها، وتنحَّى أيضاً مانعه، وكذلك الذي في الطرَف الآخر ولكن الإنسان إذا رأى النار قد اتصلت في العود كله، وظهرت أولاً فأوَّلاً، ظن أن الجزء الذي كان في المكان الأول قد سَرَى إلى المكان الثاني، ثم إلى المكان الثالث، فيخبرُ عن ظاهر ما يرى ولا يعرف حقيقة ما بطن من شأنها. وقال أبو إسحاق: ولو كانت العيدان كلها لا نار فيها، لم يكن سرعةُ ظهورها من العراجين، ومن المرْخِ والعَفار، أحقّ منها بعودِ العُنَّابِ والبَرديِّ وما أشبه ذلك، لكنها لمَّا كانت في بعض العيدان أكثر، وكان مانعها أضعَفَ، كان ظهورها أسرع، وأجزاؤها إذا ظهرت أعظمَ، وكذلك ما كمَنَ منها في الحجارة، ولو كانت أجناس الحجارة مستوية في الاستسرار فيها، لما كان حجَرُ المرْوِ أحقَّ بالقَدْح إذا صُكَّ بالقدَّاحة، من غيره من الحجارة، ولو طال مُكثُه في النار ونُفِخَ عليه بالكير.
ولِمَ صار لبعض العيدان جَمْرٌ باق، ولبعضها جمر سريع الانحلال، وبعضها لا يصير جمراً? ولمَ صار البَرْديّ مع هَشَاشته ويبسه ورخاوته، لا تعمل فيه النيران? ولذلك إذا وقع الحريق في السُّوق سَلِمَ كل مكان يكون بين أضعاف البردي، ولذلك ترى النار سريعة الانطفاء في أضعاف البرديّ، ومواضعِ جميع اللِّيف.
وقال أبو اسحاق: فلِمَ اختلفَتْ في ذلك? إلا على قدر ما يكونُ فيها من النار، وعَلَى قدر قوة الموانع وضعفها.
ولم صارت تقدَح عَلَى الاحتكاك حتى تلهبت، كالساج في السفن إذا اختلط بعضه ببعض عند تحريك الأمواج لها? ولذلك أعدُّوا لها الرجال لتَصُبّ من الماء صَبّاً دائماً، وتدوِّم الريحُ فتحتك عيدان الأغصان في الغياض، فتلتهب نار فتحدثُ نيران.
ولِمَ صار العود يحمَى إذا احتكَّ بغيره? ولمَ صار الطّلَقُ لا يحمى? فإن قلت لطبيعة هناك، فهل دللتمونا إلا عَلَى اسم علَّقتموه عَلَى غير معنًى وجدتموه? أوَ لسنا قد وجدنا عيون ماءٍ حارة وعيون ماءٍ بارد، بعضها يبرص ويُنفْط الجلد، وبعضها يُجمِدُ الدمَ ويورث الكُزَاز؛ أولسنا قد وجدنا عيون ريح وعيون نار? فلِمَ زعمتم أن الريحَ والماء كانا مختنقين في بطون الأرض و لم تجوِّزوا لنا مثل ذلك في النار? وهل بين اختناق الريح والماء فرق? وهل الريح إلا هواءٌ تحرَّكَ? وهل بين المختنق والكامن فرْق?.
وزعم أبو إسحاق: أنه رمى بردائه في بئر النبي صلى اللّه عليه وسلم التي من طريق مكة، فردّته الريح عليه.
وحدَّثني رجل من بني هاشم قال: كنت بِرَامةَ، من طريق مكة فرميت في بئرها ببعرة فرجعت إليَّ، ثم أعدتها فرجعَتْ، فرميْت بحصاة فسمعتُ لها حَريقاً وحفيفاً شديداً وشبيهاً بالجوَلان، إلى أن بلغَتْ قرار الماء.
وزعم أبو إسحاق أنه رأى عين نار في بعض الجبال، يكون دخانُها نهاراً وليلاً، أو ليس الأصل الذي بُني عليه أمرُهم: أن جميع الأبدان من الأخلاط الأربعة: من النار، والماء، والأرض، والهواء? فإذا رأينا موضعاً من الأرض يخرج منه ماءٌ قلنا: هذا أحدُ الأركان؛ فما بالُنا إذا رأينا موضعاً من الأرض يخرج منه نارٌ لم نقل مثل ذلك فيه?.
ولمَ نقولُ في حجرِ النار إنه متى وُجد أخف من مقدار جسمه من الذهب والرّصاص والزئبق، إنما هو لما خالَطَه من أجزاء الهواء الرّافعة له? وإذا وجدناه أعْلَكَ عُلوكة، وأمتَنَ متانة، وأبعد من التهافُتِ جعلنا ذلك لما خالطه من أجزاء الماء، وإذا وجدناه ينقض الشرر، ويُظهرُ النار جعلنا لك للذي خالطه من الهواء? ولمَ جعلناه إذا خف عن شيء بمقدار جسمه، لما خالطه من أجزاء الهواء، ولا نجعله كذلك لما خالطه من أجزاء النار? ولا سيما إذا كانت العينُ تجدُه يقدَح بالشرر، ولَمْ تجْر أجزاء الهواء فيه عندنا عِياناً، فلِمَ أنكروا ذلك، وهذه القصةُ توافقُ الأصل الذي بَنَوْا عليه أمرهم?.
قال: أو ليس من قوله أنه لولا النيرانُ المتحركة في جوف الأرض، التي منها يكون البُخارُ - الذي بعضه أرضيٌّ وبعضه مائيٌّ - لم يرتفعْ ضبابٌ، ولم يكن صواعق ولا مطرٌ ولا أنداء.

الصواعق وما قيل فيها

ومتى كان البخار حارّاً يابساً قَدَحَ وقَذَفَ بالنار التي تسمى الصاعقة، إذا اجتمعت تلك القوى في موضع منه، فإن كانت القِوَى ريحاً كان لها صوتٌ، وإن كانت ناراً كانت لها صواعقُ، حتى زعم كثير من الناس أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق، وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء، قال أبو الهوْل الحِمْيري:

 

حاز صمصامةَ الزبيديِّ من بين جميعِ الأنامِ موسى الأمينُ

خيرَ مـا أطـبـقـتْ عـلـيه الـــجـــفـــونُ

 

سيفُ عمرو، وكان فيما سَمعنا

ثم سـاطـت بـه الـزعــافَ الـــمـــنـــون

 

أوفـدتْ فـــوقـــهُ لاصـــواعـــقُ نـــاراً

وقال منهم آخر:

فوق الذِّراع ودون بَوْع البائعِ

 

يكفيك من قَلَعِ السماء عقيقةٌ

قال الأصمعيّ: الانعقاق: تشقُّق البرق، ومنه وصف السيف بالعقيقةِ، وأنشد:

وسيفي كالعقيقةِ وَهْوَ كِمْعِي

وقال الأخطل:

وعَضْبٌ إباطي كالعقيق يمَانِي

 

وأرَّقَني من بعد ما نِمْتُ نَوْمَة

ونذكرُ بعَونِ اللّهِ وتأييده جُمْلةً مِنَ القَول في الماء ثمَّ نصير إلى ذكر ما ابتدأنا به، من القول في النار.
ذكروا أن الماء لا يغذو، وإنما هو مَرْكَبٌ ومِعْبَرٌ ومَوْصِلٌ للغِذاء، واستدلُّوا لذلك بأن كلّ رقيق سَيّال فإنك متى طبَخْته انعقَد، إلا الماء، وقالوا في القياس: إنه لا ينعقد في الجوف عند طبخِ الكبِد له، فإذا لم ينعقِد لم يجئْ منه لحمٌ ولا عظم، ولأننا لم نر إنساناً قطُّ اغتذاه وثبت عليه روحُه وإن السمك الذي يموت عند فقده لَيَغْذُوه سِواه مما يكون فيه دونه.
قال خصمهم: إنما صار الماء لا ينعقد؛ لأنه ليس فيه قُوًى مستفادةٌ مأخوذة من قُوى الجواهرِ، والماء هو الجوهرُ القابلُ لجميع القُوَى، فبضربٍ من القُوى والقبول يصير دُهناً، وبضرب آخر يصير خلاًّ، وبضرب آخر يصير دماً، وبضرب آخر يصير لبَنَاً، وهذه الأمور كلها إنَّما اختلفت بالقُوى العارضة فيها، فالجوهرُ المنقلبُ في جميع الأجرام السّيَّالة، إنما هو الماء، فيصير عند ضرب من القبول دُهناً، وعند ضرب من القبول لبناً.
وعصير كل شيء ماؤه والقابلُ لِقُوى ما فيه، فإذا طبخْتَ الماء صِرْفاً، سالماً على وجهه، ولا قُوَى فيه، لم ينعقد وانحلَّ بُخاراً حتى يتفانى؛ وإنما ينعقد الكامن من الملابس له، فإذا صار الماء في البدنِ وحده ولم يكن فيه قوًى لم ينعقد، وانعقاده إنما هو انعقاد ما فيه.
والماء لا يخلو من بعض القَبُول ولكنَّ البعض لا ينعقد ما لم يكثُر.
وزعم أصحاب الأعراض أن الهواء سريعُ الاستحالة إلى الماء، وكذلك الماء إلى الهواء، للمناسبة التي بينهما من الرطوبة والرقة، وإنما هما غير سيَّارين، ويدل على ذلك اجتذابُ الهواء للماء وملابسته له، عند مَصِّ الإنسان بفيه فم الشَّرابة، ولذلك سَرَى الماء وجرى في جوف قَصَبِ الخيزُرَانِ، إذا وضَعْتَ طرفه في الماء.
وكذلك الهواء، فيه ظلامُ الليل وضياء النهار وما كان فيه من الأشباح، والحدَقة لا ترى من الضياء العارض في الهواء ما تباعد منها.

ألوان الماء

والماء يرقّ فيكون له لون، ويكون عمقه مقداراً عَدْلاً فيكون له لون، فإنْ بعد غَوْرُه وأفرط عمقه رأيته أسودَ.
وكذلك يحكون عن الدُّرْدُور.
ويزعمون أن عين حوارا ترمى بمثل الزنوج.
فتجدُ الماء جنساً واحداً، ثم تجد ذلك الجنسَ أبيض إذا قلَّ عمقه، وأخضَرَ إذا كان وسطاً، وأسودَ إذا بعُدَ غَوْرُه.
تحقيق في لون الماء ويختلف منظره على قدر اختلاف إنائه وأرضه، وما يقابله، فدلّ ذلك على أنه ليس بذي لون، وإنما يعتريه في التخييل لونُ ما يقابله ويحيط به، ولعلَّ هذه الأمور إذا تقابلت أن تصنع في العين أموراً، فيظنَّ الإنسان مع قُرب المجاورةِ والالتباس، أن هذه الألوان المختلفة إنما هي لهذا الماء الرائق الخالص، الذي لم ينقلب في نفسه، ولا عَرَضَ له ما يقْلبه، وكيف يعرض له ويقلبه وعينُ كل واحد منهما غيرُ عينِ صاحبه? وهو يرى الماء أسودَ كالبحر، متى أخذ منه أحدٌ غُرفة رآه كهيئته إذا رآه قليل العُمق.
تشابه الماء والهواء ويتشابهان أيضاً لسُرعة قبولهما للحر والبرد، والطّيب والنّتْن؛ والفساد والصلاح.
حجة للنظام في الكمون قال أبو إسحاق: قال اللّه عزَّ وجلّ عند ذكر إنعامِه على عباده وامتنانه على خلقه، فذكَر ما أعانهم به من الماعون: "أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنْشِئُون"، وكيف قال شَجَرَتَهَا وليس في تلك الشجرة شيء، وجوفها وجوفُ الطَّلَقِ في ذلك سواء، وقدرة اللّه على أن يَخلق النار عندَ مسِّ الطَّلَق، كقدرته على أن يخلقها عند حكِّ العود وهو، تعالى وعز، لم يُرِد في هذا الموضع إلا التعجيبَ من اجتماع النار والماء.
 وهل بين قولكم في ذلك وبين من زعم أن البذر الجيِّد والرديء والماء العذب والملح، والسّبَخَة والخبِرَة الرِّخوة، والزمان المخالفَ والموافقَ، سواءٌ، وليس بينها من الفرْق إلا أن اللّه شاء أن يخلق عند اجتماع هذه "حَبّاً، وعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً" دون تلك الأضداد.
ومن قال بذلك وقاسه في جميع ما يلزم من ذلك، قال كقول الجَهْمِيّةِ في جميع المقالات، وصار إلى الجهالات، وقال بإنكار الطبائعِ والحقائق.
وقال اللّه عزّ وجلّ: "الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ".
ولو كان الأمر في ذلك على أن يخلقها ابتداءً لم يكن بين خلقها عند أخضرِ الشجر وعند اليابس الهشيم فرق، ولم يكن لذكر الخضْرَةِ الدّالة عَلَى الرطوبةِ مَعْنًى.
وقد ذكرنا جملةً من قولهم في النار، وفي ذلك بلاغ لمن أراد معرفة هذا الباب، وهو مقدارٌ قصدٌ، لا طويل ولا قصير.
فأما القولُ في نار جهنم، وفي شُواظها ودوامها وتسعُّرها وخبوِّها والقول في خلق السماء من دُخَان والجانِّ من نار السّموم، وفي مَفْخَر النار على الطين، وفي احتجاج إبليس بذلك - فإنا سنذكر من ذلك جملة في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

ما قيل في حسن النار

ونحن راجعون في القول في النار إلى مثل ما كنا ابتدأنا به القول في صدر هذا الكلام، حتى نأتيَ من أصناف النيران على ما يحضرنا، إن شاء اللّه تعالى.
قالوا: وليس في العالم جسمٌ صِرْفٌ غير ممزوج، ومرسلٌ غير مركب، ومُطلق القُوَى، غير محصور ولا مقصور، أحسنُ من النار.
قال: والنار سماوية عُلْوِية؛ لأن النار فوق الأرض، والهواء فوق الماء، والنار فوق الهواء، ويقولون: شراب كأنه النار، و كأن لونَ وجهها النار، وإذا وصفوا بالذكاء قالوا: ما هو إلا نار وإذا وصفوا حمرة القِرمز وحمرة الذهب قالوا: ما هو إلا نار.
قال: وقالت هند: كنتُ واللّه في أيام شبابي أحسنَ من النار الموقَدَة.
وأنا أقول: لم يكن بها حاجةٌ إلى ذكر الموقَدَة وكان قولها: أحسنَ من النار يكفيها، وكذلك اتهمتُ هذه الرواية.
وقال قُدَامة حكيم المشرق في وصف الذِّهن: شُعاعٌ مركوم، ونَسَمٌ معقود، ونورٌ بصَّاص، وهو النار الخامدة، والكِبريت الأحمر.
ومما قال العتَّابي: وجمالُ كل مجلس بأن يكون سَقْفهُ أحمرَ، وبساطُه أحمر.
وقال بشّار بنُ بُرْد:

ترُوق بها العَينَين والحسنُ أحمرُ

 

هِجانٌ عليها حُمْرةٌ في بياضِهـا

وقال أعرابيٌّ:

ولا لونَ أدنى للهِجان من الحُمْر

 

هِجانٌ عليها حمرةٌ في بياضِهـا

تعظيم اللّه شأْن النار

قال: ومما عظم اللّه به شأن النار أنها تنتقم في الآخرة من جميع أعدائه، وليس يستوجبها بَشريٌّ منْ بَشَريّ، ولا جنيٌّ من جنيّ بضغينةٍ ولا ظلمٍ، ولا جنايةٍ ولا عُدْوان، ولا يَسْتَوْجِبُ النارَ إلا بعداوة اللّه عزَّ وجلَّ وحده، وبها يَشْفي صدورَ أوليائه من أعدائهم في الآخرة.
عظم شأن ما أضيف إلى الله وكل شيء أضافه اللّه إلى نفسه فقد عظَّم شأنه، وشدَّد أمره، وقد فَعَل ذلك بالنار، فقالوا بأجمعهم: دَعْهُ في نار اللّه وسقَرِه، وفي غضب اللّه ولعنته، وسَخَط اللّه وغضبه، هما ناره أو الوعيدُ بناره، كما يقال: بيتُ اللّه، وزُوّار اللّه، وسماءُ اللّه، وعرشُ اللّه.
المنة الأولى بالنار ثم ذكرها فامْتَنّ بها على أهل الأرض من وجهين: أحدهما قوله عزّ وجلّ: "الِّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ" فَجَعَلَهَا من أعظم الماعون معونة، وأخفها مَؤُونة.
استطراد لغوي والماعون الأكبر: الماء والنار، ثم الكَلأُ والملح.
قال الشاعر في الماعون بيتاً جامعاً، أحسن فيه التأديةَ حيث قال:

وَسْطَ الْفَلاَةِ بِأصْحَابِ المُحِلاَّتِ

 

لا تَعْدِلَنّ أتَاوِيِّينَ قـد نـزلـوا

والمُحِلاَّت هي الأشياء التي إذا كانت مع المسافرين حَلّوا حيثُ شاؤوا، وهي القَدَّاحة، والقِرْبة، والمِسْحاة، فقال: إياك أن تَعْدِلَ، إذا أردت النّزولَ، مَنْ مَعَهُ أصنافُ الماعونِ بأتَاوِيِّين، يعني واحداً أتى مِنْ هاهنا، وآخر أتى من هاهنا، كأنهم جماعة التقَوْا من غيرِ تعريف بنسب ولا بلد، وإذا تجمعوا أفذاذاً لم يكمل كلّ واحدٍ منهم خصال المحِلاَّت.
قال أبو النجم:

مُعْتَرضاتٍ غَيْرَ عُرْضِيَّاتِ

 

يَضَعْنَ بالفَـقْـرِ أَتَـاوِيَّاتِ

وقالت امرأة من الكفار، وهي تحرِّض الأوسَ والخزْرج، حين نزل فيهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعلى آله وصحبهِ:

فَلاَ مِنْ مُرَادٍ وَلاَ مَذْحِجِ

 

أطعْتُمْ أتَاوِيَّ مِنْ غَيْرِكُمْ

ولم ترِدْ أنهما أشرفُ من قريش، ومن الحيّيْن كعبٍ وعامر، ولكنها أرادت أن تؤلّبَ وتُذْكِيَ العصبيّة.
اختيار ما تبنى عليه المدن وقالوا: لا تُبْتَنَى المدن إلا على الماء والكلإ والمحتطبِ، فدخلت النار في المحتطَب؛ إذ كان كلُّ عود يورِي.
المنة الثانية بالنار وأما الوجه الآخرُ من الإمتنان بها، فكقوله تعالى: "يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنْتَصِرَانِ" ثم قال على صِلَة الكلام: "فبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكما تكَذِّبَانِ"، وليس يريد أنّ إحراقَ اللّه عز وجلَّ العبدَ بالنار من آلائه ونعمائه، ولكنه رأى أن الوعيدَ الصادق إذا كان في غاية الزجر عما يُطغيه ويُرْدِيه فهو من النعم السابغة والآلاء العظام.
وكذلك نقول في خلْقِ جهنم: إنها نعمة عظيمة، ومِنَّةٌ جليلةٌ، إذا كان زاجراً عن نفْسه ناهياً، وإلى الجنة داعياً، فأما الوقوع فيها فما يُشَكُّ أنه البلاءُ العظيم.
وكيف تكونُ النقمُ نِعَماً ولو كانت النقمة نعمةً لكانت رحمة، ولكان السّخط رضا وليس يَهْلكُ عَلَى البينة إلا هالك، وقال اللّه عزّ وَجلَّ: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ".
عظات للحسن البصري وقال الحسن: واللّهِ يا ابن آدم، ما توبِقُكَ إلا خطاياك قد أُريد بك النجاةُ فأبيتَ إلا أن توقِعَ نفسَك.
وشهِد الحسَنُ بعضَ الأمراء، وقد تعدّى إقامة الحدّ، وزاد في عددِ الضرب، فكلمه في ذلك، فلما رآهُ لا يقبلُ النصح قال: أمَا إنكَ لا تضرِبُ إلا نفسكَ، فإن شئْتَ فَقَلِّلْ، وإن شئتَ فَكثِّر.
وكان كثيراً ما يتلو عند ذلك: "فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ".
عقاب الآخرة وعقاب الأولى والعقاب عقابان: فعقاب آخرةٍ، وعقابُ دنيا، فجميعُ عقاب الدنيا بَلِيَّةٌ منْ وجه، ونعمةٌ من وجه، إذ كان يؤدِّي إلى النعمة وإن كان مؤلماً، فهو عن المعاصي زاجرٌ، وإن كان داخلاً في باب الامتحان والتعبُّد، مع دخوله في باب العقاب والنعمة؛ إذ كان زجراً، وتنكيلاً لغيره، وقد كلِّفنا الصبرَ عليه، والرضا به، والتسليم لأمر اللّه فيه.
وعقاب الآخرة بلاءٌ صِرْف، وخزيٌ بَحْت، لأنه ليس بِمخْرَج منه، ولا يحتملُ وجهين.

معارف في النار

وقال أبو إسحاقَ: الجمرُ في الشمس أصهب، وفي الفيء أشكلُ، وفي ظلِّ الأرض - الذي هو الليل - أحمر، وأيُّ صوتٍ خالطَتْه النار فهو أشد الأصوات، كالصاعقة، والإعصار الذي يخرج من شِقِّ البحر، وكصوت المُوم، والجَذْوَةِ من العود إذا كان في طَرَفِه نارٌ ثم غمستَه في إناءٍ فيه ماءُ نَوًى مُنْقَع.
ثم بالنار يعيشُ أهلُ الأرض من وجوه: فمن ذلك صنيعُ الشمس في بردِ الماء والأرض؛ لأنها صِلاءُ جميعِ الحيوان، عند حاجتها إلى دفع عاديةِ البردِ، ثمّ سراجُهم الذي يستصبحون به، والذي يميزون بضيائه بين الأمور.
وكلُّ بخار يرتفع من البحار والمياهِ وأصول الجبال، وكل ضبابٍ يعلو، وندًى يرتفع ثم يعود بركة ممدودة عَلَى جميع النبات والحيوان - فالماء الذي يحلُّه ويلطِّفه، ويفتحُ له الأبوابَ، ويأخُذُ بضَبْعه من قَعر البحر والأرضِ النارُ المخالطة لهما من تحتُ، والشمسُ من فوق.
عيون الأرض  وفي الأرض عيون نار، وعيونُ قَطِران، وعيون نِفْط وكباريت وأصناف جميع الفِلِزّ من الذهب والفضة والرَّصاص والنُّحاس، فلولا ما في بطونها من أجزاء النار لما ذَابَ في قعرها جامدٌ، ولَمَا انسبك في أضعافها شيءٌ من الجواهر، وَلَمَا كان لمتقاربِها جامع، ولمختلفها مُفَرِّق.

ما قالت العرب في الشمس

قال: وتقول العرب الشمسُ أرحَمُ بنا.
وقيل لبعض العرب: أيُّ يوم أنفع? قال: يومُ شَمَال وشَمْس.
وقال بعضهم لامرأته:

بِعَيْشٍ مثلِ مَشْرِقَةِ الشَّمالِ

 

تمَنَّيْنَ الطَّلاَقَ وأنْتِ عِنْدِي

وقال عُمَر: الشمسُ صِلاَءُ العرب، قال عُمر: العربيُّ كالبعير، حيثما دارت الشمسُ استقبلَهَا بهامَتِه.
ووصف الرّاجز إبلاً فقال:

تستقبل الشمسَ بجُمْجُماتها

وقال قَطِران العبسيّ:

فنُوّارُهُ مِيلٌ إلى الشمسِ زاهِرُهْ

 

بمستأسد القُرْيَانِ حُوٍّ تِـلاعُـهُ

الْخِيريّ والخِيريُّ ينضم ورقه بالليل، وينفتح بالنهار.
ولإسماعيل بن غزْوان في هذا نادرةٌ، وهو أن سائلاً سألَنَا من غير أهل الكلام، فقال: ما بالُ ورق الخِيريّ ينضم بالليل وينتشرُ بالنهار? فانبَرَى له إسماعيل بنُ غَزْوان فقال: لأن بردَ الليل وثِقلَه، من طباعهما الضمُّ والقبض والتّنويم، وحرّ شمس النهار من طباعه الإذابة، والنشر، والبسْط، والخفَّة، والإيقاظ، قال السائل: فيما قلت دليلٌ، ولكنه قال إسماعيل: وما عليك أن يكون هذا في يدك، إلى أن تصيبَ شيئاً هو خيرٌ منه.
تسرع الحمر الألوان، وفالج ذوي البدانة وكان إسماعيل أحمَر حَليماً، وكذلك كان الحَراميّ، وكنت أظن بالحمر الألوانِ التسرعَ والحدَّةَ، فوجدت الحلْمَ فيهم أعمّ، وكنت أظن بالسمان الخِدالِ العظامِ أنّ الفالِجَ إليهم أسرعُ، فوجدتُهُ في الذينَ يُخالفون هذه الصِّفَةَ أعَمّ.
أثر الشمس والحركة والجوِّ في الأبدان وقال إياسُ بن معاوية: صِحَّة الأبدان مع الشمس، ذهب إلى أهل العَمَد والوبر.
وقال مثنَّى بن بشير: الحركة خيرٌ من الظل والسُّكون.
وقد رأينا لِمَن مدح خلاف ذلك كَلاَماً، وهو قليل.
وقيل لابنة الخسِّ: أيُّمَا أشَدُّ: الشتاء أمِ الصيف? قالت: ومن يجعل الأذى كالزمانة?.
وقال أعرابيٌّ: لا تَسُبُّوا الشَّمال فإنها تضعُ أنفَ الأفعى، وترفع أنف الرِّفقة.
وقال خاقانُ بن صبيح، وذكر نُبْلَ الشتاء وفضلَه عَلَى نُبْلِ الصيف فقال: تغيب فيه الهوام، وتنجحر فيه الحشرات، وتظهر الفِرْشَة والبزّةُ، ويكثُر فيه الدّجْن؛ وتطيب فيه خِمْرة البيت، ويموت فيه الذِّبان والبَعوض، ويبرُد الماء، ويسخُن الجوفُ، ويطيبُ فيه العِناق.
وإذا ذكرت العربُ بَرْدَ الماء وسخونة الجوِف قالت: حِرٌّةٌ تحت قِرّة.
ويجود فيه الاستمراء؛ لطول الليل، لتَفصِّي الحرِّ.
وقال بعضهم: لا تُسَرّنَّ بكثرة الإخوان، ما لم يكونوا أخياراً؛ فإن الإخوان غيرَ الخِيَارِ بمنْزِلةِ النار، قليلُها متاعٌ، وكثيرها بوار.

نار الزحفتين

قال: ومن النيران نار الزَّحْفتَيْنِ، وهي نار أبي سريع، وأبو سريع هو الْعَرْفجُ.
وقال قُتيبة بن مسلم، لعُمَرَ بن عبَّاد بن حُصين: واللّه لَلسُّؤدُدُ أسرعُ إليك من النار في يبيس العَرْفَجِ.
وإنما قيل لنار العَرفج: نار الزحفتين؛ لأن العَرفَج إذا التهبَتْ فيه النار أسرعَتْ فيه وعَظُمَتْ، وشاعت واستفاضت، في أسرَعَ من كل شيء، فمن كان في قُرْبها يزحف عنها، ثم لا تلبثُ أن تنطفئ من ساعتها، في مثل تلك السرعة؛ فيحتاج الذي يزحف عنها أن يزحَفَ إليها من ساعِته؛ فلا تزالُ للمصْطَلي كذلك، ولا يزال المصطلي بها كذلك، فمن أجْلِ ذلك قيل: نار الزَّحْفَتَيْنِ، قال: وقيل لبعض الأعراب: ما بالُ نسائكم رُسْحاً? قال: أرْسَحَهُنَّ عَرْفَجُ الهَلْبَاءِ.
صورة عقد بين الراعي والمسترعي وهذا شرط الراعي فيما بينه وبين من استرعاه ماشيته في القارِّ والحارِّ ، وذلك أن شرطهم عليه أن يقول المسترعي للراعي: إن عليك أن تردَّ ضالَّتها، وتهنأ جرْباها، وتلوط حوضَهَا، ويدُك مبسوطةٌ في الرِّسْل ما لم تُنْهِكَ حَلْباً، أو تضرّ بنَسْل.
 قال: فيقول عند ذلك الراعي لرب الماشية، بعد هذا الشرط: ليس لك أن تَذْكُرَ أُمِّي بخيرٍ ولا شرّ ولك حذْفَةٌ بالعصا عند غضَبِك، أخطأتَ أو أصَبْتَ، ولي مَقعدي من النار وموضعُ يدي من الحارّ والقارّ.

شبه ما بين النار والإنسان

قال: ووَصف بعض الأوائل شبَهَ ما بين النار والإنسان، فجعل ذلك قرابة ومشاكلة، قال: وليس بين الأرض وبين الإنسان، ولا بين الإنسان، والماء، ولا بين الهواء والإنسان، مثل قرابة ما بينه وبين النار؛ لأن الأرض إنما هي أمٌّ للنبات، وليس للماء إلا أنُه مَرْكَب، وهو لا يغذُو؛ إلاَّ ما يعقِدهُ الطبخ وليس للهواء فيه إلا النسيم والمتقلَّب، وهذه الأمور وإن كانت زائدة، وكانت النفوسُ تَتلَفُ مع فَقْدِ بعضها، فطريق المشاكلةِ والقرابةِ غير طريق إدخال المَرْفَق وجَرِّ المنفعة، ودفعِ المضَرّة.
قال: وإنما قضيتُ لها بالقرابة، لأني وجدت الإنسان يَحْيَا ويعيشُ في حيثُ تحيا النار وتعيشُ، وتموتُ وتَتْلَفُ حيث يموت الإنسانَ ويتلف.
وقد تدخل نار في بعض المطامير والجِبابِ، والمغاراتِ، والمعادن، فتجدها متى ماتت هناك علمنا أن الإنسان متى صار في ذلك الموضِعِ مات، ولذلك لا يدخلها أحدٌ ما دامت النار إذا صارتْ فيها ماتت، ولذلك يعمد أصحاب المعادن والحفايرِ إذا هجموا على فَتْق في بطن الإرض أو مغارة في أعماقها أو أضعافها، قدّموا شمعةً في طرَفها أو في رأسها نارٌ، فإن ثبتت النار وعاشت دخلوا في طلب الجواهر من الذهب وغير ذلك، وإلا لم يتعرَّضوا له، وإنما يكونُ دخولُهم بحياة النار، وامتناعُهم بموت النار.
وكذلك إذا وقعوا على رأس الجُبِّ الذي فيه الطعامِ، لم يجسُروا على النزول فيه، حتى يُرسلوا في ذلك الجبِّ قِنديلاً فيه مصباحٌ أو شيئاً يقومُ مقامَ القِنديل، فإن مات لم يتعرَّضوا له، وحرّكوا في جوفه أكسية وغيرها من أجزاء الهواء.
قال: وممّا يُشَبَّه النارُ فيه بالإنسان، أنك ترى للمصباح قبل انطفائه ونفادِ دهنه، اضطراماً وضياءً ساطعاً، وشُعاعاً طائراً، وحركة سريعةً وتنقضاً شديداً، وصوتاً متداركاً، فعندها يخْمُدُ المصباح.
وكذلك الإنسان، له قبلَ حالِ الموتِ، ودُوَيْنَ انقضاء مُدَّته بأقرب الحالات، حال مُطْمِعَةٌ تزيد في القوة على حاله قَبلَ ذلك أضعافاً، وهي التي يسمونها راحة الموت، وليس له بعد تلك الحال لُبث.
قول أحد المتكلَّمين في النفس وكان رئيسٌ من المتكلمين، وأحدُ الجِلَّة المتقدمين، يقولُ في النفس قولاً بليغاً عجيباً، لولا شُنْعته لأظْهَرْتُ اسمه، وكان يقول: الهواءُ اسم لكل فتق، وكذلك الحيِّز، والفتق لا يكون إلا بين الأجرام الغِلاظ، وإلا فإنما هو الذي يسميه أصحاب الفَلَكِ اللُّجَّ، وإذا هم سألوهم عن خُضْرة الماء قالوا: هذا لُجّ الهواء، وقالوا: لولا أنكَ في ذلك المكانِ لرأيت في اللُّجِّ الذي فوق ذلك مثل هذه الخضرةَ، وليس شيء إلا وهو أرقُّ من كَتِيفِه أو من الأجرام الحاصرة له، وهو اسمٌ لكل متحرَّك ومُتَقَلَّب لكل شيء فيه من الأجرام المركبة، ولا يستقيم أن يكون من جنس النسيم، حتى يكونَ محصوراً، إما بحصر كَتِيفِيٍّ كالسفينة لما فيها من الهواء الذي به حَمَلَتْ مثلَ وزنِ جِرمها الأضعاف الكثيرة، وإما أن يكون محصوراً في شيء كهيئة البيضة المشتملة على ما فيها، كالذي يقولون في الفَلَكِ الذي هو عندنا: سماء.
قال: وللنسيم الذي هو فيه معنى آخر، وهو الذي يجعلُهُ بعضُ الناس ترويحاً عن النفس، يعطيها البَرْدَ والرِّقَّة والطِّيب، ويدفعُ النَفسَ، ويُخرج إليه البخارَ والغِلَظ، والحراراتِ الفاضلة، وكلّ ما لا تقوى النَفسُ على نفْيه واطِّرادِه.
قال: وليس الأمر كذلك، بل أزعمُ أنّ النفس من جنس النسيم وهذه النفسُ القائمة في الهواء المحصور، عرضٌ لهذه النفسِ المتفرِّقة في أجرام جميع الحيوان، وهذه الأجزاء التي في هذه الأبدان، هي من النسيم في موضع الشعاع والأكثاف، والفروع التي تكون من الأصول.
قال: وضياء النفس كضياء دخلَ من كوَّة فلما سُدَّت الكوَّةُ انقطع بالطَّفْرة إلى عنصره من قُرْص الشمس وشُعاعها المشرِقِ فيها، ولم يُقِم في البيت مع خلاف شكله من الجُروم، ومتى عَمَّ السَّدُّ لم تُقِم النفْسُ في الجِرم فوق لا.
 وحكمُ النفْس عند السَّدِّ - إذ كنا لا نجدها بعد ذلك - كحكم الضياء بعد السدّ، إذ كنا لا نجده بعد ذلك.
فالنفسُ من جنس النسيم، وبفساده تفسُدُ الأبدانُ، وبصلاحه تصلحُ، وكان يعتمدُ على أن الهواء نفْسَه هو النفسُ والنسيم، وأن الحرّ واللدونةَ وغير ذلك من الخلاف، إنما هو من الفساد العارضِ.
قيل له: فقد يفسُدُ الماء فتفسُدُ الأجرام من الحيوان بفساده، ويصلُحُ فتَصلح بصلاحه، وتمْنَعُ الماء وهي تنازعُ إليه فلا تَحُلُّ بعد المنازعة إذا تمَّ المنْعُ، وتوصَلُ بِجِرْمِ الماء فتقيمُ في مكانها، فلعل النفسَ عند بُطلانِها في جسمها قد انقطعت إلى عُنصر الماء بالطّفرة.
وبعدُ فما عَلَّمَكَ? لعلّ الخنْقَ هيَّجَ عَلى النفس أضداداً لها كثيرةً، غمرتها حتى غرقت فيها، وصارت مغمورةً بها.
وكان هذا الرئيس يقول: لولا أن تحت كلِّ شعرةٍ وزَغَبَةٍ مجرى نَفَسٍ لكان المخنوقُ يموتُ مع أوّلِ حالات الخنق، ولكن النفْسَ قد كان لها اتصالٌ بالنسيم من تلك المجاري على قدر مِنَ الأقدار، فكان نَوْطُها جوف الإنسان فالرِّيح والبُخَارُ لمَّا طلَبَ المنفذ فلم يجِدْه، دارَ وكثُفَ وقويَ؛ فامتدَّ له الجلدُ فسدَّ له المجاري، فعند ذلك ينقطع النفَس، ولولا اعتصامها بهذا السبب لقد كانت انقطعت إلى أصلها من القُرْص، مع أول حالات الخنق.
وكان يقول: إن لم تكن النفسُ غُمِرت بما هُيّج عليها من الآفاتِ، ولم تنقطع للطَّفْر إلى أصلها جاز أن يكون الضياءُ الساقطُ على أرض البيت عند سدِّ الكُوّةِ أن يكون لم ينقطع إلى أصله. ولكن السدَّ هيَّج عليه من الظلام القائم في الهواء ما غمرَه، وقطعه عن أصله، ولا فرْق بين هذَين.
وكان يعظّم شأنَ الهواء، ويُخبر عن إحاطته بالأمور ودخوله فيها، وتفضُّل قوّته عليها.
وكان يزعمُ أن الذي في الزّقّ من الهواء، لو لم يكن له مَجَارٍ ومنافسُ، ومُنِع من كل وجهةٍ لأقَلَّ الجَمَلَ الضخم.
وكان يقول: وما ظنّك بالرِّطل من الحديد أو بالزُّبْرَةِ منه، أنه متى أُرسل في الماء خَرَقه، كما يخرق الهواء قال: والحديد يسرعُ إلى الأرض إذا أرسلتَه في الهواء، بطبعه وقوّته، ولطلبه الأرضَ المشاكِلَةَ له، ودفعِ الهواء له، وتبرِّيه منه، ونفيه له بالمضادة، واطِّرَادِهِ له بالعداوة.
قال: ثمّ تأخذُ تلك الزُّبْرَة فتبسُطها بالمطارق، فتنزل نزولاً دون ذلك؛ لأنها كلما اجتمعت فكان الذي يلاقيها من الماء أصغَر جِرْماً، كانت أقوى عليه.
ومتى ما أشخَصْتَ هذه الزُّبْرَة المفطوحة المبسوطةَ المسطوحة، بنتْق الحِيطان في مقدارِ غِلظ الإصبع، حَمَلَ مثلَ زِنَتِهِ المرارَ الكثيرةَ وليس إلا لما حصرَتْ تلك الإصبعُ من الهواء، وكلما كان نتوُّ الحِيطان أرفع كان للأثقال أحْمَلَ، وكان الهواء أشدَّ انحصاراً.
قال: ولولا أن ذلك الهواءَ المحصورَ متَّصلٌ بالهواء المحصور في جرم الحديد، وفي جرم الخشبِ والقارِ، فرفَعَ بذلك الاتصال السفينةَ عُلوَّاً - لَمَا كان يبلُغُ من حصر ارتفاع إصبعٍ للهواء ما يحملهُ البَغْل.
ويدلّ على ذلك شأن السكّابة؛ فإنَّك تضعُ رأسَ السكّابة الذي يلي الماء في الماء، ثم تمصه من الطرف الآخر، فلو كان الهواء المحصورُ في تلك الأنبوبةِ إنما هو مجاورٌ لوجهِ الماء، ولم يكن متصلاً بما لابَس جِرْم الماء من الهواء، ثم مصصْتَه بأضعافِ ذلك الجذْبِ إلى ما لا يتناهى لَمَا ارتفع إليك من الماء شيءٌ رأساً.
وكان يقول في السَّبيكة التي تُطيل عليها الإيقاد، كيف لا تتلوّى، فما هو إلا أن يُنفخ عليها بالكيرِ حتى تدخلَ النيرانُ في تلك المداخلِ، وتُعاوِنَها الأجزاءُ التي فيها من الهواء.
وبمثل ذلك قامَ الماءُ في جوف كُوزِ المِسْقاة المنكس، ولعلمهم بصَنيع الهواء إذا احتَصَر وإذا حُصِر، جعلوا سَمْكَ الصِّينية مِثلَ طولها، أعني المركبَ الصِّينيّ.
وكان يخبر عن صنيع الهواء بأعاجيب.
وكان يزعم أنّ الرّجلَ إذا ضُرِبت عنقُه سقط عَلَى وجهه، فإذا انتفخَ انتفخَ غُرمُوله وقامَ وعَظُم، فَقَلبَه عند ذلك على القفَا، فإذا جاءت الضّبُع لتأكله فَرَأته على تلك الحال، ورأت غُرمُوله على تلك الهيئة، استَدْخَلَتْه وقضتْ وطرَها من تلك الجهة، ثم أكلَت الرّجلَ، بعد أن يقوم ذلك عندك أكثر من سِفاد الذِّيخ.
والذِّيخ: ذَكر الضِّباع العَرقاء. وذكر بعضُ الأعراب أنه عاينَها عند ذلك، وعند سِفاد الضَّبُع لها، فوجد لها عند تلك الحال حركةً وصياحاً، لم يجده عندها في وقت سِفاد الذِّيخ لها.
ولذلك قال أبو إسحاق لإسماعيل بن غَزْوان: أشهد باللّه إنك لَضَبُعٌ، لأن إسماعيل شدّ جاريةً له على سُلّم وَحلَف ليضرَبَّها مائةَ سَوْطٍ دونَ الإزار - ليلتزِقَ جلدُ السّوط بجلدها، فيكون أوْجَعَ لها - فلما كشفَ عنها رَطْبةً بَضَّةً خَدْلَةً، وقَع عليها، فلما قضى حاجته منها وفَرَغَ، ضرَبها مائة سوط، فعند ذلك قال أبو إسحاقَ ما قال.
اختلاف أحوال الغرقى وإذا غرقت المرأةُ رسبتْ، فإذا انتفخت وصارت في بطنها ريح وصارت في معنى الزقّ، طفا بدنُها وارتفع، إلا أنها تكون مُنْكَبَّةً، ويكونُ الرّجل مستلقياً.
وإذا ضُربتْ عُنقُ الرّجلِ وأُلقيَ في الماء لم يَرسُب، وقام في جوف الماء وانتصب، ولم يغْرَق، ولم يَلزم القعر، ولم يظهر، كذلك يكونُ إذا كان مضروبَ العُنق، كان الماء جارياً أو كان ساكناً، حتى إذا خفّ وصار فيه الهواء، وصار كالزِّقِّ المنفوخ، انقلبَ وظهَرَ بدنه كله، وصار مستلقياً، كان الماءُ جارياً أو كان قائماً، فوُقوفُه وهو مضروب العُنق، شبيهٌ بالذي عليه طباعُ العقربِ التي فيها الحياة، إذا ألقيتَها في ماء غَمْر، لم تطفُ ولم ترسبْ، وبقيتْ في وسط عُمْق الماء، لا يتحرَّك منها شيء.
ما يسبح من الحيوان والعقرب من الحيوان الذي لا يسبَح، فأما الحيّة فإنها تكونُ جيِّدَةَ السباحةِ، إذا كانت من اللواتي تنساب وتزحف، فأمّا أجناس الأفاعي التي تسير على جنبٍ فليس عندها في السباحة طائل.
والسِّباحة المنعوتة، إنما هي للإوزّةِ والبقرةِ والكلبِ، فأمّا السمكةُ فهي الأصل في السباحة، وهي المثل، وإليها جميع النسبة.
والمضروب العنق يكون في عُمْق الماء قائماً، والعقربُ يكون على خلاف ذلك.

ثمّ رجع بنا القول إلى ذكر النار

قال: وللنار من الخصال المحمودةِ أنَّ الطفل لا يُناغي شيئاً كما يُناغي المِصْباح، وتلك المناغاة نافعةٌ له في تحريك النفْس، وتهييج الهمة، والبعثِ على الخواطر، وفتق اللّهاة، وتسديد اللسان، وفي السرور الذي له في النفس أكرمُ أثر.
قول الأديان في النار قال: وكانت النار معظَّمةً عند بني إسرائيل، حيث جعلها اللّه تعالى تأكل القربان، وتدل على إخلاص المتقرِّب، وفساد نية المُدْغِل، وحيث قال اللّه لهم: لا تُطْفِئُوا النَّارَ مِنْ بُيُوتِي، ولذلك لا تجد الكنائس وَالبِيَعَ أبداً إلا وفيها المصابيح تزْهر، ليلاً ونهاراً، حتى نَسَخَ الإسلام ذلك وأمرنا بإطفاء النيران، إلا بقدر الحاجة.
فَذَكَرَ ابنُ جُريجٍ قال: أخبرني أبو الزّبير، أنه سمع جابرَ بن عبدِ اللّه يقول: أمرني رسولُ اللّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إذا رَقَدْتَ فأغلق بابك، وخَمِّرْ إناءك، وأوْكِ سِقَاءَك، وأطفئ مصباحَك، فإِن الشيطان لا يفتح غَلَقاً ولا يكشفُ إناءً، ولا يحلُّ وِكاءً، وإن الفأرة الفُويسِقَة تحرقُ أهل البيت.
وفِطْر بن خليفة عن أبي الزبير؛ عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال لنا رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "أغْلِقُوا أبوابَكم، وأوْكُوا أسقِيتكم وخَمِّروا آنيتكم، وأطفئوا سُرُجكم، فإِن الشيطان لا يفتحُ غلَقاً، ولا يُحلُّ وِكاءً، ولا يكشفٍُ غِطاءً، وإن الفويسقَة تضرِّم البيتَ على أهله، وكُفُّوا مَوَاشِيَكم وأهليكم حينَ تغرُب الشمس، حتى تذهبَ فحمةُ العِشاء".
قال: ويدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يأمر بحفظها إلا بقَدر الحاجةِ إليها، ويأمر بإطفائها إلا عند الاستغناء عنها - ما حدَّث به عبَادُ بن كثير قال: حدّثَني الحسن بنُ ذكْوان عن شَهْر بن حَوشب قال: أمر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن تحبسوا صبيانَكم عند فحمة العشاء، وأن تُطفئوا المصابيح، وأن توكِئوا الأسقِية، وأن تخمِّروا الآنية، وأن تغلِّقوا الأبواب، قال: فقام رجلٌ فقال: يا رسول اللّه إنه لا بدّ لنا من المصابيح، للمرأةِ النُّفساءِ، وللمريض، وللحاجة تكون، قال: فلا بأسَ إذاً، فإن المصباحَ مَطْرَدَةٌ للشيطان، مذبَّةٌ للهوام، مَدَلَّةٌ على اللصوص.
نار الغول قال: ونارٌ أخرى، وهي التي تذكر الأعرابُ أن الغولَ تُوقِدُها بالليل، للعبث والتخليل، وإضلال السابلة.
 قال أبو المطراب عُبيد بن أيوبَ العَنبَرِيّ:

لصاحبِ قَفْرٍ خائفٍ مُتَقَتِّـرُ

 

فللّه دَرُّ الغُـولِ أيُّ رَفـيقةٍ

حَوَالَيَّ نِيراناً تبوخُ وتزهرُ

 

أرنّت بلَحْنٍ بعدَ لَحْنٍ وَأَوقَدَتْ

جَمَرات العرب قال: وجَمَراتُ العرب: عبسٌ، وضَبّةُ، ونُمَير، يقال لكلِّ واحد منهم: جمرة.
وقد ذكر أبو حَيَّةَ النُّميري قومَه خاصَّةً فقال:

تَوَقَّدُ لا تُطْفـا لِـريْب الـنّـوائبِ

 

وهمْ جَمْرَةٌ لا يَصْطَلي الناسُ نارَهم

ويروى: الدوابر.
ثم ذكر هذه القبائل فعمّهُمْ بذلك، لأنها كلَّها مُضَرِيَّة، فقال:

ثَلاَثٌ فَقَدْ جُرِّبْنَ كلّ التَّجاربِ

 

لنا جَمَراتٌ ليس للناس مثلهـم

وضَبّةُ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كاذِبِ

 

نُمَيْرٌ وعَبْسٌ تُتَّقَى صَقرَاتُهَـا

يعني شدّتها.

لها عارضٌ جَونٌ قَويُّ المناكبِ

 

إلى كلِّ قومٍ قَدْ دَلَفْنَا بجَـمْـرَةٍ

سقوط الجمرة

وعلى ذلك المعنى قيل: قد سقَطت الجَمْرة، إذا كان في اسقبال زمان الدَّفاء، ويقولون: قد سقطت الجمرة الأولى، والثانية، والثالثة.

استطراد لغوي

والجمار: الحصى الذي يُرْمَى به، والرَّمْي: التجمير، قال الشاعر:

ولا كلَيَالِي الحجِّ أفْتَنّ ذا هَوَى

 

ولم أرَ كالتجميرِ منظَرَ ناظِرٍ

والتجمير أيضاً: أن يُرْمَى بالجُنْد في ثغر من الثُّغورِ، ثم لا يُؤْذَنَ لهم في الرجوعِ.
وقال حُمَيْدٌ الأرقَطُ:

ولا لغازٍ إنْ غَزَا تَجميرُ

 

فاليومَ لا ظلم ولا تَتْبـيرُ

وقال بعضُ مَنْ جُمِّرَ من الشعراء في بعض الأجناد:

إلينا وإما أن نَؤُوبَ مُعـاويا

 

مُعَاوِيَ إمّا أنْ تُجَهِّزَ أَهْلَنَـا

ومَنّيْتَنَا حتى مَلِلنا الأمـانـيا

 

أجَمَّرْتَنَا تَجميرَ كِسْرى جُنُودَهُ

وقال الجعديُّ:

طَ بجنْد مُجَـمَّـرٍ بِـأُوَالِ

 

كالخلايا أنشأنَ من أهل سابا

ويقال قد أجمر الرجل: إذا أسرع أوْ أعجلَ مركَبه.
وقال لبيد:

أَوْ قِرَابي عَدْوُ جَوْنٍ قَدْ أَبَلْ

 

وإذا حَرَّكْتُ غَزْرِي أجْمَرَتْ

وقال الراجز:

أجْمَرَ إجْمَاراً لَهُ تَطْمِيمُ

التّطميم: الارتفاع والعلوُّ، ويقال: أجْمَرَ ثوبَه، إذا دخّنه.
والمِجْمرة والمِجْمر: الذي يكون فيه الدُّخنة، وهو مأخوذٌ من الجَمْر.
ويقال: قد جَمَّرت المرأةُ شَعْرَها إذا ضَفَرته، والضَّفر يقال له الجمير، قال: ويسمى الهلالُ قبل ليلةِ السِّرار بلَيلةٍ: ابن جَمِير قال أبو حَرْدَبة:

لبَنِي أمَيّةَ في سِرار جَميرِ

 

فهل الإله يُشِيِّعُني بفوارسٍ

وأنشدني الأصمعيُّ:

مَضْفُورُها يُطوَى على جَميرها

ويقال: قد تجمَّر القوم، إذا هم اجتمعو حتى يصير لهم بأسٌ، ويكونوا كالنارِ على أعدائهم فكأنهم جمرةٌ،أو كأنهمْ جَميرٌٌ من شعر مضفور، أو حَبل مُرصّعِ القُوَى.
وبه سمِّيت تلك القبائلُ والبطونُ من تميم: الجمار.
والمجمَّر مشدّد الميم: حيثُ يقع حصى الجمار، وقال الهذلي:

سوابقُ حُجّاجٍ تُوَافي المجمَّرا

 

لأَدْركهمْ شُعْثَ النّوَاصِي كأنهمْ

ويقال خُفٌّ مجمَّرَ: إذا كان مجتمعاً شديداً.
ويقال: عدَّ فلانٌ إبله أو خيله أو رجاله جَمَاراً: إذا كان ذلك جُملة واحدة، وقال الأعشى:

وأعْني بذلك بَكراً جَمَارَا

 

فَمَنْ مُبْلَغٌ وائلاً قومَـنـا

قال: ويقال في النار وما يسقط من الزَّند: السِّقط، والسُّقط، والسَّقْط، ويقال: هذا مَسقِط الرمل، أي مُنْقَطَع الرمل، ويقال: أتانا مَسْقِط النَّجْمِ، إذا جاء حين غاب.
ويقال رَفَعَ الطائرُ سِقْطَيْه، وقال الشاعر:

عنهُ نعامةُ ذِي سِقْطَينِ مُعْتكـرِ

 

حتى إذا ما أضاء الصُّبْحُ وانبعثتْ

أراد ناحيتي الليل.
ويقال: شبّت النار والحرب تَشِبّ شَبّاً، وشببْتها أنا أشبُّها شَبّاً، وهو رجل شَبُوبٌ للحرب. ويقال: حَسَبٌ ثاقب، أي مضيءٌ متوقد، وكذلك يقال في العلم، ويقال: هب لي ثقوباً، وهو ما أثقَبْتَ به النار، من عُطْبَةٍ أو من غيرها ويقال: أثقب النار إذا فتح عَيْنَهَا لتشتعل، وهو لثَّقوب، ويقال: ثَقَبَ الزندُ ثُقوباً، إذا ظهرت ناره، وكذلك النار، والزند الثاقب الذي إذا قدِح ظهرت النار منه.
ويقال: ذَكَتر النارُ تَذْكُو ذُكُوّاً، إذا اشتعلت، ويقال ذَكّها إذا أريد اشتعالها، وذُكاءُ اسم للشمس، مضموم الذال المعجمة، وابن ذُكاء: الصبح، ممدود مضموم الذال، وقال العجَّاج:

ابنُ ذُكاءٍ كامنٌ في كَفْرِ

وقال ثَعلَبة بن صُعير المازني، وذكر ظليماً ونعامةً:

لْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ

 

تذكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بعدَ مـا

وأما الذكاء مفتوح الذال ممدود فحدَّه الفُؤَاد، وسُرعةُ اللَّقْنِ.
وقالوا: أضْرَمْتُ النار حتى اضطرمتْ وألهبْتُها حتى التهبت، وهما واحد، والضِّرام من الحطب: ما ضعُف منه ولان، والجَزْل: ما غلُظ واشتدَّ، فالرِّمْث وما فوقه جَزْل، والعَرْفَج وما دونه ضرام، والقصب وكل شيء ليس له جمرٌ فهو ضِرام، وكل ما له جَمر فهو جَزل.
ويقال: ما فيها نافخ ضَرَمَة، أي ما فيها أحدٌ ينفخ ناراً.
ويقال: صَلَيتُ الشاةَ فأنا أصْليها صَلْياً أذا شَوَيتها، فهي مَصْليَّة، ويقالُ: صَلِيَ الرجُلُ النار يَصْلاها، وأصلاه اللّه حرَّ النارِ إصلاءً، وتقول: هو صالٍ حرَّ النار، في قومٍ صالين وصُلَّى.
ويقال: هَمَدت النار تَهمُدُ هُمُوداً، وطفِئَتْ تطفَا طُفُوءاً، إذا ماتت، وخَمَدَتْ تَخَْمُدُ خُمُوداً، إذا سكن لهبُها وبَقِي جمراً حارّاً.
وشبّت النار تشِبُّ شُبوباً إذا هاجتْ والتهبت، وشبّ الفرسُ بيديه فهو يشِبّ شِباباً، وشبَّ الصبيُّ يشِبُّ شَباباً، ويقال: ليس لك عَضَّاضٌ ولا شَبّاب.
ويقال: عَشَا إلى النار فهو يعشو إليها عَشْواً وعُشُوا، وذلك يكون من أول الليل، يرى ناراً فيعشو إليها يستضيءُ بها، قال الحطيئة:

تجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ

 

متى تأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْء نارِهِ

وقال الأعشى:

وباتَ على النارِ الندى والمحلق

ويقال: عَشِيَ الرجل يَعْشَى عَشاوةً، وهو رجلٌ أعشى، وهو الذي لا بيبصر بالليل، وعشِي الرجلُ علَى صاحبِه يعشَى عَشاً شديداً.
نار الحرب ويذكرون ناراً أخرى، وهي على طريق المثل والاستعارة، لا على طريق الحقيقة، كقولهم في نار الحرب، قال ابن مَيَّادة:

وأُخْرَى شديدٌ بالأعادي ضَرِيُرهـا

 

يداه: يدٌ تَنْهَلُّ بالـخـير والـنّـدا

وأخرى يُصيبُ المجرمينَ سَعيرُها

 

وناراهْ: نـارٌ نـارُ كَـلٍّ مُـدَفَّـعٍ

وقال ابن كُناسَةَ:

فاقِ سِتْرَيْينِ مِنْ حديدٍ ونار

 

خَلْفَهَا عارضٌ يَمُدُّ عَلَى الآ

دّ وتُعْشِي نوافذَ الأبصـارِ

 

نارُ حربٍ يشُبُّها الحَدُّ والجِ

وقال الرَّاعي:

تصيبُ الصّرِيحَ مَرّةَ والمواليا

 

وَغارَتُنَا أوْدَتْم ببَهرَاءَ إنـهـا

ونارٌ بدَمْخٍ يُحرِقانِ الأعـاديا

 

وكانت لنا نارانِ: نارٌ بجاسِـمٍ

جاسم: بالشام، ودمْخ: جَبَلٌ بالعالية.
نار القِرى ونار أخرى، وهي مذكورةٌ عَلَى الحقيقة لا على المثل، وهي مِن أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترْفَع للسَّفر، ولمن يلتمسُ القِرَى، فكلما كان موضِعها أرفَع كان أفخر.
وقال أميَّة بن أبي الصّلْت:

في ذُرَى مُشْرِفِ القصورِ ثَوَاكَا

 

لا الغياباتُ منْـتَـوَاكَ ولـكـنْ

وقال الطائي:

رفيعِ المباءةِ والمـسـرحِ

 

وبوأت بيتكَ في مَـعْـلَـمٍ

ونبح الكلابِ لمستـنـبـحِ

 

كيفتَ العُفاةَ طلابَ القـرى

يِّ أخاديدَ كاللقـمِ الأفـيحِ

 

ترى دعسَ آثارِ تلكَ المـط

لكنتَ على الشركِ الأوضحِ

 

ولو كنتَ في نـفـقٍ رائغٍ

وأنشدني أبو الزِّبرقان:

إذَا الظلماءُ جَلَّلَتِ البقاعَا

 

له نارٌ تُشَبُّ بـكـلِّ ريع

ولكنْ كان أرْحَبَهُمْ ذِرَاعا

 

وما إن كان أكْثَرَهمْ سَوَاماً

ويروى: ولَمْ يَكُ أكْثَرَ الفِتْيَانِ مالاً.
 وفي نار القِرَى يقول الآخر:

تُبَكِّي البَوَاكي أو لبِشْرِ بنِ عامـر

 

عَلَى مِثْلَ هَمَّامٍ ولَـمْ أَرَ مـثْـلَـهُ

مِنَ المجدِ ثمَّ استوسعا في المصادر

 

غلامان كان استَوْرَدَا كـلَّ مَـوْرِدٍ

سَنَا الفجرِ يبدَو للعُيُونِ النّـواظِـرِ

 

كأنَّ سَنَا ناريهـمـا كـلَّ شَـتْـوَةٍ

وفي ذلك يقول عوفُ بن الأحوص:

من الليلِ بابَا ظلمَة وستـورُهـا

 

ومستنبحٍ يخشي القـواءَ ودونـهُ

زجرتُ كلابي أن يهرَّ عقورُها

 

رفعتُ لهُ ناري فلما اهتدى بهـا

إذا رَدَّ عَافي القدرِ منْ يستعيرُها

 

فلا تسأليني واسألي عن خليقتـي

لذي الفروة المقرور أمُّ يزورُها

 

ترى أنْ قدري لاتزالُ كـأنـهـا

إذا أخمد النيرانُ لاح بشـيرهـا

 

مبرزة لا يجعلٌ الستر دونـهـا

بألبانها ذاقَ السنانَ عـقـيرهـا

 

إذا الشولُ راحتْ ثم لَمْ تفدِ لحمها

خبر وشعر في الماء أما إن ذكرنا جُملةً من القول في الماء من طريق الكلام وما يدُخل في الطب، فستذكُر من ذلك جملة في باب آخر: قالوا: مدَّ الشعبي يدهُ وهو على مائدة قتيبة بن مسلم يلتمس الشرابَ، فلم يَدْرِ صاحبُ الشرابِ اللبن، أم العسلَ، أم بعضَ الأشربة? فقال له: أي الأشربةِ أحبُّ إليك? قال: أعزُّها مفقوداً، وأهونُها موجوداً قال قُتيبة: اسقِهِ ماءً.
وكان أبو العتاهية في جماعة من الشعراء عند بعض الملوك، إذ شرب رجلٌ منهم ماء، ثم قال: بَرَدَ الماءُ وطابَ فقال أبو العتاهية: اجعله شِعْراً، ثم قال: مَنْ يجيز هذا البيت? فأطرق القومُ مفكرين، فقال أبو العتاهية: سبحان اللّه وما هذا الإطراق? ثم قال:

حَبَّذَا الماءُ شرابا

 

بَرَدَ الماءُ وطابا

وقال اللّه عز وجل: "أَنهَارٌ منْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ" ثم لم يذكرْهُ بأكثر من السلامةٍ من التغيُّر، إذْ كان الماء متى كان خالصاً سالماً لم يحتجْ إلى أن يُشربَ بشيء غيرِ ماً في خلقته من الصَّفاء والعُذوبة، والبَرْدِ والطَّيب، والحُسنِ، والسَّلَس في الحَلْق، وقد قال عديُّ بن زَيد:

كنتُ كالغَصَّانِ بالماء اعتصاري

 

لوْ بغَيْرِ الماء حَلْـقِـي شَـرِقٌ

قال أبو المطراب عبيد بن أيُّوب العنبريُّ:

وأولُ خُبْثِ النَّجْلِ خُبْثُ الحَلاَئِل

 

وأوَّلُ خُبْثِ الماء خُبْثُ تُـرَابِـه

وأوصَى رجلٌ من العرب ابنته ليلةَ زفافها بوصايا، فكان مما قال لها: احذرِي مَوَاقِعَ أنفه، واغتسلي بالماء القَرَاح، حتى كأنك شَنٌّ ممطور.
وأوصتِ امرأةٌ ابنتَها بوصايا، فكان منها: وليكنْ أطيبَ طِيبك الماءُ.
وزعموا أنها القائلةُ لبنتها:

وأكْرِمي تابعهُ وأَهـلَـهُ

 

بُنَيَّتِي إن نامَ نامِي قَبْـلَـهُ

فَتَخْصِمِيه فتكوني بَعْـلـهُ

 

ولا تكوني في الخِصامِ مثْلَهُ

ومن الأمثال:

سِوى ذِكْرِها كالقابض الماءَ باليدِ

 

فأصبحتُ مما كان بَيْنِي وبينَـهـا

وأخذ المسيحُ عليه السلام في يده اليُمْنى ماءً، وفي يده اليسرى خُبزاً فقال: هذا أبي، وهذا أمِّي، فجعل الماء أباً، لأن الماءَ من الأرض يقوم مقام النطفةِ من المرأة.
وإذا طُبخ الماء ثم بَرَدَ لم تَلْقَحْ عليه الأشجار، وكذلك قُضبان الشجر، والحبوبف والبذور لو طُبِخت طبخةً ثمَّ بُذِرَت لم تَعْلق.
وقالوا في النظر إلى الماء الدائم الجريان ما قالوا.
وجاء في الأثر: من كان به برصٌ قديمٌ فليأخذْ دِرْهماً حلالاً، فلْيَشْتَر به عَسلاً، ثم يَشرَبهُ بماء سماء، فإنه يبرأ بإذن اللّه.
والنزيف هو الماء عند العرب.
وما ظنُّكم بشرابٍ خَبُث ومَلحَ فصار مِلْحاً زُعاقاً، وبحراً أُجَاجاً، ولّد العنبر الوَرْدَ، وأنسل الدّرّ النفيس، فهل سِمعْتَ بِنَجْلٍ أكرمَ ممن نجَله، ومن نِتاجٍ أشرفَ ممن نَسَله.
وما أحسن ما قال أبو عبَّاد كاتبُ ابن أبي خالد حيثُ يقول: ما جلسَ بين يديّ رجلٌ قط، إلا تمثَّل لي أنني سأجِلسُ بين يديه، وما سَرَّني دهرٌ قطُّ، إلا شغلني عنه تذكرُ ما يليق بالدهور من الغِيَرِ. قال اللّه عزَّ وجلّ: "قِيلَ لَها ادْخُلي الصَّرْحَ فلمَّا رَأتْهُ حَسِبتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا"، لأن الزجاج أكثرُ ما يُمدحُ به أن يقال: كأنه الماء في الفيافي.
وقال اللّه عز وجل: "هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ".
وقال القُطاميّ:

مواقِعَ الماء منْ ذِي الغُلَّةِ الصَّادي

 

وهُنَّ يَنْبِذْنَ مِنْ قَولٍ يُصِـبْـنَ بـه

وقال اللّه عز وجل: "وَاللُّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةِ مِنْ مَاء".
فيقال: إنه ليس شيء إلا وفيه ماء، أو قَدْ أصابه ماء، أوخُلقِ من ماء، والنُّطفة ماء، والماء يسمى نُطفة، وقال اللّه تعالى: "وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاء"، قال ابن عباس: موج مكفوف.
وقال عز وجل: "وَنَزَّلنَا مِنَ السَّماء مَاءً مُبَاركاً".
التسمية بماء السماء وحين اجتهدوا في تسميةِ امرأةٍ بالجمال، والبركة، والحُسنِ، والصَّفاء، والبَياض قالوا: ماء السماء، وقالوا: المنذر بن ماء السماء.

استطراد لغوي

ويقال: صِبْغٌ له ماء، ولونٌ له ماء، وفلان ليس في وجهه ماء، ورَدَّني فلانٌ ووجهي بمائه، قال الشاعر:

ماءُ الحياء يجولُ في وجَناتِهِ

شعر في صفة الماء وقالت أمُّ فَروة في صفة الماء:

تحدر من غر طِـوالِ الـذوائبِ

 

وما ماءُ مزنٍ أيُّ ماء تـقـولـه

عليه رياحُ المزن من كلِّ جانب

 

بمنعرج أو بطنِ وادٍ تـحـدبـت

فما إنْ به عيب تراه لـشـارب

 

نفى نسمُ لاريح القذا عن متونـه

تقى الله واستحياء بعض العواقب

 

بأطيبَ ممنْ يقصرُ الطرفَ دونه

ما يحبه الحيوان من الماء والإبل لا تحبُّ من الماء إلا الغليظَ، والحوافر لا تحبُّ العُذوبة وتكره الماء الصافي، حتى ربَّما ضَرَب الفرسُ بيده الشريعة ليثَوِّر الماء ثمّ يشربَه.
والبقر تعافُ الماءَ الكدِرَ، ولا تشرب إلا الصافي.
والظباء تَكرَع في ماء البحرِ الأُجاج، وتخضِمُ الحنْظَل.

