كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2022

مجلد .. في في إحساس أجناس الحيوان للجاحظ

 


بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

في إحساس أجناس الحيوان

اللهم إنَّا نَعوذ بك من الشَّيطان الرجيم، ونسألك الهداية إلى صراطك المستقيم، وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامَّة، ونعوذ باللّه أن تدعوَنا المحبَّةُ لإتمام هذا الكتاب إلى أنْ نَصِل الصِّدْقَ بالكذب ونُدْخِل الباطلَ في تضاعيف الحقِ، وأن نتكثَّر بقول الزور ونلتمس تقوية ضعفِهِ باللفظ الحسن، وستر قبحه بالتأليف المونِق، أو نستعينَ على إيضاح الحقِّ إلا بالحق، وعلى الإفصاح بالحجَّة إلاّ بالحجة، ونستميلَ إلى دراسته واجتبائه، ونستدعي إلى تفضيله والإشادة بذكره، بالأشعار المولّدة، والأحاديث المصنوعة، والأسانيد المدخولة، بما لا شاهد عليه إلاّ دعوى قائله، ولا مصدِّق له إلاّ مَن لا يُوثَق بمعرفته، ونعوذُ باللّه من فِتنة القول وخَطَله، ومن الإسهاب وتقحُّم أهله، والاعتمادُ فيما بيننا وبين كثيرٍ من أهل هذا الزمان على حسن الظنّ، والاتّكالُ فيهم على العُذر؛ فإنّ كثيراً ممّن يتكلّف قراءة الكُتب، ومدارسةَ العلم، يقِفون من جميع الكتب على الكلمة الضعيفة، واللَّفظة السَّخيفة، وعلى موضع من التأليف قد عرض له شيءٌ من استكراهٍ، أو ناله بعضُ اضطراب، أو كما يعرض في الكتب من سَقَطات الوهْم، وفَلَتات الضَّجَر، ومن خَطأ النّاسخ، وسوء تحفُّظ المعارِض على معنًى لعله لو تدبَّره بعقلٍ غير مفْسَدٍ، ونظرٍ غير مدخول، وتصفّحَه وهو محترِسٌ من عوارض الحسد، ومن عادة التسرُّع، ومن أخلاقِ مَن عسى أن يتَّسِع في القول بمقدار ضِيق صَدره، ويُرسل لسانَه إرسالَ الجاهل بِكُنْه ما يكون منه، ولو جعلَ بدلَ شُغله بقليلِ ما يرى من المذموم شُغْلََهُ بكثيرِ ما يرى من المحمود - كانَ ذلك أشبهَ بالأدبِ المرضيِّ والخِيم الصَّالح، وأشدّ مشاكلَةً للحكمة، وأبعدَ من سلطان الطَّيش، وأقربَ إلى عادة السَّلف وسيرة الأوَّلين، وأجدَرَ أن يَهَبَ اللّه له السَّلامة في كتبه، والدِّفاعَ عن حُجَّته يومَ مناضلةِ خصومه ومقارعةِ أعدائه. وليس هذا الكتابُ - يرحمك اللّه - في إيجاب الوَعد والوعيد فيعترض عليه المرجئ، ولا في تفضيل عليٍّ فَينصِب له العثمانيّ، ولا هو في تصويب الحكمَين، فيتسخّطَه الخارجيّ، ولا هو في تقديم الاستطاعة فيعارضَه من يُخالف التقديم، ولا هو في تثبيت الأعراض فيخالفَه صاحبُ الأجسام، ولا هو في تفضيل البَصرة على الكوفة، ومكة على المدينة، والشَّام على الجزيرة، ولا في تفضيل العجَم على العرب، وعدنانَ على قَحْطان، وعمرٍو على واصل فيردّ بذلك الهذيلي عَلَى النّظّامي، ولا هو في تفضيل مالكٍ على أبي حنيفة؛ ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النّابغة، وعامر ابن الطفيل على عمرو بن معد يكرب، وعباد بن الحصين على عبيد اللّه بن الحُرّ، ولا في تفضيل ابن سُريج على الغَريض، ولا في تفضيل سيبويهِ على الكسائيّ، ولا في تفضيل الجعفريِّ على العقيليّ، ولا في تفضيل حلم الأحنف على حِلم معاوية، وتفضيل قَتادة على الزّهري، فإنَّ لكلِّ صِنفٍ من هذه الأصناف شيعةً، ولكلِّ رجل من هؤلاء الرجال جُند، وعدداً يخاصمون عنهم، وسفهاؤهم المتسرعون منهم كثير، وعلماؤهم قليل، وأنصاف علمائهم أقلَّ.
ولا تنكر هذا - حفظكَ اللَّه - أنا رأيت رجُلين بالبصرة على باب مُويس بن عِمران، تنازعا في العنب النَّيروزيِّ والرازقيِّ، فجرى بينهما اللعين حتى تواثبا، فقطع الكوفيُّ إصبع البصريِّ، وفقأ البصريُّ عينَ الكوفيّ، ثم لم ألبَث إلاّ يسيراً حتى رأيتهما متصافيَين متنادمين لم يقعا قطّ على مقدار ما يُغضب مِن مقدار ما يُرضي، فكيف يقَعَانِ على مقادير طبقات الغضب والرضا? واللّه المستعان.
وقد ترك هذا الجمهورُ الأكبر، والسَّوَادُ الأعظمُ، التوقفَ عندَ الشبهة، والتثبُّتَ عند الحكومة جانباً، وأضربوا عنه صَفْحاً، فليس إلاّ لا أو نعم، إلاَّ أَنَّ قولهم لاَ موصول منهم بالغضب، وقولهم نعم موصولٌ منهم بالرِّضا، وقد عُزلت الحرِّيَّة جانباً، ومات ذِكرُ الحلال والحرام، ورُفض ذكر القَبيحِ والحسن.
قال عَمرو بن الحارث: كنَّا نُبغض من الرِّجال ذا الرياء والنَّفخ، ونحن اليوم نَتمنّاهما.
قد كتبْنا من كتاب الحيوان ستّة أجزاء، وهذا الكتابُ السابع هو الذي ذكرنا فيه الفِيل بما حضَرنا من جُمْلة القولِ في شأنه، وفي جملة أسبابه، واللّه الموفق.
وإنما اعتمدنا في هذه الكتب على الإخبار عمّا في أجناس الحيوان من الحجج المتظاهِرة، وعلى الأدلة المترادفة، وعلى التنبيه على ما جلَّلها اللّه تعالى من البرهانات التي لا تعرف حقائقُها إلا بالفكرة، وغشَّاها من العلامات التي لا تنال منافعها إلا بالعبرة، وكيف فرَّق فيها من الحكم العجيبة، والأحاسيس الدقيقة، والصنعة اللطيفة، وما ألهمها من المعرفة وحشاها من الجُبن والجرأة، وبصَّرها بما يُقيتُها ويُعيشها، وأشعرها من الفِطنة لما يحاول منها عدوُّها، ليكونَ ذلك سبباً للحذر، ويكون حذرُها سبباً للحِراسة، وحراستُها سبباً للسلامة، حتى تجاوزت في ذلك مقدارَ حراسة المجرِّب من الناس، والخائفِ المطلوب من أهل الاستطاعة والروِيَّة، كالذي يروى من تحارُس الغرانيق والكراكي، وأشكالٍ من ذلك كثيرة، حتى صار الناسُ لا يضرِبون المثلَ إلا بها، ولا يذمُّون ولا يمدحون إلا بما يجدون في أصناف الوَحْش من الطَّير وغير ذلك، فقالوا: أحذر من عقْعَق، وأحذَر من غراب، وأحذَر من عصفور، وأسمع من فَرْخ العُقاب، وأسمع من قُراد، وأسمعُ من فَرَس، وأجْبَنُ من صِفْرِد، وأسخَى من لافِظَة، وأصنع من تُنَوِّطٍ، وأصْنَع من سُرْفة، وأصنع من دَبْر، وأهدى من قَطاة، وأهدى من حمامٍ، وأَهدَى من جمل، وأزهى من غراب، وأَزْهى من ذباب، وأجرأ من اللَّيث، وأَكسب من الذِّئب، وأَخدع من ضَبّ، وأَرْوَغ من ثعلب، وأَعقّ من ضَبّ، وأَبرّ من هِرَّة، وأَسْرع من سِمْع، وأَظلم من حيَّة، وأَظلم من وَرَلٍ، وأكذبُ من فاخِتة، وأصدق من قطاة، وأمْوَق من رَخمة، وأحزَم من فَرْخ العُقاب.
 ونبَّهنَا تعالى وعزّ على هذه المناسبة، وعلى هذه المشاركة، وامتَحَن ما عندنا بتقديمها علينا في بعض الأمور، وتقديمنا عليها في أكثر الأمور وأراد بذلك ألاّ يُخْلِينَا من حُجة، ومن النَّظر إلى عبرةٍ، وإلى ما يعود عند الفكرة موعظة، وكما كره لنا من السهو والإغفال، ومن البطالة والإهمال، في كلِّ أحوالنا لا تُفْتَح أبصارُنا إلا وهي واقعةٌ على ضربٍ من الدلالة، وعلى شكل من أشكال البرهانات، وجعل ظاهرَ ما فيها من الآيات داعياً إلى التفكير فيها، وجعل ما استخزنها من أصناف الأعاجيب يُعرف بالتكشِيف عنها، فمنها ظاهرٌ يدعوك إلى نفسه، ويشير إلى ما فيه، ومنها باطنٌْ يَزيدك بالأمور ثقةً إذا أفضيتَ إلى حقيقته، لتعلم أَنَّك مع فضيلة عقلِك، وتصرُّف استطاعتِك إذا ظهر عجزُك عن عمل ما هو أعجز منك - أنّ الذي فضَّلك عليه بالاستطاعة والمنطق، هو الذي فضَّله عليك بضروبٍ أُخَر، وأنكما ميسَّران لما خُلقتُما له، ومُصَرَّفان لما سُخِّرتما له، وأن الذي يعجِز عن صَنعة السُّرْفة، وعن تدبير العنكبوت في قلتهما ومَهانتهما وضُعفهما وصِغَر جرمهما، لا ينبغي أن يتكبّر في الأرض ولا يمشِيَ الخُيَلاء، ولا يتهكَّمَ في القول، ولا يتألَّى ولا يستأمر، وليعلم أنَّ عقله منيحة من ربه، وأن استطاعتَه عاريَّةٌ عنده، وأنه إنما يستبقي النِّعمة بإدامة الشُّكْر، والتعرُّض لسلبها بإضاعة الشكر.
ثم حبَّب إليها طلب الذَّرء والسِّفاد الذي يكون مَجْلَبَةً للذرء، وحبَّب إليها أولادَها ونجلَها وذَرءها ونسلها، حتى قالوا: أكرم الإبل أَشدُّها حنيناً، وأكرم الصَّفايا أشدُّها حبّاً لأولادها، وزَاوَجَ بين أكثرها وجعل تألّفَها معَ بعضها من الطَّروقة إذا لم يكن الزِّواج لها خُلقاً، وجعل إلف العِرْس لها عادة، وقوَّاها على المسافَدة، لتتمَّ النعمة، وتعظم المنة، وألهمها المبالغةَ في التربية، وحُسْنَ التعبُّد، وشدَّة التفقُّد، وسوَّى في ذلك بين الجِنس الذي يُلَقِّم أولاده تلقيماً، وبين الذي يُرْضِعُها إرضاعاً، وبين الذي يزقُّها زَقّاً، وبين ما يحضن وما لا يحضن، ومنها ما أخرجها من أرحام البَيض وأرحام البطون كاسيةً، ومها ما أخرجها كاسيةً كاسِبة، وأمتَعَها وألذَّها، وجعلها نِعمةً على عباده، وامتحاناً لشكرهم، وزيادةً في معرفتهم، وجِلاءً لما يتراكم من الجهل على قلوبهم، فليس لهذا الكتاب ضدٌّ من جميع مَن يشهد الشهادة، ويصلِّي إلى القبلة، ويأكل الذَّبيحة ولا ضدٌّ من جميع الملحدين ممَّن لا يقرُّ بالبعث، وينتحل الشرائع وإن ألْحَدَ في ذلك وزاد ونقص، إلا الدَّهريَّ، فإن الذي ينفي الربوبيَّة، ويُحيل الأمرَ والنَّهيَ، ويُنكر جواز الرِّسالة، ويجعل الطِّينة قديمة، ويَجحد الثوابَ والعِقاب، ولا يعرف الحلالَ والحرام، ولا يقرُّ بأن في جميع العالَم برهاناً يدلّ عَلى صانعٍ ومصنوع، وخالق ومخلوق، ويجعلُ الفلك الذي لا يعرف نفسه من غيره، ولا يفصل بين الحديث والقديم، وبين المحسن والمسيء، ولا يستطيع الزيادةَ في حركته، ولا النُّقصانَ مِن دورانه، ولا مُعاقبةً للسُّكون بالحرَكة، ولا الوقوفَ طرْفَةَ عين، ولا الانحرافَ عن الجهة - هو الذي يكون به جميع الإبرام والنَّقض، ودقيقُ الأمور وجليلها، وهذه الحِكم العجيبة، والتدابير المتْقنة، والتأليف البديع، والتَّركيب الحكيم، على حسابٍ معلوم، ونسَق معروف، على غايةٍ من دقائق الحكمة وإحكام الصَّنعة.
 ولا ينبغي لهذا الدهريِّ أيضاً أن يعرِض لكتابنا هذا وإن دلَّ على خلافِ مذهبه، ودعا إلى خِلافِ اعتقاده، لأن الدَّهريّ ليس يرى أنَّ في الأرض ديناً أو نِحلةً أو شريعة أو مِلة، ولا يرى للحلال حُرْمَةً ولا يعرفه ولا للحرام نهايةً ولا يعرفه، ولا يتوقَّع العقابَ على الإساءة، ولا يترجّى الثواب على الإحسان، وإنما الصواب عنده والحقُّ في حُكْمه، أنه والبهيمةَ سِيّانِ، وأنه والسَّبُعَ سِيّان، ليس القبيحُ عنده إلاّ ما خالف هواه وليس الحسَن عنده إلاّ ما وافق هواه، وأن مدار الأمر على الإخفاق والدّرَك، وعلى اللذّة والألم، وإنما الصواب فيما نال من المنفعة، وإن قتلَ ألفَ إنسانٍ صالحٍ لِمَنالةِ درهم رديء، فهذا الدهريّ لا يخاف إن ترك الطّعْن على جميع الكتب عقاباً ولا لائِمة، ولا عذاباً دائِماً ولا منقطعاً ولا يرجو إنْ ذمّها ونَصَب لها ثواباً في عاجل ولا آجل.
فالواجبُ أن يسلم هذا الكتابُ على جميع البريَّة، إذا كان موضِعُه على هذه الصِّفة، ومُجراه إلى هذه الغاية، واللّه تعالى الكافي الموفِّق بلطفه وتأييده، إنه سميع قريب، فعال لما يريد.
ثم رجع بنا القولُ إلى الإخبار عن الحيوان، بأيِّ شيء تفاضلتْ وبأيِّ شيء خُصَّت، وبماذا أبينتْ، وقد عَرَفنا ما أُعطيت في الشَّمِّ والاستِرْواح، قال الرَّاجز وذكر الذئب:

بمِثل مِقْرَاعِ الصَّفا الموقَّعِ

 

يستخبِرُ الرِّيحَ إذا لم يسمَع

وقد عرفنا كيف شمُّ السّنانيرِ والسِّباع والذئاب، وأعجبُ من ذلك وِجدانُ الذَّرّة لرائِحة شيءٍ لو وضعْتَه على أنفك لَمَا وجدْتَ له رائِحةً، كرجل جرادةٍ يابسة منبوذةٍ، كيف تجدُ رائحتها من جوف جُحرها حتى تخرج إليها، فإذا تكلّفَتْ حملَها فأعجَزْتَها كيف تستدعي إليها سائر الذَّرّ، وتستعينُ بكلِّ ما كان منها في الجُحر.
ونحوِ شمِّ الفَرَس رائحةَ الحِجْر من مَسيرة ميل، والفرس يسير قُدُماً والحِجر خلفه بذلك المقدار، من غير تلفُّتٍ ولا معايَنةٍ من جهة من الجهات، وهذا كثيرٌ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، فأمّا السَّمع فدعنا من قوْلهم: أسمعُ من فَرس،: أسمع من فرْخ العقاب وأسمع من كذا، وأسمع من كذا، ولكنّا نقصد إلى الصّغير الحقير في اسمه وخطَره؛ والقليلِ في جسمه وفي قَدْره.
وتقول العرب: أسمع من قُراد، ويستدلون بالقِردان التي تكون حَوْل الماء والبئر، فإذا كان ليلة ورود القَرَب، وقد بعث القومُ من يصلح لإبلهم الأرشِيةَ وأداةَ السقي، وباتت الرجال عند الماء تنتظر مجيء الإبل، فإنها تعرف قربَها منهم في جوف الليل بانتفاش القِرْدان وسرعة حركتها وخشخشتها، ومرورها نحو الرعاء، وزجر الرعاء، ووقْع الأخفاف على الأرض، من غير أن يُحسّ أولئك الرجالُ حسّاً أو يشعروا بشيء من أمرها، فإذا استدلوا بذلك من القردان نهضوا فتلبَّبوا واتزرُوا وتهيؤوا للعمل.
فأمّا إدراك البصر فقد قالوا: أبصر من غراب وأبصر من فرس؛ وأبصر من هدهد وأبصر من عقاب.
والسَّنانير والفأرُ والجِرذان والسِّباع تُبصر بالليل كما تبصر بالنهار؛ فأمّا الطُّعم فيظنّ أنها بفرط الشَّرَه والشّهوة وبفرط الاستمراء وبفرط الحِرص والنَّهم، أن لذتها تكون عَلى قَدْر شَرهها وشهوتها، تكون على قدر ما ترَى من حركتها، وظاهر حرصها. ونحن قد نرى الحمار إذا عاين الأتان، والفرس إذا عاينَ الحِجْر والرمكة، والبغلَ والبغلةَ، والتيسَ والعنز فنظن أن اللذة على قدر الشهوة، والشهوة على قدر الحركة، وأن الصِّياحَ على قدر غلبة الإرادة. ونجد الرجال إذا اعتراهم ذلك لا يكونون كذلك إلاّ في الوقت الذي هم فيه أشدَّ غُلْمة وأفْرَط شهوة.
فإن قال قائل: إن الإنسان يغشى النِّساء في كلِّ حالٍ من الفصلين والصَّميمين، وإنما هَيْجُ السِّباع والبهائم في أيام من السنة ثم يسكن هيج التَّيس والجمل، فالإنسان المداوم أحسن حالاً.
قلنا: إنّا لم نَكن في ذكر المخايَرة بين نصيب الإنسان في ذلك مجموعاً ومفرَّقاً، وبين نصيب كلِّ جنسٍ من هذه الأجناس مجموعاً ومفرَّقاً، وإنما ذكرنا نفس المخالطة فقط، وما يدريكم أيضاً لعلها أَنْ تَسْتَوْفيَ في هذه الأيَّام اليسيرة أضعافَ ما يأتِي الإنسان في تلك الأيَّام الكثيرة.
 وعلى أنَّا قد نرى ممّا يعتري الحمارَ والفرسَ والبغلَ وضروباً كثيرة إذا عاينوا الإناث في غير أيام الهيج، وهاهنا أصنافٌ تُديم ذلك كما يُدِيمه الإنسان، مثل الحمام والدِّيَكَةِ وغير ذلك.
وقد علمنا أنّ السَّنانيرَ وأشباهَ السنانير لها وقتُ هيجٍ، ولكنَّ ذلك يكون مراراً في السّنة على أشدَّ مِن هَيج الإنسان، فليس الأمر على ما يظنّون.
فإن كان الإنسانُ موضعُ ذهنهِ من قلبه أو دماغه يكونُ أدقّ وأرقَّ وأنفَذَ، وأبصر، فإنّ حواسَّ هذه الأشكال أدقّ وأرقّ وأبْصر وأنفذ، وإن كان الإنسانُ يبلغُ بالروِيّة والتصفُّح، والتحصيل والتمثيل ما لا يبلغه شيءٌ من السِّباع والبهائم، فإنّ لها أموراً تدركها، وصنعةً تحذِقها تبلغُ منها بالطبائع سهواً وهويّاً ما لا يبلغ الإنسان في ما هو بسبيله إلا أن يُكرِه نفسَه على التفكير، وعلى إدامة التنقير والتكشيف والمقاييس فهو يستثقله.
ولكلِّ شيءٍ ضربٌ من الفضيلة وشكلٌ من الأمور المحمودة، لينفيَ تعالى وعز عن الإنسانِ العُجْب، ويقبِّح عنده البَطر، ويعرِّفه أقدار القَسْم.
وسنذكر من فطن البهائم وأحساس الوَحْش وضروب الطير أموراً تعرفون بها كثْرَةَ ما أودعها اللّه تعالى من المعارف، وسخَّر لها من الصنعة، ثم لا نذكر من ذلك في هذا الموضع إلاّ كلَّ طائر منسوبٍ إلى الموق، وإلاّ كلَّ بهيمةٍ معروفةٍ بالغثاثة، بعِدّةِ ما فيه أشْكالُها من المعرفة والفطنة، ولو أردنا الأجناسَ المعروفةَ بالمعارف الكثيرةِ، والأحساسِ اللَّطيفة، لذكرنا الفيلَ والبعير، والذَّرة والنملة، والذئب، والثعلب، والغرنوق، والنحلة، والعنكبوت، والحمامَ، والكلب، وسنذكر عَلى اسم اللّه تعالى بعضَ ما في البهائم والسِّباع والطير من المعرفة، ثم نخصُّ في هذا الكتابِ المنسوباتِ إلى المُوق، والمعروفاتِ بالغباوةِ وقِلة المعرفة، كالرَّخمة والزنبور، والرُّبَعِ من أولاد الإبل، والنَّسر من عظام الطير.
وقال المفضَّل الضبيّ: قلت لمحمد بن سهل راوية الكميت: ما معنى قول الكميت في الرَّخمة:

