الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة
استنشاط القارئ ببعض الهزل
وإن
كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والمرَوَّجة؛ لتكثَّر الخواطر،
وتشحَذَ العقول - فإنّا سننشِّطكَ ببعض البَطالات، وبذكر العلل الظَّريفة،
والاحتجاجاتِ الغريبة؛ فربَّ شعرٍ يبلُغُ بفَرْطِ غباوةِ صاحبه من السرور والضحك
والاستطراف، ما لا يبلغه حشدُ أحرِّ النوادر، وأجمَعِ المعاني.
وأنا أستظِرفُ أمرَين استظرافاً شديداً: أحدهما استماعُ حديثِ الأعراب، والأمرُ
الآخَر احتجاجُ متنازِعَينِ في الكلام، وهما لا يحسنانِ منه شيئاً؛ فإنَّهما
يُثيرانِ من غَريبِ الطِّيب ما يُضحِك كلَّ ثَكْلانَ وإن تشدَّد، وكلَّ غضبانَ وإن
أحرقَه لَهِيبُ الغضَب، ولو أنَّ ذلك لا يحلّ لكان في باب اللَّهو والضَّحِك
والسُّرورِ والبَطالة والتشاغُل، ما يجوز في كلِّ فن.
وسنذكر من هذا الشكل عِللاً، ونُورِدُ عليك من احتجاجات الأغبياءِ حُجَجاً، فإنْ
كنتَ ممَّن يستعمِل الملالةَ، وتَعْجَل إليه السآمة، كان هذا البابُ تنشيطاً
لقلْبك، وجَماماً لقوَّتك، ولنبتدِئ النَّظرَ في باب الحمام وقد ذهب عنك الكَلالُ
وحدَثَ النشاط.
وإن كنْتَ صاحبَ علمٍ وجِدٍّ، وكنت ممرَّناً موقَّحاً، وكنتَ إلفَ تفكيرٍ وتنقيرٍ،
ودراسةِ كتُب، وحِلفَ تبيُّن، وكان ذلك عادة لك لم يضِرْكَ مكانه من الكِتاب،
وتخَطِّيه إلى ما هو أولى بك، ضرورة التنويع في التأليف وعلى أنِّي قد عزمتُ -
واللّهُ الموفِّق - أنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه، بنوادِرَ من ضُروبِ
الشِّعر، وضروبِ الأحاديث، ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى
شكل؛ فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة
والأوتارَ الفَصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاَّ في طريق الراحة، التي إذا
طالت أورثت الغفلة.
وإذا كانت الأَوائلُ قد سارتْ في صغارِ الكتب هذه السِّيرةَ، كان هذا التَّدبيرُ
لِمَا طالَ وكثُر أصلَحَ، وما غايتنا مِن ذلك كلِّه إلاَّ أن تَستَفيدُوا خيراً.
وقال أبو الدَّرداء: إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل، كراهةَ أنْ أحمِل عليها من
الحق ما يملُّها!.
ادّعاء عبد الله الكرخيِّ الفقه
فمن الاحتجاجات الطيِّبة، ومن العِلل الملهية، ما حدَّثني به ابن المديني قال: تحوَّل أبو عبد اللّه الكرْخيُّ اللِّحيانيُّ إلى الحَرْبيَّة فادَّعى أنَّه فقيه، وظنَّ أنَّ ذلك يجوزُ له؛ لمكانِ لحيتهقال: فألقى على باب داره البواريّ، وجلس وجلس إليه بعضُ الجيران، فأتاه رجلٌ فقال: يا أبا عبدِ اللّهِ رجلٌ أدخل إصبَعَه في أنفه فخرَج عليها دمٌ، أيَّ شيءٍ يصنع? قال: يحتجم، قال: قعدتَ طبيباً أو قعدتَ فقيهاً?
جواب أبي عبد الله المروزيّ
وحدَّثني شمعون الطبيب قال: كنت يوما عند ذي اليَمينين طاهرِ بن الحسين فدخل عليه أبو عبد اللّه المروَزِيّ فقال طاهر: يا أبا عبدِ اللّه مذْ كمْ دخلتَ العراق? قال: منذ عِشرين سنةً، وأنا صائم منذ ثلاثين سنة، قال: يا أبا عبدِ اللّه، سألناك عن مسألةٍ فأجبتَنا عن مسألتين
جواب شيخ كندي
وحدَّثني أبو الجهجاه قال: ادَّعى شيخٌ عندنا أنَّه من كندة، قبلَ أن ينظرَ في شيءٍ من نسبِ كِنْدة، فقلت له يوماً وهو عندي: ممن أنت يا أبا فلان? قال: من كندة، قلت: من أيِّهم أنت? قال: ليس هذا موضعَ هذا الكلام، عافاك اللّه.
جواب خَتَنِ أبي بكر بن بريرة
ودخلتُ على خَتَن أبي بكر بن بريرة، وكان شيخاً ينتحل قول الإباضيَّة، فسمعتُه يقول: العجبُ ممن يأخذه النَّومُ وهو لا يزعم أنَّ الاستطاعة مع الفعْل قلت: ما الدليل على ذلك? قال: الأشعار الصحيحة، قلت: مثل ماذا? قال: مثل قوله:
مَا إنْ يقَعْنَ الأَرْضَ إلاّ وفقا |
ومثل قوله:
يَهوِين شتَّى ويقعن وفقا |
ومثل
قولهم في المثل: وقَعَا كعِكْمَيْ عَير.
وكقوله أيضاً:
كَجُلمودِ صَخْر حَطَّه السَّيلُ من علِ |
|
مِكرّ مِفَرٍّ مُقبـلٍ مُـدْبـرٍ مـعـاً |
وكقوله:
إذا نحنُ أهوَينا وحاجتنا مَعَا |
|
أكفُّ يدي عن أنْ تمسَّ أكفهم |
ثم أقبل عليَّ فقال: أما في هذا مقنع? قلت: بلى، وفي دون هذا!
جواب هشام بن الحكم
وذكر محمَّدُ بنُ سلاَّم عن أبانِ بنِ عثمانَ قال: قال رجلٌ من أهل الكوفة لهشامِ ابن الحكم: أتُرَى اللّهَ عزَّ وجلّ في عدْله وفضلِه كلَّفنا ما لا نطيقُ ثمَّ يعذِّبُنا? قال: قدْ واللّه فعل، وكنَّا لا نستطيع أنْ نتكلَّم به.
سؤال ممرور لأبي يوسف القاضي
وحدَّثني
محمّد بن الصباح قال: بينا أبو يوسفَ القاضي يسيرُ بظَهْر الكوفة - وذلك بعدَ أن
كتبَ كتابَ الحِيَل - إذ عرضَ له ممرورٌ عندنا أطيب الخلْق، فقال له: يا أبا يوسف،
قد أحسنتَ في كتاب الحيل، وقد بقيتْ عليكَ مسائلُ في الفِطن، فإنْ أذِنت لي سألتك
عنها، قال: قد أذنتُ لكَ فَسَلْ، قال: أخبرْني عن الحِرِ كافرٌ هو أو مؤمن? فقال
أبو يوسف: دينُ الحرِ دينُ المرأة ودينُ صاحبةِ الحِر: إن كانت كافرةً فهو كافر،
وإن كانت مؤمنةً فهو مؤمن، قال: ما صنعت شيئاً، قال: فقل أنت إذَنْ؛ إذْ لم ترض
بقولي، فقال: الحِرُ كافر، قال: وكيف علمت ذلك? قال لأنَّ المرأةَ إذا ركعَتْ أو
سجَدَتْ استدبر الحِرُ القِبلة واستقبلت هي القبلة، ولو كان دينُه دينَ المرأة
لصنع كما تصنع، هذه واحدةٌ يا أبا يوسف، قال: صدقت.
قال: فتأذن لي في أخرى? قال: نعم، قال: أخبرني عنك إذا أتيتَ صحراءَ فهجمْتَ على
بَول وخِراء كيف تعرف أبولُ امرأةٍ هو أم بول رجل? قال: واللّه ما أدري قال أجل
واللّه ما تدري قال: أفتعرف أنت ذاك? قال: نعم، إذا رأيت البول قد سال على الخِراء
وبين يديه فهو بولُ امرأة، وخِراء امرأة، وإذا رأيت البولَ بعيداً من الخِراء فهو
بول رجل وخِراء رجل، قال: صدقت.
قال: وحكى لي جوابَ مسائلَ فنسيت منها مسألة، فعاودته فإذا هو لا يحفظها.
جواب الحجاج العبسي
وحدَّثني أيُّوب الأعورُ، قال قائل للحجاج العبْسي: ما بال شعر الاسْتِ إذا نبتَ أسرع والتفّ? قال: لقربه من السَّماد والماء هطِلٌ عليه .
جواب نوفل عريف الكناسين
وحدَّثني
محمَّد بن حسَّان قال: وقفتُ على نوفلٍ عَريفِ الكنَّاسين، وإذا مُوسْوَس قد وقف
عليه، وعندَه كلُّ كنَّاس بالكَرْخ، فقال له الموسوَس: ما بال بنتِ وردان تدعُ
قعرَ البئر وفيه كُرُّ خِراء وهو لها مُسْلمٌ وعليها موفر، وتجيء تطلب اللُّطاخة التي
في است أحدنا وهو قاعدٌ على المَقْعَدة، فتلْزم نفسها الكُلفةَ الغليظة، وتتعرَّض
للقتل، وإنَّما هذا الذي في أستاهنا قيراط من ذلك الدرهم، وقد دفعنا إليها
الدِّرهم وافياً وافراً، قال: فضحك القوم، فحرَّك نوفلٌ رأسَه ثم قال: أتضحكون?
قدْ واللّهِ سأل الرجل فأجيبوا وأمَّا أنا فقد - واللّه - فكَّرت فيها منذ ستِّينَ
سَنَةً، ولكنَّكم لا تنظرون في شيءٍ من أمر صناعتكم، لا جَرَمَ أنَّكم لا
ترتَفِعُون أبداً قال له الموسوَس: قلْ - يرحمُك اللّه - فأنتَ زعيمُ القوم، فقال
نوفل: قد علمنا أنَّ الرُّطَب أطْيبُ من التَّمر، والحديثَ أطرف من العتيق،
والشيءَ من مَعْدنِه أطيَب، والفاكهةَ من أشجارِها أطرف، قال: فغضب شريكَه مسبِّح
الكنَّاس ثم قال: واللّه لقد وبَّختنا، وهوَّلتَ علينا، حتى ظنَنَّا أنَّك ستُجيب
بجوابٍ لا يحسنُه أحد، ما الأمرُ عندَنَا وعند أصحابنا هكذا، قال: فقال لنا الموسوس:
ما الجواب عافاكم اللّه، فإنِّي ما نمتُ البارحةَ من الفِكرَة في هذه المسألة? قال
مسبِّح: لو أنَّ لرجلٍ ألفَ جاريةٍ حسناء ثم عتَقْنَ عندَه لبردَت شهوتُه عنهنَّ
وفترت، ثمَّ إن رأى واحدةً دون أخسِّهن في الحسْن صبا إليها وماتَ من شهوتها، فبنت
وردانَ تستظرف تلك اللطاخة وقد ملَّت الأولى؛ وبعضُ الناسِ الفطيرُ أحبُّ إليهم من
الخمير، وأيضاً إنّ الكثيرَ يمنَع الشَّهوة، ويورث الصُّدود، قال: فقال الموسوس -
واستحسَنَ جوابَ مسبِّح، بعد أن كان لا يرى جواباً إلاّ جواب نوفل -: لا تعرفُ
مِقدارَ العالمِ حتَّى تجلسَ إلى غيره أنتم أعلم أهل هذه المدَرة، ولقد سألتُ
علماءَها عنهُ منذُ عشرينَ سنةً فما تخلّصَ أحدٌ منهم إلى مثلِ ما تخلّصْتم إليه،
وقدْ واللّه - أنَمْتم عيني، وطابَ بكم عيشي وقد علمنا أنّ كلّ شيءٍ يُسْتَلبُ
استلاباً أنَّه ألذ وأطيب، ولذلك صارَ الدَّبيبُ إلى الغِلمان ونيكهم على جهة
القهر ألذ وأطيب، وكلُّ شيءٍ يصيبهُ الرَّجل فهو أعزُّ عليه من المال الذي يرثه أو
يوهب له.