استطراد لغوي

والأبيضان: الماء، واللبن، والأسودان: الماء، والتمر.
وسواد العِراق: ماؤه الكثير، والماء إن كان له عُمْق اشتدّ سوادُه في العين.
شعر في صفة الماء وقال العُكليّ في صفة الماء:

والليل داجٍ مطلخـمٌّ أسـوده

 

عاد من ذكرِ سلـمـى عـوده

حتى إذا الليل تولـى كـبـده

 

فبتُّ ليلى ساهراً مـا أرقُـده

وحثَّه حادٍ كـمـيشٌ يطـرده

 

وانكبّ للغورِ انكبابا فـرقـدهْ

أصبح بالقلبِ جوى ما يبـردهُ

 

أغرُّ أجلى مغربٌ مـجـردهُ

زل به عن رأس نيقٍ صـدده

 

ماء غمامٍ في الرصاف مقلـدهْ

حتى إذا السيل تناهـى مـدده

 

عن ظهر صفوانٍ مزل مجسده

بين نعامى ودبورٍ تـلـهـدُه

 

وشكد المـاء الـذي يشـكـده

كأنمـا يشـهـده أو يفـقـده

 

كلُّ نسيمٍ من صباً تسـتـورده

فهو شِفاءُ الصاد مما يَعْمِدُه وقال آخَر في الماء:

نزلٍ أصابً عراصها شؤبوب

 

يا كأس ما ثغبٌ برأس شظيةٍ

نديانَ، يقصر دونهُ اليعقـوب

 

ضحيانُ شاهقةٍ يرف بشامُـه

عشانَ داغش ثم عاد يلـوبُ

 

بألذَّ منكِ مـذاقةً لـمـحـلإ

وقال جرير:

تَدَعُ الحوائمَ لا يَجُدْنَ غـلـيلا

 

لو شئتِ قد نَقَعَ الفؤَادُ بـشَـرْبةٍ

قضُّ الأباطح لا يزالُ ظلـيلا

 

بالعَذْب من رصَف القِلاتِ مَقِيلُه

فضل الماء قال: وفي الماء أنَّ أطيب شراب عُمِل وَرُكِّب، مثل السَّكَنْجَبِين، والجُلاّب، والبَنَفْسَجِ وغير ذلك مما يُشْرَبُ من الأشربة، فإنْ لذَّ وطاب، فإنّ تمام لذَّته إن يَجْرعَ شاربُه بعد شُربه له جُرَعاً من الماء، يغْسل بها فمه، ويطيِّب بها نفسه، وهو في هذا الموضع كالخُلَّة والحَمض جميعاً وهو لتسويغ الطعام في المرِىء، والمركَبُ والمِعْبر، والمتوصَّل به إلى الأعضاء.
فالماء يُشربُ صِرْفاً وممزوجاً، والأشربة لا تُشرَبُ صِرفاً، ولا يُنْتَفَعُ بها إلا بممازَجَة الماء، وهو بعدُ طهورُ الأبدانِ، وغسولُ الأدران. وقالوا: هو كالماء الذي يطهر كلّ شيء، ولا ينجِّّسه شيء.
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في بئر رُومة: "الماءُ لا ينجِّسُه شيءٌ" .
ومنه ما يكون منه المِلْح، والبَرَد، والثَّلج، فيجتمع الحُسن في العين، والكرم في البياض والصفاء، وحسنُ الموقع في النفس.
وبالماء يكون القَسَم، كقول الشاعر:

لا أشْرَبُ البارِدَ أو تَرْضَى

 

غَضبى ولا واللّهِ يا أهْلَهَـا

ويقولون: لو عِلمَ فلانٌ أنَّ شُرْبَ الباردِ يَضَعُ من مروءَتِهِ لما ذاقه، وسمَّى اللّه عز وجل أصلَ الماء غَيثاً بعد أن قال: "وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء".
ومن الماء ماء زمزم، وهو لِمَا شَرِبَ له، ومنه ما يكونُ دواءً وشفاءً بنفسه، كالماء للحمى.

علَّة ذكر النار في كتاب الحيوان

قد ذكرنا جملة من القَول في النار، وإن كان ذلك لا يدخل في باب القول في أصناف الحيوان، فقد يرجع إليها من وجوه كريمة نافعةِ الذكر، باعثةٍ على الفكر، وقد يعرِضُ من القَوْلِ ما عسى أن يكون أنفعَ لقارئ هذا الكتاب من باب القول في الفيل، والزَّندبيل، والقرد والخنزير، وفي الدُّب والذئب، والضَّبّ والضَّبع، وفي السِّمْعِ والعسْبار.
وعَلَى أن الحكمةَ ربما كانت في الذُّبابة مع لطافة شخصها، ونذالةِ قَدْرها، وخساسة حالها أظهرَ منها في الفرس الرَّائع، وإن كان الفرسُ أنفع في باب الجهاد، وفي الجاموس مع عَظم شخِصه، وفي دودة القَزِّ، وفي العنكبوت أظهرَ منها في الليثِ الهصور، والعُقابِ الشّغْوَاء.
وربما كان ذكرُ العظيم الجُثة الوثيق البَدَن، الذي يجمعُ حِدَّةَ الناب وصولةَ الخلق أكثرَ فائدةً، وأظهرَ حِكمةَ من الصَّغيرِ الحقير، ومن القليل القَمِي، كالبعير والصُّؤابة، والجاموس والثعلب والقَملة.
وشأن الأرَضةِ أعجَبُ من شأن البَبْرِ مع مسالمة الأسد له، ومحاربته للنمر.
وشأنُ الكُركىِّ أعجبُ من شأن العَندليب، فإن الكركيِّ من أعظم الطّير، والعندليبَ أصغر من ابن تَمْرة.
ولذلك ذكر يونس بعضَ لاطَةِ الرُّواة فقال: يضربُ ما بين الكُركيِّ إلى العندليب، يقول: لا يدع رجلاً ولا صبيًّاًإلاَّ عَفَجَه.
ويشبه ذلك هجاءُ خلفٍ الأحمر أبا عبيدة، حيثُ يقول:

لا عانساً يبقى ولا مُحْتَلِـمْ

 

ويضربُ الكُرْكى إلى القُنبَرِ

والعانس من الرجال مثله من النساء.
فلسنا نُطنبُ في ذكر العطيم الجثة لِعظَم جُثّته، ولا نَرْغَبُ عن ذكر الصّغير الجثة، لصغر جُثَّتة، وإنما نلتمس ما كان أكثر أعجوبة، وأبلغَ في الحكمة، وأدلّ عند العامة على حكمة الرّبّ، وعلى إنعام هذا السّيّد.
ورُبّ شيء الأعجوبةُ فيه إنما هي في صورته، وصَنعته، وتركيب أعضائِه، وتأليف أجزائه، كالطاووس في تعاريج ريشه، وتهاويل ألوانه، وكالزَّرافة في عجيب تركيبها، ومواضع أعضائها، والقولُ فيهما شبيهٌ بالقول في التُّدرُج والنَّعامة.
وقد يكون الحيوانُ عجيبَ صنعةُ البَدن، ثم لا يُذكرُ بعدَ حُسن الخَلْق بخُلُق كريم، ولا حِسٍ ثاقبٍ، ولا معرفة عجيبة، ولا صنعة لطيفة، ومنه ما يكون كالببغاء، والنخْلة، والحمامة، والثعلب، والدُّرّة، ولا تكون الأعجوبةُ في تصويره، وتركيب أعضائه، وتنضيد ألوانِ ريشه في وزن تلك الأشياء التي ذكرناها، أو يكون العَجَبُ فيما أعطى في حنجرته من الأغاني العجيبة، والأصوات الشجيَّة المطربة، والمخارج الحسنة مثلَ العجب فيما أعْطِيَ من الأخلاق الكريمة، أو في صنعة الكفِّ اللطيفة، والهداية الغريبة، أو المِرْفق النافع، أو المضرَّة التي تدعو إلى شدَّة الاحتراس، ودقة الاحتيال، فيقدَّم في الذكر لذلك.
وأيٌّ شيء أعجبُ من العَقْعَق وصِدْق حِسَّه، وشدَّة حَذَرِهِ، وحُسْنِ معرفته، ثم ليس في الأرض طائر أشدُّ تضْييعاً لبيضه وفراخه منه، والحُبارَى مع أنها أحمقُ الطير، تحوطُ بيَضها أو فراخَها أشدَّ الحياطة، وبأغْمََضِ معرفة، حتى قال عثمانُ بن عفان، رضي اللّه عنه: كلُّ شيء يحب والدَه حتى الحبارى، يَضْربُ بها المثلَ في الموق.
العقعق ثم العقعَقُ مع حِذقه بالاستلاب، وبسرعة الخطف، لا يستعمل ذلك إلا فيما لا ينتفع به، فكَمْ من عِقْدٍ ثمين خَطير، ومن قُرْطٍ شريف نفيس، قد اختطف من بين أيدي قومٍ، فإمّا رَمَى به بعد تَحَلُّقه في الهواء، وإما أحرزه ولم يلتفت إليه أبداً. وقالوا: هو كالماء الذي يطهر كلّ شيء، ولا ينجِّّسه شيء.
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في بئر رُومة: "الماءُ لا ينجِّسُه شيءٌ" .
ومنه ما يكون منه المِلْح، والبَرَد، والثَّلج، فيجتمع الحُسن في العين، والكرم في البياض والصفاء، وحسنُ الموقع في النفس.
وبالماء يكون القَسَم، كقول الشاعر:

لا أشْرَبُ البارِدَ أو تَرْضَى

 

غَضبى ولا واللّهِ يا أهْلَهَـا

ويقولون: لو عِلمَ فلانٌ أنَّ شُرْبَ الباردِ يَضَعُ من مروءَتِهِ لما ذاقه، وسمَّى اللّه عز وجل أصلَ الماء غَيثاً بعد أن قال: "وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء".
ومن الماء ماء زمزم، وهو لِمَا شَرِبَ له، ومنه ما يكونُ دواءً وشفاءً بنفسه، كالماء للحمى.

علَّة ذكر النار في كتاب الحيوان

قد ذكرنا جملة من القَول في النار، وإن كان ذلك لا يدخل في باب القول في أصناف الحيوان، فقد يرجع إليها من وجوه كريمة نافعةِ الذكر، باعثةٍ على الفكر، وقد يعرِضُ من القَوْلِ ما عسى أن يكون أنفعَ لقارئ هذا الكتاب من باب القول في الفيل، والزَّندبيل، والقرد والخنزير، وفي الدُّب والذئب، والضَّبّ والضَّبع، وفي السِّمْعِ والعسْبار.
وعَلَى أن الحكمةَ ربما كانت في الذُّبابة مع لطافة شخصها، ونذالةِ قَدْرها، وخساسة حالها أظهرَ منها في الفرس الرَّائع، وإن كان الفرسُ أنفع في باب الجهاد، وفي الجاموس مع عَظم شخِصه، وفي دودة القَزِّ، وفي العنكبوت أظهرَ منها في الليثِ الهصور، والعُقابِ الشّغْوَاء.
وربما كان ذكرُ العظيم الجُثة الوثيق البَدَن، الذي يجمعُ حِدَّةَ الناب وصولةَ الخلق أكثرَ فائدةً، وأظهرَ حِكمةَ من الصَّغيرِ الحقير، ومن القليل القَمِي، كالبعير والصُّؤابة، والجاموس والثعلب والقَملة.
وشأن الأرَضةِ أعجَبُ من شأن البَبْرِ مع مسالمة الأسد له، ومحاربته للنمر.
وشأنُ الكُركىِّ أعجبُ من شأن العَندليب، فإن الكركيِّ من أعظم الطّير، والعندليبَ أصغر من ابن تَمْرة.
ولذلك ذكر يونس بعضَ لاطَةِ الرُّواة فقال: يضربُ ما بين الكُركيِّ إلى العندليب، يقول: لا يدع رجلاً ولا صبيًّاًإلاَّ عَفَجَه.
ويشبه ذلك هجاءُ خلفٍ الأحمر أبا عبيدة، حيثُ يقول:

لا عانساً يبقى ولا مُحْتَلِـمْ

 

ويضربُ الكُرْكى إلى القُنبَرِ

والعانس من الرجال مثله من النساء.
فلسنا نُطنبُ في ذكر العطيم الجثة لِعظَم جُثّته، ولا نَرْغَبُ عن ذكر الصّغير الجثة، لصغر جُثَّتة، وإنما نلتمس ما كان أكثر أعجوبة، وأبلغَ في الحكمة، وأدلّ عند العامة على حكمة الرّبّ، وعلى إنعام هذا السّيّد.
ورُبّ شيء الأعجوبةُ فيه إنما هي في صورته، وصَنعته، وتركيب أعضائِه، وتأليف أجزائه، كالطاووس في تعاريج ريشه، وتهاويل ألوانه، وكالزَّرافة في عجيب تركيبها، ومواضع أعضائها، والقولُ فيهما شبيهٌ بالقول في التُّدرُج والنَّعامة.
وقد يكون الحيوانُ عجيبَ صنعةُ البَدن، ثم لا يُذكرُ بعدَ حُسن الخَلْق بخُلُق كريم، ولا حِسٍ ثاقبٍ، ولا معرفة عجيبة، ولا صنعة لطيفة، ومنه ما يكون كالببغاء، والنخْلة، والحمامة، والثعلب، والدُّرّة، ولا تكون الأعجوبةُ في تصويره، وتركيب أعضائه، وتنضيد ألوانِ ريشه في وزن تلك الأشياء التي ذكرناها، أو يكون العَجَبُ فيما أعطى في حنجرته من الأغاني العجيبة، والأصوات الشجيَّة المطربة، والمخارج الحسنة مثلَ العجب فيما أعْطِيَ من الأخلاق الكريمة، أو في صنعة الكفِّ اللطيفة، والهداية الغريبة، أو المِرْفق النافع، أو المضرَّة التي تدعو إلى شدَّة الاحتراس، ودقة الاحتيال، فيقدَّم في الذكر لذلك.
وأيٌّ شيء أعجبُ من العَقْعَق وصِدْق حِسَّه، وشدَّة حَذَرِهِ، وحُسْنِ معرفته، ثم ليس في الأرض طائر أشدُّ تضْييعاً لبيضه وفراخه منه، والحُبارَى مع أنها أحمقُ الطير، تحوطُ بيَضها أو فراخَها أشدَّ الحياطة، وبأغْمََضِ معرفة، حتى قال عثمانُ بن عفان، رضي اللّه عنه: كلُّ شيء يحب والدَه حتى الحبارى، يَضْربُ بها المثلَ في الموق.
العقعق ثم العقعَقُ مع حِذقه بالاستلاب، وبسرعة الخطف، لا يستعمل ذلك إلا فيما لا ينتفع به، فكَمْ من عِقْدٍ ثمين خَطير، ومن قُرْطٍ شريف نفيس، قد اختطف من بين أيدي قومٍ، فإمّا رَمَى به بعد تَحَلُّقه في الهواء، وإما أحرزه ولم يلتفت إليه أبداً. وزعم الأصمعيُّ أنّ عَقعقاً مرةًاًستلَبَ سِخاباً كريماً لقومٍ، فأخذَ أهلُ السِّخَاب أعرابيَّة كانت عندهم، فبينما هي تُضْرَبُ، وتُسْحَبُ وتسَبُّ إذ مرَّ العَقعَقُ والسِّخابُ في منقاره، فصاحوا به فرمى به، فقالت الأعرابية وتذكرَّتِ السلامة بعد أن كانت قد ابتُليت ببليَّة أخرى فقالت:

كما أنه من بَلْدَةِ السَّوْء نجَّاني

 

وَيومُ السِّخَاب منْ تَعَاجيبِ رَبِّنَا

تَعني الذين كانت نزلت بهم من أهل الحاضِرة.
كلام في الاستطراد ولا بأس بذكر ما يعرض، ما لم يكن من الأبواب الطِّوال، التي ليس فيها إلا المقاييس المجرَّدة، والكلامية المحضة، فإن ذلك مما لا يخفُّ سماعه ولا تَهَشُّ النفوسُ لقراءته، وقد يحتمل ذلك صاحبُ الصناعة، وملتمس الثواب والحِسْبة، إذا كان حليفَ فِكَرٍ، أليفَ عِبَرٍ، فمتى وجدنا من ذلك باباً يحتمل أن يوشَّح بالأشعار الظريفة البليغة، والأخبار الطريفة العجيبة، تكلّفنا ذلك، ورأيناه أجمعَ لما ينتفع به القارئ.
ولذلك استجزْنا أن نقولَ في باب النار ما قلنا.
وأنا كاتبٌ لك بعد هذا؛ إذْ كنتُ قد أملْلتُكَ بالتطويل، وحملتُك على أصعَب المراكب، وأوْعَر الطُّرق، إذ قد ذكرنا فيه جملةً صالحةً من كلام المتكلمين، ولا أرى أن أزيد في سآمتك، وأُحَمِّلكَ استفراغ طاقتك، بأن أبتدئ القول في الإبل، والبقر، والغنم، والأُسْدِ، والذئاب، والحمير، والظباء، وأشباه ذلك، مما أنا كاتِبُهُ لك.
ولكني أبدأ بصغار الأبواب وقصارها، ومُحَقَّراتها، ومِلاحها، لئلا تخرج من الباب الأول، إلا وأنت نشيط للباب الثاني، وكذلك الثالث والرابع إلى آخر ما أنا كاتبه لك، إن شاء اللّه.

سَرد منهج سائر الكتاب

ونبدأ بذكر ما في العصفور، ثم نأخذ في ذكر ما في الفأر والعقرب، والذي بينهما من العَداوة، مع سائر خصالهما.
ثم القولُ في العقرب والخنفساء، وفي الصداقة بينهما، مع سائر خصالهما.
ثم القول في السِّنَّوْر، وبعضُ القول في العقرب.
ثم القولُ في البعوض والبراغيث، ثم القول في القَمل والصِّئْبان، ثم القول في الورَل والضّبّ، ثم القول في اليربوع والقنفذ، ثم القول في النسور والرّخم.
ثم القول في العُقاب، وفي الأرنب، ثم القول في القِرْدان والضفادع، ثم القول في الحُبارى وما أشبه ذلك، وإن كنا قد استعملنا في هذا الكتاب جمَلاً من أخبار ما سمينا بذلك.
وسنذكر قبل ذكرِنا لهذا الباب أبواباً من الشعر طريفة، تصلُحُ للمذاكرة، وتبعث على النشاط معه وتُسْتَخَفّ معه قراءة ما طال من الكتبِ الطوال.
ولولا سوءُ ظني بمن يُظْهِرُ التماسِ العلم في هذا الزمان، ويذكر اصطناعَ الكتبِ في هذا الدهر - لَمَا احتجْتُ في مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم، مع كثرةِ فوائد هذا الكتابِ - إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأنَّ الذي أُفيدُه إياهم أستفيدُهُ منهم، وحتى كأنَّ رغبتي في صَلاحِهم، رغبةُ منَ يرْغَبُ في دنياهم، ويتضرَّعُ إلى ما حوته أيديهم.
هذا، ولم أذكر لك من الأبواب الطوال شيئاً، ولوا قد صرت إلى ذكرِ فرقِ ما بين الجن والإنس، وفرق ما بين الملائكة والأنبياء، وفرق ما بين الأنثى والذكر، وفرق ما بينهما وبين ما ليس بأنثى ولا ذكر، حتى يمتدَّ بنا القولُ في فضيلة الإنسان على جميع أصنافِ الحيوان، وفي ذكر الأمم والأعصار، وفي ذكر القَسم والأعمار، وفي ذكر مقادير العقول والعلوم والصناعات، ثم القول في طباع الإنسان منذُ كان نطفة إلى أن يُفْنِيهُ الهرَم، وكيف حقيقة ذلك الردّ إلى أرذل العمر، فإن مَلِلْتَ الكتابَ واستَثْقَلْتَ القراءة، فأنت حينئذ أعذَرُ، ولحظِّ نفسك أبْخَسُ، وما عندي لك من الحيلة إلا أن أصوّره لك في أحسن صورة، وأقلّبَك منه في الفنون المختلفة، فأجعلَكَ لا تخرجُ من الاحتجاج بالقرآن الحكيم إلا إلى الحديث المأثور، ولا تخرجُ من الحديث إلا إلى الشِّعر الصحيح، ولا تخرجُ من الشّعر الصحيِحِ الظريفِ إلا إلى المثلِ السائر الواقع، ولاتخرج من المثل السائر الواقع إلا إلى القول في طُرف الفلسفة، والغرائب التي صحَّحَتْها التجربة، وأبرزها الامتحان، وكشَف قِناعَها البُرهانُ، والأعاجيبِ التي للنفوسِ بها كلَفٌ شديدٌ وللعقول الصحيِحة إليها النزاع القويّ. ولذلك كتبتُه لك، وسُقتُه إليك، واحتسبتُ الأجرَ فيك.
فانظر فيه نظَر المنْصِفِ من الأكفاء والعُلَمَاءَ، أو نَظر المسترشِدِ من المتعلِّمين والأتباع، فإن وجَدت الكتابَ الذي كتبتُه لك يخالفُ ما وصفتُ فانْقُصْني من نشاطك له على قَدْر ما نَقَصْتُكَ مما ينشطك لقراءته، وإن أنت وجدتني - إذا صحَّ عقلُك وإنصافك - قد وفَّيتُكَ ما ضمنت لك فوجدتَ نشاطك بعدَ ذلك مدخولاً، وحَدَّكَ مفلُولاً فاعلم أنا لم نُؤْتَ إلا من فُسولتِك، و من فسادِ طبعك، ومن إيثارك لما هو أضرُّ بك.

مديح النصارى واليهود والمجوس والأنذال وصغار الناس

من ذلك ما هو مديحُ رغبة، ومنه ما هو إحماد.
أنشدنا أبو صالح مسعود بن قنْد الفزاريّ، في ناسٍ خالَطَهم من اليهود:

على ما كانَ من دينٍ يريبُ

 

وجدنا في اليهودِ رجالَ صدقٍ

لمثلُ الماء خالطهُ الحلـيبُ

 

لعمركَ إنني وابنيْ عـريضٍ

لخِلَّةِ ماجد أبـداً كـسـوبُ

 

خيلان اكتسبتُهُمَـات وإنـي

وقال أبو الطَّمَحَان الأسَديّ، وكان نديماً لناسٍ من بني الحَدَّاء وكانوا نَصَارى، فأحمدَ نِدامهم فقال:

وزورةَ ظـلٌّ نـاعـمٌ وصـديق

 

كأنْ لم يكنْ قـصـر مـقـاتـلٍ

بخمرٍ من البر!ُ وقتـينِ عـتـيقُ

 

ولم أرد البحطاء أمزجُ مـاءهـا

إذا ما جرى فيه المـدامُ فـنـيق

 

معي كلُّ فضفاض لاقميص كأنه

له في العروق الصالحات عروقُ

 

هو الصلتِ والحداء كلُّ سَمَـيْدعٍ

ويرتاحُ قلبي نحـوهـم ويتـوقُ

 

وإني وإنْ كانو نصارى أحِبُّـهـم

وقال ابن عَبْدَلٍ، أو غيرُه، في مجوسيٍّ ساق عنه صَدَاقاً فقال:

شِ وأنكَ بحرٌ جوادٌ خـضـمُّ

 

شهدتُ عليك بطيب المـشـا

إذا ما ترديتَ فيمـن ظـلـمْ

 

وأنكَ سيدُ أهـلِ الـجـحـيم

وفرعونَ والمكتنى بالحـكـم

 

نظيراً لهامانَ في قـعـرهَـا

بِ، فدى للمجوسيِّ خالي وعَمّْ

 

كفاني المجدوسيُّ مَهْرَ الربـا

فقال له المجوسيُّ: جعلْتَنيِ في النار? أمَا ترَضى أن تكون مع مَن سّميتُ?قال: بَلى، قال: فمن تَعني بالحكَم? قال: أبا جهل بن هشام.
وأنشدني أبو الرُّدَيني العُكْليّ، لبعض العُكْليِّين، وكان قينٌ لهم أَحدّ جلماً له، فقال يمدحه:

يا سودُ يا أكرمَ قينٍ في مضرْ

لك المساعي كلها والمفتخرْ

على قُيون الناس، و الوجهٌ الأغرّْ

كانَ أبوكَ رجلاً لا يُقْتَسَر

ثبتاً إذا ما هو بالكير ازبأرّْ

زادك نفخاً تلتظي منهُ سقرْ

حتى يطيرَ حولهُ منها شَرَرْ

قد عطف الكتيفَ حتى قد مهَرْ

بالشعب إن شاء وإن شاء سَمَرْ

ما زالَ مُذْ كانَ غلاما يشتبر

له على العيرِ إكافٌ وثغرْ

والكلبتانِ والعلاةُ والوتر

فانظر ثَوَابي، والثَّوَابُ ينتظرْ

في جَلَمَيَّ والأحاديثُ عِبَر

من أراد أن يمدح فهجا

قال سعيد بن سَلْم: لما قال الأخطلُ بالكوفة: أخطأ الفرزدقُ حين قال:

فوهبتكم لعَطيّةَ بن جِعـالِ

 

أبَني غُدَانةَ إنني حَرّرْتُكُـمْ

منْ بينِ ألأم أعْيُنْ وَسِبَـالِ

 

لولا عَطِيَّةُ لاجتَدَعْتُ أُنُوفكُمْ

كيف يكون قد وهبهم له وهو يهجوهم بمثل هذا الهجاء? قال: فانبرى له فتى من بني تميم فقال له: وأنتَ الذي قلتَ في سويد بن منجوف:

لِمَا حُمِّلَـتْـهُ وائلٌ بـمـطـيق

 

وما جِذْعُ سَوْءٍ رَقَّق السُّوسُ جَوْفَه

أردت هجاءه فزعمتَ أنّ وائلاً تعصبُ به الحاجات، وقَدْرُ وسويد لا يبلغ ذلك عندهم، فأعطيْتَه الكثيرَ ومنعتَه القليلَ.
وأردتَ أن تهجوَ حاتمَ بنَ النعمانِ الباهليّ،وأنْ تصغِّرَ شأنه، وتَضَعَ منه، فقلتَ:

إذا ما أُوقدَ النيرانُ نارُ

 

وسَوّدَ حاتماً أنْ ليس فيها

فأعطيتَه السُّودَدَ من قيس ومنعتَه ما لا يضرُّهُ.
وأردت أن تمدح سِماك بن زيد الأسدي فهجوتَه فقلت:

 

بالطَّفِّ إذْ قَتَلْتَ جِيرانَهَا مُضرُ

 

نِعم المجيرُ سِماكٌ من بني أسَدٍ

فاليومَ طُيِّرَ عن أثوابه الشرَرُ

 

قد كنتُ أحسِبَهُ قَيْناً وأُنْـبَـؤُه

 








وقلتَ في زُفرَ بنِ الحارث:

فلا يَبيتَنَّ فيكُمْ آمِنـاً زُفَـرُ

 

بني أمَيّة إني ناصحٌ لـكُـمُ

لوَقْعَةٍ كائن فيها لكم جـزَرُ

 

مُفْتَرِشاً كافتراش الليث كلْكلَهُ

فأردت أن تُغْري به بني أُمَيّةَ فوهّنْتَ أمرهم، وتركتَهُمْ ضُعفاءَ ممتَهَنِينَ، وأعطيتَ زُفَرَ عليهم من القوةِ ما لم يكنْ في حسابه.
قال: ورجَعَ أبو العطاف من عند عمرو بن هَدَّاب، في يومين كانا لعمرو، وأبو العطَّاف يضحك، فسئِل عن ذلك فقال: أما أحدُ اليومين فَإنَّهُ جَلَس للشعراء، فكان أولُ من أنشده المديحَ فيه طريفُ بنُ سَوادة، فما زال يُنشدهُ أرجوزةً له طويلة، حتى انتهى إلى قوله:

وَاْلبُرْصُ أَنْدَى باللُّهى وأعْرَفُ

 

أبرصُ فيّاضُ اليَدَينِ أكْـلَـفُ

 

 

مجلوِّذٌ في الزَّحَفاتِ مِزْحَفُ

المجلوِّذ: السريع.
وكان عمرو أبرص فصاح به ناس: ما لكَ? قطع اللّه لسانك: قال عمرو: مَهْ، البرَصُ من مَفاخِر العرب، أما سمِعتُم ابن حبناءَ يقول:

لامِلْ عَتيكِ ولا أخواليَ العَوَقُ

 

إنِّي امرؤٌ حنظليٌّ حين تنسُبُنِي

إنّ اللَّهامِيمَ في أقرابِهَا بَلـقُ

 

لا تحسِبِنَ بياضاً فِيّ مَنْقَـصَةً

أوَ ما سمعتم قولَ الآخر:

ووضحاً أوْفَى عَلَى خَصِيلي

 

يا كأسُ لا تستنكري نُحُولِـي

يكمُل بالغرَّةِ والتّحْـجِـيلِ

 

فإنَّ نَعْتَ الفرَسِ الـرّجـيلِ

أوَ ما سمعتُم بقول أبي مسهر:

فكلُّ كريمٍ لا أبالَكَ أبرصُ

 

يَشْتُمْنِي زَيدٌ بأَنْ كُنْتُ أَبْرَصاً

ثم أقبل على الرَّاجزِ فقال: ما تَحْفَظُ في هذا? قال: أحفظُ واللّهِ قولهُ:

ليس يضرُّ الطِّرْفَ توليعُ الْبَلَقْ

 

يا أُخْتَ سَعْدٍ لا تَعُرِّي بالـرَّوَقْ

 

 

إذا جرى في حَلْبَةِ الخيْلٍ سَبَقْ

ومحمد بنُ سلاّم يزعمُ أنه لم يَرَ سابقاً قطّ أبلقَ ولا بَلْقاءَ.
وقد سبق للمأمون فرسٌ، إمّا أبلقُ وإما بلقاء.
وأنشدني أبو نواسٍ لبعضِ بني نهشَل:

صَلَعَ الرَّأس وفي الجلدِ وَضَحْ

 

نَفَرَتْ سَودةُ عـنِّـي أنْ رأتْ

يَفْرِجُ الكُرْبَةَ مِنَّا والـكـلـحْ

 

قلتُ يا سَـوْدة هـذا والـذي

زَيَّنَ الطِّرفَ تحاسينُ القَـرَح

 

هو زَيْنٌ لِيَ في الوجهِ كـمـا

وزعم أبو نُواس أنهم كانوا يتبركون به، وأن جَذِيمةَ الوضّاحَ كان يفخرُ بذلك.
وزعم أصحابنا أنَ بَلعاءَ بنَ قيس، لمَّا شاع في جِلْدِهِ البَرص قال له قائل: ما هذا يا بَلعاء? فقال: هذا سيف اللّه جلاَه، وكنانة تقول: سيف اللّه حَلاَّه.
ثم رجع الحديثُ إلى أبي العَطَّاف وضَحِكه، قال: وأما اليوم الآخرِ فَإنَّ عَمْراً لمَّا ذهبَ بصرهُ، ودخلَ عليه الناس يُعَزُّونَهُ، دخل عليه إبراهيمُ بنُ جامع، وهو أبو عتَّابٍ من آل أبي مَصاد، وكان كالجَمل المحجوم، فقام بين يديْ عمرٍو فقال: يا أبا أُسَيّد لا تجزعنَّ مِنْ ذهَابِ عينَيك وإن كانتا كريمتَيكِ؛ فإنك لو رأيتَ ثوابهما في ميزانك تمنيتَ أن يكونَ اللّه عز وجل قد قطعَ يدَيكَ ورِجْلَيْك، ودقَّ ظهرك، وأَدمَى ضِلَعَك.
قال: فصاحَ به القومُ وضَحِك بعضهم، فقال عمرو: معناه صحيحٌ، ونيتُه حسنة، وإن كان قد أخطأ في اللفظ.
وقلتُ لأبي عَّتاب: بلغني أن عبدَ العزيز الغزّال قال: ليتَ أن اللّه لم يكن خَلَقَني، وأني الساعةَ أَعْور، قال أبو عتَّاب: بئسَ ما قال؛ وددتُ واللّه أن اللّه لم يكن خَلَقنِي وأنّى الساعة أعمى مقطوعُ اليدينِ والرِّجلين.
وأتى بعضُ الشعراء أبا الواسع وبنُوهُ حَولَه، فاستعفاه أبو الواسع من إنشاد مديحه، فلم يزلْ به حتى أذِن له، فلما انتهى إلى قوله:

فكيف تُنْفَى وَأَنْتَ الْيَوْمَ رَأْسُهُمُوحَولَكَ الْغُرُّ مِنْ أَبْنَائِكَ الصِّيدِ

قال أبو الواسع: ليتكَ تركْتَهم رأساً برأس.
ومدح الممزَّق أبو عباد بن الممزِّق، بِشْرَ بنَ أبي عمرو وليس هو بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال:

 

فالله يجزيهِ وربـكَ أعـلـمُ

 

من كانَ يزعُمُ أن بِشراً مُلصقٌ

وتشادقٌ فيه ولـونٌ أسـحـمُ

 

تنبيكَ قامتُه وقـلةُ لـحـمِـه

 

والعرقُ مُنْكَشف لمَنْ يتوسـم

 

أنَّ الصريحَ المحضَ فيه دلالةٌ

 

فزُرارَةٌ العُدُسيُّ عِنْدَكَ أعجـمُ

 

أما لسانك واحتباؤك في المَـلاَ

 

زُوراً، وشانُئك الحسودُ المرغَمُ

 

إني لأرجو أنْ يكونَ مقالـهـمْ

 








خطأ الكميت في المديح

ومِن المديح الخطأ الذي لمْ أرَ قَطُّ أعجب منه، قولُ الكميتِ بن زيدٍ وهو يمدح النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلو كان مديحه لبني أمَيَّةَ لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أوْ لو مَدَحَ به بعض بني هاشمٍ لجاز أن يعترض عليه بعضُ بني أميَّة، أوْ لو مدح أبا بلال الخارجيّ لجاز أن تعيبه العامّة، أو لو مدح عَمرو بن عُبيَدٍ لجازَ أن يعيبه المخالف، أوْ لو مدح المهلَّب لجاز أن يعيبه أصحابُ الأحنفِ.
فأما مديح النبي صلى اللّه عليه وسلم، فمن هذا الذي يسوءهُ ذلك حيثُ قال:

رُ إلـى مـنْ إلـيه مـعُـتـتَـبُ

 

فاعتتبَ الشوقُ مِنْ فـؤاديَ ولاشـع

يعْـدِلـنـي رَغـبةٌ ولا رهَــبٌ

 

إلى السراجِ الـمـنـيرِ أحـمـدَ لا

سٌ إلى الـعـيونَ تـوارتـقـبُـوا

 

عنه إلى تغيره، ولـو رفـعَ الـنـا

عَنفنـي الـقـائلـونَ أو ثَـلـبُـوا

 

وقيل: أفرَطتَ بل قَـصـدتُ ولـو

ضُ ولو عـابَ قـولـيَ الـعُـيُبُ

 

إليكَ يا خير من تـضَـمـنـت الأر

أكثر فيك الضـجـاج والـلـجـبُ

 

لج بتفـضـيلـكَ الـلـسـانٌ ولـو

نسبةِ إنْ نص قـومـكَ الـنـسـبُ

 

أنت المصفى المحضُ المهذَّب في ال

ولو كان لم يقلْ فيه عليه السلام إلا مِثلَ قوله:

به وله أهلٌ بـذلـك يَثْـرِبُ

 

وَبُورِكَ قَبْرٌ أنْتَ فيه وَبُورِكَتْ

عَشِيَّة وَارَاكَ الصَّفيحُ المنصَّب

 

لقد غَيَّبُوا برَّاً وحَزْمـاً وَنـائلاً

فلو كان لم يمدحْه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب لما كان ذلك بالمحمود، فكيفَ مع الذي حَكينا قبل هذا?.

غلط بعض الشعراء في المديح والفخر

ومن الأشعار الغائظة لقبيلة الشاعر - وهي الأشعار التي لو ظنَّت الشعراءُ أن مَضَرَّتها تَعُودُ بِعُشر ما عادتْ به، ولكان الخرسُ أهْوَنَ عليها من ذلك القول - فمن ذلك قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ:

وبنو ضَبنينةَ حاضرُ والأجبابِ

 

أبني كلابٍ كيفَ تُنفي جعفـرٌ

حتى تحاكمتـمْ إلـى جـوابِ

 

قتلوا ابنَ عروةَ ثمّ لطوا دونـه

في العزّ أسرَةُ حاجبٍ وشهابِ

 

يرعونَ منخرق القديد كأنهـمْ

كبني زرارة أو بني عـتَـابِ

 

متاظهرٌ حلقُ الحديدِ علـيهـمُ

والحقُّ يعرفهُ ذوو الألـبـابِ

 

قومٌ لهم عَرَفَتْ مقعدٌّ فضلهَـا

ومن هذا الباب قولُ منظور بن زبّانَ بن سَيَّارِ بن عَمرو بن جابرِ الفَزَارِي، وهو أحَدُ سادةِ غَطفان:

بنو دارمٍ إذا كان في الناسِ دَارمُ

 

فجاؤوا بَجمْعٍ مُحْزئِلٍّ كأنـهـمْ

وذلك أن تميماً لما طالَ افتخارُ قيس عليها بأن شعراء تميم كانت تضربُ المثلَ بقبائل قيس ورجالها، فغَبَرتْ تميمٌ زماناً لا ترفعُ رؤُوسها حتى أصابتْ هذين الشعْرين من هذين الشَّاعرينِ العظيمَي القدر، فزال عنها الذُّلُّ وانتصفت، فلو علم هذان الشاعران الكريمان ماذا يصنعان بعشائرهما لكانَ الخَرسُ أحبّ إليهما.
قال أبو عبيدة: ومن ذلك قولُ الحارث بن حِلِّزَة، وأنشَدَها الملكَ وكان به وضَحٌ وأنشَدَه من وراء سِتر فبلغ من استحسانه القصيدة إلى أن أمَرَ برفْع السِّتر.
ولكراهتهم لدُنُوِّ الأبرصِ منهم قال لبيدُ بن ربيعة، للنُّعمان بن المنذر، في الربيع بن زياد:

إنّ استَه مِنْ بَرَصٍ مُلمَّعَـهْ

 

مَهْلاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ لا تأكلْ مَعَهْ

يُدْخِلُهَا حتى يُوارِي أشْجعَه

 

وإنهُ يُدخِلُ فيها إصْـبَـعَـهْ

 

 

كأنما يطلُبُ شيئاً ضَـيَّعَـهْ

قال ابنُ الأعرابيّ: فلما أنشدَ الملكَ لبيدٌ في الربيع بن زيادٍ ما أنشد قال الربيعُ: أبيتَ اللَّعن، واللّه لقد نكتُ أمَّه، قال: فقال لبيد: قد كانت لعَمْرِي يتيمة في حِجْرك، وأنتَ ربيتها، فهذا بذاك، وإلا تكن فعَلْتَ ما قُلتَ فما أولاك بالكذب وإن كانت هي الفاعلة فإنها منْ نِسوةٍ لذلك فُعُل، يعني بذلك أن نساءَ عَبْس فَواجرُ، لأن أُمه كانت عَبْسيّة.
والعربيُّ يعافُ الشيءَ ويهجو به غيره، فإن ابتُلي َ بذلك فَخَر به، ولكنه لا يفخرُ به لنفسه مِنْ جهةٍ ما هجا به صاحبه، فافهم هذه، فإن الناس يَغْلطُونَ على العَرَبِ ويزعُمون أنهم قد يمدَحون الشيء الذي قد يهجُون به، وهذا باطلٌُ، فإنه ليس شيءٌ إلا وله وجهان وطَرَفان وطريقان، فإذا مدحوا ذكروا أحسنَ الوجهين، وإذا ذَمُّوا ذكروا أٍقبحَ الوجهين.
والحارثُ بنُ حِلِّزَة فَخَرَ ببكر بنِ وائلٍ على تَغْلِبَ، ثم عاتَبهم عِتاباً دلَّ على أنهم لا ينتصفون منهم، فقال:

ءٌ وخطبٌ نُعْنَى به ونـسـاءُ

 

وأتانـا عـن الأراقـمِ أنـبـا

بِ ولا ينفعُ الخليَّ الـخـلاءُ

 

يخلطونَ البريءَ منا بذي الـذن

رَ مَوَالِ لـنـا وأنـا الـولاء

 

زعموا أن كلَّ منْ ضرب العي

ن علينا في قولهـم إحـفـاءُ

 

إنَّ إخواننـا الاراقـمَ يغـلـو

ثم قال:

تتعاشوا ففي التعـاشـي الـداءُ

 

واتركوا الطيخ والتعاشي وإمـا

دِّمَ فيه، العهـودُ والـكـفـلاءُ

 

واذكروا حلفَ ذي المجازِ وما ق

قُضُ ما في المهارقِ الأهـواءُ

 

حذَرَ الجورِ والتعـدي وهـل ين

ما اشترطنا يومَ اختلفنـا سـواءُ

 

واعلمـوا أنـنـا وإياكـم فـي

نمَ غازيهمُ ومـنـا الـجـزاءُ

 

أم علينـا جـنـاُ كـنـدةَ أن يغ

جمعتْ من محاربٍ غـبـراءُ

 

أم علينا جـرا حـنـيفة أم مـا

س علينا فيمـا جـنـوا أنـداءُ

 

أم علينا جراً قـضـاعةً أم لـي

سٌ، ولا جنـدلٌ، ولا الـحـداءُ

 

ليس مِنا المضربـونَ، ولا قـي

در فإنا مـن غـدرهـم بـرآءُ

 

أم جنايا بني عتـيق. فـمـن يَغ

تر عن حجرةِ لاربيض الظبـاءُ

 

عنتاً باطلاً شدوخـاً كـمـاتُـع

ومن المديح الذي يقبُح، قولُ أبي الحَلال في مَرْثِيَةِ يزيدَ بن مُعاويةَ، حيث يقول:

إنّك خيرُ الناسِ أجمعينا

 

يا أيُّها الميْت بحُوَّاريِنـا

وقال الآخر:

يشبُّ زهراءَ تقود الأعمشا

 

مدحتُ خير العالمين عَنْقَشَا

وقال الآخر:

اسماً نبيهاً لم يكن تَنْـبـيزا

 

إنَّ الذي أمْسى يُسمَّى كُوزَا

وَجَدْتُنـي ذا وثْـبة أبُـوزَا

 

لما ابْتَدَرْنَا القصَبَ المركوزا

ودخل بعضُ أغثاث شعراءِ البَصريين على رجل من أشراف الوجوه يُقال في نسَبِه، فقال: إني مَدَحْتُكَ بشعر لم تُمْدَحْ قطُُّ بشعر هو أنفعُ لك منه، قال: ما أحْوَجَني إلى المنفعة، ولا سيَّما كلُّ شيء منه يخلدُ على الأيام، فهاتِ ما عندك فقال:

أبناءَ تِسْعِين وقـد نَـيّفُـوا

 

سَأَلتُ عَنّْ أَصْلِكَ فيما مضى

مُهَذَّبٌ جَوْهَـرُهُ يُعْـرَفُ

 

فكُلُّهُـمْ يخـبـرُنـي أنـه

فقال له: قمْ في لعنةِ اللّه وسَخَطِهِ فَلَعَنَكَ اللّه ولعنَ مَنْ سَأَلْتَ ولعنَ من أجابك.

في السُّخف والباطل

وسنذكر لك باباً من السُّخْف، وما نتسَخَّفُ به لك، إذ كان الحق يثقلُ ولا يخفُّ إلا ببعضِ الباطل.
أنشدنا أبو نُوَاسِ في التدليك:

فإنَّ عندي رَاحَتي ورِيقِي

 

إنْ تَبْخَلِي بالرَّكَبِ المحلوقِ

وهذا الشعرُ مما يقالُ إن أبا نَواس ولَّدَهُ.
ومما يُظَنُّ أَنه ولَّدَه قولُه:

حِراً على قارِعةِ الطريق

 

لم أرَ كاللَّيلةِ في التوفـيقِ

 

 

كأنَّ فيه لَهَبَ الحـريقِ

وأنشدني ابن الخارَكي لبعضِ الأعربِ في التدليك:

فإن فيها عَدَمَ الـلِّـقـاحِ

 

لا بارَك الإله في الأحْراحِ

إلا مُناجاة بطونِ الـرَّاحِ

 

لا خَيرَ في السفاح واللِّقاحِ

وأنشدني محمد بنُ عَبَّاد:

فإنني يا بِـنْـتَ آلِ مَـرْثَـدِ

 

تَسْألُني ما عَتِـدي وعـنـددي

 

 

راحلتي رِجلايَ اسْرَاتِي يَدِي

وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المدنيِّين:

حَليلةً لا تَسْومُني نَـفـقَـهْ

 

أُصفِي هَوى النفسِ غيرَ مُتَّئبٍ

كَسْبِ إذا ما أخْفَقْتُ مُرْتَفِقَه

 

تكونُ عوني على الزمانِ لِـلْ

وشعرٌ في ذلك سمعناه على وجه الدهر، وهو قولُه:

فاجلِدْ عُمَيرةَ لا عارٌ ولا حَرَجُ

 

إذا نَزَلْتَ بـوادٍ لا أنـيسَ بـه

وأنشدنا أبو خالد النُّميرىّ:

لكنََّ جِلْدَتَها تُرْبي عَلَى السَّـفَـن

 

لو أنها رَخْصَةٌ قَضَّيْتُ مِنْ وطَري

وما ألاقي مِنَ الإمْلاقِ وَالحـزَنِ

 

أشكو إلى اللّه نعْظا قدْ بُليتُ بـه

وقال الذَّكوانيُّ يردُّ على الأولِ قولَه:

والعَجْزُ مُطَّرح والفُحْشُ مَسْبُوبُ

 

جَلْدِي عُميرةََ فيه العار والحُـوبُ

بأرخصِ السَّوْمِ خَدْلاَتٌ مَناجِـيبُ

 

وبالعراق نساءٌ كَالَمهَا قُـطُـفٌ

كالعاج صَفّرها الأكنانُ والطِّيب

 

وما عُميرةُ منْ ثـدْياءَ حـالـيةٍ

قال: مَثَلُ هذا الشعرِ كمثل رجُل قيلَ له: أبوكَ ذاك الذي ماتَ جُوعا? قال: فَوَجَدَ شيئاً فلم يأكله? وقال الحَرامي:

وأَيرٌ لا ينامُ ولا يُنِـيمْ

 

عِيَالٌ عالَةٌ وكسادُ سُوقٍ

مما قالوا في السرّ

قال ابن ميّادة:

وكِتمانُهُ داءٌ لِمَنْ هو كـاتـمُـه

 

أَتُظْهِرُ ما في الصَّدْرِ أمْ أنتَ كاتمُهْ

وإظهارُهْ شنْعٌ لِمَنْ هوَ عالـمـه

 

وإضمارُهُ في الصدرِ داءٌ وَعِـلّةٌ

وتقول العرب: من ارتاد لسِرِّه موضعاً فقد أشاعه.
وأرى الأول قد أذِنَ في واحدٍ وهو قولُه:

وسرُّ الثلاثةِ غيرُ الخِفي

 

وسِرُّكَ ما كانَ عندَ امرئٍ

وقال الآخر فيما يوافق فيه المثل الأول:

فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصـيحـا

 

فلا تُفْشِ سـرَّك إلا إلـيكَ

ل لا يترُكون أديماً صحيحا

 

فإني رأيتُ غُواة الـرجـا

وقال مسكينٌ الدََّارِميّ:

فذاكَ وداعِـيهِ وذاكَ وَداعُـهــا

 

إذا ما خليلي خانني وائتـمـنـتُـه

مطلَّقةً لا يُستطـاعُ رِجـاعُـهـا

 

رَدَدْتُ علـيه وُدّهُ وتـركـتُـهـا

أعيشُ بأخلاق قليل خِـداعُـهـا

 

وإني امرؤٌ مني الحياءُ الذي تَـرَى

على سرِّ بعض غيرَ أني جِماعُها

 

أُوَاخي رجالاً لستُ أُطِلعُ بعضَهـمْ

إلى صخرةٍ أعيا الرِّجالَ انصداعُها

 

يَظلُّونَ شَتَّى في البلادِ وسِـرُّهـم

وقال أبو مِحْجَنٍ الثَّقَفيّ:

وأكتُمُ السِّرَّ فيه ضربةُ الْعُنُقِ

 

وقد أجُودُ وما مالي بذي فَنَعٍ

وقال عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنه: منْ كَتم سِرَّهُ كانَ الخيار في يَدِه.
وقال بعضُ الحكماء: لا تُطلعْ واحداً من سِرِّك، إلا بقدر ما لا تجدُ فيه بدَّاً من معاونتك، وقال آخر: إنَّ سِرَّكَ مِنْ دَمِكِ، فانظرْ أينَ تُريقُهُ.
وقال الشاعر:

مني الضلوعُ من الأسرارِ والخَبَرِ

 

ولو قَدَرْتُ عَلَى نسيانِ ما اشْتَمَلَـتْ

إذ كنت من نشرها يوماً على خَطَرِ

 

لكنت أوَّلَ مـن ينـسـى سـرائره

وقال الآخر:

فقد استودعت بالسرِّ دَمَكْ

 

فإذا اسْتَودَعْتَ سِرّاً أحَـداً

وقال قيس بنُ الخطيم:

كتُومٌ لأَسْرَارِ العَشير أمـينُ

 

وإنْ ضَيَّعَ الإخْوانُ سِرّاً فإنني

مكانٌ بسَوداءِ الفُؤَادِ مَكـينُ

 

يكونُ له عندي إذا ما ائتُمِنْتُهُ

وقيل لمَزبِّد: يا مُزَبِّد، ما هذا الذي تحتَ حضنك? فقال: يا أحمق، فلمَ خبأتُه? وقال أبو الشِّيص:

 

صَلودٍ كما عايَنْتَ من سائر الصَّخر

 

ضعِ السرّ في صَمَّاءَ ليستْ بصخرةٍ

 

يَرَى ضَيْعَةَ الأسرارِ هتراً من الهتر

 

ولكنها قلب امـرئٍ ذي حـفـيظةٍ

ويَبْلَى وما يَبْلَى نَثَاهُ عَلَى الدَّهرِ

 

يموتُ وما ماتَتْ كرائمُ فِعْـلـهِ

 








وقال سُحَيمٌ الفقعسيّ، في نشر ما يُودَعُ من السِّرِّ:

ولا أدَعُ الأسرارَ تَغْلي عَلَى قلبي

 

ولا أكتُمُ الأسرارَ لَكِنْ أُذيعُـهـا

تقلِّبه الأسرارُ جنباً إلى جـنـب

 

وإن قليلَ العقلِ من باتَ لـيلـهُ

وقال الفَرّارالسُّلَمى - وهذا الشعر في طريقِ شعرِ سُحَيمٍ، وإن لم يكن في معنى السرِّ - وهو قوله:

حتى إذا التبستْ نفضتُ بهايدي

 

وكتيبةٍ لبسـتـهـا بـكـتـيبةٍ

من بينِ منجدلٍ وآخر مسـنـدِ

 

وتركتُهُمْ تقصُ الرماحُ ظهورهم

وقتلتُ دون رجالهمْ: لا تَبْـعَـدِ

 

ما كانَ ينفعني مقالُ نسـائهـم

تخاذل أسلم بن زرعة وقيل لأسلم بن زَرْعة إنك إن انهزمتَ من أصحاب مِرْدَاسِ بن أديَّة غضِبَ عليك الأمير عبيدُ اللّه بن زياد قال: يغضبُ عليَّ وأنا حيٌّ؛ أحبُّ إليَّ مِنْ أن يرضَى عني وأنا مَيِّت.
قال: ووليَ دسْتَبى فخرج إليها في أصحابه، فلما شارفَها عرضَتْ له الخوارجُ، وكان أكثر منهم عدداً وعُدّة، فقال: واللّه لأصافَّنَّهم، وَلأُعَبِّيَنّ أصحابين فلعلهم إذا رأوا كثْرَتهُم انصرفوا، ولا أزال بذلك قويَّاً في عملي هذا، فلما رأت الخوارج كثرةَ القوم نزلوا عن خيولهم فعَرْقَبُوهَا وقطَّعوا أجفانَ سيوفهم، ونبذوا كل دقيقِ كان معهم، وصَبُّوا أسقِيَتَهُم، فلما رأى ذلك رأى الموتَ الأحمر.
فأقبل عليهم فقال: عرقبتم دوابَّكم وقطَّعتم أجفان سيوفِكم، ونبذتم دقيقكم? خارَ اللّه لنا ولكم ثم ضربَ وجوهَ أصحابه وانصرفَ عنهم.
ضيق النطَّام بِحَمْلِ السرّ وكان أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن سيّارٍ النظَّام، أَضْيقَ الناس صدراً بحملِ سرٍّ وكان شرَّ ما يكون إذا يُؤَكِّد عليه صاحبُ السر وكان إذا لم يؤكِّدْ عليه ربما نسِي القِصَّةَ، فيسلمُ صاحبُ السرّ.
وقال له مرةً قاسمٌ التمَّار: سبحان اللّه ما في الأرض أعجبُ منك، أودعتُك سِرّاً فلم تصبر عن نشره يوماً واحداً، واللّه لأشكونّك للناس.
فقال: يا هؤلاء، سَلُوه نَمَمْتُ عليه مرةً واحدةً، أو مرتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، فلمن الذنبُ الآن? لم يرضَ بأن يشاركه في الذَّنب، حتى صيَّرَ الذّنبَ كله لصاحب السرّ.

شعر في حفظ السرّ

وقال بعضُ الشعراء:

كذَاكَ الصحيفةُ بالخاتـمِ

 

خَتَمْتُ الفؤَادَ على سِرِّها

هُوِيَّ الفراشةِ للجاحـمِ

 

هوَى بي إلى حُبِّها نظْرةٌ

وقال البَعيث:

فلا وأبي ليلى إذاً لا أخُونُهـا

 

فإنْ تَك لَيلَى حَمَّلَتْني لُـبـانَةً

ولا يحفَظُ الأسرارَ إلا أمينُها

 

حَفِظْتُ لها السرّ الذي كان بيننا

وقال رجلٌ من بني سَعد:

فأفشتهُ الرجالُ فمـنْ تـلـومُ

 

إذا ما ضاق صدرُك عن حديثٍ

وسري عنده فأنا الـظـلـومُ

 

إذا عاتبتُ من أفشى حـديثـي

وقد ضَمنتُهُ صـدري سـؤومُ

 

وإني حين أسأَمُ حمـلَ سـرى

ولا عرسى، إذا خطرتْ همومُ

 

ولستُ محدثاً سـرى خـلـيلاً

لمكا استودعتُ من سرٍ كتـومُ

 

وأطوي السر دونَ الناس، إني

?اعتذار شيخ

قال: وقيل لشيخٍ: ويحَك هاهنا ناسٌ يسرق أحدُهم خمسين سنة، ويزْني خمسين سنةً، ويَصْنَع العظائم خمسين سنة، وهو في ذلك كله مستور جميل الأمر، وأنت إنما لُطْتَ منذُ خمسةِ أشهر، وقد شُهرتَ به في الآفاق قال: بأبي أنت، ومن يكون سرُّهُ عند الصِّبْيَان أيُّ شيء تكونُ حالُه.
وصية العباس لابنه أبو الحسن، عن محمد بن القاسم الهاشمي قال: قال العباسُ بن عبد المطلب لعبد اللّه ابنه: يا بُنيّ أنتَ أعْلمُ منّي، وأنا أَفْقَهُ منك إن هذا الرجلَ يُدْنيك - يعني عُمَر بن الخطاب - فاحفظْ عني ثلاثاً: لاتُفْش له سرّاً، ولا تَغْتَابَنَّ عنده أحداً، ولا يَطَّلِعَنَّ منك على كِذْبة.

في ذكر المُنى

قال: سئل ابن أبي بكرة: أيُّ شيء أدْوَم إمتاعاً? قال: المُنَى. قال: وقال يزيد بن معاوية على مِنبرِه: ثلاثٌ يُخْلِقْنَ العقْل، وفيها دليل على الضّعف: سرعةُ الجواب، وطُول التمنِّي والاستغراق في الضَّحك.
وقال عبايةُ الجُعْفي: ما سرّني بنصيبي من المنى حُمْرُ النَّعم.
وقال الأصمعي: قال ابن أبي الزِّناد: المنى والحُلُم أخَوانِ.
وقال مُعمَّر بن عَبَّاد: الأماني للنَّفس، مثُلُ التُّرَّهات لِلِّسان.
وقال الشاعر:

وجُلُّ هذِي المنَى في الصَّدور وِسْواسُ

 

الـلّـهُ أصْـدَقُ والآمـالُ كـــاذبةٌ

وقال الآخر:

إنّ المنى روسُ أموالِ المفاليسِ

 

إذا تمَنَّيْتُ مالاً بتُّ مُغـتـبـطـاً

إذا تذكرتُ ما في داخلِ الكـيسِ

 

لولا المنى مِتُّ من هَمٍّ ومن حَزَن

وقال بعضُ الأعراب:

وإلاّ فقدْ عِشنا به زَمنَـاً رَغْـدا

 

مُنًى إن تَكنْ حَقًّاًتَكُنْ أحسنَ المُنَى

سَقتْني بها سَلمَى على ظمأ بردَا

 

أمانيُّ مِن سَلمى حسانٌ كأنـمـا

وقال بشار:

فلذهَ لنا محمودُها وذمِـيمـهـا

 

كَرَرْنا أحاديثَ الزمانِ الذي مَضى

وروَى الأصمعيُّ عن بعضهم أنه قال: الاحتلام أطيبُ من الغِشْيان.
وتمنِّيك لشيء أوفرُ حظاً في اللَّذةِ من قُدْرتك عليه.
قال: كأنه ذَهَبَ إلى أنه إذا ملَكَ وجَبَتْ عليه في ذلك المِلْكَ حقوقٌ، وخاف الزوالَ واحتاجَ إلى الحفظ.
وقال: وفي الحديث المأثور: ما عظُمتْ نعمةُ اللَّه على أحدٍ إلاَّ عظمتْ مؤونةُ الناسِ عليه.
قال: وقيل لمزبِّد: أيسرُّك أن عندَك قنِّينةَ شَرَابٍ? قال: يا ابنَ أُمِّ، من يسرُّهُ دخولُ النار بالمجاز?.
قال: وقدّموا إلى أبي الحارث جُمَّيز جامَ خبيصٍ وقالوا له: أَهذا أطيَبُ أم الفالوذَج? قال: لا أقْضي على غائب.
قال: وقال مَدينيٌّ لرجل: أيسرُّك أن هذه الدار لك? قال: نعم، قال: وليس إلا نَعَمْ فقط? قال: فما أقول? قال: تقول: نَعم، وأحمّ سَنة قال: نعم، وأنا أعْور.
قال: وقيل لمزبِّد: أيسُرُّك أن هذه الجُبَّةَ لك? قال: نعم، وأُضرَبُ عشرين سوطاً، قال: ولمَ تقولُ هذا? قال: لأنه لا يكون شيءٌ إلا بشيء.
قال: وقال عبدُ الرحمن بن أبي بَكْرة: مَنْ تمنَّى طول العمر فلْيوَطِّنْ نفسه على المصائِب.
يقول: إنه لا يخلو من موتِ أخٍ، أو عمٍّ، أو ابن عمٍّ، أو صديق، أو حَميم وقال المجنون:

بذي سلـمٍ لا جـادَكـنّ ربـيعُ

 

أيا حرجات الحيِّ حيثُ تحمـلـوا

بلينَ بلى لم تـبـلـهـنَّ ربـوعُ

 

وخيماتكِ اللاتي بمنعَرج اللـوى

نهيتك عن هذا وأنـت جـمـيعُ

 

فقدتكَ من قلبٍ شعاعِ، قطالـمـا

مناكَ ثنايا ما لـهـنّ طـلـوعُ

 

فقربت لي غيرَ القريبِ، وأشرفتْ

أمانيّ بعض الخوارج

قال: وقال عبدُ الرحمن بن محمد بن الأشعث: لولا أربعُ خِصال ما أعطَيتُ عربيّاً طاعة: أو ماتت أمّ عَمْرو - يعني أمّه - ولو نَسَبْت، ولو قَرَأتُ القرآن، ولو لم يكن رأسي صغيراً.
قال: وقدِم عبدُ الملك، وكان يحبُّ الشِّعر فبعثْتُ إلى الرواة، فما أتَتْ عَلَيَّ سنةٌ حتى رويتُ الشاهدَ والمثَل، وفَضُولاً بعد ذلك، وقِدم مُصْعبٌ وكان يحبُّ النّسَب، فدعوتُ النَّسَّابين فتعلّمتُه في سنة، ثم قدِم الحجَّاج، وكان يُدْنِي على القرآن، فحفِظته في سَنة.
قال: وقال يزيدُ بنُ المهلَّب: لا أخرجُ حتى أحجّ، وأحفَظَ القرآن، وتموت أُمِّي، فخرج قبل ذلك كلِّه.
وقال عُبَيْدُ اللّه بنُ يحيى: كان من أصحابنا بمَرْو جماعة، فجلَسنا ذات يومٍ نتمنَّى، فتمنَّيتُ أن أصيرَ إلى العراق من أيامي سالماً، وأن أقْدَمَ فأتزوّج سَمَاعِ، ألي كَسْكر.
قال: فقدِمتُ سالماً، وتزوجتُ سَمَاعِ، وولِيتُ كسْكَر.

خبر وشعر في نهري دجلة والفرات

قال: ووقف هشامُ بنُ عبد الملك على الفرات، ومعه عبدُ الرحمنِ بنُ رستَم، فقال هشام: ما في الأرض نهرٌ خيرٌ من الفُرات فقال عبد الرحمن: ما في الأرض نهرٌْ شرٌّ من الفرات، أوَّلُه للمُشْرِكِين، وآخِرُه للمنافقين.
وقال أبو الحسن: الفرات ودِجلة رائِدان لأهل العراق لا يكذبان.
قال الأصمعيّ وأبو الحسن: فهما الرائدان، وهما الرَّافدان.
وقال الفرزْدَق:

كريم لستَ بالوالي الحريصِ

 

أميرَ المؤمنين وأنـتَ عَـفٌّ

فَزَارِيّاً أحَذَّ يَدِ القَـمـيصِ

 

بَعَثْتَ إلى العراق ورافِـدَيه

لِيَأْمَنَهُ على وَرِكَيْ قَلُـوصِ

 

ولم يكُ قَبْلهَا راعي مَخَاضٍ

وعَلَّمَ قَوْمَهُ أكلَ الخَبـيصِ

 

تَفَيْهَقَ بالعِراق أبو المثَـنَّـى

قال: وبينا غَيْلان بن خرَشَة، يسيرُ معبد اللَّه بن عامر، إذ وَرَدَا على نهر أمِّ عبد اللّه فقال ابنُ عامر: ما أنفَعَ هذا النهرَ لأهل هذا المصر قال غيلان: أجَلْ أيها الأمير، واللّه إنهم ليَسْتَعْذِبُون منه، وتفيضُ مياهُهم إليه، ويتعلمُ صبيانهم فيه العَوم، وتأتيهمْ مِيرَتهم فيه.
فلما أن كان بعد ذلك سايَرَ ذاتَ يوم زياداً - وكان زيادٌ عدُوّاً لابن عامر - فقال زياد: ما أضَرَّ هذا النهرَ بأهل هذا المصر فقال: أجَلْ واللّه أيها الأمير تنِزُّ منه دُورُهم، ويغرقُ فيه صبيانهم، ويُبْعَضون ويُبَرْغَثُونَ.

القول في العصافير

وسنقول باسم اللّه وعونه في العصفور بجملةٍ من القول.
وعلى أنّا قد ذكرنا من شأنه أطرافاً ومقطَّعاتٍ من القول تفرّقْنَ في تضاعيف تلك الأصناف، وإذا طال الكلامُ وكثُرت فنونه، صار الباب القصيرُ من القولِ في غِماره مُسْتَهْلَكاً، وفي حومته غَرِقاً، فلا بأسَ أن تكون تلك الفقرُ مجموعاتٍ، وتلك المقطَّعاتُ موصولاتٍ، وتلك الأطراف مستقصياتٍ مع الباقي من ذِكْرِنا فيه؛ ليكون البابُ مجتمعاً في مكانٍ واحد، فبالاجتماع تجتمع القوة، ومن الأبعاض يلتئم الكُلُّ، وبالنظام تظهرُ المحاسن.

دعوى الإحاطة بالعلم

ولستُ أدَّعي في شيء من هذه الأشكالِ الإحاطة به، والجمعَ لكل شيء فيه، ومن عَجَز عن نظم الكثير، وعن وضعِه في مواضعه - كان عن بُلوغ آخره، وعن استخراج كل شيء فيه أعجز، والمتح أهونَ من الاستنباط، والحصْدَ أيسَرُ من الحرث.
وهذا البابَ لو ضمَّنه على كتابه من هو أكثرُ مني رواية أضعافاً، وأجود مني حِفظاً بعيداً، وكان أوسع مني علماً وأتمَّ عزماً، وألطفَ نظراً وأصدَقَ حِسّاً، وأغوصَ على البعيد الغامض، وأفهَمَ للعويص الممتنع، وأكثرَ خاطراً وأصحَّ قريحةً، وأقلَّ سآمَةً، وأتمَّ عنايةً، وأحسنَ عادةً مع إفراط الشهوةِ، وفراغ البال، وبُعْدِ الأمَل، وقوةِ الطمعِ في تمامه، والانتفاع بثمرته، ثم مُدَّ له في العمر، ومكَّنته المقدرة - لكان قد ادَّعى مُعْضِلة، وضمِنَ أمراً معجزاً، وقال قولاً مرغوباً عنه، متعجّباً منه؛ ولكان لغْواً ساقطاً، وحارضاً بَهْرَجاً؛ ولكان ممن يفضلُ قوله على فعله، ووَعدُه على مقدار إنجازه؛ لأن الإنسان، وإن أُضيفَ إلى الكمال وعُرف بالبَراعة، وغَمَر العلماء؛ فإنه لا يكْمُلُ أن يُحيط علمُه بكلِّ ما في جناح بَعوضةٍ، أيام الدنيا، ولو استمد بقوةِ كلِّ نظَّارٍ حكيم؛ واستعارَ حِفظ كلّ بحّاثٍ واعٍ؛ وكلِّ نَقَّاب في البلاد، ودَرّاسة للكتب.
وما أشكُّ أَن عندَ الوُزراء في ذلك ما ليس عند الرعيَّة من العلماء، وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء، وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء، وعند الملائكةِ ما ليس عند الأنبياء، والذي عندَ اللّه أكثر، والخلقُ عن بلوغه أعجز، وإنما عَلَّمَ اللّهُ كلَّ طبقة من خَلْقِهِ بِقَدْرِ احْتِمالِ فِطَرِهم، ومقدارِ مَصْلحتهم.