تُحَمَّقُ وهْيَ كيِّسة الحَويل

 

وذاتِ اسْمَيْنِ والألوانُ شَتَّى

بضائعة الجَنين ولا مَذُولِ

 

لها خِبٌّ تلوذُ به وليسـت

قال: كأَنّ معناه عندي حفظُ فراخها، أو موضع بيضها، وطلب طعمها، واختيارها من المساكن ما لا يَطُوره سبع طائر ولا ذو أربع، قال: فقلتُ: فأيُّ كيس عند الرّخمة إلاّ ما ذكرت، ونحن لا نعرف طائراً ألأم لؤماً ولا أقذَر طُعْمةً، وَلا أظهر مُوقاً منها، حتى صارت في ذلك مثلاً? فقال محمد بن سهل: وما حمقُها وهي تحضن بيضها، وتحمي فِراخها، وتحبُّ ولدها، ولا تمكِّنُ إلاَّ زوجها، وتقطع في أوَّل القواطع وترجِع في أوَّل الرواجع، ولا تَطير في التحسير، ولا تغترُّ بالشكير، ولا تُرِبُّ بالوكور ولا تسقط على الجَفير.
أمّا قوله: تقطع في أول القواطعِ وترجع في أوّل الرواجع فإنَّ الرُّماة وأصحابَ الحبائلِ والقُنَّاصَ إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنَّ القواطع قد قَطَعَتْ، فبِقطع الرّخمة يستدلُّون، فلا بدَّ للرَّخَمَةِ مِنْ أن تنجوَ سالمةً إذا كانت أوَّلَ طالعٍ عليهم.
وأمَّا قوله: ولا تُرِبُّ بالوُكور فإنّه يقول: الوكر لا يكون إلا في عُرْض الجبل، وهي لا تَرضى إلا بأعالي الهضاب، ثم مواضعِ الصّدوع وخِلالِ الصخور، وحيث يمتنعُ على جميع الخلقِ المصيرُ إلى فراخها، ولذلك قال الكميت:

كراجٍ على بيضِ الأنوق احتبالَها

 

ولا تجعلوني في رَجائيَ وُدَّكـم

والأنوقُ هي الرّخمة، وقال ابن نوفل:

يَصِيرُ إلى الخبيثِ مِن المَصِيرِ

 

وأنتَ كساقطٍ بينَ الـحـشـايا

تعاظُمِها إذا ما قـيل طِـيرِي

 

ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَـى بـعـيراً

من الطّير المُرِبَّة في الوكورِ

 

وإن قيل احملي قالت فـإنِّـي

وأما قوله: ولا تطير في التَّحسير، ولا تغترُّ بالشّكير فإنها تدعُ الطيرانَ أيام التحسير، فإذا نبت الشّكير - وهو أول ما ينبت من الريش - فإنها لا تَنهض حتى يصير الشكير قَصَباً، وأمَّا قوله: ولا تسقط عَلَى الجَفِير، فإنما يعني جعبة السِّهام، يقول: إذا رأته علمت أنّ هناك سهماً، فهي لا تسقط في موضع تخاف فيه وقع السِّهام. اتباع الرخم والنسور والعقبان للجيوش

والرَّخم والنّسور والعِقبان تتبع الجيوشَ لتوقع القتال وما يكون لها من الجيف، وتتبع أيضا الجيوشَ والحُجَّاج لما يسقط من كَسير الدَّواب، وتتبعها أيضاً في الأزمنة التي تكون فيها الأنعام والحُجور حواملَ، لِمَا تؤمِّل من الإجهاض والإخداج، قال النابغة:

كتائبُ من غَسّان غـير أَشـائِبِ

 

وَثِقْتٌ له بالنَّصْرِ إذْ قِيلَ قد غَدَتْ

أولئك قومٌ بأسهُم غـير كـاذبِ

 

بنو عمِّه دُنْيا وعمرُو بن عـامـر

عصائب طيرٍ تَهتدي بعصـائب

 

إذا ما غَزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقهـمْ

إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ

 

جوانح قـد أيقـنَّ أنّ قـبـيلـه

جُلوس شيوخٍ في مُسوك الأرانبِ

 

تراهُنّ خَلْفَ القَوْمِ خُزْراً عيونُهـا

فأخذ هذا المعنى حميد بن ثور الهلالي فقال:

من الطّير ينظُرْنَ الذي هو صانِعُ

 

إذا ما غزا يوماً رأيتَ عِـصـابةً

وقال آخر:

ويجعل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنا الذبُلِ

 

يكسُو السيوفَ نفوس النَّاكثين به

فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كلِّ مُرْتَـحَـل

 

قد عَوَّدَ الطَّيْرَ عاداتٍ وَثِقن بهـا

فقال الكميت كما ترى:

تحمّق وهي كيِّسةُ الحَوِيلِ

فزعم أن النَّاس يحمقونها وهي كيِّسة.
قول بعض الأعراب وقال بعضُ أصحابنا: قيل لأعرابيٍّ: أتحسن أنْ تأكلُ الرَّأْسَ? قال: نعم، قيل: وكيف تصنع به? قال: أبخصُ عينيه، وأَسْحَى خدَّيه، وأعفص أذنيه، وأَفكُّ لَحيَيْه، وأرْمي بالمخِّ إلى مَنْ هُو أحوجُ منِّي إليه، قيل له: إنك لأحمق من رُبَع، قال: وما حمق الرُّبَع? واللّه إنه لَيَجْتَنبُ العُدَاوَء ويتبع أمّه في المرعى، ويُرَاوِحُ بين الأطْباء، ويعلم أن حَنينها رُغاء، فأين حمقُهُ.

قتل المكاء للثعبان

وحدث ابنُ الأعرابيِّ عن هشام بن سالم، وكان هشام من رهْط ذي الرُّمّة، قال: أكلتْ حَيّة بيضَ مُكَّاء فجعل المُكَّاءُ يشرشِر على رأسها ويدنُو منها، حتى إذا فتحت فاها تريده وهمَّتْ به ألقى فيه حَسَكة، فلم يزل يُلقي فيه حسكةً بعد حسكة، فأخذَتْ بحلقها حتى ماتت.
وأنشد ابن الأعرابيِّ عند هذا الحديث قولَ الشاعر:

يُرِيد بتخْرِيق الأدِيم استلالَهَا

 

كأنَّ لكلّ عند كُلّ سخـيمةً

وأنشد أبو عمرو الشيباني بيت شعر، وهو هذا المعنى بعينه، وهو قول الأسدِيِّ الدُّبيريّ:

فرُبَّما قَتَلَ المُكَّاءُ ثُـعـبـانـا

 

إنْ كنتَ أبصَرْتني فذّاً ومُصْطَلَماً

يقول: قد يظفر القليل بالكثير، والقليلُ الأعوانِ بالكثير الأعوان؛ والمُكَّاء من أصغر الطير وأضعَفِه، وقد احتال للثُّعبان حتّى قتله.

قول جالينوس في معرفة أنثى الطير

وقال جالينوس في الإخبار عن معارف البهائم والطير، وفي التعجُّب من ذلك وتعجب الناس منه: قولوا لي: مَن عَلَّمَ النسرَ الأنثى إذَا خافت على بيضها وفراخها الخفافيش أن تفرِش ذلك الوَكْر بورق الدُّلْب حَتى لا تقربه الخفافيش، وهذا أعجب، والأطباء والعلماء لا يتدافعونه، والنُّسور هي المنسوبة إلى قلّة المعرفة والكيس والفطنة.

حزم فرخ العقاب

وقال ابن الأعرابيّ وأبو الحسن المدائني: قال رجلٌ من الأعراب: كان سنان بن أبي حارثة أحزَم من فرخ العقاب، وذلك أنَّ جوارح الطير تتخذ أوكارها في عُرْض الجبال، فربّما كان الجبلُ عموداً، فلو تحرَّك الفرخ إذا طلب الطعم وقد أقبل إليه أبواه أو أحدهما وزادَ في حركته شيئاً من موضع مَجثِمه لَهوَى من رأس الجبل إلى الحضيض، وهو يعرف مع صِغره وضُعفه وقلّة تجربته، أنّ الصواب في ترك الحركة.

اختلاف عادات صغار الحيوان

ولو وُضِع في أوكار الوحشيَّاتِ فرخٌ من فراخ الأهليَّات لتهافتن تهافُتاً كفراخ القطا والحجَل والقَبج والدُّرَّاج والدَّجاج؛ لأنَّ هذه تَدْرُجُ على البَسيط، وذلك لها عادة، وفراخ الوحشيّة لا تجاوز الأوكار؛ لأنها تعرِف وتعلم أنّ الهلكةَ في المجاوزة، وأولادُ الملاّحين الذين وُلدوا في السفن الكبار، والمنشآت العظام لا يخاف الآباءُ والأمَّهات عليهم إذا درجوا ومَشوا أنْ يقعوا في الماء، ولو أن أولاد سُكان القصور والدّور صاروا مكان أولادِ أرباب السفن لتَهافتوا، ولكلِّ شيء قَدْر، وله موضعٌ وزمانٌ وجهةٌ وعادةٌ.
فإذا استوى قصب ريش فرخ العقاب، وأحَسَّ بالقوة طار.
وأبَوَا فَرخ الخطّاف يعلِّمانه الطيران تعليماً.

الختان عند اليهود والمسلمين والنصارى

وزعم ناسٌ من أطبَّاء النصارى وهم أعداءُ اليهود، أن اليهود يختِنون أولادَهم في اليوم الثّامن، وأن ذلك يَقَع، ويوافِق أَنْ يكون في الصَّميمين، كما يوافق الفصلين، وأنّهم لم يرَوْا قَطّ يهوديّاً أصابه مكروه من قِبَل الخِتان، وأنهم قد رأَوْا من أولاد المسلمين والنصارى ما لا يُحصى مِمَّنْ لقي المكروهَ في ختانه إذا كان ذلك في الصَّميمين من ريح الحمرة، ومن قطع طَرَف الكمرة، ومن أن تكون المُوسَى حديثةَ العَهْد بالإحداد وسَقْي الماء، فتشيط عند ذلك الكَمرة ويعتريها بَرَص، والصبيّ ابن ثمانية أيام أعسرُ ختاناً من الغُلام الذي قد شَبَّ وشدن وقَويَ؛ إلاّ أَنَّ ذلك البرصَ لا يتَفشى ولا يعدو مكانَه، وهو في ذلك كنحو البرص الذي يكون من الكيِّ وإحراق النار، فإنهما يفحشان ولا يتسعان.

ختان أولاد السفلة وأولاد الملوك وأشباههم

ويختن من أولاد السِّفْلة والفقراء الجماعة الكثيرة فيؤمَن عليهم خطأُ الخاتن، وذلك غير مأمونٍ على أولاد الملوك وأشباهِ الملوك، لفِرط الاجتهاد، وشدّة الاحتياط، ومع ذلك يَزْمَعُ، ومع الزَّمَع والرِّعدة يقعُ الخطأُ، وعلى قدر رعدة اليد ينال القلبَ من الاضطراب على حسَب ذلك.
وليس من التدبير أن يحضُر الصبيّ والخاتنَ إلاّ سفلة الخدم، ولا يحضره من يهاب.

قدم ختان العرب

وهذا الختان في العرب في النِّساء والرجال من لدُنْ إبراهيم وهاجر إلى يومنا هذا، ثم لم يُولَد صبيٌّ مختونٌ قط؛ أو في صورةِ مختون.

ختان الأنبياء

وناسٌ يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وُلِدَا مختونين، والسَّبيلُ في مثل هذا الرُّجوعُ إلى الرواية الصحيحة، والأثر القائم.

أثر الختان في اللذة

قال: والبظراء تجد من اللذة ما لا تجدُه المختونة، فإنْ كانت مُستأصَلةً مستوعَبةً كان على قدر ذلك، وأصل ختان النساء لم يُحاوَلْ به الحسنُ دونَ التماس نُقصان الشهوة، فيكون العفاف عليهنَّ مقصوراً.
قال: ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للخاتنة: يا أم عطيَّة أشمِّيه ولا تَنْهَكِيه، فإنه أسْرَى للوَجْه، وأحظَى عند البعل، كأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ينقُص من شهوتها بقدر ما يردّها إلى الاعتدال؛ فإِن شهوتها إذا قلَّتْ ذهبَ التمتُّع، ونقَصَ حُبُّ الأزواج، وحبُّ الزَّوج قَيْدٌ دون الفجور، والمرأة لا تكونُ في حالٍ من حالات الجماع أشدَّ شهوةً منها للكَوْم الذي لقحت منه.
وقد كان رجلٌ من كبار الأشراف عندنا يقول للخاتنة: لا تقرضي إلاّ ما يظهر فقط.

أثر الختان في العفاف والفجور

وزعم جَناب بن الخَشخاش القاضي، أنه أحصى في قرية واحدة النساءَ المختونات والمُعْبرَات، فوجد أكثر العفائفِ مستوعَبات وأكثر الفواجر مُعْبَرَات.
وأن نساء الهند والروم وفارس إنما صار الزنا وطلب الرِّجال فيهنَّ أعم، لأنَّ شهوتهنَّ للرجال أكثر، ولذلك اتخذ الهند دوراً للزَّواني، قالوا: وليس لذلك علّة إلاّ وفارةَ البظْر والقُلْفة.
والهند توافِق العربَ في كلِّ شيء إلاّ في ختانِ النِّساء والرجال، ودعاهم إلى ذلك تعمُّقهم في توفير حظ الباه، قالوا: ولذلك اتخذوا الأدوية، وكتبوا في صناعة الباه كتباً ودَرَسُوها الأولاد، السحق  قالوا: ومن أكبر ما يدعو النساء إلى السحق أنهنَّ إذا ألصقن موضع مَحَزِّ الخِتان وجَدْنَ هناك لذَّةً عجيبة، وكلما كان ذلك منها أوفَرَ كان السَّحقُ ألذّ، قال: ولذلك صار حُذّاق الرِّجالِ يضعون أطراف الكمر ويعتمدون بها على محزِّ الختان، لأنَّ هناك مجتمع الشهوة.

ظمأ الأيِّل إذا أكل الحيات

ومن هذا الباب الذي ذكرنا فيه صِدقَ إحساس الحيوان؛ ثم اللاتي يضاف منها إلى المُوق وينسب إلى الغثارة، قال داود النبي عليه السلام في الزبور: شوقي إلى المسيح مثل الأيِّل إذا أكل الحيَّات، والأيِّل إذا أكل الحيَّات فاعتراه العطش الشديد تراه كيف يدور حَول الماء ويحجزه من الشرب منه علمُه بأنَّ ذلك عطبُه، لأن السموم حينئذٍ تجري مع هذا الماء، وتدخل مداخل لم يكن ليبلغها الطَّعامُ بِنفسه، وليس علم الأيِّل بهذا كان عن تجربةٍ متقدمة، بل هذا يوجد في أوّل ما يأكل الحيّاتِ وفي آخِره.
تعلُّق رؤوس الحيات في بدن الأيِّل وربما اصطيد الأيِّل فيجد القُنَّاصُ رؤوس الأفاعي وسائرِ الحياتِ ناشبةَ الأسنان في عنقه وجلد وجهه، لأنه يريدُ أكلها فرّبما بدرته الأفعى والأسود وغيرهما من الحيات فتعضُّه، وهو يأكلها ويأكل ما ينال منها ويفوته ما تعلق به منها بالعضِّ، فتبقى الرُّؤوس مع الأعناق معلَّقةً عليه إلى أن تنقطِع.