علة الحجاج بن يوسف قال: وحدَّثني أبانُ بن عثمانَ قال: قال الحجَّاجُ بنَ يوسفَ:
واللّهِ لَطَاعتي أوجَبُ مِنْ طاعةِ اللّه؛ لأنَّ اللّه تعالى يقول: "فاتَّقُوا
اللّه مَا استَطَعْتُم" فجَعَلَ فيِهَا مَثنَوِيَّةً؛ وقال: "وَاسْمعُوا
وَأطِيعُوا" ولم يَجْعَلْ فيها مثنَويَّة ولو قلتُ لرجل: ادخل مِن هذا الباب،
فلم يدخل، لَحَلَّ لي دمُه .
احتجاج مدني وكوفي
قال: وأخبرني محمَّد بن سليمانَ بنِ عبد اللّه النوفليُّ قال: قال رجلٌ من أهل الكوفة لرجل من أهل المدينة: نحن أشدُّ حبَّاً لِرَسولِ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم وعلى آلِه - مِنْكُم يا أهلَ المدينة فقال المدنيّ: فما بَلَغَ مِنْ حُبِّكَ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله? قال: ودِدت أنِّي وَقيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وأنَّه لم يكنْ وصَلَ إليه يومَ أُحُدٍ، ولا في غيره من الأيَّام شيءٌ من المكروه يكرهه إلا كان بي دونَه فقال المدنيُّ: أفَعِنْدَكَ غيرُ هذا? قال: وما يكون غيرُ هذا? قال: ودِدْتُ أنَّ أبا طالبٍ كانَ آمَنَ فسُرَّ به النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وأنِّي كافر
جواب رجل من وجوه أهل الشام
وحدَّثني أبانُ بنُ عثمان قال: قال ابنُ أبي ليلى: إنّي لأُسَايرُ رجلاً من وُجوهِ أهل الشّاًم، إذْ مرَّ بحمَّالٍ معَه رُمَّان، فتناولَ منه رُمَّانَة فجَعَلها في كُمِّه، فَعَجِبْتُ من ذلك، ثمَّ رجعت إلى نفسي وكذَّبت بصرى، حتَّى مرَّ بسائِلٍ فقير، فأخرجها فناوَله إيَّاها، قال: فعلمتُ أنِّي رأيتُها فقلتُ له: رأيتُك قَد فعلتَ عجباً، قال: وما هو? قلت: رأيتُك أخذْتَ رُمَّانَةً مِنْ حَمَّال وأعطيتها سائلاً? قال: وإنَّك ممَّن يقول هذا القولَ? أما علِمتَ أنِّي أَخَذْتُها وكانت سيِّئَةً وأعطيتها فكانت عشْرَ حَسَنَاتٍ? قال: فقال ابن أبي ليلى: أمَا علِمتَ أنَكَ أخذْتَها فكانتْ سيِّئةً وأعطيتَها فلم تُقْبَلَ منك? جهل الأعراب بالنحو
وقال الربيع: قلت لأعرابيٍّ: أتَهْمِزُ إسرائيل? قال: إنِّي إذاً لَرَجُلُ سَوْء? قلت: أتجُرُّ فِلَسطين? قال: إنِّي إذاً لَقَوِيّ.
احتجاج رجل من أهل الجاهلية
قال: وحدَّثنا حمَّادُ بنُ سلَمَة قال: كان رجلٌ في الجاهليَّة معَه مِحْجَنٌ يتناوَلُ به مَتاعَ الحاجِّ سَرِقة، فإذا قيل له: سرقت قال: لمْ أسرِق، إنَّما سَرَق مِحْجني قال: فقال حماد: لو كانَ هذا اليومَ حَيّاً لكانَ من أصحاب أبي حَنيف.
الأعمش وجليسه
قال: وحدّثني محمَّد بن القاسم قال: قال الأعمشُ لجليسٍ له: أما تَشتَهي بنانيَّ زُرْقَ العُيونِ نَقِيَّة البطونِ، سُودَ الظُّهور، وأرغفةً حارَّةً ليِّنة، وخَلاًّ حاذقاً? قال: بلى قال: فانهض بنا، قال الرَّجل: فنَهضْتُ مَعه ودخل منزِلَه، قل: فأومَأَ إلَيّ: أنْ خُذْ تِلك السَّلَّة، قال: فكشَفها فإذا برغيفين يابسين وسُكُرَّجة كامَخِ شِبِثٍ، قال: فجعل يأكل، قال: فقال لي تَعال كُلْ، فقلت: وأينَ السمك? قال: ما عندي، سمك، إنما قلت لك: تشتهي.
رأيٌ حفص بن غياث في فقه أبي حنيفة
قال: وسُئل حفْصُ بن غِياث عن فِقه أبي حنيفة، قال: كانَ أجهَلَ النَّاسِ بما يكون، وأعرفَهم بما لا يكون.
علة خشنام بن هند
وأما علة خُشْنَامَ بن هند، فإنَّ خشنام بن هِندٍ كان شيخاً من الغاليةِ، وكان ممَّن إذا أراد أنْ يسمِّيَ أبا بكر وعُمرَ قال: الجبْتُ والطَّاغوت، ومُنْكر ونكير، وأُفٌّ وتُفٌّ، وكُسَير وعُوَير، وكان لا يَزال يُدخِل دارَه حمارَ كسَّاح ويضربه مائَةَ عصاً على أنَّ أبا بكر وعمرَ في جوفه، ولم أر قَطُّ أشدَّ احترافاً منه، وكان مع ذلك نبيذِيّاً وصاحبَ حمَام، ويُشبه في القَدِّ والخَرْط شُيوخَ الحربيَّة، وكان من بني غُبَر من صميمهم، وكان له بُنَيٌّ يتبعه، فكان يزنِّي أمَّه عند كلِّ حقٍّ وباطل، وعِنْدَ كلِّ جِدٍّ وهَزْل، قلت له يوماً - ونحن عند بني رِبْعِيّ: ويْحَكَ، بأيِّ شيءٍ تستحلُّ أنْ تقذِفَ أُمَّه بالزِّنَا? فقال: لو كانَ عليَّ في ذلك حَرَجٌ لما قذَفْتَها: فِلمَ تزوَّجتَ امرأةً ليس في قذْفِها حرج? قال: إنِّي قد احتَلتُ حِيلةً حتَّى حلَّ لي من أجلها ما كان يحرم، قلت: وما تلك الحيلة? قال: أنا رجلٌ حديدٌ، وهذا غلامٌ عارم، وقد كنت طلَّقت أمَّه فكنتُ إذا افتريتُ عليها أثمت، فقلت في نفسي إن أرَغتها وخدَعتُها حتَّى أنيكَها مَرَّةً واحدةً حلّ لي بعدَ ذلك افترائي عليها، بل لا يكونُ قولي حينئذٍ فِرْية، وعلِمتُ أنَّ زَنْيَةً واحدةً لا تَعدِل عشرة آلافِ فِرْية، فأنا اليَوْمَ أصدُقُ ولستُ أكْذِب، والصَّادِقُ مأجور، إني واللّهِ ما أشكُّ أَنَّ اللّهَ إذا علم أنِّي لم أزْنِ بها تلك المرَّة إلاَّ مِن خوف الإثم إذا قذفتها - أنَّهُ سيجعَلُ تلك الزَّنيةَ له طاعة فقلت: أنتَ الآن على يقين أنّ زناكَ طاعةٌ للّه تعالى? قال: نعم.
حجة الشيخ الإباضي في كراهية الشيعة
قال
الشَّيخُ الإباضي وقد ذهب عني اسمُه وكنيتُه وهو خَتن أبي بكر بن بَرِيرة - وجرى
يوماً شيءٌ من ذِكرِ التشيُّع والشِّيعة، فأنكر ذلك واشتدَّ غضبُه عليهم،
فتوهَّمْتُ أنَّ ذلك إنَّما اعتراه للإباضيّة التي فيه، وقلت: وما عليَّ إن
سأَلته? فإنَّه يُقال: إنَّ السائل لا يعْدمُه أنْ يسمَعَ في الجواب حُجَّةً أو
حِيلةً أو مُلحة - فقلتُ: وما أنكَرت من التشيُّع ومن ذكر الشِّيعة? قال: أنكرتُ
منه مكان الشِّين التي في أوّل الكلمة؛ لأني لم أجد الشِّين في أوَّل كلمةٍ قطُّ
إلاَّ وهي مسخوطة مثل: شؤم، وشرٍّ، وشيطان، وشغب، وشحّ، وشمال، وشجَن، وشيب، وشين،
وشراسة، وشَنَج، وشَكّ، وشوكة، وَشَبث، وشرك، وشارب، وشطير، وشطور، وشِعرة، وشاني،
وشتْم، وشتيم، وشِيطَرْج، وشنعة، وشَناعة، وشأمة، وشوصة، وشتر وشجوب وشَجَّة،
وشطون، وشاطن، وشنّ، وشلَل، وشِيص، وشاطر، وشاطرة، وشاحب.
قلت له: ما سمعتُ متكلِّماً قطُّ يقول هذا ولا يبلُغه، ولا يقومُ لهؤلاء القَوم قائمةٌ
بعد هذا.
حيلة أبي كعب القاص
قال:
وتعشَّى أبو كعبٍ القاصُّ بطفشيل كثير اللّوبِيا، وأكثَر مِنه، وشِرب نبيذَ تمر،
وغَلَّس إلى بعض المساجد ليقصَّ على أهله، إذ انفتل الإمامُ من الصلاة فصادف
زحاماً كثيراً، ومسْجِداً مَستوراً بالبَواريِّ من البَرْدِ والرِّيح والمَطر،
وإذا محرابٌ غائِرٌ في الحائط، وإذا الإمامُ شيخٌ ضعيف؛ فلمَّا صلّى استدْبرَ
المحرابَ وجلسَ في زاويَة منه يسبِّح، وقام أبو كعبٍ فَجَعل ظهْرَه إلى وجه الإمام
وَوجهه إلى وُجوه القوم، وطبَّق وجه المحراب بجِسمه وَفَروته وعمامته وكسائِه،
وَلم يكن بين فَقحته وَبين أنف الإمامِ كبيرُ شيء، وَقصّ وتحرَّك بطنُه، فأَرَاد
أنْ يتفرَّج بفَسوةٍ وَخاف أنْ تصير ضراطاً، فقال في قَصصه: قولوا جميعاً: لا إله
إلاّ اللّه وارفَعوا بها أصواتكم، وفَسا فَسوةً في المحراب فدارت فيه وَجَثَمت على
أنف الشيخ وَاحتملها، ثمَّ كدَّه بطنُه فاحتاج إلى أخرى فقال: قولوا: لا إله إلاَّ
اللّه وَارفعوا بها أصواتكم، فأَرسل فَسوةً أخرى فلم تُخْطِئْ أنْفَ الشيخ،
واختَنقَتْ في المحراب، فخمَّر الشَّيخُ أنفَه، فصار لا يدري ما يصنع، إنْ هو
تنفَّس قتلَتْه الرائحة، وإنْ هو لم يتنفَّس مات كَرْباً، فما زَالَ يُدارِي ذلك،
وأبو كعب يقصُّ، فلم يلبَثْ أبو كعبٍ أن احتاجَ إلى أخرى، وكلما طالَ لُبْثُه
تولَّد في بَطْنِهِ من النَّفخ على حَسَب ذلك، فقال: قولوا جميعاً: لا إله إلا
اللّه وارفَعوا بها أصواتكم، فقال الشيخ مِنَ المحراب - وأطْلَعَ رأسَه وقال -: لا
تقولوا لا تقولوا قد قَتلني إنَّما يريد أن يفسوَ ثم جذب إليه ثوبَ أبي كعبٍ وقال:
جئت إلى ها هنا لتفسوَ أو تقصّ? فقال: جئنا لنقص، فإذا نزلت بليَّةٌ فلا بدَّ لنا
ولكم من الصَّبر فضحك الناسُ، واختَلَط المجلس.