القول في: "علَّمَ آدمَ الأسماء كلها"

فإن قلت: فقد علَّم اللّهُ عزّ وجلَّ آدمَ الأسماءَ كلّها - ولا يجوز تعريفُ الأسماء بغير المعاني - وقلتَ: ولولا حاجةُ الناس إلى المعاني، وإلى التعاوُن والترَافُد، لَمَا احتاجوا إلى الأسماء، وعلى أن المعانيَ تفضلُ عن الأسماء، والحاجاتِ تجوزِ مقاديرَ السِّمات، وتفَوت ذَرْع العلامات فممَّا لا اسم له خاصُّ الخاصّ، والخاصِّيَّاتُ كلها ليست لها أسماءٌ قائمة.
وكذلك تراكيب الألوان، والأراييح، والطعوم، ونتائجها.
وجوابي في ذلك: أن اللّه عزّ وجلّ لم يخبرْنا أنه قد كان علَّم آدمَ كلّ شيء يعلمه تعالى، كما لا يجوز أن يُقْدِرَه على كلِّ شيء يقدرُ عليه.
 وإذا كان العبدُ المحدودُ الجسمِ، المحدود القوَى، لا يبلُغُ صِفَةَ ربِّه الذي اخترعه، ولا صفةَ خالِقه الذي ابتدعه - فمعلومٌ أنه إنما عَنَى بقوله: )وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا( عِلْمَ مصلحتِه في دُنياه وآخِرته.
وقال اللّه عزّ وجلّ: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"، وقال اللّه عزَّ وجلَّ: "وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةُ أَبْحرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ"، وقال اللّه تعالى: "يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، وقال تَقَدَّسَتْ أسماؤه: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ"، وقال اللّه عزَّ وجلّ: "وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعلَمُونَ".
وهذا الباب من المعلوم، غيرُ باب عِلْم ما يكونُ قبلَ أن يكون؛ لأن بابَ كَانَ قد يُعْلَمُ بعضُه، وبابُ يكون لا سبيل إلى معرفةِ شيء منه، والمخاطبةُ وقَعَتْ على جميعِ المتعبَّدين، واشتملت على جميع أصناف الممتَحَنين، ولم تقع على أهْلِ عَصْرٍ دونَ عصر، ولا على أهل بلدٍ دونَ بلد، ولا على جنسٍ دونَ جنس، ولا على تابع دون متبوع ولا على آخرٍ دونَ أوَّل.

أجناس الطير التي تألفُ دورَ الناس

العصافير، والخطاطيف، والزّرازِير، والخفافيش، فبين هذه وبين الناس مناسَبَةٌ ومُشاكلة، وإلْفٌ ومحبّةٌ.
والخطاطيفُ تقطع إليهمْ وتعْزُب عنهم، والعصافير لا تفارِقهم، وإن وجدَتْ داراً مبنيةً لم تَسْكنْها حتى يَسْكُنَها إنسان، ومتى سكنتها لم تُقِم فيها إذا خرج منها ذلك الإنسان، فبفراقه تُفارِق، وبسُكناه تسكُن، وهذه فضيلةٌ لها على الخطاطيف.
الحمام لا يقيمُ معهم في دُورهم إلا بعد أن يثبِّتوه ويعلِّموه، ويُرتِّبو حاله ويدرِّجوه، ومنها ما هو وحشيٌ طُورانيّ، وربما توحّش بعد الأُنْس والعصافير على خلاف ذلك، فلها بذلك فضيلةٌ على الحمام، وعلى الخُطَّاف.
وقد يُدرَّب العصفورُ ويثَبَّتُ فيستجيبُ من المكان البعيد، ويثْبُتُ ويَدْجُن، فهو مما يثبُت ويُعايش الناسَ، من تلقاء نفسه مرةً، وبالتثبيتِ مرةً، وليس كذلك شيء مما يأوِي إلى الناس من الطير.
وقد بلَغني أن بعضَ ما يستجيب منها قد دُرِّبَ فرجع من مِيل، فأما الهدايةُ من تلقاء نفسه فمن الفراسخ الكثيرة.
وحدَّثني حَمّوَيْهِ الخُرَيْبيّ وأبو جَرَاد الهزَاردَريّ قالا: إذا كان زمان البيادر لم يبق بالبصرة عُصفورٌ إلا صارَ إلى البساتين، إلا ما أقام عَلَى بيضه وفراخه، وكذلك العصافير إذا خَرَجَ أهلُ الدّار من الدَّار، فإنه لا يقيمُ في تلك الدار عُصفُورٌ إلا عَلَى بيض أو فِراخ، فإذا لم يكنْ لها اسْتَوْحَشَتْ، والتمستْ لأنفسها الأوكارَ في الدُّور المعمورة، ولذلك قال أبو يعقوب إسحاقُ الخُرَيمي:

وَحْشةِ في دُورِها عصافِرُها

 

فتِلك بغدادُ ما تَبنَّـى مـن ال

قالا: فعلى قدْرِ قُرب القبائل من البساتين سبقُ العصافير إليها، فإذا جاءت العصافيرُ التي تلي أقرب القبائل منها إلى أوائل البساتين فوجدت عصافير ما هو أقربُ إليها منها قد سبقت إليها تعدَّتها إلى البساتين التي تليها وكذلك صنيعُ ما بَقِيَ من عصافير القبائل الباقية حتى تصير عصافير آخر البصرة إلى آخر البساتين، وذلك شبيهٌ بعشرين فَرْسخاً، فإذا قضت حاجتها، وانقضى أمرُ البيادر أقبلت من هناك، على أماراتٍ لها معروفةٍ، وعلامات قائمة، حتى تصير إلى أوكارها.

ضروب الطير

والطيرُ كله على ثلاثة أضرب: فضربٌ من بهائم الطير، وضربٌ كسباع الطير، وضربٌ كالمشترَك المركَّب منها جميعاً.
فالبهيمة كالحمام وأشباه الحمام، مما يَغتذي الحبوبَ والبزُورَ والنبات، ولا يغتذي غير ذلك، والسبع: الذي لا يَغْتَذِي إلا اللحم.
وقد يأكل الأسدُ الملحَ، ليس على طريق التغذي، ولكن على طريق التَّملُّح والتحمُّض.

ما يشارك فيه العصفور الطير والحيات

فممَّا يُشاركُ فيه العصفور بهائم الطَير، أنه ليس بذي مخْلَبٍ ولا مِنْسَر، أو هو مما إذا سقط على عُودٍ قَدّم أصابعه الثلاثَ، وأخَّر الدّابرة، وسباع الطير تقدِّم إصبَعَينْ، وتؤخِّر إصبَعَيْنِ.
ومما شارك فيه السَّبع أنَّ بهائم الطير تزقّ فراخها، والسِّباع تُلقِم فِرَاخها. والفراخ على ثلاثة أضربٍ: ففرخٌ كالفرُّوج لا يُزَق ولا يُلْقَم؛ وهو يظهر كاسباً، وفرخ كفرخ الْحمام وأشباه الحمام، فهو يُزَقُّ ولا يُلْقَم، وفرخ كفرخ العُقاب والبازِي، والزرّقُ، والشاهين والصقر، وأشباهِها من السِّباع فهو يُلقَم ولا يُزقّ، فأشبهها العُصفورُ من هذا الوجه.
وفيه من أخلاق السِّباع: أنه يصيد الجرادة، والنملَ الطيَّار، ويأكل اللحم، ويُلقِم فراخَه اللحم، وليس في الأرض رأسٌ أشبَهُ برأس حَيَّةٍ من رأس عصفور الأجناس التي تعايش الناس والأجناس التي تعايش الناس: الكلبُ، والسِّنّور، والفرَس، والبعير، والحمار، والبغل، والحمام، والخُطَّافَ، والزّرزور، والخُفَّاش، والعصفور.
أطول الحيوان عمراً وأقصره قالوا: وليس في جميعها أطولُ عُمْراً من البغل، ولا أقْصَرُ عمراً من العصفور.
قالوا: ونظن ذلك إنما كان لقلَّةِ سِفاد البغل، وكثرة سفاد العصفور.
ويزعمون أَن محمدَ بنَ سليمان أنزَى البغالَ على البغلات، كما أنزَى العِتاق على الحُجور، والبَرَاذِينَ على الرِّماك، والحمير على الأتن، فوجد تلك الفُحُولة من البغالِ بأعيانها، أقصَرَ أعماراً من سائر الحافر، حين سوَّى بينها في السِّفاد، ووَجد البغالَ تلقح إلقاحاً فاسداً لا يتمّ ولا يعيش.
وذكروا أن قِصَر العُمر لم يعرض لإناثها كما عَرَض لذكورتها.
وهذا شبيهٌ بما ذكر صاحبُ المنطق في العصافير، فإنه ذكر أن إناثها أطولُ أعماراً، وأن ذكورتها لا تعيش إلا سنةً واحدة.
أثر السمن في الحمل والمرأة تنقطع عن الحَبل قبل أن ينقطعَ الرجُلُ عن الإحبال بدَهْر، وتُفرط في السمن فتصيرُ عاقراً، ويكونُ الرجُلُ أسْمَنَ منها فلا يصير عاقراً، وكذلك الحِجر، والرَّمَكَة، والأتان، وكذلك النخلة المطعِمَة، ويَسْمَنُ لُبُّ الفُحَّال فيكون أجْود لإلقاحه، وهما يختلفان كما ترى.

الأجناس الفاضلة من الحيوان

وللعصفور فضيلة أُخرى، وذلك أنَّ من فضْل الجنْس أن تتميز ذكورتُه في العين من إناثه، كالرجل والمرأة، والدِّيكِ والدجاجة، والفُحال والمُطعِمة، والتَّيْسِ والصفِيَّةِ، والطاوس، والتٌُّدْرُج، والدُّرَّاج وإناثها.
وليس ذلك كالحِجْر والفَرَس، والرَّمَكةِ والبِرذَون، والناقة والجمل، والعير والأتان، والأسد واللَّبُؤَة، فإن هذه الأجناسَ تُقْبِلُ نحوَك فلا ينفصل في العين الأنثى من الذكر، حتى تتفقّدَ مواضع القُنْبِ والأطْباء، وموضِع الضّرع والثِّيل، وموضِعَ ثَفْر الكلبة من القضيب.
لأنّ للعُصفور الذّكَرِ لحيَةً سوداء، وليس اللحية إلا للرجل والجمل، والتيس، والدِّيك، وأشباهِ ذلك، فهذه أيضاً فضيلةٌ للعُصفور، وذكر ابنُ الأعرابيِّ أن للناقة عُثْنُوناً كعثنون الجمل، وأنها متى كان عُثنونها أطْوَلَ كان فيها أحْمَدَ.

حب العصافير فراخها

وليس في الأرض طائرٌ، ولا سبعٌ ولا بهيمةٌ، أحْنى على ولدٍ، ولا أشدّ به شعَفاً، وعليه إشفاقاً من العصافير، فإذا أصيبت بأولادها، أو خافتْ عليها العَطب، فليس بينَ شيء من الأجناسِ من المساعدة، مثلُ الذي مع العصافير، لأن العصفورَ يرى الحيَّةَ قد أقبلت نحو جُحره وعُشّه ووَكره، لتأكُلَ بيضه أو فراخه، فيصيح ويُرَنِّق فلا يسمعُ صوته عُصفورٌ إلا أقبل إليه وصنَعَ مِثلَ صنيعهِ، بتحرُّق ولوعةِ، وقَلَقٍ، واستغاثةٍ وصُراخ، وربما أفلت الفرْخ وسقط إلى الأرض - وقد ذهبت الحيّة - فيجتمعن عليه، إذا كان قد نَبَتَ ريشه أدنى نبات، فلا يزلْنَ يُهَيِّجْنَهُ، ويَطِرْنَ حوله، لعلمها أن ذلك يحدِثُ للفَرْخ قوةً عَلَى النُّهوض فإذا نهضَ طِرْنَ حواليه ودونه، حتى يحتثِثْنَهُ بذلك العمل.
وكان الخُرَيميّ ينشد:

حتى رَفَعْنَ سَيْرَةَ اللَّجُونِ

 

واحْتَثّ كلُّ بازِلٍ ذَقُـونِ

وينشد:

واحْتَثَّ مُحْتَثَّاتُهَا الخَدُورا

وتقول العرب: العاشِية تهيجُ الآبية، ولو أن إنساناً أخذ فرّْخَيْ عُصْفورٍ من وكره، ووضعهما بحيثُ يراهما أبواهما في منزله، لوجدَ العصفور يتقحّم في ذلك المنزل، حتى يدخل في ذلك القفص، فلا يزالُ في تعهُّدِه بما يُعيشه حتى يستغنِيَ عنه، ثم يحتملانِ في ذلك غاية التغْريرِ والخِطار؛ وذلك من فرط الرِّقَّة على أولادهما.
ما لا يسمح بالمشي من الحيوان  وأجناس الحيوان التي لا تستطيع أن تُسمحَ بالمشي ضروب: منها الضبع، لأنها خُلقت عرْجاء، فهي أبداً تخمَع، قال الشاعر:

أَحَمُّ المَأْقِيَيْنِ به خُمَاعُ

 

وجاءتْ جَيْأَلٌ وأبو بنيها

وقال مدرك بن حِصْن:

بها الظَّلع إمَّا هَرْوَلَتْ أمْ يَمينُها

 

من الغُثْرِ ما تَدْرِي أرجُلُ شمالُها

والذئب أقزل شَنِج النسا، وإن أُحِثَّ إلى المشي فكأنه يتوجَّى.
وكذلك الظَّبيُ، شَنِجُ النَّسا، فهو لا يُسْمِحُ بالمشي، قال الشاعر:

ءِ نبَّاحً من الشُّعْبِ

 

وقُصْرَى شَنجِ الأنسا

ظبيٌ أَشعب: إذا كان بعيد ما بين القرنين، ولا يسمع له نُباح، وإذا أراد العَدْو، فإنما هو النَّقْز والوثب، ورفع القوائم معاً.
ومن ذلك الأسد فإنه يمشي كأنه رَهِيص، وإذا مشى تخَلَّع.
قال أبو زبيد:

وعَتْ سواعدُ منه بعد تكسيرِ

 

إذا تبهْنَسَ يمشي خِلْتَهُ وعِثـا

ومن ذلك الفرسُ، لا يُسمِح بالمشْي، وهو يوصف بشَنَج النسا.
وقال الشاعر:

شَنِح الأنْساءِ من غيرِ فَحَجْ

ومن ذلك الغراب، فإنه يحجِل كأنه مقيَّد، قال الشاعر:

لأُخْرى ففاتَتْه فأصبحَ يحجِلُ

 

كتاركِ يوماً مشْيةٍ من سَجِيَّةٍ

وقال الطِّرِمّاح:

في الدّار بعدَ الظَّاعِنين مُقيَّدُ

 

شُنِجَ النسا أدفَى الجَناحِ كأنهُ

والسِّنّورُ، والفَهْد، وأشباهُهما في طريق الأسَد.
والحيَّة تمشي، ومنها ما يَثِب، ومنها ما ينتصِبُ ويقومُ على ذنَبه.
والأفعى إذا نَهَشت أو انباعت للنَّهش، لم تستقلّ ببدنها كلِّه ولكنها تَستقِلُّ ببدنها الذي يلي الرأس، بحركةٍ ونَشْطٍ أسرعَ من اللَّمْح.
والجرادة تطير وتمشي وتطمر، فإذا صِرتَ إلى العصفور ذهب المشي البتّة، وأكثر ما عند البرغوث الطُّمور والوثوب.
وقال الحسنُ بن هانئ يصفُ رجلاً يفْلي القَمْلَ والبُرغوث بأنامله:

لم يُنْجِهِ منه وِثابُهْ

 

أو طامريٍّ واثبٍ

لأن البرغوث مشّاء وثَّاب.
قال: وقول الناس: طامر بن طامر، إنما يريدون البرغوث.
والعصفور ليس يعرِفُ إلا أنْ يجمعَ رجليه ثم يثِب، فيضعهما معاً ويرفَعهما معاً، فليس عنده إلا النَّقَزَانُ، ولذلك سُمِّي العصفورُ نقَّازاً.
وهو العصفور والجمع عصافير، ونقَّاز والجمع نقَاقيز، وهو الصّعْو، ويزعمون أن العرب تجعلُ الخرّق والقُنْبر، والحُمَّر، وأشباه ذلك كله، من العصافير، والعصفور طَيرَانه نَقَزانٌ أيضاً، فهو لا يُسمِحُ بالطيران كما لا يسمح بالمشي.

شدة وطء العصفور

وليسَ لشيء جسمُه مثلُ جسمِ العُصفور مراراً كثيرةً، من شدَّة الوطء، وصلابة الوقْع عَلَى الأرض، إذا مشى، أو عَلَى السطح - ما للعصفور، فإنك إذا كنتَ تحت السّطح الذي يمشي عليه العصفور حسِبتَ وقْعَه عليه وقْعَ حَجَر.
والكلبُ منعوتٌ بشدة الوطء، وكذلك الخِصْيانُ من كل شيء، والعصفور يَأخذ بنصيبه من ذلك أكثرَ من قِسْط جِسْمِهِ من تلك الأجسام بالأضعاف الكثيرة.
ما يجيد المشي من الحيوان والذُّباب من الطير الذي يجيدُ المشي، ويمشي مشياً سَبْطاً حَثِيثاً، وحسناً مستوياً.
والقطاة مَلِيحةُ المِشْية، مقاربَة الخطْو.
وقد توصف مِشْيَةُ المرأةِ بمِشية القَطَاة، وقال الكُمَيت:

قُبَّ الْبُطونِ رَوَاجِحَ الأكْفَالِ

 

يمشينَ مَشْيَ قَطَا البُطاحِ تأوُّداً

وقال الشاعر:

شي قطا أو بقراتُ

 

يتمشين كـمـا تـم

لأن البقرةَ تتبخترُ في مِشْيتها.
وقلت لابن دَبُوقاء: أي شيء أول التَّشاجي? قال: التباهُر والقَرْمَطة في المشي، وقال:

تمشيَ القطاةِ إلى الغدير

 

دفعتُهـا فـتـدافـعـتْ

وكلُّ حيوان من ذوات الرجلين والأربع، إذا انكسرت لها قائمة تحامَلَت بالصحيحة، إلا النعامة فإنها تسقُط البتَّة،

سفاد العصفور

قال: وكثرةُ عددِ السِّفاد، والمبالغة في الإبطاء، والدّوامُ في كثرة العدد لضروبٍ من الحيوان - فالإنسانُ يغلبُ هذه الأجناس بأن ذلك دائم منه في جميع الأزمنة، فأما الإبطاءُ في حال السِّفاد فللجمل والوَرَل والذِّبّان والخنازير، فهذه فضيلةُ لذة لهذه الأجناس والأصناف، فأما كثرةُ العدَد فللعصافير. سفاد التيس

وقد زعم أبو عبد اللّه العتبيّ الأبْرَصُ، وكان قاطعَ الشهادة عند أصحابنا البَصريِّين - أن الذي يقال له المِشْرَطِيُّ قَرعَ في يومٍ واحدٍ نيفاً وثمانين قَرْعة.
إلا أن ذلك منه ومن مثله ينمحقُ؛ حتى يعودَ جافراً في الأيام القليلة.

تيس بني حِمَّان

وبنو حِمّان يزعمون أن تيسَ بني حِمّان قَرَع وألقَحَ بعد أن ذُبح، وفخَرُوا بذلك، فقال بعضُ من يهجوهم:

عن المجْدِ حتى أَحْرَزَتْه الأكارمُ

 

أَلهى بَنِي حِمّان عَسْبُ عَتُودِهـم

زعم لصاحب المنطق وزعمَ صاحبُ المنطق، في كتاب الحيوان، أن ثَوْراً فيما سلف من الدهر سَفِدَ وأَلْقَحَ من ساعته بعد أنْ خُصِي.
فإِذا أفرطَ المديحُ وخرجَ من المقدار، أو أفرطَ التعجيبُ وخرج من المقدار - احتاج صاحبُه إلى أن يثْبته بالعيان، أو بالخبر الذي لا يكذّبُ مثله، وإلا فقد تعرَّض للتكذيب.
ولو جعلوا حركتهم خبراً وحكاية، وتبرؤوا عن عيْنبه - ما ضرَّهم ذلك، وكان ذلك أصْوَن لأقدارهم، وأتمَّ لمروءات كتبهم.

القول في الجناح واليد والرجل

وقالوا: وكلُّ طائر جيِّد الجناح، يكونُ ضعيفَ الرجلين، كالزُّرزُور والخُطَّاف؛ وجناحاهما أجْود من جناح العصفور، ورجل العُصفور قويَّة.
والجناحان هما يدا الطائر؛ لأنهم يجعلون كلَّ طائر وإنسان ذا أربع: فجناحا الطائر يداه، ويدا الإنسان جناحاه، ولذلك إنْ قُطعت يدُ الإنسان لم يُجِد العَدْو، وكذلك إن قُطِعَتْ رجلُ الطائر لم يُجد الطَّيران.
والدابة قد تقوم على رجلين دون يديها، والإنسان قد يمشي على أربع، قالوا: فَهُم في عدد الأيدي والأرجل سواء، وفي الآلات الأربع؛ إلا أن الآلة تكونُ في مكان ببعض الأعمال أليَقَ، وهو عليها أسهل، فتجذبُها طبائعها إلى ما فيها من ذلك، كمشي الدابة عَلَى يديها، وثِقَل ذلك على الإنسان.
والحمام يضربُ بجناحِه الحمامَ، ويقاتلُه به، ويدفع به عن نفسه، فقوادمه هي أصابعه، وجناحُه هُو يدُه ورجله كالقدم، وهي رجلٌ وإنْ سمّوها كفّاً، حين وجدوها تكفُّ به، كما يصنع الإنسانُ بكفِّه.
وكلُّ مقطوعِ اليدينِ، وكل من لم يُخلق له يدانِ فهو يصنعُ برجليه عامَّةَ ما يصنَعُه الوافرُ الخلق بيديه.
وكل سبُع يكون شديدَ اليدين فإنه يكونُ ضعيفَ الرجلين.
وكل شيء من ذوات الأربع، من البراثن والحوافر، فإن أيديَها أكبرُ من أرجُلها، والناس أرجلهم أكبرُ من أيديهم، وأقدامهم أكبر من أكفِّهم.
وجعلوا رُكَبَهُم في أرجُلهم، وجعلوا رُكَبَ الدّواب في أيديها.

نفع العصافير وضررها

وللعصافير طَبَاهِجَات وقلايا تُدْعَى العصافيريَّة، ولها حَشاوي يطِعمها العوامّ المَفلوجَ، والعوامُّ تأكلها للقوَّة على الجِماع، وعِظامُ سُوقِها وأفخاذِها أحَدُّ وأذْرَب من الإبر، وهي مَخُوفةٌ على المعدة والأمعاء.
وهي تخرِّب السُّقف تخريباً فاحشاً، وتجتلبُ الحيّات إلى منازل الناس؛ لحرْص الحياتِ على ابتلاع العصافير وفراخها وبيضها.

عمر العصفور

والذين زعموا أن ذكورتها لا تعيش إلا سنةً، يحتاجون إلى أن يعرِّفوا الناس ذلك، وكيفَ يستطيعون تعريفَهم? وقد تكون القُرى بقُرب المزارعِ والبيادر مملوءة عصافيرَ، ومملوءة من بَيْضها وفراخها، وهم مع ذلك لم يروْا عصفوراً قط ميتاً.
والذين يزعمون أن الذبابَ لا يعيشُ أكثر من أربعين يوماً، وكانوا لا يكادون يروْن ذبابة ميتة أعْذرُ، لأنهم ذهبوا إلى الحديث، وأصحاب الحديث لا يؤاخذون بما يؤاخَذ به الفلاسفة.
والذين زعموا أن البغل إنما طال عمره لقلَّة السِّفاد، والعصفورَ إنما قصُرَ عمره لكثرة السِّفاد وغُلمته - لو قالوا بذلك عَلى جهة الظنِّ والتقريب، لم يلُمْهم أحد من العلماء، والأمور المقرّبة غيرُ الأمور الموجَبة، فينبغي أن يعرفوا فصْل ما بين الموجب والمقرَّب، وفصلَ ما بين الدليل وشبه الدليل ولعلّ طول عمر البغل يكون للذي قالوا، ولشيء آخر.
وليس ينبغي لنا أن نجزِمَ على هذه العِلّة فقط، إلا بعد أن يحيط علمنا بأن عمرَه لم يفْضُلْ على أعمار تلك الأجناس إلا لهذه العلّة.

بعض خصال العصفور

والعصفورُ لا يستقرُّ ما كان خارجاً من وكْره، حتى كأنه في دوام الحركة صبيٌّ، له صوت حديدٌ مؤْذ.
 وزعموا أن البُلبل لا يستقر أبداً وهذا غَلَطٌ، لأن البُلبل إنما يقْلَقُ لأنه محصورٌ في قفص، والذين عاينوا البلابلَ والعصافير في أوكارها، وغير محصورة في الأقفاص - يعلَمون فضلَ العصفورِ عَلَى البُلبل في الحركة.
فأما صدْق الحِسِّ، وشدَّة الحذَر، والإزكان الذي ليس عند خبيث الطير، ولا عند الغُرَاب إن عند العصفور منه ما ليسَ عندَ جميع ما ذكرنا، لو اجتمعت قوهم، ورُكِّبوا في نصاب واحد.
من ذلك أنه يغمّ بحدَّة صوته بعضَ من يقرُب منه، فيصيح به ويُهوي بيديه إلى الأرض كأنه يريد أن يرميَه بحجر فلا يراه يحفِل بذلك، فإن وقعت يدُه على حصاةٍ طارَ من قبل أن يتمكّنَ من أخذها.
وزعم صاحبُ المنطق أن بين الحِمار وعصفورِ الشَّوك عداوةً، وقال: لأن الحمارَ يدخل الشجر والشّوك، فربما زاحَمَ الموضع الذي فيه وَكْرُه فيبدِّد عُشَّه، وربما نهق الحِمارُ فسقَطَ فرخُ العُصفور أو بيضه من جوفِ وكْره، قال: ولذلك إذا رآه العصفورَ رَنَّق فوقَ رأسه، وعلى عينيه، وآذاه بطيرانه وصِياحه.
وربّما كان العصفورُ أبْلَق، ويصابُ فيه الأصبغ، والجرادِيّ، والأسود، والفيق، والأغْبَس، فإذا أصابوه كذلك باعوه بالثَّمن الكثير.
وقال أبو بدر الأُسَيديّ: قيل لعبد الأعلى القاصّ: لم سمّي العصفورُ عُصفوراً? قال: لأنه عَصى وقرّ، وقيل: ولم سمّي الطَّفْشِيل طفشيلاً? قال: لأنه طفا وشال، وقيل له: لم سمي الكلبُ القَلَطِيُّ قَلَطِيّاً? قال: لأنه قلَّ ولَطِئَ، وقيل له: لم سمي الكلبُ السَّلوقيُّ سَلوقيّاً? قال: لأنه يسْتَلّ ويَلقَى، قال: وحدّثنا سُفيان بن عيينة، عن عَمرو بن دِينار، عن صُهَيب مولى ابن عامر، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: ما مِنْ إنسان يقتل عصفوراً أو ما فوقها بغير حقها إلا سأله اللّه عنها، قيل: يا رسول اللّه: وما حقها? قال: أن تذْبحها فتأكُلَها، ولا تقطع رأسَها فترميَ بها.

صياح العصافير ونحوها

ويقال: قد صرّ العصفورُ يصرُّ صريراً، قال: ويقال للعصافير والمَكاكيّ والقنابر، والْخُرّق، والحُمَّر: قد صفَر يصفِرُ صفيراً، وقال طَرَفة بنُ العبْد:

خَلا لكِ الجوُّ فبِيضي واصفِري

 

يا لَكِ مِنْ قُبَّـرة بـمـعْـمَـرِ

 

 

ونَقِّري ما شِيتِ أن تُنَـقِّـري

ويقال: قد نطق العصفور، وقال كثَيِّر:

وهَبَّتْ عصافيرُ الصَّريمِ النواطقُ

 

سوى ذِكرةٍ منها إذا الرَّكبُ عَرَّسُوا

ولذِكْر العصفور موضعٌ آخر: وذلك أنَّ العصافير تصيحُ معَ الصُّبح، وقال كلثومُ بنُ عمرو:

حتى تكلم في الصبحِ العصافير

 

يا ليلةً لي بحُوّارينَ سـاهـرةً

وقال خلفٌ الأحمر:

ولاحت تَباشِيرُ أرْواقِهِ

 

فما أصاتَتْ عصافيرُه

ويَلتَسُّ ناضِرَ أوْرَاقِه

 

غَدَا يَقْتَرِي أُنُفاً عازِبـاً

وقال الوليد بنُ يزيد:

بأصواتِ العَصافير

 

فلما أنْ دنا الصبـحُ

أحلام العصافير

ولها موضع آخر، وذلك أنهم يضربون المثلَ بأحلامِ العصافير لأحلام السُّخَفَاءِ، وقال دُرَيد بنُ الصِّمَّة:

أنتم كثير وفي أحلامِ عُصفورِ

 

يا آلَ سُفيانَ ما بالي وبالُـكـمْ

وقال حسَّانُ بنُ ثابت:

جسمُ البغالِ وأحلامُ العصـافـيرِ

 

لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظَمٍ

ومن هذا الباب في معنى التَّصغير والتَّحقير، قولُ لبيد:

عَصافيرُ من هذا الأنامِ والمسحَّرِ

 

فإنْ تسألينا فيمَ نـحـنُ فـإنـنـا

المخدَّع، على قوله:

ونُسحَرُ بالطعامِ وبالشَّرابِ

وقال لبيد:

وأجرأ من مُجَلِّحَةِ الذِّئَابِ

 

عَصافـيرٌ وذبّـانٌ ودُودٌ

فكأنه يخبر عن ضَعْف طِباع الإنسان.
وقال قوم: المسحّر، يعني كلّ ذي سَحْر، يذهب إلى الرئة؛ لقوله:

ونُسْحَر بالطعامِ وبالشراب

قولهم صريم سحر

ولذِكر السَّحْر موضعٌ آخر، يقول الرجلُ لصاحبه: صرَمْت سَحْري منك، أيْ لستُ منك، وقال خُفافُ بن نُدْبة:

وأنّي منك غيرُ صَريمِ سَحْرِ

 

ولولا ابنا تُماضِر أن يُساؤوا

فكأنه قال: لستُ كذلك منك.
وقال قيسُ بنُ الخطيم:

أتَتْرُكُ مَا جَمَعْتَ صَرِيمَ سَحْرِ

 

تقولُ ظَعينَتِي لما استَقَـلَّـتْ

أي قد تركتَه آيساً منه.
وأنشد الآخر:

ظلِيفاً أنَّ ذا لهو العـجـيبُ

 

أَيَذْهَبُ ما جمعتُ صَرِيمَ سَحْرٍ

ولمَّا يُخْضَب الأسَلُ الخضيبُ

 

كَذَبْتُمْ والّذِي رَفَعَ المعـالِـي

العصفور والضب

وإذا وصفوا شدّة الحرّ، وصفوا كيفَ يُوفِي الحِرباءُ على العُود والجِذْل، وكيف تلجأ العصافيرُ إلى جِحَرة الضِّباب من شدة الحرّ.
وقال أبو زُبَيد:

حين لاحـتْ لـلـــصـــابـــح الـــجـــوزاءُ

 

أيُّ سـاعٍ سـعـى لــيقـــطـــع شـــربـــي

 

 

واستكنَّ العصفورُ كزهاً مع الضبِّ وأوفى في عوده الحرباءُ

هِ وأذْكـتُ نــيرانـــهـــا الـــمـــعـــزاءُ

 

ونفى الجندبُ الحصى بكراعي

صقـرتـهــا الـــهـــجـــيرةُ الـــغـــراء

 

من سـمـومٍ كــأنـــهـــا لـــفـــحُ نـــار

وأنشدوا:

مع الضّبِّ والشِّقذانُ تسمو صدورها

 

تجاوزتُ والعَصفورُ في الجُحْر لاجئٌ

قال: الشِّقْذان: الحَرَابيّ، قوله: تسمو أي ترتفع عَلَى رأس العُود، والواحد من الشِّقْذان شَقَذَان، بتحريك القاف وفتح الشين.

عصافير النعمان

وأكرم فحْلٍ كان للعَرَب من الإبل كان يسمى عصفوراً، وتسمى أولاده عصافير النُّعمان.
وكانوا يقولون: صنعَ به الملكُ كذا وكذا، وحَبَاه بكذا وكذا، ووهب له مائة من عصافيره.
وعصفور، ودَاعر، وشاغِر، وذو الكَِبْليْن: فحولة إبل النعمان.
وعصافير الرَّحْل واحدها عصفور.

عصفور القواس

وعصفور القَوّاس إليه تضاف القِسِيُّ العُصفورية، وقد ذكره ابن يَسير حين دعَا على حمام له بالشّواهين، والصُّقورة، والسَّنانير والبنادق، فقال:

فغدا بغدوةِ ساغب مـمـطـور

 

من كلِّ أكلفَ باتَ يدجنُ لـيلـهُ

شيئاً فكنَّ لـه مـن الـتـقـديرُ

 

ضرم يقلب طرفه مـتـأنـسـاً

صكاً بكـلِّ مـذلـق مـطـورِ

 

يأتي لهنْ مـيامـنـاً ومـياسـراً

شيءٌ فصار بجانـبـات الـدور

 

لا ينجُ منه شريدهنّ، فإنْ بـحـا

عنها بكلِّ رشـيقةٍ الـتـوتـير

 

لمشمرينَ عن السواعـدِ خُـسـر

فيهم بمعـتـذر ولا مـعـذور

 

ليس الذي تـشـوي يداه رمـية

في كل معطيةِ الجذاب نـتـورِ

 

ينبوعون مع الـشـروق غـديَّة

تعزى إذَا نسبتْ إلى عصـفـورِ

 

عطف السيات موانع في بذلـهـا

متشابهاتِ صغـنَ بـالـتـدوير

 

ينفثنَ عن جذبِ الأكفِّ سـواسـياً

لنواصلٌ سلبٌ من التـحـسـير

 

تجري لها مهجُ النفوسِ وإنـهـا

في الجو يحسر طرف كل بصير

 

ما إن ينى متبـاينٌ مـتـبـاعـدٌ

متقطراص متضمخاً بـعـبـير

 

عن سمتهنَّ إذا قصدنَ لجمـعـهِ

دامٍ ومخلوبٍ إلـى مـنـسـور

 

فيؤوب ناجيهنَّ بينَ مجـلـهـق

كاسٍ عليه بصائرُ الـتـامـورِ

 

عاري الجناح من القوادم والقـرا

شعر في العصفور

وقال أبو السِّرِيّ، وهو مَعْدَانُ الأعمى المديبريّ، وهو يذكر ظهورًاًلإمام، وأشراطَ خُروجه، فقال:

شُ وتُسقَى سُلافَةَ الجِـرْيَالِ

 

في زمانِ تبيض فيه الخَفاف

مِ وتحمِي الذِّئابُ لحمَ السِّخالِ

 

ويقيم العُصفورُ سِلماً مع الأيْ

يقول: إذا ظهر الإمامُ فآية ذلك أنْ تبيض الخفافيش - وهي اليومَ تلِدُ - وتحلُّ لنا الخمرُ، وتسالِمُ الحيّاتُ العصافيرَ، والذئابُ السِّخَالَ.
سجود عيسى بن عقبة ورَوَوْا في طولِ سجودِ عيسى بنِ عُقبة، أنه كان يطيل ذلك حتى يظنّ العصفورُ أنه كالشيء الذي لا يُخافُ جانبه، وحتى يظنّ العصفورُ أنه سارية، فيسقط عليه.
وذكر عُمَرُ بن الفضل، عن الأعمش، عن يزيد بن حَيّان قال: كان عيسى بن عقبة إذا سجد وقعت العصافيرُ عَلَى ظهره؛ من طولِ سجوده.
وكان محمدُ بنُ طلحةَ يسجُد حتى إن العصافير ليَسْقُطْنَ على ظهره ما يحسِبَنْه إلا حائطاً.

مثل الشيخ والعصفور

وفي المثل: أنَّ شيخاً نصَبَ للعصافير فَخّاً، فارْتَبْنَ به وبالفخ، وضربه البرد، فكلما مشى إلى الفخِّ وقد انضمَّ عَلَى عصفور، فقبض عليه ودقَّ جناحَه، وألقاه في وعائه، دَمعت عينُه مما كان يَصُكُّ وجهَه من برد الشّمال، قال: فتوامَرَت العصافيرُ بأمره وقلن: لا بأس عليكنَّ، فإنه شيخٌ صالحٌ رحيم رقيقُ الدَّمعة قال: فقال عصفورٌ منها: لا تنظروا إلى دموع عينَيه، ولكن انظروا إلى عمل يديه .
استطراد ومن أمثال العامّة للشيء تتعرّفه بغير مَؤُونة: الحجَرُ مَجّان، والعصفور مجّان.
قال: ويقال عصفور وعصفورة، وأنشدَ قوله:

مُسَوّمَةٌ تدعو عُبيداً وأزنما

 

ولو أنها عصفورةٌ لحسبْتَها

شعر فيما يصوِّره الفَزَع وقال في هذا المعنى جريرٌ، وإن لم يكن ذكر العصفور، حيث يقول:

خيلاً تشدُّ علـيكـمُ ورجـالا

 

مازلتَ تحسِبُ كلَّ شيءٍ بَعْدَهم

قال يُونس: أخذَ هذا المعنى من قولِ اللّه: "يَحْسَبُونَ كلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ".
وقال الشاعر:

عَلَى الخائفِ المطلوبِ كِفَّةُ حابِل

 

كأن بِلادَ الـلّـهِ وهْـيَ عـريةٌ

تَيَمَّمَهَا تَرْمِـي إلـيه بـقـاتـل

 

يُؤَدِّى إلـيه أنَّ كـلَّ ثـنِـــيَّةٍ

وقال بشّارٌ في شبيه ذلك:

حذارَ البينِ لو نفعَ الـحـذارُ

 

كأنَّ فـؤاده كـرةٌ تـنــزى

كأنّ جفونها عنـه قـصـارُ

 

جفتْ عيني عن التغميض حتى

مخافةَ أن يكونَ به السـرارُ

 

يروعهُ السرارُ بكـل ِّ أمـرٍ

وقال عُبيدُ بن أيُّوب: وقال أبان اللاَّحقيُّ:

والتَفِتْ بالنهار قبل الـكـلامِ

 

اخْفِضِ الصَّوتَ إنْ نَطَقْتَ بليلٍ

حديث الغاضري ومن مُلح أحاديثِ الأصمعيّ، قال: حدَّثني شيخٌ من أهل المدينة وكان عاليَ السِّنِّ قال: قال الغاضري: كانت هذه الأرضُ لقومٍ ابتدؤوها وشقُّوها، وكانت الثمرة إذا أدركتْ قال قائلهم لقيِّمه: اثلُمِ الحائط، ليصيبَ المارُّ مما فيه والمعْتَفي، ثم يقول: أرْسِلْ إلى آل فلان بكذا وكذا، وإلى آل فلان بكذا وكذا، فإذا بيعَت الثمرة قال: أرسل إلى فلان بكذا وكذا ودينار، وإلى فلان بكذا وكذا، فيضج الوكيل، فيقول: ما أنت وهذا? لا أمَّ لك فلما عُمِرت الأرضون وأغَنَّتْ أُقْطِعَها قومٌ سواهم، فإنَّ أحدهم ليسدُّ حائطَه، ويصغّر بابَه، ثم يُدْلِجُ فيمرُّ فيقول: ما هذه الثُّلمة? ويستطيف من وراء الحائط، فهو أطول من مَعقِل أبي كريز.
وإذا دخل حائطه دخل معه بقَذَّافة، فإذا رأى العصفورَ على القنا رماه، فيقع العصفورُ مَشْوِيّاً على قُرْص، والقُرْص كالعصفور.

العصافير الهبيرية

وبحمْص العصافيرُ الهُبَيريّة، وهي تطعم على رفوف، وتكون أسمَنَ من السُّمانَى، وأطيبَ من كلّ طير، وهي تُهدَى إلى ملوكنا، وهي قليلةٌ هناك.

شعر في نطق العصفور

وقال الرَّاعي:

حتى اسْتَثَارَ سَفاةً دونَها الـثَّـأَدُ

 

ما زال يركبُ رَوْقَيهِ وكَلْكَـلَـه

عَمَايةُ الليل عنه وهو مُعتـمِـدُ

 

حتى إذا نَطَقَ العصفورُ وانكشفَتْ

وقال الراعي:

يُلاثُ بعينَيها فيُلْوى ويُطْلَـقُ

 

وأصْفَر مجدول من القِدِّ مارِن

أُنِيخَتْ قليلاً والعصافيرُ تنطقُ

 

لَدَى ساعِدَيْ مَهْرِيّة شَـدَنـيةٍ

صيد العصافير

قال: وتُصاد العصافيرُ بأهونِ حيلة، وذلك أنهم يعملون لها مِصْيَدَةً، ويجعلون لها سَلَّة في صورة المِحْبرة التي يقال لها: اليهودية، المنكوسة الأنبوبة؛ ثم يُنْزَل في جوفها عصفورٌ واحد، فتنقضُّ عليه العصافيرُ ويدْخُلْن عليه، وما دخل منها فإنه لا يجد سبيلاً إلى الخروج منها، فيصيد الرجُلُ منها في اليوم الواحد المئين وهو وادع، وهنّ أسرعُ إلى ذلك العصفورِ من الطير إلى البُوم إذا جُعِلن في المصائد.
ومتى أخذ رجلٌ فراخ العصافير من أوكارها، فوضعها في قفص بحيث تراها الآباءُ والأمّهات، فإنها تأتيها بالطُّعم على الخطَر الشديد، والخوف من الناس والسَّنانير، مع شدة حذرها، ودِقَّة حسِّها، ليس ذلك إلا لبرّها بأولادها، وشدة حبّها لها.

في العقارب والفأر والسنانير والجرذان

نقول في العقارب والفأرِ والجرذَان بما أمكن من القول، وإنما ذكرنا العقارِبَ مع ذكرنا للفأر، للعداوة التي بين الفأر والعقارب، كما رأينا أن نذكُر السّنانير في باب ذكر الفأرِ، للعداوة التي بينهما.
فإِن قلت: قد عرَفنا عداوة الفأر للعقرب، فكيف تُعادي الفأرةُ السنّور، والفأرة لا تقاوم السنّور? قيل: لعَمري إن جِرذانَ أنطاكِيَة لَتُساجِلُ السنانيرَ في الحربِ التي بينهما، وما يقوم لها ولا يقوى عليها إلا الواحد بَعْدَ الوَاحِد، وهي بخراسان قويَّةٌ جدّاً، وربما قطعتْ أُذنَ النائم.
وفي الفأر ما إذا عضَّ قتل، أخبرني أبو يونس الشريطي أنه عاين ذلك.
وأنا رأيتُ سنّوراً عندنا ساور جُرذاً في بيت الحطَب، فأفلَتَ الجُرذُ منه وقد فقأ عينَ السِّنَّوْر.
قتال الحيوان والقتالُ يكونُ بين الدِّيَكةِ، وبين الكباشِ والكلاب والسُّمَانَى والقَبج، وضروبٍ مما يقبل التَّحريشَ، ويواثبُ عند الإغراء.

قتال الجرذان

ويزعمون أنهم لم يَروا قتالاً قطُّ بينَ بهيمتين ولا سبعين أشدَّ من قتال يكونُ بين جُرذين، فإذا ربط أحدُهما بطرَف خيطٍ، وشُدَّ رِجْل الآخر بالْطّرَف الآخر من الخيط، فلهما عند ذلك من الخلب والخَمْش والعضِّ، والتَّنْييبِ والعفاس، ما لا يوجد بين شيئين من ذوات العِقار والهراش، إلا أن ذلك ما داما في الرِّباط، فإذا انحلَّ أو انقطع ولَّى كلُّ واحد منهما عن صاحبه، وهربَ في الأرض، وأخذ في خلاف جهته الآخر.
وإن جُعِلا في إناء من قوارير، أعني الجُرذَ والعقرب، وإنما ذكرت القوارير، لأنها لا تستر عن أعيُن الناس صَنيعَهما، ولا يستطيعان الخُروجَ؛ لمَلاسة الحيطان - فالفأرة عند ذلك تختِلُ العقربَ، فإن قبضَتْ على إبرتها قَرَضَتها، وإن ضربها العقربُ ضرباً كثيراً فاستنفَدتْ سمّها كان ذلك من أسباب حتفها.

قتال العقارب والجرذان

ودخلت مرة أنا وحَمْدان بن الصباح عَلَى عبيد بن الشُّونِيزي فإذا عنده بَرنِيّة زَجاج، فيها عشرون عقرباً وعشرون فأرةً، فإذا هي تقتتل، فخيِّل لي أن تلك الفأرَ قد اعتراها ورمٌ من شدةِ وقْع اللسع، ورأيت العقاربَ قد كلَّتْ عنها وتاركتْها، ولم أر إلا هذا المقدارَ الذي وصفت.
وحدثنا عنها عبيدٌ بأعاجيبَ، ولو كان عبيدٌ إسناداً لخبّرت عنه، ولكنَّ موضِعَ البياض من هذا الكتابِ خيرٌ من جميع ما كان لعبيد.

تدبير في الجرذ

وللجُرذِ تدبير في الشيء يأكلُه أو يَحسُوه، فإنه ليَأتي القارورةَ الضَّيِّقَة الرأس، فيحتال حتى يُدْخلَ طرفَ ذَنَبه في عُنِقها، فكلَّما ابتلّ بالدُّهنِ أخرجه فلطعَه، ثم أعاده، حتى لا يدعَ في القارُورة شيئاً.
ورأيتُ من الجرْذان أعجوبةً، وذلك أن الصيادة لما سقطت عَلَى جُرذٍ منها ضخمٍ، اجتمعْن لإخراجه وسلِّ عُنقِه من الصيَّادة، فلما أعجزهنَّ ذلك قرضْنَ الموضِعَ المنضمَّ عليه من جميع الجوانب، ليتسع الخَرْقُ فيجذبْنه، فهجَمْتُ على نُحاتَةٍ لو اعتمَدْتُ بسكين عَلَى ذلك الموضع لظننْت أنه لم يكن يمكنني إلا شبيهٌ بذلك.
وزعم بعضُ الأطباء أن السنورَ إنما يدفِنُ خُرأه ثم يعودُ إلى موضعه فيشتمّه فإن كان يجدُ من ريحه بعدُ شيئاً زاد عليه من التراب، لأنّ الفأرةَ لطيفة الحِسِّ، جيِّدةُ الشّمّ، فإذا وجدَتْ تلك الرائحة عرفَتْها فأمعنَتْ في الهربِ، فلذلك يصنَع السنَّورُ ما يصنَع.

فأرة سيل العرم

ولا يشكُّ الناسُ في أن أرضَ سبأ وجنّتَيها إنما خرِبتا حين دخلهما سيلُ العرِم - والعرِم: المسَنّاة - وأن الذي فجَّر المسنَّاة، وسبّب لدخول الماء الفأرة.
والسّيل إذا دخل أخْرَبَ بقدر قوَّته، وقوّتُه من ثلاثة أوجه: إمّا أنْ تدفعه ريحٌ في مكان يفْحُشُ فيه الريح، وإما أن يكون وراءه وفوقه ماءٌ كثير، وإما أن يُصيبَ حَدُوراً عميقاً.

حديث ثمامة عن الفأر

وأما حديث ثمامةَ فإنه قال: لم أرَ قطُّ أعجبَ من قتال الفأر، كنتُ في الحبْس وحْدي، وكان في البيت الذي أنا فيه جُحرُ فأر، يقابلُه جُحر آخر، فكان الجُرذ يخرُج من أحد الجُحْرين فيرقص ويتوعّد، ويضرب بذنبه، ثم يرفع صدره ويهزُّ رأسه، فلا يزال كذلك حتى يخرجَ الجرذ الذي يقابله، فيصنع كصنيعه، فبينما هما إذ عَدَا أحدُهما فَدَخل جُحره، ثم صنع الآخرُ مثلَ ذلك، فلم يزل ذلك دأبَهما في الوعيد وفي الفِرار، وفي التحاجُز وفي ترك التّلاقي، إلا أني في كل مرةٍ أظنُّ للذي يظهَرُ لي من جدهما واجتهادهما، وشدة توعُّدِهما، أنهما سيلتقيان بشيء أهوَنُه العضّ والخمْش، ولا واللّه إن التقَيا قطُّ? فعجبتُ من وعيدٍ دائمٍ لا إيقاعَ معه، ومن فِرار دائمٍ لا ثباتَ معه، ومن هرب لا يمنعُ من العَودة، ومن إقدامٍ لا يوجبُ الالتقاء، كيف يتوعّدُ صاحبه ويتوعدُه الآخر? وبأيّ شيء يتوعدُه، وهما يعلمان أنهما لا يلتقيان أبداً? فإن كان قتالهما ليس هو إلا الصَّخَب والتَّنْييب فلِمَ يفرُّ كلّ واحدٍ منهما حتى يدخل جحره? وإن كان غير ذلك فأيّ شيء يمنعهما من الصَّدْمة? وهذا أعجبُ.
أطول الحيوان ذماءً وأقصره وتقول العرب: الضبُّ أطولُ شيء ذَماءً.
ولا أعلَمُ في الأرض شيئاً أقصَرَ ذَماءً، ولا أضعَفَ مُنّة ولا أجدَر أن يقتُلَه اليسير من الفأر.

لعب السنور بالفأر

وبلغ من تحرُّزِهِ واحتياطه، أنه يسكن السقوف، فربما فاجأه السِّنَّور وهو يريد أن يعبُر إلى بيته والسِّنَّور في الأرض والفأرةُ في السّقف، ولو شاءت أن تدخل بيتها لم يكن للسِّنَّور عليها سبيل، فتتحيَّر، فيقول السِّنّور بيده كالمشير بيساره: ارجِع، فإذا رجعت أشار بيمينه: أن عُدْ فيعود، وإنما يطلب أن تَعيا أو تَزْلَق أو يُدَارَ بها، ولا يفعل ذلك بها ثلاثَ مرَّات، حتى تسقط إلى الأرض، فيثبَ عليها، فإذا وثَبَ عليها لعِبَ بها ساعةً ثم أكلها، وربما خلَّى سبيلها، وأظهر التغافل عنها فتمعِن في الهرَب، فإذا ظنّتْ أنها نجتْ وثَبَ عليها وثْبة فأخذها، فلا يزال كذلك كالذي يحبُّ أن يسخَرَ من صاحبه، وأن يخدعه، وأن يأخُذَهُ أقوى ما يكون طمعاً في السَّلامة، وأن يُورِثَه الحسرَةَ والأسَفَ، وأن يلذَّ بتنغيصه وتعذيبه.
وقد يفعل مثلَ ذلك العقابُ بالأرنب، ويفعل مثل ذلك السِّنَّورُ بالعقرب.

أكل الجرذان واليرابيع والضباب والضفادع

وقال أبو زيد: دخلتُ على رُؤبةَ هو يَمُلُّ جرذاناً، فإذا نضجت أخرَجَها من الجمْر فأكلها، فقلت له: أتأكل الجرذان? قال: هي خيرٌ من اليرابيع والضِّباب، إنها عندكم تأكل التَّمْر والجُبْن والسويق والخبز، وتحسُو الزَّيتَ والسمن.
وقد كان ناسٌ من أهل سِيف البحْر من شِقِّ فارس يأكلون الفأر والضفادع، ممقورةً ومملوحة، وكانوا يسمونها: جَنْك جَنْك ووَال وَال.
وقال أوسُ بنُ حجَر:

إلى سَنَة جِرذانُها لم تَحَلَّـمِ

 

لحَينَهُمُ لَحّىَ العصَا فطَردنَهم

يقال: تَحَلَّم الصَّبِيُّ: إذا بدأ في السِّمَن؛ فإذا زاد عَلى المقدار قيل قد ضَبَّبَ، أي سَمِنَ سِمَناً متناهياً.

مثل وشعر في الجرذ

ويقال: أسْرق من زَبَابَة، والزَّبابة: الفأرة، ويقال: أسْرَق من جُرَذ.
وقال أنس بن أبي إياس لحارثة بن بدرً حينَ ولِيَ أرض سُرَّق:

فكنْ جرذاً فيها تخونُ وتسـرقُ

 

أحارِ بن بدر قد ولـيتَ تـولايةً

لساناً به المرء الهيوبةُ ينطـق

 

وباهِ تميماً بالغنى إنّ للـغـنـى

يقول بما تهوى وإما مصـدقُ

 

فإنّ جميعَ الناسِ إما مـكـذبٌ

وإن قيلَ هاتوا حققوا لم يحققوا

 

يقولون أقوالا ولا يعلمـونَـهـا

فحظكَ من ملك العراقين سرقُ

 

فلا تحقرنْ يا حارِ شيئاً أصبتـه

فلما بلغَتْ حارثَةَ بنَ بدر قال: لا يعمَى عليك الرُّشْد.

طلب كثرة الجرذان

قال: ووقفت عجوزٌ عَلَى قيس بن سعد، فقالت: أَشكو إليك قلَّة الجُرذان، قال: ما ألطَفَ ما سألتِ لأمْلأَنَّ بيتَك جُِرذاناً، تذكر أنَّ بيتها قَفْرٌ من الأَدَم والمأدوم، فأكثِرْ لها يا غلامُ من ذلك، قال: وسمعت قاصّاً مدينيّاً يقول في دعائه: اللهمّ أكثِرْ جُِرذاننا وأقِلّ صِبياننا. فزع بعض الناس من الفأر

وبين الفأرِ وبينَ طباعِ كثير من الناس منافرةٌ، حتى إنّ بعضهم لو وطئ عَلَى ثعبان، أو رُمِيَ بثُعبان - لكان الذي يدخله من المكروه والوَحْشَةِ والفزَع، أيسرَ مما يدخُله من الفأرة لو رُمِيَ بها، أو وطئ عليها.
وخبرني رجالٌ من آل زائدة بن مقسم، أن سليمان الأزرق دُعِيَ لحيّة شَنْعَاء قد صارت في دارهم، فدخلَتْ في جُحر، وأنه اغتصبها نفسها حتى قبضَ على ما ألفى منها، ثم أدارها على رأسه كما يُصْنَع بالمِخْراق، وأهوى بها إلى الأرض ليضربها بها، فابتَدَرَتْ من حلْقها فأرة كانت ازْدَرَدَتْها، فلما رأَى الفأرةَ هرَب وصرخ صرخة، قالوا: فأخذ مشايخُنا الغِلمانَ بإخراج الفأرةِ وتلك الحيّة الشنعاء إلى مجلس الحيّ ليعجِّبوهم من إنسانٍ قتَلَ هذه وفرَّ من هذه.

علة نتن الحيات

وسألتُ بعضَ الحوَّائين ممن يأكلُ الأَفاعيَ فما دونها، فقلت: ما بالُ الحيات مُنتنة الجلود والجرُوم? قال: أمَّا الأفاعي فإنَّها ليست بمنتنة، لأنها لا تأكل الفأر، وأما الحيَّات عامة فإنها تطلبُ الفأرَ طلباً شديداً، وربما رأيتُ الحيَّة وما يكونُ غلظها إلا مثل غلظ إبهام الكبير، ثم أجدُها قد ابتلعت الجُرذَ أغْلَظَ من الذّراع، فأنكرَ نتنَ الحيَّات إلا من هذا الوجه، ولم أر الذي قال قولاً.

رجز في الفأر

ودخل أعرابيٌّ بعضَ الأمصار، فلقِيَ من الجِرذان جَهداً، فرجز بها ودعا عليها، فقال:

لعامراتِ البيت بالـخـراب

 

يعجلُ الرحمنُ بالـعـقـاب

كحلُ العيونِ وقصِ الرقاب

 

حتى يُعجِّلنَ إلـى الـثـياب

مثل مداري الحصن السلاَّب

 

مستتبعاتٍ خـلـفةَ الأذنـابِ

ثم دعا عليهنَّ بالسَّنَّور فقال:

منهرتُ الشِّدْقِ حديدُ النَّابِ

 

أَهْوَى لهنَّ أَنمَرُ الإهـاب

 

 

كأنما بُرْثِنَ بالـحِـرابِ

التشبيه بالجرذان

وتُوصَف عضلُ الحفَّار والماتح والذي يعمَل في المعادن، فتُشَبَّه بالجُرْذان، إذا تَفلَّقَ لحمه عن صلابة، وصار زِيَماً، قال الرَّاجز:

غَرْباً جَرُوراً وجُلالاً خُزَخِـزْ

 

أعدَدتُ للوردِ إذا الوِرْدُ حَـفَـزْ

كأنَّ جوفَ جلدِه إذا احتَـفَـزْ

 

وماتِحاً لا ينْثني إذا احـتَـجَـزْ

 

 

في كلِّ عُضو جُرَذَينِ أَو خُزَز

والخُزَز: ذكر الأرانب و اليرابيع.

أنواع الفأر

والزَّبابُ، والخُلْد، واليرابيع، والجرذان، كله فأر، ويقال لولد اليرابيع دِرص وأدراص، والخلْد أَعمى، لا يزال كذلك، والزّبابُ أَصمُّ، لا يزالُ كذلك، وأنشد:

لاَ تسمعُ الآذَانُ رَعْدا

 

وهمُ زَبـابٌ حـائرٌ

هكذا أَنشَدونا.

شعر وخبر في الفأر

وأنشد الأصمعي لمزرِّد بن ضِرار، في تشبيه الجرع في حُلوق الإبل بجثمان الزَّبابِ - وهو الشكل الذي وصفناه - فقال في وصف ضيف له سقاهُ، فوصف جَرْعه:

طوالَ الذري من مفرهاتٍ خناجر

 

فقلتُ له اشرب لو وجدتَ بهازراً

لمثلكَ يأتي للقرى غـير عـاذرِ

 

ولكنما صـادفـتَ ذوداً مـنـيحة

بجرعٍ كأثباج الزبابِ لازنـابـر

 

فأهوى له الكفين وامتد حـلـقـهُ

وقال أعرابيٌّ وهو يطنُز بغريم له، ويذكر قرْض الفأر الصِّكاك، عند فراره منه: الزم الصَّكّ لا يقرِضه الفأر تهزَّؤوا به:

 

إذا جعلتُ ضـراراً دون سـيار

 

أهونْ علي بسـيار وصـفـوتـه

 

في السوق بين قطينِ غيرِ أبـرارِ

 

التابعي ناشراً عندي صحـيفـتـه

 

يشفى إراتهمُ أنْ غابَ أنصـارِى

 

جاءوا إليّ غضاباً يلغطون مـعـاً

 

أجمعتُ مكراً بهم في غير إنكارِ

 

لما أبوا جهـرةً إلا مُـلازَمَـتـي

 

وإن موعدكم دار ابـن هـبـارِ

 

وقلتُ إني سيأتيني غداً جـلـبـي

 

عني فيخرِجُني نقضي وإمراري

 

ومـا أواعـدهـمْ إلا لأربـهــمْ

 

تخدي برحلي وسيفٍ جفنهُ عاري

 

وما جلبتُ إلـيهـم غـير راحـلة

 

فاطو الصحيفة واحفظها من الفارِ

 

إنَّ القضاءَ سيأتـي دونـه زمـنٌ

وقعتُ فيها وقوع الكلب في النار

 

وصفقةٍ لا يقال الربحَ تاجـرهـا

 








والعربُ تعيبُ الإنسانَ إذا كان ضيِّق الفمِ، أو كان دقيقَ الخطم، يشبّهون ذلك بفمِ الفأرة، وقال عَبْدةَ بن الطبيب: يشبهون ذلك بفهم الفأرة. وقال عبدة بن الطبيب:

ضخمُ الجزارة بالسلمينِ وكـارُ

 

ما معَ أنكَ يومَ الوردِ ذو لـغـطٍ

فاحلب فإنك حـلابٌ وصـرارُ

 

تكفي الوليدة في النادي مؤتـزراً

غيثٌ فأمرعَ واسترخت به الدارُ

 

ما كنت أولَ ضبٍّ صاب تلعتـهُ

جلد الندى، وغداةَ الروعِ خوارُ

 

أنتَ الذي لا نرجي نـيلـهُ أبـداً

فا فأرة شجها في الجُحر محفارُ

 

تدعو بنـييكَ عـبـاداً وحـذيمةً

شعر أبي الشمقمق في الفأر والسنور

وقا لأبو الشمقمق في الفأر والسنور:

من جـراب الـدقــيقِ والـــفـــخـــارَه

 

ولـقـد قـلـتُ حـين أقـفـــرَ بـــيتـــي

مخـصـبـاً خـيرهُ كـثـير الـعـــمـــاره

 

ولـقـد كـان آخـــلاً غـــير قـــفـــر

عائذاتٍ مـــنـــه بـــدار الإمـــــاره

 

فأرى الـفـأر قـد تـحـنـبــن بـــيتـــي

بين مــقـــصـــوصةٍ إلـــى طـــياره

 

ودعـا بـالـرحـــيل ذبـــانُ بـــيتـــي

عِ وعـــيش فـــيه أذى ومـــــــراره

 

وأقـامَ الـسـنـورُ مـنـهُ مـن شـدةِ الـجـــو

سِ كـئيبـاً، فـي الـجـوف مـنـه حـــراره

 

قلـتُ لـمـا رأيتـــهُ نـــاكـــس الـــرأ

ور رأتـهُ عـينـــايَ قـــطُّ بـــحـــاره

 

ويكَ صـبـراً فـأنـتَ مــن خـــير ســـنَّ

ببـيوتٍ قـفـر كـجـوفِ الــحـــمـــاره

 

قال: لا صـبـر لـي، وكـيف مـقـــامـــي

مخـصـبٍ رحـلـهُ عـظـيمِ الـتــجـــاره

 

قلـتُ: سـر راشـداً إلـــى بـــيت جـــارٍ

 

 

وإذا العنكبوتُ تغزلُ في دنىِّ وحبِّي الكوزِ والقرقارَه

بين كـــلـــبٍ. وكـــلـــبةٍ عـــياره

 

وأصابَ الجحامُ كلبي فأضحى

وقال أيضاً:

دُ كـمـا تـجـحـرُ الـكـلابُ ثـعــالـــه

 

ولـقـد قـلـتُ حـين أجـحـرنـي الـبـــر

ليس فـيه إلا الـنـوى والـمــخـــالـــه

 

في بـييتٍ مـن الـغـضــارةىِ قـــفـــر

وطـار الـذبـابُ نــحـــو زُبـــالـــه

 

عطـلـتـهُ الـجـرذان مـن قـلة الـخـــير

جيدة لـمْ يرتـجـينَ مـنـــهُ بـــلالـــه

 

هار بـات مـنـهُ إلـى كـلِّ خـــصـــبٍ

يسـأل الـلـه ذا الـعـلا والـجـــلالـــه

 

وأقـام الـسـنـورُ فــقـــيه بـــشـــرٍ

ناكـسـاً رأسُـهُ لـطـول الــمـــلالـــه

 

أن يرى فـــأرةً، فـــلـــم ير شــــيئاً

س كـئيبـاً يمـشـي عـلـى شـرِّ حـالـــه

 

قلـت لـمـا رأيتـه نــاكـــس الـــرأس

نير، وعـلـلـتـه بـحـسـن مـقــالـــه

 

قلـتُ صـبـراً يا نـازُ رأسَ الــســـنـــا

في قـفـار كـمـثـل بـيد تــبـــالـــه

 

قال: لا صـبـر لـي، وكـيف مـقــامـــي

س ومـشـي فـي الـبـيت مـشـي خَـيَالـه

 

لا أرى فـيه فــأرة أنـــغـــض الـــرأ

ولا تـعـدُ كـربـجَ الــبـــقـــالـــه

 

قلـت: سـر راشـداً فـخـارَ لـك الــلـــه

في نـعـيم مـن عـيشةٍ ومـــنـــالـــه

 

فإذا مـا سـمـعـــت أنَّـــا بـــخـــير

إن مـنْ جـازَ رحـلـنَـا فـي ضــلالـــه

 

فائتـنــا راشـــداً ولا تـــعـــدونـــا

 

 

قال لي قولة: عليك سلامٌ غير لعب منه ولا ببطاله

أخـرجـوه مـن مـحـبـس بـكـفـالـــه

 

ثمَ ولي كأنه شيخُ سوء

وقال أيضاً:

رفـقةً مـن بـعـــد رفـــقـــه

 

نزل الــفـــأرُ بـــبـــيتـــي

نزلـوا بـالـبـيت صَــفـــقـــه

 

حلـقــاً بـــعـــد قـــطـــارٍ

صاعـداً فـي رأس نـــبـــقـــه

 

ابــن عـــرس رأس بـــيتـــي

شقـه مـن ضـلـعِ سـلـــقـــه

 

سيفـــه ســــيفٌ جـــــــديدٌ

فدق الـــبــــاب دقـــــــه

 

جاءنـا يطـــرق بـــالـــلـــيل

لم يدع فـي الـبـيت فِــلْـــقـــه

 

دخـل الـــبـــيت جـــهـــاراً

وصـفـقْ نـازُويه صــفـــقـــه

 

وتـــتـــرسْ بـــرغـــــيف

 

 

صفقة أبصرتُ منها في سوادِ العين زرقه

أغـبـشٌ تـعـلـوهُ بــلـــقـــه

 

زرقة مثل ابنِ عرس

وقال أيضاً:

جفلوا منها خِفَافِـي

 

أخذ الفأرُ برجـلـي

وتبابـينَ ضـعـافِ

 

وسـراويلاتِ سـوء

وبضربٍ بالـدفـافِ

 

درجوا حولي بزفـن

عن هوايَ في خلافِ

 

ساعةً ثمـتَ جـازوا

 

دون أهلي في لحافِي

 

نقروا استي وبـاتـوا

ريحُ مِسك بسـلاَفِ

 

لعقوا استى وقـالـوا

استهلَّت بالـرُّعـافِ

 

صفعوا نازويه حتـى

أحاديث في الفأرة والهرة

يُرْوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: خمسٌ يُورِثْنَ النسيان: أكلُ التفاح، وسُؤر الفأرة، والحِجَامةُ في النقرة، ونبذُ القَمْلة، والبولُ في الماء الراكد.
وابن جُريجٍ قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمعَ جابر بن عبد اللّه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذا رَقَدْتَ فَأَغْلِقْ بابَكَ، وخَمِّر إناءَكَ، وأوْكِ سِقاءَك، وأطْفِئْ مصباحَك؛ فإن الشيطان لا يفتح غَلَقاً ولا يكشف إناءً، ولا يحل وكاءً، وإن الفأرة الفُويسقة تحرِّق على أهل البيت".
قالوا: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في السنانير: "إنهنّ من الطَّوَّافات عليكم"، وفي تفريقه بين سُؤر السِّنَّور وسُؤر الكلب - دليلٌ عَلَى حُبِّه لاتخاذهنَّ، وليْس لاتخاذهنّ وجهٌ إلا إفنَاءَ الفأر وقتلَ الجُِرذان، فكأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أحبَّ استحياءَ السنانير، فقد أحبَّ إهلاك الفأر.
وعن نافع، عن ابن عُمَر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: عُذبتِ امرأةٌ في هرّة سجنتْها - ويقال: رَبَطَتْها - فلم تطْعمها ولم تَسْقها، ولم تُرْسِلْهَا تأكل من خَشَاش الأرض.
وعن أبي سلَمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: دخلَتِ امرأةٌ ممن كان قبلكم النارَ في هرَّة ربطتها، فلا هي أطعَمَتهَا، ولا هي تركتْهَا تُصيب من خِشاش الأرض، حتى ماتت فأدخِلَتِ النارَ، كلما أقبلَتْ نهشَتْهَا، وكلما أدْبرتْ نَهَشَتها.
قال: وذكَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، صاحبَ المِحْجَنِ يجرُّ قُصْبَه في النار حتى قال: وحتى رأيتُ فيها صاحِبةَ الهِرَّةِ التي رَبَطتهَا، فلم تدعْها تأكلُ من خشاش الأرض.