نصول قرن الوعل

قالوا: وليس شيءٌ من ذوات القرون ينصل قرنه في كلِّ عام إلا الوعل، فإذا علم أنَّه غير ذي قرن، وأنه عديم السلاح، لم يظهر من مخافة السباع، فإذا طال مُكثُه في موضعه سمن، فإذا سمن علم أن حركته تفقد وتبطئ، فزاد ذلك في استخفائه وقلَّة تعرُّضه، واحتالَ بألاَّ يكون أبداً على علاوة الريح، فإذا نجم قرنه لم يجد بُدّاً من أن يمظِّعه ويعرِّضه للشمس والريح، حتى إذا أيقن أنه قد اشتد أكثر المجيء والذهاب التماساً أن يذهب شحمه، ويشتد لحمه، وعند ذلك يحتال في البعد من السِّباع، حتى إذا أمكنه استعمال قرنيه في النزال والاعتماد عليهما، والوثوب من جهتهما، رجَع إلى حاله من مراعيه وعاداته، ولذلك قال عصام بن زفر:

قد مصَّه الدهر فما فيه بَلَـلْ

 

تَرجو الثَّوَاب من صبيح يا حَمَلْ

فلائذٌ منك بشِعبٍ من جَـبَـلْ

 

إن صبيحاً ظاعِنٌ فمحـتَـمِـلْ

 

 

كما يلوذ من أعاديه الوَعِـلْ

فضرب به المثل كما ترى في الاحتيال والهربِ من أعدائه: وقال الراجز:

وأخرج القَطْرُ القَرُوعَ الأعصَما

 

لما رأيتُ البرقَ قد تـبـسَّـمـا

قال ابن الأعرابيّ: إنما سمَّوا الوعلَ القَروع لأنه يقرع عَجْب ذنبه من الناحيتين جميعاً.

بيوت الزنابير

وقال ابن الكلبي: قال الشرقي بن القطامي ذات يوم: أرأيتم لو فكَّر رجل منكم عُمرَه الأطولَ في أن يتعرَّف الشيء الذي تتَّخذ الزنابيرَ بيوتها المخرَّقة بمثل المجاوب، المستوية في الأقدار، المتحاجزة بالحيطان، السخيفة في المنظر، الخفيفة في المحمل، المستديرة المضمر بعضها ببعض، المتقاربة الأجزاء، وهي البيوت التي تعلم أنها بُنيت من جوهرٍ واحد وكأنها من ورق أطباق صِغار الكاغد المزرّرة، قولوا لي: كيف جمعتْه? ومن أي شيءٍ أخذته، وهو لا يشبه البناء ولا النَّسجَ ولا الخياطة.
ولم يفسر ابن الكلبيّ والشرقيُّ في ذلك شيئاً، فلم يصِرْ في أيدينا منهما إلا التعجُّب والتعجيب، فسألت بعد ذلك مشايخ الأكرَة فزعموا أنها تلتقطه من زَبَد المُدود، فلا يدرى أمِن نَفْس الزَّبَدِ تأخذ، أم مِن شيءٍ يكون في الزَّبَد.
والذي عرَّف الزنابير مواضع تلك الأجزاء، ودلها على ذلك الجوهر هو الذي علَّم العنكبوتَ ذلك النسج، وقد قال الشاعر:

قفا عَنْكبُوتٍ سُلَّ من دُبْرِها غَزْلُ

 

كأنَّ قفا هارون إذ يَعْـتَـلـونَـهُ

وقد قال بلا علم.
وأما دودة القزّ فلا نشك أنها تخرجه من جوفها.

معرفة الحقنة من الطير

وتزعم الأطباء أنهم استفادوا معرفة الحُقنة من قِبل الطائر الذي إذا أصابه الحُصْر أتى البحرَ فأَخَذَ بمنقاره من الماء المالح، ثم استدخَلَه فمجَّه في جوفه، وأمكنَه ذلك بطول العنق والمِنقار، فإذا فعل ذلك، ذَرَق فاستراحَ.

ما يتعالج به الحيوان

 

والقنفذ وابن عِرسٍ إذا ناهشا الأفاعيَ والحيَّاتِ الكبارَ تعالَجَا بأكل الصَّعتر البرّيّ.
والعقاب إذا اشتكت كبدَها مِن رَفْعها الأرنَبَ والثعلبَ في الهواء وحَطِّها لهما مِرَاراً فإنها لا تأكل إلاّ من الأكباد حتى تبرأَ من وجَع كبدها.

رغبة الثعلب في القنفذ

قال: وسألتُ القُنّاصَ: ما رغبة الثعلب في أكل القنفذ وإن كان حشو إهابه شحماً سميناً، وفي ظاهر جلده شوك صلابٌ حدادٌ متقاربٌ كتقارُب الشعر في الجسد? فزعموا أنَّ الثعلبَ إذا أصابه قلبَه لظهره ثم بال على بطْنه فيما بين مغرِز عَجْبه إلى فكَّيه، فإذا أصابه ذلك البولُ اعتراه الأسَنُ فأسبَطَ وتمدَّد، فينقر عن بطنه، فمن تلك الجهة يأكل جميعَ بدنه ومسلوخِه الذي يشتمل عليه جلدهُ.

صيد الظربان للضب

وقالوا: وبشبيهٍ بهذه العلّة يصيد الظّرِبانُ الضبّ في جوف جُحْره حتى يغتصبه نفسَه؛ وذلك أنّه يعلم أنّه أنتن خلق اللّه قَسوة، فإذا دخل عليه جُحره سَدَّ خَصاصَه وفروجَه ببدنه، وهو في ذلك مستدبِرٌ له، فلا يفسو عليه ثلاثَ فَسَوَاتِ حتى يُعْطِيَ بيده فيأكله كيفَ شاءَ.
قالوا: وربّما فسا وهو بقرْب الهَجْمة وهي باركةٌ فتتفرَّق في الصحراء فلا يجمعُها راعِيها إلاّ بجهد شديد، ولذلك قال الشاعر:

أتت آلَ صقرٍ من ثوابٍ ولا شُكْرِ

 

لا تمنحوا صقراً فما لـمـنـيحةٍ

بِألأَمَ لؤماً قد علمناه مِن صقْـرِ

 

فما ظَرِبانٌ يُؤْبِسُ الضبَّ فَسْـوُهُ

ولذلك قال الراجز، وهو يذكر تكسُّب الظربان بفسوه لِطُعْمِهِ وقوته، كما يتكسَّب الناس بالصِّناعات والتِّجارات، فقال:

مستمسِكَيْنِ بالبِطانِ وَالحقَـب

 

باتا يُحكَّان عراصِيفَ القَـتَـبْ

وابن يزيدَ حَرَبٌ من الحَـرَبْ

 

كما يحُكُّ القينُ أطرافَ الخشَبْ

كالظَّرِبان بالفُسَاءِ يكتـسِـبْ

 

لا ينفع الصاحبَ إلاّ أن يَسُـبّ

ما قيل في بلاهة الحمام

قال ابن الأعرابيّ: قلت لشيخ من قريش: مَن علّمك هذا، وإنما يُحسِن من هذا أصحابُ التجارات والتكسُّب، وأنتَ رجلٌ مكفيٌّ مودّع? قال: علّمني الذي علم الحمامةَ على بَلَهها تقليبَ بيضها كي تعطي الوجهين جميعاً نصيبَهما من الحَضْن، ولخوف طباع الأرض إذا دام على الشِّقِّ الواحد.
والحمام أبله؛ ولذلك كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولون: كونوا بُلْهاً كالحمام، ألا ترى أنّ الحمام في الوجه الذي ألهمه اللّه مصالح ما يُعيشه، ويُصْلِح به شأنَ ذَرْئه ونسله - ليس بدونِ الإنسان في ذرئه ونسله، مع ما خُوِّل من المنطق، وأُلهم من العقل، وأُعطي من التّصريف في الوجوه?،

حيلة الفأرة للعقرب

وإذا جَمَعَ بعضُ أهل العَبث وبعضُ أهل التَّجرِبة بين العقرب وبين الفأرة في إناءِ زجاج، فليس عندَ الفأرة حيلةٌ أبلغُ من قرض إبرة العقرب فإمّا أنْ تموتَ من ساعتها، وإمَّا أنْ تتعجل السَّلامةَ منها، ثم تقتلَها كيف شاءت، وتأكلَها كيف أحبَّت.

علم الذرة

قال: ومَن علَّم الذّرَّة أن تفلق الحبَّةَ فتأكل موضع القِطمير لئلاّ تنبتَ فتفسُد، فإذا كانت الحبَّة من حبّ الكزْبُرة ففلقتها أنصافاً لم ترض حتى تفلِقها أرباعاً؛ لأن الكُزبُرة من بين جَميع الحبّ تنبُت وإنْ كانت أنصافاً، وهذا عِلْمٌ غامضٌ.
إذَا عرَفه الشّيخُ الفلاّح المجرِّب، والفاشكار الرئيس والأكَّار الحاذِق، فقد بلغوا النهاية في الرِّياسة.

معرفة الدبّ

وقال جالينوس: ومن علّم الدبّ الأنثى إذا وضعت ولدَها أنْ ترفعَه في الهواء أياماً تهرُب به من الذَّرِّ والنمل، لأنها تضعه كفِدْرة من لحمٍ، غيرَ متميِّز الجوارح، فهي تخاف عليه الذَّرَّ، وذلك له حتفٌ، فلا تزالُ رافعةً له وراصدة، ومُتفَقِّدَةً وَمُحَوِّلةً له من موضع إلى موضع، حتى يشتد وتنْفرج أعضاؤُه.
شعر لبشار وقال بشَّار الأعمى:

وفي المعيشةِ أبلاءٌ مـنـاكـيرُ

 

أما الحيَاة فكلُّ النَّاسِ يحفظُـهـا

والحظُّ شيءٌ عليه الدهر مقصورُ

 

وكلُّ قسمٍ فللعـقـبـان أكـثَـرُهُ

أمنِيَّة بشر أخي بشار

 

 

 

 

 

وقال بشر أخو بشّار - وكانوا ثلاثةً، واحد حنفيّ، وواحد سدوسيّ، وبشَّار عُقيليّ، وإنما نزل في بني سدوس لسبب أخيه - وقد كان قيل لأخيه: لو خيَّرك اللّه أنْ تكون شيئاً من الحيوان أيَّ شيءٍ كنتَ تتمنى أن تكون? قال: عُقاب، قيل: ولِمَ تمنّيت ذلك? قال: لأنَّها تَبيتُ حيثُ لا ينالها سَبُعٌ ذو أربعِ، وتَحِيدُ عنها سباعُ الطَّير.
وهي لا تعاني الصَّيد إلاّ في الفَرْط، ولكنّها تسلُب كلّ صَيُودٍ صَيْدَه، وإذا جامع صاحبُ الصقر وصاحبُ الشّاهين وصاحبُ البازي صاحبَ العقاب، لم يرسلوا أطيارهم خوفاً من العُقاب، وهي طويلة العمر، عاقَّة بولدها، وهي لا تحمِل على نفسها في الكَسْبِ، وهي إنْ شاءتْ كانت فوقَ كلِّ شيءٍ، وإن شاءتْ كانت بقُرْبِ كلِّ شيء، وتتغدّى بالعِراق وتتعشَّى باليمن، وريشُها الذي عليها هو فَروُها في الشتاء، وخَيْشُها في الصَّيف، وهي أبصرُ خلق اللّه.
هذا قولُ صاحب المنطق في عُقوق العقاب وجفائها بأولادها، فأمَّا أشعار العرب فهي تدلُّ على خلاف ذلك، قال دريد بن الصِّمَّة:

إذا اغتمست في الماءِ فَتْخَاءُ كاسِرُ

 

وكلُّ لَجُوجٍ في العِنانِ كـأَنَّـهـا

كما مَهَدَتْ لِلْبَعْل حسناءُ عـاقـرُ

 

لها ناهض في الوكر قد مَهَدَتْ له

المحمق من الحيوان

والحيوان المحمّق الرّخَمة والحُبارَى، قال عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه: كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتّى الحبارى.
وأنثى الذئاب، وهي التي تسمَّى جَهِيزة، والضبع، والنَّعجة، والعنز، هذه من الموصوفات بالمُوق جدّاً.
قال: ومن الحيوان ما ليس عنده إلا الجمالُ والحسن كالطاوس؛ وهو من الطير المحمَّق، وكذلك التُّدْرُجُ مع جماله وحُسنه وعجيب وَشْيه، والزرافةُ، وهي أيضاً موصوفة بالمُوق، وليس عندها إلا طَرَافة الصُّورة وغرابة النِّتاج، وهي من الخَلْق العجيب مَواضِعِ الأعضاء، ويتنازعها أشباهٌ كثيرة.
والفيل عجيب ظريف، ولكنه قَبيحٌ مَسيخ، وهو في ذلك بهيٌّ نبيلٌ، والعين لا تكرهه، والخنزير قبيح مَسيخ، والعين تكرهه، والقرد قَبيحٌ مليح.
وعند البَبْغاء والمُكَّاء والعندليب وابن تَمْرة مع صغر أجْرامها ولَطافة شُخوصها، وضَعْف أسْرِها، من المعرفة والكَيس والفِطنة والخُبث ما ليسَ عند الزَّرافة والطاووس والببغاء عجيب الأمر، ويقولون: عندليب وعندبيل، وهو من أصغر الطير.

ما قيل في حمق الأجناس المائية وفطنتها

فأما الأجناس المائية من أصناف السَّمك، والأجناس التي تُعايش السَّمك، فإنَّ جماعتَها موصوفَةٌ بالجَهل والمُوق وقِلَّة المعرفة، وليس فيها خُلُقٌ مذكور، ولا خَصْلة من خِصال الفِطَن، إلا كنحو ما يروى من صَيد الجرِّيِّ للجِرْذَان، وحَمْل تلك الدابة للغَرْقى حتى تؤدِّيَهم إلى الساحل.
شدة بدن السمكة والحية والسمكة شديدة البدن، وكذلك الحيّة، وكلُّ شيء لا يستعينُ بيدٍ ولا رجلٍ ولا جَناحٍ، وإنما يستعمل أجزاءَ بدنه معاً فإنه يكونُ شديد البدن.

حيلة الشبوط في التخلص من الشبكة

وخبَّرني بعضُ الصيّادين أنَّ الشبوطة تنتهي في النهر إلى الشَّبكة فلا تستطيع النفوذ منها، فتعلم أنها لا يُنجيها إلا الوثوب فتتأخّر قدرَ قابِ رُمح، ثم تتأخَّر جامعةً لجراميزها حتَّى تثِب، فربّما كان ارتفاعُ وثْبتِها في الهواء أكثرَ من عَشْرِ أذرُع، وإنما اعتمدَتْ على ما وصفنا، وهذا العملُ أكثرُ ما روَوْه من معرفتها، وليس لها في المعرفة نصيبٌ مذكور.

ما يغوص من السمك في الطين

وأنواعٌ من السمك يغوص في الطِّين، وذلك أنها تَنْخَر وتتنفَّس في جوفه، وتلزم أصول النبات إذا لم يرتفع، وتلتمس الطُّعم والسِّفاد.
ونحن لم نر قَطُّ في بطن دِجلةَ والفراتِ وجميع الأودية والأنهار، عند نضوب الماء، وانكشاف الأرض، وظهور وجه الطين، وعند الجزْر والنُّقصان في الماء في مَوَاخِر الصَّيْف وأيَّامِ مجاورة الأهلّة والأنْصاف جُحْراً قَطُّ، فضلاً على ما يقولُون، أنّ لها في بُطونِ الأنهار بيوتاً.

جِحَرة الوحش

ورأيْتُ عجَباً آخرَ، وهو أنّي في طولِ ما دخلت البَراريَّ، ودخلت البُلدان، في صحارى جزيرة العرب والرُّوم والشّام والجزيرة وغير ذلك، ما أعلمُ أني رأيتُ على لَقَمِ طريقٍ أو جادةٍ، أو شَرَكٍ مُصَاقِبٍ ذلك أو إذا جانبتُ الطُّرُق، وأمعنْتُ في البَراري، وضربت إلى الموْضِع الوحشي - جُحراً واحداً يجوز أن يدخله ضبع أو تيس ظباء، أو بعض هذه الأجناس الوحشيّة، وما أكثر ما أرَى الجِحَرةَ، ولكني لم أرَ شَىئاً يتسعُ للثّعلب وابنِ آوى، فضلاً على هذه الوحوش الكِبار مما هو مذكور بالتَّوْلَج والوِجار، وبالكِناس والعَرين.
وجُحْر الضبّ يسمَّى عريناً، وهو غير العَرين الذي يضاف إلى الشَّجَر.

حيلة الضب واليربوع

وأمَّا حفظ الحياةِ والبصَر بالكَسْبِ، والاحتراسُ مِن العدوّ والاستعداء بالِحِيَل، فكما أعَدَّ الضبُّ واليَربوع.

أوقات اختفاء الفهد والأيل

والفهد إذا سِمنَ عَرَف أنه مطلوب، وأنّ حركته قد ثقلت، فهو يُخفي نفسَه بجهده حتى ينقضِيَ ذلك الزمان الذي تسمن فيه الفهود، ويعلم أنّ رائحة بدنه شهيَّةٌ إلى الأسد والنَّمِر، وهو ألطفُ شمّاً لأراييح السباع القويَّة من شمّ السباع للرائحة الشهيّة، فهي لا تكاد تكون إلاّ على عُلاوةِ الريح.
والأيِّلُ ينصُل قَرْنَه في كلّ عام، فيصير كالأَجمِّ، فإذا كان ذلك الزمانُ استخفَى وهربَ وَكَمن، فإذا نبت قرنُه عرَّضَهُ للرِّيح والشَّمْسِ في الموضع الممتنعِ، ولا يظهرُ حتى يَصْلُب قرنه ويَصيرَ سلاحاً يمتنع به، وقرنُه مُصمَتٌ، وليس في جوفه تجويفٌ، ولا هو مصمتُ الأعْلَى أجوف الأسفل.