جواب أبي كعب القاصّ وأبو كعبٍ هذا هو الذي كان يقصُّ في مسجد عتَّابٍ كلَّ أربعا
فاحتَبسَ عليهم في بعض الأَيام وطال انتظارُهم له، فبينما هُمْ كذلك إذ جاء رسوله
فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا؛ فإنِّي قد أصبحْت اليوم مخموراً علة عبد العزيز
وأمّا علة عبدِ العزيز بشكست فإنَّ عبدَ العزيز كان له مالٌ، وكان إذا جاءَ وقتُ
الزَّكاة وجاء القَوّادُ بغلامٍ مؤاجَر، قال: يا غلام ألك أمٌّ? ألك خالات? فيقول
الغلام: نعم، فيقول: خُذْ هذه العشرة الدراهم - أو خُذْ هذه الدَّنانير - مِن
زكاةِ مالي، فادفَعْها إليهنَّ، وإنْ شئتَ أن تُبْركني بعد ذلك على جهة المكارمة،
فافعل، وإنْ شئتَ أنْ تنْصَرِف فانصرف، فيقول ذلك وهو واثقٌ أنَّ الغُلامَ لا
يمنَعُه بعد أخْذ الدراهم، وهو يعلم أنه لن يبلغ مِن صلاحِ طباع المؤاجَرين أن
يؤدُّوا الأمانات، فَغَبر بذلك ثلاثين سنة وليس له زكاةٌ إلاّ عند أمَّهات
المؤاجَرين وأخَوَاتهم وخالاتهم.
احتجاج كوفي للتسمية بمحمد
وحدثني محمَّد بن عبَّاد بن كاسب قال: قال لي الفضل بن مروان شيخ من طِيَاب الكوفيِّين وأغْبيائهم: إنْ وُلِدَ لك مائَةُ ذكرٍ فسمهم كلَّهم محمداً، وكنِّهم بمحمد؛ فإنّك سترى فيهم البركة، أوَ تَدْري لأيِّ شيءٍ كثر مالي? قلت: لا واللّه ما أدري، قال: إنَّما كثر مالي لأنِّي سمَّيتُ نَفْسي فيما بيني وبَيْنَ اللّهِ محمداً وإذا كان اسمي عندَ اللّه محمداً فما أُبالي ما قال الناس
جواب أحمد بن رباح الجوهري
وشبه هذا الحديث قول المرْوَزي: قلت: لأحمد بن رياح الجوهري اشتريتَ كساءً أبيضَ طبَريّاً بِأَربعمِائَةِ درهم، وهو عند الناس - فيما ترى عيونهم قُومَسيّ يساوي مائَةَ درهَمٍ قال: علم اللّه أنَّه طبريٌّ فما عليَّ ممَّا قال الناس?
جواب حارس يكنى أبا خزيمة
وكان عندنا حارسٌ يكنى أبا خُزيمة، فقلت يوماً - وقد خطَر على بالي -: كيفَ اكتنَى هذا العِلْجُ الأَلْكَنُ بأبي خزيمة? ثمّ رأيتُه فقلت له: خبِّرني عنك، أكان أبوك يسمَّى خزيمة? قال: لا، قلت: فجدُّك أو عمك أو خالك? قال: لا، قلت: فلك ابنُ يسمَّى خزيمة? قال: لا، قلت: فكان لك مولّى يسمى خزيمة? قال: لا، قلت: فكان في قريتك رجلٌ صالح أو فقيهً يسمى خزيمة? قال: لا، قلت: فلم اكتنيت بأبي خزيمة، وأنتَ عِلجٌ ألْكَن، وأنتَ فقيرٌ، وأنت حارس? قال: هكذا اشتهيت، قلت: فلأَيِ شيءٍ اشتَهيتَ هذه الكنيةَ من بينِ جميع الكنى? قال: ما يُدريني، قلتُ: فتَبيعُها السَّاعَة بدينارٍ، وتَسكتَنيَ بأيِّ كنيةٍ شئت? قال: لا وَ اللّه، ولا بالدُّنْيا وما فيها
جواب الزياديِّ
وحدثني
مَسْعَدةُ بن طارق، قلت للزيادِيِّ - ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ
ومِدٍ، على باب داره في شروع نهر الجُوبار بأردية، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه -
قال فقلت له بعتَ دارك وحظَّكَ مِن دارِ جدِّك زيادٍ بن أبي سفيان، وتركتَ مجلِسَك
في ساباط غَيث، وإشرافَك على رَحبة بني هاشم، ومجلسَك في الأبواب التي تلي رَحبة
بني سليم، وجلستَ على هذا النَّهر في مثل هذا اليوم، ورضِيت بهِ جاراً? قال، نلتُ
أطولَ آمالي في قرب هولاء البَزّازين، قلت له لو كنت بقُرْبِ المقابر فقلت نزلت
هذا الموضع للاتِّعاظ به والاعتبار كان ذلك وجهاً، ولو كنتَ بقُرْب الحدَّادين
فقلت لأتَذَكَّرَ بهذه النِّيران والكِيران نار جهنَّم، كان ذلك قولاً، ولو كنت
اشتريت داراً بقرب العطَّارين فاعتَلَلت بطَلَبِ رائحةِ الطِّيب كان ذلك وجهاً
فأمّاً قُرْبُ البَزَّازِين فقط فهذا ما لا أعرفه، أفَلَكَ فيهم دارُ غَلَّةٍ، أو
هلْ لك عليهم دُيُونٌ حالَّةٌ، أو هلْ لك فيهم أو عِندَهم غِلمانٌ يؤدُّون
الضَّريبة، أو هلْ لك معَهم شِرْكة مُضارَبةٍ? قال: لا، قلت: فما ترجو إذاً من
قربهم فلم يكن عنده إلاّ: نلت آمالي بقُرب البزَازين.
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامة بن أشْرس قال: كان رجلٌ ممرور يقوم كلَّ يوم
فيأتي دالِيةً لقوم، ولا يزالُ يَمْشي مع رجال الدالية على ذلك الجذع ذاهباً
وجائياً، في شدَّة الحرِّ والبرد، حتَّى إذا أمسى نزل إليهم وتوضَّأَ وصلَّى،
وقال: اللّهُمَّ اجعلْ لنا مِنْ هذا فَرجاً ومَخْرجاً ثمَّ انصرف إلى بيته، فكان
كذلك حتّى مات.
بين أعمى وقائده وحدَّثني المكّيّ قال: كان رجلٌ يقود أعْمَى بِكراء، وكان الأعمى
ربَّما عَثَرَ العَثَرَةَ ونُكِب النّكبة، فيقول: اللَّهمَّ أبْدِل لي بِه قائداً
خيراً منه قال: فقال القائد: اللَّهُمَّ أبْدِلْ لي بهِ أعَمى خيراً لي منه، حماقة
ممرور وحدثني يزيدُ مولى إسحاقَ بن عيسى قال كُنّا في منزل صاحب لنا، إذْ خرج
واحدٌ من جماعتنا ليَقِيلَ في البيت الآخر، فلم يلبث إلاّ ساعةً حتى سمِعناه يصيح:
أوْهِ أوه قال: فنهَضْنا بأجمعنا إليه فَزعين، فقلنا له: ما لك? وإذا هو نائم على
شقِّهِ الأيسر، وهو قَابضٌ على خصيته بيده فقلت له: لم صحت? قال: إذا غمزت خُصْيتي
اشتكيتها، وإذا اشتكيتُها صحت، قال: فقلنا له: لا تَغْمِزْها بعدُ حتى لا تشتكي
قال: نعم إن شاء اللّه تعالى.
حماقة مولاة عيسى بن علي قال يزيد: وكانت لعيسى بن عليٍّ مَولاةٌ عجوزٌ خُرَاسانيةٌ
تصرُخ بالليل من ضَرَبان ضرس لها، فكانت قد أرَّقت الأميرَ إسحاق، فقلت له: إنَّها
مع ذلك لا تَدَع أكْلَ التمر قال: فبعث إليها بالغداة فقال لها: أتأكلين التَّمر
بالنَّهار وتَصِيحينَ باللَّيلِ? فقالت: إذا اشتهيتُ أكلت وإذا أوجَعني صِحت.
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامةُ قال: مَررتُ في غبّ مطرٍ والأرضُ نَدِيَّة،
والسَّماءُ متغيِّمة، والرِّيح شَمالٌ، وإذا شَيخٌ أصْفَرُ كأَنَّه جَرَادَة، قدْ
جلسَ على قارعة الطَّريق، وحَجّامٌ زِنجيٌّ يَحْجُمُهُ، وقد وضع على كاهِله
وأخْدَعَيْه مَحاجِم، كل مِحْجَمةٍ كأنَّها قَعْب، وقدْ مَصَّ دَمَهُ حتَّى كادَ
أنْ يَستَفْرِغَه، قال: فوقَفتُ عليه فقلت: يا شيخُ لِمَ تَحْتَجِم في هذا البرد?
قال لمكانِ هذا الصُّفار الذي بي.
صنيع ممرور وحدثني ثمامة قال: حدَّثَني سعيد بن مسلم قال: كُنا بخُراسانَ في
منزل بعض الدَّهاقين ونحن شَبابٌ، وفينا شيخ، قال: فأتَانا رَبُّ المنزل بدُهن
طيبٍ فدَهَنَ بعضُنا رأسَه، وبعضنا لحيته، وبعضُنا مَسَح شارِبه، وبعضُنا مَسَح
يديه وأمَرَّهُما على وجهه، وبعضُنا أخَذَ بطَرَف إصبعه فأدخَلَ في أنفه ومَسَح به
شارِبَه، فَعَمَد الشيخُ إلى بقيَّةِ الدُّهن فصبَّها في أذنه، فقلنا له: ويحك،
خالفت أصحابكَ كُلَّهُم هل رأيْتَ أحداً إذا أَتَوْهُ بِدُهن طِيبٍ صبَّه في أذنه?
قال: فإنّه مع هذا يضرُّني? أمْر عيصٍ، سيّد بني تميم وحدَّثني مَسْعَدَةُ بنُ
طارقٍ الذَّرَّاع قال: واللّهِ إنَّا لَوُقُوفٌ على حدودِ دار فلان للقِسمة، ونحنُ
في خصومةٍ، إذْ أقْبَل عِيصٌ سيِّدُ بني تميمٍ وموسرهم والذي يصلِّي على جنائزهم،
فلمَّا رأيناهُ مقبِلاً إلينا أمسَكْنا عن الكلام، فأقبل علينا فقال: حدِّثوني عن
هذه الدَّار، هَلْ ضمَّ منها بعضها إلى بعض أحد? قال مسعدة: فأنا مُنْذُ ستين سنة
أفكِّرُ في كلامه ما أدري ما عَنَى به، قال: وقال لي مرّة: ما من شر من ذين قلت:
ولم ذاك? قال: من جرا يتعلقون.
وحدّثني الخليلُ بنُ يحيى السَّلُوليُّ قال: نازَع التميميُّ بعضَ بني عمِّه في
حائطٍ، فبَعَث إلينا لنَشهد على شَهادتِه، فأتاه جماعةٌ منهم الحميريُّ والزهريُّ،
والزِّياديُّ، والبكراوي، فلمّا صِرْنا إليه وقف بنا على الحائط وقال: أُشْهِدُكم
جميعاً أنَّ نِصفَ هذا الحائط لي.