وصف السنور بصفة الأسد

قال ابن يسير في صفة السِّنَّور - فوصفه بصفةِ الأسَد، إلا ما وصفَه به من التنمير، فإن السنوْر يوصفُ بصفة الأسد، إذا أرادوا به الصورةَ والأعضاء، والوثوب والتخَلُّع في المشي، ألا إن في السنانير السودَ والنُّمر والبُلْق، والخلنْجِيَّة، وليس في ألوانِ الأسد من ذلك شيء، إلا كما تروْنَ في النوادر: من الفأرة البيضاء، والفاخِتة البيضاء، والوَرَشَان الأبيض، والفَرَس الأبيض - فقال ابن يسير في دعائهِ على حمام ذلك الجار حين انتهى إلى ذكر السنور:

خطف المؤخر كاملِ التصـديرِ

 

وَخبُعثنٍ في مشيهِ متبـهـنـسٍ

عن كلِّ أعصلِ كالسنانِ هصُور

 

مما أُعِيرَ مفر أغضف ضيغـمٍ

شبت على متنيه بالـتـنـمـير

 

متَسربِلٍ ثوبَ الدُّجى أوْ غبـشةً

محضِ النجارِ مهذبٍ مخبُـورِ

 

يختصُّ كلَّ سليلِ سابـقِ غـايةِ

فزع الناقة من الهر وإذا وصفوا الناقة بأنها رُواع شديدة التفزُّع، لفَرط نشاطها ومَرَحِهَا، وصفوها بأن هِرَّا قد نَيَّبَ في دفِّها، وأكثرُ ما يذكرون في ذلك الهِرّ؛ لأنه يجمعُ العضَّ بالناب، والخمشَ بالمخالب، وليس كل سَبُعٍ كذلك.
وقال ضابئ بن الحارث:

تهاويلَ هِرًّاًَوْ تَـهـاوِيلَ أَخْـيَلا

 

بأدماءَ حُرجُوجٍ ترى تحتَ غَرْزِها

وقد أوس بن حَجَر:

والتَفَّ ديكٌ برجْلَيْهَا وخنزيرُ

 

كأنَّ هرّاً جنيباً تحتَ مَغْرِضها

وقال عنترة:

وَحْشِيِّ من هَزِجِ العَشِيِّ مُؤوَّمِ

 

وكأَنَّما ينأَى بجانبِ دفِّـهـا ال

غَضْبَى اتّقَاهَا باليدين وبالفـمِ

 

هِرٍّ جَنيبٍ كلما عَطَفَـتْ لـه

والفيلُ يفزَعُ من السنَّورِ فزعاً شديداً.

السنور في الهجاء

ومما يقع في باب الهجاء، للسنور، قول عبد اللّه بن عمرو بن الوليد، في أمِّ سعيد بنت خالد:

لِغِزْلانِ الخمائلِ والـبـرَاقِ

 

وما السِّنَّوْرُ في نَفْسِي بأَهـلٍ

ولو أَعْطيْتَ هِنداً في الصَّداقِ

 

فطلِّقها فَلَسْتَ لهـا بـأهْـل

الرجم بالسنانير

قال صاحب الكلب: قالوا: ولما مات القصبيّ - وكان من موالي بني ربيعة بن حنظلة، وهو عمرو القصبي، ومات بالبصرة - رُجم بالسنانير الميّتة، قال: وقد صنعوا شبيهاً بذلك بخالد بن طليق، حين زعم أهله أن ذلك كان عن تدبير محمد بن سليمان.
وقالوا: ولم نر الناس رَمَوْا أحداً بالكلاب الميّتة، والكلابُ أكثر من السنانير حيَّة وميّتة، فليس ذلك إلا لأن السنانير أحقرُ عندهم وأنتن.
استطراد لغوي قال: ويقال للجرذان العِضلان، وأولاد الفأرِ أدراص، والواحد دِرْص، وكذلك أولاد اليرابيع، يقال: أدراص ودُروص، وقال أوسُ بن حَجَر:

بمنعرَج السُّوبان لو يتقصَّع

 

وودَّ أبو ليلى طُفيل بن مالكٍ

قال: واليرابيع ضربٌ من الفأْر، قال: ويقال: نفَّق اليربوع ينفِّق تنفيقاً إذا عمل النافقاء، وهي إحدى مجاحره، ومحافره، وهي النافقاء والقاصعاء، والدَّامَّاء، والراهِطاء، وقال الشاعر:

بِعالمةٍ بأَخْلاقِ الـكِـرامِ

 

فَمَا أُمُّ الـرُّدَيْنِ وَإنْ أدَلَّـتْ

تنفّقْنَاه بالحَـبْـل الـتُّـؤَامِ

 

إذا الشيطانُ قَصَّع في قفَاهَا

فإذا طلِبَ من إحدى هذه الحفائر نافق، أي فخرج النّافقاء، وإن طُلِب من النافقاء قصَّع، ويقال: أنفقته إنفاقاً: إذا صاح به حتى يخرُج، ونَفِقَ هو: إذا خَرَجَ من النافقاء.

احتيال اليربوع

وفي احتيالِ اليرابيعِ بالنافقاء، والقاصِعاء، والدَّامّاء والرَّاهطاء، وفي جَمْعها الترابَ على نفسِ باب الجُحْر، وفي تقدمها بالحيلة والحِراسة، وفي تغليطِها لمن أرادها، والتَّوريةِ بشيء عن شيء، وفي معرفتها بباب الخديعة، وكيف تُوهِم عَدُوّها خلاف ما هي عليه، ثم في وطئها على زمَعاتها، في السهولة وفي الأرض اللينة، كي لا يعرِفَ أثرها الذي يقتَصُّه، وفي استعمالها واستعمال بعض ما يقاربها في الحيلة التوبِير - والتوبير: الوطْء على مآخِير أكفِّها - العجبُ العجيب.
أنفاق الزباء وزعم أبو عَقيل بن دُرُسْت، وشدَّادٌ الحارثيّ، وحسين الزهريّ أن الزباء الروميّة إنما عمِلت تلك الأنفاق التي ذكرها الشاعرُ فقال:

ولم تشعُرْ بأَنَّ لَهَا كمينَـا

 

أقام لها على الأنفاقِ عَمرٌو

على تدبير اليرابيع في محافيرها هذه، ومخارجِها التي أعدَّتها ومداخِلها، وعلى قدر ما يفجَؤُها من الأمر.
وأن أهل تُبَّت والرُّوم، إنما استخرجوا الاحتيال بالأنفاق والمطامير والمخارق على تدبير اليرابيع.
اشتقاق المنافق وإنما سمّى اللّه عزّ وجلّ الكافرَ في باطنه المورِّيَ بالإيمان، والمستتر بخلاف ما يُسِرّ - بالمنافق، على النافقاء والقاصعاء، وعلى تدبير اليربوع في التورية بشيء عن شيء، قال الشاعر:

تنففَّناه بالحَـبْـل الـتُّـؤَامِ

 

إذا الشيطانُ قَصَّع في قَفَاها

وهذا الاسمُ لم يكن في الجاهلية لمن عمِل بهذا العمل، ولكن اللّه عزّ وجلّ اشتق لهم هذا الاسم من هذا الأصل.
كلمات إسلامية وقد علمْنا أن قولهم لمن لم يُحجّ: صَرُورة، ولمن أدرك الجاهلية والإسلام: مخضرم، قولهم وتسميتهم لكتاب اللّه: قرآناً فرقاناً، وتسميتهم للتمسُّح بالتراب: التيمُّم، وتسميتَهم للقاذف ب فاسق - أن ذلك لم يكنْ في الجاهلية.
وإذا كان للنابغة أن يبتدئ الأسماء على الاشتقاق من أصْل اللغة، كقوله:

والنُّؤيُ كالحَوضِ بالمظْلومة الجَلَد

وحتى اجتمعت العَرب على تصويبه، وعلى اتباع أثره، وعلى أنها لغة عربية - فاللّه الذي لهُ أصلُ اللغةِ أحقُّ بذلك.
شعر شمّاخ في الزّموع وذكر شمَّاخُ بنُ ضرار الزَّموع، وكيف تطأ الأرنبُ عَلَى زَمَعاتها لتغالِطَ الكِلاب وجميعَ ما يطالبها - فذكر بديئاً شأْن العَيرِ والعانة، فقال:

مكان الرُّمح من أنف القَدُوعِ

 

إذا ما اسْتافَهُنَّ ضَرَبْنَ منـهُ

بما قد كان نالَ بلا شـفـيعِ

 

وقد جعَلتْ ضَغَائِنهنّ تـبـدُو

وهُنَّ بِعَينِ مُرْتَقِبٍ تَـبُـوعِ

 

مُدِلاَّتٍ يُرِدْنَ النّـأيَ مـنـه

ثم أخذ في صفة العُقاب، وصار إلى صفة الأرنب فقال:

 

عِصِىُّ جناحِ طالبةٍ لَمُوعِ

 

كأنَّ مُتُونَهُـنَّ مـولِّـياتٍ

غريضَ اللّحمِ عن ضرمٍ جَزوعِ

 

قليلاً ما تريث إذا اسـتـفـادتْ

 








ثم قال:

تجرُّ برأسِ عكرشةٍ زموعِ

 

فما تنفكُّ بين عويرضـاتٍ

على خزانِ قارتاتن الجوعِ

 

تطاردُ سيد صاراتٍ، ويوماً

كما لاذ الغريمُ من التبـيعِ

 

تلوذ ثعالبُ الشرفينِ منهـا

إلى فرخين في وكر رفيع

 

نماها الغزُّ في قطن، نماها

جماجمهنَّ كالخشل النزيعِ

 

ترى قطعاً من الأناش فيها

والزَّموع: التي تمشي على زَمعاتها: مآخير رِجْليها قال أبو المفضل: توبِّر بيديها، وتمشي عَلََى زَمَعاتها عَلَى رجليها، وهي مواضع الثُّنَن من الدوابِّ، والزَّمَعِ المعلَّقِ خلفَ الظِّلف من الشاة والظبي والثور، قال: وكل ذلك توْبير، وهو أن تطأ عَلَى مآخير قوائمها، كي لا يعرفَ أثرها إنسانٌ ولا كلب.
وذكر أنها تطاردُ ذئباً مرّةً، وخُزَزاً مرةً، وهو الذَّكر من الأرانب؛ والعِكْرِشة: الأنثى، والخِرْنِق: ولدها، فإذا قلتَ أرنب، أو عُقاب فليس إلا التأنيث، هذه العُقاب، وهذه الأرانب، إلا أن تقول: خزَز.
وقطَن: جَبَل معروف، والأحناش: الحيات، وأحناش الأرض:الضبّ، والقنفذ، واليربوع، وهي أيضاً حشرات الأرض، فجعل الحيةَ حنشاً على قولهم: قد آذَتْني دوابُّ رأسي: يعنون القمل؛ وعلى قوله تعالى: "مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلا دَابَّة الأرضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ".
قال أبو المفضَّل العنبري: ما أراد إلا الحيّات بأعيانها في هذا الموضع، فإن العِقبان أسرعُ إلى أكل الحيّات، من الحيّات إلى أكل الفأر.
ويدلُّ على أنه إنما أراد رؤوسَ الحيَّات بأعيانِها، قوله:

جَمَاجِمُهُنَّ كالخَشَلِ النزيعِ

 

ترَى قِطعاً من الأحناش فيها

لأن أرؤُسَ الحياتِ سخيفةٌ، قليلة اللّحم والعظام، فلذلك شبَّهها بالخَشَل النزيع، والخشل: المُقْل السخيف اليابس الخفيف.
شعر فيه ذكر المقل والحتيّ قال خلف الأحمر:

على ما كان من مطل وبخلِ

 

سقى حجاجنا نـوء الـثـريا

وسدوا دونها باباَ بـقـفـلِ

 

هم جمعوا النعالَ فأحرزوها

وعشر دجائجٍ بعثوا بنـعـلِ

 

إذا أهديت فـاكـهةً وشـاةً

وعشر من رديِّ المقلِ خشل

 

ومسواكينِ طولهـمـا ذرَاعٌ

عَلى نَعْل فدقَّ الله رجلـي

 

فإن أهديتُ ذاك ليحملـونـي

تغيمُ سماؤهم من غير وبـلِ

 

أناسٌ تائهـونَ، لـهـم رواءٌ

ولكنْ الفعالَ فعالُ عـكـلٍ

 

إذا انتسبوا ففرعٌ من قُـريش

والحَتِيّ، المقلُ عَلَى وجهه، وقال أبو ذؤيب:

قِرْفَ الحتيِّ وعندي البُرُّ مكنوز

 

لا دَرَّ درِّيَ إن أطعمتُ نازلَهـمْ

للسنور فضيلة على جميع أصناف الحيوان ما خلا الإنسان

وإذا قال القائل: فلانٌ وضعَ كتابًاًفي أصناف الحيوان - فليس يدخل فيها الملائكةُ والجنُّ، وعلى هذا كلام الناس.
وللحيوان موضع آخر، وهو قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: "وَإنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهيَ الحَيَوانُ".
قد علمْنا أن العُجْم من السِّباع والبهائم، كلما قرُبت من مُشاكلَة الناس كان أشرف لها والإنسان هو الفصيح وهو الناطق.
إطلاق الناطق على الحيوان وقد يشتقُّون لسائر الحيوان الذي يُصَوِّتُ ويصيح، اسم الناطق إذا قرنوه في الذكر إلي الصامت، ولهذا الفرق أعطوه هذه المشاكلةَ، وهذا الاشتقاق، فإذا تهيأ من لسانِ بعضها من الحروف مقدارٌ يَفضُلُ به عَلَى مقادير الأصناف الباقية، كان أولى بهذا الاسم عندهم،فلما تهيأ للقَطاةِ ثلاثة أحرف قاف، وطاء، وألف، وكان ذلك هو صوتها، سمَّوها بصوتها، ثم زعموا أنها صادقةٌ في تسميتها نفسها قطا، قال الكمِيت:

تِ الواسقاتِ مِنَ الذَّخائرْ

 

كالناطقات الـصـادقـا

وقال الآخر وذَكرَ القطاة:

طُرُوقًاًوباقي الليل في الأرض مُسْدِفُ

 

وصادقةٍ قد خَبّرَتْ ما بـعَـثـتْـهـا

فجعلها مُخْبِرة، وجعل خبرها صدقًا، حين زعمتْ أنها قطًا؛ وإنه كانت القطاة لم تَرُمْ ذلك.
والعرب تتوسع في كلامها، وبأي شيء تفاهَم الناسُ فهو بيانٌ، إلا أن بعضه أحسنُ من بعض،  والذي تهيأ للشاةِ قولها: ما، ولذلك قال ذو الرُّمة:

داعٍ ينايه باسم الماء مبغُـومُ

 

لا يرفعُ الصَّوْتَ إلا ما تخوّنه

وقال أبو عبَّاد النميريّ لخربَق العُمَيري، وكان يتعشَّقه ورآه قد اشترى أُضْحِىةَ، فقال:

فعلْتَ فعل الجفاه

 

يا ذابح المـاه مـاه

تِ يا خريبق شـاه

 

أما رَحِمْتَ مِنَ المو

والصبيان هم الذين يسمون الشاة: ماه، كأنهم سموْها بالذي سمعوه منها، حينَ جهلوا اسمها.
وقيل لصبي يلعب على بابهم: من أبوكَ يا غلام? وكان اسم أبيه كلبًاً- فقال: وَوْ وَوْ.
وزعم صاحبُ المنطق، أن كل طائر عريض اللسان، والإفصاح بحروف الكلام منه أوجَد.
ولابن آوى صياح يشبهُ صياحَ الصبيان، وكذلك الخنزير، وقد تهيأ للكلب مثلُ: عَفْ عَفْ، ووَوْ وَوْ، وأشباه ذلك، وتهيَّأ للغراب القاف، وقد تهيَّا للهزاردَسْتان - وهو العندليب - ألوانٌ أُخر، وقد تهيَّأ للببغاء من الحروف أكثر، فإذا صرْتَ إلى السنانير وجدتها قد تهيَّأ لها من الحروفِ العددُ الكثير، ومتى أحبَبتَ أن تعرِفَ ذلك فتسمّعْ تجاوُبَ السنانيرِ، وتوعُّدَ بعضها لبعض في جوف الليل، ثم احصِ ما تسمعه وتتبَّعْه، وتَوَقَّفْ عنده، فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقولِ والاستطاعات؛ ثمّ ألّفَتْهَا لكانت لغة صالحة الموضع، متوسِّطة الحال، العلة في صعوبة بعض اللغات واللغاتُ إنما تشتدُّ وتعسُرُ عَلَى المتكلم بها؛ عَلَى قدْر جهله بأماكنها التي وَُضعت فيها، وعَلَى قدْر كثرةِ العدد وقلَّته، وعلَى قدْر مخارجها، وخفَّتها وسَلَسهَا، وثقلها وتعقُّدِها في أنفسها، كفرق ما بين الزِّنجي والخُوزي فإن الرجل يتنخَّس في بيع الزّنج وابتياعهم شهراً واحداً فيتكلَّمُ بعامّة كلامِهم، ويبايع الخُوزَ، ويجاورُهم زمانًاًفلا يتعلَّق منهم بطائل.
والجملة: أنَّ مِنْ أعْوَنِ الأسباب عَلَى تعلُّم اللغة فرط الحاجةِ إلى ذلك، وعلى قدْر الضرورة إليها في المعاملةِ يكونُ البلوغُ فيها، والتقصير عنها.
مناسبة الهر للإنسان والسنور يناسبُ الإنسان في أمور: منها أنه يعطِسُ، ومنها أنه يتثاءَب، ومنها أنه يتمطَّى ويغسل وجهه وعينَيه بلعابه، وتلطع الهرّةُ وبرَ جلدِ ولدِها بعد الكبر، وفي الصغر، حتى يصير كأن الدهان تجري في جلده.
ما يتهيأ للغربان من الحروف ويتهيأ لبعض الغِرْبان من الحروف والحكايةِ ما لا يَعْشِره الببغاء.

نفع الفأر

وزعمت الأطباء أن خُرْءَ الفأر يُسقاهُ صاحبُ الأسر فيُطْلَق عن بوله، والأسر هو حُصر البول ولكن لا يسمّى بذلك، وهو الأسر بالألف، دون الياء.
ويصيب الصبيَّ الحُصر فيحتمل من خرْء الفأر فيُطْلق عنه، فقد تهيأ في خرء الفأر دواءان لداءين قاتلين مجْهزين، ولذلك قيل لأعرابيّ قد اجتمعتْ فيه أوجاعٌ شداد: أيَّ شيءٍ تشتكي? قال: أمّا الذي يعْمدني فحُصرٌ وأُسْر.

استطراد لغوي

يقال: خَثَى الثور يَخْثي خثْيًا، وواحد الأخثاء خِثْيٌ كما ترى.
ويقال: خَزق الطائر، وذَرَق، ومَزق، وزَرق.
قال ابنُ الأعرابيّ: لا يكون النّجوُ جََعرًاًحتى يكون يابساً.
ويقال: ونَم الذُّبابُ، واسم نجوِه: الونيم، وقال الشاعر:

كأنَّ ونِيمهُ نَقْط المِـدَادِ

 

وقد وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتى

وهو ونِيم الذُّباب، وعُرَّة الطائر، وصوم النّعام، ورَوث الحمار وبعر البعير والشاةِ والظبي، وخِثي البقر.
وقال الزُّبير: منْ أهْدَى لَنَا مِكْتلاً من عُرَّةٍ أّهدَيْيَا لهُ مِكْتَلاً منْ تمر.
قال: العرَّة اسمٌ لجميعِ ما يكونُ من جميعِ الحيوان، ولذا قال الزبيرُ ما قال.
قال: ويقال: رَمَصَت الدجاجة، وذرقت، وسَلَحت، فرذا صاروا إلى الإنسان والفأرة قالوا: خرء الإنسان وخُرء الفأرة، ويقال خروءة الفأرة أدخلوا الهاء، فيه، كما قالوا ذكورة للذُّكران، وقد يُستعار ذلك لغير الإنسان والفأرة، قالت دَخْتَنُوس بنتُ لقيط بن زُرارة، في يوم شِعب جَبَلة:

ءَ الطَّير عن أربابها

 

فرّت بنو أسَدٍ خـرو

فلذلك يقال لبني أسد: خروء الطير، وقيل لهم: عبيد العَصَا.
ببيت قاله صاحبهم بشر بن أبي خازم، قالها لأوس بن حارثة:

سوى سَيب سُعْدَى إنّ سَيْبَكَ واسعُ

 

عَبيدُ العَصَا لـمْ يَتَّـقُـوكَ بـذمةٍ

ميسم الشعراء

فيحبُ على العاقل بعدَ أن يعرف مِيسم الشِّعرُ مَضَرّتَه، أن يتَّقِي لسانَ أخسِّ الشُّعراء وأجهلهم شِعراً بشِطْر ماله؛ بل بما أمكَن من ذلك، فأما العربيُّ أو المولى الرَّاوية، فلو خرجَ إلى الشعراء من جميع مِلكه لما عنّفْتُه.
والذي لا يكثرث لوقْع نِبَال الشعر، كما قال الباخَرْزيّ:

نَ ويستَمْتعـون بـالـنَّـشَـبِ

 

ما لي أرَى الناسَ يأخُذُونَ ويُعطُو

تشكو جراحاتِ ألْسُنِ الـعَـرَبِ

 

وأنتَ مثلُ الحـمـار أبـهَـمُ لا

ولأمر مّا قال حذيفةُ لأخيه، والرماحُ شوارعُ في صدره: إياك والكلاَمَ المأثور.
وهذا مذهبٌ فَرَعتْ فيه العربُ جميع الأمم، وهومذهبٌ جامع لأسباب الخير.

استطراد لغوي

قال: ويقال لموضع الغائط: الخَلاء، والمذْهب، والمخْرَج، والكنيفُ والحُشُّ، والمرحاض، والمِرْفق.
وكل ذلك كناية واشتقاق، وهذا أيضًاًيدلك على شدة هربهم من الدناءة والفُسولة، والفحْش والقذَع.
قال: وعن اليزيديّ: رجع الرجُلُ، من الرجيعِ.
وخبرني أبو العاص عن يونس، قال: ليس الرجيع إلا رجيعَ القول والسَّفر والجِرَّة، قال اللّه تعالى: "والسّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ" وقال الهذليُّ وهو المتنخِّل:

ما ثاخ في مُحْتَفَلٍ يَخْتلي

 

أبيضَ كالرّجْعِ رسوبٌٍ إذا

وفي الحديث: فلما قدِمنا الشامَ وجدْنا مرافقهم قد استُقْبلَ بها القِبْلة، فكنَّا ننحَرِف ونستغفرُ اللّه،

شعر ابن عبدل في الفأرة والسنَّور

وقال ابن عَبدَل في الفأرة والسنَّور:

بسجالي من سيبك المقسوم

 

يا أبا طلحةًَ الجوادَ أغثـنـي

مفلسٌ قد علمتَ ذاك عـديم

 

أحي نفسي فدتك نفسي فإني

أجرُه إن فعلتَ ذاك عظـيمْ

 

أو تطوعْ لنا بسلـفِ دقـيق

ما قضى الله في طعام اليتيم

 

قد علمتُم فلا تعامس عنِّـي

أراد: لا تعامَسُوا، فاكتفى بالضمة من الواو، وأنشد:

 

وكان مع الأطـبـاء الأسـاة

 

فلو أنَّ الأطبَّاء كـان حـولـي

 

وكتابٍ منمنـمٍ كـالـوشـوم

 

ليس لي غيرُ جرة وأصـيص

 

قد رقعنـا خـروقـه بـأديمْ

 

وكسـاء أبـيعـه بـرغـيفٍ

 

هو لحافٌ لكلِّ ضيف كـريمْ

 

وإكـاف أعـارنـيه نَـشِـيطٌ

 

يذر الشيخَ رمحـه مـا يقـومْ

 

ونبيدٍ مـمـا يبـيع صُـهـيبٌ

 

ولحافي حتى يغورَ النـجـومْ

 

ربِّ حلا فقد ذكرتُ أصيصـي

 

ذاك قسمٌ عليهـمُ مـعـلـومْ

 

كل بيت عليه نصـفُ رغـيف

 

ولقد كان سـاكـنـاً مـا يريمْ

 

فر منه مولـيا فـارُ بـيتـي

 

لا تليحُوا شيوخَكم في السَّمـومْ

 

قلتُ: هذا صومُ النصارى فحلوا

 

أهو الحقُّ كـلَّ يومٍ تـصُـومْ

 

ضحكَ الفأرُ ثم قلن جـمـيعـاً

 

ناسِ بإذنٍ وأنتَ فـينـا ذمـيمْ

 

قلتُ: إن البراء قد قامَ فـي ال

 

وقـراد مـخـيس مـزمُـومْ

 

حملوا زادهم على خنفـسـات

 

علموه بعد النفـار الـرسـيمْ

 

وإذا ضفـدعٌ عـلـيه إكـاف

 

يا لقومي لأنفِه المـخـطُـومْ

 

خطموا أنفهُ بقطـعة حـبـل

 

يا لقومي لبيتـيَ الـمـهـدومْ

 

تصبُوا منجنيقهم حولَ بـيتـي

 

قائمٌ فوقَ بـيتـنـا بـقـدومْ

 

وإذا في الغبـاء سـمُّ بُـرَيص

 

كان قدماً لجمعكم مـعـلـوم

 

قلتُ: بيتُ الجرينِ مجمعُ صدق

 

مسكناً تحتَ تمرهِ المـركـوم

 

قلنَ: لولا سنورتاهُ احتـفـرنـا

 

تذرانا وجمْعُنـا كـالـهـزيمْ

 

إن تُلاقِ سنـورَتَـاهْ فـضـاءً

 

إن ذا من رَزِيتي لـعـظـيم

 

عششَ العنكبوت في قعر دنـى

 

أبصرَ العنكبوتَ فـيه يعـومْ

 

ليتني قد غمرت تدنى حـتـى

 

زبدٌ فـوقَ رأسـهِ مـركـوم

 

غرقاً لا يغـيثـه الـدهـرَ إلا

أنْ أغثني فإنني مظلوم

 

مخرجاً كفه ينادي ذبابـاً

 

من نبيذ يشمه المزكـوم

 

قال ذرني فلنْ أطيقَ دنواً

 








وقال في الفأر والسنور:

قد كان عضباً مقوهاً لسنا

 

قد قثال سنورنا وأعـهـدهُ

لحنطت واشترى لها كفنَا

 

لو أصبحت عندنا جنازتهـا

فيهم كريبٌ يبكي وقام لنا

 

ثم جمعنْا صحابتي وغـدوا

كانت لجرذانِ بيتنا شحنـا

 

كلُّ عجوزٍ حلو شمائلـهـا

أو جرذٍ ذي شوارب أرنا

 

من كلِّ حدباء ذاتِ خشخشةٍ

كانت لميثاء حقبةً سكـنـا

 

سقياً لسنورِة فجعتُ بـهـا

ضروب الفأر

قال: والفأر ضروب: فمنها الجُرذان والفأر المعروفان، وهما كالجواميس والبقر، وكالبُخْت والعِراب، ومنها الزباب، ومنها الخُلدْ، واليرابيع شكلٌ من الفأر، اسم ولدِ اليربوع دِرص، مثل ولد الفأر.
ومن الفأْر فأرةُ المِسك، وهي دويْبةٌ تكونُ في ناحية تُبّت، تصادُ لنوافجها وسُرَرِها، فإذا اصطادها صائدٌ عصَب سُرّتَها بعصاب شديد، وسُرّتها مدلاة، فيجتمع فيها دمها فإذا أحكَم ذل ذبحها.
وما أكثَر من يأكلها - فإذا ماتت قوّر السرةَ التي كان عصبَها له والفأْرة حيّة، ثم دفنها في الشعير حتى يستحيلَ ذلك الدمُ المحتقِنُ هناك، الجامدُ بعد موتها، مِسكاً ذَكياً، بعد أن كان ذلك الدَّمُ لا يُرام نَتْناً.
قال: وفي البيوت أيضاً قد يوجد فأْرٌ مما يقال له: فأْر المسك، وهي جرذانٌ سودُ ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمةُ له.
قال: وفي الجِرذان جنْسٌ لها عبثٌ بالعقود والشُّنوف، والدراهم والدنانير، على شبيه بالذي عليه خُلُق العَقعَق؛ إلا أن هذه الجرذان تفرح بالدنانير والدراهم، وبخشخاش الحلي، وذلك أنها تخرجُها من حجورها في بعض الزمان، فتلعب عليها وحواليها، ثم تنقلها واحداً واحداً، حتى تُعيدَها عن آخرها إلى موضعها.
فزعم الشَّرقيُّ بنُ القُطاميّ - وقد رَوَوْهُ عن شَوكَر أن رجلاً من أهل الشام اطَّلع على جُرُذ يُخرجُ من جُحره ديناراً ديناراً، فلما رآه قد أخرج مالاً صالحاً استخفَّه الحِرصُ، فهمّ أن يأخُذَهُ، ثم أدركه الحزْم، وفتح له الرزقُ المقسوم باباً من الفطنة، فقال: الرأيُ أن أمْسِك عن أخذه ما دامَ يخرجُ، فإذا رأيتُهُ يُدخِلُ فعند أَوَّلِ دينار يغيّبه ويُعيده إلى مكانه أثِبُ عليه، فأجترفُ المال.
قال: ففعلتُ وعدتُ إلى موضعي الذي كنتُ أراه منه، فبينما هو يُخْرجُ إذ ترك الإخراج، ثم جعل يرقصُ ويثبُ إلى الهواء، ويذهبُ يَمنة ويَسرةً ساعة، ثم أخذ ديناراً فولَّى به، فأدخله الجُحر، فلما رأيتُ ذلك قمتُ إلى الدنانير فأخذتها، فلما عادَ ليأخذَ ديناراً آخر فلم يجد الدنانير أقبل يثبُ في الهواء، ثم يضربُ بنفسه الأرضَ، حتى مات.
وهذا الحديثُ من أحاديثِ النساء وأشباه النساء.

باب آخر يدَّعونه للفأْر

وهو الذي ينظر فيه أصحاب الفِراسة في قرض الفأر، كما ينظر بعضهم في الخيلان، وفي الأكتاف، وفي أسرار الكفّ: ويزعمون أنَّ أبا جعفر المنصور نزلَ في بعض القُرَى، فقرض الفأْرُ مِسْحاً له كان يجلسُ عليه، فبعث به ليُرفَأَ، فقال لهم الرفَّاء: إنَّ هنا أهل بيتٍ يَعْرفون بقَرضِ الفأْر ما ينال صاحب المتاعِ من خير أو شر، فلا عليكم أن تعرضوه عليهم قبل أَن تصلحوه، فبعث المنصورُ إلى شيخهم، فلما وقعت عينُه على موضعِ القرضِ وثَب وقام قائماً ثم قال: مَن صاحبُ هذا المِسح? فقال المنصور: أنا، فقام ثم قال: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةَ اللّه وبركاتُه واللّه لَتَلِيَنَّ الخِلافة أو أكون جاهلاً أو كذاباً.
ذكر هذا الحديث عَمرو بن مجمِّع السَّكوني الصَّرِيمي وقد قَضَى على بعض البلدان.

فأرة المسك

وسأََلت بعضَ العطارين من أصحابِنا المعتزلةِ عن فأْرةِ المسكِ فقال: ليس بالفأْرة، وهو بالخِشف أشبه، ثم قصَّ عَلَيَّ شأْن المسك وكيف يُصْطنع، وقال، لولا أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قد تطيَّب بالمِسْكِ لَمَا تطيّبْت به، فأَمَّا الزبادُ فليس مما يقرب ثيابي منه شيء. قلت له: وكيف يرتَضِع الجديُ من لَبَنِ خنزيرة فلا يحرمُ لحمه? قال: لأنَّ ذلك اللبن استحال لحماً، وخرجَ من تلك الطبيعة، ومن تلك الصورة، ومن ذلك الاسمِ، وكذلك لحومُ الجلاَّلة، فالمسكُ غيرُ الدَّم، والخَلُّ غير الخمر، والجوهرُ ليس يحرُم بعينه، وإنما يحرم للأعراض والعِلَل، فلا تَقَزَّزْ منه عند تذكرك الدَّم الحقين؛ فإنه ليس به، وقد تتحوَّل النار هواءً، والهواءُ ماءً، فيصير الشبه الذي بين الماء والنار بعيداً جدّاً.

بيت الفأر

والجِرذانُ لا تحفِرُ بيوتها على قارعةِ طريقِ، وتجتنبُ الخفض؛ لمكان المطَر، وتجتنبُ الجوَادَّ؛ لأن الحوافر تهدمُ عليها بيوتها، فإذا أخرجها وقعُ حافر فرس، مع هذا الصَّنيع، دلّ ذلك على شدة الجري والوقع، وقال امرؤ القيس يصفُ فرسَه:

وللزجرِ منه وقعُ أهوَجَ منـعـبِ

 

فللسوطِ ألهـوبٌ ولـلـرجـل درةٌ

يدرُّ كخُذْرُوفِ الوليد الـمـثـقـبِ

 

فأدرك، لَمْ يعرق مـنـاطُ عـذارهِ

إلى جَدَدِ الصحراء من شدِّ مُرَكـبِ

 

ترى الفأر في مستعكد الأرضِ لاجثاً

خفاهُنَّ: أظهرهنَّ، وقرأ بعضهم: "إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أَخْفِيها"، بفتح الألف؛ أي أظهرها، وقال امرؤ القيس:

وإن تبعثوا الحربَ لا نقعُدِ

 

فإن تَدْفِنُوا الداءَ لا نخْفِـهِ

وقال أعرابيّ: إن بني عامرٍ جَعَلَتنِي على حنديرة أعينُها، تريد أن تختفيَ دمي.
استطراد لغوي وقال أبو عبيدة: أربعة أحرف تهمزُها عُقَيل من بين جميع العرب، تقول: فأرة، ومُؤْسَى، وجُؤْنة، وحُؤت.
فأصناف ما يقع عليه اسمُ الفأرة: فأرة البيش، وفأرة البيت، وفأرة المِسْك، وفأرة الإبل، وفي فأرة المسك يقول حُمَيْدٌ الأرقَط:

ذا أرَجٍ شُقِّقَ عنه الفـأْرُ

 

مَمْطورَة خالَطَ منها النَّشْرُ

وفي فأرة الإبل قال الشاعر:

إذا بدا من ضياء الصُّبح تبشيرُ

 

كأَنّ فأرةَ مِسْك في مباءتـهـا

وهذا شبيهٌ بالذي قال الراعي - وليس به -:

بأَحْقَفَ من أنقاء تُوضِحَ هائلِ

 

تبيتُ بناتُ القَفْر عند لَبَـانِـهِ

جَذِيّةَ مِسكٍ في مُعَرَّس قافِلِ

 

كأَن القِطارَ حرَّكتْ في مَبِيته

الأصمعي وأبو مهدية قال الأصمعيّ: قلت لأبي مهدية: كيف تقول: لا طيبَ إلا المِسْك? قال: فأين أنتَ من العنبر? قال: فقلت: لا طيب إلا المسك والعنبر، قال: فأَين البان? فقلتُ: لا طيب إلا المسك والعنبر والبان، قال: فأَين أنت عنْ أدهان بحَجْر? قال: فقلت: لا طيب إلا المسك، والعنبر، والبان، قال: فأين أنت عن أدهان بحجرْ? قال: فقلت: لا طيب إلا السك، والعنبر، والبان، وأدهان بحَجْر، قال: فأَين فأْرة الإبل صادرة? قال الأصمعيّ: وفأْرة الإِبل.

فأرة البيش والسمندل

وفأْرة البيش دوْيَّبة تغْتذِي السُّمومَ فلا تضرها، والبِيش سمّ، وحكمه حُكم الطائر الذي يقال له: سَمَنْدَل؛ فإنه يسقُط في النار فلا يحترق ريشَه.
ما لا يقبل الاحتراق ونُبِّيت عن أمير المؤمنين المأْمون أنه قال: لو أُخِذَ الطُّحْلَب فجفف في الظِّلِّ، ثم أسقِطَ في النِّيران لم يحترق.
ولولا ما عاينوا من شأْن الطَّلَق والعُود الذي يُجاء به من كَحِرْ لاشتدَّ إنكارهم.
وزعم ابن أبي حرب أن قَيسّاً راهنَ عَلَى أن الصليبَ الذي في عُنقه من خشبٍ، أنه لا يحترق؛ لأنه من العود الذي كان صُلب عليه المسيح، وأنه كان يفْتن بذلك ناساً من أَهل النظر، حتى فطن له بعضُ المتكلمين، فأَتاهم بقطعة عودٍ يكون بكِرمان، فكان أبقى عَلَى النار من صليبه.

مساوي السنانير

قال صاحب الكلب: والسنور لصٌّ لئيم، وشَرِهٌ خَؤُون، فمن ذلك أن صاحب المنزل يرمي إليه ببعض الطعم، فيحتملُه احتمالَ المُريب، واللصِّ المغير، حتى يُولج به خَلْفَ حُبّ أو رَاقود، أو عِدْلٍ أو حطب، ثم لا يأْكله إلا وهو يتلفَّت يميناً وشمالاً، كالذي يخافُ أن يُسْلَبَ ما أُعطيَ، أو يُعْثَرَ على سَرِقته فيعاقَب، ثم ليس في الأرض خِبْثَةٌ إلا وهو يأْكلها، مثل الخنافس والجِعْلان، وبناتِ وَردان، والأوزاغ، والحيّاتِ، والعقاربِ، والفأْر، وكلِّ نتن وكل خبْثة، وكلِّ مستقذَر. وهذه الأنعامُ تدخل الغيض، فتجتنبُ مواضع السمومِ بطبائعها، وتتخطاها ولا تلتفت لِفْتها، وربما أشكل الشيءُ على البعير، فيمتَحِنُه بالشَّمة الواحدة، فلا تغلط الإبلُ إلا في البيش وحده، ولا تغلط الخيل إلا في الدِّفلى وحدَه.
والسنانيرُ تموت عن أكْل الأوزاغ والحيّات والعقارب، وما لا يحصى عدده من هذه الحشرات، فهذا يدلُّ عَلَى جهل بمصلحةِ المعاش، وعَلَى حسٍّ غليظ وشَرَهٍ شدِيد.
هَيْج الحيوان قالوا: وكل أنثى من جميعِ الحيوانِ، ما خلا المرأةَ، فلا بدَّ لها من هَيج في زمان معلوم، ثم لا يُعْرف ذلك منها وفيها إلا بالدلائل والآثار، أو ببعض المعاينة.
وإناثُ السنانير، إذا هجن للسِّفاد، آذَيْن بصياحهنَّ أهلَ القبائل ليلاً ونهاراً، بشيء ظاهر قاهر عليّ، لا يعتريهن فَترةٌ ولا مَلالةٌ ولا سآمة، فربَّ رجُل حُرٍّ شديدِ الغَيرة، وهو جالسٌ مع نسائه وهُنَّ يتردّدْن عَلَى مثل هذه الهيئة، ويصرُخْن في طلب السِّفاد، فكم من حرة قد خجِلت، وحُرّ قد انتقضت طبيعته.
وليس لشيء من فحولتها مثلُ ذلك، فكل جنس في العالم من الحيوان فذكورته أظهر هيجاً، إلا السَّنانير.
وليس لشيء من فحولة الأجناس مثلُ الذي للجمل من الإزباد، وهِجْران الرَّعْي، وتركِ الماء، حتى تنضمَّ أياطله، ويتورَّمَ رأسُه، ويكون كذلك الأيامَ الكثيرة، وهو في ذلك الوقت لو حُمِّل على ظهره - مع امتناعه شهراً من الطعام - ثلاثةَ أضعافِ حِمْله لحملَهَا.
المكي وإسماعيل بن غَزْوان ونظر المكيّ إلى جمل قد أزبدَ وتلغّم، وطار على رأسه منه كشقَق البِرْسِ، وقد زمّ بأنْفه، وهو يهدر ويقبقب، لا يعقل شيئاً إلا ما هو فيه، فقال لإسماعيل بن غزوان: واللّه لودِدْت أن أهل البصرةِ رأوني يوماً واحداً إلى الليل عَلَى هذه الصفة، وأَنِّي خرجتُ من قليلِ مالي وكثيره فقال له إسماعيل: وأي شيء لك في ذلك? قال: كنت واللّه لا أصبح حتى يوافِيَ داري جميعُ نساء أهل البصرة، وجَواريكَ فيهنَّ فلا أبدأ إلا بهنّ قال إسماعيل: إنك واللّه ما سبقتَني إلا إلى القول، وأما النية والأمْنيَّة فأنا واللّه أتمَنَّى هذا منذ أنا صبِيٌّ.
حال بعض الحيوان عند معاينة الأنثى وللحمار والفرَس عندَ معايَنَةِ الحِجْر والأتان هَيْجٌ وصياحٌ، وقلق وطلب، والجملُ يقيم على تلك الصِّفةِ عاين أو لم يعاين، ثم يُدنى من هذه الذُّكورة إناثُها فلا تسمحُ بالإمكان إلا بعد أن تسوَّى وتُدَارَى.

مقارنة بين السنور والكلب

قالوا: والسنانير إذا انتقل أربابها من دارٍ إلى دارٍ، كان وطنُها أحبَّ إليها منهم، وإن أثبَتت أعيانهم، فإن هم حوّلوها فأنكرت الدار لم تقِمْ عَلَى معرفتهم، فربما هربت من دارهم الحادثة ولم تعرف دارَهم الأولى، فتبقى متردِّدة: إما وحْشية، وإما مأخوذةً، وإما مقتولة.
والكلب يخلِّي الدار، ويذهب مع أهل الدار، والحمام في ذلك كالسنور.

اختلاف أثمان السنور

قال صاحب الكلب: السنور يسوَى في صغره دِرهماً، فإذا كبر لم يَسْوَ شيئاً، وقال العمّيّ:

سَفاهاً وما قد رِدْتَ فيهِ بإفراطِ

 

فإنَّكَ فيما قد أَتَيْتَ من الْخَـنَـا

صغيراً فلمّا شَبَّ بِيعَ بقـيراطِ

 

كسِنَّوْرِ عَبْدِ اللّه بِيعَ بـدِرْهَـمٍ

وصاحب هذا الشعر، لو غَبرَ مع امرئِ القيس بن حُجْر والنابغةِ الذُّبياني، وزهير ابن أبي سُلْمَى، ثم مع جرير والفرزدق، والراعي والأخطل، ثم مع بشار وابن هَرْمة، وابن أبي عُيينة، ويحيى بن نوفل وأبي يعقوب الأعور، ألف سنة - لما قال بيتاً واحداً مرضياً أبداً.
وقد يضاف هذا الشعر إلى بشَّار، وهو باطل.
حُلاق الحيوان وزعم لي مَنْ لا أردُّ خبرَه، أن الحُلاقَ قد يَعرض للسنانير، كما يعرِض للخنازير والحمير.
وزعم لي بعضُ أهلِ النظر، أنّ الزِّنج أشبهوا الحميرَ في كلِّ شيء، حتى في الحُلاق؛ فإنه ليس على ظهرها زنجيٌّ إلا وهو حَلَقيّ.
وقد غلط، ليس عليها زنجيٌّ عليه مَؤُونة من أن يُنَاك، وليس هذا تأويلَ الحُلاق، وتأويلُ الحُلاق أن يكون هو الطالب.
والنبيذ يهتِكُ ستر الحَلَقيّ، وينقُضُ عزْم المتجَمِّل، وهم يشربون النبيذ أبداً، وسوءُ الاحتمال له، وسرعة السكْر إليهم عامٌّ فيهم. وعندنا منهم أممٌ، فلو كان هذا المعنى حقّاً لكان علمُه ظاهراً، فخبَّرني صاحبُنَا هذا أن في منزل أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكِنْدي هرّين ذكرَين عظيمين، يكومُ أحدُهما الآخَر، وذلك كثيراً ما يكون، وأن المنكوحَ لا يمانعُ الناكحَ، ولا يلتمسُ منه مثلَ الذي يبذله له.

أكل الهرة أولادها

قالوا: والهرة تأكل أولادَها، فكفاك بهذه الخصْلة لُؤْماً وشَرَهاً، وعُقوقاً وغِلظَ قلب! وقال السيِّد الحميريِّ - وذكر مَسيرَ عائشة، رضي اللّه تعالى عنها، إلى البصرةِ مع طلحةَ والزُّبير، حينَ شهِدَتْ ما لم يشهَدَا، وأقدمت على ما نكَصا عنه:

تُزْجي إلى البَصرةِ أجنادَها

 

جاءت مع الأشقَينَ في هَودجٍ

تُرِيد أن تـأكـلَ أولادهـا

 

كأَنَّها في فِعْـلِـهَـا هِـرَّةٌ

ولبئس ما قال في أُمِّ المؤمنين وبنت الصدّيق وقد كان قادراً على أن يوفِّر على عليٍّ - رضي اللّه عنه - فضْله، من غير أن يشتُم الحَوَارِيِّينَ، وأُمّهَاتِ المؤمنين، ولو أراد الحقَّ لسار فيها وفي ذكرها سيرةَ علي بن أبي طالب، فلا هو جعل عليّاً قدوة، ولا هو رعَى للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حرمة.
وذكورة سنانير الجيران تأكلُ أولادَ الهرة، ما دُمنَ صغاراً أو فوقَ الصغار شيئاً، وتقتلها وتطلبها أشدَّ الطلب، والأمهات تحرُسها منها وتقاتلُ دونَها، مع عجزها عن الذكورة.
الألوان الأصيلة في الحيوان قال أبو إسحاق: السنور الذي هو السنور، هو المنمّر، وهو الأنمر، وهو الذي يُقال له: البقّاليّ، وذلك لكثرة اتخاذ البقالين لها، من بين سائر السنانير، لأنها أصيد للفأر.
قال: وجميعُ ألوانِ السنانير إنما هي كالشِّياتِ الدَّاخلةِ على اللون.
قال: وكذلك الحمار، إنما هو الأخضر، والألوانُ الأُخَرُ داخلةً عليه.
قال: فأَما الأسدُ فليْستْ بذاتِ شيات، ولا تعدو لوناً واحداً، ويكونُ ذلك اللونُ متقارباً غير متفاوتٍ.

أحوال إناث السنانير وذكورها

قال: ومن فضيلةِ ما في السنانير، أنها تضَعُ في السَّنَةِ مرتين وكذلك الماعزة في القرى، إلا ما داس الحبَّ.
قال: ويحدُث لإناث السنانير من القوة والشجاعة إذا كامها الفحل وهرب منها عند الفراغ فلو لِحقَتْهُ قطَّعته.
ويحدثُ للذكر استخذاءٌ، كما يحدُث للذئب القويِّ إذا ناله الخدشُ اليسير، ويحدث للضعيف من الجرأةِ عليه حتى يثبَ عليه فيأْكلَه؛ فلا يمتنعَ منه، كما قال الشاعر:

بصاحبه يوماً أحالَ على الـدمِ

 

وكنتَ كذئب السَّوء لما رأى دماً

ويحدث مثلُ ذلك للجرذ إذا خُصِي، من الحَرْد على سائر الجِرذان، حتى يثب فيقطِّعها، وتهرب منه ضعفاً عنه.
وسائرُ الحيوانِ إنما يعتريه الضَّعفُ عن أمثاله إذا خُصي وترك أمثالُه على حالها.
قول زَرَادشت في الفأر والردُّ عليه ثم رجَعنا إلى قول زَرادُشتَ في الفأْر.
زعم زَرَادُشتُ أن الفأْرة من خَلْق اللّه، وأن السنَّوْرَ من خَلْق الشيطان، فقيل للمجوس: ينبغي على أصل قولكم أن يكون الشيءُ الذي خلق اللّهُ خيراً كله ونفعاً كلُّه، ومرفقا كله، ويكونَ ما خلقَ الشيطان على خلافِ ذلك، ونحن نجدُ عياناً أن الذي قلتم به خطأ، رأينا الناس كلهم يرون أن الفأرَ بلاءٌ ابتلوا به، فلم يجدوا بدّاً من الاحتيالِ لصرْف مضرَّته، كالداء النازل الذي يلتمسُ له الشفاء، ثم وجدناهم قد أقاموا السنانير مُقامَ التداوي والتعالُج، وأقاموا الفأر مُقامَ الداء الذي أنزله اللّه، وأمر بالتداوي منه، فاجتلبوا لذلك السنانير وبناتِ عِرْس، ثم نصبوا لها ألوانَ الصيَّادات، وصنعوا لها ألوان السُّموم و المعجونات التي إذا أكلت منها ماتَت، واسْتَفْرَهُوا السنانير واختاروا الصيَّادات.
واجتَبوا السِّنَّور دون ابن عِرس، لأن ابنَ عِرسٍ يعمل في الفأر والطير كعَمل الذِّئبِ بِالغنم، فأوّل ما يصنع بالفريسة أن يذبَحها، ثم لا يأْكلُها إلا في الفَرْط، والسّوْر يقتل ثم يأكل، فالفار من السنورِ أشدُّ فَزَعاً، وهو الذي قوبل به طباعها وطباعه.
وكما أن الذي يأكل الدجاجَ كثيرٌ، وأن الذي جُعِل بإزائِه ابن آوى، وكما أن الذي يأكل الغَنمَ كثيرٌ، والذي جعِلَ بإزائها الذئب.
والأسد أقوى منه على النعجة، والنَّعجة من الذِّئب أشد فَرَقا. والحيَّاتُ تُطَالِبُ الفأرَ والجِرذان، وهي من السنور أشد فزَعاً.
وإن كان في الجُرذان ما يُساوي السنور فإنها منه أشد فزعاً.
فإن كنتم إنما جعلتموه من خلْق الشيطان لأكْلِهِ صِنفاً واحداً من خلق اللّه - فالأصناف التي يأكلُها من خَلق الشيطان أكثر.
وزعم زَرَادُشْت أن السِّنَّوْرَ لو بال في البحر، لقَتَلَ عشرة آلافِ سَمَكة.
فإن كان إنما استبْصَر في ذمِّه في قتل السمك فالسمكُ أحقُّ بأنْ يكون من خلق الشيطان؛ لأن السمكَ يأكلُ بعضه بعضاً، والذكر يتبع الأنثى في زمان طرْح البيض، فكلما قذفتْ به التهمه، وإن غرِق إنسان في الماء، بحراً كان أو وادياً، أو بعضُ ذواتِ الأربع - فالسمكُ أسرعُ إلى أكله من الضِّباع والنسورِ إلى الجِيَف.
وعلى أنَّ اعتلاله على السنور، وقوله: لو بال في البحر قتل عشرة آلافِ سمكة، فما يقول فيمن زَعَم أن الجُرذَ لو بالَ في البحر قَتَلَ مائة ألف سَمَكة? وبأي شيء يَبين منه? وهل ينبغي لمن كسر هذا القول الظاهر الكسْر، المكشوف المُوق أن يفرح? وهل تقرُّ الجماعةُ والأممُ بأنَّ في الفأر شيئاً من المرافق? وهل يُمازجُ مضَرَّتَها شيءٌ من الخير وَإن قلَّ? أو ليست الفأْرُ والجِرذانُ هي التي تأْكل كُتُبَ اللّه تعالى، وكتبَ العِلْم، وكتب الحساب؛ وتقرِض الثِّيَابَ الثمينةَ، وتطلب سِرَّ نوى القطن، وتُفسد بذلك اللُّحُفَ والدَّواويج والجباب، والأقبية والخفاتين، وتحسُو الأدهان، فإن عجزتْ أفواهُها أخرجَتْهَا بأَذنابها? أو ليست التي تنقب السِّلال وتقرض الأوكية وتأكل الجُرُب حتى يُعلَّقَ المتاعُ في الهواء إذا أمكن تعليقُه?.
وتجلبُ إلى البيوتِ الحيّاتِ؛ للعداوة التي بينها وبين الحيَّات، و لحرْص الحيَّات على أكلها، فتكون سبباً في اجتماعها في منازلهم، وإذا كثُرن قتلنَ النفوس.
وقال ابن أبي العجوز: لولا مكان الفأر لما أقامت الحيَّاتُ في بيوت الناس، إلا ما لا بال به من الإقامة.
وتقتل الفسيل والنخل، وتهلك العلفَ والزرع، وربما أهلكن القَرَاحَ كله وحملْنَ شعير الكدْس وبُرَّه.
أو ليس معلوماً من أخلاقها اجتذابُ فتائل المصابيح رغبةً في تلك الأدهان، حتى ربما جذَبتْها جهلاً وفي أطرافها الأخر السُّرج تستوقد فتحرق بذلك القبائلَ الكثيرة، بما فيها من الناس والأموال والحيوان?.
وهي بعدُ آكل للبيض وأصناف الفِراخ من الحيَّات لها.
فكيف لم تكن من هذه الجهة من خَلْق الشيطان?.
هذا، وبين طِباعها وطِباع الإنسانِ مُنافرةٌ شديدةٌ، ووَحْشةٌ مفْرِطة، وهي لاتأنسُ بالناس وإن طالتْ معايشتُها لهم والسِّنَّوْرُ آنسُ الخلق بهم.
وكيف تأنس بهم وهم لا يُقلعون عن قتلها ما لم تقلع هي عن مَساءتهم? فلو كنَّ مما يؤكل لكان في ذلك بعض المرفق، فكيف وإنها لتُلقى في الطريق ميّتة، فما يعرض لها الكلبُ الجائع.
فالأمم كلها على التفادي منها واتخاذ السنانير لها.
وزَرَادُشْت بهذا العقل دعا الناس إلى نكاح الأمهات، وإلى التوضؤ بالبول، وإلى التوكيل في نيك المُغِيبات، وإلى إقامة سُورٍ للسُّنْبِ، وصاحب الحائض والنفساء.
علة نجاح زرادشت ولولا أنَّه صادف دهراً في غاية الفسادِ، وأُمَّةً في غاية البُعْد من الحرية ومن الغَيْرة والألفة، ومن التقزُّز والتنظف، لما تمّ له هذا الأمر.
وقد زعم ناسٌ أن ذلك إنما كان وإنما تمَّ لأنه بدأ بالملك؛ فدعاه على قدْر ما عرَف من طباعه وشهوته وخُلُقه، فكان الملكُ هو الذي حَمَل على ذلك رعيَّتَه.
والذي قال هذا القولَ ليس يعرف من الأمور إلا بقدر ما باينَ به العامّة؛ لأنه لا يجوز أن يكون الملكُ حملَ العامّة على ذلك، إلا بعد أن يكون زَرَادشتُ ألْفى على ذلك الفسادِ أجنادَ الملك، ولم يكن الملك ليقوى على العامة بأجناده، وبعشرة أضعاف أجناده، إلا أن يكون في العامة عالمٌ من الناس، يكونون أعواناً للأجناد على سائر الرعية. وعلى أن الملوكَ ليس لها في مثل هذه الأمور عِلَّةٌ تدعو إلى المخاطرةِ بملكها، وإنما غايةُ الملوكِ كل شيء لابد للملوك منه، فأمَّا ما فضَل عن ذلك فإنها لا تخاطر بأصول المُلك تطلُب الفضول، إلا من كان مُلْكه في نصاب إمامة، وإمامتُه في نصاب نُبوّة، فإنه يتَّبع كلّ شيء توجبه الشريعة، وإن كان ذلك سبيلَ الرأي؛ لأن الذي شرع الشريعة أعْلَمُ بغيب تلك المصلحة، وقد ينبغي أن يكون ذلك الزمان كان أفسدَ زمان، وأولئك الأهل كانوا شرّ أهل، ولذلك لم تر قطُّ ذا دين تحوّل إلى المجوسِيَّة عن دينه، ولم يكن ذلك المذهبُ إلا في شِقِّهِم وصُقْعهم من فارسَ والجبالِ وخراسان، وهذه كلها فارسية.
أثر البيئة في العقيدة فإن تعجّبْت من استسقاطي لعَقْلِ كِسْرَى أبرَويز وآبائه، وأحْبَائه وقَرابينه وكُتَّابه وأطبائه، وحكمائه وأساورته - فإني أقول في ذلك قولاً تَعرف به أني ليس إلى العصبيّة ذهبت.
اعلم أني لم أعْنِ بذلك القولِ الذين وُلدوا بعدُ على هذه المقالة، ونشؤوا على هذه الدِّيانة، وغُذُوا بهذه النِّحلة، ورُبُّوا جميعاً على هذه الملة؛ فقد علِمْنا جميعاً أن عقولَ اليونانيةِ فوقَ الدِّيانة بالدهرية والاستبصار في عبادة البروج والكواكب؛ وعقول الهند فوقَ الديانة بطاعة البُدِّ. وعبادة البِدَدَة، وعقول العرب فوق الدِّيانة بعبادة الأصنام والخشب المنجور، والحجر المنصوب، والصخرة المنحوتة.
فداء المنشأ والتقليد، داءٌ لا يُحْسِنُ علاجَه جالينُوس ولا غيرُه من الأطباء، وتعظيمُ الكبراءِ، وتقليدُ الأسلاف، وإلْفُ دينِ الآباء، والأُنس بما لا يعرفون غيره، يحتاج إلى علاج شديد، والكلام في هذا يطول.
فإن آثرت أن تتعجب، حتى دعاك التعجُّب إلى ذكر أبرويز - فاذكر ساداتِ قُريش، فإنهم فوق كسرى وآل كسرى.

دفاع صاحب السنور

وقال المحتجُّ للسنانير: قد قالوا: أبر من هرَّة وأعق من ضَبٍّ، وهذا قول الذينَ عاينوها تأكلُ أولادها، وزعموا أن ذلك من شدة الحبِّ لها، وقال بعضهم: إنما يعتريها ذلك من جنونٍ يعتريها عند الولادة، وجوعٍ يذهبُ معه علمها بفرْقِ ما بين جِرائها وجِراء غيرها من الأجناس، ولأنها متى أُشْبِعَتْ أو أطعمت شِطْرَ شِبَعها لم تعرض لأولادها، والرد على الأمم أمثالها عملٌ مسخوط، والعربُ لا تتعصب للسنّور عَلَى الضبِّ؛ فيُتوهَّم عليها في ذلك خلافُ الحقِّ، وإنما هذا منكم عَلَى جهة قولكم في السنور إذا نَجَث لنجْوه ثم ستره، ثم عاودَ ذلك المكان فشمّه فإذا وجد رائحةً زاد عليه من التراب، فقلتم: ليس الكرمَ وستر القبيح أراد، وإنما أراد تأنيس الفأر، فنحنُ لا نَدَعُ ظاهر صنيعَه الذي لا حُكم له إلا الجميل لِمَا يدّعي مُدّعٍ من تصاريفِ الضمير، وعلى أن الذي قلْتموه إن كان حقّاً فالذي أعطيتموه من فضيلة التدبير أكثر مما سلبْتموه من فضيلة الحياء.
العيون التي تسرج بالليل قال: والعيون التي تُسرج باللي:عيون الأسْد، والأفاعي؛ والسنانير، والنُّمور.
والأُسْدُ سُجْر العيون، وعيون السنانير منها زُرق، ومنها ذهبية، كعيون أحرار الطير وعِتاقها، وعيونُ الأفاعي بين الزُّرْق والذهبية، وقال حسان بنُ ثابت:

نُجومُ الثُّريَّا أو عُيُون الضَّيَاوِنِ

 

ثَريدٌ كأنّ السّمْنَ في حَجَرَاتِـه

الضَّيون: السّنّور.
تحقيق في الألوان وإذا قال الناس: ثوب أزرق فإنهم يذهبون إلى لون واحد، وإذا وصفوا بذلك العينَ وَقَعَ على لونين؛ لأن البازي يسمى أزرق وكذلك العقاب، والزُّرَّقُ، وكل شيء ذهبيُّ العَين، فإذا قالوا: سنور أزرق لم يُدْرَ، أذهبوا إلى ألوان الثياب أم إلى ألوانِ عيون البزاة.
وقد قال صُحَارٌ العبديُّ حين قال له معاوية: يا أزرق قال: البازي أزرَق، وأنشد:

كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عيونُها

 

ولا عَيْبَ فيها غيرَ شُكْلَةِ عينِها

والذهب قد يقال له أصفر، ويقال له أحمر.
وقال بعض بني مَرْوَانَ لبعض ولد متمِّم بن نُويرة: يا أحمر قال: الذهَب أحمر، فلذلك زعم أن عِتاقَ الطير شُكلٌ عيونها.
وقال الأخطل:

بدِجْلَةَ حتى ماءُ دِجلة أشكـلُ

 

وما زالت القَتْلَى تمُورُ دماؤُهم

فالشُّكلة عندهم تقع على الصُّفرة والحمرة إذا خالطا غيرهما.
الزرق العيون من العرب  فمن الزرق من الناس صُحارٌ العبديُّ، وعبدُ الرحمن ابنُه، وداوُد بن متمِّم بن نويرة، والعباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ومرون بن محمد بن مروان، وسعيد بن قيس الهمداني، وزرقاءُ اليمامة، وهي عَنْز، من بنات لُقمان بن عادِيا.
ومن الزُّرق ممن كانوا يتشاءمون به: قيس بن زهير، وكان أزرق وكان بكراً وابن بِكْرين، وكانت البسوسُ زَرْقَاءَ وبكراً بنتَ بِكرين، ولها حديث لا أحقّه.
وكانت الزّبّاء زرقاء، والزرْق العيون، من بني قَيس بن ثعلبةَ، منهم المرقِّشان، وغيرهما.
الحمر الحماليق من العرب والحمرُ الحماليق، من بني شيبان، وكان النعمان أزرقَ، أقشرَ، أحمرَ العينين، أحمر الحماليق، وفيه يقول أبو قُردودة حين نهى ابن عمار عن منادَمته:

لا تأمننْ أحمرَ العينينِ والشعرَهْ

 

إني نهيتُ ابنَ عمار وقلتُ لـه

تطر بنارك من نيرانِهم شـرره

 

إن الملوك متى تنزلْ بساحتهـمْ

ومنطقاً مثلَ وشي اليمنةِ الحبرهْ

 

يا جفْنَةً كإزاء الحوض قد هدموا

شعر في الزرق وقال عبد اللّه بن همام السّلوليّ:

لِكلِّ أزرقَ من هَمْدانَ مكْتَحِلِ

 

ولا يكونَنَّ مالُ اللّه مَـأْكُـلَة

وقال آخر:

كما كلُّ ضَبِّيٍّ من اللؤمِ أزرقُ

 

لقد زَرِقَتْ عيناك يا ابنَ مُكَعْبِرٍ

وفي باب آخر يقول زُهير:

وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضر المتخيِّم

 

فلما ورَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُـه

معارف في حمرة العين وقال يونس: لم أرَ قرَشِيّاً قطُّ أحمرَ عروقِ العينين إلا كان سيِّداً شُجاعاً.
وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، كان أشكلَ العينين ضليع الفم.

شعر في الدعاء على الفأر

قال: ونزل أبو الرِّعْل الجرميّ بعض قرى أنطاكيَةَ فلَقي من جِرذانها شرّاً، فدعا عليها بالسنانير فقال:

ومُنْزِلَ الحُكم في طه وحامـيمِ

 

يا رب شُعْثٍ بري الإسآد أوجههم

نائي النصير بعيدِ الدار مهمـومِ

 

أتحْ لشيخٍ ثوي بالشام مُغْـتـربـاً

وقصُ الرقابِ لطيفاتُ الخراطيم

 

تكنَفَتْهُ قريباتُ الـخـطة دُكُـنٌ

غلبُ الرقاب رحيباتُ الحـيازيمِ

 

حجنُ المخالب والأنـياب شـابةٌ

لكِّ ذيالةٍ مـقـاءَ عُـلـجـومِ

 

ثاروا لهنَّ فما تنفكُّ من قـنـصٍ

على النزيل ولا كرزي بمعكومِ

 

حتى أبيتَ وزادي غير منعـكـمٍ

وأنشدَني ابنُ أبي كريمة، ليزيدَ بنِ ناجِيَة السَّعْدي: سعدِ بن بكر، وكان لقيَ من الفأرجَهْداً، فدعا عليهنّ بالسنانير، فقال:

أخزى إله محمد أصـحـابـي

 

أزهير مالك لا يهمك مـا بـي

جُنح الحنادِس يعتورْنَ جِرابـي

 

كحلُ العيون، صغيرة آذانُـهـا

يلحظنَ لحظ مروعٍ مـرتـابِ

 

شُمُّ الأنوفِ لريح كـلِّ قـفـيةٍ

صُعلُ الرُّؤوسِ طويلةَ الأذنابِ

 

دُكْنُ الجباب تدرعتْ أبدانـهـا

ثجْل الخصور رَحيبة الأقرابِ

 

شُخُت المخالب والأنايبِ والشوى

غُرّ النَّشَاصِ بعيدةَ الأطـنـابِ

 

أسقَى الإلهُ بلادهنَّ سـحـائبـاً

منها الجلودُ مدارعَ السنجـابِ

 

تَرمِي بغُبْسٍ كالليوث تسَرْبَلَـتْ

فُطحِ الجباهِ رهـيفةِ الأنـيابِ

 

غُلب الرِّقاب لطيفة أعجازُهـا

آسادُ بيشةَ أُدمجت بخـضـابِ

 

مُتبهنْسَاتٍ للطـرادِ كـأَنـهـا

ونحن نظنُّ أَنّ هذه القصيدةَ من توليد ابنِ أبي كريمة،

معارف في السنور

والسنّور ثاقبُ البصر بالليل، وكذلك الفأرة سوداءُ العينين، وهي في ذلك ثاقبة البصر.
والسنَّوْرُ ضعيفُ الهامة، وهامته من مَقاتِله، ولا يستطيعُ أنْ يذوقَ الطعامَ الحارّ والحامضَ.