معرفة الإبل بما يضرها وما ينفعها

والبعير يدخل الرَّوضة و الغيَضة، وفي النبات ما هو غذاءٌ، ومنه ما هو سمٌّ عليه خاصة، ومنه ما يخرج من الحاليْن جميعاً، ومن الغِذاء ما يريده في حالٍ ولا يريده في حالٍ أخرى، كالحَمْضِ وَ الخَلَّة، ومنه ما يغتذيه غيرُ جِنسِه فهو لا يقرَبُه وإن كان ليس بقاتل ولا مُعْطِب، فمن تلك الأجناس ما يَعرفه برؤية العين دون الشمّ، ومنها ما لا يَعرفه حتّى يَشمَّه، وقد تغلِطُ في البِيش فتأكلُه، كصُنْع الحافرِ في الدِّفْلَى.
معرفة الإبل بالزجر والناقة تعرفُ قولَهم: حَل، والجمل يعرف قولهم: جاه، قال الراجز وهو يحمِّق رجلاً هَجاه:

يقُولُ جَاهِ يَثْنِيهِ بِحَـلْ

 

يقولُ للناقة قَوْلاً للجمَلْ

قدرة الحيوان على رفع اللبن وإرساله

وممَّا فضلت به السِّباعُ على بني آدمَ أنّ اللّه جعَلَ في طِباع إناث السباع والبهائم، من الوحشيّة والأهلية، رَفْعَ اللَّبن وإرسالَه عند حضور الولد، والمرأة لا تقدر أن تدرّ على ولدها وترفَعَ لبنها في صدرها إذا كان ذلك المُقَرَّبُ منها غيرُ ولدِها.
والذي أعطى اللّه البهائم من ذلك مثل ما تعرف به المعنى وتتوهَّمه.
اعلم أَنّ اللّه تعالى قد أقدر الإنسانَ على أن يحبس بولَه وغائطه إلى مقدارٍ، وأن يخرجهما، ما لم تكن هناك عِلَّةٌ من حُصْرٍ وأُسْر، وإنما يخرج منه بولُه ورَجِيعه بالإرادة والتوجيه والتهيؤ لذلك، وقد جعل اللّه حبْسَه وإخراجَه وتأخيرَه وتقديمَه على ما فسَّرْنا، فعلى هذا الطريق طوْقُ إناثِ السِّباع والبهائم، في رفْع اللّبَن.
حشر الحيوان في اليوم الآخر وقد قال اللّه جل ثناؤه: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"، فالكلمة في الحشر مطلقة عامّة، ومرسلةٌ غيرُ مستثنًى منها، فأوجب في عموم الخبَرِ على الطَّير الحَشْرَ، والطير أكثر الخلق، والحديث: إنَّ أكثرَ الخلْقِ الجراد.

ما يطرأ عليه الطيران

ومن العقارب طيَّارة قاتلة، وزعم صاحب المنطق أنَّ بالحبشَة حياتٍ لها أجنحةٌ.
وأشياءُ كثيرةٌ تطيرُ بعد أن لم تكن طيَّارة، مثل الدعاميص، والنَّمْلِ، والأرَضةِ، والجعلانِ.
والجرادُ تنتقل في حالاتٍ قبلَ نبات الأجنحة.
جعفر الطيار قالوا: وحين عظَّم اللّه شأن جعفر بن أبي طالب، خلق له جناحين يطير بهما في الجنّة، كأنه تعالى ألحَقَه بشبه الملائكة في بعض الوُجوه.
ما يطير ولا يسمى طيراً  وذكر اللّه الملائكةَ فقال: "أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ". ولا يقال للملائكة طير، ولا يقال إنها من الطّير، رفعاً لأقدارها.
ولا يقال للنمل والدعاميص والجِعلان والأرَضةِ إذا طارت: من الطَّير، كذلك لا يقال للجِرجِس والبَعُوضِ وأجناس الهمَج إنها من الطير، وضعاً لأقدارها عن أقدار ما يسمَّى طَيْراً، فالملائكةُ تطير ولا يسمُّونها طيْراً لرفْع أقدارِها عن الطير، والهمج يطير ولا يسمّى طيْراً لوضع أقدارها عن الطَّير.
ملائكة العرش وفي الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُنْشِدَ قولَ أميّةَ بن أبي الصَّلْت:

والنَّسرُ للأُخرَى وليثٌ مُرْصِدُ

 

رَجُلٌ وثورٌ تَحتَ رِجْلِ يَمينِـه

فقال: صدَق، وقوله نسر يعني في صورة نسر، لأنَّ الملَك لا يقال له نَسْرٌ ولا صقْرٌ ولا عُقابٌ ولا بازٍ.
ما جاء فيه الأثر من الطير وذكروا غرابَ نوح، وحمامة نوح، وهدهد سليمان، والنحل والدرّاج، وما جاء من الأثر في ذلك الديكِ الذي يكون في السماء.
وقال الناس: غراب نوح، وهدهد سليمان، وحمامة نوح، ورووا في الخطاف والصُّرَد.
أشرف الخيل والطير ولا نعرف شيئاً من الحيوان أشْرَفَ اسماً من الخَيل والطَّير، لأنّهم يقولون: فرس جواد، وفرس كريم، وفرسٌ وسيم، وفرس عَتيق، وفرس رائع.
وقالوا في الطير لذوات المخالب المعقَّفة، والمناسر المحدَّبة: أحرار، ومَضْرحِيَّات، وعِتاق؛ وكواسب، وجوارح، وقال لبيدُ بنُ ربيعة:

كَعتيقِ الطَّير يُغْضِي ويُجَلّ

 

فانتضَلْنَا وابنُ سَلْمَى قاعـدٌ

وقال الشّاعر:

عَمَلَ الرفِيقة واستلابَ الأخْرقِ

 

حُرٌّ صَنَعْنَاهُ لتُحْـسِـنَ كـفُّـهُ

ولولا أنا قد ذكرنا شأن الهدهُد والغراب والنمل وما ذكرها به القرآن، والخصالَ التي فيها من المعارف ومِنَ القَوْلِ والعمَل، لذكرناه في هذا الموضع.
ما جاء في ذكر الطير قال اللّه جلّ ثناؤه: "وَرَسُولاً إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإذْنِ اللّهِ"، وقال اللّه: "وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَائراً بِإذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ بِإذْنِي وَإذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي"، وقال: "وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُم لا يَعْلَمُونَ"، وقال اللّه: "أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ"، وقال: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصَْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارةٍ مِن سِجِّيل"، وقال اللّه: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد وَقَالَ يَا أَيُّها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ".
ولم يذكر منطق البهائم والسباع والهمج والحشرات.
وقال اللّه: "فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانوا يَنْطِقُونَ"؛ لأنك حيثما تجد المنطقَ تجد الرُّوح والعَقل والاستطاعة.
وقالوا: الإنسان هو الحيُّ الناطقُ، وقال اللّه: "فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقَالُوا هذا إلهُكمْ وَإله مُوسى"، وقال: "أفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً"، ثم قال: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ وَالطَّيْرِ" ولم يذكر شيئاً من جميع الخلق، وقد كان اللّه سخّر له جميعَ ذلك، ثم قال: "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ".
ولم يتفقد شيئاً ممَّا سخّر له، ولا دلَّ سليمانَ على مَلِكة سبأ إلاّ طائِرٌ. وقال اللّه: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ"، وقال اللّه: "وَإنْ منْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقهُون تَسْبِيحَهُمْ"، فلما ذكر داود قال: "وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ"، وقال اللّه: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهم أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، وقال: "وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ".
وقالوا: مَنطِق الطير، على التشبيه بمنطق الناس، ثم قالوا بعدُ: الصَّامت والناطق، ثم قالوا بعد للدار: تنطق.
وقال اللّه: "يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئةٍ قَبْلَ الحسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ".
وقال اللّهُ: "وَإذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ".
وكان عبدُ اللّه بن عبّاسٍ يقول: ليس يعني بقوله: "تُكلِّمُهُمْ" من الكلام، وإنما هو من الكَلْم والجِراح، وجمع الكَلْم كُلوم، ولم يكن يجعلُه من المنطق، بل يجعله من الخُطوط والوسم، كالكتاب والعلامة اللذين يقومان مقام الكلام والمنطق.
وقال الآخرون: لا نَدعُ ظاهرَ اللفظ والعادةَ الدالّة في ظاهر الكلام، إلى المجازات، قالوا: فقد ذكر اللّه الدابّة بالمنطق، كما ذكروا في الحديث كلام الذئب لأهبان بن أوس، وقولُ الهدهد مسطورٌ في الكتاب بأطول الأقاصيص، وكذلك شأن الغراب.
وقال اللّه: "وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وجعل اللّه مقالة النملة قرآناً، وقال: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ، وَلاَ طائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ"، وقال في مكان آخر: "وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ"، وقال: "وَالطَّيْرَ مَحْشورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ"، وذكر الملائكة فقال: "أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ".
وأنشدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قول أميّة بن أبي الصَّلت:

والنَّسْرُ لِلأُخْرَى وَلَيْثٌ مَرْصَدُ

 

رَجُلٌ وَثَوْرٌ تحتَ رِجْلِ يَمِينِـهِ

فقال: صدق.
وخلق اللّه لجعفرٍ جناحَين في الجنّة، عوضاً من يديه المقطوعتين في سبيل اللّه، قالوا: ولو كانت في الأرض يدٌ تفضل الجناحَ لجعلها اللّه بدل الجناح، وسمّاه المسلمون الطيّار.
ويقال: ما هو إلا طائر، إذا أرادوا مديح الإنسان في السُّرعة، وقال الفرزدق:

وخَلَّفوا في جُؤاثَا سيِّدَيْ مُضَـرَا

 

جاؤوا مع الرِّيح أو طارُوا بأجنحةٍ

والأمم كلُّها تضرب المثلَ بعَنقاءِ مُغْرِبٍ، وقد جاء في نسر لقمان ما قد جاءَ من الآثار والأخبار، وقال الخزرجي:

قد ضجَّ مِن طُول عُمـره الأبَـدُ

 

إنّ مُعـاذ بـنَ مُـسـلـمٍ رَجُـلٌ

دَّهْـرُ وأثـوابُ عـمْـرِه جُـدُدُ

 

قد شابَ رأسُ الزَّمانِ وَاخْتَضَبْ ال

تسحَـبُ ذَيلَ الـحـياةِ يا لُـبَـدُ

 

يا نَسْرَ لقمانَ كـمْ تَـعـيشُ وكـم

وأنتَ فـيهـا كـأنّـكَ الـوتِـدُ

 

قد أصبـحـتْ دارٌ آدمٍ خَـرِبَـتْ

كيفَ يكونُ الصُّـدَاعُ و الـرّمـدُ

 

تسألُ غِرْبانَـهـا إذا حـجَـلَـتْ

وقال النابغة:

أخنَى عليها الذي أخنى علَى لُـبَـدِ

 

أضَحَتْ خَلاءً وأضْحَى أهلُها احْتَمَلوا

وقال اللّه: "وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً" لأن ذلك الصنم كان عَلَى صورة النَّسر.
وقالوا: أحرار فارسَ، وأحرار الرَّياحين، وأحرار البقول، وأحرار الطير، وهي الأحرار، والعتاق، والكواسبُ، والجوارح، والمضرحِيّات.
 بعض ما قيل في العقل وقيل لرجل من الحكماء: متَى عقَلتَ? قال: ساعَةَ وُلِدْتُ، فلما رأَى إنكارَهم لكلامه قال: أمّا أنا فقد بكيت حِينَ خِفْت، وطلبت الأكل حين جُعْتُ، وطلبت الثَّدَى حين احتَجْت، وسكتُّ حين أُعطيت، يقول هذه مقاديرُ حاجاتي، ومن عَرَف مقادير حاجاته إذا مُنِعَها، وإذا أُعْطِيَها، فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثرَ من ذلك العقل، ولذلك قال الأعرابيّ:

بَعِيدٌ من الآفـات طـيبةُ الـبَـقْـلِ

 

سَقَى اللّهُ أرضاً يعلم الضّـبُّ أنّـهـا

وكلُّ امرئٍ في حِرْفة العَيش ذُو عَقْلِ

 

بني بيتَه منهـا عَـلَـى رأس كُـدْيةٍ

منطق الطير وعقله فإن قال قائل: ليس هذا بمنطق، قيل له: أما القرآن فقد نطَق بأنّه منطِقٌ، والأشعارُ قد جعلته مَنطِقاً، وكذلك كلامُ العرب، فإن كنتَ إنما أخرجتَه من حدِّ البيان، وزعمت أنّه ليس بمنطقٍ لأنك لم تَفهم عنه، فأنتَ أيضاً لا تفهم كلامَ عامَّةِ الأمم؛ وأنتَ إن سمَّيْتَ كلامَهم رَطانةً وطَمْطمةً فإنّك لا تمتَنِعُ من أن تزعم أنّ ذلك كلامُهم ومنطقُهم، وعامّة الأمم أيضاً لا يفهمون كلامَك ومنطِقَك، فجائزٌ لهم أن يُخْرِجوا كلامَك من البيان والمنطِق، وهل صار ذلك الكلامُ منهم بياناً ومنطقاً إلاّ لتفاهمهم حاجةَ بعضهم إلى بعض، ولأنّ ذلك كان صوتاً مؤلّفاً خرج من لسانٍ وفمٍ، فهلاَّ كانت أصواتُ أجناس الطير والوحش والبهائم بياناً ومنطقاً إذْ قد علمتَ أنّها مقطعة مصوّرة، ومؤلّفة منظمة، وبها تفاهموا الحاجات، وخرجت من فمٍ ولسان، فإن كنتَ لا تفهم من ذلك إلاّ البعض، فكذلك تلك الأجناس لا تفهَمُ من كلامك إلاّ البعض.
وتلك الأقدارُ من الأصوات المؤلّفة هي نهايةُ حاجاتِها والبيان عنها، وكذلك أصواتك المؤلَّفةُ هي نهايةُ حاجاتك وبيانِك عنها، وعلى أنّك قد تعلِّم الطَّيرَ الأصوات فتتعلّم، وكذلك يُعلَّم الإنسانُ الكلامَ فيتكلَّم، كتعليم الصبيِّ والأعجميّ، والفرقُ بين الإنسان والطير أنّ ذلك المعنى معنًى يسمَّى منطقاً وكلاماً على التشبيه بالنَّاس، وعلى السبب الذي يجري، والنَّاسُ ذلك لهمْ على كلّ حال.
وكذلك قال الشاعر الذي وصفَها بالعقل، وإنما قال ذلك على التَّشْبيه، فليس للشاعر إطلاق هذا الكلام لها، وليس لك أن تمنعها ذلك من كلِّ جهةٍ وفي كلّ حال، فافهم فهَّمك اللّه، فإنَّ اللّه قد أمرك بالتفكّر والاعتبار، وبالتعرُّف والاتِّعاظ.
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ مخبِراً عن سليمان: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ" فجعل ذلك منطقاً، وخصَّ اللّه سليمانَ بأنْ فَهَّمه معانيَ ذلك المنطق، وأقامه فيه مقامَ الطّير؛ وكذلك لو قال عُلِّمنا منطقَ البهائم والسِّباع، لكان ذلك آيةً وعلامة.
وقد علّم اللّهُ إسماعيلَ منطِق العرَب بعد أن كان ابنَ أربعَ عشرة سنة، فلما كان ذلك على غير التلقين والتأديب والاعتياد والترتيب والمنشأ، صار ذلك برهاناً ودلالةً وأُعجوبةً وآية.
وقال ابنُ عبّاس - وذكر عمرَ بن الخطاب فقال -: كان كالطائر الحذِر؛ فشبّه عزْمَ عمرَ وتخوّفَه من الخطأ، وحذَره من الخُدع بالطائر.
ما قيل في تجاوب الأصداء والديكة وقال ابن مقبل:

ولا يخرّقه نابي ولا ظفُرِي

 

فلا أقومُ عَلَى المَوْلَى فأشتُمه

إذا تجاوبت الأصداءُ بالسَّحَرِ

 

ولا تَهيَّبُني المَوْماةُ أركبُهـا

فجعلها تتجاوب، وقال الطرِمّاح بنُ حكيم - وذكر تجاوب الدِّيَكة كما ذكر ابنُ مقبلٍ تجاوبَ الأصْدَاء - فقال:

بِبَمٍّ ونبِّهْ ذا الـعِـفـاء الـمـوشَّـحِ

 

فيا صُبْحُ كَمِّشْ غُبَّرَ اللّيْلِ مُـصْـعِـداً

حِماشُ الشَّوَى يصدَحْنَ مِنْ كلِّ مَصْدَحِ

 

إذا صاح لم يُخْذَلْ وجـاوَبَ صـوتَـهُ

ما قيل في ضبحة الثعلب وقبعة القنفذ والقرنبى وحدَّثَ أبو عبيدةَ عن أبي عمرو بن العلاء قال: خطب ابن الزبير خطبة فاعترض له رجلٌ فآذاه بكلمة، ثم طأطأ الرَّجلُ رأسَه، فقال ابنُ الزُّبير: أين المتكلم? فلم يجبْه فقال: قاتله اللّه، ضبح ضَبْحَةَ الثَّعلب وقبَعَ قِبْعةَ القُنفذ، وقال ابن مقبل:

قَبُوعَ القَرَنْبَى أخلفَتْهُ مجاعرُهْ

 

ولا أتَبَعُ الجاراتِ باللَّيْلِ قابعاً

ما جاء في الشعر من إحساس الطّير..