جواب ممرور قال: وقدِم ابنُ عمٍّ له إلى عمر بن حبيب، وادَّعَى عليه ألفَ دِرهم
فقال ابنُ عمِّه: ما أعرِفُ ممَّا قالَ قليلاً ولا كثيراً، ولا له عليّ شيء قال:
أصلحك اللّه تعالى فاكتُبْ بإنكاره، قال: فقال عمر: الإنكار لا يفوتك، متى أردْتَه
فهو بَينَ يديك.
أمنية أبي عتاب الجرَّار
قال: وقلت لأبي عتّاب الجرَّار: ألا تَرَى عبدَ العزيزِ الغَزَّال وما يتكلم به في قَصَصه? قال: وأيُّ شيء قاله? قلت: قال: ليت اللّه تعالى لم يَكُن خلقَني وأنا السَّاعة أعور قالَ أبو عتّاب: وقد قصَّرَ في القول، وأساءَ في التمني، ولكنِّي أقول: ليتَ اللّه تعالى لم يكُنْ خلقني وأنا الساعة أعمى مقطُوعُ اليدين والرجلين.
تعزية طريفة لأبي عتَّاب الجرار
ودخل أبو عتّاب على عمرو بن هدَّاب وقد كُفَّ بَصُره، والناس يُعزُّونُه، فمثَلَ بينَ يديه، وكان كالجمل المحجُوم، وله صوتٌ جهير، فقال: يا أبا أسيد، لا يسوءنَّك ذَهابُهما، فلو رأيت ثوابَهما في مِيزانِك تمنّيتَ أنّ اللّه تعالى قد قَطَع يديك ورجليك، ودَقَّ ظَهْرَك، وأدْمى ضِلْعَكَ.
داود بن المعتمر وبعض النساء
وبينما
داودُ بن المعْتَمر الصُّبَيريّ جالسٌ معي، إذ مرت به امرأةٌ جميلة لها قَوَامٌ
وحُسْن، وعينان عجيبتان، وعليها ثيابٌ بيض، فنهَضَ دَاودُ فلم أشُكّ أنّه قام
ليَتْبَعها، فبعثْتُ غلامي ليَعرف ذلك، فلمّا رجع قلت له: قد علمت أنّك إنما قُمتَ
لتكلِّمها؛ فليس ينفعُكَ إلا الصِّدق، ولا ينْجِيك منِّي الجُحود، وإنما غايتي أنْ
أعرف كيفَ ابتَدأتَ القول، وأي شيءٍ قلتَ لها - وعلمت أنَّه سيأتي بآبدة، وكان
مليّاً بالأوابد - قال: ابتدأتُ القول بأنْ قلتُ لها: لولا ما رأيتُ عليكِ من
سيماء الخَيْر لمْ أتبَعْك، قال: فضَحِكتْ حتى استنَدَتْ إلى الحائط، ثمَّ قالت:
إنما يمنع مِثلَكَ مِن اتِّباعِ مِثلي والطَّمَع فيها، ما يَرَى من سِيماء الخير
فأمَّا إذْ قد صار سيماءُ الخير هو الدي يُطمِعُ في النساء فإنا للّهِ وإنا إليه
راجعون.
وتبع داودُ بنُ المعتمر امرأة، فلم يزلْ يُطريها حتى أجابت، ودَلَّها على المنزل
الذي يمكنها فيه ما يريد، فتقدمت الفاجرة وعرض له رجلٌ فشغَلَهُ، وجاء إلى المنزل
وقد قضى القَوْمُ حوائِجهُمْ وأخَذَتْ حاجتها، فلم تنتظره، فلما أتاهُمْ ولم
يَرَها قالَ: أين هي? قالوا: واللّه قد فَرَغْنا وذَهَبَت قال: فأيَّ طريقٍ
أخَذَتْ? قالوا: لا واللّه ما ندري? قال فإنْ عَدَوْتُ في إثْرِها حتَّى أقُومَ
على مجامع الطُرق أتُرَوْني ألحقها? قالوا: لا واللّهِ ما تَلحقها قال: فقد فاتَتِ
الآن? قالوا: نعم، قال: فعسى أن يكون خيراً فلم أسمَعْ قطُّ بإنسانٍ يشكُّ أنَّ
السَّلامة من الذنوب خير غيره. قول أبي لقمان الممرور في الجزء الذي لا يتجزَّأ
وسأل
بعضُ أصحابنا أبا لُقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزَّأ: ما هو? قال: الجزء
الذي لا يتجزأ هو عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال له أبو العيناء محمد: أفليس
في الأرض جزءٌ لا يتجزأ غيرُه? قال: بلى حَمزةُ جزءٌ لا يتجزأ، وجَعَفرٌ جزء لا
يتجزأ قال فما تقول في العباس? قال: جزء لا يتجزأ، قال: فما تقول في أبي بكر وعمر?
قال: أبو بكر يتجزأ، وعمر يتجزأ، قال: فما تقول في عثمان? قال: يتجزَّأ مَرَّتين،
والزُّبير يتجزَّأ مرَّتين، قال: فأيَّ شيءٍ تقولُ في معاوية? قال: لا يتجزأ ولا
لا يتجزأ.
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الإمام جزْءاً لا يتجزأ إلى أيِّ شيءٍ ذهب،
فلم نقع عليه إلاّ أن يكون كان أبو لقمان إذا سمع المتكلِّمين يذكرون الجُزْءَ
الذي لا يتجزَّأ، هاله ذلك وكبُر في صدره، وتوهَّمَ أنَّه البابُ الأكبرُ مِن عِلم
الفلسفة، وأن الشيءَ إذا عظُم خَطَرُه سموه بالجزء الذي لا يتجزأ.
وقد تسخَّفْنا في هذه الأحاديث، واستجزْنا ذلك بما تقدَّم من العُذر، وسنَذْكر
قَبْلَ ذِكرِنا القول في الحمام جملاً من غُرَرٍ ونَوَادِرَ وأشْعَارٍ ونُتفٍ
وفقَرٍ مِن قصائِدَ قصار وشوارِدَ وأبياتٍ، لنُعطِيَ قارئ الكِتاب من كلِّ نوعٍ
تَذْهَبُ إليه النُّفوسُ نصيباً إن شاء اللّه.
تناسب الألفاظ مع الأغراض
ولكلِّ
ضربٍ من الحديث ضَرْبٌ من اللفظ، ولكلِّ نوعٍ مِن المعاني نوعٌ من الأسماء:
فالسَّخيفُ للسخيف، والخَفِيفُ للخفيف، والجَزلُ للجَزل، والإفصاحُ في مَوضع
الإفصاح، والكِنايةُ في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال.
وإذا كان مَوْضِعُ الحديثِ على أنَّهُ مُضْحِكٌ ومُلْهٍ، وداخِلٌ في باب المزَاح
والطِّيب، فاستعْمَلتَ فيه الإعراب، انقَلَبَ عن جِهَتِه، وإنْ كان في لفظه سُخْف
وأبْدَلْتَ السَّخافَة بالجَزالة، صارَ الحديثُ الذي وَضِع على أنْ يُسرَّ
النُّفوسَ يُكْرُ بها، ويَأْخُذُ بِأَكظامها.
الورع الزائف
وبعض الناسِ إذا انتهى إلى ذِكرِ الحِرِ والأير والنيك ارتَدَع وأظهر التقَزُّز، واستَعْمَلَ بابَ التَّوَرُّع، وأكثَرُ مَنْ تجده كذلك فإنَّما هو رجلٌ ليس مَعَه من العَفافِ والكَرَم، والنُّبْل والوَقار، إلاَّ بقَدْرِ هذا الشَّكل من التَّصنع، ولم يُكْشَفْ قطُّ صاحِبُ رياءٍ ونِفاقٍ، إلاَّ عن لؤمٍ مُسْتَعْمَل، ونذالةٍ متمكِّنة.
تسمُّح بعض الأئمة في ذكر ألفاظ
وقد كان لهم في عبدِ اللّه بن عباسٍ مَقْنَع، حينَ سَمِعه بعضُ الناس يُنشد في المسجد الحرام:
إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لميسَا |
|
وهُنَّ يَمشِينَ بنا هَـمِـيسَـا |
فقيل
له في ذلك، فقال: إنَّما الرَّفَتُ ما كان عند النساء.
وقال الضَّحَّاك: لو كان ذلك القولُ رَفَثاً لكان قطْعُ لسانِه أحبُّ إليه مِن أن
يَقُولَ هُجْراً، قال شَبيبُ بن يزيد الشيباني، لَيْلَةَ بَيَّتَ عتَّابَ بنَ
ورَقاء:
مَنْ يَنِكِ الْعَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكا |
وقال
عليُّ بنُ أبي طالب - رضي اللّه عنه - حينَ دخَلَ على بعض الأمراء فقال له: مَن في
هذه البيوت? فلما قيل له: عقائلُ من عقائل العرب، قال عليٌّ: مَنْ يَطُلْ أَيْرُ
أَبِيهِ يَنْتَطق به.
فعَلَى عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه - يعوَّل في تنزيه اللفظ وتشريف المعاني.
وقال أبو بكر - رضي اللّه عنه - حين قال بُدَيل بنُ ورقاء للنبيّ صلى الله عليه
وسلم: جئتَنا بعجرائك وسودانك، ولو قد مَسَّ هؤلاء وخْزُ السِّلاحِ لَقَدْ
أسْلَمُوك فقال أبو بكر - رضي اللّه عنه -: عَضِضْتَ ببَظْر اللاَّت.
وقد روَوْا مرفوعاً قوله: مَنْ يُعْذِرُني من ابن أمّ سباع مُقطِّعَة البُظور?.
لكلِّ مقام مقال
ولو
كان ذلك الموضعُ موضعَ كناية هي المستعملة، وبعد فلو لم يكن لهذه الألفاظِ مواضعُ
استعملها أهلُ هذه اللُّغة وكان الرأيُ ألاَّ يُلفَظَ بها، لم يَكُنْ لأوَّل،
كونها معنًى إلاّ على وجه الخطأ، ولكان في الحزْم والصَّوْنِ لهذه اللُّغة أنْ
تُرْفَعَ هذه الأسماء منها.
وقد أصاب كلَّ الصَّوابِ الذي قال: لِكُلِّ مَقَامٍ مَقال.
صورة من الوقار المتكلف
ولقد
دخل علينا فتًى حَدَثْ كان قَدْ وقَعَ إلى أصحاب عبد الواحد بن زيد ونحنُ عند
مُوسى بن عِمْران، فدارَ الحديثُ إلى أن قال الفتى: أفطرتُ البارحةَ على رغيفٍ
وزيتونة ونصف، أو زيتونَة وثلث، أو زيتونَة وثُلْثَي زيتونة، أو ما أشبه ذلك، بل
أقول: أكلت زيتونَة، وما علم اللّه من أخرى، فقال موسى: إنّ مِن الورع ما يُبغِصُه
اللّه، علمَ اللّه؛ وأظُنُّ ورَعَكَ هذا من ذلك الورع.
وكان العُتْبي ربّما قال: فقال لي المأمون كذا وكذا، حينَ صارَ التَّجْمُ على
قِمَّة الرأس، أو حينَ جازَنِي شيئاً، أو قبل أن يوازيَ هامتي، هكذا هو عندي، وفي
أغلَبِ ظنِّي، وأكرَهُ أنْ أجزِمَ على شيءٍ وهُوَ كما قلت إن شاء اللّه تعالى،
وقريباً ممّا نقلت، فيتوقف في الوقتِ الذي ليسَ من الحديث في شيء، وذلك الحديث إن
كان مَعَ طلوعِ الشمسِ لم يَزِدْه ذلك خيراً، وإن كان مَعَ غرُوبها لم ينقُصه ذلك
شيئاً، هذا ولعلَّ الحديثَ في نفسه لم يكُنْ قَطُّ ولم يَصلْ هو في تلك الليلة
البتّة، وهو مع ذلك زعم أنّه دخَل على أصحابِ الكَهف فَعَرف عََدَدَهم، وكانت
عليهم ثيابٌ سَبَنيّة وكلبهم مُمَعّط الجلد، وقد قال اللّه عزَّ وجلّ لنبيّه صلى
الله عليه وسلم: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً
وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً".