مقارنة بين السِّنور والكلب

قال: وللسنور فضيلةٌ أخرى: أنه كثيرُ الأسماء القائمةِ بأنفسها، غير المشتقات، ولا أنها تجمع الصفاتِ والأعمالَ، بل هي أسماءٌ قائمةٌ، من ذلك: القطُّ، والهِرُّ، والضَّيْوَن، والسنَّوْر.
وليس للكلب اسمٌ سِوَى الكلبِ، ولا للدِّيك اسمُ إلا الديك. وليس للأسد اسمٌ إلا الأسد اللَّيث، وأمَّا الضيغم، والخنابس، والرِّئبالُ، وغيرها - فليست بمقطوعة، والباقي ليست بأسماءٍ مقطوعةٍ؛ ولا تصلح في كل مكان.
وكذلك الخمر، فإذا قالوا: قهوة، ومدامةً، وسُلاَف، وخَنْدَرِيسٌ وأشباه ذلك، فإنما تلك أسماءٌ مشتركة، وكذلك السيف، وليس هذه الأسماءُ عند العامة كذلك.
قال: وعلى السّنور من المحبة، ولا سيما من مَحَبَّة النِّساء، ومعه من الإلف والأنس والدنُوِّ، والمضاجعةِ والنوم في اللِّحاف الواحد - ما ليس مع الكلب، ولا مع الحمام، ولا مع الدَّجاج، ولا مع شيء مما يعايش الناس.
هذا، ومنها الوحشي والأهليّ فلولا قُوّةُ حبِّه للناس لما كان في هذا المعنى أكثرَ من الكلابِ، والكلاب كلّها أهلية.
قالوا: وليس بعجيبٍ إن يكون الكلبُ طيِّبَ الفم؛ لكثرةِ ريقه، ولبُعد قرابَتِه ومشاكَلَته للأَسد، وإنما العجبُ في طيبِ فم السنَّور، وكأنه في الشّبه من أشبال الأسد.
ومن يُقَبِّل أفواه السنانير وأجْراءها من الخرائد وربَّات الحِجال، والمخدَّرات، والمطهَّمات، والقينات أكثر من أن يُحصى لهنَّ عدد، وكلهنَّ يخبرنَ عن أفواهها بالطِّيب والسلامةِ مما عليه أفواهُ السباع، وأفواهُ ذوات الجِرَّة من الأنعام.
وما رأينا وضيعة قطُّ ولا رفيعة، قبَّلت فَمَ كلبٍ أو دِيكٍ، وما كان ذلك من حارس قطُّ، ولا من كلابٍ، ولا من مكلِّب، ولا من مُهَارِش.
والسنور يُخْضَب، وتُصاغُ له الشنوف والأقْرطَة، ويُتحف ويدلَّل.
ومَنْ رَأى السنوْر كيف يَختِلُ العُصفورَ، مع حَذَرِ العُصفور، وسُرعة طيرانه - على أن جِهته في الصيدِ جِهةُ الفهد والأسد، ومنْ رآه كيفَ يرتفعُ بوَثْبته إلى الجرادة في حال طيرَانها - علم أنه أسْرَعُ من الجرادة.
وله إهابٌ فضفاضٌ، وقميصٌ من جِلده واسعٌ، يموج فيه بدنُه، وهو مما يضبع لسعَة إبطيه، ولو شاء إنسان أن يعقِدَ صُلْبَهُ، ويَثْنِيَ أوَّلَه عَلَى آخِره، كما يُثْنَى المِخْراق، وكما يثنى قضيبُ الخيزُران لفَعَلَ.
ويوصفُ الفَرَسُ بأَنه رهِل اللَّبان، رحيبُ الإهاب، واسع الآباط، وعيب الحمار للكزَازة التي في يديه، وفي منكبيهِ، وانضمامهما إلى إبطيه، وضِيق جلدِهِ، وإنما يعدُو بعُنقه.

التجارة في السنانير

قالوا: وللسنور تجَّارٌ وباعة، ودلاَّلون، وناسٌ يعرفون بذلك، ولها رَاضَة.
وقال السِّنْدِيُّ بن شاهك: ما أعياني أحدٌ من أهل الأسواق: من التجّار، ومن الباعة والصنّاع، كما أعياني أصحابُ السنانير، يأخذون السنّوْر الذي يأكل الفِرَاخ والحمامَ، ويواثب أقفاص الفواخِت والوراشين والدّباسِي والشَّفانين، يودخِلُونه في دَنٍّ، ويشدُّون رأسَه، ثم يدحْرِجونه على الأرض حتى يَشْغَلَه الدَُّوَار، ثم يدخِلونه في قفص فيه الفراخُ والحمام، فإذا رآه المشتري رأى شيئاً عجباً، وظنّ أنه قد ظفر بحاجته، فإذا مضى به إلى البيت مَضى بشيطانٍ، فيجْمع عليه بليَّتين إحداهما أكْلُ طيوره وطيور الجيران، والثانية أنه إذا ضَرِيَ عليها لم يطلُبْ سِواها.
ومررتُ يوماً وأنا أريدُ منزلَ المكّي بالأساورة وإذا امرأة قد تعلّقَت برجُل وهي تقول: بيني وبينك صاحبُ المسْلَحَة فإنك دَللْتَنِي عَلَى سِنَّوْرٍ، وزعمتَ أنه لا يقربُ الفراخ، ولا يكشفُ القدُور، ولا يدنو من الحيوان، وزعمت أنك أبصر الناس بسنور، فأعطيتُك على بصرك و دلالتك دانِقاً؛ فلما مضيتُ به إلى البيت مضيتُ بشيطان قد واللّه أهْلَكَ الجيرانَ بعد أن فرغَ منا، ونحنُ منذ خمسةِ أيامٍ نحتال في أخذه، وها هو ذا قد جئتك به فرُدَّ عَلَيَّ دانقي، وخُذ ثمنه من الذي باعني، ولا واللّه إن تُبْصِرُ من السنانير قليلاً ولا كثيراً.
قال الدلاّل: انظروا بأيِّ شيء تستقيلني? ولا واللّه إنْ في ناحيتنا فتًى هو أبصرُ بسنور منِّي، وذلك من مَنِّ سيِّدي ومولاي.
فقلتُ للدَّلاّل: ولا واللّه إن في هذه الناحية فتًى هو أشكر للّه منك.

أكل السنانير

وناس يأكلون السنانيرَ ويستطيبونها، وليس يأكل الكلبَ أحَدٌ إلا في الفْرط.
والعامة تزعم أن من أكل السِّنَّوْر الأسود لم يَعْمَلْ فيه السحر، والكلبُ لا يؤكل.
أكل الديك والديك خبيث اللحم عَضِله، إلا أن يُخْصَى، وتلك حيلة لأهل حِمْص وليست عندنا فيه حيلة، وقال جَحْشويه:

 

كيفَ صبري عن مثلِ جُمجُمة الهرِّ تثنَّى بمُسْبَطِرٍّ متين

أنـــهـــا عُـــدّةٌ لـــداءٍ دفــــــينِ

 

ليس يَخفى عليك حين تراها




سكينة التابوت قالوا: وزعم بعضُ أهل الكتاب، وبعضُ أصحاب التفسير، أن السَّكينة التي كانت في تابوت موسى كانت رأس هِرٍّ.
استطراد لغوي قالوا: وقلتم في الاشتقاق من اسم الكلب: كلَيب، وكلاب، ومَكْلَبة، ومُكالب، وأصاب القومَ كُلْبَة الزمان، مثل هُلْبة، وهي الشدَّة.
والكِلابُ واحِدُها كَلْب، وتجمع على كلاب وأكلب وكليب، كما يجمع البُخْت بَخيتاً وأبخُتاً.
والكَلاّب بتثقيل اللام: صاحب الكلاب، والمُكَلِّب، بتثقيل اللام وضمّ الميم: الذي يعلِّم الكِلاَبَ الصَّيْدَ، وقال طُفيلٌ الغَنَويّ:

ضِرَاءٌ أحسَّت نَبَأَةً من مكَلِّبِ

 

تُبَارِي مَرَاخِيها الزِّجَاجَ كأنها

وقال الآخر:

فِعْلَ الضِّرَاءِ تَرَاحُ لـلـكَـلاَّبِ

 

خُوصٌ تَرَاحُ إلى الصُّدَاح إذا غَدَتْ

والكَلَب: داء يقع في الإبل، فيقال كلِبت الإبلُ تَكْلَبُ كلَباً، وأكلَب القَوم: إذا وقع في إبلهم الكَلَب، ويقال كَلِب الكلبُ واستكلب: إذا ضَرِيَ وتعوَّدَ أكلَ الناس، ويقال للرّجل إذا عضَّه الكلبُ الكلِبُ: قد كُلِبَ الرَّجلُ.
ويقال: إن الرَّجلَ الكلِبَ يَعَضُّ إنساناً آخر، فيأتون رجلاً شريفاً، فيقطُرُ لهم من دَمِ إصبعه، فيَسْقُونَ ذلك الكلبَ فيبرَأ، وقال الكُميت:

كما دِماؤكم يُشْفَى بها الكلَبُ

 

أحلامكم لسِقَام الجهلِ شافيةٌ

قالوا: فقد يقولون للسنور هِرّ، وللأنثى هِرّة، ويقال من ذلك هرَّ الكلبُ يهرُّ هريراً، وتسمَّى المرأةُ بهرَّة، ويكنى الرّجُل أبا هِرٍّ، وأبا هُريرة، وقال الأعشى:

وهل تُطيق وَداعاً أيها الرجلُ

 

ودِّعْ هُريرةَ إنَّ الركبَ مُرْتحِلُ

وقال امرؤ القيس:

ولَمِيس قبْلَ تفرُّقِ الأيَّامِ

 

دارٌ لهرٍّ والرَّبابِ وفَرْتَنَى

وقال ابن أحمرَ:

في إرْثِ ما كان بناه حُجُرْ

 

إنَّ امرأَ القيسِ عَلَى عَهْدِه

كأسٌ رَنَوْنَاةٌ وطِرْفٌ طَمِرّْ

 

بَنَّتْ عليه الملك أطنابَـهـا

وفَرْتَنَى تَسْعَى عليه وهِرّْ

 

يلهُو بهندٍ فوقَ أنماطِـهَـا

أطْباء الهرة وحملها قال: وللهرة ثمانية أطباء: أربعةٌ تقابلُ أربعة، أوَّلهنَّ بين الإبط والصَّدْر، وآخِرُهُنَّ عد الرُّفْغِ، وتحمِلُ خمسين يوماً، وتضع جراهَا عُمْياً، وليس بين تفقيحها وتفقيح جراءِ الكلابِ إلا اليَسير.
إيثار الهرة والديك والهِرَّةُ من الخلْق الذي يؤثِر على نفسه، ولها فضيلةٌ في ذلك على الدِّيك الذي له الفضيلة في ذلك على جميع الحيوان، إلا أن الديك لا يفعل ذلك بالدجاج إلا مادام شابّاً، ولا يفعل ذلك بأولاده، ولا يعرفهم؛ وإنما يفعل ذلك بالدجاجِ عَلَى غير الزِّواج، وعَلَى غير القصد إلى واحدة يقصد إليها بالهوى.
والهِرَّة يُلقى إليها الشيء الطيبُ وهي جائعة، فتدعو أولادها، وقد استغنين عن اللبن، وأطَقْنَ الأكل والتقمُّم والتكسُّب، نعم حتى ربما فعلتْ ذلك بهنّ وهنَّ في العينِ شبيهاتٌ بها في العِظم؛ فلا تزالُ ممسكة عن تلك الشحمة على جُوعها، ومع شرهِ السنانير، حتى يُقبِلَ ولدُها فيأكلَه.
ورجلٌ من أصحابنا ائتمنوه على مال، فشدّ عليه فأخذه، فلما لامه بعضُ نصحائه قال: يطرحون اللحم قُدّام السنِّورِ فإِذا أكله ضربوه.
فضَرَبَ شَرَهَ السنور مثلاً لنفسه.
والهرَّة ربما رموا إليها بقطعةِ اللحم، فتقصدُ نحوها حتى تقف عليها، فإذا أقبلَ ولدها تجافتْ عنها، وربما قبضتْ عليها بأسنانها فرمت بها إليه بعد شمِّ الرائحة، وذَوق الطعم.
نقل الهرة أولادها والهرَّة تنقل أولادها في المواضع، من الخوف عليها، ولا سبيل لها في حملها إلا بفيها، وهي تعرِف دِقَّةَ أطْرَافِ أنيابها، وذَرَب أسنانها، فلها بتلك الأنياب الحِدَاد ضربٌ من القبض عليها، والعَضِّ لها، بمقدار تبلغُ به الحاجة، ولا تؤثِّر فيها ولا تؤذيها.
مخالب الهرة والأسد  فأما كفُّها والمخالبُ المعقَّفة الحِدَادُ التي فيها، فإنها مصونة في أكمامها، فمتى وقعت كفُّها على وجه الأرض صارت في صوْن، ومتى أرادت استعمالها نَشَرَتها وافرة، غير مكلومةٍ ولا مثلومة، كما وصف أبو زُبَيْدٍ كفَّ الأسد فقال:

يَقيها قِضَّةَ الأرضِ الدَّخيسُ

 

بحُجْن كالمحاجِنِ في قنُوبٍ

أنياب الأفاعي كذلك مخالبها ومخالبُ الأسد، وأنيابُ الأفاعي، وقد قال الرَّاجز، وهو جاهليّ:

فَخَاضَه بين الشِّراك والـقَـدَمْ

 

حتَّى دنا من رأس نَضْناض أصمّ

 

 

بِمِذْرَبٍ أخرجَه من جوفِ كُمّ

زعم بعض المفسرين في السنانير والخنازير

وزعم بعض المفسرين أن السنور خلِق من عطسة الأسد، وأن الخنزيد خُلِق من سلحة الفيل؛ لأن أصحابَ التفسير يزعمون أن أهلَ سفينةِ نوح لما تأََذَّوْا بكثرة الفأر وشكَوا إلى نوح ذلك سألَ ربَّه الفَرَج، فأمره أن يأمُرَ الأسد فيعطِسَ، فلما عطس خرج من منخرَيه زوجُ سنانير: ذكر وأنثى، خرج الذَّكَر من المنْخر الأيمن، والأنثى من المنخر الأيسر، فكفَياهم مَؤُونة الجُرذان، ولما تأَذَّوْا بري نَجْوهما شكوا ذلك إلى نوح، وشكا ذلك إلى ربِّه، فأمره أن يأمر الفيل فليَسْلح، فَسَلَح زوجَ خنازير فكفياهم مَؤُونة رائحة النجو.
وهذا الحديثُ نافقٌ عند العوَامِّ، وعندَ بعض القُصَّاص.
إنكار تخلُّق الحيوان من غير الحيوان فقد أنكر ناسٌ أن يكون الفأر تخلَّق في أرحام إناثها من أصلاب ذكورتها ومن أرحام بعض الأرضين كطينة القاطول؛ فإن أهلها زعموا أنهم ربما رأوا الفأرةَ لم يتمَّ خلْقُها بعدُ، وإن عينيها لتَبِصَّان، ثم لا يريمون حتى يتمَّ خَلقها وتشتدَّ حركتها.
وقالوا: لا يجوز لشيء خُلِقَ من الحيوان أن يُخلق من غير الحيوان، ولا يجوز أن يكونَ شيءٌ له في العالم أصلٌ أن يؤلِّف الناسُ أشياءَ تستحيل إلى مثل هذا الأصل، فأنكروا من هذا الوجْه تحويل الشبَهِ ذهباً، والزّيبق فضة.
وقد علمنا أن للنُّوشاذُر في العالم أصلاً موجوداً، وقد يصعِّدُون الشَّعر ويدبِّرونه حتى يستحيل كحجر النوشاذُر، ولا يغادر منه شيئاً في عَمَلٍ ولا بَدَن.
وقد يدبِّرون الرّماد والقِلْي فيستحيل حجارة سوداً إذا عُمل منها أرْحاءٌ كان لها في الرّيْع فضيلة.
قالوا: وللمُردَارسَنْج في العالم أصلٌ قائم، والرصاص يُدبَّر فيستحيل مُرداسَنْجا، وللرّصاص في العالم أصل قائم، فيدبِّرون المرداسنج فيستحيل رصاصاً.
وللتُّوتياء أصل قائم، فيدبرون أقليميا النُّحاس فتستحيل تُوتياء.
وكذلك المينا، له أصل قائم، وقد عمِله الناس.
وكذلك الحجارة السُّود للطحين وغير ذلك.
فأما قولهم: لا يجوز أن يكون شيء من الحيوان يُخلقُ من ذكر وأنثى - فيجيء من غير ذكر وأنثى - فقد قلنا في جميع ذلك في صدْر كتابنا هذا بما أمكننا.
معارف في الحيّات وقال: الحيّاتُ كلها تعومُ، إلا الأفاعي، فإنها لايعومُ منها إلا الجَبَليّات.
قال: والحيَّة إن رأت حيّة ميتة لم تأكلها، ولا تأكلُ الفأر ولا الجرذانَ الميتة، ولا العصافير الميتة، مع حرص الحية عليها، ولا تأكل إلا لحمَ الشيء الحيِّ، إلا أن يُدخلَ الحوّاءُ في حلوقها اللحمَ إدخالاً، فأما من تلقاء نفسها فإن وجدَته، وهي جائعة لم تأكله.
فينبغي أن يكون صاحبُ المنطق إنما عَنَى بقوله: أخبثُ ما تكون ذواتُ السمومِ إذا أكلَ بعضها بعضاً لابتلاعَ دون كل شيء، وهم لا يعرفون ذلك في الحيّات إلا للأسوَد، فإنه ربما كان مع الأفاعي في جُونة، فيجوع فيبتلعها، وذلك إذا أخذها من قِبَل رؤوسها، وإن رام ذلك من جهة الرأس فعضته الأفعى قتلتْه.
وزعموا أن الحيةَ لاَ تَصَّاعَدُ في الحائط الأملس ولا في غير الأمْلس، فإنما يقول ذلك أصحاب المخاريق والذين يستخرجون الحياتِ بزعمهم من السقوف، ويشمون أراييحَ أبدانها من أطراف القَصَب، إذا مَسَحوها في ترابيع البيوت.
قالوا: وقد تصعد الحيّات في الدّرج وأشباه الدَّرَج؛ لتطلبَ بيوتَ العصافير، والفأرِ، والخطاطيفِ، والزَّرازير، والخفافيش، وتتحامى في السُّقُف.

في العقرب

وسنذكر تمامَ القوْل في العقْرب؛ إذْ كنا قد ذكرنا من شأنها شيئاً في باب القول في الفأر. ولمَّا قيل ليحيى بن خالد، النازلِ في مُربَّعة الأحنف - وزعموا أنهم لم يروْا رجُلاً لم يختلف إلى البيمارستانات ولا رجُلاً مسلماً ليس بنصرانيّ ولا رجلاً لم ينصِبْ نفسه للتكسب بالطب كان أطبَّ منه - فلما قيل له: إن القينيّ قال: أنا مِثلُ العقرب أضرُّ ولا أنفع قال: ما أقلَّ عِلمه باللّه عزّ وجلّ؛ لعَمْري إنها لتنفع إذا شُقَّ بطنها ثم شُدَّ على موضع اللَّسعة، فإنها حينئذٍ تنفع منفعةً بينةً.

نفع العقرب

والعقربُ تُجعل في جوف فَخَّارٍ مشدودِ الرّأس مطيّن الجوانبِ، ثم يوضع الفخَّارُ في تنّور، فإذا صارت العقربُ رماداً سُقي من ذلك الرَّمادِ مَنْ به الحصاة مِقدارَ نصفِ دانقَ.
وقال حُنين: وقد يُسقى منه الدانق وأكثر، فيفتِّتُ الحصاةَ من غير أن يضرَّ بشيء من الأعضاء والأخلاط، وخيرُ الدواء ما قصَد إلى العضْو السقيم، وسلِمَتْ عليه الأعضاء الصحيحة.
وقال يحيى: وقد تَلْسَعُ أصحابَ ضروبٍ من الحُمّيات العقاربُ فيُفيقُون، وتلسع الأفاعيَ فتموت، ومنها مايلسع بعضها بعضاً فيموت الملسوع، فهي من هذا الوجه تكفي الناسَ مؤونةً عظيمة، وتُلَقى العقربُ في الدُّهن وتُتْركُ فيه، حتى يأخُذ الدهن منها ويمتصّ ويجتذبَ قواها كلها بعد الموت، فيكونُ ذلك الدهنُ يفرِّق الأورام الغِلاط، وقد عَرَف ذلك حُنين.

بعض أعاجيب العقرب

ومِنْ أعاجيبها أنها لا تسبَحُ، ولا تتحركُ إدا أُلقيت في الماء كيف كان الماءُ: ساكناً أو جارياً، والعقرب تطلبُ الإنسان وتقصِد نحوه، فإذا قصَدَ نحوها فرَّتْ وهَربت وتقصِدُ أيضاً نحو الإنسان، فإذا ضربَتْهُ هربتْ، هربَ مَنْ قد أساء، وتعلم أنها مطلوبة.
والزنابير تطالبُ من تعرَّض لها وتقصِد لِعَينه، ولا تكادُ تعرض للكافّ عنها.
فصل ما بين المودَّة والمسالمة في الحيوان وبين العقارب وبين الخنافس مودة، والمودَّة غيرُ المسالمة.
والمسالمة: أن يكون كل واحد من الجنسين لا يعرض للآخر بخير ولا شر، بعد أن يكون كل واحد منهما مقرَّباً لصاحبه.
والعداوة أن يعرض كل واحد منهما لصاحبه بالشرّ والأذى والقتل، ليس من جهةِ أن أحدهما طعامٌ لصاحبه.
والأسدُ ليس يثبُ على الإنسان والحمار والبقرة والشاة من جهة العداوةِ، وإنما يثبُ عليه من طريق طلبِ المطعم، ولو مرَّ به وهو غيرُ جائعٍ لم يعرض له الأسد، والنمر على غير ذلك، ولكن قد يقال: إن بين البَبْرِ والأسد مُسالمة.
والمودة: كما يكون بين العقارب والخنافس، فإنَّ بعضها يتألف بعضاً، وليست تلك بمسالمة، وكما بين الحيَّات والوزغ، فإنها تَساقَى السّمّ وتَزَاقُّ، وكما بينَ ضروب من العقارب وأسودَ سالخ.
والأسْوَدُ ربَّما جاعَ في جُونة الحَوَّاء فأكل الأفعى وربما عَضَّتْهُ الأفعى فقتلتْه.
علاقة الرائحة بالطعم وريح العقارب إذا شويت مثلُ ريحِ الجراد.
وما زلتُ أظنُّ أن الطعم أبداً يتْبع الرائحة، حتى حقَّق ذلك عندي بعضُ من يأكلها مشوية ونِيَّة، أنه ليس بينها وبين الجراد الأعرابي السمين فرْق.

رؤية الخرق الذي في إبرة العقرب

وزعم لي بَختيشَوع بن جبريل، أنه عاين الخرق الذي في إبرة العقرب، وإن كان صادقاً كما قال، فما في الأرض أحدُّ بصراً منه، وإنه لبعيدٌ، وما هو بمستنكر.
من أعاجيب العقرب وفي العقارب أعجوبةٌ أخرى؛ لأنه يقال: إنها مائية الطِّباع، وإنها من ذوات الذَّرْوِ والإنسال وكثرة الولد، كما يعتري ذلك السَّمَكَ والضّبّ والخنزيرة، في كثرة الخنانِيص.

موت العقرب بعد الولادة

قال: ومع ذلك إن حَتْفها في أولادها، وإن أولادها إذا بلغْنَ وحانَ وقتُ الولادة، أكلْن جلدَ بطنها من داخل، حتى إذا خَرَقْنَهُ خَرَجْنَ منه وماتت الأُمُّ.
وقد يطأ الإنسانُ على العقرب وهي ميتة، فتغترز إبرتها في رِجله، فيلقى الجهدَ الجاهِدَ؛ وربما أمْرَضَتْ، وربّما قتلت.
قال: وفي أشعار اللُّغز قيلَ في أكل أولاد العقرب بطنَ الأمّ، وأنّ عَطَبَهَا في أولادها:

تموتُ ويبقى حملها حينَ تَعْطَبُ

 

وحاملة لا يكْمُلُ الدَّهرَ حملُهـا

وليس هذا شيئاً.
 خبَّرني من أثق بعقله، وأسكنُ إلى خبره، أنه أرى العقرب عِياناً وأولادُها يخرُجْنَ من فيها، وذكر عدداً كثيراً، وأنها صِغارٌ بيضٌ على ظهورها نقط سُودٌ، وأنها تحمل أولادها على ظهرها، وأنه عاين ذلك مرةًاًخرى، فقلت: إن كانت العقرب تلد مِنْ فيها فأخلِقْ بها أن يكون تلاقُحُها من حيثُ تلدُ أولادَها.

العقارب القاتلة

والعقاربُ القاتلةُ تكون في موضعين: بِشَهْرَزُور، وقرى الأهواز، إلا أن القواتلَ التي بالأهواز جرّارات، لم نذكر عقاربَ نصيبين، لأن أصلها - فيما لا يشكُّون فيه - من شَهْرَزُور حين حُوصِرَ أهلها ورُموا بالمجانيق، وبكيزان محشوَّة من عقارب شَهْرَزُور، حتَّى توالَدَتْ هناك، فأعْطَى القومُ بأيديهم.

لغز في العقرب

ومن اللُّغز فيها في غير هذا الجنس:

مسرةُ كبرٍ أن تُنال فتَمرضا

 

وما بكرةٌ مضبورة مقمطـرة

لتقتل نفساً أو تصيب فتُمرضا

 

بأشوسَ منها حين جاءت مُدِلةً

ديراً إذا نال الغريفة أو قَضَا

 

فلما دنا نادي أوابا بنعم غيرها

استخراج العقارب بالجراد والكرَّاث

قال: والعقارب تُسْتَخْرَجُ من بيوتها بالجراد: تُشَدُّ الجرادةُ في طرف عود، ثم تُدْخَلُ الجُحْرَ، فإذا عاينتْها تعلقتْ بها، فإذا أُخرج العُودُ خرجت العقربُ وهي متعلقة بالجرادة.
فأما إبراهيم بن هانىء فأخبَرني أنه كان يُدْخِلُ في جُحْرها خُوط كرّاث، فلا يبقى منها عقربٌ إلا تبعته.
ألسنة الحيات والأفاعي ألسنة الحيّات كلها سودٌ، وألسنة الأفاعي حُمرٌ، إلا أنها مشقوقة.
جرَّارات الأهواز وسنذكر عقارب الشتاء وعُقيرب الحِرِّ، وكلَّ شيء من هذا الباب، ولكنا نبدأُ بذكر جرَّارات الأّهواز.
ذكروا أنَّ أقتلها عقاربُ عَسكَر مُكْرَم، وأنها متى ضَرَبَتْ رجُلاً فظنَّ أن تلك العضة عضَّةُ نملة، أو وخزةُ شوكة، فنال من اللحم تضاعَفَ ما به.
وربما باتت مع الرجل في إزاره فلم تضربْه.
وهي لا تدبُّ على كل شيء له غَفْر، ولا تدبُّ على المُسوح، وما أكثرَ ما تأوي في أصول الآجُرِّ الذي قد أُخرج من الأتاتين ونضِّد في الأنابير.
وكان أهل العسكر يروْن أن من أصلح ما يُعالج به موضع اللسعة أن يُحجَم، وكان الحجَّام لا يرضى إلا بدنانير ودنانير، لأن ثناياه ربما نَصَلَتْ، وجلدَ وجهه ربما تبطَّطَ من السمِّ الذي يرتفع إلى فيه، بمصَّته وجذْبته من أذناب المحاجم، حتى عمدوا بعد ذلك إلى شيء من قُطْنٍ، فحشَوْا به تلك الأنبوبة، فإذا جذب بمصّتهِ فارتفع إليه من بخار الدَّمِ أجزاءٌ من ذلك السم، تعلقت بالقطن، ولم تنفُذْ إلى فيه، والقطن ليس مما يدفع قوَّة المص، ثم وقعوا بعد ذلك على حشيشةٍ فوجدوا فيها الشفاء.
من أعاجيب العقرب ومن أعاجيب ما في العقرب أنا وجدْنا عقارب القاطول يموتُ بعضُها عن لسع بعض، ثم لا يموتُ عن لسعها شيء غير العقارب.
ونجدُ العقربَ تلسعُ إنسانًاًفيموت الإنسان، وتسلع آخرَ فتموت هي، فَدَلَّ ذلك على أنها كما تعطي تأخُذ، وأن للناس أيضًاًسُمومًاًعجيبة، ولذلك صار بعضهم إذا عضّ قتل.
ومن أعاجيبها أنها تضرب الطست أو القمقُم فتخرقُه، وربما ضربتْه فتثبُتُ فيه إبرتُها ثم تنصل حتى تَبين منها.
العنبر وأثره في الطيور والبالِ والعنِبر يقذفه البحرُ إلى عبريه، فلا يأكل منه شيء إلا مات، ولا ينقُره طائرٌ بمنقار إلا نصل فيه منقاره، فإذا وضع رجليه نصلتْ أظفاره، فإن كان قد أكلَ منه قتلَهُ ما أكل، وإن لم يكن أكلَ فإنه ميت لا محالة، لأنه إذا بقي بغير منقار، ولم يكن للطائر شيءٌ يأكل به مات.
والبحْريُّونَ والعطَّارُون يُخبرونَنَا أنهم ربما وجدوا فيه المنقارَ والظفر، وإنَّ البال ليأكلُ منه اليسيرَ فيموت.
والبالُ: سمكة ربما كان طولها أكثر من خمسين ذراعاً.

أعاجيب لسع العقرب

ومن أعاجيب العقارب أنها تلسع الأفعى فتموتُ الأفعى ولا تموت هي، وتلسع بعض الناس، فتموتُ هي، ولا ينال الملسوع منها مِن المكروه قليل ولا كثير، ويزعم العوامُّ أن ذلك إنما يكونُ لمن لسعتْ أمَّه عقربٌ وهو حَمْلٌ في بطنها.
وقد لسعت عقربٌ رجلاً مفلوجًا، فذهبَ عنه الفالِجُ، وقصةُ هذا المفلوج معروفة، وقد عرفها صليبا وغيرهُ من الأطباء.
 ومن العقارب طياراتٌ وجراراتٌ، ومعقَّفات، وخضرٌ، وحمرٌ.
اختلاف السموم، واختلاف علاجها وتختلف سمومُ العقارب بأسباب: منها اختلاف أجناسها، كالجرّارة وغيرها، ومنها اختلافُ التُّرب كفَرق ما بين جرّاراتِ عقارب شهرزور وعسكر مُكْرَم.
وتختلف مَضَرَّة سمومها على قدر طباع الملسوع، ويختلف قدر سمومها على قَدْر مواضع اللسعة، وعلى قدر اختلاف ما بين النهار والليل وعلى قدر ما صادفَت عليه الملسوع من غذائه، ومن تفتُح منافسه، وعلى قدْر ما تُصادَف عليه العقرب من الحَبلِ وغير الحَبَل وعلى قدر لَسْعَتِها في أوَّلِ الليل عند خروجها من جُحرها بعد أقامت فيه شَتوَتَها، وأشدُّ من ذلك أن تلسع أوّلَ ما تخرجُ من جُحْرها بعد أن أقامتْ فيه يومها.
قال ماسرْجويه: فلذلك اختلفت وجوه العلاج، فصار ضَرْبٌ من العلاج يفيق عنه إنسانٌ ولا يُصلح أمر الآخر.
لسعة الزنبور وخبرني ثمامةُ عن أمير المؤمنين المأمون أنه قال: قال لي بختيشوع ابن جبريل وسَلْمَوَيْه، وابن ماسَوَيه: إن الذبابَ إذا دُلِكَ به موضعُ لسعةِ الزنبور سكنَ فلسَعني زنبور فحككْتُ على موضعه أكثر من عشرين ذبابة فما سكَن إلا في قدْر الزمان الذي كان يسكن فيه من غير علاج، فلم يبق في يدي منهم إلا أن يقولوا: كان هذا الزنبور حَتْفًاًقاضيًا، ولولا هذا العلاج لَقَتَلَكَ.
حُججُ الأَطِبّاء وكذلك همْ إذا سقَوا دواءً فضرّ، أو قطعوا عِرْقًاًفضرّ، قالوا: أنت مع هذا العلاج الصَّوابِ تجِدُ ما تجد فلولا ذلك العلاجُ كنتَ الساعة في نار جهنم.
وقيل لي - وقرأت في كتاب الحيوان - إنّ ريحَ السَّذَابِ يشتدّ على الحيّات، فألقيتُ على وجوه الأفاعي جُرَز السَّذَاب فما كان عندها إلا كسائر البَقْل.
فلو قلت لهم في هذا شيئًاًلقالوا: الحيّات غير الأفاعي، وهذا باطلٌ، الأفاعي نوع من الحيات، وكلهم قد عمَّ ولم يخص.
ما يَدَّخر من الحيوان وجميع الحشرات والأحناش، وجميع العقاربِ وهذه الدَّبّابات التي تعضُّ وتلسع، التي تكمُن في الشتاء لا تأكلُ شيئاً في تلك الأشهر ولا تشرب، وكذا كل شيء من الهمَج والحشرات مما لا يتحرّك في الشتاء إلا النملَ والذّرَّ والنحل، فإنها قد ادخرت ما يكفيها، وليست كغيرها مما تثبتُ حياتُه مع ترك الطعم.

حرص العقارب والحيات على أكل الجراد

وللعقرب ثماني أرجل وهي حريصة على أكل الجراد، وكذلك الحيات، وما أكثر ما تلدغ وتنْهش صاحب الجراد.
أثر المُرضِع في الرضيع ومن عجيب سمِّ الأفاعي ما خبرني به بعضُ من يخبُر شأن الأفاعي قال: كنت بالبادية ورأيت ناقة ترتعُ، وفصيلها يرتضِعُ من أخلافها، إذ نهَشَت الناقةَ على مشافرها أفعى، فبقيتْ واقفةً سادرة، والفصيلُ يرتضع، فبينا هو يرتضعُ إذ خرَّ ميِّتاً.
فكان موتُه قبل موتِ أمَّه من العجب، وكان مرورُ السمِّ في تلك الساعة القصيرة أعجبَ، وكان ما صار من فضول سمها في لبنِ الضّرعِ حتى قَتَلَ الفصيلَ قبل أمه عجباً آخر.
والمرأةُ المرضِعُ تشربُ النبيذَ فيسكر عن لبنها الرضيع وتشربُ دواء المشْي فيعتري الرضيعَ الخِلْفة فلذلك يختار الحكماء لأولادهم الظئر البريئة من ألأدواء: في عقلها، وفي بدنها.
وتوهَّموا أن اللبن إنماجع في الفصيل لقرابة اللبنِ والدَّم، فصار ذلك السمُّ أسرعَ إليه منه إلى أمه، ولعل ضعفَ الفصيل قد أعان أيضاًعلى ذلك.

قصتان في من لسعته العقرب

قال أبو عُبَيْدةَ: لسعت أعرابيّاً عقربٌ بالبصرة، فخيفَ عليه فاشتدّ جزَعُه، فقالَ بعضُ الناس: ليس شيءٌ خيراً له من أن تُغْسَل له خصيةُ زنجي عَرِق - وكانت ليلة غَمِقَة - فلما سقَوه قطَبَ، فقيل له: طعم ماذا تجد? قال: طعمَُ قِرْبَةٍ جديدة.
 وخبرني محمد وعليٌّ ابنا بشير، أن ظئراً لسليمان بن رِياش لسعتها عقربٌ فملأت الدنيا صُرَاخاً، فقال سليمان: اطلبوا لها هذه العقرب، فإن دواءها أن تلسعها لسعة أخرى في ذلك المكان، فقالت العجوز: قد برئتُ، وقد سكنَ وجعي، ولاحاجة لي إلى هذا العلاج، قال: فأتوْه بعقرب لا واللّه إن يُدرَى: أهي تلك أم غيرُها? فأمرَ بها فأُمسكت فقالت: أنشُدكَ باللّه واللبن فأبى وأرسلها عليها، فلسعتها فغُشِيَ عليها ومرَضتْ زمانًا وتساقط شعر رأسها، فقيل لسليمان في ذلك فقال: يا مجانين لا واللّه إن ردَّ عليَّ رُوحها إلا اللسعةُ الثانية، ولولا هِيَ لقد كانت ماتت.

في القَمْل والصُّؤَاب

وسنقول في القَمْل والصُّؤَاب ما وجدنا تمكينًا مِنَ القول، إن شاء اللّه تعالى.
ذكروا عن إياسِ بن معاوية، أنه زعم أن الصِّئبان ذكورةُ القَمْلِ والقمل إناثها، وأن القملَ من الشَّكل الذي تكون إناثه أعظمَ من ذكورته.
وذكروا عنه أنه قال: وكذلك الزَّرَارقة والبُزَاة، فجعل البُزَاةَ في الإناث.
وليس فيما قال شيء من الصواب التَّسْديد، وقد خبّرناكم عن حكايته في الشَّبُّوط، حين جعله كالبغل، وجعلَه مخلوقاً من بينِ البُنِّيِّ والزَّجْر.
والقمل يعتري مِنَ العَرَق والوسَخ، إذا علاهما ثوبٌ، أو رِيشٌ، أو شعر، حتى يكون لذلك المكانِ عَفَن وخُموم.

أثر لون الشَّعر في لون القملة

والقملة تكون في رأس الأسوَدِ سوداء، ورأسِ الأبيض الشعر بيضاءَ، وتكون خصيفة اللون، وكالحَبْل الأبرَق إذا كانت في رأس الأشمط، وإذا كانت في رأس الخاضب بالحمرة كانت حمراء، وإن كان الخاضب ناصلَ الخضاب كان في ولونها شُكْلة، إلا أن يستولي على الشعر النُّصول فتعود بيضاء.
وهذا شيءٌ يعتري القملَ، كما تعتري الخضرةُ دَودَ البَقْلِ، وجرادَه وذبابه، وكلَّ شيءٍ يعيش فيه، أثر البيئة في الحيوان وليس ذلك بأعجب من حَرَّة بن سُليم، فإن من طباع تلك الحرة أن تُسَوِّدَ كل شيء يكونُ فيها: من إنسان، أو فَرَس، أو حِمَارٍ، أو شاة، أو بعير، أو طائرٍ، أو حيّة.
ولم نسمع ببلدة أقوى في هذا المعنى من بلاد الترك، فإنها تصوِّر إبلَهم خيلَهم، وجميعَ ما يعيش فيها، على صورة التُّرك.

تولد القمل

والقمل يعرِضُ لثياب كلِّ الناس إذا عرض لها الوسخُ والعرق، والخموم، إلا ثيابَ المجذَّمين فإنهم لا يَقْمَلون.
وإذا قَمِلَ إنسانٌ وأفرط عليه ذلك، زأبَق رأسه إن كنّ في رأسه أو جسده، وإن كنّ في ثيابه، فموَّتْنَ.
وقال أبو قطيفة لأصحابه: أتدرون ما يذْرأ القمل قالوا: لا، قال: ذاك واللّه من قلة عنايتكم بما يصلحُ أبدانكم يذرأُ القملَ الفُساء.
فأما ثمامة فحدثني عن يحيى بن خالد البرمكي، أن شيئين يُورِثان القَمل: أحدُهما الإكثار من التِّين اليابس، والآخر بخار اللُّبان إذا أُلقي على المجمرة.
وربما كان الإنسان قَمِل الطباع، وإن تنظَّف وتعطَّر وبدَّل الثياب، كما عَرَضَ لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، استأْذَنَا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،في لباس الحرير فأذن لهما فيه؛ ولولا أنهم كانا في حدِّ ضرورة لَمَا أذِنَ لهما فيه، مع ما قد جاء في ذلك من التشديد.
فلما كان في خلافة عمر، رأى عمر على بعض بني المغيرة من أخواله، قميصَ حريرٍ، فعَلاَه بالدِّرّة، فقال المغيريُّ: أو ليس عبد الرحمن بنُ عوفٍ يلبسُ الحرير? قال: وأنت مثل عبد الرحمن؛ لا أمَّ لك.
الاحتيال للبراغيث واحتاج أصحابنا إلى التسلُّم من عضّّ البراغيث، أيامَ كنَّا بدمشق، ودخلنا أنطاكيَة، فاحتالوا لبراغيثها بالأسِرَّةِ فلم ينتفعوا بذلك؛ لأن براغيثهم تمشي.
وبراغيثهم نوعان: الأبْجلُ البقّ، إنما سمّوا ذلك الجنس على شبيهٍ بما حَكَى لي ثمامةُ عن يحيي بن خالدٍ البرمكيّ، فإن يحيى زعمَ أن البراغيثَ من الخلق الذي يعرِضُ له الطيران فيستحيل بقًّا، كما يعرض الطيرانُ للنَّمل، وكما يعرض الطيرانُ للدَّعاميص؛ فإن الدعاميصَ إذا انسلخت صارت فَرَاشاً. فكان أصحابنا قد لَقُوا من تلك البراغيث جَهْدًا، وكانت لها بليَّة أخرى: وذلك أن الذي تُسهِرُهُ البراغيث لا يستريح إلا أن يقتلها بالعرْك والقتْل، وإلى أن يقبضَ عليها فيرميَ بها إلى الأرض من فوق سريره فيرى أنهَنَّ إذا صِرْنَ عشرينَ كان أهون عليه من أنْ يكُنَّ إحدى وعشرين، فكان الرجلُ إذا رام ذلك من واحدة منها نتُنَتْ يده وكانوا مُلوكاً، ومثل هذا شديدٌ علَى مثلهم، فما زالوا في جهد منها حتى لبِسوا قُمُصَ الحرير الصِّينيِّ، وجعلوها طويلة الأردان والأبدان فناموا مستريحين.

خروج القمل من جسم الإنسان

وخبّرني كم شئت من أطبَّاء الناس وأصحاب التجارب، منهم من يقشعر من الكذب، ويتقزز منه أنهم رأوا القمل عِياناً وهو يخرج من جلد الإنسان، فإذا كان الإنسان قمِلاً كان قمله مستطيلاً، في شبيه بخلقة الديدانِ الصغار البيض.
ويُذكر أن مثلَ ذلك قد كان عرضَ لأيوبَ النبي، صلى اللّه عليه وسلم، حين كان امتُحِن بتلك الأوجاع حتى سُمِّي: المبتلَى.
وخبَّرني شيخٌ من بني ليث، أنه اعتراه جَرَبٌ، وأنه تطَلّى بالمَرّْتَك والدُّهن، ثم دخل الحمَّام فرأى قملاً كثيراً، يخرج من تلك الجُلَب والقروح.
وخبَّرني أبو موسى العباسيُّ صديقُنا أنه كان له غلامٌ بمصر، وكان الغلام ربما أخذه إبرة ففتَح بها فتحاً في بعض جسده، في الجِلْد، فلا يلبثُ أن يطلع من تحت الجلد في القيحِ قملة.

قمل الحيوان

والقمل يُسرعُ إلى الدّجاجِ والحمام، إذا لم يغتَسِلْ يكُنْ نظيف البيت، وهو يعرض للقرْد، ويتولَّد من وسَخِ جلد الأسير وما في رأسِه من الوسخ، ولذلك كانوا يضجُّون ويقولون: أكلَنَا القِدُّ والقمل.
تلبيد الشعر وكانوا يلبِّدون شعورهم، وذلك العمل هو التلبيد، والحاجُّ الملبّد هو هذا، وقال الشاعر:

بالقومِ بين مِنًى وبـين ثَـبـيرِ

 

يا ربِّ ربَّ الراقصاتِ عشـيَّةً

يحمِلْنَ كلَّ مَلَـبِّـد مـأجُـورِ

 

زُحُفِ الرَّوَاحِ قد انقضت مُنَّاتهُمْ

وقال عبد اللّه بن العَجْلان النهديُّ:

قرْقَرَ بالجَلْهَتَيْنِ من سُرَبِ

 

إني وما مارَ بالفُرَيْقِ وما

جماعة من القطا وغيره، واحدتها سُرْبَة وعبر بها هاهنا عن الحُجَّاج.

قمْلِ وما مارَ من دمٍ سَرَبِ

 

من شَعَرٍ كالغَليل يُلْبَـدُ بـال

بُدْن لحِلّ الإحرامِ والنُّصُبِ

 

والعِتر عتر النَّسيك يخفر بال

وقال أميَّةُ بن أبي الصَّلت:

ولمْ يسَلُّوا لهم قملاً وصِئبانَاً

 

شاحينَ آباطَهُمْ لم ينزِعُوا تَفَثاً

ويروى: لم يقرَبوا تَفَثاً قال اللّه عزّ وجلّ: "ثمّ لْيَقضوا تَفَثَهُمْ" وما أقل ما ذَكَرَوا التَّفَثَ في الأشعار.
والتلبيد: أن يأخذ شيئاً من خِطْميٍّ وآسٍ وَسِدْر، وشيئاً من صَمْغٍ فيجعله في أصول شعره وعلي رأسه، كي يتلبد شعرهُ ولا يعْرق ويدخله الغبار، ويخمَّ فيقمَل.
وكانوا يكرهون تسريح الشعر وقتل القمل، فكان ذلك العمل يقلُّ معه القمل.
وقد قال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم لكعب بن عُجْرة: هل آذاك هَوَامّف رأسِك? تعيير هَوازن وأسدٍ بأكل القُرَّة وقال ابنُ الكلبيِّ: عُيّرَتْ هَوَازنُ وسدٌ بأكل القُرَّةِ، وهما بنو القملة، وذلك أن أهل اليمن كانوا إذا حلقوا رؤوسهم بمِنًى وضع كل رجل منه على رأسِهِ قُبْضةً من دقيق، فإذا حلقوا رؤوسهم سقط ذلك الشَّعرُ مع ذلك الدقيق، ويجعلون الدقيق صدقةً، فكان ناسٌ من الضُّركاء وفيهم ناسٌ من قيس وأسد، يأخذون ذلك الشعر بدقيقه، فيرمُون بالشعر، وينتفعون بالدقيق.
وأنشد لمعاويةَ بن أبي معاويةَ الجرْميّ، في هجائهم:

مع الشعر في قصِّ الملبِّدِ شـارِعُ

 

ألم تر جَرماً أنْـجَـدتْ وأبـوكـم

سوى القمل إني من هَوَازِنَ ضارعُ

 

إذا قرَّةٌ جاءت يقولُ أصـبْ بـهـا

شعر في هجو القملين

وقال بعض العُقيليِّين، ومرّ بأبي العلاء العُقيليّ وهو يتفلَّى، فقال:

 

متصيِّد في شَرْقةٍ مـقـرورِ

 

وإذا مررت به مررتَ بقانصٍ

 

مِنْ بين مقتول وبينَ عـقـيرِ

 

للقملِ حولَ أبي العلاء مصارعٌ

فَذٌّ وتوأمُ سمسمٍ مـقـشـورِ

 

وكأنهنَّ لدي خُبُون قميصـه

 

حنِق علَى أخرى العدوِّ مغِيرِ

 

ضَرِجِ الأنامل من دماء قتيِلها

 








وقال الحسنُ بنُ هانىء، في أيوبَ، وقد ذهب عني نسبُه، وطالما رأيته في المسجد:

فمصادُ أيوبٍ ثـيابُـه

 

مَن ينْأ عنه مـصـادُهُ

فتعلُّ من عَلَق حِرَابُـه

 

تكفيه فـيهـا نـظـرةٌ

نِ الدرزِ تكنفُه صُؤابُه

 

يا رُبّ محترس بخـب

مٍ إذا دبَّ انـسـيابـهُ

 

فاشي النكاية غير معلوم

لم ينجهِ عنه وثـابُـه

 

أو طـامـريٍ واثـبٍ

الطامريّ: البرغوث، ثم قال:

 

أهْوَى لهُ بمذلَّقِ الغَرْبَينِ إصْبَعُه نِصابُه

قنـص أصـابِـعُـه كِــلابُـــه

 

للّه درُّك من أخي




أحاديث وأخبار في القمل

وفي الحديث أن أكل التفاح، وسُؤْرَ الفأر، ونَبْذَ القملة يورث النّسيان.
وفي حديث آخر أنَّ الذي ينبذ القملة لا يُكفَى الهمّ.
والعامة تزعم أن لُبس النِّعال السودِ يورث الغمَّ والنسيان.
وتناول أعرابيٌّ قملة دبَّتْ عَلَى عُنقه، ففدغَها ثم قتلها بين باطنِ إبهامه وسَبَّابته، فقيل له: ما تصنع ويلك بحضرة الأمير? فقال: بأبي أنتَ وأميِّ: وهل بقي منها إلا خِرشاؤها? يعني جلدَتَها وقِشرتها وكل وعاءٍ فهو خرشاء.
المأمون وسعيد بن جابر وحدثني إبراهيم بنُ هانىء، قال: حدّثني سعيدُ بنُ جابر، قال: لما كادت الأجناد تحيط ببغداد من جوانبها، قال لنا المخلوع: لو خرجنا هكذا قُطْرَبُّل علَى دوابنا، ثم رجعنا من فورنا، كان لنا في ذلك نُشرة، قال: فلما صرنا هناك هجمنا عَلَى موضعِ خَمَّارِين، فرأي أناسًا قد تطافروا من بعض تلك الحانات، فسأل عنهم، فإذا هم أصحابُ قِمار ونَرْدٍ ونبيذٍ، فبعث في آثارهم فرُدُّوا وقال لنا: أشتهي أن أسمع حديثَهم، وأرى مجلسهم وقمِارهم، قال: فدخلْنا إلى موضعِهم، فإذا تخت النَّرد قطعةُ لِبْد، وإذا فصوص النَّردِ من طين، بعضُه مسوَّد وبعضه متروك، وإذا الكعبان من عُروة كوز محكّكة، وإذا بعضُهم يتكئُ عَلَى دَنٍّ خالٍ وتحتهم بَوَار قد تنسَّرتْ، قال: فبينا هو يضحك منهم إذ رأيت قملة تدب عَلَى ذيله، فتغفَّلتُه وأخذْتها فرآني وقد تناولتُ شيئًا، فقال لي: أي شيء تناولتَ? فقلتُ: دُوَيْبَّة دبت علَى ذيلك من ثيابِ هؤلاء، قال: وأيُّ دابة هي? قلت: قملة، قال: أرِنِيها؛ فقد واللّه سمعت بها.
قال: فتعجبتُ يومئذ من المقادير كيفَ ترفَع رجالاً في السماء، وتحطُّ آخرينَ في الثَّرى.

معارف وخبر في القمل

قال: والقردُ يتفلَّى، فإذا أصاب قملةً رمى بها إلى فيه.
ونساء العوامِّ يعجِبُهُنَّ صوتُ قصْع القمل على الأظفار.
ورأيت مرةً أنا وجعفر بن سعيد، بقَّالا في العتيقة وإذا امرأته جالسةٌ بين يديه، وزوجها يحدَّثها وهي تفلِّي جيْبَها وقد جمعت بين باطن إبهامها وسَبَّابتها عدَّة قمل، فوضعتها على ظفرِ إبهامهِا الأيسر، ثم قلبت عليها ظفرها الأيمن فشدخَتْها به، فسمعتُ لها فَرقعةً، فقلت لجعفر: فما منعها أن تضَعَها بين حَجَرين? قال: لها لذةٌ في هذه الفرقعة، والمباشرةُ أبلغُ عندها في اللذة، فقلت: فما تكرهُ مكانَ زوجها? قال: لولا أن زوجها يُعجبُ بذلك لنهاها.
شعر لابن ميادة وقال ابن مَيَّادة:

بأرشيةٍ أطرافها في الكواكـب

 

وسقتني سقاة المجد من آل ظالمٍ

يسيرون أعياراً شدادَ المناكـبِ

 

وإنَّ بأعلى ذي النخـيل نـسـية

كما شال بالأذناب سمرُ العقارب

 

يشلنَ بأستاهٍ عـلـيهـنَّ دسـمةَ

في البرغوث

والبرغوث أسودُ أحدبُ نَزَّاء، من الخلق الذي لا يمشي صِرفاً.
وبما قال بعضهم: دبيبُها من تحتي أشدُّ عَلَيّ مِنْ عضِّها.
وليس ذلك بدبيب، وكيف يمكنهُ الدَّبيبُ وهو مُلزَق عَلَى النِّطع بجلد جنب النائم? ولكنّ البرغوثَ خبيثٌ، فمتى أرادَ الإنسان أن ينقلب من جنب إلى جنب، انقلب البرغوث واستلقى عَلَى ظهره، ورفع قوائمه فدغدغه بها، فيظنُّ من لا علم عنده أنه إنما يمشي تحت جنبه. وقد ذكرنا من شأنه في مواضع، ولو كان الباب يكبر حتى يكون لك مجموعاً ولم تعرفه تكلفت لك جمعه.

شعر في البرغوث

وقال بعضُ الأعراب:

لا باركَ اللَّهُ في ليل البراغيثِ

 

ليلُ البراغيث عنّاني وأنْصَبِنـي

أيتامُ سَوْءٍ أغاروا في المواريثِ

 

كأنهنَّ وجلدي إذْ خَـلـونَ بـه

وقال محبوب بن أبي العشَنَّط النهشليّ:

من القريةِ جرْد غـيرُ مـحـروثِ

 

لروْضة من رِياضِ الحزْن أو طرفٌ

يشفي الصداعَ ويشفي كلَّ ممغـوثِ

 

للنورِ فـيه إذا مـجَّ الـنَّـدى أرجٌ

مِن كَرْخ بغدادَ ذِي الرُّمانِ والتُّوثِ

 

أملا وأحلى لعَينِي إن مـررتُ بـه

أقضى الرقادَ، ونصف للبراغـيثِ

 

الليلُ نِصفان: نصفٌ للهموم فـمـا

أنزو وأخلطِ تسبيحـاً بـتـغـويثِ

 

أبيتُ حين تُـسـامِـينـى أوائلـهـا

وليس ملتمسٌ منها بـمـسـبـوثِ

 

سُود مَداليجُ في الظلـمـاء مـؤذيةٌ

وقد جعل التوثَ بالثاء، ووجه الكلام بالتاء، وتعجيمها نقطتان من فوقها.
وقال آخر:

ببغدادَ إني بالبلاد غـريبُ

 

لقد عَلِمَ البرُغوثُحين يَعَضَّنيِ

وقال آخر:

ويُخرجنَهُ من بيتـه لـذلـيلُ

 

وَإنَّ امرأً تؤْذي البراغيثُ جِلدَه

بأبيض ماضي الشّفرَتَيْنِ صَقيل

 

ألاَ رُبّ برغوثٍ ترَكتُ مجـدّلاً

وقال آخر:

أميراً عَلَى البرغوثِ يقضِي ولا يُعْدِي

 

لِقيتُ منَ البرغوث جَـهْـداً ولا أرى

وتصبح آثارٌ تَـبـيّنُ فـي جِـلْـدِي

 

يقلِّبـنـي فـوقَ الـفِـرَاشِ دبـيبُـه

وقال آخر:

إذا ظهرتْ في الأرض شدَّ مُغِيرُها

 

ألا يا عبادَ الـلّـه مَـنْ لـقـبـيلةٍ

ولا ذُو سِلاحٍ من مَعَدٍّ يَضِـيرُهـا

 

فلا الدِّينُ ينهاها ولا هي تنـتـهـي

وقال يزيد بن نُبيه الكِلابّي:

مَضَتْ لية مني وقَلَّ رُقُـودهـا

 

أصبحتُ سالمتُ البراغيثَ بعدمـا

قيلٌ بها أو باشُهـا وسـنـيدُهـا

 

فيا ليت شعري هل أزورنَّ بلـدة

تُطالِع بالركبانِ صُعراً خُدُودهـا

 

وهل أسمعن الدهرَ أصوات ضُمَّر

بنفسي وأهلي أرضُها ووفودهـا

 

وهل أرَيَن الدهرَ ناراً بأرْضـهـا

ببغداد أنباط القُري وعـبـيدُهـا

 

تراطنُ حولي كـمـا ذرَّ شـارقٌ

وقال آخر:

لذعاً شديداً كلذعِ الكيِّ بالـنـار

 

لا بارك اللهُ في البرغوثِ، إن له

وغَلَّسَ المدلجُ الساري بأسحـارِ

 

أقولُ والنجمُ قد غـارت أوائلـه

فيها الظباءُ تُراعي غبَّ أمطـارِ

 

لبرقةٌ مِنْ براقِ الحزنِ أعمًرهـا

ومنزلٍ بـين حَـجـام وجـزار

 

أشفى لِدَائي من دربٍ به نـبـطٌ

بمُدية كشرارِ الـنـار بـتـارِ

 

مَنْ ينحرُ الشول لا يُخطى قوائمَها

وقال آخر:

هو مـن بـعـد صـلـبـهِ مــبـــعـــوثُ

 

إنَّ هـذا الـمـصـلــوبَ لا شـــك فـــيه

 

 

حلَّ من حيثُ ليس يأكله البقُّ ولا يهتدي له البرغوتُ

سائقـاهـا فـــذاك ســـيرٌ مـــكـــيثُ

 

بينَ حِنوىْ مطيةٍ إنْ يسقها

قلـتُ مَـنْ ذا فـقـال لــصٌّ خـــبـــيثُ

 

فعـلـيه الـدبـارُ والــخـــزيُ لـــمـــا

وقال أبو الرماح الأسديُّ:

بِحنْو الغَضَى ليلٌ عَليَّ يطـولُ

 

تطاوَلَ بالفسطاط ليلي ولم يكن

وإن الـذي يؤذينَـهُ لـذلـيل

 

يؤرِّقُني حُـدْبٌ صـغـارٌ أذلةٌ

تعلَّقْنَ بي أو جُلْنَ حيثُ أجـولُ

 

إذا جُلتُ بعض الليل منهن جَوْلةً

علينا ولا يُنعى لهـنّ قـتـيلُ

 

إذا ما قتلناهنّ أُضعَفْنَ كَـثْـرَةً

وليس لبرغوث عَلَيَّ سـبـيلُ

 

ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ لـيلة

وقال أبو الشَّمقمق:

إن البراغيثَ قد عَبِثْنَ بِيَهْ

 

يا طولَ يومي وطول لَيْلَتِيَهْ

قد عقدَتْ بَنْدها بفقْحَتِـيهْ

 

فيهنّ بُرغوثَةٌ مُـجَـوَّعَةٌ

وقال آخر:

وأن أميرَ الريِّ يحي بن خالدِ

 

هنيئاً لاهل الرَّي طيبُ بلادهم

ببغدادَ يلبثْ ليله غـيرَ راقـدِ

 

تطاولَ في بغدادَ ليلى ومن يكُنْ

براغيثها من بين مثنى وواحدِ

 

بلادٌ إذا جنَّ الظلامُ تقـافـزتْ

بغالُ بريد أرسلت في مـداودِ

 

ديازجةٌ سود الجلود كـأنـهـا

وقال آخر:

ليلةَ حَكَّ ليس فيها شكِّ

 

أرَّقَني الأُسَيْوِدُ الأسـكُّ

أحُلُّ حتى مِرْفقي مُنقَكُّ

 

أحُكُّ حتى مالهُ مَحَـكَ

وقال آخر:

أنقذني ربُّ العُلا من مِصْرِكِ

 

يا أُمَّ مَثْواي عَدِمْتُ وَجْـهـكِ

أبيبُ ليلي دائمَ التـحـكُّـكِ

 

ولذْعِ برغوثٍ أُرَاهُ مُهْلِـكـي

 

 

تحكُّكَ الأجربِ عند المبرَكِ

وقال آخر:

أحَيْلِكُ الجلْدِ لا سمْعٌ ولا بصرُ

 

الحمد للّه برغوث يُؤَرِّقـنـي

وقال آخر:

لم يُطْبِقُوا عينًا لهم بغُمْضِهـا

 

قبيلةٌ في طولها وعَرْضِـهـا

كأنّ في جلودها من مَضِّهـا

 

خوْفَ البراغيثِ وخوفَ عضّها

إن دام هذا هربتْ منْ أرضِها

 

عقارباً ترفضُّ من مُرَفَضِّهـا

 

 

يا ربِّ فاقْتلْ بعضَها ببعضِها

معارف في البرغوث

قال: والبرغوثُ في صورة الفيل، وزعموا أنها تبيض وتفرخ، وأنهم رأوْا بيضَها رؤية العين، والبراغيث تَنَاكَحُ وهي مستدبرةٌ ومتعاظلة، وهي من الجنس الذي تطول ساعة كوْمِها.
استقذار القمل وليس الناسُ لشيء مما يعَضُّهم ويؤذيهم، من الجرجس، والبقِّ، والبراغيثِ والذِّبان - أشد استقذارًا منهم للقمل، ومن العجب أنّ قرابته أمسُّ، فأما قملة النِّسر، وهي التي يقال لها بالفارسية: دَدَه ،وهي تكون بالجبل، فإنها إذا عضّت قتلت.
القول في البعوض حدَّثني إبراهيم بن السِّنديِّ قال: لما كان أبي بالشام والياً، أحبَّ أن يسوِّي بين القَحطانيِّ والعَدناني، وقال: لسنا نقدِّمُكم إلا على الطاعة للّه عزّ وجلّ، ولللخلفاء، وكلُّكم إخْوة، وليس للنَّزاريِّ عندي شيءٌ ليس لليَمانيِّ مثله.
قال: وكان يتغدّى مع جملة من جِلَّة الفريقين، ويسوِّي بينهم في الإذن والمجلس، وكان شيخ اليمانية يدخل عليه معتمًّا، وقد جذب كوْرَ عمامته حتى غطى بها حاجبه وكان لا ينزِعها في حر ولا برد، فأراد فتى من قيس - وقد كان أبي يستخليه ويقرِّبه - أن يُسْقطه من عين أبي ويوحِشَه منه، فقال له ذات يوم ووجدَ المجلس خاليًا: إني أريدُ أن أقول شيئاً ليس يخرِجه مني إلا الشكر والحُرية، وإلا المودة والنصيحة، ولولا ما أعرفُ من تقزُّزك وتنطُّسِك؛ وأنك متى انتبهت على ما أَنا مُلْقِيه إليك لم آمَنْ أَنْ تستغشَّني، وإن لم تُظْهِرْه لي، إن هذا اليمانيّ إنما يعتم أبداً، ويمدُّ طُرّةَ العمامة حتى يغطِّي بها حاجِبَيْهِ؛ لأن به داءً لو عَلِمْتَ به لم تؤاكلْهُ.
قال: فقال أبي: فرَماني واللّه بمعنى كاد ينقضُ علييَّ جميع ما بيدي، وقلتُ: واللّه لئن أكلت معه وبه الذي به إنّ هذا لهو البلاءُ، ولئنْ منعت الجميع مؤاكلتي لأوحِشَنهم جميعاً بعد المباسطة والمباثَة والملابسة والمؤاكلة، ولئن خصَصْتُه بالمنع أو أقعدتُه على غير مائدتي، ليغضَبَنّ، ولئن غضِب ليغضَبنّ معه كل قحطاني بالشام، فبتُّ بليلة طويلة،فلما كان الغَدُو جلست، ودخلوا للسلام، جرى شيءٌ من ذكر السمومِ وغرائبِ أعمالها، فأقبل عَليَّ ذلك الشيخُ فقال: عندي من هذا بالمعاينةِ ما ليس عند أحد، خرجت مع ابن اخي هذا، ومع ابن عمّي هذا، ومع ابني هذا، أريد قَريتي الفُلانية، فإذا بقُرب الجادّةِ بعير قد نهشته أفعى، وإذا هو وافرُ اللحم، وكل شيء حَوَالََيه من الطَّير والسباع ميت، فقمنا منه على قابِ أرماحٍ نتعجب، وإذا عليه بعوض كثيرة،  فبينا أنا أقول لأصحابي: يا هؤلاء، إنكم لترون العجَب: أولُ ذلك أن بعيراً مثل هذا يتفسَّخ من عَضةِ شيء لعله أن لا يكون في جسم عرقٍ من عروقه، أو عَصَبة من عصَبه، فما هذا الذي مَجَّه فيه، وقذفه إليه? ثم لم يرضَ بأن قتلَه حتى قتلَ كلّ طائر ذاق منه، وكلّ سبُعٍ عضّ عليه، وأعجب من هذا قتلُه لأكابر السِّباع والطيرِ، وترْكه قتْلَ البعوضة، مع ضَعفها ومهانتِها.
فبينا نحن كذلك إذ هبَّت ريحٌ من تلقاء الجىفةِ، فطيّرت البعوض إلى شِقّنا، وتسقط بعوضة على جبهتي، فما هو إلا أن عضتْني إذ اسْمَأَدَّ وجهي تورَّم رأسي، فكنت لا أضرِبُ بيدي إلى شيء أحكُّه من رأسي وحاجِبي، إلا انتثر في يدي، فحُمِلْت إلى منزلي في محمل وعولِجْت بأنواع العلاجِ، فَبَرَأت بعد دهر طويل، على أنه أبقى عليَّ من الشَّين أنه تركني أقَرعَ الرأس، أمرط الحاجبين.
قال: والقومُ يخوضون معه في ذلك الحديث، خَوْضَ قوم قد قتَلوا تلك القصة يقيناً.
قال: فتبسمْت، ونَكَس الفتى القيسيُّ رأسه، فظن الشيخ أنه قد جرى بيننا في ذلك ذَرْء من القول، فقال: إن هذا القيسيّ خبيث،ولعله أن يكون قد احتال لكَ بحيلة قال إبراهيم: فلم أسمع في السموم بأعجبَ من هذا الحديث.
طلسمات البعوض ويزعم أهلُ أنطاكية أنهم لا يُبْعَضونَ لِطلَّسمٍ هناك، ولو ادعى أَهلُ عقْر الدَّير، المتوسطة لأجمةِ ما بينَ البصرةَ وكَسْكَر لكان طِلَّسْمُهُمْ أَعجب.
ويزعم أَهلُ حِمْص أن فيها طِلَّسْماًَ من أَجلِهِ لا تعيشُ فيها العقارب، وإنْ طُرحَتْ فيها عقَربٌ غريبةٌ ماتَتْ من ساعتها.
و لَعَمري إنه ليجوزُ أَن تكون بلدة تضادُّ ضرباً من الحيوان فلا يعيش فيها ذلك الجنس، فيدعي كذَّابو أهلها أَن ذلك برُقْية، أَو دعوة، أَو طلّسم.