وغير ذلك من الحيوان

قال أبو عبيدة: تسلَح الحُبارَى على الصّقر، وذلك من أحدِّ سِلاحها، وهي تعلم أنّها تدبّق جناحَيه وتكتِفُه، حتى تجتمع عليه الحُبارَيات فينتفن ريشه طاقةً طاقة، فيموت الصَّقْر.
والحُبَارَى إذا تحسَّرت فأبطأ نبْت ريشِها، وهي لا تنْهض بالشَّكير، فربَّما طار صُويحباتها إذا تقدَّمَ نبْتُ ريشها قيل نبْت ريش تلك الحُبارى، فعند ذلك تكْمَد حزناً حتى تموت كمداً؛ ولذلك قال أبو الأسود الدّؤليّ:

إذا ظعنَتْ مَليحة أو تُلِمُّ

 

وزيدٌ ميّت كَمَدَ الحُبَارى

وليس في الطَّيْر أسرعُ طيراناً منها، لأنها تَصَادُ عِندنا بظهر البصرة، فيوجَد في حواصلها حبَّة الخضراء غضّةً طريَّة، وبينها وبين مواضع ذلك الحبِّ بلادٌ وبلاد، ولذلك قال بشر بن مروان، في قتل عبد الملك عَمرو بنَ سعيدٍ:

بُغاثٌ من الطَّيْرِ اجتمَعْنَ عَلى صَقْر

 

كأنّ بني مـروانَ إذ يقـتـلـونـه

وبُغَاث الطّيْر ضعاف الطير وسَفِلَتها من العِظام الأبدان، والخشاش مثلُ ذلك إلا أنها من صغار الطّير، وأنشد أبو عبيدة قول الشاعر:

بأندَلُسٍ وأندَلـسٌ بـعـيدُ

 

سألتُ النّاسَ عن أنسٍ فقالو

أصابَ جَناحَه عنَتٌ شـديدُ

 

كأنّي بعد سكن مَضرِحـيٌّ

وكانت عن عَقِيرَتِه تحـيدُ

 

فقد طمِعت عِتاقُ الطّيرِ فيه

وقال الذَّكوانيّ:

وكلَّ مكبَّدٍ منهـا لَـهِـيدِ

 

بِفَاثُ الطّير تعرِف قانِصِيهَا

يقول: لكلِّ جنس من الجوارح ضربٌ من الصيد، وضربٌ من الطلب، فالمصِيد منها يعرف ذكر، فيجعل المهرب من الآخر، ثم ذلك أنها تعرف الصائد المعتلّ من الصحيح، وهو معنى الخرَيمي حيث يقول:

ويعلم أقدارَ الجوارحِ والبُغْثِ

 

ويعلم ما يأتي وإنْ كان طائراً

وقوله البُغْث يريد به جمع أبغث، وقال الأوَّل:

وأمُّ البازِ مِقْلاتٌ نَـزُورُ

 

بُغاث الطَّيْرِ أكثرها فروخاً

وأنشدني ابن يسير:

كذاك جميعُ الناس في الجَدِّ والطَّلَبْ

 

بالجَدّ طوراً ثـم بـالـجِـدّ تـارةٌ

والجَدُّ مفتوح الجيم، يقول: الطير كالناس، فمرَّة تصيد بالحظّ وبما يتفق لها، ومرَّةً بالحيلة والطَّلب، وقال بشّار بنُ برْد:

وبجَدِّهِ يتقلّبُ العصفور

قال: وقال زاهر لصبيانه: يرزقكم الذي يرزُق عصافير الدوّ، وقال صالح المُرّيّ: تغدو الطّيرُ خِماصاً وتَرُُوحُ شِباعاً، واثقة بأنّ لها في كلِّ غدْوةِ رزقاً لا يفوتُها، والذي نَفْسي بيده أنْ لو غدوتُم على أسواقكم على مثل إخلاصها، لرُحْتم وبطونُكم أبطنُ من بطون الحوامل.
وقال أعشى هَمْدان:

أين الدَّراهم عَنّا والـدَّنـانـيرُ

 

قالت تعاتبني عِرْسي وتسألُـنـي

والدَّهر ذو مرَّةٍ عسرٌ وميسورُ

 

فقلتُ أنفقْتُها واللّهُ يُخْـلِـفُـهَـا

من قبلهم في مَراعيها الخنازيرُ

 

إنْ يرزقِ اللّهُ أعدائي فقد رُزِقَتْ

وما لَدَيْكَ من الخبرات قِطمـيرُ

 

قالت: فرزقُك رزقٌ غيرُ متَّسعٍ

يوماً فيوماً كما تحيا العصافـير

 

وقد رضيتَ بأن تحيا على رَمَقٍ

وإنما خصَّ العصافير بقلَّة الرِّزق، لأنها لا تتباعد في طلب الطعم؛ وإلا فإنّ السِّباعَ ووحشَ الطَّير كلّها تغدو خِماصاً وتروح بطاناً.
وقال لبيد:

عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسحَّرِ

 

فإنْ تسألينا فيم نحـنُ فـإنّـنـا

وقال:

وأجرأُ من مجلِّحة الذئابِ

 

عصافـيرٌ وذِبَّـانٌ ودودٌ

ولولا أنّ تفسير هذا قد مرَّ في باب القول في العصافير في كتاب الحيوان لقلنا في ذلك.

اختلاف طبائع الحيوان وما يعتريها من الأخلاق

الذئب لا يطمع فيه صاحبُه، فإذا دَمِيَ وثب عليه صاحبُه فأكلَه، وإذا عضَّ الذِّئْبُ شاةً فأفلتتْ منه بضربٍ من الضروب، فإنَّ عادة الغنم إذا وجدَتْ ريحَ الدَّمِ أن تشمَّ موضع أنياب الذئب، وليس عندها عند ذلك إلاّ أن ينضمَّ بعضها إلى بعض؛ ولذلك قال جريرٌ لعُمر بن لجأ التَّيميّ:

وتَيمٌ يَشمُّونَ الفَرِيسَ المَنَيَّبَا

 

فلا يضغمَنَّ اللَّيْثُ تَيماً بِغِرَّةٍ

فذكر أنّهم كالغنم في العجز والجُبن، وإذا دَمِيَ الحمارُ ألقى نفسَه إلى الأرض وامتنع ممن يريده بالعضّ وبكلِّ ما قدر عليه، غير أنه لا ينهض ولا يبرحُ مكانَه، وإذا أصاب الأسدَ خَدْش أو شَحْطَة بعد أن يَدْمَى مكانَه فإنَّ ذبَّان الأسد تلحُّ عليه، ولا تُقْلع عنه أبداً حتى تقتله.
وللأُسود ذِبَّانٌ على حدة، وكذلك الكلاب، وكذلك الحمير، وكذلك الإبل، وكذلك الناس.
وإذا دَمِيَ الإنسانُ وشمَّ الذئبُ منه ريحَ الدَّم فما أَقَلَّ من يَنْجُو منه؛ وإن كان أشدّ الناس بدَناً وقلباً، وأتَمَّهم سِلاحاً، وأثقفَهم ثقافة.
وإذا دَمِيَ الببرُ استكلب فخافه كلُّ شيء كان يسالمهُ مِن كبار السِّباع كالأسود والنُّمور، والببر على خلاف جميع ما حكينا.
وإذا أصاب الحية خدْشٌ فإِنَّ الذرَّ يطالبه أشدَّ الطلب، فلا يكاد ينجو، ولا يعرف ذلك إلا في الفَرْط.
وإذا عضَّ الإنسانَ الكلبُ الكلِبُ فإنَّ الفأر يطالبه ليبولَ عليه، وفيه هَلَكَتُهُ، فهو يحتال له بكلِّ حيلة.
وربما أغَدَّ البعير فلا يعرف ذلك الجمَّالُ حتى يرى الذّبّانَ يطالبه.
وإذا وضعت الذِّئبةُ جَرْوَها فإنه يكون حينئذ ملتزقَ الأعضاء أمْعَطَ كأَنه قطعة لحم، وتعلم الذِّئبة أنّ الذرَّ يطالبه، فلا تزال رافعة له بيديها، ومحوِّلةً له من مكانٍ إلى مكان، حتى تفرج الأعضاء، ويشتدّ اللحم.
وإذا وضعت الهرَّة جروَها فإنْ طرَحُوا لها لحماً من ساعتها أو رُوبة أو بعض ما يشبه ذلك فأكلته، لم تكد تأكل أجراءها، لأنّ الهرة يعتريها عند ذلك جُوعٌ وجُنون وخفَّة.
والأجناس التي تحدث لها قوَّةٌ على غير سبب يعرف في تقدير الرأي منها الذِّئبُ الضعيف الواثبُ على الذِّئب القويّ إذا رأى عليه دماً، والهِرَّةُ إذا سفِدها الهرُّ، فإنها عند ذلك تشدُّ عليه وهي واثقةٌ باستخذائه لها، وفضْل قوَّتها عليه، والجُرذ إذا خصِي فإنّه يأكل الجرذان أكلاً ذريعاً ولا يقوم له شيءٌ منها.
فأمَّا الفيل والكركدَّنَ والجمل، عند الاغتلام وطلَب الضِّراب، فإنها وإن تركت الشُّرْبَ والأكلَ الأيّامَ الكثيرة فإنّه لا يقوم لشيءٍ منها شيء من ذلك الجنس وإن كان قويّاً شاباً آكلاً شارباً.
وأمَّا الغيرانُ والغَضبان والسَّكران والمُعاين للحرب، فهم يختلفون في ذلك على عللٍ قد ذكَرْناها في القول في فضيلة المَلَك على الإنسان، والإنسان على الجانّ، فإنْ أردتَه فالتمسْهُ هناك، فإنَّ إعادة الأحاديث الطوال والكلامَ الكثيرَ مما يُهجر في السَّماع، ويهجِّن الكتب.

ما يستدل به في شأن الحيوان على حسن صنع اللّه

وإحكام تدبيره، وأن الأمور موزونة مقدرة، قالوا: الأشياء البيَّاضة طائر، ومشترك، وذو أربع، ومُنْساح، فمنها ما يبيض في صُدوع الصَّخر وأعالي الهِضاب، ومنها ما يعيش في الجِحَرة كسائر الحيات.
وأما الدَّسَّاس منها فإنَّها تلد ولا تبيض، وهي لا تُرضِع ولا تُلقِم، والخفَّاش تَلد ولا تبيض وترضع، وهذا مختلف.
والدَّجاج والحجَل والقَطا وأشباه ذلك من الدّرَاريج وغيرِها أفاحيصُها في الأرض.
والحمام منها طُورانّي جبَلِيّ، ومنها أَلوفٌ أهليّ، فالجبليُّ تبيض في أوكارٍ لها في عُرْض مقاطع الجبال، والأهليُّ منها يبيض في البيوت، والعصافير بيوتُها في أصول أجذاع السُّقُف، والخطاطيف تتّخذ بيوتَها، في باطن السقف في أوثق ذلك وأمْنَعِه، والرّخَم لا ترضَى من الجِبال إلا بالوحشيّ منها، ومن البعيد في أسحَقِها وأبعدها عن مواضع أعدائها، ثم من الجبال إلاّ في رؤوس هضابها، ثم من الهضاب إلا في صدوع صخورها، ولذلك يُضرب بامتناع بيِضها المثل.
وأما الرِّقّ والضِّفدِع والسُّلَحفاة والتمساح، وهذه الدوابّ المائية، فإنها تبيض في الأرض وتحضن، وأمَّا السَّراطِين فإنَّ لها بيوتاً في عُرْض شُطوط الأنهار والسّواقي، تمتلئ مرةً ماءً وتخلو مرة.
ومن الحيوان ما لا يجثم، كالضبَّة فإنها لا تجثِمُ على بيضها، ولكن تغطّيها بالتراب وتنتظر أيّام انصداعها.

مواضع الفراخ والبيض

فإذا كان مواضع الفِراخ والبيض من القطا وأشباه القطا فهو أفحوصة، وإذا كان من الطير الذي يهيئ ذلك المجثَِمَ من العِيدان والرِّيش والحشيش فهو عُشّ، وإذا كان من الظّليم فهو أُدْحِيّ، ذكر ذلك أبو عبيدة والأصمعي، وكلُّها وُكور ووكون، ووُكنات ووَكَرات.

أكثر الحيوان بيضاً وأقله

فالذي يبيض الكثيرَ من البيض الذي لا يجوزه شيءٌ في الكثرة السَّمَك، ثم الجراد، ثم العقارب، ثم الضَّبة، لأن السَّمَكَ لا تزقُّ ولا تلقِم ولا تُلحِم ولا تحضُن ولا تُرضع، فحين كانت كذلك كثَّر اللّه تعالى ذَرْءَها وعددَ نسلِها، فكان ذلك على خلاف شأن الحمام الذي يُزاوِج أصنافَ الحمام ومثل العصافير والنَّعام، فإنها لا تزاوج.
فأما الحمام فلما جعله اللّه يزق ويحضن، ويحتاج إلى ما يغتذيه و يغذو به ولده، ويحتاج إلى الزَّق، وهو ضربٌ من القيء، وفيه عليها وهْنٌ وشدَّة، ولذلك لا يُزْجَل إذا كان زاقًّا، فلما أن كان كذلك لم يحمل عليها أكثر من فرخين وبيضتين.
ولما كانت الدَّجاجة تحضن ولا تزُقّ، وهي تأكل الحبَّ وكلَّ ما دبّ ودَرَجَ، زاد اللّه في بيضها، وعدد فراريجها، ولم يجعل ذلك في عدد أولاد السَّمك والعقارب والضِّباب التي لا تحضُن البتةَ ولا تزُقّ ولا تُلقِم.
ولما جعَلَ اللّه أولادَ الضبّ لها معاشاً، زاد في عدد بيضها وفراخها، وصار ما يسلمُ كثيراً غير متجاوزٍ للقدر.
وكذلك الظَّليم، لما كان لا يزق ولا يحضن اتسَع عليه مطلبُ الرِّزق من الحبوب وأصول الشَّجر.
وجعلها تبيض ثلاثينَ بيضةً وأكثر، وقال ذو الرمة:

أبو ثلاثين أمسى فهو منقلبُ

 

أذاك أم خاضبٌ بالسِّيِّ مَرْتَعُه

وبيضها كبارٌ، وليس في طاقتها أن تَشتمل وتجثم إلاّ على القليل منها، وكذلك الحيَّة تضع ثلاثين بيضةً، ولها ثلاثون ضِلعاً، وبيضها وأضلاعها عدد أيام الشَّهر، ولذلك قويَت أصلابها لكثرة عدد الأضلاع، وحمل عليها في الحضن بعض الحمل إذْ كانت لا ترضع.

أثر الإلقام والزق في الحيوان

والطائر الذي يُلقِم فرخه يكون أقوى من الطائر الزاقّ، وكذلك من البهائم المرضِعة.
ولما كانت العصافير تصيد الجراد والنمل والأرَضَة إذا طارت، وتأكل الحبَّ واللَّحم، وكانت مع هذا تُلقم، لم تكثِّر من البيض كتكثير الدجاج ولم تقلِّل كتقليل الحمام.

ما يزاوج من الحيوان

وللعصافير فيها زِوَاجٌ، وكذلك النّعام، وليس في شيء من ذوات الأربع زِواج، وإنما الزِّواج في اللاتي تمِشي على رِجْلين، كالإنسان والطَّير والنَّعام، وليس هو في الطير بالعامّ، وهو في الحمام وأصناف الحمام من هذه المغنيات والنوائح عامٌّ، وسبيل الحجل والقَبَج سبيلُ الدِّيكة والدَّجاج.
والدَّجاجة تمكن كلَّ ديكِ، والدِّيك يِثبُ على كلِّ دجاجة، وربمَّا غبر الحمام الذَّكَر حياتَه كلَّها لا يقمط غير أنثاه، وكذلك الأنثى لا تدعو إلا زوجها، وربَّما أمكنت غيره، وفي الحمام في هذا الباب من الاختلاف ما في النساء والرجال.
فأما الشِّفْنين فإنّه لا يقمُط غيرَ أنثاه، وإن هلكت الأُنثى لم يزاوِجْ أبداً، وكذلك الأنثى للذكر.

عجائب البيض

فأمَّا العلة في وضع القطا بيضَها أَفراداً، وخروجِ البضة من جهة أوسع الرَّأسين، واستدارِة بيض الرّقّ، واستطالة بيض الحيات، وما يكون منها أرقَطَ وأخضَر وأصفر وأبيض وأكدر وأسود، فإنِّي لم أرْضَ لهم في ذلك جواباً فأحْكِيَه لك.
معارف في البيض قالوا: وإنما يعظُم البيض على قدر جُثَّة البيَّاضة، وبيضُ الأبكار أصغر، فأمَّا كثرة العدد فقالوا إنه كلما كان أكثَر سِفاداً كانَ أكثَرَ عدداً، وليس الأمرُ كذلك، لأنَّ العصفور أكثَرُ سِفاداً من أجناسٍ كثيرةٍ هي أقلُّ بيضاً منه.
والجرادُ والسَّمَك لا حضنَ ولا زَقَّ ولا رَضاعَ ولا تَلقيم عليهن، فحين جَعَل الفراخَ كثيرةَ العدد، وكانت الأمَّهات والآباءُ عاجزة عنها، لم يَجْعلْها محتاجةً إلى الأمَّهاتِ والآباء.
فتفهَّمْ هذا التدبيرَ اللطيفَ، والحكمةَ البالغة.
أقل الحيوان نسلاً وأكثره قالوا: والأقلّ في ذلك البازي، والأكثر في ذلك الذَّرّ والسَّمك.
قال الشاعر:

وأمُّ البازِ مِقْلاَتٌ نَـزُورُ

 

بغاثُ الطَّيْرِ أكثرها فُروخاً

وقال صاحب المنطق: نسل الأُسد أقلُّ لأنه يَجْرح الرحم فيُعْقَم.
قالوا: والفِيَلة تضعُ في سبع سنين، وأقلُّ الخْلق عدداً وذَرْءًا الكركَدَّن، لأنّ الأنثى تكون نَزُوراً، وأيامُ حملها كثيرة جِدًّا، وهي من الحيوان الذي لا يلد إلاّ واحداً، وكذلك عِظامُ الحيوان، وهي مع ذلك تأكل أولادَها، ولا يكاد يسلم منها إلاَّ القليل، لأنّ الولد يخرجُ سوِيًّا نابتَ الأسنانِ والقرنِ، شديد الحافر.