بعض نوادر الشعر
وسنذكرُ من نوادرِ الشِّعر جملةً، فإن نشطت لحِفظِها فاحفَظها؛ فإنَّها من أشعار المذاكرة، قال الثَّقفي:
إن الذَّليلَ الَّذِي لَيْسَت لَهُ عضُد |
|
مَنْ كَانَ ذَا عَضُدٍ يُدرِكْ ظُلامَتهُ |
ويَأنف الضَّيمَ إنْ أثْرى لَهُ عَدَدُ |
|
تَنْبُو يَدَاهُ إذَا مَا قـلَّ نَـاصـرُهُ |
وقال أبو قيس بن الأسلت:
للدَّهر جِلْدٍ غيرِ مِجْزَاعِ |
|
بزُّ امرئٍ مُسْتَبْسِلٍ حَاذرٍ |
إشْفَاقِ والفهةِ والهَـاعِ |
|
الكيْسُ والقُوَّةُ خيْرٌ مِنْ ال |
وقال عَبْدَهُ بنُ الطَّبيب:
وكلُّ شيءٍ حَبَاهُ اللّهُ تَخـويِلُ |
|
رَبٌّ حَبَانَا بأمْوَالٍ مُـخَـوَّلةٍ |
والعيْشُ شُحٌّ وإشْفَاقٌ وَ تأمِيلُ |
|
والمرءُ ساعٍ لأمر لَيْسَ يُدرِْكه |
وكان
عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي اللّه تعالى عنه - يردِّد هذا النصف الآخِرَ، ويَعجَبُ
مِنْ جَودَة ما قَسم.
وقال المتلمِّس:
وتَقْوَى اللّهِ مِنْ خيْرِ العَتَـاد |
|
وأعْلَمُ علْمَ حَقِّ غَـيْرَ ظَـنٍّ |
وضربٍ في البِلادِ بِغَيْرِ زَادِ |
|
لَحِفْظُ المال أيسر من بُغـاهُ |
ولا يَبْقَى الكثيرُ مَعَ الفَسـادِ |
|
وإصْلاَحُ القَلـيلِ يزيدُ فـيه |
وقال آخر:
أَشَدُّ من الجمْع الذي أَنت طالبُه |
|
وحِفْظكَ مَالاً قَدْ عُنيتَ بجمعـهِ |
وقال حُميد بن ثَور الهِلاليّ:
البخل إلاَّ سوف يعتلُّ بالشغـل |
|
أتشْغَلُ عنَّا يَابْنَ عمِّ فلن ترى أخا |
وقال ابن أحمر:
وقد يدوِّم رِيقَ الطامِعِ الأملُ |
|
هذا الثناء وأَجْدِرْ أنْ أصاحبه |
وقال ابن مقبل:
أموت وأُخْرَى أبْتَغِي العَـيْشَ أكْـدَحُ |
|
هَلِ الدَّهرُ إلاَّ تَارَتَان فـمِـنـهـمـا |
فلا المَوْتُ أهْوَى لي ولا العيش أروحُ |
|
وكلتاهما قد خُطَّ لي فـي صـحـيفة |
وقال عمرو بن هند:
يُناغي نِساءَ الحيِّ في طُرَّةِ البُـردِ |
|
وإن الذي ينْهاكمُ عـن طـلابِـهـا |
كما تنقص النِّيران من طرف الزَّند |
|
يُعَلَّلُ والأيَّامُ تـنـقُـصُ عُـمْـرَه |
وقال أُمَيَّة - إن كان قالها-:
رِ لهُ فَرْجَة كَحَلِّ العِقَـال |
|
رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوس مِنَ الأمْ |
شعر في الغزل وقال آخر:
عَشِيَّة آرَام الكِنـاسِ رَمِـيمُ |
|
رَمَتْنِي وَسِتْرُ اللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا |
ولكِنَّ عَهْدِي بالنِّضَالِ قـدِيمُ |
|
ألاَ رُبَّ يومٍ لَوْ رَمَتْنِي رَمَيْتُهَا |
ضَمِنْت لَكُمْ أَنْ لاَ يَزَالُ يَهيمُ |
|
رَمِيمُ الَّتِي قالتْ لَجارَات بَيْتِهَا |
وقال آخر:
إلاَّ تطاوَلَ غُصْنُ الجيدِ للجِـيدِ |
|
لم أَعْطُهَا بِيَدِي إذْ بِتُّ أرْشُفهَـا |
مطوَّقَانِ أصَاخَا بعد تـغـريدِ |
|
كما تَطَاعَمَ في خَضْرَاءَ نَاعِمَةٍ |
بُعداً وسُحْقاً له مِنْ هَالكٍ مُودِي |
|
فإنْ سَمِعتَ بهلُكٍ للبَخيلِ فقُـلْ |
شعر في الحكم وقال أبو الأسود الدؤلي:
حَتَّى يُزَيَّنَ بالَّـذِي لـم يَفْـعـلِ |
|
المرءُ يَسْعَى ثـمَّ يُدْرِكُ مَـجْـدُهُ |
يُرْمى ويقْذَفُ بالَّذِي لم يعْـمَـلِ |
|
وتَرَى الشقيَّ إذا تكـامَـلَ غَـيُّه |
مشيحٌ على محقوقف الصُّلب مُلْبَدِ |
|
رئيسُ حـروب لا يزال ربــيئةً |
من اليوم أعقاب الأحاديث في غدِ |
|
صَبور على رزء المصائب حافظٌ |
كذَبتَ ولم أبخَلْ بما ملكـتْ يدي |
|
وهَوَّن وجدي أنني لـم أقـلْ لـه |
وقال سعيدُ بن عبد الرحمن:
مِنَ النَّاس إلاَّ ما جنَى لَسَعِيدُ |
|
وإنَّ امرأً يُمسي ويُصْبِحُ سَالِماً |
وقال أكثمُ بنُ صيفيّ:
وبَيْنَا نُرَبِّي بَنِينَا فَنِينَا |
|
نُربَّى ويَهْلِك آباؤنَـا |
وقَال بعضُ المحدَثين:
يُلْفَى فُؤادِي مِنْ حَادِثٍ يَجِبُ |
|
فالآنَ أَسْمحْتُ للخطوبِ فَلاَ |
وكُلُّ شيءٍ ليومِه سَـبَـبُ |
|
قَلَّبني الدَّهرُ في قـوالـبـه |
وقال آخر:
فَكُلُّكُمُ يَصِـيرُ إلـى ذَهـاب |
|
لِدُوا للمَوْتِ وابْنُوا للـخَـرَابِ |
أَبيتَ فما تَحِيفُ ولا تُحَابـي |
|
ألاَ يا موتُ لم أَرَ مِنْـكَ بُـدّاً |
كما هَجَمَ المشيب عَلَى شبابي |
|
كأنَّكَ قَدْ هجمت على مَشيبي |
وقال آخر:
فالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَعْمومٍ ومَخْصـوصِ |
|
يا نفس خوضي بحَارَ الْعِلْمِ أو غُوصي |
إلاَّ إحَاطَةَ مَنقوص بـمـنـقـوصِ |
|
لا شيء في هذه الدنـيا يُحـاط بـه |
شعر في التشبيه وأنشدنا للأحيمر:
سِيدٌ تَنَصَّل من حُجور سَعالي |
|
بأقَبَّ منْطَلِقِ اللَّبـانِ كـأنَّـه |
وقال الآخر:
إذَا ما بَدَا مِنْ دُجْية اللَّيل يطرفُ |
|
أراقب لمحاً من سهيلٍ كـأنَّـه |
وقالوا: قال خلفٌ الأحمر: لم أَرَ أجمَعَ مِن بيتٍ لامرئ القيس، وهو قوله:
وقاد وذاد وعادَ وأفضل |
|
أفادَ وجَادَ وسَـاد وزَادَ |
ولا أجمعَ مِنْ قوله:
وإرخاءُ سِرْحَانِ وتَقْرِيبُ تَتْفُل |
|
لهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَـامَةٍ |
وقالوا: ولم نر في التشبيه كقوله، حينَ شبّه شيئين بشيئين في حالَتين مختلفين في بيتٍ واحدٍ، وهو قوله:
لدَى وكْرهَا العُنَّابُ وَ الحَشَفُ البَالي |
|
كأن قلوبَ الطَّيرِ رَطْبـاً ويَابـسـاً |
قطعة من أشعار النساء وسنذكرُ قِطعة من أشعارِ النساء، قالتْ أعرابيَّة:
على نِضْوِ أسفارٍ فجنَّ جُنُونـهـا |
|
رَأَتْ نِضْوَ أَسْفارٍ أُميمَةُ شاحـبـاً |
فإنَّكَ مَوْلى فِرْقَةٍ لا تَـزينُـهـا |
|
فقالتْ مِن أيِّ الناس أنتَ ومَنْ تَكُنْ |
وقالت امرأة من خثعم:
أُحِبُّ وبَيتِ اللّه كَعْبَ بْنَ طـارقِ |
|
فإنْ تسألوني مَنْ أُحِـبُّ فـإنَّـنـي |
على النَّاس مُعتاداً لضَرْبِ المَفارقِ |
|
أحبُّ الفتى الجَعْدَ السَّلولِيَّ ناضـلا |
وقالت أخرى:
وأَقَبحَها لمَّا تَجَـهـزَ غـادِيا |
|
وما أحسَنَ الدُّنيا وفي الدَّارِ خالد |
وقالتْ أُمُّ فَروة الغطَفانيَّة:
تَحدَّرَ مِنْ غُرٍّ طِـوَالَ الـذَّوَائب |
|
فما ماءُ مزْنٍ أيُّ ماءٍ تـقـولـهُ |
عليه رِياح الصَّيفِ مِن كلِّ جانبِ |
|
بمُنْعَرَجٍ أو بَطْـنِ وَادٍ تـحـدَّرَتْ |
فما إنْ بِهِ عَيبٌ يكونُ لـعـائبِ |
|
نَفَى نَسَمُ الرِّيحِ القَذَا عنْ متـونِـه |
تُقى اللّهِ واستحياءُ بعْضِ العَواقب |
|
بأطْيبَ مِمَّن يقصُرُ الطَّرْفَ دُونَه |
وقال بعضُ العُشاقِ:
وجُونُ القَطَا بالجَلْهَتَينِ جُـثـومُ |
|
وأنتِ الَّتي كلَّفتِنِي دَلَجَ السُّـرَى |
وقرّحتِ قَرحَ القَلب وهو كليم |
|
وأنتِ الّتي أَوْرَثتِ قَلبي حَرارةً |
بَعِيدُ الرِّضَا دَانِي الصُّدُودِ كَظِيمُ |
|
وأنتِ التي أسخطت قومي فكلُّهُمْ |
فقالت المعشوقة:
وأشمتَّ بي مَنْ كان فِيكَ يَلومُ |
|
وأنتَ الَّذِي أخْلَفْتَني ما وَعَدْتَني |
لَهُمْ غَرَضاً أُرْمى وأنتَ سَليمُ |
|
وأبرَزتَني للنَّاسِ حتَّى تركْتَني |
بجلْدِيَ مِنْ قَوْل الوُشاة كُلومُ |
|
فلوْ أَنَّ قَوْلاً يكلِمُ الجسْمَ قد بَدَا |
وقال آخر:
رَدَاحٌ وأَنَّ الوجهَ مِنكِ عَتيقُ |
|
شهدْتُ وبَيتِ اللّهِ أنَّكِ غـادةٌ |
ولا أنا للهجْرانِ مِنكِ مُطيقُ |
|
وأنَّكِ لا تجزيننـي بـمـوَدَّةٍ |
ثَّنَايا وأنَّ الخصْرَ مِنكَ رَقيقُ |
|
شَهدْت وبيتِ اللّهِ أنَّكَ بارِدُ ال |
وأنَّك إذْ تخْلو بهـنَّ رفـيق |
|
وأنَّكَ مَشْبوح الذِّرَاعين خَلجَمٌ |
شعر مختار وقال آخر:
قد دُستها دَوس الحصان الهيكل |
|
اللّه يعلم يا مـغـيرة أنـنـي |