ألم عضة البرغوث والقملة

والبرغوثُ إذا عض، وكذاك القملة، فيس هناك من الحُرقة والألم ما لَه مدةٌ قصيرة ولا طويلة.
وأما البعوضُ فأشهد أن بعوضةً عضتْ ظهر قدمي، وأَنا بقرب كاذَة والعَوْجاء، وذلك بعد أَن صلى الناسُ المغرب، فلم أَزَل منها في أُكالٍ وحُرْقَة، وأنا أَسير في السفينة، إلى أن سِمعتُ أَذانِ العشاء.
ولذلك يقال: إن البعوضة لو ألحقت بمقدار جرْم الجرَّارة - فإنَّها أصغرُ العقارب ثم زيدتْ مم تضاعيف ما معها من السُّمِّ عَلَى حَسَبِ ذلك لكانت شَرّاً من الدُّوَيْبّة التي تسمى بالفارسية: دَدَهْ وهي أَكبر من القملة شيئاً، وتكون بمهرجان قَُذُق، فإنها مع صِغر جسمها تفسَخ الإنسان في أَسرعَ من الإشارة باليد، وهي تعضُّ ولا تلسع، وهي من ذوات الأفواهِ، وهي التي بزعمهم يقال لها قملة النَّسر، وذلك أن النّسر في بعض الزمان، إذا سقط بتلك الأرض سقطت منه قملة تستحيل هذه الدابةَ الخبيثةَ.
والبعوضةُ من ذواتِ الخراطيم.
وحدّثني محمد بن هاشم السِّدريّ قال: كنتُ بالزُّطِّ، فكنت واللّه أرَى البعوضَة تطير عن ظهر الثور فتسقط على الغُصْن من الأغصان، فتقلِس ما في بطنها، ثم تعود.
والبعوضة تَغْمِس خرطومها في جلد الجاموس، كما يغمِسُ الرجلُ أصابعَه في الثريد.
ومن العجب أن بين البصرة وواسط شطرين، فالشَّطر الذي يلي الطّف وباب طنج يبيت أهله في عافية، وليس عندهم من البَعوض ما يذكر، والشطر الذي يلي زقاق الهِفَّة لا ينامُ أَهله من البعوض، فلو كان هذا ببلاد الشام أَو بلاد مصر لأدَّعوا الطِّلَّسم. وحدَّثني إبراهيم النَّظام قال: وردنا فم زقاق الهفة، في أجَمة البصرة،فأردنا النفوذ فمنعنا صاحبُ المسْلحة، فأرَدْنا التأخُّر إلى الَهوْر الذي خرَجْنا منه، فأبى علينا، وورَدْنا عليه وهو سكران وأَصحابُه سُكارى، فغضِب عََلَى مَلاَّح نَبَطِيٍّ، فشدّهُ قِماطاً، ثم رمى به في الأجمة، على موضعِ أرض تتصل بموضع أكواخ صاحب المسْلَحةَ، فصاح الملاح: اقتلني أيَّ قتلة شئتَ وأرحْني فأبى وطرحه، فصاح، ثم عاد صياحُه إلى الأنين، ثم خَفَتَ وناموا في كِلِلِهم وهم سكارى، فجئتُ إلى المقموط، وما جاوز وقت عتمةٍ، فإذا هو ميتٌْ، وإذا هو أَشد سواداً من الزنجي، وأشد انتفاخاً من الزقِّ المنفوخ، وذلك كله بقدر ما بين العشاء والمغرب، فقلت: إنها لمَّا لسَبَتْه ولسَعته من كلِّ جانب لسْعا عَلى لسع إن اجتماعَ سمومها فيه أَرْبَتْ عَلَى نهشة أَفعى بعيداً، فهي ضررٌ ومحنةٌ، ليس فيها شيءٌ من المرافق.
نفع العقرب والعقاربُ بأكلها مَشويةً من بعينه ريح السّبَل، فيجدُها صالحة، ويرمَى بها في الزيت، حتى إذا تفسَّخت وامتصَّ الزيتُ ما فيها من قواها فطلوْا بذلك الدهنِ الخُصى التي فيها النفخ - فرّق تلك الريح حتَّى تخمُصَ الجلِدة، ويذهب الوجع.
فإذا سمعْتَ بدُهْن العقارب فإنما يعنون هذا الدهن.

في البقّ والجِرجس والشَّرَّان والفَرَاش والأدي

وقال اللّه تعالى: "إنَّ اللّه لا يَسْتَحْيِِ أَنْ يَضْرِبَ مَثلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها"، قال: يريد فما دونها.
وهو قول القائل للرجل يقول: فلانٌ أسفلُ الناسِ وأنذلهُم فيقول: هو فوق ذلك يضعُ قوله فوق، في موضع: هو شَرٌّ من ذلك.
قال: وضروب من الطير لا تلتمسُ أرزاقها إلا بالليل، منها الخُفَّاش، والبُومة، والصَّدى، والضُّوْع، وغُرابُ الليل.
وللبعوض بالنهار تؤذي بعض الأذى، وإنما سلطانها بالليل، وكذلك البراغيث.
وأما القملُ فأمره في الحالات مستوٍ، وليس للذِّبَّانِ بالليل عملٌ، إلا أنّي متى بيَّتَ معتي في القبة ما صار إليها، وسكن فيها من الذِّبّان، ولم أطرُدْها بالعشيِّ وبعد العصر، فإني لا أجدُ فيها بعوضة واحدة.

شعر ورجز في البعوض

وقال الرَّاجز في خرطوم البعوضة:

رُكِّبَ في خُرْطُومِها سِكِّينُهَا

 

مثل السَّفَاة دائمٌ طَنـينُـهَـا

وقال الهذليّ:

وغَى رَكْبٍ أمَيْمَ ذوِي هِيَاطِ

 

كأنَّ وغَى الخَموشِ بجانِبَـيْه

والخموش: أصناف البعوض، والوغى: أصوات الملتفة التي لا يُبين واحدُها عن معنى، وهو كما تسمع من الأصوات الجيشين إذا التقيا عَلَى الحرب، وكما تسمعُ من ضجَّة السوق.
وقال الكُمَيت وهو يذكر قانصاً وصاحب قُتْرَة - لأنه لا يَبتَنِي بيته إلاّ عند شريعةٍ ينتابها الوحْش - فقال وهو يصف البعوض:

ولا أنسٌ ذو أَرْنانٍ وذُو زَجَلْ

 

به حاضرٌ من غير جِنٍّ تروُعه

والحاضر: الذي لا يبرحه البعوض، لأن البعوض من الماء يتخَلق فكيف يفارقه، والماءُ الراكد لا يزال يولدُهُ? فإن صار نطافاً أو ضَحْضَحاً استحال دعاميص، وانسلخت الدَّعاميص فصارت فراشاً وبعوضاً، وقال ذو الرُّمّة:

فَرَاشاً وأن البقْل ذاوٍ و يابسُ

 

وأيقنّ أنّ القِنْعَ صارتْ نِطافُه

وصفَ الصَّيف، وقال أبو وجْزَةَ، وهو يصِفُ القانصَ والشريعة والبعوض:

رُمْدٌ به عاذِرٌ مِنهنَّ كالجَربِ

 

تَبِيتُ جارَتَهُ الأفعى وسامرُه

رَُمْدٌ في لونها، يعني البعوض، وهي التي تسِامرُ القانِصَ وتُسْهِره، والعاذِر: الأثر، يقول: في جلده عواذير وآثارٌ كآثارِ الجَرَبِ من لسع البعوض، وهو مَعَ ذلك وسْطَ الأفاعي.
وقال الراجز يصف البَعُوض:

أمارِسُ البَعُوضَ في دُجَاها

 

ولَيلةٍ لم أدرِ مـا كَـراهـا

سِتٌّ لدَى إيفائها شَـوَاهـا

 

كلُّ زَجُول خَفِقٍ حَشـاهـا

حَنّانة أعظَمُـهـا أذاهـا

 

لا يطْربُ السامعُ من غناَها

أرجل الجرادة والعقرب والنملة والسرطان وكذلك قوائم الجرادة، هي ستّ: يدان، ورجلان، والميشاران وبهما تعتمد إذا نَزَت.
فأما العقرب فلها ثمان أرجل، وللنملة ست أرجل. وللسَّرَطان ثمان أرجل، وهو في ذلك يستعين بأسنانه، فكأنه يمشي على عَشر، وعيناه في ظهره، وما أكثر من يشويه ويأكله للشهوة، لا للحاجة ولا للعلاج.

شعر ورجز في البعوض

وقال الرَّاجز، ووصَفَ حالَهُ وحَالَ البَعوض:

أطولَ من ليلي بنهر بَـطِّ

 

لم أرَ كاليوم ولا مُـذْ قَـطِّ

أبيتُ بينَ خُطَّتي مشـتـطِّ

 

كأنما نجومُـه فـي رُبْـط

إذا تَغَنَّيْنَ غِـنـاءَ الـزُّطِّ

 

من البَعُوضِ ومن التغَطِّي

فثِقْ بوقْعٍ مثلِ وقْعِ الشَّرطِ

 

وهُنّ منّي بمكانِ الـقـرطِ

وقال أيضاً:

وأخذ اللحنَ مغنِّـياتُـهـا

 

إذا البعوضُ زجَلَت أصواتُها

كلُّ زجُولِ تُتَّقى شَذاتُـهـا

 

لم تطرب السامعَ خافضاتُها

تنقُص عن بُغيتها بُغاتُـهـا

 

صغيرةٌ عظـيمةٌْ أذاتـهـا

رامحةٌ خُرطومُها قَنَاتُهـا

 

ولا تصيبُ أبداً رُمـاتُـهـا

وأنشدني جعفر بن سعيد:

وفي براغيثَ أذاها فاشـي

 

ظَلِلْتُ بالبصرة في تَهْـوَاشِ

يرفع جَنْبَيِّ عن الـفـراش

 

من نافر منها وذي اهتماش

تتركُ في جنبيِّ كالخـراش

 

فأنا في حَكَ وفي تخْـراش

تغلي كغلي المِرجَلِ التَّشَّاشِ

 

وزوجةٍ دائمةِ الـهــراش

بل أمُّ معروف خَموشٌ ناشِ

 

تأكلُ ماجَمَّعت من تَهبـاش

وقال رجل من بني حِمَّانَ، وقَع في جُنْد الثغور:

وأهلي بنَجدٍ ساءَ ذلك من نصرِ

 

أأنصُرُ أهل الشام ممن يكيدهـم

وبَقٌّ أقاسيه على ساحل البحر

 

بَراغيثُ تُرْذِيني إذا الناسُ نَوَّمُوا

وإن بذلوا حُمْرَ الدنانيرِ كالجمْر

 

فإن يك فرضٌ بَعدها لا أعُدْ لَهُ

?

في العنكبوت

قال اللّه عز وجل: "مَثَل الَّذينَ اتخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلمُونَ"، ثم قال على إثر ذلك: "وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضرِبُها للِنَّاسِ وَمَا يَعقِلها إلاّ العَالِمُونَ" يريد ذكره بالوهَن، وكذلك هو، ولم يُرِدْ إحكام الصنعة في الرِّقَّة والصَّفاقة، واستواء الرقعة، وطول البقاء، إذا كان لا يعمل فيه تعاوُرُ الأيام، وسَلِمَ من جنايات الأيدي.

شعر في العنكبوت

وقال الحُدَّانيّ:

غَذَتْهُ بأَطْباءٍ مُلَـعَّـنَةٍ عُـكْـلُ

 

يزهِّدُني فـي وُدِّ هـارونَ أنـه

قفا عنكبوت سَلّ من دُبْرِهَا غَزْلَ

 

كأنّ قَفَا هارُونَ إذْ قَامَ مُـدْبـراً

وليس عَلَى هارون خفٌّ ولا نعْلُ

 

ألا ليت هاروناً يسافـرُ جـائعـاً

وقال مزرِّدُ بن ضِرار:

على رأسِهِ من شاملِ الشَّيْب قَوْنَسُ

 

ولو أنَّ شيخاً ذا بَـنِـينَ كـأنـمـا

إذ ا مَسَّه يَدْمى مِرَاراً ويَضْـرَسُ

 

ولم يَبْقَ من أضراسه غـير واحـدٍ

نواشئَ حتى شِبْنَ أَوْ هُنّ عُـنَّـسُ

 

تبيِّت فيه العنكبـوتُ بـنـاتِـهـا

إذا كشّ ثورٌ من كريص مُنَمِّـسُ

 

لظَـلَّ إلـيهـا رَانِـياً وكـأنــه

أجناس العنكبوت ونسْجها

قال: ومن أجناس العنكبوت جنس رديء التدبير، لأنه ينسِجُ سِترهُ على وجه الأرض، والصخور، ويجعله على ظهر الأرض خارجاً، وتكونُ الأطرافُ داخلة، فإذا وقع عليه شيءٌ مما يغْتَذِيه من شكل الذّبّان وما أشبه ذلك أخذه.
وأما الدقيق الصَّنعة فإنه يصعِّد بيته ويمدُّ الشَّعرة ناحيةَ القرون والأوتاد، ثم يسدِّي من الوسط، ثم يهيِّئُ اللُّحمة، ويهيَّئُ مَصيدَتَه في الوسط، فإذا وقع عليها ذباب تحرَّك ما هناك ارتبط ونشِبت به، فيتركه على حاله حتى إذا وثق بوَهْنِهِ وضَعْفه، غَلَّه وأدخَلَه إلى خزانته، وإن كان جائعاً مصَّ من رطوبته ورمَى به، فإذا فَرَغَ رمّ ما تشعَّثَ من نَسْجه.
وأكثرُ ما يقعُ عَلَى تلك المصيدة من الصَّيدِ عند غيبوبة الشمس.
وإنما تنسجُ الأنثى، فأما الذكرُ فإنه ينقُض ويُفسِد. وولد العنكبوتِ أعجبُ من الفرُّوج، الذي يظهر إلى الدنيا كاسباً محتالاً مكتفياً.
قال: وولد العنكبوت يقومُ عَلَى النسج ساعةَ يولد.
قال: والذي ينسِجُ به لا يخرجُ من جوفه، بل من خارج جسده.
وقال الحُدَّانيُّ:

قفا عنكبوت سُلَّ من دُبْرها غزْلُ

 

كأن قفا هارون إذ قام مُـدْبـراً

فالنحل، العنكبوت، ودود القزّ، تختلف من جهات ما يقال إنه يخْرُج منها.

العنكبوت الذي يسمى الليث

ومن العناكبِ جنسٌ يصيد الذُّبابَ صيد الفهود، وهو الذي يسمى: الليث وله ستُّ عيون، وإذا رأى الذُّبابَ لطِئَ بالأرض، وسكَّنَ أطرافه، وإذا وثَبَ لم يخطئْ، وهو من آفات الذّبّان، ولا يصيدُ إلا ذِبّان الناس.
ذبان الأسد والكلاب وذِبَّانُ الأُسْدِ علَى حِدَة، وذِبّانُ الكِلاب على حِدَة، وليس يقوم لها شيءٌ، وهي أشدُّ من الزنابير، وأضرُّ من العقارب الطيّارة، وفيها من الأعاجيب أنها تعضُّ الأُسْدَ، كما يعضُّ الكلبَ ذِبَّانُ الكَلْب.
وكذلك ذِبّانُ الكلأَ، لما يغشَى الكَلأ من بعير وغير ذلك، ولها عضٌّ مُنكَر، ولا يبلغُ مبلغَ ذِبَّانِ الأُسْد.
فمن أعاجيبها سِوى شدةِ عضِّها وسَمِّها، وأنها مقصورة علَى الأسد، وأنها متى رأت بأسد دماً من جراح أو رمْي، ولو في مقدار الخُديش الصغير فإنها تستجمعُ عليه، فلا تقلعُ عنه حتى تقتله.
وهذا شبيهٌ بما يُرْوَى ويُخبَر عن الذَّرّ، فإن الذَّرّ متى رأتْ بحيَّة خدْشاً لم تقْلِعْ عنه حتى تقتله، وحتى تأكله.
ولوع النمل بالأراك ولقد أردتُ أن أغْرسَ في داري أراكةً، فقالوا لي: إن الأراكة إنما تنبت من حبِّ الأراك، وفي نباتها عسْرٌ، وذلك أن حبّ الأراك يغرس في جوف طين، وفي قواصِرَ، ويُسقى الماءَ أياماً، فإذا نبتَ الحبُّ وظهر نباتُه فوق الطين، وُضِعت القَوْصَرَة كما هي في جوف الأرض، ولكنها إلى أنْ تصير في جوف الأرض، فإن الذرَّ يطالبها مطالبة شديدة، وإن لم تُحفظ منها بالليل والنهار أفسدتها.
فعمدتُ إلى منارات من صُفر من هذه المسارج، وهي في غاية الملاسة واللِّين، فكنتُ أَضَعُ القوصَرَة عَلَى التُّرسِ الذي فوق العمود الأملس، فأجد فيها الذرّ الكثير، فكنتُ أنقُل المنارةَ من مكان إلى مكان، فما أفلحَ ذلك الحبُّ.

ضروب العناكب

قال: والعناكب ضروبٌ: منها هذا الذي يقال له الليث، وهو الذّي يصيد الذبّان صيد الفهد، وقد ذكرنا في صدر هذا الكلام حِذقه ورفْقه، وتأتّيه وحيلته.
ومنها أجناس طِوَالُ الأرجلُ، والواحدةُ منها إذا مشت علَى جلْد الإنسان تبثَّر، ويقال إن العنكبوت الطويلة الأرجل، إنما اتخذت بيتاً وأعدَّت فيه المصايد والحبائل، والخيوطَ التي تلتفُّ على ما يدخُل بيتها من أصناف الذّبان وصغارِ الزنابير لأنها حين علِمَتْ أنها لا بدّ لها من قوت، وعرفت ضعفَ قوائمها، وأنها تعجزُ عما يقْوَى عليه الليث، احتالت بتلك الحيل.
فالعنكبوتُ، والفأر، والنحلُ، والذَّرّ، والنمل، من الأجناس التي تتقدم في إحكام شأنِ المعيشة، ومنها جنس رديء، مشنوء الصورة، غليظ الأرجل، كثيراً ما يكون في المكان التَّرِب من الصناديق والقماطر والأسفاط، وقد قيل: إنَّ بينه وبين الحيَّة، كما بين الخنفساء والعقرب.
وإناث العناكب هي العوامل: تغزل وتنسج، والذَّكَرُ أخرقِ ينقضُ ولا ينْسِجُ، وإن كان ما قال صاحب المنطق حَقّاً فما أغرَبَ الأُعجوبة في ذلك، وذلك أنه زعم أن العنكبوت تقْوَى على النَّسْج، وعلى التقدمِ في إحكام شأن المعاش حين تولد.
الكاسب من أولاد الحيوان وقالوا: وأشياءُ من أولاد الحيوان تكونُ عالمةً بصناعتها، عارفة بما يُعيشها ويُصْلحها، حتى تكون في ذلك كأُمهاتها وآبائها، حين تخرجُ إلى الدنيا، وكالفرُّوج من وََلد الدجاج، والحِسْل من ولد الضبِّاب، وفرخ العنكبوت.
وهذه الأجناسُ، مع الفأر والجرذان، هي التي من بين جميع الخلق تدَّخرُ لنفسها ما تعيش به من الطُّعم.

في النحل

زعمَ صاحبُ المنطق أن خلِيَّة من خلايا النحل فيما سلف من الزمان، اعتلتْ ومَرِض ما كان فيها من النحل، وجاء نحلٌ من خَلِيَّةٍ أخرى يقاتلُ هذا النحل حتى أخرجت العسل، وأقبل القيِّم على الخلايا يقتل بذلك النحل الذي جاء إلى خليته.
 قال: فخرج النحلُ من الخليَّة يقاتلُ النحلَ الغريب، والرجل بينها يطردُ الغريب، فلم تلسعه نحل الخليَّة التي هو حافظُها، لدفعه المكروهَ عنها.
قال: وأجودُ العسل ما كان لونه لون الذهب.

نظام النحل

قال: والنحل تجتمع فتقسم الأعمال بينها، فبعضَها يعملُ الشّمع، وبعضها يعملُ العسل، وبعضها يبني البيوتَ، وبعضها يَسْتَقي الماء ويصبُّه في الثقْب، ويلطخه بالعسل.
ومنه ما يبكِّر إلى العمل، ومن النحل ما يَكفُّه؛ حتى إذا نهضتْ واحدةٌ طارت كلها، يقال: بَكَرَ بُكورَ اليَعْسوب، يريد أمير النحل لأنها تتبعه غُدوةً إلى عملها، ومنها ما ينقل العسل من أطرافِ الشجر، ومنها ما ينقل الشَّمعَ الذي تبني به، فلا تزالُ في عملها حتى إذا كان الليل آبت إلى مآبها.
قال: والأرْي: عمل العسل، يقال: أرت تأري أرْياً، والأرْي في غير هذا الموضع: القيء، وقال أبو ذؤيب:

إذا اصفرَّ ليطُ الشمس حان انقلابُها

 

بأرىِ التي تأرِي إلى كل مَغْـربٍ

ومغارب: جمع مغرب، وكل شيء واراك من شيء فهو مغرب، كما جعله أبو ذؤيب، والأصل مغرب الشمس، وقال أبو ذؤيب:

فأصبحَ رَأْداً يبتغي المزْجَ بالسَّحْلِ

 

فباتَ بجَمْعٍ ثُمَّ تـمَّ إلـى مِـنًـى

المزْجُ: العسل، والسَّحْل: النقد.
ما له رئيس من الحيوان ومن الحيوان ما يكون لكل جماعة منها رأس وأمير، ومنها ما لايكونُ ذلك له، فأما الحيوان الذي لا يجد بدّاً ولا مصلحة لشأنه إلا في اتخاذ رئيس ورقيب فمثل ما يصنع الناس، ومثلُ ما تتخذ النحلُ والغَرانيق، والكَرَاكيّ.
فأما الإبل والحمير والبقر، فإن الرياسة لفحْل الهجْمة، ولعَير العانة، ولثَور الرَّبرَب، وذكورتها لاتتخذ تخذ الرُّقباء من الذُّكورة.
وقد زعم ناس أن الكراكيَّ لا تُرَى أبداً إلا فُرادَى فكأَن الذي يجمعها الذكر، ولا يجمعُها إلا أزواجاً.
ولا أدري كيف هذا القول? والنحل أيضاً تسير بسيرة الإبل والبقر والحمير، لأن الرئيس هو الذي يورِدُها ويُصْدِرها، وتنْهَضُ بنهوضه، وتقع بوقوعه، واليعسوب هو فحلها، فترى كما ترى، سائر الحيوان الذي يتخذ رئيساً إنما هي إناث الأجناس، إلا الناس؛ فإنهم يعلمون أن صلاحهم في اتخاذ أمير وسيِّد، ورئيس.
وزعم بعضهم أن رياسة اليعسوبِ، وفحل الهجْمة، والثورِ، والعَير، لأحد أمرين: أحدهما لاقتدار الذَّكر على الإناث، والآخر لما في طباع الإناث من حبّ ذكورتها.
ولو لم تتأمَّرْ عليها الفحولُ لكانت هي لحبِّها الفحولِ تغدو بغدوِّها، وتروح بَروَاحها.
قالوا: وكذلك الغرانيق والكراكيّ، فأما ما ذكروا من رؤساء الإبل والبقر والجواميس والحمير، فما أبعدهم في ذلك عن الصواب.
وأما إلحاقهم الغرانيقَ والكراكي بهذه المنزلة فليس علَى ما قالوا.
وعلى أنَّا لا نجدُ بُدّاً من أن يعلم أن ذكورتها أقوى على قسرِ الإناث وجمعها إليها من الإناث وعلى أنه لا بد من أن يكون بعض طاعة الإناث لها من جهة ما في طباعها من حبِّ ذكورتها، ولو كان اتخاذ الغرانيق والكراكيّ الرؤساءَ والرُّقباء إنما علته المعرفة لم يكن للغرانيق والكراكيِّ في المعرفة فضلٌ على الذّرِّ والنمل، وعلى الذِّئب والفيل، وعلى الثعلب والحمام.
أما الغنم فهي أغْثرُ وأمْوَق من أن تجري في باب هذا القول.
وقد تخضع الحياتُ للحية، والكلاب للكلب، والدُّيوك للديكِ، حتى لا تروِّمَه ولا تحاول مدافعتَه، قصة في خنوع الكلب ولقد خرجت في بعض الأسحار في طلبِ الحديث، فلما صرتُ في مربَّعة المحلَّة، ثار إليّ عِدّةُ من الكلابِ، من ضًخامها، ومما يختارُه الحُرّاس، فبينا أنا في الاحتيال لهنَّ وقد غشِينَني إذ سَكَتْنَ سكتةً واحدة معاً، ثم أخذ كل واحد في شقًّ كالخائف المستخفي، وسمعت نغمة إنسان، فانتهزتُ تلك الفُرصةَ من إمساكهنَّ عن النُّباح، فقلتُ: إنَّ هَهُنَا لَعِلَّة إذ أقبلَ رجلانِ ومعها كلبٌ أزبُّ ضخمٌ دَوسر، وهو في ساجور، ولم أرَ كلباً قط أضخم منه، فقلت: إنهنَّ إنما أمْسَكن عن النُّباح وتسترن، من الهيبة له وهي مع ذلك لا تتخذ رئيساً.
سادة الحيوان  ورُوِي عن عبّاد بن صهيب، عن عوف بن أبي جميلة، عن قسامة بن زُهير قال: قال أبو موسى: إن لكل شيء سادة حتى إن للنمل سادة، فقال بعضهم: سادة النمل: المتقدِّمات.
وهذا تخريج، ولا ندري ما معنى ما قال أبو موسى في هذا.
ولو كان اتخاذُ الرئيس من النحل، والكراكيِّ، والغرانيق، والإبل، والحمير، والثيران، لكثرة ما معها من المعرفة - لكانت القرود، والفيلة والذرّ، والثعالبُ، أولى بذلك، فلا بد من معرفةٍ، ولا بد من طباعٍ وصَنْعة.
والحمام يُزْجَلْن من لُؤلؤة، وهنَّ بَصريَّات وبغداديَّات، وهنّ جُمَّاعٌ من هاهنا و هاهنا، فلا تتخذ رئيساً.

طعن ناس من الملحدين في آية النَّحل

وقد طعنَ ناسٌ من الملحدين، وبعضُ من لا علم له بوجوه اللغِة وتوسُّع العرب في لُغتها، وفَهْمِ بعضها عن بعض، بالإشارة والوحي فقالوا: قد علمْنا أن الشمع شيءٌ تنقله النحل، مما يسقط على الشجر، فَتَبني بيوت العسل منه، ثم تنقل من الأشجار العسل الساقط عليها، كما يسقط التَّرَنْجُبين، والمنُّ، وغير ذلك، إلا أن مواضع الشمع وأبدانه خفيٌّ، وكذلك العسل أخفى وأقلّ، فليس العسل بقيءٍ ولا رجْع، ولا دخَلَ للنحلة في بطْنٍ قطُّ.
وفي القرآن قول اللّه عز وجل: "وَأَوْحَى رَبُّك إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبْال بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثمَّ كُلي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاَسْلكِي سبُلَ رَبِّكِ ذُللاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فيهِ شِفَاءٌ للِنَّاسِ إنَّ في ذلكَ لآيةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرون".
ولو كان إنما ذهبَ إلى أنه شيءٌ يُلتَقَطُ من الأشجار، كالصُّموغِ وما يتولد من طِباع الأنداء والأجْواء والأشجارِ إذا تمازجت - لمان كا في ذلك عجبٌ إلا بمقدار ما نجده في أمور كثيرة.

دعوى ابن حائط في نبوة النحل

قلنا: قد زعم ابن حائط وناسٌُ من جُهَّالِ الصُّوفيَّة، أن في النحل أنبياء، لقوله عز وجل: "وَأوْحَى رَبُّك إلَى النَّحْل"، وزعموا أن الحَوَاريِّينَ كانوا أنبياء لقوله عز وجل: " وَإذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ".
قلنا: وما خالف إلى أن يكون في النحل أنبياء? بل يجبُ أن تكون النحل كلها أنبياء، لقوله عز وجل على المخرج العامّ: "وَأَوْحَى رَبُّك إلَى النَّحُلِ"، ولم يخصّ الأمهات والملوكَ واليعاسيب، بل أطلقَ القول إطلاقاً.
وبعدُ فإن كنتم مسلمين فليس هذا قولَ أحد من المسلمين، وإلا تكونوا مسلمين فلِمَ تجعلون الحجة علي نبوة النحل كلاماً هو عندكم باطل? قول في المجاز وأما قوله عز وجل: "يَخْرجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ" فالعسل ليس بشرابٍ، وإنما هو شيء يحوَّلُ بالماء شراباً، أو بالماء نبيذاً، فسماه كما ترى شراباً، إذ كان يجيء منه الشراب.
وقد جاء في كلام العرب أن يقولوا: جاءت السماءُ اليوم بأمر عظيم.
وقد قال الشاعر:

رَعيناه وإن كانوا غِضَابَـا

 

إذا سقط السماءُ بأرْضِ قوْمٍ

فزعموا أنهم يرعَونَ السماء، وأنَّ السماء تسقط.
ومتى خرج العسلُ من جهةِ بطونها وأجوافها فقد خرج في اللغة من بطونها وأجوافها.
ومَنْ حمل اللغة علي هذا المركب، لم يفهم عن العرب قليلاً ولا كثيراً وهذا الباب هو مفخرُ العربِ في لغتهم، وبه وبأشباهه اتسعت، وقد خاطبَ بهذا الكلام أهل تِهامة، وهُذيلاً، وضواحِيَ كِنانة، وهؤلاء أصحابُ العسل، والأعرابُ أعرَف بكل صَمْغَةٍ سائلة، وعَسلة ساقطة، فهل سمعتم بأحد أنكر هذا الباب أو طعنَ عليه من هذه الحجة?

أحاديث في العسل

حُدِّثَ عن سفيان الثَّوريّ، قال حدَّثنا أبو طُعْمة عن بكر بن ماعز، عن ربيع ابن خُثَيْم قال: ليس للمريض عندي دواءٌ إلا العسل.
وعن هشام بن حسان، عن الحسن أنه كان يعجبه إذا استمشي الرجُل أن يشربَ اللبنَ والعسل، إبراهيمُ بنُ أبي يحيى، قال: بلغني عن ابن عباس: أن النبيَّ صلى اللهّ عليه وسلم سُئِل: أبىُّ الشراب أفضل? قال: الحُلْو البارد.
وسفيان الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسلِ.
 شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: مضى رجل إلى ابن مسعود فقال: إن أخي يشتكي بطنَه، وقد نُعِتَت له الخمر، فقال: سبحان اللّه ما كان اللّه ليجعلَ شفاءهُ في رجس، وإنما جُعلَ الشفاءُ في اثنين: في القرآنِ والعسل.
سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أبي المتوكّل الناجيّ، عن أبي سعيد الخدريّ: أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنَه، فقال عليه السلام: اسقهِ عسلاً، ثم أتاه فقال: قد فعلت، قال: اسقهِ عسلاً، ثم أتاه فقال قد فعلتُ، فقال: اسقهِ عسلاً، ثم أتاه الرابعَة، فقال: صدق اللّه وكذئَبَ بطْنُ أخيك، اسقه عسلاً فسقاه فبَرأ الرجُل.
قال: والذي يدلُّ على صحةِ تأويلنا لقول اللّه عز وجل: "يَخْرُجُ منْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِف أَلْوَانُهُ فيهِ شفَاءٌ لِلنَّاسِ"، أن تكون المعجوناتِ كلها إنما بالعسل، وكذلك الأنْبَجات.
نفع العسل وإذا ألقي في العسل اللحمُ الغريضُ فاحتاجَ صاحبه إليه بعد شهر أخرَجه طريّاً لم يتغير.
وإذا قطَرَت منه قَطْرَة علي وجه الأرض، فإن استدار كما يستدير الزِّئبقُ، ولم يَتَفَشَّ، ولم يختلط بالأرض والتراب فهو الصحيح، وأجودُه الذهبي.
ويزعمُ أصحابُ الشراب أنهم لم يروا شراباً قطُّ ألذَّ ولا أحسنَ ولا أجمعَ لما يريدون، من شراب العسل الذي يُنْتَبَذُ بمصر، وليس في الأرضِ تجارُ شراب ولا غيرِ ذلك أيْسَرَ ومنهم.
وفيه أعجوبةٌ: وذلك أنهم لا يعملونه إلا بماء النّيل أكْدَرَ ما يكون، وكلما كان أكدرَ كان أصْفى، وإن عملوه بالصافي فسَد.
وقد يُلقَى العسلُ على الزّبيب، وعلى عصير الكرْم فيجوِّدهم.
التشبيه بالعسل وهو المثَلُ في الأمور المرتفعة، فيقولون: ماءٌ كأنه العسل، ويصفُون كلَّ شيء حلْوٍ، فيقولون: كأنه العسل، ويقال: هو معسول اللسان، وقال الشاعر:

ودون الثُّرَيَّا مِن صديقِك مالكا

 

لسانُكَ معسولٌ ونفسُك شَـحَّةٌ

التنويه بالعسل في القرآن وقال اللّه عزَّ وجل في كتابه، وذكر أنهار الجنة، فقال: "مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِد المُتَّقون فِيها أَنْهارٌ مِنْ مَاء غيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغيَّرْ طَعْمهُ وأَنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشَّارِبينَ، وأنْهَارٌ منْ عَسَلٍ مُصَفًّى"، فاستفتح الكلام بذكر الماء، وختمه بذكر العسلِ، وذكر الماء واللبنَ فلم يذكرْهُما في نعتهما ووصفهما إلا بالسلامةِ من الأسَنِ والتغيُّر وذَكَرَ الخمر والعسلَ فقال: "مِنْ خَمْر لَذَّةٍ للشَّاربين"و "مِنْ عَسَل مُصفَّى"، فكان هذا ضرباً من التفضيل، وذكرها في مواضع أُخَر فنفى عنها عيوَب خَمْر الدنيا، فقال عز وجل اسمه: "لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزفُونَ"، فكان هذا القول الأولُ أظهر دليل على التفضيل.

في القراد

يقال: أسمَعُ من قُراد وألزَقُ من قُرَاد وماهُو إلا قراد ثَفَر، وقال الشاعر:

وهم يمنعون جارهم أن يُقَرَّدَا

 

هم السمنُ بالسنُّوتِ لا ألْسَ فيهم

السنُّوت، عند أهل مكة: العسل، وعند آخرين: الكمُّون.
وقال الحطيئة:

إذا نُزِعَ القُرَادُ بمستطاعِ

 

لَعَمْرُك ما قُرَادُ بنيكَُليْب

قال: وذلك أن الفحلَ يَمنَعُ أن يُخطَم، فإذا نزعوا من قُرَاداتِه شيئاً لذّ لذلك، وسكَنَ إليه، ولانَ لصاحبه، فعند ذلك يلقي الخطامَ في رأسه.
قال: وأخبرني فِراس بنُ خَنْدَقٍ، وأبو برْزةَ قال: كان جحدرٌ إذا نزلت رُفْقةٌ قريباً منه، أخذ شَنَّةً فجعل فيها قِردَاناً، ثم نثرها بقرب الإبل فإذا وجدَتِ الإبلُ مَسّها نهضتْ، وشدّ الشّنَّةَ في ذنب بعضِ الإبل، فإذا سمعتْ صوتَ الشَّنّة، وعمِلتْ فيها القردانُ نفرت، ثم كان يثبُ في ذِروة ما ندّ منها، ويقول: ارحم الغارَّة الضِّعاف يعني القِرْدان.
قال أبو بَرْزة: ولم تكن هِمَّتُه تجاوزُ بعيراً.

القراد في الهجو

قال رُشَيد بن رُمَيض:

ومَولى لا يدِبُّ مع القُرَادِ

 

لنا عِزٌّ ومأوَانـا قـريبٌ

وهجاهم الأعشَى فقال:

إذا ما طَمَا بالليلِ مُنْتشِرَاتها

 

فلسنا لباغي المهمَلاتِ بِقِرْفَةٍ

متى تأتِكمْ تُلْحَقْ بها أخَوَاتها

 

أبا مِسْمَعٍ أقْصِرْ فإن قصيدةً

وهجاهم حُضَين بن المنذرِ فقال:

وما كانتْ ضُبيعةُ للأمـورِ

 

تنازعني ضبيعةُ أمْرَ قومِي

ضَمَمناه إلى نسَبٍ شطـيرِ

 

وهل كانت ضُبيعةُ غيرَ عبدٍ

بفكِّ الغُلِّ عن عُنُقِ الأسير

 

وأوصاني أبي، فحفظتُ عنهُ

بإرسال القُرَادِ على البَعيرِ

 

وأوصَى جَحْدَرٌ فَوَقى بَنـيهِ

قال: وفي القردان يقول الآخر قال: وبعضهم يجعلها في البراغيث؛ وهذا باطلٌْ:

إذا ظَهَرَتْ في الأرض شَدَّ مُغيرُها

 

ألا يا عبادَ الـلّـهِ مَـنْ لِـقَـبـيلةٍ

ولا ذُو سلاحٍ من مَعَدٍّ يَضِـيرُهـا

 

فلا الدِّينُ ينهاها ولا هي تنـتـهـي

فمن أصناف القِرْدان: الحَمْنان، والحَلم، والقِرشام، والعَلُّ، والطِّلْح.

شعر ومثل في القراد

وقال الطِّرمَّاح:

صيرة دفـــن الإزاء مـــلـــتـــبــــدهُ

 

لمَّـا وَرَدَتِ الـطـوىّ والـــحـــوضُ كـــال

ثم اسـتـمـرَّت فـي طـامـــسٍ تـــخـــده

 

سافـتْ قـلـيلاً عَـلـــى نـــصـــائبـــه

طلـحُ قـراشـيمَ شـــاحـــبٌ جـــســـده

 

وقـد لـوى أنـفـهُ بـمـــشـــفـــرِهـــا

 

 

علٌّ طويلُ الطوى كبالية السفع متى يلق العلو يصطعده

وفي لُزوق القُرادِ يقولُ الراعي:

لا يستطيعُ بها القُرَاد مَقيلا

 

نبتَتْ مرافقهُنَّ فَوْقَ مَـزِلَّةٍ

والعربُ تقولُ: ألْزَقُ من البرَام كما تقول: ألْزَقُ من القُراد، وهما واحدٌ.
شعر لأمية في الأرض والسماء وذكر أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ، خلق السماء، وإنه ذكرَ من مَلاَسَتِها أن القُراد لا يَعْلقُ بها، فقال:

فيها معاقلنا وفيهـا نـولـدُ

 

والأرضُ معقلنا وكانتْ أمنـا

حبسوا قياماً فالفرائص ترعد

 

فيها تلاميذ على قذفـاتـهـا

خلقاء لا تبلـى ولا تـتـأود

 

فبنى الإله عليهم مخصـوفة

زلَ البرام عن التي لا تقردُ

 

فلو أنه تحدو البرام بمتنـهـا

استطراد لغوي

قال: القُرَادُ أول ُ ما يكون - وهو الذي لا يكاد يُرَى من صِغَر - قَمْقَامَة، ثم يصير حَمْنَانة، ثم يصير قراداً، ثم يصير حَلَمة.
قال: ويقال للقُراد: العَلّ، والطِّلْح، والقَتِين، والبُرام، وَالقِرْشام.
قال: والقُمّل واحدتها قمَّلة، وهي من جنس القِردان، وهي أصغر منها.

تخلق القراد والقمل

قال: والقِرْدانُ يتخلَّق من عرَق البعير، ومن الوسخ والتلطُّخ بالثُّلُوط والأبوال، كما يتخلَّق من جلد الكلب، وكما يتخلق القملُ من عرق الإنسان ووسَخه، إذا انطبق عليه ثوبٌ أو شعرٌ أو ريش.
والحَلَم يعرض لأُذنَيِ الكلب أكثرَ ذلك.

أمثال وأخبار في القراد

قال: ويقال أَقطَفُ مِنْ حَلمَة، وألزَقُ من بُرَام، وأذلُّ من قُرَاد، وقال الشاعر:

يَعَضُّ القرَادُ باسْتِه وهو قائمُ

 

يكاد خَليلي من تقارُبِ شَخصِه

وقال أبو حَنش لقيس بن زهير: واللّه لأنْتَ بها أذلُّ من قُراد، فقدَّمَه وضَرَبَ عُنقَه.
وقال الراجز:

بِيضٌ كحَبِّ الحنْظلِ المقلي

 

قِرْدانُه في العَطنِ الحَوْلـيِّ

من الخَلاءَ ومن الخُوِيِّ.
ويقال كلمة الثدي: القراد، وقال عديُّ بن الرَّقاعِ:

بطينٍ من الجَوْلان كتّابُ أعْجَمِ

 

كأنَ قرَادَيْ صدرِه طَبعتْهُمَـا

والقُرَادُ يعرضُ لاسْتِ الجَملِ، والنمل يعرضُ للخُصَى، وقال الشاعر:

مكان القُرَاد مِنْ اسْتِ الجَملْ

 

وأنتَ مـكـانُـك مـن وائل

قال الممَّزِق:

ولو ظلَّي في أوصالها العَلُّ يرتَقي

 

تُنَاخُ طليحاً ما تُرَاعُ مـن الـشَّـذا

ويروَى: فباتَتْ ثلاثاً لا تُرَاع، يصف شدةَ جزعها من القردان.
وقال بشار بنُ بُرد:

عَلَى كَبِدي كما لزق القُرَادُ

 

أعادي الهمَّ منفرداً بشـوق

وكانوا إذا خافوا الجَدبَ والأزمة تقدموا في عمل العِلهِز، والعلْهِز.
قِردَانٌ يُعالج بدم الفصْد مع شيء من وَبر، فيدّخرون ذلك كما يدّخرُ مَن خاف الحصار الأكارعَ والجاوَرْس.
والشُّعوبيّة تهجو العربَ بأكلِ العِلْهِز، والفثِّ، والدُّعاع، والهبيد، والمغافير، وأشباِه ذلك، وقال حسانُ بنُ ثابتٍ:

غِ ولا شَرْيِ حنظلِ الخُطْبانِ

 

لم يُعَلَّلْنَ بالمغافير والـصَّـمْ

وقال الطِّرِمَّاح:

تنقف هَيبداً يَجْنيه مُهْتَبِدُه

 

لم تأكلِ الفثّ والدعاعَ ولم

وقال الأصمعيُّ: قال رجلٌ من أهل المدينة لرجل: أيسْرُّك أن تعيشَ حتى تجيء حَلَمةٌ من إفريقية مشياً? قال: فأنت يسرُّك ذلك? قال: أخافُ أن يقول إنسانٌ: إنها بمخيض، فيُغْشَى عليَّ ومخيض على رأسِ بَريد من المدينة.
ويقولون: أمّ القرَاد، للواحدِة الكبيرة منها، ويتسمَّوْنَ بقرَاد، ويكتنون بأبي قراد، وقد ذكر ذلك أبو النجم فقال:

للأرض من أمِّ القُرادِ الأطْحَلِ

وفي العرب بنو قُراد.

في الحبارى

ونَُقولُ في الحُبارى بِقول مُوجز، إن شاء اللّه تعالى.
قال ابنُ الأعرابي: قال أعرابيٌّ إنه ليقتلُ الحُبارَى هزلاً ظلمُ الناس بعضهم لبعض، قال يقول: إذا كثرت الخطايا منَع اللّه عز وجل دَرَّ السَّحاب، وإنما تصِيب الطيرُ من الحبِّ ومن الثمر عَلَى قدْر المَطر.
وقال الشاعر:

بُّ وتغشَى منازلُ الكُرَماءِ

 

يسقُط الطيرُ حيثُ ينْتَثِر الحَ

وهذا مثل قوله:

والأذرُعَ الواسعةَ السِّبـاطـا

 

أَمَا رأيتَ الألسُنَ الـسِّـلاطَـا

 

 

إن الندَى حيثُ تَرَى الضِّغاطا

ما قيل من المثل في الحبارى

وقالوا في المثل: مات فلانٌ كَمَدَ الحُبارَى: وقال أبو الأسود الدؤلي:

إذا ظعنت هُنيدةُ أو تُلمُّ

 

وزَيْدٌ ميَّتٌ كَمَدَ الحُبَارَى

ويروى: ملمّ وهو اسم امرأة.
وذلك أن الطير تتحسَّر وتتحسّر معها الحُبارى، والحُبارى إذا نُتِفتْ أو تحسّرتْ أبطأ نبات ريشها، فإذا طار صُوَيحِباتها ماتت كمداً.
وأما قوله: أو تلمّ يقول: أوْ تقارِب أن تَظْعَن.
وقال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه: كلُّ شيء يحبُّ ولدَهُ حتى الحُبارى، يضرب بها المثل في المُوق.

سلاح الحبارى وغيرها من الحيوان

قال: وللحبارَى خِزانة بين دُبُره وأمعائه، له فيها أبداً سَلْحٌ رقيق لزج، فمتى ألحّ عليها الصقرُ وقد علمت أن سُلاحها منْ أجود سِلاحها، وأنها إذا ذرقتْهُ بقي كالمكتوف، أو المدبَّقُ المقيَّد فعند ذلك تجتمع الحبارياتُ على الصقر فينتفن ريشَه كلَّه طاقةً طاقةً وفي ذلك هلاكُ الصقر.
قال: وإنما الحُبارى في سُلاحِها كالظَّرابيِّ في فُسائها، وكالثعلب في سُلاحه، وكالعقرب في إبرتها، والزنبور في شعرته، والثور في قرنه، والدِّيك في صِيصِيَته، والأفعى في نابها، والعُقابِ في كفَّها، والتمساح في ذنبه.
وكلُّ شيء معه سلاحٌ فهو أعلم بمكانه، وإذا عدم السِّلاحَ كان أبعصَرَ بوجوه الهرب؛ كالأرنب في إيثارها للصَّعْداء، لقصر يديها، وكاستعمال الأرانب للتوبير والوطء على الزَّمَعات، واتخاذ اليرابيعِ، القاصعاءَ والنَّافقاء، والدَّامَّاء، والراهِطاء.

شعر في الحبارى

وقال الشاعر:

رأَتْ صقراً وأَشْردَ من نَعَامِ

 

وهم تركوك أسْلَحَ مِنْ حُبَارَى

يريد: نعامة، وقال قيسُ بن زهير:

لتجري إلى شَأوٍ بعيد وتـسـبـحِ

 

متى تتحزَّمْ بالمناطـق ظـالـمـاً

أُصيبَ وإن تفْلِتْ من الصَّقْر تسْلحِ

 

تكُنْ كالحُبارَى إن أصيبتْ فمِثْلُهـا

وقال ابن أبي فَنَنٍ، يصفُ ناساً من الكُتَّابِ، في قصيدة له ذكرَ فيها خيانَتَهم، فقال:

وقالوا الدِّينُ دين بنَي صَهارى

 

رَأَوْا مالَ الإمامِ لهـمْ حَـلالا

لقد سَلَحُوا كما سَلَح الحُبارَى

 

ولو كانوا يحاسبُـهـمْ أمـينٌ

الخرب والنهار والخَرَب: ذكَر الحُبارى، والنهارُ: فرْخ الحُبارى، وفرخها حارض ساقطٌ لا خير فيه، وقال متمِّمُ بن نويرة:

وعانٍ ثوى في القِدِّ حتى تكنَّعـا

 

وضَيفٍ إذا أَرغى طُروقاً بَعيرَه

كفَرْخ الحُبَارَى رأسُه قد تصَوَّعا

 

وأرملةٍ تمشي بأشعثَ مُحْـثَـل

وقال أعرابيّ:

وخَرَباً يرعى ربيعاً أرملا

 

أحبُّ أنْ أصطادَ ضبّاً سَحْبَلا

فجعل الخَرَب أرمَل، لأن ريشه يكون أكثر، وقد ذكرنا ما في هذا الباب فيما قد سلف من كتابنا.

خبر فيه ذكر الحبارى

وقال أبو الحسن المدائنيّ: قال سعيد النّواءُ: قدِمْت المدينةَ فلقيتُ عليَّ بن الحسين، فقلت: يا ابنَ رسولِ اللّه، متى يُبْعثَُ أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب? قال: إذا بُعِثَ الناس.
قال: ثم تذاكرنا أَيامَ الجملَ فقال: ليته كان ممنوعاً قبل ذلك بعشرين سنة أو كلمة غير هذه قال: فأتيت حسن بن حسَنٍ، فذكرتُ له ما قال، فقال: لَوَدِدْتُ واللّه أنه كان يقاتلهم إلى اليوم قال: فخرجت من فَوري ذلك إلى عليِّ بن الحسين، فأخبرته بما قال، فقال: إنه لقليلُ الإبقاء على أبيه.
قال: وبلغ الخبرُ المختارَ فقال: أيُضَرِّبُ بين ابنَي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم? لأقتلنَّه فتواريت ما شاء اللّه، ثم لم أشعر إلا وأنا بين يديه، فقال: الحمد للّه الذي أمكنَني منكقال فقلت: أنت استمكنْتَ منِّي? أمَا واللّه لولا رؤيا رأيتها لَمَا قَدرْتَ عليّ قال: وما رأيت? فقلت: رأيتُ عثمان بن عفان، فقالت: أنت عثمانُ بنُ عفان? فقال: أنا حُبَارى، تركتُ أصحابي حَيَارى، لا يهود ولا نصارى.
فقال: يا أهل الكوفة انظروا إلى ما أرى اللّه عدوّكم ثم خلَّى سبيلي، وِقد رُوي هذا الكلامُ عن شُتَيْر بن شَكَل، أَنه رأَى معاوية في النوم فقال الكلامَ الذي رُوي عن عثمان.
ووجْهُ كلامِ عليِّ بن الحسين الذي رواه عنه سعيدٌ النواءُ، إن كان صادقاً فإنه للذي كان يسمعُ من الغالية، من الإفراط والْغلوِّ والفُحْش.
فكأنه إنما أرادَ كسرهم، وأن يحُطَّهم عن الغلوّ إلى القصْد؛ فإن دين اللّه عزّ وجلّ بَيْنَ التقصير والغلوّ، وإلا فعليُّ بن الحسين أَفْقَهُ في الدين، وأعلمُ بمواضع الإمامة، من أن يخفَى عليه فضلُ ما بين عليِّ بين طلحة والزُّبير.
شعر ومعرفة في الحبارى وقال الكميت:

لأزْرَقَ مَغْلولِ الأظافير بالخَضْبِ

 

وعيدَ الحبارَى من بعيد تنفَّـشَـتْ

والحبارى طائرٌٌ حسن، وقد يُتَّخَذُ في الدور.
وناسٌ كثيرٌ من العرب وقريش يستطيبون مَحْسِيَّ الحُبارَى جدّاً.
قال: والحُبارى من أَشد الطير طيراناً، وأَبعَدها مَسْقَِطاً وأَطولها شوْطاً، وأقلِّها عُرْجةً، وذلك أَنها تُصْطاد بظهر البَصرة عندنا، فيشقَّق عن حواصلها، فيوجد فيه الحبّة الخضراءُ غَضّةً، لم تتغير ولم تفسُد.
وأَشجار البُطم وهي الحبّة الخضراء بعيدةُ المنابت مِنَّا وهي عُلوية أو ثغْريّة، أو جَبَلِيَّة، فقال الشاعر:

نَ أو يانـعـاً مـن الـعُـتُــمِ

 

ترتعي الضّرْوَ من بَرَاقش أَو هيلا

شجر الزيتون، والضّرو شجر البُطُم، وهي الحبَّة الخضراء بالجبال شجرتها.
وقال الكَودَن العِجْليّ، ويروى العُكْلي: البطم لا يعرفه أهل الجَلْس، وبلاد نجد هي الجلس، وهو ما ارتفع، والغور هو ما انخفض.
وبَراقِشُ: واد باليمن، كان لقوم عاد، وبراقشُ: كلبةٌ كانت تتشاءم بها العرب، وقال حمزة بن بيض:

وعَلَى أَهلِها بَرَاقِشُ تجْنِي

 

بل جناها أَخٌ عَلَيَّ كـريمٌ

القول في الضأْن والمعز

قال صاحب الضَّأن: قال اللّه تبارك وتعالى: "ثَمانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأْن اثْنَين وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ"، فقدَّم ذِكرَ الضأن.
وقال عزّ وجلّ: "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ"، وقد أَجمعوا على أَنه كبشٌ، ولا شيءَ أَعظمُ مما عظّم اللّه عزّ وجلّ، ومِنْ شيء فُدِيَ به نبيٌّ.
وقال تعالى: "إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجةٌ وَاحِدةٌ" ولم يقل إنَّ هذا أَخي له تسعٌ وتسعونَ عَنْزَاً وَلي عنزٌ واحدة؛ لأن الناس يقولون: كيف النعجة? يريدون الزوجة.
وتسمي المها مِنْ بقَر الوحش نعاجاً ولم تسمّ بعُنُوز، وجَعلهُ اللّه عزّ وجلّ السّنّةَ في الأضاحي، والكبشُ للعقيقة وهدية العُرْس وجعل الجذَع من الضأن كالثّنِيِّ من المعْز في الأُضْحِيَة.
وهذا ما فضَّل اللّه به الضأن في الكتاب والسُّنّة.

فضل الضأْن على المعز

تولَّد الضأن مرة في السّنَة، وتُفْرِد ولا تُتئِم، والماعزة قد تولَّد مرتين، وقد تضعُ الثلاثَ وأكثرَ وأقلَّ.
والبركة والنَّماء والعددُ في الضأن، والخنزيرةُ كثيرةُ الخنانيص، يقال إنها تلد عشرينَ خِنَّوصاً، ولا نماء فيها. قال: وفضل الضأن على المعز أن الصوف أغلى وأثمنُ وأكثرُ قدراً من الشعر، والمثلُ السائر: إنما فلانٌ كبشٌ من الكِباش، وإذا هجَوه قالوا: إنما هو تيسٌ من التيوس إذا أرادوا النتن أيضاً، فإذا أرادوا الغاية في الغباةِ قالوا: ما هو إلا تيسٌ في سفينة.
والحُمْلاَنُ يلعبُ بها الصبيان، والجداءُ لا يُلعبُ بها، ولبنُ الضأن أطيبُ وأخثَرُ وأدسم، وزُبْده أكثر، ورؤوس الضأن المشوِيّةُ هي الطيبة المفضلة، ورؤوس المعْز ليس عندها طائل.
ويقال رؤوس الحُملان، ولا يقال رؤوس العِرْضان.
ويقال لِلُّوطِيِّ الذي يلعب بالحُدَّر من أولاد الناس: هو يأكل رؤوس الحُملان؛ لمكان ألية الحَمل، ولأنه أخْدل وأرطب، ولم يقولوا في الكناية والتعريض: هو يأكل رؤوس العِرضان.
والشِّواءُ المنعوتُ شِواءُ الضأن، وشحمُه يصير كلُّه إهالةً أوَّله وآخرُهُ، والمعْز يبقى شحمُه على حاله، وكذلك لحمه، ولذلك صار الخبَّازون الحُذَّاقُ قد تركوا الضأن؛ لأن المعْز يبقى شحمه ولحمه، فيصلح لأن يسخَّن مراتٍ، فيكون أربَحَ لأصحاب العُرس.
والكباشُ للهدايا وللنطاح، فتلك فضيلةٌ في النجدة وفي الثقافة، ومن الملوك من يُرَاهِنُ عليها، ويضع السَّبَق عليها، كما يراهن على الخيل.
والكبشُ الكراز يحمل الراعيَ وأداةَ الراعي، وهو له كالحمار في الوقير، ويعيش الكرَّازُ عشرين سنة.
وإذا شَبِقَ الراعي وَاغتَلم اختارَ النعجة على العنز، وإذا نعتوا شكلاً من أشكال مشي البراذِين الفُرَّه قالوا: هو يمشي مشْي النِّعاج.
وقال اللّه عزّ وجلّ: "وَمِنْ أَصوَافِها وَأَوْبَارِها وَأَشْعَارِهَا" فقدّم الصُّوف.
والبُخْت هي ضأن الإبل، منها الجمّازات، والجواميس هي ضأن البقر، يقال للجاموس الفارسية: كاوْماش.
ولا يُذْكرُ الماعزُ بفضيلةٍ إلا ارتفاعَ ثمن جلده، وغَزَارةَ لبَنه، فإذا صِرْتَ إلى عدَدِ كثرة النِّعاج وجلودِ النعاج والضأن كلِّها أرْبَى ذلك على ما يفضُلُ به الماعزُ الضأن في ثمنِ الجلد، والغَزر في اللبن.

قول ابنة الخس ودغفل في المعز

وقيل لابنة الخُسّ: ما تقولين في مائة من الماعز? قالت: قِنًى! قيل: فمائة من الضأن? قالت: غِنًى، قيل: فمائة من الإبل? قالت: مُنًى! وسئل دَغْفل بن حنظلة عن بني مخزوم، فقال: مِعزَى مَطيرة، عليها قُشَعْرِيرة، إلا بني المغيرة؛ فإن فيهم تشادُقَ الكلام، ومصاهرة الكرام.

ما قيل من الأمثال في العنز

وتقول العرب: لهو أصْرَدُ من عَنزٍ جَرْباء وتقول العرب: العنز تُبْهِي ولا تُبْنِي لأن العنز تصعَد على ظهور الأخْبِيةِ فتقطعها بأظلافها، والنعجةَ لا تفعل ذلك.
هذا، وبيوتُ الأعراب إنما تُعْمَلُ من الصوف والوبَر، فليس للماعز فيها معونة، وهي تخرِّقها، وقال الأول:

كانت له قبَّةٌ سَحْقَ بجادْ

 

لو نزلَ الغيثُ لأَبْنَيْنَ امرأً

أبناه: إذا جعل له بناء، وأبنية العرب: خيامهم؛ ولذلك يقولون: بنى فلانٌ على امرأته البارحة،

ضرر لحم الماعز

وقال لي شمؤون الطبيب: يا أبا عثمان، إياك ولحم الماعز؛ فإنه يورثُ الهمَّ، ويحرِّك السّوداء، ويورثُ النِّسيان، ويُفسدُ الدمَ وهو واللّه يخبِّل الأولاد.
وقال الكلابيُّ: العُنُوق بعد النُّوق، ولم يقل: الحمَل بعد الجمَل.
وقال عمرُو ابن العاص للشيخ الجُهنيِّ المعترض عليه في شأن الحكَمين: وما أنتَ والكلامَ يا تيس جُهينة? ولم يقلْ يا كبشَ جُهينة؛ لأن الكبشَ مدحٌ والتَّيس ذمٌّ.
وأما قوله: إن الظّلف لا يُرَى مع الخُفِّ فالبقرُ والجواميس والضأن والمعْز في ذلك سواء.
قال: وأُتُيَ عبدُ الملكِ بن مرْوان في دخوله الكوفة على موائد بالجِداء، فقال: فأين أنتم عن العماريس? فقيل له: عماريس الشّام أطيب.
وفي المثل: لهو أَذَلُّ من النقَد، النقَد هو المعز، وقال الكذّابَ الحِرْمازيُّ:

أو كنتمُ ماءً لكنتمُ زَبَدا

 

لو كنتمُ قولاً لكنتمُ فَنـدَا

أو كنتم عوداً لكنتم عُقَدا

 

أو كنتمُ شاءً لكنتم نَقَـدا

اشتقاق الأسماء من الكبش

قال: والمرأة تسمى كَبْشَةً، وكُبَيشة، والرجل يكنى أبا كَبْشة، وقال أبو قُردودة:

 

ينَ يستبقُ الدمعُ مني استباقا

 

كبيشة إذ حاولـتْ أن تَـبِ

كشحاً لطيفاً وفخذاً وساقا

 

وقامتْ تريكَ غداة الفراقِ

 

ل توسعه زَنْبقاً أو خلاقا

 

ومنسدلاً كمثاني الحـبـا

 








وأول هذه القصيدة:

وتسألُني بعْدَ وَهْنٍ فِراقـا

 

كبيشةُ عِرْسي تريدُ الطَّلاقا

قول القصاص في تفضيل الكبش على التيس

وقال بعض القُصّاص: ومما فضل اللّه عزّ وجلّ به الكبْش أن جعله مستورَ العورة من قُبُل ومن دبُر، وممَّا أهان اللّه تعالى به التيس أن جعله مهتوكَ الستر، مكشوف القبُل والدُّبُرِ.

التيس في الهجاء

وقال حسّان بن ثابتٍ الأنصاريُّ:

بنو عامر شاهتْ وجوهُ الأعابِدِ

 

سألت قريشاً كلها فشـرارُهـا

تجاوُبَ عِتْدَان الربيعِ السَّوافِدِ

 

إذا جلسوا وسْطَ النَّدِيِّ تجاوبوا

وقال آخر:

عَتوٌُ في مَفارِقِه يبـولُ

 

أعثمانُ بنُ حَيّانَ بنِ أدم

نَعامَتُه ويعلمُ ما أقـولُ

 

ولو أني أشاءُ قد ارفأنَّتْ

وقال الشاعر:

فعادَ لك المسْمِي فسَمَّاك بالقَحْرِ

 

سُمِّيتَ زَيداً كي تزيد فلـم تُـزِدْ

عليه ويمني في الَّلبان وفي النَّحْرِ

 

وما القحْرُ إلا التّيسُ يعتك بَولُـه

نتن التُّيوس

فالتَّيس كالكلب؛ لأنه يقزَحُ ببوله، فيريدُ به حاقَّ خَيشومه، وبول التَّيس من أخْثَر البَولِ وأَنتنِه، وريحُ أبدانِ التُّيوس إليها ينتهي المثَل، ولو كان هذا العرَضُ في الكبش لكان أعذرَ له؛ لأن الخموم واللخَن، والعفَن والنَّتْن، لو عرض لجلدِ ذي الصُّوفِ المتراكم، الصَّفيق الدقيق، والملتفِّ المستكثِف؛ لأن الرِّيح لا تتخلَّله، والنسيم لا يتخرّقه - لكان ذلك أشبه.
فقد علِمْنا الآن أن للتيسِ مع تخلخل شعره، وبروز جلده وجفوف عرَقه، وتقطع بخارِ بدنه - فضلاً ليس لشيء سواه، والكلبُ يُوصَفُ بالنَّتْن إذا بلّه المطَر، والحيَّات توصفُ بالنّتن، ولعل ذلك أن يجدَه من وَضع أنفه على جلودها.
وبولُ التّيس يخالط خَيشومَه، وليس لشيء من الحيوان ما يشْبِهُ هذا، إلا ما ذكرْنا من الكلب، على أن صاحب الكلب قد أنكَرَ هذا.
وجلود التُّيوس، وجلود آباط الزِّنْج، مُنتِنَة العرَق، وسائر ذلك سليم، والتيس إبطٌ كله، ونتْنه في الشتاء كنتْنه في الصيف، وإنا لندخل السكّةَ وفي أقصاها تَيَّاس، فنجِدُ نتْنها من أدناها، حتى لا يكاد أحدُنا يقطعُ تلك السكة إلا وهو مخمَّرُ الأنف، إلاما كان مما طبَعَ اللّه عزّ وجلّ عليه البَلَوِيّ وعليّاً الأسواري؛ فإن بعضَهما صادقَ بعضاً على استطابة ريح التيوس، وكان ربما جلسا على باب التَّيَّاس؛ ليستنشقا تلك الرائحة، فإذا مرَّ بهما من يعرفهما وأنكر مكانهما، ادّعيا أنهما ينتظران بعض من يخرجُ إليهما من بعض تلك الدُّور.
المكّيّ وجاريته فأما المكي فإنه تعشَّقَ جاريةً يقال لها سَنْدَرة، ثم تزوجها نَهاريَّة وقد دعاني إلى منزلها غيرَ مرّة، وخَبَّرني أنها كانت ذاتَ صُنان، وأنه كان معجَباً بذلك منها، وأنها كانت تعالجه بالمرتك، وأنه نهاها مراراً حتى غضب عليها في ذلك، قال: فلما عرَفَتْ شهوتي كانت إذا سألَتْني حاجة ولم أقضها قالت: واللّه لأتَمَرَْتَكَنَّ، ثم واللّه لأتَمرتكَنَّ، ثمَّ واللّه لأتَمَرْتكنَّ فلا أجِدُ بُدّاً من أن أقضي حاجتها كائناً ما كان.
اشتهاء ريح الكرياس وحدّثني مُويس بن عمران، وكان هو والكذب لا يأخذان في طريق، ولم يكن عليه في الصدق مَؤونة، لإيثاره له حتى كان يستوي عنده ما يضرُّ وما لا يضر - قال: كان عندنا رجل يشتهي ريح الكِرْياس لا يشفيه دونه شيء، فكان قد أعدَّ مِجْوَباً أو سكة حديد في صورة المِبرد، فيأتي الكراييس التي تكون في الأزقة القليلة المارة، فيخرِق الكِرياس ولا يبالي، أكان من خزَف أو من خشب، ثم يضعُ منخرَيه عليه، حتى يقضِيَ وطرَه.
قال: فلقي الناسُ من سَيَلان كرايِيسهم شرّاً حتى عثَروا عليه فما منعَهُم من حبسه إلا الرحمة له من تلك البليّة، مع الذي رأوا من حسن هيئته، فقال لهم: يا هؤلاء، لو مررتم بي إلى السلطانِ كان يبلغُ من عقابي أكثر مما أبلغ من نفسي? قالوا: لا واللّه وتركوه.