ما جاء في الفيلة

من عجيب التركيب، وغريب التأليف، والمعارف الصحيحة، والأحاسيس اللطيفة، وفي قبولها التثقيف والتأديب، وسرعتها إلى التلقين والتقويم، وما في أبدانها من أعضاء الكريمة، والأجزاء الشريفة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه، وصلى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامّة، ونسأله التأييدَ والعصمة، ونعوذ به من كلِّ سبب جانَبَ الطَّاعة، ودعا إلى المعصية، إنه قريبٌ مجيب، فعَّالٌ لما يريد.
قد قلنا في أول هذا الجزء، وهو الجزء السابع، من القول في الحيوان في إحساس أجناسها المجعولة فيها، وفي معارفها المطبوعة عليها، وفي أعاجيب ما رُكِّبَتْ عليه من الدَّفع عن أنفُسها، والتقدُّم فيما يُحيِيها وفي تحسُّسها عواقبَ أمورها وكلِّ ما خوِّفت من حوادث المكروه عليها بقدر ما ينوبُها من الآفات، ويعتريها من الحادِثات وأنّها تدْرِك ذلك بالطَّبع من غير رَويّة، وبحِسِّ النَّفس من غير فِكرة، ليعتبرَ مُعْتَبِرٌ، ويفكرُ مفكِّر، ولينفي عن نفسه العُجب، ويعرفَ مقدارَه من العجز، ونهاية قوَّته، ومبلغَ نفاذِ بصرِهِ، وأنه مخلوق مدبَّر ومصرّف وميسَّر، وأنَّ الأعجمَ من أجناس الحيوان، والأخرسَ من تلك الأشكال، يبلغ في تدبير معيشته، ومصلحةِ شأنهِ، وفي كلِّ ما هو بسبيله، ما لا يبلغه ذو الرَّويَّة التامّة، والمنطقِ البليغِ، وأنَّ منها ما يكون ألْطفَ مَدخلاً، وأدقَّ مسلكاً، وأصنَعَ كَفّاً، وأجودَ حنجرة، وأطبَعَ على الأصوات الموزونة، وأقْوَم في حفظ ما يُعيشُه طريقةً، إلاَّ أنّ ذلك منها مفرَّق غيرُ مجموع، ومنقطعٌ غير منظوم.
والإنسان ذو العقل والاستطاعة، والتصرُّف والرويّة، إذا علم علماً غامضاً، وأدركَ معنًى خفياً، لم يكَدْ يمتنع عليه ما دونه إذا قاس بعض أَمْرِهِ على بعض.
وأجناس الحيوانِ قد يعلَّم بعضُها علماً، ويصنع بكفِّه صنعةً يفوقُ بها الناس، ولا يهتدي إلى ما هو دون ذلك بطبعٍ ولا رويّة، وعلى أنّ الذي عجز عنه في تقدير العقول دون الذي قَدَرَ عليه.
وأنا ذاكرٌ إن شاء اللّه، ما جاء في الفيلة من عجيب التركيب، وغريب التأليف، والمعارف الصَّحيحة، والأحاسيس اللطيفة، وفي قَبولها التّثقيفَ والتّأديب، وسرعتها إلى التلقين والتّقويم، وما في أبدانها من الأعضاء الكريمة، والأجزاء الشريفة، وكم مقدارُ منافِعها، ومبلغُ مضارِّها، وبكم فَضَلَتْ أجناسَ الحيوان، وفاقَتْ تلكَ الأجناسَ.
وما جعل اللّه تعالي فيها من الآيات والبرهانات، والعلامات النيِّرات، التي جَلاها لعُيون خلْقه وعرَّف بينها وبين عُقول عباده، وقيَّدَها عليهم، وحفِظَها لهم ليكثِّر لهم من الأدلة، ويزيدَهم في وضوح الحُجَّة، ويسخِّرَهم لتمام النِّعمة، والذي ذكرها اللّه به في الكتاب الناطق، والخبر الصادق، وما في الآثار المعروفة، والأمثال المضروبة، والتجارب الصحيحة.
وما قالت فيها الشعراء، ونطقَتْ به الخطباء، وميَّزتْه العلماء، وعجّبت منه الحكماء، وحالهِا عند الملوك وموضع نفعِها في الحروب، ومهابتها في العيون، وجَلالتها في الصُّدور، وفي طُول أعمارها، وقوّة أبداِنها، وفي اعتزامها وتصميمها، وأحْقادها، وشدَّة اكتراثها، وطلبها بطوائلها، وارتفاعها عن مِلْك السُّقّاط والحشْوة، وعن اقتناءِ الأنذال والسِّفِلة، وعن ارتخاصها في الثمن وارتباطها على الخَسْف، وابتذالها وإذالتها، وعن امتناع طبائعها، وتمنُّع غرائزها أن تَصْلُحَ أبدانُها، وتَنْبُتَ أنيابُها، وتعظُمَ جوارحُها، وتتسافدَ وتتلاقَحَ إلاّ في معادنها وبلادها، وفي منابتها ومَغارس أعراقها، مع التماس الملوك ذلك منها، حتى أعجَزت الحِيل، وخرجَتْ مِنْ حدِّ الطَّمَع،  وعن الإخبار عن حملها ووضعِها، ومواضع أعضائها، والذي خالَفتْ فيه الأشكالَ الأربعةَ التي تُحيط بالجميع مما ينْساح أو يعوم، أو يمشي أو يطير، وجميعِ ما ينتقل عن أوَّليَّةِ خَلقه، وما يبقى على الطّبائع الأُوَل من صُورته وعَمّا يتنازَعُه من شِبه الحيوان، أو ما يخالِفُ فيه جميعَ الحيوان، وعن القول في شدَّة قلبه وأسْرِه، وفي جرأته، على ما هو أعظمُ بدَناً وأشدُّ كلَباً، وأحدُّ أظفاراً، وأَذْربُ أنياباً، وهربه ممَّا هو أصغَرُ منه جِرْماً وأكلُّ حدّاً، وأَضعَفُ أسْراً، وأخملُ ذِكراً.
وعن الإخبار عن خصاله المذمومة، وأموره المحمودة وعن القول في لَوْنه وجِلده وشعره، ولحمه وشحمه وعظمه، وبَوْله ونَجْوه، وعن لسانه وفمه، وعن أذنه وعينه، وعن خرطومه وغُرموله، وعن مَقاتِلهِ وموضع سلاحه، وعن أدوائه ودوائه، وعن القول في أنيابه وسائر أسنانه، وسائر عظامه، وفرْقِ ما بين عِظامه وعظام غيره، وعن مَوَاضع عجزه وقوّته، والقَوْل في ألبانها وضُروعها، وعدد أخْلافها وأماكن ذلك منها، وعن سياحتها ومشْيها وحُضْرها وسْرعتها، وخِفَّة وطئها ولين ظهورها، وإلذاذ راكبها، وعن ثباتِ خُفِّها في الوَحل والرَّمل، وفي الحدَر والصَّعْداء، وعن أمْن راكبها من العِثار.
وكيف حالها عند اهتياجها واغتلامِها، وعن سكونها وانقضاء هَيَجانها عند حملها، وعن طرَبها وطاعتها لسُوَّاسها، وفهمِها لما يُراد منها، وكيف حِدّةُ نَظَرها والفَهمُ الذي يُرَى في طَرْفِها، مع الوقار والنُّبل، والإطراق والسُّكون، وَلِمَ اجتمعت الملوكُ عَرَبُها وعجمُها وأحمرُها وأسودُها على اقتنائها والتزيُّنِ بها، والفخر بكثرة ما تهيَّأ لهم منها، حتى صارت عندهم من أكرم الهدايا، وأشْرَف الألطاف، وحتى صار اتخاذُها مُرُوءةً وعَتاداً وعُدّة، ودليلاً على أنّ مُقْتَنِيَها صاحبُ حرب.
وفي تفضيل خصال الفيل على خصال البعير، وفي أيِّ مكانٍ يكون أنفع في الحرب من الفَرس، وأصبَرَ عند القتال من النَّمر، وأقْتلَ للأسد من الجاموس، وأكلَبَ من الببر إذا تعرَّم، وأشدَّ من الكرْكَدَّنِ إذا اغتلم، حتى لا يبلُغه مقدارُ ما يكون من تماسيح الخُلجان، وخيل النِّيل، وَعِقبان الهواء، وأُسْدِ الغياض.
قصيدة هاورن مولى الأزد في الفيل وقد جمع هاورنُ مولى الأزد الذي كان يرُدُّ على الكميت ويفخر بقحطان، وكان شاعرَ أهل المُوْلتان، ولا أعرف من شأنه أكثر من اسمه وصِناعته، وقد قال في صفات الفيل أشعاراً كثيرة، ذكر فيها كثيراً ممّا قدَّمْنا ذِكرَه، فمن ذلك قولُه:

له فِطَنُ الإنْس في جِرْم فيلِ

 

أليس عجيبـاً بـأنْ خِـلـقةٌ

وأنشدني هذا البيت صفوانُ بن صفوانَ الأنصاريّ، وكان من رُواة داود بن مزيد:

 

له فِطَنُ الإنس في جِرْمِ فيلِ

 

أليس عجـيبـاً بـأنْ خِـلـقةٌ

 

بحِلْمٍ يجلُّ عن الخنـشَـلِـيلِ

 

وأظـرفُ مِـنْ قِـشَّةٍ زَولة

 

طويلُ النُّيُوب قصير النَّصِيلِ

 

وأوقصُ مختلـفٌ خَـلْـقُـهُ

 

وجَوفٍ رَحيب وصوتٍ ضَئيلِ

 

ويلقى العدُوَّ بنـابٍ عـظـيم

 

بخنزير بَرٍّ وجامـوسِ غِـيلِ

 

وأشبـهُ شـيءٍ إذا قِـسْـتَـه

 

فما في الأنام له مِـن عَـدِيلِ

 

تَنـازَعَـهُ كـلُّ ذِي أربَــع

 

بأنْ ناسَبَ الهِرَّ من رأس مِيلِ

 

ويخضعُ للَّيثِ ليْثِ الـعَـرينِ

 

كما تعصف الرِّيحُ بالعندبـيلِ

 

ويعصِفُ بالبَبْر بعد النُّـمـورِ

 

فإن وصَلوه بسيفٍ صَـقـيلِ

 

وشخـصٌ تُـرَىِ يَدُه أنـفَـه

 

بِهوْلٍ شديدٍ أمـامَ الـرَّعِـيلِ

 

وأقبلَ كالطَّوْدِ هادِي الخمـيسِ

 

بخطوٍ خفيفٍ وجِرْم ثـقـيلِ

 

ومرَّ يَسِـيلُ كَـسَـيْل الأتـيِّ

 

شناعةُ أُذْنَينِ في رأسِ غـولِ

 

فإن شِمْتَه زادَ فـي هـولـه

 

قليلَ التهيُّبِ لـلـزَّنـدَبـيلِ

 

وقد كنتُ أعـدَدْتُ هِـرًّا لـهُ

 

أتانَا الإلهُ بفـتـحٍ جـمـيلِ

 

فلما أَحسَّ به في الـعَـجـاح

 

بقلبٍ نجيبٍ وجسـمٍ نـبـيلِ

 

فطـارَ وَرَاغَـمَ فَـيَّالَـــهُ

إلهُ الأنامِ وربُّ الفُيولِ

 

فسبحانَ خالِقهِ وحْـدَه

 








احتيال هارون بالهر لهزيمة الفيل

وذكر صفوانُ بن صفوان أنّ هارون هذا خبَّأ معه هرّاً تحت حِضْنِه، ومشى بسيفِه إلى الفيل، وفي خرطومه السَّيف، والفيالونَ يَذْمُرُونه، فلما دنا منه رمى بالهرِّ في وجهه، فأدَبَرَ هارباً، وتساقط كلُّ مَن كان فوقَه، وكبَّر المسلمون، وكان ذلك سببَ الهزيمة.
وسنذكر الهرَّ في هذا الشِّعر كما كتبته لك.
استطراد لغوي وأمَّا قوله:

بحِلم يَجِلُّ عن الخنْشليل

فقد قال الأنصاريُّ في صفة النَّخل:

وفي مَدَر الأرضِ عنها فُضُولُ

 

تُليصُ العِشَـاءَ بـأذنـابـهـا

إذا جاعت الشَّاةُ والخنْشـلِـيلُ

 

ويشبعها المصُّ مصُّ الـثَّـرَى

وهذا غير قوله:

أنِّي بنَصْل السيف خنْشلِيلُ

 

قد علمتْ جاريةٌ عُطبـولُ

العندبيل وأما العَندبيل فهو طائرٌ صغيرٌ جدّاً، ولذلك قال الشاعر:

يَرْوحَ كَرَوْحِ العَندبيل إلى الوكْرِ

 

وما كان يَوْمَ الـرِّيح أوَّلَ طـائرٍ

لأنَّ الرِّيح تعصف به من صِغره، فهو يعرفُ ذلك من نفسِه، فإذا قويت الرِّيح دخلَ جُحْره، ويقولون عندليب وعَندبيل وكلٌّ صواب، ولذلك قال هارون:

كما تعصِفُ الرِّيح بالعندبيلِ

 

ويعصِفُ بالبَبْر بَعْدَ النمـورِ

وسنخبر عن تقرير ما في هذه القصيدة مفرَّقاً، إذ لم نقْدِرْ عليه مجموعاً متَّصلاً، ولو أمكن ذلك لكان أحسن للكِتاب، وأصَحَّ لمعناه، وأفهَمَ لمنْ قرَأه.

ما يدخل في ذكر الفيل..

وفيه أخلاط من شعر وحديث وغير ذلك

قال رؤبةُ في صفة الفيل:

مُشَرَّفُ اللَّحْيِ صغيرُ الفقْمَيْنْ

 

أَجْرَدُ كالحِصْنِ طويلُ النَّابَـيْنْ

 

 

عليه أُذْنَانِ كفضْل الثَّوْبَـيْنْ

وأنشد ابنُ الأعرابيّ:

والفيل في كلِّ أمرٍ أصلُه لُومُ

 

هو البعوضةُ إنْ كلّفتَه كَرَمـاً

وقال أعرابيٌّ وَوَصَف امرأةً له:

لو أكلتْ فِيلينِ لم تَخْشَ البَشَمْ

وقال أعرابيُّ يصف الأكْرِياء:

أو تركبُ الفِيلَ بها الفيلُ رَزَمْ

 

لو تركبُ البُختِيَّ مِيلاً لاَنْحَطم

وحمل ناسُ أبا الحَلال الهدَادي على الفيلِ أىَّام الحَجَّاج، فتمنَّع وأنشأ يقول:

إلا إنّ رأيي قبل ذاك مُضلَّلُ

 

أأرْكبُ شيطاناً ومِسْخاً وهَضبْةً

فقالوا له: لو علوتَه ما كانَ عندَك إلاّ كالبغْل فلما علاه صاحَ: الأرضَ الأرضَ فلما خافوا أنْ يرْمِي بنفسه وهو شيخٌ كبير، أنزلوهُ، فقال بعد ذلك في كلمة له:

ولكِنَّ جُلْباً مِنْ رَفِيع السَّحائبِ

 

وما كان تحتي يومَ ذلك بَغْـلةٌ

وقال بعض المتحدِثين والمملِّحين في بعض النساء:

لها فيه تمـاثـيلُ

 

أرادت مرّةً بـيتـاً

لوجهَيْه تـهـاويلُ

 

فلما أبصرْتَ سِتْراً

وفي مِشْفَرِهِ طُولُ

 

وفيه الفيلُ منقوشـاً

فلا يأكلْنيَ الفِـيلُ

 

قالت: اِنزعُوا الستر

وقال خلَف بن خليفةَ الأقطع، حين ذكر الأشرافَ الذين يدخلون على ابن هُبيرة:

مع العُصَبِ الأوَل الدَّاخِلـهْ

 

وقامتْ قريشٌ قريشُ البِطاح

وَذو الضِّرْسِ والشَّفَةِ المائله

 

يقودهم الفِيلُ والـزَّنْـدَبِـيلُ

الفيل والزّنْذَبيل: أبان والحكم، ابنا عبد الملك بن بشر بن مَرْوان، وذو الضِّرس: خالد بن سَلَمة المخزومي الخطيب، وهو ذو الشَّفة، قتل مع يزيد بن عُمَر ابن هبيرة فيمن قتل.
وقد فَصَل خلف بن خليفة الفيلَ من الزَّنْدَبِيل، ولم يفسِّر، وقد اختلفوا في ذلك، وسنذكرهُ إذا جرّ سببه إن شاء اللّه تعالى.

طرائف من اللغات والأخبار في الفيل

الفيلُ، المعروف بهذا الاسم، ويقال رجلٌ فِيلٌ إذا كان في رأيه فِيَالة، والفِيَالة: الخطأ والفساد، ويسمُّون أيضاً الرَّجل بفيل، منهم فيلٌ مولى زياد وحاجبُه، وفي أنهار الفرات بالبصرة نهر يقال له فيل بانان وموضعٌ آخر يقال له فِيلان.
وقد يعرض بقدم الإنسان ورَم جاسٍ حتَّى تعظم له قدمُه وساقُه، وصاحبُه لا يبرأ منه، ويسمّي ذلك الورمُ داءَ الفيل.
 ويسمَّى الرَّجُل بدَغْفَلٍ، وهو ولد الفِيل، ولا يسمُّونَ بَزنْدبيل، وبعض العرب يقول للذَّكر من الفيلة فِيل وللأُنثى فِيلة، كما يقولون أسد وأسدة، وذئب وذئبة، ولا يقولون مثل ذلك في ثعلب وضبع، وأمورٍ غير ذلك، إلاّ أن يكون اسماً لإنسان.
وبعث رجلٌ من العرب بديلاً مكانَه في بعض البعوث، وأنشأ يقول:

فهانَ عَلَيَّ ما لقيَ البَديلُ

 

إذا ما اختَبَّتِ الشَّقْرَاءُ مِيلاً

قليلٌ علمه بالخيل فِـيلُ

 

يشنِّفُها ويحسَبُها بـعـيراً

وأنشدنا الأصمعيّ:

أزَبُّ خَصِيٌّ نفّرتْه القَعاقِعُ

 

يفرُّون والفيل الجبان كأَنّـه

قال سَلَمة بن عَيَّاش: قال لي رؤبة: ما كنت أحب أن أرى في رأيك فِيالة.
وبالكوفة باب الفيل، وبواسط باب الفيل.
ومنهم فِيلُويه، وهو أبو حاتم بن فِيلُويه، وكان أبو مسلم ربَّى أبا حاتمٍ حتّى اكتهل، وهُما سقَيا أبا مسلم السمّ حتى عُولج بالترياق فأفاق، فقتلهما أبو مسلم بعد ذلك، وكانا على شبيهٍ بدين الخُرَّميّة.
ويقولون عنبسة الفيل، وهو النحويّ، وهو أحد قدماء النحويِّين الحذّاقَ، وهو عنبسةَ بن مَعْدَانَ، وكان معدانُ يروض فيلاً لزياد، فلما أَنشَد عنبسةُ بنُ معدانَ هجاءَ جريرٍ للفرزدق قال الفرزدق:

لغنبسةَ الرَّاوِي عَلَيَّ القصـائدا

 

لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ

فلمَّا تناشَدَ النّاسُ بعد ذلك هذا الشعر قال عنبسةُ: إنَّما قال الفرزدق:

لقد كان في مَعْدانَ واللُّؤْمِ زاجرٌ

فقالوا: إنَّ شيئاً فررتَ منه إلى اللُّؤْم لَنَاهِيكَ به قُبحاً فعند ذلك سُمِّي عنبسةَ الفيل.
وغيلان الراجز كان يقال له غيلانُ راكب الفيل كان الحجّاج بن يوسف ربَّما حَمَلَه على الفيل، وسَعْدُويه الطُّنبوريّ، وكان يقال له: سعدويه عين الفيل.
قال أبو عبيدة: حدَّثني يونس قال: لما بنى فِيلٌ مولى زيادٍ دارَه وحَمَّامَه بالسَّبابجة، عمل طعاماً لأصحاب زياد، ودعاهم إلى داره، وأدْخلهم حمَّامَه، فلمَّا خرجوا منه غدَّاهم، ثم ركِب وغَبَّر في وجوههم، فقال أبو الأسود الدُّؤلي:

على الثُّلُثَينِ من حمَّام فيلِ

 

لَعَمْرُ أبيكَ مَا حمّامُ كِسرى

وقال الجارود بن أبي سَبرة:

كَسُنّتِنا عَلَى عهدِ الرسولِ

 

وما إرقاصنا خَلْفَ الموالي

وأنشد الأصمعي وغيره:

كما قيل قبلَ اليومِ خالفْ فَتُذْكَرا

 

خلافاً علينـا مـن فَـيالة رأيه

ويقال للرّجُل إذا عُنّف عند الرأي يراه: لِمَ تفيِّلُ رأيَكَ? وقد فَال رأي فلان.
وحدَّثنا عبد اللّه بن بكر، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لمّا انتهيت إلى السّدْرَة إذا ورَقُها أمثالُ آذانِ الفِيَلة، وإذا ثمَرها أمثالُ القِلال، فلما غشِيَها من أمر اللّه ما غشِيها تحوَّلت ياقوتاً.
وقال صاحب الكيمياء في جرير بن يزيد:

تكنْ خَصيمَ المَعْشَرِ الخُونِ

 

مهلاً أبا العبَّاس رِفقـاً ولا

أو يُولَدَ الفيلُ من النُّـونِ

 

هيهات هيهاتَ لما رُمْتَـهُ

والحِلْمِ كالأحنف في سينِ

 

أنت إذا ما عُدَّ أهلُ الحِجـا

الفرخ والفروج وكلُّ طائرٍ يخرج من البيض وكلُّ ولدٍ يخرج من البيض وإن لم يكن طائراً، فإنما يسمَّى فرخاً، كفرخ الحمام والوزغة والعظاءَة والرقُ والسُّلحفاءِ والحُكَاء، وبنات النَّقا، وشحمة الأرض، والضب، والحِرْذون، والورل، والحرباء، إلا ما يخرج من بيض الدجاج فإنه يقال له فرّوج ولا يقال له فرخ، إلا أنَّ الشعراءَ يتوسَّعون في ذلك،قال شَّماخ بن أبي شداد:

تأمَّلْ حين يضرِبُك الشِّتـاءُ

 

ألا مَن مبلغٌ خاقان عَـنَّـا

ومن شيخِ أضَرَّ به الفَنَـاءُ

 

أتجعلُ في عيالك من صغيرٍ

يلُذْنَ به إذا حَمِسَ الوغـاءُ

 

فراخَ دجاجةٍ يتبعـن ديكـاً

وقال الآخر:

ومن ديك أنباط تنوسُ غَباغبهْ

 

أحبُّ إلينا من فراخ دجـاجة

وإذا سمَّي أهل البصرة إنساناً بغيل فأرادوا تصغيره قالوا فِيلويه، كما يجعلون عمراً عَمرويه، ومحمداً حمدويه. وكان محمد بن إبراهيم الرّافقي الفارسُ النَّجيد قتيل نصر بن شَبث، مولى بني نصر بن معاوية، له كنيتان: أبو الفيل وأبو جعفر، ولم يكن بالجزيرة أفْرَسُ من داود بن عيسى، وأبي الفيل وعيسى بن منصور من ساكني الرافقة.