عَجلانَ يَشويها لـقـومٍ نُـزَّلِ |
|
فأخذتها أخْذَ المقصِّب شـاتَـهُ |
وقال كعبُ بنُ سعدٍ الغَنَوي:
فكَيفَ وهاتَا هَضْبَةٌ وقَـلِـيبُ |
|
وحَدَّثتماني أنَّما الموتُ بالقُرَى |
ببَرّيّةٍ تجْرِي عَلَيهِ جـنـوب |
|
وماءُ سماءٍ كانَ غيرَ مَـجـمَّةٍ |
وما اقْتالَ في حُكْمٍ عليَّ طَبيبُ |
|
ومنزلة في دارِ صدقِ وغِبطةٍ |
وقال دُرَيد بن الصِّمَّة
مشيح على مُحْقوقفِ الصُّلبِ مُلْبدِ |
|
رئيسُ حُـروبٍ لا يزَالُ رَبِــيئَةً |
مِنَ اليَومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ |
|
صبورٌ على رُزء المصائبِ حافظٌ |
كَذَبْتَ ولم أبْخَلْ بما مَلَكَـت يَدي |
|
وهَوَّنَ وَجدي أنني لـم أقـلْ لَـهُ |
قطع من البديع وقطعةٌ من البَديع قوله:
وصاح في آثارِها فأسْمَعـا |
|
إذا حَدَاها صاحبي ورَجَّـعـا |
أدمك في ماء المهاوي مُنْقَعَا |
|
يتبعْن منهن جُلالاً أتـلـعـا |
وقال الراجزُ في البديع المحمود:
وإذْ أهاضيبُ الشبابِ تَبْغَشُ |
|
قد كنت إذْ حبلُ صِباك مُدْمَش |
ومن هذا البديع المستَحْسَن منه، قولُ حُجْر بن خالد بن مرثد:
كفِعْلِ أبي قابوسَ حَزْمـاً ونـائلا |
|
سمعتُ بِفِعْلِ الفاعلين فـلـم أَجـدْ |
إليك فأضحى حَوْلَ بـيتِـك نَـازِلا |
|
يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كـلِّ بـلـدةٍ |
وإن كان قد َخوَّى المرابيعُ سـائلا |
|
فأصبحَ منه كـلُّ وادٍ حـلـلـتَـه |
وتُضْحِي قلوصُ الحمد جَرْباء حائِلا |
|
فإن أنتَ تَهْلِك يَهْلِك الباعُ والـنَّـدَا |
ولا سُوقةٌ ما يَمْدَحَـنَّـك بـاطـلا |
|
فلا ملكٌ ما يبـلـغَـنَّـك سَـعْـيُهُ |
صدق الظَّنِّ وجَودة الفِراسة
قال أوس بن حجر:
نّ كأَنْ قَدْ رأى وقد سمعا |
|
الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظ |
وقال
عمر بن الخطَّاب: إنك لا تَنْتَفعُ بعقل الرَّجل حتّى تعرفَ صدقَ فطنته.
وقال أوس بن حجر:
نِقابٌ يُحدَّث بالغَائبِ |
|
مليحٌ نَجيحٌ أخو مَأْزِقِ |
وقال أبو الفضَّة، قاتِل أحمرَ بن شميط:
فإنَّ الظَّنّ يَنْقُصُ أوْ يزيدُ |
|
فإلاَّ يَأتِكُمْ خَـبَـرٌ يَقِـينٌ |
وقيل لأبي الهذيل: إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ - وأنتَ تكلِّم النظام وقمت - فأحْسَنُ حالاتِك أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ قال: خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد وقال كُثَيِّرٌ في عبدِ الملك:
|
به شَيبٌ وما فَقَدَ الشَّبَابَـا |
|
رَأيتُ أبا الوَليد غَدَاةَ جَمعٍ |
|||
|
إذا شابتْ لِدَاتُ المَرْءِ شَابَا |
|
فقلتُ لَهُ ولا أعيا جَوابـاً: |
|||
إذا ما قال أمْرَضَ أو أصابا |
|
ولكنْ تَحتَ ذاكَ الشيبِ حزمٌ |
|
|||
وليس في جَودة الظَّنِّ بيتُ شعرٍ أحسن مِنْ بيتِ بلعاء بنِ قيس:
إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره |
|
وأبغى صواب الظن أعـلـم أنـه |
وقال
اللّه عزَّ وجلَّ: "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ
فاتَّبَعُوهُ".
وقال ابن أبي ربيعةَ في الظَّنِّ :
كان للغَيِّ مَرَّةً قَدْ دَعـانـي |
|
ودَعاني إلى الـرَّشـادِ فـؤادٌ |
غَيْرَ شَكٍّ عَرَفتَ لي عِصْيَانِي |
|
اكَ دَهْرٌ لو كنتَ فيهِ قَرِينـي |
لَمُ إلاَّ الظُّنُونَ أيْنَ مَكـانِـي |
|
وتَقَلَّبتُ في الفِـراشِ ولا تَـع |
من مختار الشعر
وقال ابنُ أبي ربيعة في غير هذا الباب:
إذا نَظَرَتْ ومستَمعاً مطيعا |
|
وخِلٍّ كنتُ عَينَ النُّصْحِ منْهُ |
وقُلْتُ لَهُ أَرَى أمراً شَنيعَا |
|
أطافَ بغيَّةٍ فَنَهيتُ عنـهـا |
أبَى وعَصى أَتَيناها جَميعَا |
|
أَرَدْتُ رَشادَه جَهْدي، فلمـا |
وقال معَقِّر بن حمار البارقي:
والقَوْلُ مِثلُ مَوَاقِعِ النَّبْلِ |
|
الشِّعرُ لبُّ المرْءِ يَعْرِضه |
ونَوَافذٌ يذهَبنَ بالخَصـل |
|
منها المقصِّر عَن رَمِيَّتِه |
أبياتٌ للمحدَثينَ حِسانٌ
وأبياتٌ للمحْدَثين حِسَان، قال العَتَّابيّ:
مُبرَّأَةً مِنْ كُلِّ خُـلْـقٍ يَذِيمُـهـا |
|
وَكَمْ نِعمةٍ آتاكهـا الـلّـهُ جَـزْلَةً |
تَعَاوَرنها حَتَّى تَفَـرَّى أدِيمـهـا |
|
فَسلطتَ أَخلاقاً علـيهـا ذمِـيمةً |
بعَوراءَ يَجْرِي في الرِّجال نمِيمُها |
|
وَلُوعاً وإشفاقاً ونطقاً من الخَـنـا |
بَلَغت بأدنى نِعمَة تَسْـتَـدِيمُـهـا |
|
وكنتَ امرأً لو شِئتَ أنْ تَبْلُغَ المدَى |
مِنَ الصَّخرَةِ الصّمَّاء حِين ترُومُها |
|
ولكنْ فِطامُ النَّفْسِ أعسر محمَـلاً |
وقال أيضاً:
رضاعي بأدنى ضجْعَةٍ أستلينُها |
|
وكنتُ امرأً هَيَّابَةً تَسْتَـفِـزّنـي |
تَوَقَّلُ في نَيلِ المَعالي فنُونُـهـا |
|
أُوافي أميرَ المؤمنـين بِـهـمَّةٍ |
وأدَّى إليها الحقَّ فهو أمينُـهـا |
|
رَعى أُمَّةَ الإسلامِ فهو إمامُهـا |
تَغَلْغَلَ في حيثُ استَقَرَّ جنينُهـا |
|
ويَستَنتج العقماء حتَّى كـأنـمـا |
ولا كل مَن أَمَّ الصُّوَى يَسْتَبِينُهـا |
|
وما كل مَوصوفٍ لَهُ يَهـتَـدِي |
طوارفُ أبكارِ الخُطُوبِ وعُونُها |
|
مُقيمٌ بمستنِّ العُلا، حيثُ تَلتَقـي |
وقال الحسن بن هانئ:
عندَ احتِفالِ المجلِسِ الحاشد |
|
قُولاَ لهارُون إمامِ الـهـدَى |
أخلَى لَهُ وجهَكَ مِن حَاسد |
|
نَصيحةُ الفَضْلِ وإشفـاقُـهُ |
وواحد الغائب والشـاهـد |
|
بصادِق الطـاعةِ ديَّانِـهـا |
ما أنتَ مِثلَ الفَضْل بالواجِدِ |
|
أنتَ على ما بِكَ مِنْ قُـدْرَةٍ |
لطالـبٍ ذاكَ ولا نَـاشِـد |
|
أوحَدَه اللّهُ فمـا مـثْـلُـه |
أنْ يَجْمَعَ العالَمَ في واحـد |
|
وليس على اللّه بمستنكـر |
وقال عَديُّ بن الرِّقاعِ العاملي:
حتَّى أُقَوِّمَ مَيْلهَا وسـنـادهـا |
|
وقَصيدةٍ قَدْ بِتُّ أجْمعُ بَيْنَـهـا |
حتَّى يُقيمَ ثِقافُـهُ مُـنـآدهـا |
|
نظَرَ المثقِّف في كُعُوب قَناتِـه |
عَنْ حَرْف وَاحدة لكيْ أزْدَادَهَا |
|
وعَلِمْتُ حتَّى لَسْتُ أسْأَلُ عالِما |
وأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَـلَـيْهِ وَزَادَهـا |
|
صَلَّى الإلهُ عَلَى امْرئٍ ودَّعته |
شعر لبنت عدي بن الرقاع
قال: واجتمع ناسٌ من الشُّعَرَاء ببابِ عَديِّ بن الرقاعِ يُريدون مُماتَنَتَهُ ومُساجَلَتَه، فخَرجَت إليهمْ بِنْتٌ له صغيرة، فقالت:
عَلى وَاحدٍ لا زلْتُمُ قِرْنَ واحد |
|
تجَمَّعْتُم منْ كُلِّ أَوْبٍ ومَنـزل |
وقال عبدُ الرحمن بن حسّان الأنصاري، وهو صغير:
في دَارِ حَسَّانَ أَصْطَادُ اليَعَاسِيبَا |
|
اللّه يَعْلَمُ أنِّي كُنْت مُشْـتَـغِـلاً |
وقال
لأبيه وهو صبيٌّ - ورجع إليه وهو يبكي ويقول: لسعني طائر قال: فصفه لي يا بنيّ قال
كأَنَّهُ ثَوْبُ حَبَرة قال حسّان: قال ابني الشِّعْرَ وَرَبِّ الكعبة وكان الذي
لَسعه زنبوراً.
وقال سَهْلُ بن هارون، وهو يختلف إلى الكُتَّابِ لجارٍ لهم:
فهل تَماثَل أو نأتيه عُوَّادا |
|
نُبِّيت بَغْلك مبْطوناً فقلت له |
وقال طرفة وهو صبيٌّ صغير:
خلا لكِ الجَوُّ فبِيضي واصفِرِي |
|
يا لَكِ مِنْ قُبَّـرةٍ بـمَـعْـمَـرِ |
وقال بعض الشعراء:
فسَرَّكَ أن يَعيش فجِئْ بزادِ |
|
إذا ما ماتَ مَيْتٌ مِن تَـمـيمٍ |
أو الشَّيءْ الملفَّفِ في البِجَادِ |
|
بخبزٍ أو بِلَحْمٍ أوْ بِـسَـمْـنٍ |
ليأكُلَ رأسَ لُقمْان بنِ عـادِ |
|
تراه يَطوف بالآفاق حِرْصاً |
وقال
الأصمعي: الشيء الملفَّف في البِجاد: الوَطْب.