نتن العنز

قالوا: وهذا شأنُ التَّيس، وهو أبو العنز، ولا تلد الحيَّة إلا حيّة، ولا بد لذلك النّتْن عن ميراث في ظاهر أو باطن، وَأَنْشدوا لابن أحمر:

كالعنز تَعطفُ رَوقَيها فتَرتضعُ

 

إني وجدْت بني أعْيَا وجاملهـم

وهذا عيب لا يكون في النِّعاج.

مثالب العنز

والعَنز هي التي ترتضع من خِلفِها وهي مُحَفَّلة، حتى تأتيَ على أقصى لبنِها، وهي التي تنزع الوتد وتقلِبُ المِعْلَف، وتنثر ما فيه.
وإذا ارتعتِ الضائنة والماعزة في قصيل، نبتَ ما تأكله الضائنة، ولا ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضائنة تقرِض بأسنانها وَتقطع، والماعزة تقبض عليه فتثيره وتجذبه، وهي في ذلك تأكله، ويضرب بها المثلُ بالموق في جلْبها حَتْفَها على نفسها، وقال الفرزدق:

إلى مُدْيَةٍ تحتَ التُّرابِ تُثيرُهـا

 

فكانتْ كَعَنْزِ السُّوءِ قامتْ بظِلْفِها

تيس بني حمان

وقال الشاعر:

 

لَعَمْرُك ما تَدْرِي فَوَارِسُ مِنْقَرٍأَفِي الرأْسِ أَمْ فِي الإستِ تُلْقَى الشَّكائمُ

عن الـمـجْـد حـــتـــى أحـــرزَتْـــهُ الأكـــارِمُ

 

وألْهى بَني حِمَّانَ عَسْبُ عَتودِهم




وذلك أن بني حمَّان تزعم أن تيسهم قرَعَ شاةً بعد أن ذُبح وأنه ألقحها.

أعجوبة الضأن

قالوا: في الضأن أعجوبةٌ؛ وذلك أن النعجة ربما عظمت ألْيَتُها حتى تسقطَ على الأرض، ويمنعها ذلك من المشي، فعند الكبش رِفقٌ في السِّفاد، وحِذْقٌ لم يُسْمَعْ بأعجبَ منه، وذلك أنه يدنو منها ويقف منها موقفاً يعرِفُه، ثم يصكّ أحدَ جانبي الأليةِ بصدره، بمقدارٍ من الصكّ يعرفه، فيفرج عن حياها المقدار الذي لا يعرفه غيرُه، ثم يسفَدُها في أسرَعَ من اللَّمح.

فضل الضأن على الماعز

وقالوا: والضأنُ أحمَلُ للبرد والجَمد ولِلرِّيح والمطر.
قالوا: ومن مفاخر الضأن على المعز أن التمثيل الذي كان عند كسرى والتَّخييرَ، إنما كان بين النعجة والنخلة، ولم يكن هناك للعنز ذِكر وعلى ذلك الناسُ إلى اليوم.
والموتُ إلى المعزَي أسْرَع، وأمرَاضها أكثر، وإنما معادِن الغنَم الكثير الذي عليه يعتمدُ الناسُ الجبالُ، والمعز لا تعيش هناك، وأصوافُ الكِباش أمنَعُ للكِباشِ من غِلَظ جُلودِ المعز، ولولا أن أجوافَ الماعز أبردُ وكذلك كُلاها، لَمَا احتَشَتْ من الشّحم كما تحتشي.

جمال ذكورة الحيوان وقبح التيوس

وذكورة كلِّ جنس أتمُّ حُسناً من إناثها، وربما لم يكنْ للإناث شيءٌ من الحُسنِ، وتكون الذكورةُ في غاية الحسن؛ كالطواويس والتَّدارج، وإناثها لا تدانيها في الحُسن، ولها من الحسن مقدارٌ، وربما كُنَّ دونَ الذُّكورة، ولهنّ من الحسن مقدار، كإناث الدَّراريج والقَبَج والدجاج والْحمام، والوراشين، وأشباه ذلك.
وإذا قال الناس: تيّاس، عُرِف معناه واستُقْذِرَتْ صناعته، وإذا قالوا: كَبَّاش، فإنما يعنُون بيعَ الكبَاش واتخاذها للنِّطاح.
والتُّيوسُ قبيحة جدّاً، وزاد في قبحها حُسْن الصَّفايا.

التشبيه بالكباش والتفاؤل بها

وإذا وصفوا أعذاق النخلِ العِظام قالوا: كأنَّها كِباش.
وقال الشاعر:

دُوينَ الخوافي أو غرايرَ تاجِرِ

 

كأنَّ كِباشَ السَّاجِسِيَّةِ عُلِّـقـت

وصَوّر عُبيدُ اللّه بن زياد، في زقاق قصره، أسداً، وكلباً، وكبشاً فقَرَنَه مع سَبُعين عظيمَي الشأن: وحشيًّ، وأهليّ؛ تفاؤلاً به.

شعر في ذم العنز

ومما ذمُّوا فيه العنز دونَ النعجةِ قولُ أبي الأسودِ الدُّؤَلي:

يعبِّس كالغَضْبان حين يقـولُ

 

ولستُ بمعراضٍ إذا ما لقيتـه

ورِئمانها يومـان ثـم يزولُ

 

ولا بِسبس كالعنز أطولُ رِسْلها

وقال أبو الأسود أيضاً:

نصيحةُ ذي الرأي للمجتبيها

 

ومن خير ما يتعاطي الرجالُ

بأظلافها مديةً أو بفـيهـا

 

فلا تكُ مثلَ التي استخرجتْ

ومن تدع يوماً شعوبُ يجيها

 

فقام إلـيهـا بـهـا ذابـح

تحشُّ الوليدةُ أو تشتـويهـا

 

فظلتُ بأوصالهـا قـدرُهـا

وقال مسكين الدارميّ:

لترفع ما قالوا مَنَحْتُهُم حَقْرَا

 

إذا صَبَّحَتْني من أُناسٍ ثَعالبٌ

 

وتحفِرُ بالأظلافِ عن حتفها حَفْرَا

 

فكانوا كعنزِ السَّوءِ تثغُو لحَيْنـهـا

وقال الفرزدق:

فأصبح يبغي نفسه من يُجيرُها

 

وكان يُجيرُ الناس من سيف مالكٍ

إلى مُدْية تحت التراب تثيرهـا

 

وكان كعنز السُّوء قامت بظلفها

أمنية أبي شعيب القلال وقال رمضانُ لأبي شُعيبٍ القَلاَّل - وأبو الهُذَيل حاضر -: أيَّ شيء تشتهي? وذلك نصفُ النهار، وفي يومٍ من صَيف البصرة، قال أبو شعيب: أشتهي أن أجيءَ إلى بابِ صاحب سَقَط، وله على باب حانوته أليةٌ معلقة، من تلك المبزَّرة المشرّجة، وقد اصفرّت، ووَدكُها يقطر من حاقِّ السِّمَن، فآخُذَ بحِضْنها ثم أفتح لها فمي، فلا أزال كَدْماً كدماً، ونهشاً نهشاً، وودكها يسيلُ على شِدْقي، حتى أبلغَ عَجْب الذّنب قال أبو الهذيل: ويلك قتلتَني قتلتني يعني من الشهوة.

باب في الماعز

قال صاحب الماعز: في أسماء الماعز وصفاتها، ومنافعها وأعمالها، دليلٌ على فضلها، فمن ذلك أن الصفية أحسن من النعجة، وفي اسمها دليل على تفضيلها، ولبنها أكثر أضعافاً، وأولادُها أكثرُ أضعافاً، وزُبْدُها أكثرُ وأطيب.
وزعم أبو عبد اللّه العتبيّ أن التيس المشْراطيّ قرع في يومٍ واحد نيِّفاً وثمانين قَرْعَة، وكان قاطعَ الشهادة، وقد بِيع من نسل المِشْراطيّ وغيره الجديُ بثمانين درهماً، والشاةُ بنحوٍ من ذلك، وتحلب خمسة مَكاكيك وأكثر، وربما بيع الجلد جلد الماعز فيشتَريه الباضورَكي بثمانين درهماً وأكثر.
والشاة إذا كانت كذلك فلها غَلَّةٌ نافعة تقوم بأهل البيت.
والنعال البقريّة من السِّبت وغير السِّبت مقسومٌ نفعُها بين الماعز والبقر، لأن للشُّرُك من جلودها خطَراً، وكذلك القِبال والشِّسْع.
ووصفَ حُميد بن ثَوْر جلداً من جلودها، فقال:

وأقبَلَ عامٌ أصْلحَ الناسَ واحدُ

 

تتابَعَ أعوامٌ علينا أطَبْـنـهـا

تُعمِّر حتى قيل هل ماتَ خالدُ

 

وجاءتْ بذي أونَين مازال شاتُه

وقال راشد بن سِهابُ:

كمِعْزَى الحجاز أعْوَزَتْها الزَّرائبُ

 

ترى رائداتِ الخيل حول بيوتـنـا

لحم الماعز والضأن

ومن منافعها الإنتفاعُ بشحم الثرْب والكلية، وهما فوق شحم الألْية، وإذا مدحوا اللحمَ قالوا: لحم الماعز الخَصيِّ الثَّنيّ وقال الشاعر:

فَهُمْ نَعِجُون قد مالت طُلاَهمْ

 

كأن القوم عُشُّوا لَحمَ ضـأنٍ

والمَمرورون الذين يصرَعون، إذا أكلوا لحم الضأن اشتدَّ ما بهم، حتى يصرعَهم ذلك في غيرِ أوان الصرْع.
وأوان الصَّرْع الأهِلَّةُ وأنصاف الشهور، وهذان الوقتان هما وقتُ مدِّ البحر وزيادة الماء، ولزيادة القمر إلى أن يصيرَ بدراً أثرٌ بيِّنٌ في زيادة الدِّماء والأدمغة، وزيادة جميع الرطوبات.

أمثال في المعز والضأن

ويقال: فلانٌ ماعزٌ من الرِّجال، وفلانٌ أمْعَزُ مِنْ فلان، والعِتاق مَعْزُ الخَيْل، والبراذين ضأنها، وإذا وصفوا الرّجُل بالضعف والموق قالوا: ماهو إلا نعجةٌ من النعاج، ويقولون في التقديم والتأخير: ما له سَبَدٌ ولا لَبَد.
وقال الشاعر:

وحويتُ من سبدَ ومن لبـدِ

 

نشبى وما جمعتُ من صفدَ

فنزعن من بلدٍ إلى بـلـدِ

 

هم تقاذفت الهمـوم بـهـا

سَببَ المطامع من غدٍ وغدِ

 

يا روحَ منْ حسمت قناعتُه

لم يمسِ محتاجاً إلى أحـدِ

 

من لم يكنْ لله مـتـهـمـاً

وهذا شعر رويتُه على وجْه الدهر.
وزعم لي حُسَين بن الضّحّاك أنه له، وما كان لِيَدَّعيَ ما ليس له.
وقال لي سعدانُ المكفوف: لايكون: فنَزَعْنَ من بلد إلى بلَد بل كان ينبغي أن يقول: فنازعن.

?فضل الماعز

وقال: والماعزة قد تُولَّد في السنة مرتين، إلا ما ألقي منها في الدِّياس، ولها في الدِّياس نفعٌ موقعُه كبير، وربما باعوا عندنا بطنَ الماعز بثمنِ شاةٍ من الضأن.
قال: والأقِط للمعز، وقرونها هي المنتفع بها.
قال: والجدْيُ أطيبُ من الحمل وأكرم، وربما قدموا على المائدةِ الحملَ مقطوع الألية من أصل الذَّنَب؛ ليوهِمُوا أنه جَدْي. وقال عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنه - وعقولُ الخلفاء فوقَ عقولِ الرّعية، وهم أبْصَرُ بالعيش، استعملوا ذلك أو تركوه - فقال: أتُرَوْنَ أني لا أعرِفُ الطيبات? لبابُ البُرّ بصغار المعزى.
وملوكنا يُحمَل معهم في أسفارهم البعيدة الصفايا الحواملُ، المعروفاتُ أزمانِ الحمل والوضع، ليكون لهم في كل منزلٍ جِداءٌ مُعَدَّة، وهم يقدرون على الحُملانِ السِّمان بلا مؤونة.
والعَناق الحمراء والجِداءُ، هي المثل في المعْز والطِّيب، ويقولون: جِداء البَصرة، وجِداء كَسْكر.
وسلْخ الماعز على القَصَّاب أهوَن، والنَّجّار يذكر في خصال السَّاج سَلَسَهُ تحت القَدُوم والمثقَب والميشار.

أمارات حمل الشاة

وقيل لأعرابي: بأي شيءٍ تعرفُ حملَ شاتك? قال: إذا تورَّم حيَاها ودجَتْ شَعْرتها واستفاضت خاصرتها.
وللداجي يقال: قد كان ذلك وقد دَجَا ثوبُ الإسلام، وكان ذلك وثَوبُ الإسلام داجٍ.

المِرْعِزِيِّ وقرابة الماعزة من الناس

قال: وللماعز المِرْعِزِيّ؛ وليس للضأن إلا الصوف.
والكِسَاءُ كلها صوفٌ ووبر وريشٌ وشعرٌ، وليس الصوف إلا للضأن، وذوات الوبر كالإبل والثعالب، والخُزَز والأرنب، وكلاب الماء، والسّمُّور، والفَنَك، والقاقُم، والسِّنجاب، والدِّباب.
والتي لها شعر كالبقر والجواميس، والماعز، والظباء، والأُسْد، والنمور، والذئاب، والبُبور، والكلاب، والفهود، والضباع، والعِتاق، والبراذين، والبغالِ، والحمير، وما أشبه ذلك.
والإنسان الذي جعله اللّه تعالى فوقَ جميع الحيوان في الجمال والاعتدال، وفي العقل والكرم، ذو شعر.
فالماعزة بقرابتها من الناس بهذا المعنى أفخر وأكرم.

الماعز التي لا ترد

وزعم الأصمعيُّ أن لبني عُقَيلٍ ماعزاً لا ترِد ؛ فأحَِسَبُ واديَهم أخصبَ واد وأرطبه، أليس هذا من أعجب العجَب?.

جلود الماعز

ومن جلودها تكون القِربُ، والزِّقاق، وآلة المشاعِل، وكلُّ نتِحْي وسعْن، ووَطْب، وشُكَيَّة وسِقاءٍ، ومَزَادَةٍ، مسطوحةً كانت أو مثلوثة، ومنها مايكون الخون، وعِكْمُ السَّلْف، والبطائن والجُرُب، ومن الماعزة تكون أنطاع البُسط، وجِلال الأثقال في الأسفار، وجِلال قِبابِ الملوك، وبقباب الأدَم تتفاخر العرب، وللقباب الحمر قالوا: مضر الحمراء، وقال عَبيد بن الأبرص:

أهلِ القِباب وأهلِ الجُردِ والنادي

 

فاذهبْ إليكَ فإني من بني أسَـدٍ

الفخر بالماعز

وقالوا: وفخرتم بكبشة وكبيشة وأبي كبشة، فمِنَّا عنز اليمامة وعنز وائل، ومنا ماعز بن مالك، صاحب التوبة النَّصوح.
وقال صاحبُ الماعز: وطعنتم على الماعزة بحفرها عن حتفها، فقد قيل ذلك للضأن. من ذلك البكري للغنبرية، وهي قيلة وصار معها إلى النبي فسأله الدهناء، فاعترضت عنه قيلة، فقال لها البكري: إني وإياك كما قال القائل: عن حتفها تبحث ضأن بأظلافها? فقالت له العنبرية: مهلاً، فإنك ما علمت: جواداً بذي الرجل، هادياً في الليلة الظلماء، عفيفاً عن الرفيقة??! فقال: لا زلت مصاحباً بعد أن أثنيت علي بحضرة الرسول بهذا!

ضرر الضأن ونفع الماعز

وقالوا: والنعجة حرب، واتخاذها خسران، إلا أن تكون في نعاج سائمة، لأنها لا ترفع رأسها من الأكل. والنعجة آكلُ من الكبش، والحجر آكل من الفحل، والرمكة آكل من البرذون. والنعجة لا يقوم نفعها بمؤونتها. والعنز تمنعُ الحيَّ الجلاء، فإن العرب تقول: إن العنوق تمنع الحيَّ الجلاء.
والصفية من العراب أغرر من بخُتيةٍ بعيداً.
ويقال: أحمق من راعي ضأن ثمانين!.

كرم الماعز

وأصناف أجناسِ الأظلاف وكرامها بالمعز أشبه، لأن الظباء والبقر من ذوات الأذناب والشعر، وليست من ذوات الألايا والصوف. والشمُل، والتعاويذ والقلائد، إنما تتخذ للصفايا، ولا تُتخذ للنعاج، ولا يخاف على ضروعها العين والنفس.
والأشعار التي قيلت فلي الشاء إذا تأملتها وجدت أكثرها في المعز: في صفاياها وفي حوها، وفي تيوسها وفي عنوقها وجدائها. وقال مخارق ابن شهاب المازني - وكان سيداً كريماً، وكان شاعراً - فقال يصف تيس غنمه:

 

دلاء وفيها واتدُ القرن لبلـب

 

وراحت أصَيلاناً كأن ضروعَها

 

شديخٌ ولون كالوذيلة مذُهـبُ

 

له رعثات كالشُّنـوف وغُـرَّةٌ

ثنى وصلها دان من الظلف مكثب

 

وعينا أحم المقلـتـين وعـصـمةٌ

 

عطاها كما يعوذُرى الضال قرْهَبُ

 

إذا دوحةٌ من مخلف الضال أربلت

 

فصردان نعمَ النجر منه وأشعـب

 

تلاد رقيق الخـدّ إنْ عُـدَّ نـجـرهُ

 

من الحسن في الأعناق جزعٌ مثقبُ

 

أبو الغُرِّ والحوِّ اللواتـي كـأنـهـا

 

عقائلُ في الأعناقِ منها تحـلـبُ

 

إذا طاف فيها الحالبانِ تقـابـلـت

 

وضيفُ ابن قيس جائعٌ يتـحـوبُ

 

ترى ضيفها فيها يبيت بـغـبـطةٍ

 








قال: فوفد ابن قيس هذا، على النعمان، فقال له: كيف المخارقُ فيكم? قال: سيد شريف، من رجل يمدح تيسه، ويهجو ابن عمه! وقال الراجز:

أنعتُ ضاناً أمجرتْ غثاثاً

والمِجَر: أن تشربَ فلا تروى. وذلك من مثالبها.
وقال رجل لبعض ولد سليمان بن عبدِ الملك: "ماتت أمُّك بغراً، وأبوك بشما!".
وقال أعرابي:

منيحتنا كمـا تـؤدى الـمـنـائح

 

مولى بني تـيمٍ، ألـسـتَ مـؤدياً

بعلياء عندي، ما ابتغى الربحَ رابح

 

فإنك لو أديت صعـدةَ لـم تـزلْ

وخلقٌ زخاريّ وضرعٌ مجـالـحُ

 

لها شعرٌ داجٍ وجـيدٌ مـقـلـص

لأرواقها هطلٌ من الماء سافـحُ

 

ولو أشليتْ فـي لـيلةٍ رجـبـيةٍ

أمامَ صفاقَيها مـبـدٌّ مـضـارحُ

 

لجاءت أمامَ الحالبينِ وضرعُـهـا

ترامى بها بيدُ الإكام الـقـراوح

 

وويلُ أمها كانت نـتـيجةَ واحـد

أصناف الظلف وأصناف الحافر ليس سبيلُ الظلفِفي التشابه سبيلَ أصناف الحافر، والخفة. واسم النعم يشتمل على الإبل والبقر والغنم.وبعد بعض الظلف من بعض، كبعده من الحافر والخف؛ لأن الظلف للضأن والمعز والبقر والجواميس والظباء والخنازير وبقر الوحش، وليس بين هذه الأجناس تسافد ولا تلاقح، لا الغنم في الغنم من الضأن والماعز، ولا الغنم في سائر الظلف ولا شيء من سائر تلك الأجناس تسافدُ غيرها أو تُلاقِحُها. فهي تختلف في الصوف والشعر، وفي الأنس والوحشة، وفي عدم التلاقح والتسافد وليس كذلك الحافر والخف.

رجَز في العنز

وقال الراجز:

كأنَّ ظِلَّ حَجَرٍ صُغْرَاهُمـا

 

لَهَفي على عنْزين لا أنساهما

 

 

وصالِغٌ مُعْطِرةٌ كُبراهمـا

قوله: صالغٌ، يريد انتهاء السنّ، والمعطرة: الحمراء؛ مأخوذة من العِطر، وقوله: كأن ظلّ حجَر صُغراهما يريد أنها كانت سوداء، لأن ظِلَّ الحجَر يكونُ أَسودَ، وكلما كان الساتر أشدَّ اكتنازاً كان الظلُّ أشدَّ سواداً.
قولهم أظل من حجر وتقول العرب: ليس شيءٌ أظلَّ من حجَر، ولا أدفأ من شجَر، وليس يكون ظلٌّ أبرَدَ ولا أشدَّ سواداً من ظلِّ جبل، وكلما كان أرفع سَمْكاً، وكان مَسْقِطَ الشمس أبعَد، وكان أكثر عرضاً وأشدَّ اكتنازاً، كَان أشدَّ لسواد ظله.
ويزعم المنجِّمون أن الليلَ ظلٌّ الأرض، وإنما اشتدَّ جدّاً لأنه ظلُّ كُرةِ الأرض، وبقدر ما زاد بدنها في العِظَم ازدادَ سوادُ ظِلِّها.
وقال حميد بن ثَور:

رواهبُ أحْرَمْنَ الشرابَ عُذُوبُ

 

إلى شَجَرٍ ألمَى الظلالَ كأنـهـا

والشفَّة الحمَّاء يقال لها لَمْياء، يصِفُون بذلك اللِّثة، فجعَل ظِلَّ الأشجار الملتفَّة ألمى.

أقط الماعز

وقال امرؤ القيس بن حُجْر:

كأنَّ قرُونَ جِلَّتِها العِصِيُّ

 

لنا غَنَمٌ نُسوِّقها غِزارٌلنـا

فدلّ بصفة القرون عَلَى أنها كانت ماعزة، ثم قال:

وحَسْبُكَ من غِنًى شِبعٌ ورِيُّ

 

فتمْلأُ بيتَنا أَقِطاً وسَـمْـنـاً

فدلَّ عَلَى أن الأقط منها يكون.
استطراد لغوي وقال: ويقال لذواتِ الأظلاف: قد ولِّدت الشاة والبقرة، مضمومة الواو مكسورة اللام مشدودة، يقال هذه شاة تُحلَب قفيزاً، ولا يقال تحلُب، والصواب ضم التاء وفتح اللام.
 ويقال أيضاً: وضعَتْ، في موضع وُلِّدت، وهي شاة رُبَّى، من حينِ تضعُ إلى خمسةَ عشَرَ يوماً - وقال أبو زيد: إلى شهرين - مِنْ غنم رُباب، مضمومة الرَّاء عَلَى فُعال، كما قالوا: رَجُل ورُجال، وظئر وظؤار وهي رُبَّى بيّنة الرِّباب والرِّبَّة بكسر الرّاء، ويقال هي في رِبابها، وأنشد:

حَنِينَ أمِّ البَوِّ في رِبابها

والرِّباب مصدر، وفي الرُّبى حديث عمر: دَعِ الرُّبَّى والماخِض والأَكولة، وقال أبو زيد: ومثل الرّبّى من الضأن الرّغوث، قال طَرَفة:

رَغُوثاً حَوْلَ قُبَّتِنا تخُـور

 

فليتَ لنا مكانَ المَلْكِ عَمرٍو

وقالوا: إذا وضعت العنز ما في بطنها قيل سَليل ومَلِيط، وقال أبو زيد: هي ساعةَ تضعَه من الضأن والمعز جميعاً، ذكراً كان أو أنثى: سخلةٌ، وجمعُها سَخْل وسِخَال، فلا يزال ذلك اسمَه ما رضعَ اللبَن، ثم هي البَهْمة للذكر والأنثى، وجمعُها بَهْم، وقال الشاعر:

والبَهْمُ يزجرُها الراعي فتنزجرُ

 

وليس يَزْجُرُكُم ما تُوعَظُون بـه

ويروى: يُزْجَر أحياناً، وإذا بلغَتْ أربعة أشرٍ وفُصِلتْ عن أمهاتها، وأكلَتْ من البقل واجترّت، فما كان من أولاد المعز فهو جَفْر، والأنثى جَفْرة، والجمع جِفَار، ومنه حديث عمر رضي اللّه عنه، حين قضى في الأرنبِ يُصِيبها المحرمُ بجَفْر.
فإذا رَعَى وقوِيَ وأتى عليه حولٌ فهو عريض، وجمعه عِرْضان، والعَتُود نحوٌ منه، وجمعه أعْتِدة وعِتْدان، وقال يونس: جمعه أعْتدة وعتد، وهو في ذلك كلِّه جدْيٌ، والأنثى عَناق، وقال الأخطل:

من الحبلَّق يُبْنَى حولها الصِّيَرُ

 

واذْكرْ غُدَانةَ عِتْداناً مُـزَنَّـمَةً

ويقال له إذا تبع أمَّه وفطِم: تِلوٌ، والأنثى: تِلوة؛ لأنه يتلو أمَّه.
ويقال للجَدْي: إمَّر والأنثى أَمَّرَةٌ، وقالوا: هِلّع وهِلّعة، والبدرة: العَناق أيضاً، والعُطعُط: الجدي، فإذا أتى عليه الحولُ فالذكر تيس والأنثى عَنْز، ثم يكون جذَعاً في السَّنة الثانية، والأنثى جَذَعة، ثم ثَنِيّاً في الثالثة، والأنثى ثَنِيَّة، ثم يكون رَباعياً في الرابعة، والأنثى رباعيَة، ثم يكون سَديساً، والأنثى سَدِيس أيضاً مثل الذكر بغير هاء، ثم يكون صالغاً والأنثى صالغة، والصالغُ بمنزلة البازل من الإبل، والقارحِ من الخيل، ويقال: قد صَلَغَ يَصْلغُ صُلوغاً، والجمع الصُّلَّغ، وقال رؤبة:

والحربُ شهباءُ الكباشِ الصُّلَّغ

وليس بعد الصالغ شيءٌ.
وقال الأصمعيّ: الحُلاّم والحُلاّن من أولاد المعز خاصة، وجاء في الحديث: في الأرنب يصيبها المحرِمُ حُلاَّم، قال ابن أحمر:

إمّا ذَكِيّاً وإمّا كان حُـلاَّنـا

 

تُهدِي إليه ذراعَ البكْر تَكرمَةً

ويروى: ذراع الجدي ويروى: ذَبيحا، والذبيح هو الذي أدْرَك أن يضحَّى به، وقال مهلهل بنُ ربيعة:

حتى ينال القتلُ آلُ هَمامْ

 

كلُّ قتيلٍ في كليبٍ حُلاَّمْ

وقالوا في الضأن كما قالوا في المعز، إلا في مواضع، قال الكسائي: هو خروف، في موضع العريض، والأنثى خروفة، ويقال له حَمَل، وَالأنثى من الحِمْلان رِخل والجمع رُخال، كما يقال ظئر وظؤار وَتَوأم وتؤام، والبَهْمة: الضأن وَالمعز جميعاً، فلا يزال كذلك حتى يَصِيف، فإذا أكل وَاجترّ فهو فرير وفُرارة وفُرفور، وعمرُوس، وهذا كله حينَ يسمَنُ ويجتر، والجِلاَم، بكسر الجيم وتعجيم نقطة من تحت الجيم، قال الأعشى:

وَأقرَحَ منها القيادُ النسورا

 

سَوَاهِمُ جِذْعانها كَالجِـلام

يعني الحوافر.
واليَعْر: الجدي، بإسكان العين، وقال البُريقُ الهذليّ: مُقِيماً بأملاح كما رُبط اليَعْرُ والبذَجُ: من أولاد الضأن خاصة، وقال الراجز:

فإن تجُعْ تأكل عَتُوداً أو بَذَجْ

 

قد هَلَكَتْ جارتُنا من الهَمَـجْ

والجمع بذجَان.
دعاء أعرابي وقال أعرابيّ: اللَّهم مِيتَةً كمِيتَةِ أبي خارجة قالوا: وما ميتة أبي خارجة? قال: أكل بذَجَاً، وَشرب مِشعَلاً، ونام في الشمس، فأتَتْه المنيَّةُ شبْعان ريانَ دفآن.
تيس بني حمان وفي المثل: أغلم من تيس بني حِمّان، وبنو حمّان تزعم أنه قَفَط سبعين عنزاً وقد فُريت أوداجه.
فهذا من الكذِب الذي يدخلُ في باب الخرافة.
?زعم لصاحب المنطق  وقد ذكر أرسطوطاليسُ في كتاب الحيوان، أنه قد ظهر ثورٌ وَثَب بعد أنْ خُصي، فنزا على بقرةٍ فأحلبَها.
ولم يَحْكِ هذا عن مُعاينةٍ، والصدورُ تضيق بالردِّ على أصحاب النظر وتضِيق بتصديق هذا الشَّكْل.
أحاديث وآثار في الغنم قال: وحدَّثنا سعد بن طريق، عن الأصبغ بن نُباتة قال: سمعت عليّاً يقول: ما أَهْلُ بيتٍ لهمْ شاةٌ إلا يُقَدَّسُون كُلَّ لَيْلَةٍ.
وقال: حدثنا عنبسة القطَّان، قال حدَّثنا السكن بن عبد اللّه بن عبد الأعلى القرشيّ، عن رجل من الأنصار، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: امْسَحُوا رُعامَ الشَّاءِ، ونَقُّوا مرابِضَها مِنَ الشَّوْكِ والحِجَارَةِ، فإنَّها فِي الجَنَّةِ.
وقال: ما مِنْ مُسْلمٍ له شاةٌ إلا قدِّس كُلَّ يومٍ مَرَّةً، فإنْ كانَتْ لَهُ شَاتانِ قُدِّسَ في كلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، قال: وحدثنا عنبسة القطان، بهذا الإسناد، أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "أُوصِيْكُمْ بالشَّاءِ خَيْراً، فَنَقُّوا مَرابِضَها مِنَ الحِجَارةِ والشَّوْكِ فَإنَّها فِي الجَنَّةِ".
وعن محمد بن عجلان، عن وهب بن كَيسان، عن محمد بن عمرو بن عطاء العامريّ من بني عامر بن لؤَيّ، أن رجلاً مرَّ على أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه، وهو بالعقيق، فقال: أين تريد? قال: أريد غُنَيمة لي، قال: امسح رُعامها، وأطِبْ مُرَاحها، وصلِّ في جانبِ مُراحها؛ فإنها من دوابِّ الجنة.
وعن فرج بن فضالة، عن معاوية بنُ صالح، عن رجل من أصحاب أبي الدرداء، أنه عَمِلَ طعاماً اجتهد فيه، ثم دعاه فأكل، فلما أكل قال: الحمد للّه الذي أطعَمَنَا الخميرَ، وأَلبسَنا الحَبيرَ، بعد الأسودَينِ: الماء والتمر، قال: وعند صاحبِه ضائنة له، فقال: هذه لك? قال: نعم، قال: أطِبْ مُراحها واغسِلْ رُعامها، فإنها من دوابِّ الجنة، وهي صفوة اللّه من البهائم.
قال: وحدَّثنا إبراهيم بن يحيى، عن رجل، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم، أنه قال: إن اللّه عزّ وجلّ خَلَقَ الجنة بيضاءَ، وخيرُ الزِّيِّ البياض، قال: وبعث إلى الرُّعيان: من كانت له غنمٌ سُودٌ فليَخْلِطْها بعُفْر، فإنَّ دمَ عفراءَ أزكى من دمِ سَودَاوين.
وحدثنا أبو المقدام قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن حبيب، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسولَ اللّه صلّى اللّهُ عليه وسلم دعا بالرُّعاة فجُمعوا له، فقال: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَرْعَى غَنَماً سُوداً فَلْيَخْلِطْ فِيها بِيضاً".
قال: وجاءته امرأةٌ فقالت: يا رسول اللّه، إني اتخذت غنماً رجوت نسلها ورِسلها وإني لا أُراها تنمو، قال: فما ألوانها? قالت: سود، قال: "عفِّري"، أي اخلطي فيها بِيضاً.
قال: وحدثنا طلحة بنُ عمرو الحضْرَميّ، عن عطاء، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "الغَنَمُ بَرَكَةٌ مَوْضُوعَةٌ، والإبلُ جمالٌ لأَهْلِها، والخيرُ مَعْقُودٌ في نَواصِي الخَيْلِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ"، حنظلةُ بن أبي سفيان المكّي قال: سمعت طاووساً يقول: من هاهنا أطلعَ الشيطان قرنَيه، من مطلع الشمس، والجفاءُ والكِبْرُ في أهل الخيل والإبل، في الفدَّادينَ أهل الوبر، والسكينةُ في أهل الغنم.
قال وحدثنا بكر بن خُنيس، عن يحيى بن عُبَيد اللّه بن عبد اللّه بن مَوْهب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "رأسُ الكفر قِبَلَ المشرق، والفخرُ والخُيلاءُ في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمانُ يمانٍ والحكمة يمانية.
وعن عوف بن أبي جَميلة، عن الحسن، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "الفخرُ في أهل الخيل، والجفاءُ في أهل الإبل، والسكينة في أهل الغنم".
وعن عثمان بن مقْسَم، عن نافع، أن ابنَ عمرَ حدثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: السكينة في أهل الغنَم.
والفدَّاد: الجافي الصوتِ والكلامِ، وأنشدنا أبو الرُّدينيّ العكليّ: جاءت سُليمٌ ولها فَديدُ.
أخبار ونصوص في الغنم  وكان من الأنبياء عليهم السلام مَنْ رعى الغنم، ولم يَرع أحدٌ منهم الإبل، وكان منهم شعيب، وداود، وموسى، ومحمد؛ عليهم السلام، قال اللّه جلّ وعزّ: "وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى، قال هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيهَا وأهُشُّ بهَا عَلَى غَنَمِي وَليَ فِيها مَآرِبُ أُخْرَى".
وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يرعى غُنَيمات خديجة.
والمعْزبون بنزولهم البُعدَ من الناسِ، في طباع الوحش.
وجاء في الحديث: من بَدَا جَفا.
ورِعاءُ الغنم وأربابها أرقُّ قلوباً، وأبعد من الفظاظة والغلظة.
وراعى الغنم إنما يرعاها بقرب الناس، ولا يُعْزِبُ، ولا يبدو، ولا ينتجع، قالوا: والغنم في النوم غُنْمٌ.
وقالوا في الغنم: إذا أقبلتْ أقبلتْ، وإذا أدبرت أقبلت.
الحامي والسائبة والوصيلة وكان لأصحاب الإبل مما يحرمونه على أنفسه: الحامي والسائبة، ولأصحاب الشاءِ الوصيلة.
العتيرة والرجيبة والغذوى والعتيرة أيضاً من الشَّاء، وكان أحدهم إذا نذر أن يذبحَ من العتائر والرجبية كذا وكذا شاة، فبلغ الذي كان يتمنَّى في نذره، وشحّ على الشاء قال: والظِّباء أيضاً شاء، وهي تُجْزِي إذا كانت شاء: فيجعل عتائره من صيدِ الظباء، وقال الحارث بن حِلِّزة:

تتَرُ عن حجْرَةِ الرَّبيضِ الظّباءُ

 

عنَتاً باطلاً وظُلماً كـمـا تُـعْ

وقال الطّرِمَّاح:

عَتائرُ مظلومِ الهَديِّ المذبَّـحِ

 

كَلَوْنِ الغَرِيِّ الفَرْدِ أجْسَدَ رأسَه

ومنها الغَدويُّ والغَذَوِيّ جميعاً، وقال الفرزدق:

غَذَوِيُّ كلِّ هبَنْقَعٍ تِنْـبَـالِ

 

ومهورُ نِسْوَتِهِمْ إذا ما أنكَحُوا

ميل الحيوان على شقه الأيسر وقال أبو عتَّاب: ليس في الأرض شاة ولا بعيرٌ ولا أسَدٌ ولا كلْبٌ يريدُ الرُّبوض إلا مال على شِقِّه الأيسر، إبقاءً على ناحية كبده.
قال: ومتى تفقدتم الصفايا التي في البيوت، والنعاجَ، والجِداء، والحُمْلاَن وجدتموها كذلك.
معالجة العقاب الفريسة قال: والعقاب تستعمل كفها اليمنى إذا أصْعَدَتْ بالأرانب والثعالب في الهواء، وإذا ضربتْ بمخالبها في بطون الظِّباء والذئاب، فإذا اشتكت كبدها أحسّت بذلك، فلا تزال إذا اصطادت شيئاً تأكلُ من كبدِه، حتى تبرأ، وإن لم تُعاين فريسة فربما جلَّت على الحمار الوحشيِّ فتنقضُّ عليه انقضاضَ الصخرة، فَتقدُّ بدابرتها ما بين عجْب ذنبه إلى منسِجه، وقد ذكرنا من شأنها في باب القول فيها ما فيه كفاية.
أخذ الحيوان على يساره حين يهرب قال: وليس في الأرضِ هاربٌ من حَرْبٍ أو غيرها استعملَ الحُضْر إلا أخَذَ على يساره، إذا ترك عَزْمَه وسَوْم طبيعته، وأنشد:

وفي الجوف نارٌ ليس يخبو ضِرامُها

 

تخامَصَ عن وحْشِيِّه وهـو ذاهـلٌ

وأنشد الأصمعي للأعشى:

أمين القُوَى في ضالةِ المترنّمِ

 

ويسَّر سَهْماً ذا غِرَار يسوقُـهُ

وحالَ على وحْشِيِّهِ لم يعَتِّـمِ

 

فمرّ نَضِيَّ السَّهْمِ تحت لبانِـه

قال: ووضع: على موضع: عن.
ميل شقشقة الجمل ولسان الثور وفي بابٍ آخرَ يقول أوسُ بن حَجَر:

إذِ الشقاشق معدولٌ بها الحَنَـكُ

 

أوْ سَرَّكم في جُمادَى أن نصالحكم

وذلك أنه ليس في الأرض جملٌ هاج وأخرج شِقْشِقَتَه إلا عدَلَ بها إلى أحدِ شِقَّي حنَكه، والثورُ إذا عدا عدل بلسانه عن شِقِّ شماله إلى يمينه، وقال عَبْدَةَ بن الطبيب:

لِسانه عن شِمَالِ الشِّدقِ معدولُ

 

مُستَقبِلَ الريحِ يهفو وهو مُبْتَرِكٌ

حال الثور عند الكر والفر قال: وإذا كرَّ الكلبُ أو الثور فهو يصْنَعُ خلاف صَنيعِه عند الفرّ، وقال الأعشى:

وحان انطلاقُ الشاةِ من حيثُ يممـا

 

فلما أضاء الصبـحُ قـام مـبـادراً

كلابُ الفتى البكري عوف بن أرقما

 

فصبحهُ عـنـدَ الـشـروق غـديةٍ

كما هيَّج السامي المعسلُ خشْرَمـا

 

فأطلَقَ عن مجنوبِها فـاتـبـعـنَـه

بأظمأَ من فرع الذؤابةِ أسـحَـمـا

 

فأنحَى علَى شُؤمـي يديهِ فـذَادهـا

ثم قال:

يُواعِسُ من حُرِّ الصّرِيمةُ مُعظَما

 

وأدَبَر كالشِّعْرَى وُضُوحاً ونُقْـبَة

علة غزو العرب أعداءهم من شق اليمين قال: ولعلمِ العرب بأن طبع الإنسان داعيةٌ إلى الهرب من شِقِّ الشمال، يحبُّون أن يأتوا أعداءهم من شِقَّ اليمين، قال: ولذلك قال شُتيم بن خُويلد:

ويأتي الشّقِيَّ الحَين من حيث لا يدري

 

فجئناهمُ من أيمـنِ الـشِّـق غُـدْوَةً

وأما روايةُ أصحابنا فهي: فجئناهم من أيمنِ الشق عندهم.
الأعسر من الناس واليَسَر وإذا كان أكثُر عمل الرجُل بيساره كان أعسَر، فإذا استوى عملاً بهما قيل أعسرُ يسَرَ، فإذا كان أعسر مُصْمَتاً فليس بمستوى الخلق، وهو عندهم إذا كان كذلك فليس بميمون الخلْق، ويشتقُّون من اليد العُسْرى العُسْر والعُسرة، فلما سمَّوها الشِّمال أجْرَوْها في الشؤْم وفي المشؤُوم على ذلك المعنى، وسموها اليد اليَسارَ واليدَ اليسرى على نَفْي العُسر والنكَد، كما قالوا: سليم، ومفازة، ثم أفصحوا بها في موضعِ فقالوا اليد الشؤْمَى.
مما قيل من الشعر في الشمال ومما قالوا في الشمال قولُ أبي ذُؤيب:

جَرَى بيننا يومَ استَقَلَّت رِكَابُهـا

 

أ بِالصَّرمِ من أسماء جَدَّ بكَ الذي

هَوَاك الذي تهوى يُصِبْكَ اجْتنَابُها

 

زجَرْتَ لها طَيْرَ الشِّمالِ فإن يكن

وقال شُتيم بن خويلد:

إنّك لم تَأْسُ أَسْواً رفـيقَـا

 

وقلتُ لسَـيّدِنـا يا حـلـيم

فجئت بها مُؤيِداً خَنفقيمـا

 

زجرتَ بها ليلةً كـلـهـا

تُعادي فريقاً وتبقي فريقـا

 

أعنتَ عَدِيّاً على شـأَْوَهَـا

تُنَحِّي لحِد المَواسِي الحُلوقا

 

أَطَعْتَ غُرَيِّبَ إبْطَ الشِّمَال

وقال آخر:

غرابَ شِمَال ينفضُ الرِّيشَ حاتما

 

وهوَّنَ وجدْي أنني لم أكنْ لـهـم

وإذا مال شِقُّة قالوا: احْولَّ شِقُّه، وقال الأشتر بن عُمارة:

أخوكم أخوكم أحُوَلُ الشِّقِّ مائِلُه

 

عَشِيَّةَ يدعو مِعْتَرٌ يالَ جَعْـفَـرٍ

وقال آخر:

أشفَق من والدٍ عـلـى ولـدِ

 

أيَّ أخ كانَ لي وكـنـتُ لـه

خَطْوِي وحلَّ الزمانُ من عُقَدي

 

حتى إذا قاربَ الحـوادثُ مـن

عيني ويرمي بِساعـدِي ويَدِي

 

احوَلّ عنِّي وكان ينظُـر مِـن

الوقت الجيد في الحمل على الشاء قال الأصمعيّ: الوقت الجيِّد في الحمل على الشاء أن تخلَّى سبعةَ أشهُرٍ بعد ولادها، ويكون حملها خمسة أشهر، فتولَّد في كل سنَة مرة، فإن حُمِل عليها في كل سنة مرتين فذلك الإمغال، يقال: أمغَل بنو فُلانٍ فهم مُمْغلون، والشاةُ ممغل.
وإذا وُلِّدت الشاةُ ومضَى لها أربعةُ أشهر فهي لجبة، والجميع اللِّجاب واللَّجبات، وذلك حين يأخذ لبنها في النقصان.
استطراد لغوي قال: والأير من البعير: المِقْلَم، ومن الحافر الجُرْدَان، ومن الظلف كله: القضيب، ومن الفرَس العتيق: النَّضِيّ، زعم ذلك أبو عبيدة.
وما أراد من الحافر الفحلَ فهو الوِداق، وهو من الإبل الضَّبَعة، ومن الضأن الحُنوّ، ويقال: حنَت تحنو حُنُوّاً، وهي نعجةٌ حانٍ كما ترى، وما كان من المعْز فهو الحِرْمَة، ويقال: عنز حَرْمَى، وأنكر بعضهم قولهم: شاةٌ صارف وزعم أنه مولد.
قال: وهو من السباع الإجعال، يقال: كلبةٌ مُجْعِل، فإذا عظُم بطنها قيل أجَحَّتْ فهي مُجِحّ.
وما كان من الخف فهِو مِشْفَر، وما كان من الغنم فهو مِرَمّة، وما كان من الحافر فهو جَحْفَلةٌ.
وإذا قلتَ لكلِّ ذات حمْلٍ وضعتْ، جاز، فإذا ميزْتَ قلت للخف: نُتِجَتْ، وللظِّلف: ولِّدت، والبقرةُ تجري هذا المجرى، وقلتَ للحافر: نتِجَتْ.
ويقال للحافر من بين هذا كله إذا كان في بطنها ولد: نَتوج، وإذا عظم بطنُ الحافر قيل قد أعقّتْ فهي عَقوق، والجماعُ عُقُقٌ، وبعضهم يقول: عقائق.
ويقال للبقرة الوحشية نعجة، والبقرة تجري مجرى الضائنة في حالها.
وما كان من الخف فصوته بُغام، فإذا ضجَّتْ فهو الرُّغاء، فإذا طرِّبت في إثر ولَدها قبل حنَّتْ، فإذا مدت الحنين قيل سَجَرت.
قال: والإلماعُ في السباع وفي الخيل، دون البهائم، وهو أن تشرق ضروعها.
قال: والخروف في الخيل والضأن، دون البهائم كلها.
 قال: ويقال للطير: قد قمطها يقمطها، ويقال للتيس والكلب: قد سَفِدَ يُسْفَد سِفاداً، ويقال في الخيل: كامها يكُومُها كَوْماً، وكذلك في الحافر كلِّه، وفي في الحمار وحده: باكها يبُوكها بَوْكاً.
قولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد وتقول العرب: ما له عندي سَبَدٌ ولا لَبَد، فقدّموا السّبَد، ففي هذا المعنى أنهم قدموا الشَّعر على الصوف.
فإن قال قائل: فقد قدَّموا في مواضع كثيرةٍ ذكرَ ما هو أخَسُّ فقالوا: ما له عندي قليلٌ ولا كثير، والعِير والنَّفير حتى قالوا: الخلّ والزيت، وقالوا: ربيعة ومُضَر، وسُلَيم وعامر، والأوس والخزرج، وقال اللّه:"لاَ يُغادِرُ صَغِيرةً ولاَ كَبِيرةً إلاَّ أَحْصَاهَا".
والذي يدلُّ على أن ذلك الذي قلنا كما قلنا قولُ الراعي:

عنه سلاسل رَمْل بينها عُـقَـدُ

 

حتى إذا هبَطَ الغِيطانَ وانقطعت

إثْرَ الأوابد ما يَنْمِي له سَـبَـدُ

 

لاقى أطيْلِسَ مَشّاءً بأكْـلُـبِـهِ

فَقَدَّمَ السَّبدَ، ثم قال:

مِثلَ اليعاسيب في أصلابها أوَدُ

 

يُشْلِي سَلُوقيَّة زُلاًّ جواعِـرُهـا

وقال الراعي:

وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ

 

أما الفقيرُ الذي كانت حَلُوبَتُه

وهو لو قال: لم يُترك له لَبَد، ولو قال: ما ينمي له لَبَدَ لقام الوزْنُ، ولكان له معنى، فدلَّ ذلك على أنه إنما أراد تقديم المقدَّم.

مفاخرة بين صاحب الضأن وصاحب الماعز

قال صاحب الضأن: فَخَرتم على الضأن بأن الإنسان ذو شعر، وأنه بالماعز أشبه، فالإنسان ذو أْليةٍ، وليس بذي ذنب، فهو من هذا الوجه بالضأن أشبه.
قال صاحبُ الماعز: كما فخرتم بقوله: "ثمَانِية أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأنِ اثْنَيْنِ" وقلتم: فقد قدَّمها، فقال اللّه: "يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ".
فإن وجب لضأنك التقديمُ على الماعز بتقديم هذه الآية وجَبَ للجنِّ التقديمُ بتلك الآية.

في الضفادع

علَّمك اللّه علماً نافعاً، وجعلَ لك من نفسك سامعاً، وأعاذك من العُجْبِ، وعرّفك لباسَ التقوى، وجَعَلك من الفائزين.
اعلمْ، رحمك اللّه تعالى، أن اللّه جل وعز قد أضاف ست سُوَر من كتابه إلى أشكال من أجناس الحيوان الثلاثة، منها مما يسمونها باسم البهيمة وهي سورة البقرة، وسورة الأنعام، وسورة الفيل، وثلاثة منها مما يعدون اثنتين منها من الهمج، وواحدةً من الحشرات.
فلو كان موقعِ ذِكر هذه البهائم، وهذه الحشرات والهمج، من الحكمة والتدبير، موقِعَها من قلوب الذين لا يعتبرون ولا يفكرون، ولا يميزون، ولا يحصلون الأمور، ولا يفهمون الأقدار لما أضاف هذه السور العظامَ الخطيرة، و الشريفة الجليلة، إلى هذه الأمور المحقّرة المسْخِفَة، والمغمورة المقهورة.
ولأمر ما وضعها في هذا المكان، ونوَّه بأسمائها هذا التنويه، فافهم، فإن الأديبَ الفَهِم، لا يعوِّد قلبَه الاسترسال، وخُذْ نفسَك بالفكرة، وقلبَك بالعبْرة.
وأنا ذاكرٌ من شأن الضفدع من القول ما يحضر مثلي، وهو قليلٌ في جنب ما عند علمائنا، والذي عند علمائنا لا يحَسُّ في جنب ما عند غيرهم من العلماء، والذي عند العلماء قليل في جنب ما عند الأنبياء، والذي عند الأنبياء قليل في جنب ما عند اللّه تبارك وتعالى.
من ذلك الضِّفدِع، لا يصيحُ ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكَه الأسفل في الماء، فإذا صار في فمه بعض الماء صاح، ولذلك لا تسمعُ للضفادعِ نقيقاً إذا كُنَّ خارجاتٍ من الماء.
والضفادعُ من الحيوان الذي يعيشُ في الماء، ويبيضُ في الشطّ، مثل الرّق والسُّلحفاة، وأشباه ذلك.
والضفادعُ تنقّ، فإذا أبصرت النار أمسكت.

زعم في الضفادع

والضفادع من الحيوان الذي يُخلقَ في أرحام الحيوان، وفي أرحام الأرَضِين، إذا ألقحتها المياه، لأن اليَخَّ يخراسان يُكبس في الآزاج، ويحالُ بينه وبين الرِّيح والهواء والشمس، بأحكمِ ما يقدرون عليه وأوثقه، ومتى انْخرق في تلك الخزانة خَرْقٌ في مقدار مَنْخِر الثور حتى تدخلَه الريح، استحال ذلك اليخُّ كله ضفادع.
ولم نعرف حقَّ هذا وصدقَه من طريق حديث الرجل والرجلين، بل نجدُ الخبرُ عنه كالإطباق، وكالخبر المستفيض الذي لا معارضَ له.

أعجوبة في الضفادع

وفيها أعجوبة أخرى: وذلك أنا نجد، من كِبارها وصغارها، الذي لا يحصى في غِبِّ المطر، إذا كان المطر ديمة، ثم نجدُها في المواضع التي ليس بقربها بحرٌ ولا نهرٌ، ولا حوضٌ، ولا غديرٌ، ولا وادٍ، ولا بيرٌ، ونجدها في الصَّحاصح الأماليس، وفوق ظهورِ مساجد الجماعة، حتى زعم كثيرٌ من المتكلفين، ومن أهل الخسارة وممن لا يحتفل بسوء الحال عند العلماء، ولا يكترث للشكّ - أنها كانت في السحاب.
ولذلك طمع بعضُ الكذَّابين ممن نَكْرَهُ اسمه، فذكر أن أهل أيذَج مُطِروا مرةً أكبر شبابيطَ في الأرض، وأسمنَها وأعذَبها وأعظمها، وأنهم اشتوَوا، وملَّحوا، وقرّسوا، وتزوَّدَ منه مسافرهم، وإنما تلك الضفادع شيءٌ يخلق في تلك الحال بمزاوجَة الزمان، وتلك المطرة، وتلك الأرض، وذلك الهواء.

معارف في الضفدع

والضفادعُ من الخلْق الذي لا عظامَ له.
ويزعم أصحاب الغرائب أن العَلاجيمَ منها الذكورة السود.
ويقال: أرْسَح مِن ضِفدِع.
وتزعمُ الأعرابُ أن الضفدِع كان ذا ذنب، وأن الضَّبَّ سلبه إياه وذلك في خُرافة من خرافات الأعراب، ويقول آخرون: إن الضفدع إذا كان صغيراً كان ذا ذنب، فإذا خرجتْ له يدانِ أَو رجلان سقَطَ.
جملة من الأمثال وتقول العرب: لا يكون ذلك حتى يُجمع بين الأرْوَى والنعام وحتى يُجمع بين الماء والنار، وحتى يشِيبَ الغراب، وحتى يَبيْضَّ القار، وحتى تقع السماءُ على الأرض.
ومن حديث الأمثال: حتى يجيءَ نشيطٌ من مَرْو، وهو لأهل البصرة، وحتى يجيء مصْقلة من طَبرِسْتانَ، وهو لأهل الكوفة.
وقال اللّه عزّ وجلّ: "وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى يَلِجَ الجَملُ في سَمِّ الخِيْاطِ".
وتقول العرب: لا يكون ذلك حتي يُجمع بين الضب والنون، وحتى يُجمع بين الضفدع والضَّبّ، وقال الكميت:

ويَعجبُ أن نَبَرَّ بني أبينا

 

يؤلِّفُ بين ضِفْدِعةٍ وضَبٍّ

وقال في النون والضبّ:

لشيءٍ وبالشكْل الموافق للشِّكلِ

 

ولو أنهم جاؤُوا بشيء مُقـارب

قوامِسَ والمكنيِّ فينا أبا الحِسْلِ

 

ولكنهم جاءُوا بحـيتـانِ لُـجّةٍ

معارف في الضفدع

وهو من الخلق الذي لا يصاب له عَظْم، والضفدعُ أجْحظ الخلقِ عيناً، والأسد تنتابُها في الشرائع، وفي مَناقِع المياه، والآجام والغياضِ، فتأكلها أكلاً شديداً.
وهي من الخلق المائيّ الذي يصبرُ عن الماء أياماً صالحة، والضفادع تعظُم ولا تسمَن، كالدُّرّاج والأرنب، فإنَّ سِمَنهما أن يحتملا اللحم.
وفي سواحل فارس ناسٌ يأكلونها.

قول مسيلمة في الضفدع

ولا أدري ما هيّجَ مسيلمةَ على ذكْرِها، ولِمَ ساء رأيه فيها، حيثُ جعلَ بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفْدَعُ نِقَّي كَمْ تَنقِّين نصفُكِ في الماء ونصفُكِ في الطين لا الماء تُكَدِّرِين، ولا الشارب تمنعين.

معيشة الضفادع مع السمك

والضفادعُ من الخلْق الذي يعيشُ مع السمك في الماء، وليس كل شيء يعيشُ في الماء فهو سَمَك، وقد قال الصَّلتانُ العبْدِيّ، في القضاء الذي قضى بين جرير والفرزدق، و الفصْلِ الذي بينهما:

فما تستوي حِيتانُه والضفادعُ

 

فإن يكُ بحرُ الحنظليَّين زاخراً

طلب الحيَّات والضفادع

والحيات تأني مناقِعَ الماء، تطلب الضفادع، والفأر تكون بقرب المياه كثيرةً، فلذلك تأتي الحياتُ تلك المواضعَ، ولأن صيدها من أسهل الصيد عليها، وهي تعرف صيْدها، ألا تراها تحيدُ عن ابن عُرْسٍ، وإن رأتْ جُرَذاً أكبر منه لم تنهْنِهْه دون أَن تبتلعه? وترى الوَرَلَ فتفرُّ منه، وترى الوَحَرة فتشدُّ عليها، وترى القُنفُذ وإن صغُر - فلا تجترئُ أنْ تمرّ به خاطفة، وترى الوَبْرة، وهي مثلُ ذلك القنفذِ مرتين فتأكلها.
ولطلبها الضفادعَ بالليل في الشرائع يقول الأخطل:

فدلَّ عليها صوتها حَيَّةَ البحرِ

 

ضفادعُ في ظلْماء ليلٍ تجاوبَتْ

وقد سرَق معناه بعضُ الشُّعراء، فقال وهو يذكر الضفدع، وأنه لا ينقّ حتى يدخل حنَكه الماء:

كيما ينِقَّ والنَّقيقُ يُتـلـفـه

 

يُدْخِل في الأشداق ماءً ينصفُهُ

شعر في الضفادع

وقال زهير:

 

عَلى العَرَاقي يداه قائماً دَفقَا

 

وقابلٌ يتغنَّى كلمـا قـدَرَت

حَبْو الجوارِي ترى في مائه نُطُقَا

 

يُحيلُ في جدولٍ تحبُو ضفـادِعُـه

 

على الجُذوع يخَفْنَ الغَمّ والغَرَقا

 

يخرُجْن من شَرَبَاتٍ ماؤها طحِلٌ

 








وقال أَوسُ بن حجَر:

مَجالِسُ غَرْقَى لا يُحَلاَ ناهِلُه

 

فباكَرْنَ جَوْناً للعلاجيم فوقَـهُ

جون قال: يريد غديراً كثيرَ الماء، قال: وإذا كثر الماءُ وكثر عُمْقُه اسودَّ في العين، والعلاجيم: الضفادع السود؛ وجعلها غرقى، يقول: هي فيما شاءت من الماء، كقولك: فلان في خير غامر من قِبَل فلان، وجعل لها مجالس حول الماء وفوقه، لأن هذه الأجناس - التي تعيش مع السمك في الماء وليست بسمك - أكثرُ حالاتهن إذْ لم تكن سمكا خالصاً أن تظهر علَى شُطوط المياه، وفي المواضع التي تبيض فيها من الدَّغَل، وذلك كالسّرطان والسُّلحفاة، والرَّق، والضفدع، وكلبِ الماء، وأشباه ذلك.
استطراد لغوي ويُقال: نقّ الضفْدِع ينقُّ نقيقاً، وأنقض ينقِضُ إنقاضاً ، وقال رُؤبةُ:

في الماء والساحلُ خضخاضُ البَثَقْ

 

إذا دنا منهن إنـقـاض الـنُّـقُـقْ

سمع الضفدع

وقد زعم ناسٌ أن أبا الأخْزَر الحِمّاني حيث قال:

تسمُّع القِنْقِنِ صوتَ القنقِن

إنما أراد الضفدع، قالوا: وكذلك الطِّرماحُ حيث يقول:

ويُنْصِتْنَ للصوتِ انتصاتَ القنـاقِـنِ

 

يخافِتْنَ بعض المضغِ من خشيةِ الرّدَى

قالوا: لأن الضفِدع جيِّد السمع إذا تركَ النقيق وكان خارجاً من الماء، وهو في ذلك الوقتِ أَحذر من الغراب والعصفور والعَقْعَق، وأسمعُ من فرَس، وأسمع من قُراد، وأسمع من عُقاب، وبكل هذا جاء الشعر.

ذكر ما جاء في الضفادع في الآئار

إبراهيم بن أبي يحيي، عن سعيد بن أَبي خالد بن فارض، عن سعيد بن لمسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع.
قال: وحدَّثنا سعيد عن قتادة قال: سمعتُ زُرارةَ يحدِّث أنه سمع عبد اللّه بن عَمْرو يقول: لا تسبُّوا الضفادع فإنَّ أصواتها تسبيح.
قال: وحدثنا هشامٌ صاحبُ الدّستوائي، عن قتادة عن زُرارةَ بنِ أوفى، عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: لا تقتلوا الضفادعَ، فإن نقيقهُنَّ تسبيحِ، ولا تقتلوا الخفاش، فإنه إذا خرب بيت المقدس قال: يا ربِّ سلِّطني على البحر حتى أغرقهم.
وعن حماد بن سَلمةَ، عن قتادة، عن زُرارة، قال: قال عبد الله بن عمرو: لا تقتلوا الخفاش، فإنه استأذن البحر أن يأخذ من مائه فيطفئَ بيتَ المقدس حيث حرِّق، ولا تقتلوا الضفادع، فإن نقيقها تسبيح.
وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذِئب، وفي إسناد له: أن طبيباً ذكر الضِّفدِعِ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، ليُجْعل في دواء، فنهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل الضفدع.
ما يوصف بجودة الحراسة وشدة الحذر والعربُ تصف هذه الأصناف التي ذكرناها بجودة الحراسة، وبشدة الحذَر، وأعطَوا الثعلبَ والذَّئب أموراً لا يبلغها كثيرٌ من الناس.
قول صاحب المنطق في الغرانيق وقال صاحبُ المنطق في الغرانيق قولاً عجيباً، فزعم أن الغرانيق من الطيور القواطع، وليست من الأوابد، وأنها إذا أَحسّتْ بتغيُّرِ الزمان اعتزمت على الرجوع إلى بلادها وأوكارها، وذكر أنها بعيدةٌ سحيقة، قال: فعند ذلك تتخذ قائداً وحارساً، ثم تنهض معاً، فإذا طارت ترفعت في الجواء جدّاً، كي لا يعرض لها شيء من سباع الطير، أو يبلغَها سهمٌ أَو بُنْدُق، وإن عاينَتْ غيماً أو مطراً، أو خافَتْ مطراً، أو سقطتْ لطلبِ ما لا بدَّ لها منه من طعم، أو هجم عليها الليل أمسكَتْ عن الصياح، وضمَّتْ إليها أجنحتها، فإذا أرادت النوم أدخل كل واحد منها رأسَه تحتَ جناحِه، لأنه يرى أن الجناح أحْمَلُ لما يَرِدُ عليه من رأسه، أَو بعض ما في رأسه: من العين وغير ذلك، ويعلم أنه ليس بعد ذهابِ الرأس حياة، ثم ينام كل واحد منها وهو قائم على رجليه، لأنه يظن أنه إن مكَّنهما نام إن كان لا يحب النوم، أوْ نام ثقيلا إن كان يحب أن يكون نومّه غراراً، فأما قائدها وسائقها وحارسُها، فإنه لا ينامُ إلا وهو مكشوفُ الرأس، وإن نام فإن نومُه يكونُ أقلُّ من الغِشاش، وينظُرُ في جميع النواحي، فإن أحسَّ شيئاً صاحَ بأعلى صوته.
صيد طير الماء  وسألتُ بعضَ من اصطادَ في يومٍ واحد مائة طائر من طير الماء، فقلت له: كيف تصنعون? قال: إن هذا الذي تراه ليس من صيْدِ يوم واحد، وإن كلَّه صِيدَ في ساعة واحدة، قلت له: وكيف ذاك? قال: وذلك أنا نأتي مناقعَ الماء ومواضِع الطير، فنأخذ قَرعةً يابسة صحيحة، فنرمي بها في ذلك الماء، فإذا أَبصرها الطير تدنو منه بدفع الرِّيحِ لها في جهته، مرة أو مرتين فِزع، فإذا كثر ذلك عليه أنس، وإنما ذلك الطير طير الماء والسّمكِ، فهي أبداً على وجه الماء، فلا تزالُ الرِّيح تقرِّبها وتباعدها، وتزداد هي بها أُنْساً، حتى ربما سَقَط الطائرُ عليها، والقرعة في ذلك إما واقفةٌ في مكان، وإما ذاهبةٌ وجائية، فإذا لم نرها تنفرُ منها أخذنا قَرعة أُخرى، أو أخذناها بعينها، وقطعنا موضِعَ الإبريق منها، وخرَقْنا فيها موضِعَ عينين، ثم أخَذَها أحَدُنا فأدخَلَ رأسَه فيها، ثم دخل الماء ومشى فيه إليها مشياً رُويْداً، فكلما دنا من طائر قبض على رجليه ثم غمسه في الماء، ودقّ جَناحَه وخَلاّهُ، فبقي طافياً فوق الماء يسبحُ برجليه، ولا يطيقُ الطيران، وسائرُ الطير لا ينكر انغماسه، ولا يزال كذلك حتى يَأتيَ على آخر الطير، فإذا لم يبق منها شيء رَمى بالقرعة عن رأسه، ثمّ نلقطها ونجمعها ونحملها.
علاج الملسوع قال: ومن جيِّدِ ما يُعالجَ به الملسوعُ، أن يُشَقَّ بطنُ الضفدع، ثم يرفَد به موضع اللسعة، ولسنا نعني لدغة الحية، وإنما نعني لسعة العقرب.
والضفدع إذا رأى النار أمسك عن النقيق، وإذا رأى الفجر. والأُسدُ إذا رأت النار أحجمت عن الإقدام، وإذا اشتد الأصوات.
استطراد لغويّ قال: ويقال للضفدع: نقّ ينقّ، وهدر يهدِر، وقال الراعي:

عيناً ضَفادعُها تَهْـدِرُ

 

فأوردهُنَّ قبيلَ الصباح

قول صاحب المنطق في الضفادع والسمك

وأما قولُ صاحبُ المنطق في أن الضفادع لا تنقّ حتى تُدِخَلَ فكها الأسفل في الماء، لزن الصوت لا يجيئُها حتى يكون في فكها ماء فقد قال ذلك، وقد، وافقه عليه ناسٌ من العلماء، وادعوا في ذلك العِيان.
فأما زعمه أَن السمكة لا تبتلع شيئاً من الطعم إلا ببعض الماء، فأيُّ عيان دلَّ على هذا? وهذا عَسِرٌ.
أَحضِرْني على اسم اللّه ذِهنك، وفرِّغْ لما أُلقيه إليك قَلْبَكَ، فربَّ حرْف من حروف الحكم الشريفة، والأمثال الكريمة - قد عَفا أثرُه، ودثر ذكرُه، ونبا الطَّرفُ عنه، ولم يُشغَل الذهنُ بالوقوف عليه، وربَّ بيتٍ هذا سبيله، وخطبةٍ هذه حالها.
ومدارُ الأمر على فهم المعاني لا الألفاظ، والحقائق لا العبارات، فكم من دارس كتاباً خرَج غُفْلاً كما دخل، وكم من متفهِّم لم يفهم? ولن يستطيع الفهم إلا من فرَّع قلبه للتفهم، كما لا يستطيعُ الإفهام إلا من صحت نيتُه في التعليم.