حمل الفيل وعمره

وذَكرَ بعضُ الفيَّالين أنّ الفِيَلة تضعُ لِسبع سنينَ ولداً مستويَ الأسنان، وأنهم يرصدون ذلك الوقتَ من الوحشية منها، ويحتالون في أخذ الولد، وأن ذلك الولدَ يعيش في أيديهم ما بين الثمانين سنةً إلى المائة، وأنّ عُمر الوحشية أطولُ.
وأنّ كلَّ شيءٍ منها اليومَ بالعَسْكر إناث، وأَنّ الموتَ بالعراق إلى الذُّكورة أسرعْ، وأنَّ نابَه لا يطول عندنا، وأنَّهم يَعْملون من جلودها التِّرَسَة أجودَ من جلود الجواميس، ومن الخيزُران، ومن الدّرق والحَجَف التي تتخذ من جلود الإبل، ومن هذه المعقَّبة المطليَّة، ومن جميع ما يؤلَّف من أنواع الخشَب والجلودِ التي قد أُطيل إنقاعها في اللَّبن، ومن كلِّ تُبَّتيّ وصينيّ.

مروج الفيلة

وذكر أن لها مُروجاً، وأن المروج أصلحُ لها من القرى، ومواضِعَهَا من الوحش أصلحُ لها من المُروج.

فهم الفيلة

وذكر رسولٌُ لي إلى سائسها أنه قد اتّبعها إلى دجلة، وأنّ بعض الغَوغاء صاح بها: يا حجَّام بابَك وهذا الكلام اليومَ ظاهرٌ على ألسنة الجهَّال، وأن فيلاً منها ركلَه برجله رَكلةً صكَّ بها الحائط حَتَّى خيف عليه منها، وأنه رأى منها الإنكارَ لذلك القول، وأنَّ الفيّالَ كان يحثُّها على الانتقام لَمَّا صاحَ بها.
وإذا عرفَ الكلبُ اسمه، وكذلك السنّور، وكذلك الشّاة والفرس، والطفل والمجنون المصْمَت الجنون، وعرفت النّاقةُ فصْل ما بين حَلْ وجاهِ، وعرَف الحمارُ الصَّوتَ الذي يُلْتَمَسُ به وقوفُه، والذي يلتمس به سيُره، وعرف الكلبُ مخاطبةَ الكلاَّب، والبَبْغاءِ مناغاةَ المُكَلِّم له، فجائزٌ أن يكون الفيلُ بفضل فِطنته أنْ يفهم أضعافَ ذلك، فإذا أمروه بضرب إنسانٍ عند ضربٍ من الكلام استعاد ذلك وأدامَه، لم ينكر أنْ يعرفَه على طول الترداد.

فائدة نجو الفيل

قالوا: وإذا احتملت المرأة شيئاً من نَجْو الفيل بعد أن يُخْلَطَ به شيءٌ من عسَل فإنها لا تَحبَل أبداً.
قالوا: ومما يؤكِّد ذلك أنّك لو علّقتَ على شجرةٍ من نَجْوه شيئاً، إنَّ تلك الشجرةَ لا تحمِلُ في تلك السنة.
قالوا: وزواني الهند يفعلن ذلك استبقاءً للطّراء وللشّباب، ولأنها إذا كانت موقوفةً على جميع الأجناس من الرِّجال كانت أسرَعَ إلى الحبَل لأنها لا تعدَم موافقاً لطبعها، وإذا حملت ووضعت مراراً بطلت.
ضروب من الدواء وليس هذا بعجيب، لأنهم يزعمون أنَّ صاحب الحصاة إذا أَخذَ روثَ الحمار حين يَرُوثه حارّاً فعصرهَ وشرِب ماءَه أنه كثيراً ما يبول تلك الحصاة، وفي ماء روثِ الحمارِ أيضاً دواءٌ للضِّرس المأكول.
وقال الأصمعيّ: سألتُ بعضَ الأكلة ممن كان يقدَّم على مَيْسرة التَّرَّاس: كيف تصنعُ إذا جَهَدتك الكِظَّة? والعرب تقول: إذاً كنت بطيناً فعدِّلْ نفسَك زَمناً، فقال: آخذ روْثَ حمار حارّاً فأعصرْه وأشرب ماءه فأختلف عنه مراراً، فلا أثبت أنْ يلْحَقَ بطني بصُلْبي، فأشتَهي الطّعامَ.
والمرأة من نسائنا اليومَ إذا استُحِيضَت استفَّتْ مثقالاً من الإثمد، لأنها عندهن إذا فعلت ذلك لم تَلِد.
وأنا رأيتُ امرأة قد فعلتْ ذلك ثم ولدت.
وخُرء الكلب إذا كان الجعرُ أبيضَ اللَّوْن، وكان غذاءُ الكلب العظامَ دون اللحم، فهو عجيبٌ لصاحب الذُّبحة، وكذلك رَجِيع الإنسان.
وخرء الفار يكون شِيافاً للصِّبيان، يحملونه إذا استوكى بطنُ أحدهم وإن كان من خرء الجرذان وكان عظيماً كان الواحد منه هو الشِّياف.
ويصلح أيضاً خُرْء الفار لداء الثَّعلب، وهو القَرَع الذي يعرض لشَعر الرَّأس.
وخرء الحمام الأحمر يصلحُ، من المَبْوَلات للرَّمْل والحصَى، يُقمَحُ منه وزن درهم مع مثله من الدَّارصيني.

شعر في الفيل

وقال بعض المُحْدَثين:

كأنها لـحـيةُ جِـبـريلِ

 

يا لحيةً طالت على نَوكها

نَهْراً إذا طمَّ على النِّـيلِ

 

لوْ كانَ ما ينصَبُّ من مائها

كَيْلاً لَوَفَّى ألفَ قِـنـديلِ

 

أو كان ما يقطر من دهنها

 

حسبْتَها بَنداً علـى فـيلِ

 

فلو ترَاها وهي قد سُرّحَتْ

وأنشد أبو عمرو الشيبانيّ لبعض المولّدين:

فكيفَ حالُ البَعوضِ في الوَسَطِ

 

إذا تلاقَى الفُيولُ وازدحَـمـتْ

وأنشد علي بن محمد:

رَصاصاً بأثْقَلَ من معْبَد

 

وما الفِيلُ أحمِلُه مُوقَرا

ينوء بِعِدْلَين من إثمِـدِ

 

ولا قِرْمليٌّ عليه الغَبيطُ

بأثْقَلَ منه ولا أنْـكَـدِ

 

وجاموسةٍ أُوقِرَتْ زِئبقاً

وقال آخر:

إلاّ خِراً جُمِّع في الزَّاويهْ

 

بابٌ يرى ليس لـه داخـلٌ

ومثله نِيطَ بـأوصـالِـيهْ

 

إن جئت فالفيلُ على هامتي

ووصف مرَّة بن مَحْكَان قِدراً فقال:

وَفْقاً إذا آنست من تَحِتها لهـبـا

 

تَرمي الصُّلاةَ بنبْلٍ غير طـائشةٍ

لو يُقذَف الرَّأْلُ في حيزومها ذَهَبا

 

زيَّافة مثل جوفُ الفِيل مُجـفَـرة

وقال بعض الأكرِياء في امرأة كان حَملَها:

لا ثَعلٌ في سِنَّها ولا قَـصَـمْ

 

بيضاء من رُفقةِ عِمْرَانَ الأصمّ

كأنَّها يوم تُوافي بـالـحـرمْ

 

بَهْكنَة لو تركب الـفـيلَ رَزَمْ

 

 

غمَامَةٌ غرَّاءُ عَنْ غِبِّ رِهَمْ

وقال رؤبةُ بن العجَّاج:

يكفيكَ دَرْءَ الفِيل حَتى تَرْكَبا

 

إنّ الرّدافى والكريّ الأرْقبا

ثم قال:

سِيداً مُغِيراً أو لياحاً مُغْرَبـا

 

يشقى بي الغيرانُ حَتّى أُحْسَبا

ما ورد في شأن الفيل من الأمثال في كليلة ودمنة

ومما قرأه الناسُ من الأمثال في شأن الفيل التي وجدوها في كتاب كليلة ودمنة، فمن ذلك قوله: أفَلاَ تَرَى أنَّ الكلب يُبصبصُ بذنبَه مِراراً حتى تُلقَى له الكِسرة، وإنّ الفيلَ المغتِلم لَيعرِف قوّتَه وفضله، فإذا قُدِّمَ إليه عَلَفه مُكَرّماً لم يأكلْ حتى يُمَسح ويُتملّق.
قال: وقيل في أعماله ثلاثة لا يستطيعها أحدٌ إلا بمعونةٍ من ارتفاع هِمة، وعظيم خطر، منها عملُ السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدوّ، وقالت العلماء في الرَّجُل الفاضل الرشيد: إنّه لا ينبغي أن يُرَى إلا في مكانَين، ولا يليق به غيرهما إمَّا مع الملوك مُكرَّماً، وإمَّا مع النُّسَّاك متبتِّلاً، كالفيل إنما بهاؤه وجماله في مكانَين: إمَّا في برّية وحشيّاً، وإما مَرْكَباً للمُلوك.
قال: وقد قيل في أشياء ثلاثةٍ فضْلُ ما بينها متفاوِت: فضل المقاتل على المُقاتل، وفضل الفيلِ على الفيلِ، وفضل العالم على العالم.
وقال في كلام آخر: فإن لم تنجَع الحيلة فهو إذاً القَدَرُ الذي لا يُدفع، فإنَّ القدرَ هو الذي يسلب الأسَدَ قوَّتَه حَتى يُدْخِله التَّابُوت، وهو الذي يَحمِل الرَّجُل الضَّعيف على ظهر الفيل المغتلِم، وهو الذي يسلِّط الحوّاء على الحَيَّة ذات الحُمَة فينزِعُ حمتَها ويلعبُ بها.
قال: ومَن لم يرضَ من الدُّنيا بالكفَاف الذي يُغْنيه، وطمحت عيناه إلى ما فوق ذلك، ولم ينظر إلى ما يتخوّف أمامه، كان مثله مثل الذباب الذي ليس يرضى بالشجر والرياحين حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل المغتلم، فيضربه بأُذنهِ فيهلك.
وقال: فأقام الجملُ مع الأسد حَتى إذا كان ذاتَ يوم توجّه الأسد نحو الصيد، فلقيَه فيلٌ فقاتلَه قتالاً شديداً، وأفلَتَ الأسد مُثْقَلاً يسيل دماً، قد جرحه الفيل بأنيابه، فكان لايستطيع أن يطلُبَ صيداً، فلبث الذئبُ والغرابُ وابن آوى أياماً لا يجدون ما يعيشون به من فضول الأسد.
وقال: وكيف يرجو إخوانُك عندك وفاءً وكرَماً وأنتَ قد صَنَعت بملكك الذي كَرَّمك وشَرَّفك ما صَنعتَ، بل مَثلُك في ذلك كما قال التاجر: إنَّ أرضاً يأكلُ جُِرذانها مائة مَنٍّ من حديد، غيرُ مستنكَر أن تخطِف بُزاتها الفِيَلة.
قال: وقال الجرذُ للغراب: أشد العداوةِ عداوة الجوهر، وعداوةُ الجوهر عداوتان، منها عداوة متجازَية كعداوة الفيل والأسد، فإنّه ربَّما قتل الفيلُ الأسد، وربَّما قتل الأسدُ الفيل، ومنها عداوة إنما ضرَرُها من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنّور، فإنّ العداوة بيننا ليست لضرٍّ منّي عليه، ولكن لضرٍّ منه عليّ. وقال: إن الكريم إذا عَثَر لم يستعنْ إلا بالكريم، كالفيل إذا وَحِل لم يستخرجْه إلا الفيلة.
ضروب العداوات وسنذكرُ عداوة الشيطان للإنسانِ، والإنسان للشَّيطان، وهما عداوتان مختلفتان وعداوة اللّه للكافر، وعداوة الكافر للّه، وهاتان العداوتان غير تينك، وهما في أنفسهما مختلفتان، وهما والتي قبلها مخالفة لعداوة العقرب للإنسان، وعداوةُ العقرب مخالفةٌ لعداوة الحيَّة، وعداوة الإنسان لهما مخالفة لعداوة كلٍّ منهما للإنسان، وعداوة الذئب والأسد، والأسد والإنسان خلاف عداوة العقرب والحية، وعداوة النمر للأسد والأسد للنمر مخالفةٌ لجميع ما وصفنا، ومسالمة البَبر للأسد غير مسالمة الخنفساء والعقرب، وشأن الحيات والوزغِ خلافُ شأنِ الخنافس والعقارب، وعداوة الإنسان خلافُ عداوة ذلك كلِّه، وابن عِرْس أشدُّ عداوة للجُرذان من السنَّور، وعداوةُ البعير للبعير، والبرذون للبرذون، والحمار للحمار شكل واحد، وعداوة الذِّئب خلاف ذلك، والشَّاةُ أشدُّ فَرَقاً منه منها من الأسد والنمر والببر، وهي أقوى عليها من الذِّئب، وفَرَق الدَّجاج من ابن آوى أشدُّ من فَرَقها من الثَّعلب، والحمام أشدُّ فرَقاً من الشاهين منه من الصَّقر والبازي.
عداوات الناس وأسباب عداوات النَّاس ضروبٌ: منها المشاكلة في الصناعة، ومنها التقارُب في الجِوار، ومنها التقارب في النَّسب، والكثرة مِن أسباب التّقاطع في العشيرة والقبيلة، والسَّاكن عدو للمُسْكِن، والفقير عدوٌّ للغني وكذلك الماشي والراكب، وكذلك الفحل والخصيّ، و بَغْضاء السُّوَق موصولةٌ بالملوك، وكذلك المعتق عن دُبُر، والموصَى له بالمال الرغيب، وكذلك الوارث والموروث، ولجميع هذا تفسيرٌ ولكنه يطول.
عداوات الحيوان وذكر صاحب المنطق عداوةَ الغرابِ للحمار، والنَّحويون ينشدون في ذلك قولَ الشَّاعر:

عَدَاوَةَ الْحِمارِ للغُرَابِ

 

عاديتنَا لا زِلْتَ في تَبابِ

ولا أدري من أينَ وقعَ هذا إليهم.
وذكر أيضاً عداوة البُوم للغراب، وكذلك عصفور الشَّوك للحمار، وفي هذا كلامٌ كثيرٌ قد ذكرنا بعضه في أوَّل كتابنا هذا من الحيوان.
رجع إلى الأمثال في كليلة ودمنة ثم رجعنا إلى الإخبار عن الأمثال.
قال: وأكيس الأقوام مَن لا يلتمس الأمرِ بالقتال ما وجد عن القِتال مذْهباً؛ فإن القتال إنما النفقة فيه من الأنفس، وسائر الأشياء إنما النَّفقة فيها من الأموال، فلا يكوننَّ قتال البوم من رأيك، فإنّ من يُرَاكل الفيل يُرَاكل الحَيْن.
قال: فأجابه الجرذ فقال: إنّه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها صداقة، وهي أشدُّ ضَرَراً من العداوة الظاهرة، ومن لم يَحترسْ منها وقعَ موقِعَ الرَّجُلِ الذي يَركب نابَ الفيل المغْتَلِم ثمَّ يغلبُه النُّعاس.
قال: واعلم أَنَّ كثيراً من العَدوّ لا يستطاع بالشدَّة والمكابرة حتى يُصادَ بالرِّفق والملاينة، كما يصاد الفيل الوحشيُّ بالفيل الأهليّ.
وقال: إنّ العُشب كما رأيتَ في اللِّينِ والضَّعف، وقد يُجْمَعُ منه الكثيرُ فيصنع منه الحبلُ القويُّ الذي يوثق به الفيل المغتلم.
قال: وقالوا: نريد أحبَّ بَنيك إليك، وأكرمهم عليك، ونريد كالَ الكاتبَ صاحبَ سرِّك، والسيف الذي لا يوجد مثله، والفيلَ الأبيضَ الذي لا تلحقه الخيلُ الذي هو مَركبكَ في القتال، ونريد الفيلين العظيمين اللذين يكونان مع الفيل الذَّكَر.

الفيلة في الحروب

وقد سمعنا في هذا الحديثِ والإخبار عن أيام القادسيَّة ويوم جسر مِهْرَان، وقُسِّ النَّاطف، وجَلولاء، ويوم نَهاونَد، بالفيل الأبقع، والفيل الأسود، والفيل الأبيض، والناس لم يَرَوْا بالعراق فِيلاً أوبَرَ، ولا فيلاً أشْعَرَ.