وقال أعرابيٌّ:
بدا في سَوادِ الرَّأس أبيض واضحُ |
|
أَلاَ بَكَرَتْ تَلْحَى قتَيْلَةُ بَـعْـدَمـا |
مِنَ المال أفنتْها السّنونَ الجَـوائحُ |
|
لتُدرِك بالإمْساك والمَنْـع ثَـرْوةً |
بذِكْر النَّدَى تَبْكِي عَلَيَّ الـنـوائح |
|
فقلت لها: لا تعذُلينـي فـإنـمـا |
أشعار في معانٍ مختلفة
وقال بَشَّارٌ أبياتاً تجوز في المذاكرة، في باب المنى، وفي باب الحزم، وفي باب المشورة، وناسٌ يجعلونها للجعجاع الأزدي، وناسٌ يَجعلونها لغيره، وهي قوله:
برَأْيِ نَصيحٍ أو نَصـيحةِ حـازِم |
|
إذا بَلَغَ الرَّأيُ المَشَورَة فاستَـعِـنْ |
مَكَانُ الخَوافي رافِدٌ لـلـقَـوادم |
|
ولا تحْسَبِ الشّورى عَلَيْكَ غَضاضَةً |
ولا تُشْهِدِ الشّورَى امرأً غَيْرَ كاتِم |
|
وأدْنِ مِنَ القُرْبى المقرِّبَ نَفْـسَـه |
ومَا خيْرُ نَصْلٍ لَـمْ يُؤيَدْ بِـقـائمِ |
|
وما خيْرُ كَفٍّ أمسَك الغلُّ أُخْتَـهَـا |
ولا تَبْلُغُ العَليَا بغَيْرِ الـمَـكـارِمِ |
|
فإنّك لا تَسْتطرِدُ الهَمَّ بِـالـمَـنـى |
وقال بعض الأنصار:
كَداءِ الشيْخ ليسَ له شفـاءُُ |
|
وبَعْضُ خلائقِ الأقوامِ دَاءٌ |
كمخْض الماء ليس لَهُ إتاءُ |
|
وبَعْضُ القَوْل ليس لَهُ عِناجٌ |
وقال تأبَط شَرّاً - إنْ كان قاَلها-:
ذَكَت الشِّعْرى فَبَردٌ وظِـلُّ |
|
شامِسٌ في القُرِّ حتَّى إذا مَـا |
وكِلاَ الطِّعمَين قدْ ذَاقَ كُـلُّ |
|
ولَهُ طَعْمَانِ: أَرْيٌ وشَـري ّ |
وإذا يغْدو فـسِـمْـعٌ أزَلُّ |
|
مُسْبِلٌ في الحَيِّ أحْوَى رِفَـلُّ |
مَصِعٌ عُقْدَتُـه مـا تُـحَـلُّ |
|
وَوَرَاء الثأر منه ابنُ أخـت |
أَطرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمّ صِلُّ |
|
مُطرِقٌ يَرشَحُ سُمًّا، كـمـا |
جَلّ حتَى دقّ فـيه الأجَـلُّ |
|
خَبَرٌ مَا نابَنَـا مُـصـمَـئِلُّ |
كَسَنَا البَـرقِ إذا مـا يُسَـلُّ |
|
كُلُّ ماضٍ قَد تَرَدَّى بِمـاض |
إنَّ جِسمي بَعدَ خالي لخـلُّ |
|
فَاسقِنيها يا سَوَاد بنَ عَمـرو |
وقال سلامَة بنُ جَندَل:
أصَعْصَعُ إِنِّي سَوف أَجزِيكَ صَعْصَعا |
|
سأَجزيك بالوُدِّ الـذي كـان بـينَـنـا |
إليك وإن حلَّت بُيُوتـك لَـعـلـعـا |
|
سأُهْدِي وإن كنا بـتـثـلـيثَ مِـدْحةً |
وجدناك مَحمُود الـخَـلائقِ أروَعـا |
|
فإنْ يَك محـمـوداً أبـوك فـإنَّـنـا |
وإن شئت أهدينَا لَكُـم مـائةً مـعـا |
|
فإن شئتَ أهـدينَـا ثـنـاءً ومـدحةً |
فقال
صعصَعة بن محمود بن بشر بن عمرو بن مرثد: الثَّناء والمدحة أحبُ إلينا، وكان أحمر
بن جندل أسيراً في يده، فخلَّى سبيلَه من غير فداء.
وقال أوسُ بن حَجَر، في هذا الشّكل من الشّعر - وهو يقع في باب الشّكر والحمد -:
|
حَليمَةُ إذْ ألْقى مراسيَ مُقعَدِ |
|
لَعَمرُك مَا ملَّت ثَوَاءَ ثَويِّهـا |
|||
وَحَلَّ بفَلجٍ فالقنـافـذ عُـوَّدي |
|
وَلَكِنْ تَلقت باليدَينِ ضَمانـتـي |
|
|||
بحَمْلِ البَلايا والخِباء المـمـدَّد |
|
وقَدْ غَبرت شهرَيْ رَبيعٍ كلَيْهما |
|
|||
كما شِئتَ مِنْ أُكرُومَةٍ وتَخَرُّدِ |
|
ولم تُلههَا تِلك التَّكَاليفُ؛ إنّـهـا |
|
|||
وحَسْبُك أن يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحمَدِي |
|
سأجزيكِ أو يَجزِيكِ عني مثَوِّبٌ |
|
|||
وقال أبو يعقوب الأعور :
وَحَسْبُك مِنّي أن أوَدَ وأجهدا |
|
فلم أجْزهِ إلاَّ الموَدَّة جاهـداً |
من شعر الإيجاز
وأبيات تضافُ إلى الإيجاز وحَذْف الفضول، قال بعضهم ووصف كِلاَباً في حالِ شَدِّها وعَدْوِها، وفي سُرعةِ رفعِ قوائمها ووضعها - فقال:
كأنَّما تَرْفَعُ ما لَمْ يُوضَعِ |
ووصف آخرُ ناقة بالنشاط والقوَّة فقال:
خرقَاءُ إلاَّ أنها صَنَاعِ |
وقال الآخر:
الليلُ أخفى والنْهارُ أفضَحُ |
ووصف الآخر قَوْساً فقال:
في كفِّه مُعْطِيَةٌ مَنوعُ |
وقال الآخر:
كَأَنَما دلـيلُـه مـطـوَّح |
|
وَمَهْمَهٍ فِيهِ السَرَابُ يَسْبَـحُ |
كأنَّما بَاتُوا بِحَيْثُ أصْبَحُـوا |
|
يَدْأَبُ فِيهِ القَوْمُ حتّى يَطْلَحُوا |
ومثل هذا البيت الأخير قوله:
وكأنّما مِنْ عاقِلٍ أرْمَامُ |
|
وكأنَّما بَدْرٌ وَصِيلُ كُتيفة |
ومثله:
وقُلتُ قُسَاسٍ من الحَرْمَلِ |
|
تجاوَزْتُ حُمْرَانَ في ليلةٍ |
ومن الباب الأوّلِ قوله:
كُلُّ هَمٍّ إلى فَرَجْ |
|
عادَني الهمُّ فاعتلجْ |
وهذا
الشِّعر لجُعَيفران الموَسْوَس.
وقال الآخَر:
فتًى إذا نبّهْتَه لم يَغْـضَـبِ |
|
لم أقْضِ من صحْبةِ زَيدٍ أرَبي |
ولا يضن بالمتاعِ المحقَـب |
|
أبيضُ بَسّامٌ وإن لم يعـجـب |
أقصى رفِيقيه له كالأقْـرَب |
|
مُوَكَّلُ النَّفس بِحِفْظِ الـغُـيّب |
وقال دُكَين:
بالسّوْط في دَيْمومةٍ كالتّرْس |
|
وقدْ تعَلّلتُ ذَمِيلَ الـعَـنْـس |
|
|
إذْ عَرَّج اللّيلَ بروجَ الشَّمسِ |
وقال دُكَينٌ أيضاً:
بمَوطنٍ يُنْبِطُ فيه المحتسي بالمشْرَفِيّات نِطافَ الأنْفُسِ |
وقال الراجز:
والنّصُّ في حِينِ الهَجِيرِ والضّحى |
|
طاَلَ عليهنَّ تكـالـيف الـسّـرَى |
رَوَاعِفٌ يَخْضِبْنَ مُبْيَضَّ الحَصى |
|
حَتَى عُجاهُنَّ فما تحت العُـجـى |
في هذه الأرجوزة يقول:
وضَحِكَ المزن بها ثمَّ بكى |
ومن الإيجاز المحذوف قولُ الراجز، ووصف سَهمه حينَ رَمى عَيراً كيف نَفَذَ سهمه، وكيفَ صرَعه، وهو قوله:
حتَى نجَا مِنْ جوفه وما نجا |
شعر في الاتِعاظ والزهد
ومما يجوز في باب الاتّعاظ قولُ المرأة وهي تطوف بالبيت:
وهَجْمةً يَحارُ فيها الطَالِبْ |
|
أنت وهَبْتَ الفِتيَةَ السَلاهِبْ |
متاعَ أيَامٍ وكُـلٌّ ذَاهِـبْ |
|
وغنَما مِثلَ الجَرَادِ السّارِبْ |
ومثله قولُ المسعوديّ:
ءٍ زعزعتْه الريحُ ذاهبْ |
|
أخلِفْ وأنْطفْ كلُّ شـي |
وقال القُدار وكان سيّد عَنَزة في الجاهلية:
ومن اللّجَاجة ما يَضُرُّ وَيَنـفَـعُ |
|
أهلَكْت مُهْرِيَ في الرِّهان لجَاجةً |
قال: وسمعت عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ينشد - وكان فصيحاً:
يُرَجَى الفتى كيما يضرَّ وينفعا |
|
إذا أنت لم تنفع فضرَّ فإنَـمـا |
وقال الأخطل:
وأعظمُ النّاس أحلاماً إذا قدروا |
|
شُمْسُ العَداوةِ حتَّى يُستفادُ لهـم |
وقال حارثة بن بدر:
سَفاهاً وقَدْ جَرَّبْتُ فيمَن يجـرِّب |
|
طربتُ بفاثور وما كدت أطـربُ |
وما الدَّهر إلاّ مَنْجَنَـونُ يقـلّـب |
|
وجرّبتُ ماذا العَـيْشُ إلاَّ تِـعـلّةٌ |
ومثلُ غدِ الجائي وكلٌّ سـيَذْهـب |
|
وما اليومُ إلاَّ مِثلُ أمْس الذي مضى |
وقال حارثة بن بَدر الغداني أيضاً:
|
ولَسْتَ بمُمْضِيهِ وأنتَ تعادِله |
|
إذا الهمُّ أمسَى وَهو داءٌ فأَلْقِه |
|||
إذا رامَ أمراً عَوَّقَـتْـهُ عَـواذِلـه |
|
فلا تُنْزِلَنْ أمْرَ الشـدِيدِة بـامـرئٍ |
|
|||
مِنَ الرَّوع أفْرخْ أكثَرُ الرَّوع باطِلُه |
|
وَقُل للفـؤِاد إن نَـزا بِـك نـزوَةً |
|
|||
شعر في الغَزْوِ
وقال الحارثُ بن يزيد وهو جدُّ الأحَيمِر السَّعديِّ وهو يقع في باب الغزْو وتمدُّحهم ببعد المغْزى:
ب ولا أُغير عَلَى مُضرْ |
|
لا لا أعُـقُّ ولا أحــو |
ضَجَّ المَطيُّ منَ الدَّبَـرْ |
|
لَكـنَّـمـا غـزوي إذا |
وقال ابن محفّض المازنيُّ:
أُصِيبت فما ذَاكُمْ عَلَيَّ بِـعـارِ |