فضل الإنسان على سائر الحيوان

فأقول: إن الفرق الذي بين الإنسان والبهيمة، والإنسان والسَّبُع والحشرة، والذي صَبَّرَ الإنسان إلى استحاق قول اللّه عز وجلَّ: "وَسَخَّرَ لَكمْ ما في السَّموَاتِ وما في الأرْضِ جَميعاً مِنْهُ" ليس هو الصورة، وأنه خُلِقَ من نطفة وأن أباه خلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصالَ كلها مجموعة في البُلْه والمجانين، والأطفال والمنقوصين.
والفرق الذي هو الفَرق إنما هو الاستطاعة والتمكين، وفي وجُودِ الاستطاعة وجودُ العقل والمعرفة، وليس يوجِبُ وجودُهما وُجودَ الاستطاعة.
وقد شرَّف اللّه تعالى الجانَّ وفَضّله على السّبُع والبهيمة، بالذي أَعطاه من الاستطاعة الدالة عَلَى وجود العقل والمعرفة.
وقد شَرَّف اللّه الملائكةِ وفضلهم عَلَى الجانّ، وقدمهم علَى الإنسان وألزمهم من التكليف عَلَى حسب ما خوَّلهم من النعمة، وليست لهم صورة الإنسان ولم يخْلَقُوا من النُّطَف، ولا خلُق أبوهم من التراب، وإنما الشأنُ في العقل، والمعرفة، والاستطاعة.
أفتظنُّ أَن اللّه عز وجل يخصُّ بهذه الخصال بعضَ خلقِه دون بعض، ثم لا يطالبهم إلا كما يطالب بعضَ من أعدمه ذلك، وأعْراه منه?َ فِلمَ أعطاه العقل،إلا للاعتبار والتفكير? ولِمَ أعطاه المعرفة، إلا ليؤْثر الحقَّ على هواه? ولِمَ أعطاهُ الاستطاعة، إلا لإلزام الحجة?. فهل فكَّرتَ قطُّ في فصل ما بينك وبين الخلق المسخَّر لك، وبين الخلق الذي جُعِل لك والخلق المسلط عليك? وهل فكَّرت قط في فصل ما بين ما جعله عليك عادياً? وبين ما جعله لك غاذياً? وهل فكرتَ قطُّ في فصل ما بين الخلق الذي جُعل لك عذاباً، والخلق الذي جعُل لك قاتِلاً، وبين ما آنسه بِك وبين ما أوْحَشَهُ منك، وبين ما صغَّره في عينك وعظّمه في نفسك، وبين ما عظَّمه في عينك وصغَّره في نفسك?.
بل هل فكرت في النحلة والعنكبوت والنملة، أنت ترى اللّه تقدَّس وعزّ كيف نوّه بذكره ورفع من قدرها، وأضاف إليها السُّوَر العظامَ، والآياتِ الجسامَ، وكيفَ جعل الإخبارَ عنها قرآناً وفرقاناً، حيث يقول: "وَأَوْحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ"، فقفْ عَلَى صغر النحلة وضعْفَ أيْدِها، ثم ارْم بعقلك إلى قول اللّه: "ثمَّ كلي مّنْ كلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً" فإنك تجدُها أكبر من الطَّود، وأوسعَ من الفضاءِ، ثم انظر إلى قوله: "حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وادِي النَّمْلِ"، فما ترى في مقدار النملة في عقل الغبيِّ، وغير الذّكيّ? فانظر كيف أَضاف الوادي إليها، وخبر عن حذرها ونصحها لأصحابها، وخوفها ممن قد مُكّنَ، فإنك تجدُها عظيمةَ القدر، رفيعةَ الذكر، قد عظمها في عقلك، بعد أن صغرها في عينك.

عَجزُ الإنسان وصِغَرُ قَدْرِهِ

وخبِّرني عن اللّه تعالى، أمَا كان قادراً أن يعذِّب الكنعانيينَ، والجبابرة، والفراعنة، وأبناءَ العمالقة: من نَسْلِ عاد وثمود، وأهل العتوِّ والعُنُود بالشياطين ثم بالمردةَ، ثم بالعفاريت، ثم بالملائكة الذين وكّلهم اللّه تعالى بسَوْق السحاب، وبالمدِّ والجزْر، وبِقبضِ أرواح الخلق، وبقلب الأرَضين، وبالماء والريح، وبالكواكب والنيران، وبالأسْد والنمور والبُبُور وبالفيَلة والإبل وبالجواميس، وبالأفاعُي والثعابين وبالعقارب والجرارات، وبالعقبان والنسور، وبالتماسيح، وباللُّخم والدُّلفِين.
فلمَ عذَّبهم بالجراد والقُمَّل والضفادع? وهل يتلقَّى عقلك قبل التفكير إلا أنه أراد أن يعرِّفهم عجْزهم، ويذكَّرهم صِغَر أقدارِهم، ويدُلَّهم على ذلك بأذلِّ خلقه، ويعرفهم أن له في كل شيء جُنْداً، وأن القَويَّ من قَوَّاهُ وأعانه، والضعيف من ضَعَّفه، والمنصورَ من نصرَه، والمخذول من خَلاّه وخذله، وأنه متى شاء أن يقتل بالعسل الماذي والماء الزُّلال كما يقتلُ بالسمّ الساري، والسيف الماضي قتل?.
ولِمَ كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم إذا رأى على جسده البَثْرةَ ابتهلَ في الدعاء وقال:إن اللّه تعالى إذا أراد أن يعظمَ صغيراً عظمه?.
ولم قال لنا: "فَأَرْسَلَنَا عَليْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ والقُمَّلَ والضَّفادِع وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاَتٍ". فافهمْ عنه تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه قوله: "آيات" ثم قال: "مُفَصَّلات"، فهل وقفت قطُّ عَلَى هذه الآياتِ? وهل توهّمْت تأويلَ قوله: هذا آية وغيرْ آية? وهل وقفت علَى فصل ما بين الآية وغير الآية، وإذا كانت مفصَّلات كان ماذا، وإذا لم تكن مفصلات كان ماذا.
فافهم قوله: "فَأَرْسلَنَا عَلَيْهِم"، وما في الأرض أنقصُ معرفة وعلماً، ولا أضعفُ قوة وبطشاً، ولا أوْهَنُ رُكناً وعَظماً من ضِفدِع، فقد قال - كما ترى: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والْجَرَاد والقمَّلِ والضَّفَادِعَ والدَّمَ"، فقد جعله - كما ترى - أُفضل آياته والعذابَ الذي أرسله عَلَى أعدائه.
وقد قال جل وعز: "فإذَا جاءَ أَمْرُنَا وفارَ التَّنُّورُ" فأظهر الماء جلّ ثناؤه من أبعد مواضع الماء من ظنونهم، وخَبَّرَنا بذلك كي لا نخلِيَ أنفسنا من الحذر والإشفاق، ولنكون علماء بالعِلم الذي أعطانا، ولنكون راجين خائُفين، ليصحّ الاختيار، ويحسُنَ الاختبار: "فَتَبَارَكَ اللّه أَحسَنُ الخَالِقينَ"، ما أحسنَ ما قدَّر، وأتقَنَ ما برأ. وكان السبب الذي سلطه اللّه تعالى عَلى العَرِم، وهو مُسَنَّاةُ جَنّتَيْ بلادِ سبإ، جُرَذاً، فهو الذي خَرقه، وبدَّل نعمتَهم بؤساً، ومُلكهُمْ يَبَاباً وعِزَّهمْ ذلاَّ، إلى أن عادوا فقراء، فقال اللّه: "وَبَدَّلنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكلٍ خَمطٍ وأَِثلٍ وشَيءٍ مِنْ سِدْر قَليل"، هذا بعد أن قال: "لَقَدْ كانَ لِسَبأ في مسَاكِنهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَال كُلُوا من رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفْورٌ، فَأَعْرَضوا فَأَرْسَلْنَا عَليْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ".
شعر في سد مأرب وقال الأعشى:

ومأربُ قفَّى عليه العَرِمْ

 

ففي ذاكَ للمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ

إذا جاء ماؤُهُمُ لـم يَرِمْ

 

رُخامٌ بنَتْه لهم حـمـيرٌ

وأنشد أبو عمرو بنُ العلاء:

يبْنُونَ منْ دونِ سَيلهِ العَرِمَا

 

من سَبَأ الحاضرِينَ مَأْرِبَ إذ

معارف في الجراد

ثم انظر إلى الجراد وهذا باب القول فيه.
قال: فأولُ ما يبدو الجرادُ إذا باض سَرْءٌ، وسَرؤُه: بيضُه.
يقال: سَرأَتْ تَسرأ سَرْءاً.
فانظر الآن، فكم ترى فيه من أعجوبةٍ، ومن آيةٍ بليغة، فأوَّل ذلك التماسُها لبيضها الموضعَ الصَّلد، والصخور الصُّمَّ المُلْسَ، ثقةً بأنها إذا ضربَتْ بأذنابها فيها انفرجت لها.

ذنب الجرادة وإبرة العقرب

ومعلومٌ أن ذنَب الجرادةَ ليس في خلقة المسمارِ، ولا طرف، ذنبها كحدِّ السِّنان، ولا لها من قوة الأسْر، ولذنبها من الصّلابة ما إذا اعتمدَتْ به على الكُدْيِةَ والكَذّانة جرح فيهما فكيف وهي تتعدى إلى ما هو أصلبُ من ذلك، وليس في طرف ذنبها كإبرة العقرب?.
وعَلَى أن العقرب ليس تخرق القمقم من جهة الأيْد وقوة البدن، بل إنما ينفرجُ بطبعٍ مجعول هناك، وكذلك انفراجُ الصخورِ لأذناب الجراد.
ولو أن عُقاباً أرادتْ أن تخرق في جلد الجاموس لما انخرق لها إلا بالتكلُّفِ الشديدِ، والعُقابُ هي التي تَنْكدرُ على الذئب الأطلس فتقدّ بدابرتها ما بين صَلاهُ إلى موضع الكاهل.
فإذا غرزَت الجرادة وألقت بيضها، وانضمَّت عليها تلك الأخاديد التي أحدثتْها، وصارت كالأفاحيص لها، وصارت حافظةً لها ومربِّية، وصائنة وواقية، حتى إذا جاء وقتُ دبيبِ الرُّوح فيها أحدث اللّهُ في أمرها عجباً آخر، فسبحان من استخزنها حكمتَه، وحشاها بالأدلة عليه،وأنطقَها بأنها مدبرة، ومُذلَّلةٌ ميسرة، ليفكر مفكر، ويعتبر معتبر ذَلِكمُ اللّهُ رَبُّ العَالمِينَ، وتبارك اللّه ربُّ العالمين.

مراتب الجراد

وقال الأصمعي: يقال: قد سرأت الجرادة تسرأ سَرْءًا، فإذا خرج من بيضه فهو دَباً والواحدة دَباة، ويخرج أصهَبَ إلى البياض، فإذا اصفرَّ وتلوَّنت فيه خطوطٌ واسودَّ فهو بُرقان، يقال رأيت دباً بُرقاناً، والواحدة بُرقانة، فإذا بدت فيه خطوطٌ سُودٌ وبيضٌ وصُفر فهو المسَيَّح، فإذا بدا حجْمُ جناحِه فذلك الكُتْفان، لأنه حينئذٍ يكتف المشي واحدة كتفانة، قال ابن كناسة:

طنُباً أو يشكُّ كالمتمـادِي

 

يكتِفُ المشْيَ كالذي يتخطَّى

يصف فرساً، فإذا ظهرت أجنحتُه وصار أحمرَ إلى الغبْرة فهو الغَوْغاء والواحدة غوغاءه، وذلك حين يستقلُّ ويموجُ بعضه في بعضِه ولا يتوجَّهُ جهةً، ولذلك قيل لرعاع الناس غوغاء، فإذا بدتْ في لونه الحمرة والصفرة، وبقي بعضُ الحمرة، واختلف في ألوانه، فهو الخيفان، والواحدة خَيفانة، ومن ثمَّةَ قيل للفَرَس خَيفانة.
فإذا اصفرّت الذكورةُ واسودّت الإناثُ ذهبت عنه أسماء غير الجراد، فإذا باض قيل غَرَزَ الجرادُ، وقد رزَّ.
فإذا كثر الجرادُ في السماء وكثُف فذلك السُّدُّ، ويقال:رأيتُ سُدًّا مِنْ جَرادٍ، ورأيتُ رِجْلاً من جَرادٍ، للكثير منه، وقال العجاج:

سَيْرَ الجراد السُّدِّ يرتاد الخَضِرْ

مثل في الجراد

و مما تقول العرب: أصْرَد منْ جرادة، وإنما يُصْطاد الجراد بالسّحَر، إذا وقع عليه الندى طلبَ مكاناً أرفع من موضعه.
فإن كان مع النَّدى بَرَدٌ لبَدَ في موضعه، ولذلك قال الشاعر:

كالثائر الحيران أشرفَ للنَّدَى

 

وكتيبةٍ لبَّسْتُـهـا بـكـتـيبةٍ

الثائر: الجراد، أشرف: أتى على شَرَف، للندى: أي من أجْل الندى.
استطراد لغوي ويقال: سخّتِ الجرادة تسخُّ سَخّاً، ورزَّت وأرزّت، وجرادةٌ رزَّاءُ ورازّ ومُرِزّ: إذا غمزَت ذنبها في الأرض، وإذا ألْقَت بيضها قيل: سَرأت تَسْرأ سَرْءًا.
ويقال: قد بَشرَ الجرادُ الأرضَ فهو يبشرها بشراً: إذا حَلقَها فأكل ما عليها، ويقال: جَردَ الجرادُ: إذا وقع على شيء فجردَه، وأنشدني ابن الأعرابي:

كما جَرَد الجارودُ بكرَ بْنَ وائل

ولهذا البيت سُمِّي الجارود.
وأنشدني آخر:

فقد جَردَت بيتي وبيتَ عِياليا

 

يقول أمِيرٌ: ها جَرادٌ وضبَّةٌ

وهذا من الاشتقاق.
ومنه قيلُ ثوب جَرْدٌ، بإسكان الراء، إذا كان قد انجرد وأخْلَق، قالت سُعدَى بنت الشَّمَرْدان:

ومُقاتلٌ بطلٌ وليثٌ مِسْلعُ

 

سَبَّاءُ عادية وهادي سُـرْبةٍ

هبِلتْكَ أُمُّكَ أيَّ جَرْدٍ ترقعُ

 

أجَعلتَ أسعدَ للرِّماح دريئة

تطيرُّ النابغة ويدخلُ في هذا الباب ما حدّثنا به الأصمعيّ، قال: تجهز النابغةُ الذبيانيُّ مع زَبَّان بن سَيَّارٍ الفزاريّ، للغزو، فلما أراد الرحيلَ نظرَ إلى جرادة قد سقطتْ عليه، فقال:جرادَةٌ تجرُد، وذات لونين، غيري منْ خرج في هذا الوجه: ولم يلتفتْ زَبّانُ إلى طِيرته وزجْره، ونفذ لوجهه، فلما رجع إلى موضعه الذي كان النابغةُ فارقه فيه، وذكر ما نال من السلامة والغنيمة، أنشأ يذكر شأن النابغة فقال:

لتُخبره وما فيهـا خَـبـيرُ

 

تخبّـر طـيرَهُ فـيهـا زيادٌ

أشارَ له بحكمته مَـشـيرُ

 

أقامَ كأنَّ لُقمـانَ بـنَ عـادٍ

على متَطيِّر وهو الثِّـبـورُ

 

تعَـلَّـمْ أنـهُ لا طــيْرَ إلا

أحاييناً وباطـلـه كـثـيرُ

 

بلى شيءٌ يوافقُ بعضَ شيء

واسم النابغة زياد بن عمرو، وكنيته أبو ثُمامة، وأنشدني أبو عبيدة:

زيادُ بنُ عمرو أمَّها واهتدى لها

 

وقائلةٍ: مَنْ أَمّها واهتَدَى لهـا?

استطراد لغوي قال: ويقال أبشرت الأرض إبشاراً: إذا بُذِرَتْ فخرج منها بذرها، فعند ذلك يقال: ما أحَسَنَ بَشرةَ الأرض.
وقال الكميت - وكنية الجراد عندهم: أمُّ عوف، وجناحاها: بُرْدَاها - ولذا قال:

لنا بارِقٌ بخْ للوَعيدِ وللرّهْـبِ

 

تُنَفِّضُ بُردَيْ أُمِّ عوفٍ ولم تَطِرْ

وأنشدنا أبو زيد:

إذا تجاوَبَ مِنْ بُرْدَيْهِ تـرنـيمُ

 

كأن رِجْليهِ رجْلا مُقْطفٍ عَجِلٍ

يقول: كأنَّ رجلَي الجندب، حين يضربُ بهما الأرض من شدة الحرِّ والرَّمضاء، رِجلا رجل مُقْطِف، والمقطف: الذي تحته دابَّةٌ قَطوف، فهو يهمزُها برجليه.

شعر في الجندب والجراد

وقال أبو زبيدٍ الطائي، يصفَ الحرَّ وشدته، وعملَ الجندب بكُراعيه:

حينَ لاحَتْ للصابح الـجـوزاءُ

 

أيُّ ساعٍ سَعَى ليقْطـع شَـرْبـي

بُّ أوفى في عودِهِ الـحِـربـاءُ

 

واستَكَنّ العُصْفُورُ كَرْهاً مع الضَّ

يهِ وأذْكَتْ نيرانَها الـمـعـزاءُ

 

ونفَى الجندَبُ الحصَى بـكُـراعَ

وأنشد أبو زيد، لعوف بن ذِرْوَة، في صفة الجراد:

ويتركَ الدِّينَ علـينـا والـدَّينْ

 

قد خفت أن يحدَرَنا للمِصْـرَينْ

مِنْ كلِّ سَفْعاء القَفا والـخـدَّينْ

 

زَحْفٌ من الخَيْفانِ بعد الزّحْفَيْنْ

كأنها مُـلـتـفَّةٌَ فـي بُـرْدينْ

 

مَلعونةٍ تسلَخْ لونـاً عـن لـونْ

أو مثل مِئشار غليظِ الحَرْفـينْ

 

تُنْحِي على الشِّمراخِ مثل الفأسَيْنْ

 

 

أنصبَه مُنصِبُه في قِـحْـفَـين

وعلى معنى قوله:

أو مثلَ مِئشار عليظِ الحرفـينْ

 

تُنحي عَلَى الشمراخ مثلَ الفأسينْ

قال حمادٌ لأبي عطاء:

كأن رُجَيْلتَيْها مِنْـجَـلانِ

 

فما صفراءُ تُكنَى أمَّ عوفٍ

تشبيه الفرس بالجرادة

ويُوصَفُ الفرسُ فيشبه بالجرادة، ولذا قال الشاعر:

 

إنَّ الرِّداف عن الأحبَّة يَشْغَلُ

 

فإذا أتيتَ أباكَ فاشترِ مثلهـا

وإذا وضعْتَ عنانَها لا تفشل

 

فإذا رفعْتَ عِنانَها فجـرادةٌ

 








ولم يرض بشرُ بن أبي خازِم بأن يشَبهه بالجرادة حتى جعله ذكراً، حيث يقول:

أضَرَّ بها المسالِح والعِوارُ

 

بكلِّ قِيادِ مُسْنِـفَةٍ عَـنُـودٍ

جَرَادَةَ هَبْوةٍ فيها اصفرارُ

 

مُهارِشَةِ العِنَانِ كأنّ فيهـا

فوصفها بالصُّفرة، لأنَّ الصفرة هي الذكورة، وهي أخفُّ أبداناً، وتكونُ لخفة الأبدان أشدُّ طيراناً.

تشبيه مسامير الدرع بحدق الجرادة

ويوصف قَتيرُ الدِّرع ومساميرُها فيشَبَّه بحدَق الجراد، وقال قيس بن الخطيم:

لبست مع البردَيْنِ ثوبَ المحاربِ

 

ولما رأيتُ الحرب حرباً تجرَّدَتْ

كأنَّ قتيريْهَا عيونُ الـجـنـادبِ

 

مضاعفةً يغشَى الأناملَ فضلُهـا

وقال المقنَّع الكِنْديّ:

كصُنْعٍ لها صُنعاً ولا سَرْدِها سَـرْدَا

 

ولي نَثرةٌ ما أبْصَرَتْ عـينُ نـاظـرٍ

عيونُ الدَّبا في الأرضِ تجردُها جَرْدا

 

تلاحَمَ منها سَـردُهـا فـكـأنـمـا

وقال عمرو بن معد يكرِبَ:

وددتُ وأين ما منِّي ودادِي

 

تمنانـي لـيقـانـي أبـيٌّ

خَوس الحسِّ محكمةُالسرادِ

 

تمناني وسابغـتـي دلاصٌ

كأنَّ سِكاكَها حَدَقُ الجـرادِ

 

مضاعفةٌ تخيرَّهـا سُـلـيمٌ

تشبيه وسط الفرس بوسط الجرادة

ويوصفُ وسط الفرَس بوَسط الجرادة، قال رجلٌ من عبد القيس يصف فرَساً:

تَنْفِي سَنابِكُها رَضيضَ الجَنْدَلِ

 

أمَّا إذا ما استُدْبرَِتْ فَنَـعـامةٌ

تشبيه الحباب بحدق الجراد

ويوصفُ حَباب الشراب بحدق الجراد، قال المتلمِّس:

وحثّ بهم وراءَ البِيدِ حادِي

 

كأني شاربٌ يومَ استَبـدُّوا

كأنَّ حَبابَها حَدَقُ الجـراد

 

عُقاراً عُتِّقَتْ في الدّنِّ حتى

لعاب الجندب

وإذا صفا الشَّرابُ وراقَ شبَّهوه بلُعاب الجندب، ولذا قال الشاعر:

ماءُ المفاصِل أو لُعابُ الجُنْدُبِ

 

صفراء من حَلَبِ الكرومِ كأنّها

ولُعاب الجندب سمٌّ عَلَى الأشجار، لا يقع على شيء إلا أحرقه.
زعم في الدَّبا ولا يزالُ بعضُ من يدَّعي العِلمَ يزعمُ أن الدَّبا بُريد الخُضرة، ودونها النهر الجاري، فيصيرُ بعضه جسراً لبعضِ، وحتى يعبُر إلى الخضرة، وأن تلك حيلة منها.
وليس ذلك كما قال: ولكنّ الزَّحفَ الأول من الدبا يريد الخضرة، فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها، فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافيةً صارت تلك لعمري أرضاً للزحف الثاني الذي يريد الخضرة، فإن سمَّوا ذلك جسراً استقام، فأما أن يكون الزحفُ الأولُ مهَّد للثاني وَمكّن له، وآثرَه بالكفاية فهذا ما لا يُعرُف.
ولو أن الزحْفين جميعاً أشرفا على النهر، وأمسَكَ أحدُهما عن تكلُّف العبور إلى أن يمهِّد له الآخر - كان ذلك قولاً.
استطراد لغوي ويقال في الجراد: خِرقة من جراد، والجميع خِرَق، وقال الشاعر:

يثورُ يومَ غُـبـارِ

 

وكأنها خِرَقُ الجرَادِ

ويقال للقطعة الكثيرة منها رجْل جراد، ورجلةٌ من جراد، والثَّوْل: القطعة من النحل.
وتوصف كثرة النّبْلِ، ومرورها، وسرعة ذلك بالجراد، وقال أبو النجم:

رجلُ جرادٍ طار عن حِدَالها

 

كأنما المَعْزاءُ من نِضالهـا

وإذا جاء منه ما يسدُّ الأفق قالوا: رأينا سُدّاً من جراد، وقال المفضل النُّكريّ:

تُهيِّجه شآمِيَةٌ خَرِيقُ

 

كأنَّ النَّبلَ بينهمُ جرادٌ

والمرتجل: الذي قد أصابَ رجْل جرادٍ، فهو يشويه.
وقال بعضُ الرُّجَّاز، وهو يصف خيلاً قد أقبلت إلى الحيّ:

أو شَبَهَ الحَفَّانِ في سفحِ الجَبَلْ

 

حتى رأينا كدُخانِ المرتـجِـلْ

ولأن الحفانَ أتمُّها أبداناً، قال ابنُ الزِّبَعرَى:

 

جَزَع الخزرجِ من وقعِ الأسلْ

 

ليتَ أشياخي ببـدرِ شـهـدوا

 

واستَحَرَّ القتلُ في عبدِ الأشَل

 

حينَ ألقتْ بِقُبـاء بَـرْكَـهـا

 

رَقَصَ الحفان في سَفْحِ الجَبَلْ

 

ساعةً ثمَّ استخفـوا رَقـصـاً

وعدلنا مَيلَ بدرٍ فاعتَـدَل

 

وقبلنا الضَّعف منْ ساداتِهمْ

 








طيب الجراد الأعرابي

والجرادُ الأعرابيُّ لا يتقدمه في الطِّيب شيء، وما أُحصِي كم سمِعتُ من الأعرابُ مَنْ يقول: ما شبِعتُ منه قطُّ وما أدعُهُ إلا خوفاً من عاقبته؛ أو لأني أعيا فأتركه.
أكل الجراد والجرادُ يطيب حارّاً وبارداً، ومشويّاً ومطبوخاً، ومنظوماً في خيط، ومجعولاً في الملَّة.
والبيض الذي يتقدَّمُ في الطيب ثلاثةُ أجناس: بيض الأسْبور وبيض الدَّجاج، وبيضُ الجراد فوقَ بيض الأسبور في الطيب، وبيضُ الأسبور فوق بيض الدَّجاج.
وجاء في الأثر، أن الجراد ذكرَ عندَ عمر فقال: ليت لنا منه قَفْعَةً أو قفعتين.
وهو يؤكل يابساً وغير يابس، ويجعل أُدْماً ونَقْلاً.
والجرادُ المأكولُ ضروبٌ، فمنه الأهوازيّ، ومنه المذنّب، وأطيبُه الأعرابيّ، وأهل خُراسان لا يأكلونه.
قصة في الولوع بأكل الجراد وحدَّثني رَتْبيل بن عمرو بن رَتْبيل قال: واللّه إني لجالس على باب داري في بني صبير، إذ أقبلت امرأةٌ لم أر قط أتم حسناً ومِلحاً وجسماً منها، ورأيت في مشيها تأوُّداً، ورأيتها تَتَلَفَّتُ، فلم ألبَثْ أن طلعتْ أخرى لا أدري أيتهما أقدِّم، إذ قالت التي رأيتها بديًّا للأُخرى: ما لك لا تلحقيني? قالت: أنا منذ أيام كثيرة أُكثرُ أكلَ هذا الجراد، فقد أضعفَني فقالت: وإنك لتحبِّينَه حُبًّا تحتملين له مثلَ ما أرى بكِ من الضَّعف? قالت: واللّه إنه لأحبُّ إليَّ من الحبل.

طرفة في الجراد

وقال الأصمعي: قال رجلٌ من أهل المدينة لامرأته: لاجزَاكِ اللّه خيراً، فإنك غيرُ مُرْعِيَةٍ ولا مبقية قالت: لأنا واللّه أرْعَى وأٍبقى من التي كانت قبلي قال: فأنت طالقٌ إن لم أكنْ كنتُ آتيها بجرادةٍ فتطبخ منها أربعة ألوان، وتَشْوي جنبَيها فرفعَتهُ إلى القاضي فجعل القاضي يفكر ويطلبُ له المخرج، فقال للقاضي: أصلحك اللّه أأشكلتْ عليك المسألة? هي طالقٌ عشرين.

تشبيه الجيش بالدبا

ووصف الراجزُ حرباً، فوصفَ دنوَّ الرّجَّالة من الرّجَّالة، فقال:

أو كالدَّبا دبّ ضُحًى إلى الدَّبَا

قول أبي إسحاق في آية الضفادع

وقرأ بعضُ أصحابنا بحضرة أبي إسحاق: "وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرنَا بِهَا فَما نَحْنُ لكَ بمُؤْمِنِينَ، فأرْسَلْنَا عََلَيْهِمْ الطُّوفانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ" فقال رجلٌ لأبي إسحاق: انظر كيف قرَنَ الضفادعَ مع ضعفها إلى الطوفان، مع قوة الطوفان وغلبته، قال أبو إسحاق: الضفادعُ أعجبُ في هذا الموضع من الطوفان، وإذا أراد اللّه تعالى أن يصيِّر الضفادعَ أَضرَّ من الطوفان فعل.

شعر في تشبيه بالجراد

وقال أبو الهنْدِي:

وتوسّط النَّسْرانِ بَطْنَ العـقـربِ

 

لمَّا سِمعتُ الدِّيك صاحَ بسُـحْـرة

عُفْرُ الظِّباء على فروعِ المرْقَـبِ

 

وتتابعَتْ عُصَب النُّجوم كـأنـهـا

ثَوْرٌ وعارضَه هِجَانُ الـرّبْـرَب

 

وبَدا سُهَيلٌ في السـمـاء كـأنـه

يا ابن الكرامِ من الشَّراب الأصهْبِ

 

نَبَّهْتُ نَدْمَانِي فقلتُ له: اصطَـبـحْ

عَيْنُ الجرادةِ أو لعابُ الجُـنْـدُبِ

 

صفراءُ تنْزُو في الإناء كـأنـهـا

وقَّـادَةٍ حِـرْبـاؤُهـا يتـقـلَّـبُ

 

نَزْوَ الدَّبا مِنْ حَرِّ كـلِّ ظـهـيرة

وقال أبو الهنديّ أيضاً:

في ظاهر الأمر وفي الغامض

 

فإنَّ هذا الوطْـبَ لـي ضـائرٌ

صفراءَ مثلِ المُهْرَةِ الناهـضِ

 

إنْ كُنْتَ تَسْقِيني فَمِـنْ قَـهْـوَةٍ

نَزْوَ جَرَادِ البلـدِ الـرَّامِـض

 

تنْزُو الفقاقيعُ إذا شُعْـشِـعَـتْ

وقال الأفْوهُ:

زَهرٌ قُبيلَ ترَجُّل الشَّمـسِ

 

بمناقِبٍ بِيضٍ كأنَّ وجُوهَهُمْ

بالبطن في دِرعٍ وفي تُرْسِ

 

دَبُّوا كمنتشر الجرادِ هَـوَتْ

حَطَّتْ إلى إجْل من الخُنْسِ

 

وكـأنـهـا آجـالُ عـادِية

أقوال فيما يضر من الأشياء  وروى الأصمعي، وأبو الحسن، عن بعض المشايخ، قال: ثلاثة أشياءَ ربما صرعتْ أهلَ البيت عن آخرهم: أكلُ الجراد، ولحوم الإبل، والفُطْر من الكمْأة.
وقال غيرُهما: شربُ الماء في الليل يورث الخبل، والنظر إلى المختصر يُورث ضعف القلب، والاطلاع في الآبار العادِيَّة ينقُض التركيب، ويُسوِّل مصارعَ السَّوء، فأما الفُطْر الذي يُخْلق في ظلِّ شجر الزيتون فإنما هو حتفٌ قاض، وسمٌّ ناقع، وكل شيء يخلق تحت ظلال الشجر يكون رديئاً، وأردؤه شجر الزيتون، وربما قتل، وإن كان مما اجتنبوه من أوساط الصحارى، قالوا: ومما يقتُلُ: الحمَّامُ على الْمِلأة، والجماع على البِطْنة، والإكثارُ من القديدِ اليابس.
وقال الآخر: شربُ الماء البارد على الظمإ الشديد إذا عجّل الكرْعَ، وعظّم الجرع، ولم يقطع النفس يقتُل.
قالوا: وثلاثٌ تورثُ الهُزال: شرب الماء عَلَى الرّيق، والنوم على غير وِطاء، وكثرة الكلام برفع الصوت.
والجماعُ على الامتلاء من الطعام ودخوله، وربما خِيف عليه أن يكون قاتل نفسه.
وقالوا: وأربعةُ أشياء تسرعُ إلى العقل بالإفساد: الإكثار مِنَ البَصل، والباقلَّى والجماع، والخُمَار.
وأما ما يذكرون في الباب من الهمِّ والوحدة والفِكرة، فجميع الناس يعرفون ذلك، وأما الذي لا يعرفه إلا الخاصة فالكفاية التامة، والتعظيم الدائم، وإهمال الفكر، والأنَفُ من التعلمُّ، هذا قول أبي إسحاق.
وقال أبو إسحاق: ثلاثة أشياء تخلِق العقلَ، وتُفسِد الذهِن: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر إلى البحر.
وقال مُعمّر: قُطعت في ثلاثة مجالس، ولم أجِدْ لذلك علةً؛ إلا أني أكثرتُ في أحد تلك الأيام من أكل الباذنجان، وفي اليوم الآخر من أكْل الزيتون، وفي اليوم الثالث مِنْ الباقلَّي.
وزعم أنه كلم رجلاً من الملْحدين في بعض العَشايا، وأنه علاه عُلُوًّا ظاهراً قاهراً، وأنه بَكَرَ على بقيةِ ما في مسألته من التخريج، فأجْبَلَ وأصْفَى، فقال له خصمه: ما أحدثتَ بعدي? قال: قلتُ: ما أتَّهِمُ إلا إكثاري البارحةَ من الباذنجان فقال لي - وماخالف إلى التُّهمة: ما أشكُّ أنك لم تُؤْتَ إلا منه.
وقال لي مَن أثقُ به: ما أخذت قط شيئاً من البلاذُر فنازعت أحداً إلا ظَهرتُ عليه.
وقال أبو ناضرة: ما أعرف وجهَ انتفاع الناس بالبلاذُر إلا أن يؤخذ للعصب، قلت: فأي شيءٍ بقي بعد صلاحِ العصب، وأنتم بأجمعكم تزعمون أن الحسّ للعصب خاصة?.

في القطا

تقول العرب: أصْدَق من قطاة وأهْدَى من قطاة.
وفي القطا أُعجوبةٌ، وذلك أنها لا تضعُ بيضها أبداً إلا أفراداً، ولا يكونُ بيضها أزواجاً أبداً، وقال أبو وَجزَة:

باتَتْ تُبَاشِرُ عُرْماً غير أزواج

 

وَهُنَّ يَنْسُبْنَ وَهْناً كُلَّ صـادقةٍ

والعُرم التي عَنَى: بيض القطا، لأنها منقَّطة، وقال الأخطل:

ولم يَشْفِها قتلَى غَنِىٍّ ولا جَسْـرِ

 

شَفَى النَّفْسَ قَتْلِى مِنْ سُليمٍ وعامرٍ

كبَيْضِ القطا ليسوا بسودٍ ولا حُمْرِ

 

ولا جُشَمٍ شرِّ الـقـبـائل إنـهـم

وقال مَعْقل بن خويلد:

رؤوسَ الأفاعي في مَرَاصِدِها العُرْمِ

 

أبا مَعْقِل لا توطِئَنْكم بَـغَـاضـتـي

يريد: الأفاعي العُرْمِ في مراصدها، وهي منقَّطة الظهور، وما أكثرَ ما تبيض العُقاب ثلاث بيضات، إلا أنها لا تلحم ثلاثةً، بل تخرج منهنَّ واحدة، وربما باضت الحمامةُ ثلاثَ بيضات، إلا أن واحدة تفسد لا محالة، وقال الآخر في صفة البيض:

إذا ما رأتْنا زالَ منها زَويلُها

 

وبيضاء لا تَنْحَاشُ مِنَّا وأُمُّها

إذا أنْتَجَتْ ماتَتْ وحيَّ سَليلُها

 

نتوجٍ ولم تُقرِفْ لِمَا يُمتنى له

يعني البيضة، نَتوج، حامل: ولم تُقْرِف :لم تُدَانِ، لما يُمتنَى: أي للضِّراب، والامتناء: انتظارك الناقة إذا ضُربت ألاقحٌ هي أمْ لا.
وقال ابنُ أحمر:

قطا الحزْن قد كانت فِراخاً بُيوضُها

 

بتيْهاءَ قَفْرٍ والمـطـيُّ كـأنـهـا

وذلك أنها قد كانت قبل ذلك الوقت تشرَب من الغُدُر، فلما أفرخت صافت، فاحتاجت إلى طلب الماء من مكان بعيد، فذلك أسرعُ لها.

تشبيه مشي المرأة بمشي القطاة

ويشبَّه مشيُ المرأةِ إذا كانت سمينة غير خرّاجة طوّافة بمشي القطاة في القرمطة والدَّلِّ، وقال ابنُ ميّادة:

قامت تريك قَوَاماً غـير ذي أوَدِ

 

إذا الطِّوال سَدَوْنَ المشيَ في خطَلٍ

تَهْدِي سُروب قطاً يشرَبْنَ بالثَّمـدِ

 

تمشي ككدْريَّة في الجَـوِّ فـاردة

وقال جِران العَود:

فَلَمَّا رَأَيْنَ الصُّبْحَ بادَرْنَ ضَوْءَهُرَسِيَم قَطا البَطْحَاءِ أو هُنَّ أقْطَفُ

وقال الكميت:

قُبّ البُطُون رَواجحَ الأكفالِ

 

يمشينَ مشيَ قطَا البِطاحِ تأوُّداً

شعر في التشبيه بالقطاة

وقال الآخرُ في غير هذا المعنى:

بِلَيْلَى العامِرِيَّةِ أو يُراحُ

 

كَأَنَّ القَلْبَ لَيْلةَ قِيلَ يُغدَى

تُجاذِبُه وَقَدْ عَلِقَ الجَناحُ

 

قَطاةٌ غَرَّها شَرَكٌ فباتَتْ

وقال آخر:

لَدَى خَفْضِ عَيْشٍ ُونِقٍ مُورِقٍ رَغْدِ

 

وَكُنَّا كَزَوْجٍ مِنْ قَطـاً بـمـفـازةٍ

ولَمْ تَرَ عَيْني قَطُّ أقْبَحَ مِـنْ فَـردِ

 

فَخَانَهُمَا ريبُ الـزَّمَـنِ فـأُفـرِدا

شعر في صدق القطاة

وفي صدق القطاة يقولُ الشاعر:

طُروقاً وباقي الليل في الأرض مُسْدِفِ

 

وصادقة ما خبَّرت قـد بـعـثـتُـهـا

أذى من قِلاص كالحَنيِّ المُـعَـطَّـفِ

 

ولو تركتْ نامتْ ولـكـن أعـشَّـهـا

وتقول العرب: لو تُرِك القطا لنام، ويقال: أَعْشَشْتُ القوم إعشاشاً: إذا نزلْتَ بهم وهم كارهون لك فتحوّلوا عن منزلهم.
وقال الكميت:

إذ كلُّ ذي نِسْبَة لا بـد ينـتـحـلُ

 

لا تكذبُ القوْلَ إن قالت قَطَا صدَقَتْ

وقال مُزاحمٌ العُقيليّ في تجاوب القطاةِ وفرْخِها:

بِمِثْلِ الذي قالتْ لـه لـم يُبـدَّلِ

 

فنادتْ وناداها وما اعْوَجَّ صَدْرُها

والقطاة لم تُرد اسم َنفسها، ولكن الناس سموها بالحروف التي تخرج من فيها، وزادَ في ذلك أنها على أبنيةِ كلام العرب، فجعلوها صادقَةَ ومُخبرة، ومُريدة وقاصدة.
استطراد لغوي ويقال سِرْبُ نساءٍ، وسِربُ قطاً، وسِرْبُ ظباء، كل ذلك بكسر السين وإسكان الراء، فإذا كان من الطريق والمذهب قالوا: خَلِّ سَرْبَهُ، و: فلانٌ خَلِيُّ السَّرْب؛ بفتح السين وإسكان الراء، وهذا عن يونس بن حبيب، وقال الشاعر:

نعتاً يوافقُ نَعْتي بعضَ ما فيها

 

أما القطاةُ فإنِّي سَوْفَ أَنْعتُـهـا

سُودٌ قوادمها صُهْبٌ خوافِيهـا

 

سَكّاءُ مخطوفَة في ريشها طَرَقٌ

ويقال في ريشها فَتَخ، وهو اللِّين، ويقال في جناحه طرَق: إذا غطى الرِّيشُ الأَعلى الأسفلَ، وقال ذو الرُّمَّة:

ندى ليْلِه في ريشِه يتـرقْـرَقُ

 

طراقُ الخَوافي واقعٌ فوقَ رِيعةٍ

ويقال: اطَّرقَت الأرض: إذا ركب الترابُ بعضُه بعضاً، ولزمَ بعضُه بعضاً، فصار كطِراق النِّعال طَبَقاً، وقال العجاج:

فاطَّرَقَتْ إلا ثلاثاً دُخَّسا

والطَّرْق، بإسكان الراء: الضرْب بالحصى، وهو من فِعال الحُزَاة والعائفين: وقال لبيدٌ، أو البَعيث:

ولا زاجراتُ الطير ما اللّهُ صانعُ

 

لعمرك ما تدري الطوارقُ بالحصَى

قال: ويقال طرَّقت القطاةُ ببيضِها: إذا حان خروجه وتعضلّت به شيئاً، قال أبو عبيد ولا يقال ذلك في غير القطاة، وغَرَّهُ قولُ العَبْدِيِّ:

نسيفاً كأُفْحوصِ القَطاة المطـرِّقِ

 

وقد تخذتْ رِجلي لدى جَنْبِ غرزِها

وهذا الشاعرُ لم يقلْ إن التطريق لا يكونُ إلا للقطاة، بل يكونُ لكل بَيَّاضةٍ، ولكلِّ ذاتَ ولد، وكيف يقول ذلك وهم يروُون عن قابلة البادية أنها قالت لجاريةِ تسمى سَحَابة، وقد ضربها المخاضُ وهي تُطْلَق عَلَى يدها:

وطَرِّقي بِخُصْـيَةٍ وأَيْرِ

 

أيا سَحَابُ طَرِّقِي بِخَـيْر

 

 

ولا تُرينا طَرَفَ البُظَيْرِ

وقال أوسُ بنُ حجر:

 

مولية، ربها مسـبـطـرْ

 

بكلِّ مكان تـرى شـطـبةً

 

رُ وفي ضبنه ثعلبٌ منكسرْ

 

وأحمَر جعداً عليه النـسـو

 

ةِ تشهق حيناً وحيناً تَّـهـرّْ

 

وفي صدره مثلُ جيب الفتا

على مثلِ ما بيننا نأتمرْ

 

فإنا وإخوتَنا عـامـراً

 

كما طرقتْ بنفاسٍ بِكِرْ

 

لنا صرخةٌ ثم إسكـاتةٌ

 








فهذا كما ترى يردُّ عليه.
ولادة البكر وإنما ذكر أوسُ بن حجرٍِ البِكرَ دون غيرها، لأن الوِلاد على البِكر أشدّ، وخروج الولد أعسر، والمخرج أكزّ وأضيق، ولولا أن البِكر أكثر ما تلدُ أصغرُ جثةً وألطفُ جسماً، إلى أن تتسع الرحم بتمطِّي الأولاد فيها لكانَ أعسر وأشقّ.

أجود قصيدة في القطا

وقال المرَّار، أو العِكَبُّ التغلبي، وهي أجود قصيدِة قيلت في القطا:

ترى الفرخَ في حافاتها يتحـرقُ

 

بلادٌ مروراةٌ يحارُ بها الـقـطـا

يتيمٌ جفا عنهُ موالـيهِ مُـطـرقُ

 

يظلُّ بها فَرخَ القـطـاةِ كـأنـهُ

على موته تغْضى مِراراً وثرمقُ

 

بديمومة قد مات فـيهـا وعـينُـه

يواريه قيضٌ حولَه مـتـفـلـقُ

 

شبيهٌ بلا شيء هنالك شـخـصـهُ

وشدقٌ بمثل الزعفرانِ مخـلـقُ

 

له محجرٌ نـاب وعـينٌ مـريضةٌ

لها ذنبٌ وحفٌ وجـيدٌ مـطـوقُ

 

تُعاجيه كحلاءُ الـمـدامـعِ حـرةٌ

سُكاكيَّة غبراء سمراءُ عسـلـقُ

 

سِمـاكـيةُ كـدريةٌ عُـرْعُـرِيَّة

كفاها رَذَاياها النجاء الهـبـنـقُ

 

إذا غادرتْه تبتغـي مـا يُعـيشُـه

مَسيرةَ شَهْر للقَطا، مـتـعـلَّـقُ

 

غدت تستقي من منهل ليس دونـه

تلظَّى سَمُوماً قيظه،فـهـو أورقُ

 

لأزغَبَ مطروحٍ، بجوزِ تـنُـوفة

من الحرِّ عن أوصاله يتـمـزقُ

 

تراه إذا أمسى وقد كـاد جـلـدُه

بها حِين يزْهاها الجناحانِ أولـقُ

 

غدت فاستقلَّت ثم ولَّـت مُـغـيرةً

دعاميصه فالماء أطـحـلُ أورقُ

 

تيممُ ضحضاحاً من الماء قد بـدتْ

تغوثَ مخنوقٍ فيطفـو ويغـرقُ

 

فلما أتتهُ مقـذ حـراً تـغـوثَـتْ

من الحنظلِ العاميِّ جروٌ مُفَلَّـقُ

 

تحيرُ وتُلقِي في سـقـاء كـأنـه

أناةٌ وقد كادتْ من الري تبصـقُ

 

فلما ارتوَتْ مِن مائه لم يكُنْ لـهـا

وطارت كما طار السحابُ المحلقُ

 

طمتْ طَموة صُعداً ومدَّتْ جِرانَها

شعر البعيث في القطا

وقال البعيث:

هُوِي القطا تعروُ المناهلَ جُونَهـا

 

نجتْ بُطوالات كـأنَّ نـجـاءهـا

لوردِ المياهِ واستتبـتْ قـرونُـهـا

 

طَوَين سقاء الخمسِ ثُمَّتْ قلـصـت

بلَلْنَ أداوَي ليس خرزٌ يشـينُـهـا

 

إذا ما وَردْنَ الماء في غَلسِ الضُّحى

إلى ثُغَرِ اللبات منها حصـينـهـا

 

أداوَي خفيفاتِ المحاملِ أشـنـقـتْ

إلى غُصصٍ قد ضاق عنها وتينهـا

 

جَعَلْنَ حَبابَ الماء حين حمـلـنـه

هذا ليلهُ والريح تجري فُنُـونُـهـا

 

إذا شئْن أن يسمعنَ واللـيلُ واضـعٌ

وميتةُ الخرشاء حيٌّ جَـنـينـهـا

 

تناوَمَ سربٌ في أفاحيصه الـسـفـا

بقايا أفاني الصيفِ، حُمراً بطونهـا

 

يروَّين زغباً بـالـفـلاةِ كـأنَّـهـا

يروِّين من قولك: روّيت: أي حملت في رواية.

فلا تُعكمُ الأخرى ولا تستعينُها

 

إذا مَلأَتْ مِنْهَا قطاةٌ سِقاءَهـا

ذكر نوادر وأحاديث وأشعار وكلام يتمُّ بها هذا الجزء قالوا: خرِف النَّمْرُ بن تولب، فكان هِجّيراه: اصبَحوا الركْب، اغْبِقُوا الركْب.
وخرِفت امرأةٌ من العرب فكان هِجِّيراها: زوِّجوني، زوِّجوني فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: لَمَا لهِج به أخو عُكل خيرٌ مما لهجتْ به صاحبتُكم.
وحدثني عبد اللّه بن إبراهيم بن قُدامة الجمحي قال: كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إذا رأى رجلاً يَضْرِبُ في كلامه قال: أشهدُ أن الذي خلَقَكَ وخلقَ عمرو بنَ العاص واحد.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه لصعصعة بن صُوحان في المنذر بن الجارود: ما وجدْنا عند صاحبك شيئاً قال: إن قلتَ ذاك إنه لنظَّارٌ في عِطفَيه، تَفَّالٌ في شِرَاكيه، تُعجبه حُمرةُ بردَيه. قال: وحدّثنا جريرُ بنُ حازم القَطَعيّ قال: قال الحسن: لو كان الرجُل كلما قال أصاب، وكلما عمل أحسنَ، لأوشك أن يُجَنَّ من العُجْب.
عن أبان بن عثمان قال: سمعتُ أبا بلال في جِنازةٍ وهو يقول: كلُّ مِيتةٍ ظَنونٌ إلا ميتة الشَّجَّاء قالوا: وما ميتة الشّجَّاء? قال: أخذها زيادٌ فقطع يديها ورجليها، فقيل لها: كيف تَرَيْنَ يا شَجَّاء? فقالت: قد شغلني هَول المُطَّلَع عن بَرْد حَديدِكم هذا.
قال: وقيل لرابعة القيسيَّة: لو أذِنْتِ لنا كلَّمْنا قومَكِ فجَمعوا لك ثمن خادمٍ، وكان لك في ذلك مَرْقفقٌ وكفتْكِ الخدمةَ وتفرَّغت للعبادة، فقالت واللهّّ إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملك الدنيا، فكيف أسأل الدنيا من لا يملكها?.
والناسكات المتزهدات من النساء المذكورات في الزُّهد والرياسة، من نساء الجماعة وأصحاب الأهواء، فمن نساء الجماعة: أمُّ الدرداء، ومُعاذةُ العدَوية، ورابعة القيسيَّة.
ومن نساء الخوارج: الشّجاء، وحمادة الصُّفرية وغزالة الشَّيْبانية قُتِلْنَ جميعاً، وصُلبت الشجاء وحمادة، قتل خالدُ بن عتّاب غَزَالة، وكانت امرأَةَ صالح بن مُسرِّح.
ومن نساء الغالية: الميلاء، وحُمَيدة، وليلى الناعظية.
محمد بن سلام عن ابن جُعْدُبة قال: ما أبرم عُمر بنُ الخطاب أمراً قط إلا تمثل ببيت شعر.
وعن أبان بن عثمان، قال عبد الملك: لقد كنت أمشي في الزَّرْع فأتَّقي الجُندبَ أن أقتله، وإن الحجاجَ ليكتب إليَّ في قتل فئامٍ من الناس؛ فما أحفِلُ بذلك.
وقيل له وقد أمر بضرب أعناق الأسَراء: أقْسَتك الخلافةُ يا أمير المؤمنين، وقد كنت رؤوفاً قال: كلا، ما أقسَتْني، ولكن أقساني احتمال الضغن على الضغن.
قالوا: ومات يونسُ النحويُّ سنة اثنتين وثمانين ومائة هو ابن ثمان وثمانين سنة، وقال يونس: ما أكلت شيئا قطُّ في الشتاء إلا وقد بَرُد، ولا في الصيف إلا وقد سخن.
وحدثني محمد بن يَسير قال: قال أبو عمرو المَدَايني: لو كانت البَلايا بالحِصص ما نالني كل ما نالني: اختلفت جاريتي بالشاة إلى التّياس وبي إلى حملها حاجة، فرجعت جاريتي حاملاً، والشاة حائلاً.
محمد بن القاسم قال: قال جرير: أنا لا أبتدي، ولكني أعْتَدِي.
وقال القَيني: أنا مثل العقرب، أضرُّ ولا أنفع.
وقال القينيّ: أنا أصدق في صغار ما يضرُّني، لأكذبَ في كبارِ ما ينفعني.
قال أبو إسحاق: استراح فلانٌ من حيث تعبَ الكرامُ.
وقال الحجاج: أنا حديدٌ حقود حسود.
وحدثني نُفَيع قال: قال لي القَيْنيِ: أنا لا أصدُق مادام كذبي يخفى.
قال: وذُكر شبيب بن شيبة عند خالد بن صفوان فقال خالد: ليس له صديق في السر، ولا عدوٌّ في العلانية.
وقال أبو نخيلة في شبيب بن شبيبة:

على فتاها وعلى خطيبهـا

 

إذا غدَتْ سعدٌ على شَبيبِهـا

عجِبْتَ مِن كثرتها وطِيبهـا

 

مِنْ مطلع الشمس إلى مغيبها

وقال يحيى بن أبي علي الكرْخيّ: أنا إنسان لا أبالي ما استقبلت به الأحرار.
وقال عَمرو بن القاسم: إنما قويت على خصمي بأني لم أتستَّرْ قطُّ عن شيء من القبيح فقال أبو إسحاق: نلتَ اللذَّة، وهتكتَ المروءة، وغلبتك النفس الدَّنية، فأرَتْك مكروهَ عملك محبوباً وشيء قولك حسناً، ومن كان عَلَى هذا السبيل لم يتلفتْ إلى خير يكون منه، ولم يكترثْ بشرٍ يفعله.
وقال الفرزدق:

فأصبح يبغي نفسَه من يُجيرُها

 

وكان يُجيرُ الناس من سيفِ مالك

ومن هذا الباب قول التُّوتّ اليمانيِّ:

حُجِبْتُ عن الباب الذي أنا حاجبُه

 

عَلَى أيَّ باب أطلُبُ الإذنَ بعد ما

ومن هذا الشكل قولُ عديِّ بن زيد:

كنتُ كَالغَصَّانِ بالماء اعتصاري

 

لو بغير الماء حَلْـقِـي شـرِقٌ

وقال زُهير:

وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ

 

فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جمامُـه

وكتب سُوَيد بن منجوف إلى مُصعب بن الزبير:

وهل يُلفَى النصيحُ بكـل وادِ

 

فأبْلغْ مُصْعَباً عنـي رسـولاً

وإن ضحِكوا إليك هم الأعادي

 

تعلَّمْ أنّ أكثرَ مَـن تـواخـى

وحدثني إبراهيم بن عبد الوهاب، قال: كتب شيخٌ من أهل الريّ عَلَى باب داره:جزى اللّه من لا يعرفنا ولا نعرفه خيراً، فأمّا أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهمُ الله خيراً، فإنا لم نُؤْتَ قطُّ إلا منهم وأنشدني النهشليُّ لأعرابي يصف نخْلاً:

كأَنَّ جانيَ بَيْضِ النَّحْلِ جَانِيها

 

ترى مخارفَها ثِنيَيْ جوانبهـا

ووصف آخر نخلاً فقال:

إذا عَلا قِمَّتَها الرَّاقي أهَلّ

وقال الشاعر:

عن الأعداء يَغْبَقُهُ القَراحُ

 

ومن تَقْلِلْ حلوبَتُهُ وَينْـكُـلْ

إذا شَبِعوا وأَوجُهُهُمْ قِبَـاحُ

 

رأيتُ مَعاشِراً يُثْنى عليهـم

وإن لم يُسْقَ عندهُم ضَياحُ

 

ظلُّ المُصْرِمُونَ لهمُ سُجُوداً

وقال الشاعر:

ولو يشاؤون آيبوا الحيّ أوْ طرَقوا

 

البائتين قريبـاً مـن بـيوتـهـمُ

يقول: لرَغبته في القِرَى، وفي طعام الناس، يبيت بهمْ، ويدعُ أهلَه، ولو شاء أنْ يبيت عندهم لَفعل.
وقال آخر، يمدحُ ضدَّ هؤلاء:

ولا يبيتون دون الحيِّ أَضيافا

 

تَقرِي قدورُهم سُرَّاءَ ليلهِـمُ

وقال جرير:

عَليَّ من الحق الذي لا يَرى لِيَا

 

وإني لأسْتَحيي أخِي أن أرى له

قال: أستحيي أن يكون له عندي يدٌ ولا يرى لي عندَه مثلها.
وقال امرؤ القيس:

قليلُ الهموم ما يبيتُ بأوْجالِ

 

وهلْ ينعمْنَ إلا خلِيٌّ منعَّـمٌ

قال: وهو كقوله: استراحَ من لا عقْلَ لهَ، وأنشد مع هذا البيت قول عمر بن أبي ربيعة، ويحكى أن المنصور كان يعجبُه النصف الأخير من البيت الثاني جدّاً، ويتمثل به كثيراً، حتي انتقده بعض من قضى به عليه أَن المعنى قدَّمَهُ دهراً، وكان استحسانه عن فضل معرفته بإحقاقه فيه، وصواب قوله:

ورَيَّانُ مُلْتَفُّ الحدائِق أخَضـرُ

 

وأعجَبَها من عيشها ظِلُّ غُرْفَة

فليَستْ لشيء آخر الدهرِ تَسْهَرُ

 

ووالٍ كَفَاها كلَّ شيء يَهُمُّـهـا

وأنشد:

وقُوفاً بأيديهم مسُوكُ الأرانب

 

إذا ابْتَدَرَ الناسُ المعالي رأيتهمْ

هجاهم بأنهم إنما يعيشون من الصيد، وأنشد:

أقاموا رُتوباً في النُّهُوجِ اللهاجمِ

 

إذا ابتدرَ الناسُ المكارمَ والعُـلاَ

يخْبر أنهم يسألون الناس، والنهج واللهْجم: الطريق الواسع.
وقال الآخر:

ثلاثُ وإن يكثرْنَ يوماً فأربعُ

 

لنا إبلٌ يَروين يوماً عِيالَـنـا

ولكِنْ إذا مَا قلَّ شيءٌ يوسَّعُ

 

نُمِدُّهمُ بالماء لا مِنْ هَوانِهِـمْ

وقال الآخر:

رمى بالمقادي كلُّ قادٍ ومُعْتَمِ

 

من المُهْدَيات الماءَ بالماء بعدما

وقال الآخر:

رجاءَ القِرَى يا مُسلمَ بنَ حِمارِ

 

وداعٍ دعا والليلُ مُرخٍ سُدولَـه

من اللوم حتى يهتدي ابنُوبـارِ

 

دَعا جُعَلاً لا يهتدي لِمَـبـيتـه

وقال الحسن بن هانئ:

إذ قيل لي إنما التِّمساحُ في النـيل

 

أَضْمرتُ للنِّيل هِجْراناً ومَـقـلـيةً

فما أرى النّيلَ إلا في البـواقـيل

 

فمن رأَى النِّيل رأيَ العَينِ من كثَبٍ

وقال ابن ميَّادة:

لدى بابهِ إذناً يسـيراً ولا نُـزْلا

 

أتيتُ ابنَ قشْراءِ العِجانِ فلم أَجِـدْ

لأنقَصُ مَن يمشي على قَدم عْقلا

 

فإن الذي ولاّكَ أمْـرَ جـمـاعةٍ

ومن هذا الباب قوله:

بشَطِّ دِجْلَة يَشْرِي التَّمر والسَّمكا

 

إني رأيت أبا العوراء مُرتفـقـاً

والموتُ أَعلم إذْ قَفَّى بمن تركا

 

كَشِرَّةِ الخيل تبقَى عند مِذْودِهـا

ومن تكنْ أنت ساعيه فقد هَلكا

 

هَذِي مساعيكَ في آثارِ سادَتِـنـا

ومن هذا الباب قوله:

أسأنا في ديارهم الصَّنيعَـا

 

ورِثنا المجدَ عن آباء صِـدق

وُلاة السُّوء أوشك أن يضِيعا

 

إذا المجدُ الرفيعُ تعـاورتْـه

وقال جِران العَوْدِ:

إذا ما بَدَا في دُجْيةَ الليل يطرفُ

 

أُراقبُ لمحاً من سُهيل كـأنـه

وقال:

إذا لم يرعْه الماءُ ساعةَ يُنضَحُ

 

ولَمْ أَجِدِ الموقوذَ تُرجى حياتُـه

وكان أبو عبادِ النُّميريُّ أتى باب بعض العمال، يسأله شيئاً من عمل السلطان، فبعثه إلى أُسْتقَانَا فسرقوا كل شيء في البَيْدر وهو لا يشعر، فعاتبه في ذلك، فكتب إليه أبو عبّاد:

كيّ والطيرَ العظـامـا

 

كنتُ بازاً أَضربُ الكُـرْ

عْو فأوهنْتَ القُدَامـى

 

فتقنَّصْـتَ بـيَ الـصَّ

زِي عَلَى الصعْو تَعَامَى

 

وإذا ما أُرسـل الـبـا

أراد قول أبي النجم في الراعي:

كالصقر يجفو عن طِرادِ الدُّخّلِ

 

يمرُّ بين الغانـيات الـجـهَّـلِ

وبات أبو عبّادِ مع أبي بكر الغِفاريّ، في ليالي شهر رمضان، في المسجد الأعظم، فدبّ إليه، وأنشأ يقول:

مع الغِفاريِّ أبي بـكـرِ

 

يا ليلةً لي بتُّ ألْهُو بـهـا

ثُلْثٌ من الليل على قـدْرِ

 

قمتُ إليه بعد ما قد مضى

أدَبَّ منِّي ليلةَ الـقَـدْرِ

 

في للة القدْرِ فيا مَنْ رأى

إلا وقد أفزَعَهُ نَـخْـري

 

ما قام حَمْدانٌ أبو بـكـرِ

وقال في قلْبانَ صديقتِه:

لشقائي وقد طَغَـتْ

 

إنَّ قلبانَ قد بَـغَـتْ

رٍ عظيم القِوى بكتْ

 

وإذا لم تُـنَـك بـأيْ

وقال مسكينٌ الدَّارمي:

تثيرُ القطا ليلاً وهنَّ هُجـودُ

 

إليك أمير المؤمنين رحَلْتُهـا

كُلًى غير أن كانت لهنَّ جُلودُ

 

لدَى كلِّ قرموص كأنَّ فراخهَ

وقال أبو الأسود الدؤلي، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان:

ولكنه في النصحِ غيرُ مُريبِ

 

أمِنْتَ على السّرِّ امْرأً غيرَ كاتمٍ

بعَلياء نارٌ أُوقِدَتْ بِـثَـقُـوبِ

 

أذاعَ بِهِ في الناسِ حتَّى كَأَنَّـهُ

قوارعُه مِنْ مخطئ ومُصيبِ

 

وكنتَ متى لم تَرْع سِرَّك تنتشرْ

وما كلُّ مؤتٍ نصحَهُ بِلَبـيبِ

 

وما كل ذي لُبٍّ بمؤْتيكَ نُصْحَهُ

فحقّ له مِنْ طاعةٍ بِنَصـيبِ

 

ولكن إذا ما استَجْمعا عند واحدٍ

وقال أيضاً:

عَنِ القَوْمِ حتَّى تأخُذَ النصفَ واغْضَبِ

 

إذا كنتَ مظلوماً فلا تُـلـفَ راضـياً

مقالتهم وَأشْغب بهم كل مَـشـغَـبِ

 

وَإن كنتَ أنتَ الظَّالمُ القومَ فـاطَّـرِحْ

جَلوبٍ عليكَ الحقَّ مِنْ كلِّ مَجـلـبِ

 

وقارِبْ بذي جهلٍ وباعـدْ بـعـالـمٍ

ليستمسكون ممـا وراءك فـاحـدَبِ

 

فإن حَدِبوا فاقعَسْ وإن هم تقاعَـسُـوا

بها كنتُ أَقضِي للبعيد عـلـى أبـي

 

ولا تُذْعِنَنْ للحقِّ واصبر على الـتـي

مَعادي وقد جرّبتُ ما لـم تـجـربِ

 

فإني امرؤٌ أخشَى إلـهـي وأَتَّـقـي

وقال مَسْلمة بن عبد الملك:

في مَوْطِنٍ يَخشى به القومُ العَنَتْ

 

إني إذا الأصواتُ في القوم عَلَتْ

بالصَّبر حتَّى تنجلي عَمَّا انجلَـتْ

 

مُوَطِّنٌ نفسي على مـا خَـيَّلَـتْ

وقال الكميت:

تسمعُ للبَيْضِ منها صريرا

 

وبيضٍ رِقاقٍ خفاف المُتُونِ

مَشافِرَ قَرْحَى أكلْن البَريرا

 

تُشبَّهُ في الهـامِ آثـارُهـا

وأنشدني أبو عبيدة:

صفائحاً فيها فضولُ مائهـا

 

نُصْبِحُها قيساً بلا استبقـائهـا

إذا علا البيضة في استوائها

 

من كلِّ غَضْبٍ علَّ من دِمائها

ناراً وقد أمخض من ورائها

 

رونقُه أوقَدَ في حِـرْبـائهـا

وأنشدني لرجُل من طيئ:

منهم إذا كان الرماحُ كِسَرا

 

لم أَرَ فتيانَ صباحٍ أصبَـراً

لا يشتهون الأجَل المؤخَّرا

 

سفْعَ الحدودِ دُرَّعاً وحُسَّـرا

وقال ابن مفرِّع:

إن حادتِ الأبطالُ لا تحيدُ

 

قبُّ البطون والهوادي قودُ

كأنما يَعلمن مـا نُـريدُ

 

إذا رجعناهُنَّ قالت عودُوا

ومن المجهولات:

فقد هِجْتَ لي شوقاً قديماً وما تدرِي

 

عليكَ سلامَ اللّه من مَـنـزلٍ قَـفْـرِ

صُروفَ النّوَى تُبلي مغانيك في شهرِ

 

عهدتك من شهر جـديداً ولـم أخَـلْ

الخرَيميُّ أبو يعقوب:

إليك ولا عَرَّضْتُه للمعـايرِ

 

لعمرك ما أخلقتُ وجهاً بذلتُه

أي لا أعيَّرُ لقصدك.

عليه وخلَّتْ ماله غـيرَ وافـرِ

 

فتًى وفَرتْ أَيدي المحامِدِ عِرضَه

وقال مطيعُ بنُ إياسٍ:

وحُبُّ طُولِ الأَعْناقِ مِنْ خُلُقي

 

قد كَلَّفْتَني طـويلةُ الـعُـنُـقِ

فالقُرْبُ أيضاً يزيدُ في قَلَقـي

 

أَقْلَقُ مِنْ بُعْدِها فإنْ قَـربَـتْ

وقال سهلُ بنُ هارون:

مِنْ أَنْ يراني غَنِيّاً عنه بـالـياسِ

 

إذا امرؤٌ ضاقَ عنِّي لم يَضِقْ خُلُقي

مُسْتَمْرِياً دِرَراً منـه بـإبـسـاسِ

 

ولا يراني إذا لـم يَرْعَ آصِـرَتـي

ما كان مَطْلَبُهُ فقراً إلى الـنـاسِ

 

لا أَطْلُبُ المالَ كي أُغْنَي بفضلتـه

وقال ليحيى بن خالد:

منوعٌ إذا ما منْعُه كان أحْزَمـا

 

عدّ تلادِ المال فـيمـا ينـوبـه

كما يستحقُّ الفضلَ إن هو أنْعَمَا

 

فِسيَّان حالاه له فضْل مـنْـعِـه

مَكارِهَ ما تأتي من الحقِّ مَغْنما

 

مذلِّلُ نفس قد أبتْ غير أن ترى

وقال أبو الأسود لزياد:

به جَشَعٌ ولا نَفْساً شَـرِيرهْ

 

لعَمْرُكَ ما حَشاكَ اللّهُ رُوحاً

ولا هَشٌّ تنازِعُه خـؤُورَهْ

 

ولكنَّ أنتَ لا شَرِسٌ غلـيظٌ

بجانِبِ رَوْضة رَيَّا مَطيرةْ

 

كأنا إذْ أتَـينـاهُ نـزلْـنـا

=

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...