|
إن تَك دِرْعي يَوْمَ صَحرَاءِ كُليةٍ |
عَلَى وَقَبَى يومًا ويَوْمَ سَـفـارِ |
|
ألم تك منْ أسْلابكمْ قبـل ذاكـمُ |
عواريُّ والأيام وغير قـصـارِ |
|
فتلك سرابيل ابن داودَ بـينـنـا |
إلى سَنَةٍ مثلِ الشِّهـاب وَنَـارِ |
|
ونحن طرَدنا الحيَّ بَكْرَ بنَ وائلٍ |
وذي لِبَدٍ يَغشى المهَجْهِجَ ضاري |
|
ومُومٍ وطاعون وحُمّى وحًصْـبةٍ |
ومنزلِ ذلٍّ في الحـياة وعَـارِ |
|
وحكم عـدوٍّ لا هَـوَادة عـنْـده |
وقال آخر:
وكونوا كَمَنْ سِيمَ الهَوَانَ فأَرتعـا |
|
خُذُوا العَقْلََ إن أعطاكُم القَوْم عَقْلَكُمْ |
محَا السّيف ما قالَ ابنُ دَارةَ أجْمَعا |
|
ولا تُكثروا فيها الضِجـاجَ فـإنَـه |
وقال أبو ليلى:
مقلّصة على ساقَيْ ظليمِ |
|
كأَن قطاتها كُردُوسُ فَحل |
شعر في السيادة
وقال أبو سلمى:
ومِنْ سفِيهٍ دائمِ النُّبـاحِ |
|
لابدَّ للسُّودد من أرمـاحِ |
|
|
ومنْ عَديدٍ يُتَّقى بالرّاحِ |
وقال الهذلي:
لها صعْداءُ مَطلبها طويل |
|
وإنَّ سيادة الأقوام فاعْلَـمْ |
وقال حارثة بن بدر، وأنشده سفيان بنُ عُيينة:
ومِنَ الشَّقاء تفرّدي بالسُّوددِ |
|
خلَت الدِّيارُ فَسُدْتُ غيْرَ مُسَوَّد |
شعر في هجاء السادة
وقال أبو نخيلة:
إلى سَيِّدٍ لوْ يظفَرُون بسيِّدِ |
|
وإنَّ بقَوْمٍ سَوَّدوك لَفَـاقَةً |
وقال إياس بن قتادة، في الأحنف بن قيس:
دَعَاك إلى نارٍ يَفُورُ سَعيرها |
|
وإنَّ مِنَ السّادات مَن لو أطعْتَه |
وقال حُميضة بن حذيفة:
وكل مطاعٍ لا أبالكَ يَظلِمُ |
|
أيظلمهم قسراً فتبّاً لسَعيهِ |
وقال آخر:
تخَمَّطُ فيهم والمـسـوَّدُ يَظْـلِـمُ |
|
فأصبحتَ بعد الحلم في الحيِّ ظالما |
وكان أنس بن مدركة الخثعمي يقول:
لأمرِ ما يسوَّدُ مَـنْ يسـودُ |
|
عزمت على إقامةِ ذي صباحٍ |
وقال الآخر:
لقد جَمَّعْتَ من شيء لأمر |
|
كما قال الحمار لسهم رامٍ |
وقال أبو حيّة:
بلى وهو واهٍ بالجراءِ أباجِلُه |
|
إذا قُلْنَ كلاَّ قال والنَّقْع ساطعٌ |
وقال آخر:
بشطّ دجلة يشري التمر والسمكا |
|
إني رأيت أبا العوراء مرتفـقـاً |
والموت أعلم إذ قفَّى بمن تركا |
|
كشدَّة الخيل تبقى عند مذودهـا |
ومن تكن أنت ساعيه فقد هلكا |
|
هذه مساعيك في آثار سادتـنـا |
وقال شتيم بن خويلد، أحد بني غراب بن فزارة:
إنَّك لَمْ تأْسُ أَسْواً رَفِيقَـا |
|
وقلت لسيِّدِنـا يا حـلـيمُ |
تُعادي فَريقاً وتُبقي فريقَا |
|
أعَنتَ عديّاً على شَأوهـا |
فجئتَ بها مؤْيِداً خَنْفَقِيقَا |
|
زَحرتَ بها ليلةً كلَّـهـا |
وقال ابن ميادة:
لدى بَابهِ إذناً يسـيراً ولا نُـزْلا |
|
أتيتُ ابن قشراءِ العِجانِ فلم أجـدْ |
لأنقَصُ من يَمْشي على قَدَم عَقلا |
|
وإنَّ الَّذي ولاّك أمْـر جـمـاعةٍ |
شعر في المجد والسيادة
وقال آخر:
أسأْنَا في ديارِهِمُ الصَّنيعـا |
|
ورِثنَا المجْد عن آباءِ صِدقٍ |
بُناة السُّوء أوْشك أنْ يضيعَا |
|
إذا المَجْدُ الرَّفيعُ تَعاورتْـه |
وقال الآخر:
أنَا السَّيِّدُ المُفْضَى إليه المعمَّـمُ |
|
إذا المرءُ أثْرَى ثمَّ قال لقومِـه |
وهانَ عليهمْ رَغْمُهُ وهو أظْلم |
|
ولم يعْطِهمْ خيراً أبَوْا أنْ يَسُودَهُم |
وقال الآخر:
ليَدفَع عَنّي خَلَّتي دِرْهمَا بحـرِ |
|
تركتُ لبحرٍ دِرهَميه ولمَ يَكُـنْ |
وأَنفقْهما في غيرِ حمدٍ ولا أجرِ |
|
فقلتُ لبحرٍ خذْهُما واصطَرِفهُما |
تسمَّيتَ بحراً وأكنيت أبا الغَمر |
|
أتمنَعُ سُؤال العشيرةِ بعـدَ مَـا |
وقال الهذليُّ:
أقولُ شَوًى ما لَم يُصِبنَ صمِيمي |
|
وكنت إذا ما الدّهرُ أحدَث نَكـبة |
وقال آخر في غير هذا الباب:
بعيدٌ مـن الأدواء طَـيِبَةُ الـبَـقْـلِ |
|
سقى اللّه أرضاً يَعْلَمُ الضَّـبُّ أَنَّـهـا |
وكلُّ امرئٍ في حِرفَةِ العَيْش ذُو عَقْل |
|
بنى بيته فـي رأس نَـشْـزٍ وكُـدْيةٍ |
أبو الحارث جمين والبرذون
وحدّثني المكيُّ قال: نظر أبو الحارث جُمَّين إلى برذون يُستقى عليه ماءٌ، فقال:المرء حيث يضع نفسه! هذا لو قد همجلج لم يبتل بما ترى!
بين العقل والحَظ
وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:
بأغنى في المعيشةِ من فَتيل |
|
وما لُبُّ اللَّبيب بـغـير حـظٍّ |
وَهَيْهَاتَ الحُظوظ من العقول |
|
رأَيت الحَظَّ يستُر كلَّ عَـيْب |
هجو الخَلْف
وقال الآخر:
وبَقِيت كالمقْهور في خَلْفِ |
|
ذهبَ الَّذين أُحبُّهم سلَـفـاً |
مُتَضَجِّع يُكْفَى ولا يَكفِـي |
|
من كلِّ مَطوِيٍّ على حَنَـقٍ |
عبد العَين
وقال آخر:
فيُرضى وأمّا غَيبُه فظَنُونُ |
|
ومَوْلى كَعَبْدِ العَيْن أمَّا لِقاؤه |
ويقال
للمرائي، ولمن إذا رأى صاحبَه تحرّك له وأرَاه الخدْمة والسرعة في طاعته فإذا غابَ
عنه وعن عينه خالف ذلك: إنَّما هو عَبْدُ عَين.
وقال اللّهُ عزَّ وجلّ: "وَمِنْ أهْلِ الكِتَابِ مَن إنْ تَأمَنْه بِقِنطارٍ
يُؤَدِّه إلَيْكَ" وَمنْهُم مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّه
إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائماً".
من إيجاز القرآن
وقد
ذكرنا أبياتاً تُضاف إلى الإيجاز وقِلَّة الفُضول، ولي كتابٌ جَمَعْتُ فيه آياً من
القرآن؛ لتَعرِفَ بها فصل ما بينَ الإيجاز والحَذْف، وبين الزّوائد والفُضول
والاستعارات، فإذا قرأْتها رأيت فضلها في الإيجاز والجَمْعِ للمعاني الكثيرةِ
بالألفاظ القليلة على الَّذي كتبتُهُ لك في بابِ الإيجازِ وترك الفضول، فمنها قوله
حينَ وصفَ خمرَ أهلِ الجنّة:"لاَ يُصَدَّعُون عَنْها وَلاَ يُنْزِفون"
وهاتان الكلمتان قد جَمَعتا جميعَ عُيوبِ خمرِ أهلِ الدُّنيا.
وقولُه عزّ وجل حينَ ذكر فاكهة أّهلِ الجنّة فقال: "لاَ مَقْطُوعةٍ وَلاَ
مَمْنُوعةٍ". جمع بهاتين الكلمتين جميعَ تلك المعاني.
وهذا كثيرٌ قد دَللتك عليه، فإنْ أردته فموضعه مشهور.
رأي أعرابي في تثمير المال
وقال أعرابي من بني أسد:
لِوَارِثِه ما ثَمَّرَ المَالَ كاسبُـه |
|
يقُولون ثَمِّر ما استَطَعت وإنما |
شحيحاً ودهراً تَعْتَريكَ نوائبُهْ |
|
فكلْهُ وأطعمْهُ وَخالِسهُ وَارِثـاً |
شعر في الهجاء
وقال رجلٌ من بني عَبْس:
|
لا يَعرِفُ النَّصْفَ بل قد جاوَزَ النَّصَفا |
|
أبلغ قُراداً لقد حَـكَّـمـتُـمُ رجـلاً |
|||
|
فجانَبَ السَّهْلَ سَهْلَ الحقِّ واعتسفـا |
|
كان امرأً ثائراً والـحـقُّ يَغْـلِـبُـه |
|||
|
وأنّ أنـفَـكُـمُ لا يعـرِفُ الأنَـفـا |
|
وذاكمُ أنَّ ذُلَّ الـجـار حـالَـفَـكُـم |
|||
|
أوْ يَرْهَبِ السَّيف أو حدَّ القَنا جنَـفَـا |
|
إنَّ المحكَّمَ ما لَمْ يَرْتَقِـبْ حَـسَـبـاً |
|||
|
موتاً على عَجَلٍ أو عاش مُنْتَصِـفَـا |
|
مَن لاذ بالسَّيفِ لاقى قَرضَه عجـبـا |
|||
|
إمَّـا رَواحـاً وإمـا مِـتَةً أنَـفــا |
|
بِيعُوا الحياة بها إذ سام طـالـبُـهـا |
|||
|
هاتيك أجْسادُ عادٍ أصبحـتْ جِـيفَـا |
|
ليس امرؤٌ خالداً والموتُ يطـلـبُـه |
|||
أنَّ الذي بيننا قد مـات أو دنِـفـا |
|
أبِلغْ لَديك أبا كعب مـغَـلْـغَـلة |
|
|||
ثَوْبَ العَزِيمةِ حتَّى انجاب وانكشفَا |
|
كانت أمورٌ فجابت عن حُلومكـم |
|
|||
عَنِّي، وَأعْلَمُ أَنِّي آكُلُ الكـتـفـا |
|
إنِّي لأعل |