الفيلة المستأنسة

والفيلة التي كانت مع الفرس، حُكمُها حكمُ الفِيَلة التي كانت عند أمير المؤمنين المنصور، وعند سائر الخلفاءِ من بَعدِه، وكلها جُردٌ مُغَضّبة، ولم نلْقَ أحداً رآها وحشيَّةً قبل أن تصير في القُرَى والمواضع التي يذكرها.
تبدل حال الحيوان إذا أخرج من موطنه  وقد علمنا أنّ الطائر الصَّيود من الجوارح، لو أقام في بلاده مائة عام لم يحدُثْ لمنسره زوائد، وعَيْرَ العانة إذا أقام في غيرِ بلاده احتاجَ إلى الأخذ من حافره، و إلى أن يُخْتَلَف به إلى البَيطار، والطائر الوحشيّ من هذه المغنِّيات والنوائح، لو أقام عندنا دهراً طويلاً لم يُصوِّتْ إذا أخذناه وقد كُرِّز، وكذلك المزاوجة والتعشيش والتَّفريخ.

التكاثر بالفيلة

قال: وكلُّ مَلكٍ كان يصلُ إلى أن تكون عنده فِىَلة فإنّه كان لا يَدَعُ الاستكثار منها والتجمل بها، والتَّهويل بمكانها عنده، ولا يَدَعُ ركوبَها في الحروب، وفي الأعياد، وفي يوم الزِّينة.

الفيل في الشعر

وقد كانت عند حِمير والتبابعة والمقَاول والعباهلة من ملوكهم، وأبي اليكسوم من ملوك الحبشة، وعند ملوك سبأ، مقرَّبة مكرَّمة، يدلّ على ذلك الأشعارُ المعروفة، والأخبار الصحيحة، ألا ترى أن الأعشى ذكر مأرِب وملوك سَبأ وسَيلَ العرِم، فقال:

ومأرِبُ عَفَّى عليها العَرِمْ

 

ففي ذاك للمؤتسي أُسْـوَةٌ

إذا جاء ماؤُهُـمُ لـم يَرِمْ

 

رخَامٌ بنَتْه لـه حِـمْـيَرٌ

على ساعة ماؤهم قد قُسِمْ

 

فأروى الحروثَ وأعنابَها

بتَيْهَاءَ فيها سَرابٌ يَطـمّ

 

وطار الفُيُولُ وفَـيَّالُـهـا

وكان الأقيبِل القينيّ مع الحجاج يقاتل ابنَ الزُّبير، فلما رأى البيتَ يُرْمَى بالمنجنيق أنشأ يقول:

ولم أرَ جيْشاً مِثْلَنَا كلُّهم خـرسُ

 

ولم أَرَ جَيْشاً غُرَّ بالحجِّ قبـلـنـا

بأحجارِنَا نَهْبَ الولائد للـعُـرْسِ

 

دَلَفْنَا لِبَيْتِ اللّهِ نَرْمِـي سُـتُـورَه

بجيش كصَدْرِ الفيلِ ليس له رأسُ

 

دَلَفْنَا لهمْ يَوْمَ الثلاثاءِ مِنْ مِـنًـى

فلما فزِعَ وعاذ بقبر مروان، وكتبَ له عبدُ الملك كتابا إلى الحجَّاج يخبره فيه، وفوَّض الأمرَ إليه، قال:

أَنَّ انْطِلاَقِي إلى الحجَّاج تغريرُ

 

وقد علمتُ لو انَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُنـي

وفي الصَّحائِفِ حَيَّاتٌ مَناكـيرُ

 

مُستَحْقِباً صُحُفاً تَدْمَى طَوَابعُهـا

إنِّي لأَحْمَقُ مَنْ تَخْدِي به العِيرُ

 

لئنْ رَحَلتُ إلى الحجَّاج معتذِراً

لسان الفيل

وكلُّ حيوانٍ في الأرض ذو لسانٍ فأصْلُ لسانِه إلى داخل، وطرفه إلى خارج؛ إلاّ الفيل، فإنّ طَرَف لسانه إلى داخل، وأصله إلى خارج.
بعض خصائص الحيوان وتقول الهند: إنّ لسان الفيل مقلوب، ولولا أنّه مقلوب ثمَّ لقن الكلامَ لتكلم.
وكلُّ سمكٍ يكون في الماء العذْب فإنّ له لساناً ودِماغاً، إلاّ ما كان منها في الماء الملح، فإنّه ليس لسمك البحر لسانٌ ولا دِماغ.
وكلُّ شيءٍ يأكل بالمضغ دون الابتلاع فإنّه إنما يحرِّك فكه الأسفلَ، إلاّ التمساح فإنَّه إنّما يحرِّك فكّه الأعلى.
وكلُّ ذي عينٍ من ذوات الأربع من السِّباع والبهائم الوحشية والأهلية، فإنما الأشفار لجفونها الأعالي إلاّ الإنسان، فإنّ الأشفار للأعالي والأسافل.
وكلُّ حيوانٍ ذي صَدْرٍ فإنَّه ضيِّق الصَّدْر، إلاّ الإنسانَ فإنّه واسعُ الصَّدْر وليس لشيء من ذكورةِ جميع الحيوان وإناثها ثديٌ في صدره إلا الإنسان والفيل، وقال ابن مُقبل:

طَلْسُ النُّجُوم إذا اغبرَّ الدياميمُ

 

وليلةٍ مثل ظَهْرِ الفِيل غَيَّرَها

ضخم الفيل وظرفه

والفيل أضخم الحيوان وهو مع ضِخَمه أملَحُ وأظْرَف وأحْكَى وهو يفوق في ذلك كلَّ خفيفِ الجسم، رشيق الطبيعة.
وإنّما الحكاية من جميع الحيوان في الكلب والقِرد والدُّبّ والشّاة المكّيّة، وليس عند البَبْغاء إلاّ حكايةُ صورِ الأصوات، فصار مع غِلظه وضِخَمه وفخامته أرشقَ مَذهباً، وأدقَّ ظرفاً، وأظهَرَ طرَباً، وهذا من أعجب العَجَب، وما ظنُّكم بِعِظَم خَلْقٍ ربّما كان في نَابَيْهِ أكثر من ثلاثمائة مَنّ،

أعظم الحيوان في قول المتعصبين على الفيل

فقال من يعارضهُم: قد أجمعوا على أنّ أعظمَ الحيوان خَلْقاً السمكةُ والسرَطان، وحكَوْا عن عِظَم بعض الحيَّات، حتى ألحقوه بهما، وأكثروا في تعظيم شأن التّنّين؛ فليس لكم أنْ تَدَّعُوا للفِيل ما ادّعيتم. رد صاحب الفيل على خصمه

قال صاحبُ الهند والمعبِّرُ عن خصال الفيل: أمَّا الفيل وعلوّ سَمْكه، وعِظم جُفْرته، واتِّساع صَهْوَته، وطولُ خُرطومه، وسعَةُ أذنه، وكِبر غُرموله، مع خِفّة وطئه، وطول عُمره، وثقل حمله، وقلة اكتراثهِ لِما وُضع على ظهره، فقد عايَنَ ذلك من الجماعات مَن لا يستطيعُ الردَّ عليها إلاّ جاهلٌ أو مُعاند، وأمَّا ما ادّعيتم من عِظَم الحيَّة وأنّا متى مسَحْنا طولَها وثخنها، وأخذْنا وَزْنَها كانت أكثرَ من الفيل، فإنّا لم نَسْمَعْ هذا إلا في أحاديث الرقّائين، وأكاذيب الحوّائين، وتزيُّد البحريِّين.
وأما التنِّين فإنّما سبيلُ الإيمان به سبيلُ الإيمان بِعَنْقَاءِ مُغْرِب، وما رأيتُ مجلِساً قطُّ جَرَى فيه ذكر التنِّين إلاَّ وهم ينكرونه ويكذِّبون المُخبِر عنه، إلاّ أنا في الفَرْط ربَّما رأينا بعضَ الشاميِّين يزعمُ أنَّ التِّنِّين إعصارٌ فيه نار يخرج من قِبَل البحر في بعض الزَّمان، فلا يمرُّ بشيءٍ إلاَّ أحرَقه، فسمَّى ذلك ناسٌ التِّنّين، ثمَّ جعَلوه في صورة حيّة.
وأما السَّرَطان فلم نرَ أحداً قط ذكرَ أنَّه عايَنَه، فإنْ كنَّا إلى قول بعض البحريِّين نرجع، فقد زَعَم هؤلاء أنَّهم ربما قَرُبوا إلى بعض جزائر البحر، وفيها الغِياض والأَودية واللَّخَاقيق، وأنَّهمْ في بعض ذلك أوقدُوا ناراً عظيمة، فلما وصلَتْ إلى ظهر السرطان هَاجَ بهم وبكلِّ ما عليه من النَّبات، حتَّى لم ينْجُ منهم إلا الشريد.
وهذا الحديثُ قد طمَّ على الخرافات والتُّرَّهات وحديث الخَلْوَة.
وأمّا السَّمك فلعمري إنَّ السمكة التي يقال لها البالُ لفاحشةَ العظم، وقد عاينوا ذلك عياناً، وقتلوه يقيناً، ولكن أحَسِبوا أَنَّ الشَّأن في البال على ما ذكرتم، فهل علمتم أن فيه من الحسِّ والمعرفة، واللّقَن والحكاية، والطَّرَبِ وحسن المَواتاة وشدَّة القتال، والتمهُّد تحتَ الملوك، وغير ذلك من الخصال، كما وجدنا ذلك وأكثر منه في الفيل.
وهل رغبتْ في صيده الملوكُ واحتالت له التجار، أو تمنَّى الظّفَرَ بأجزائه بعض الأطبَّاء، وهل يَصلح لدواءٍ أو غذاءٍ أو لبْس، إنّما غاية البحريِّين أنْ يسلَمُوا من عبثه إن هجموا عليه نائماً أو غافلاً، حتّى ينفر ويفزع وينبّه بقَرْع العصا، واصطكاك الخشب.
وإنما قَدَّمْنا خصالَ الفيل على خِصال الحيوان الذي في كفِّه ومنقاره الصنعةُ العجيبة، أو يَكون فيه من طريف المعرفة، وغريب الحس، وثقوب البصر، أَو بعض ما فيه من الجمال والحُسْن، ومن التفاريج ومن التَّحاسين، والوشي والتلاوين، بالتأليف العجيب، والتَّنضيد الغريب، أو بعض ما في حنجرته من الأصوات الملحَّنة، والمخارج الموزونة، والأغاني الدَّاخلة في الإيقاع، الخارجة من سبيل الخطأ، ممَّا يجمع الطَّرَب والشّجا، ومما يفوق النوائح ويروق كلَّ مغنّ، حتى يُضرب بحسن تخريجه وصفاء صوتِه وشجَا مخرَجه المثلُ، حتى يشبَّه به صوتُ المزمار والوَتر.
وأما بعض ما يُعرف بالمكر والحِيَل، والكَيْس والرَّوغان، وبالفِطنة وبِالخديعة، والرِّفق والتكسُّب، والعلم بما يُعِيشُه والحذَرِ ممّا يُعْطِبُه، وتأتِّيه لذلك وحِذقه به؛ وأمّا بعضُ ما يكون في طريق الثِّقافة يوم الثِّقافة والبصر بالمشاولة، والصَّبر على المطاولة، والعزم والرَّوغان، والكرِّ والجَوَلان، ووضْع تلك التدابير في مواضعها حتى لا تردُّ له طعنة ولا تخطئ له وثْبة، وأما بعضُ ما يُعرَف بالنَّظر في العاقبة وبإِحكام شأن المعيشة والأخذ لنفسه بالثقة، وبالتقدُّم في حال المُهْلة والادِّخار ليوم الحاجة، والأجناسُ التي تدَّخر لأنفسها ليوم العجْز عن الطلب والتكسُّب - فَمِثْلُ الذَّرَّة، والنملة، والجُرَذ والفأرة، وكنحو العنكبوت والنَّحل. فإذا كان ليس للفيل إلا عِظَمه وإن كان العِظَم قد يدخل في باب من أبواب المفاخرة، فلا ينبغي لأحد أن يُنَاهِد به الأبدانَ التي لها الخصال الشّريفة، ويناضلَ به ذواتِ المفاخر العظيمة، فما ظنُّكَ ببدنٍ قد جمع مع العِظَم من الخصال الشريفة ما يُفنِي الطَّواميرَ الكثيرة، ويستغرق الأَجلاد الواسعة، وقد علمت أنَّ مِنْ جَهْلِ هذه السمكة بما يُعِيشُها ويُصْلِحُها أنَّها شديدةُ الطّلب والشَّهوة لأكل العَنبر، والعنبرُ أقتَلُ للبال من الدِّفلَى للدوابّ، فإذا أصابوه ميِّتاً استخرجوا من جَوفه عنبراً كثيراً فاسداً.
وما فيه من النفْع إلاّ أنّ دهنَه يصْلُح لتمرينِ سُفن البحريين.

تعصب غانم الهندي على الفيل

فسمِعنِي غانمٌ العبد يوماً وأنا أحكِي هذا الكلامَ، وكان منْ أَمْوَق الناس وأرْقَعهم رَقاعةً، مع تِيهِ شَدِيدٍ وعُجْب ورِضاً عن نفسه، وسُخط على النَّاس، فمِن حُمْقه أنه هنديٌّ وهو يتعصَّب على الفيل، فقال لي: ما تقول الهند في الحوت الذي يحمل الأرض، أليس أعمَّ نفعاً وأعْلَى أمراً? قلت له: يا هالكُ، إنَّ مدارَ هذا الكلام إنما يقع على الأقسام الأربعة من بين جميع الحيوان المذكورة في الماء وفي الأرض وفي الهواء، كالذي ينساح من أجناس الحيَّات والدِّيدان، وكالذي يمشي من الدوابّ والنَّاس، وكالذي يَطير مِن أحرار الطير وبغاثها وخَشاشها وهَمَجها، وكالذي يعوم كالسَّمك وكلِّ ما يعايش السمك.
فأمَّا الحوت الذي تكون الأرض على ظهره فقد علمْنا أَنَّ في الملائكة مَن هو أعظمُ من هذا الحوت مراراً، ولولا مكانُ مَن قد حَضَرَنا لكان ممن لا يستأهِلُ الجواب، وهذا مقدارُ معرفته.

قوة الفيل

قالوا: والفيل أقوى مِن جميع الحيوان إنْ حُمِّل الأثْقال، ومن قوة عظْمه وعصَبِه أنّه يمرُّ خلفَ القاعد مع عِظَم بَدَنه، فلا يشعر بوطئه، ولايُحسُّ بممَرِّه لاحتمال بعض بدَنه لبعض، وهذه أعجوبةٌ أخرى.

طول مدة حمل الفيلة

وليس في حوامل إناث الحيوان أطولُ مدَّة حبَل من الفيل، والكركَدَّن، فإنه مذكورٌ في هذا الباب، والفيلُ يزيد عليه في قول بعضهم.
فأمَّا الهِنْدُ ففتنتُهم بالكركدَّن أشدُّ مِن فِتنتهم بالفيل.
فأما ما كان دون ذلك من أجناس الحيوان فأطولُها حملاً الحافر والخفّ، ولا يزيدان على السّنَة إلا أن تُسحَب الأنثى وتُجرَّ أيَّاماً، فأمَّا الظِّلف فعلى ضربين، فما كان منها من البقر فإنّ مدَّة حَمْلها وحمل النساء تسعة أشهر، وما كان من الغنم فإنّ حملها خمسةُ أشهر.
وقد ذكرنا حال أجناس الحيوان في ذلك فيما سلف من كتابنا هذا.

صولة الفيل

قالوا: والفيلة هَوْلُها في العين، فاحْذَر أنْ تتخذ ظهورها كالمناظر والمسالح والأرصاد.
وللفيل قتالٌ وضرب بخرطومه، وخَبْطٌ بقوائمه، وكانت الأكاسرة ربما قتلت الرَّجلَ بوَطْءِ الفيلة، وكانت قد درّبت على ذلك وعُلِّمَتْه، فإذا أَلقوا إليها الرّجل تركت العلَف وقصدَتْ نحوه فداسَتْه، ولذلك أنشد العباس بن يعقوب العامريّ، لناهِض بن ثومة العامري قوله:

وذو الضَّغْم إذْ بعضُ المحامِين ناهشُ

 

أنا الشَّاعرُ الخطَّارُ مِن دون عـامـرٍ

أمِيماً به مُسْـتَـدْمِـياتٌ مَـقـارشُ

 

بخبطٍ كخَبْط الفيلِ حتـى تـركـتـه

وأنشد الأصمعي وأبو عمرو لتميم بن مقبل:

تَخَيَّرَ آياتِ الكتـاب هِـجـائيا

 

بني عامرٍ ما تأمُرُون بشاعـر

أرَى الشَّعب فيما بينَنا متدانِـيا

 

أأعفُو كما يعفُو الكريمُ فإنّنـي

بِجَرْدٍ فلا أُبقي مِن الرأس باقيا

 

أمَ اخْبِطُ خبْطَ الفيل هامةَ رَأسِه

بعض من رمي تحت أرجل الفيلة وكانت الأكاسرة - وهي الكُسُور - تؤدِّبها وتعوِّدها وطْءَ الناس وخَبْطهم إذا أُلقِيَ تحت قوائمها بعض أهلِ الجنايات، فكان ممنْ رُمِيَ به تحتَ أرجل الفِيَلة النُّعمان بن المنذر، وقال في ذلك الشاعر:

وَذرَى بَيْتِهِ بِجَـوْزِ الـفُـيُولِ

 

إنّ ذا التّاجِ لا أبا لَكَ أضْحَـى

مَانِ حَتَّى سقاه أمَّ الـبَـلـيلِ

 

إِنّ كِسْرَى عَدَا على الملك النُّعْ

كتاب ملك الصين  وذكر الهيثم بن عديٍّ، عن أبي يعقوب الثَّقفيّ، عن عبد الملك بن عمير قال: رأيت في ديوان معاوية بعد موته كتاباً مِنْ ملك الصين فيه: من ملك الصِّين الذي على مَرْبِطه ألفُ فيل، وبُنيت دارُه بلبِن الذهب والفضة، والذي تخدمه بناتُ ألفِ ملكٍ، والذي له نهرانِ يسقيان الألُوّة، إلى معاوية.
قالوا: ولمَّا أراد كِسرى قتلَ زيوشت المغنِّي، لقتله فهلبذ المغني، وأمر أن يرمى به تحت الفيلة وقال: قتلتَ أحسنَ النّاس غِنَاءً، وأجودَهم إمتاعاً للملِك؛ حسداً له، فلمّا سحبوه نحوالفيلة التفت إلى كسرى وقال: إذا قتلتُ زيوشت المُغني، وقد قتل زيوشت فهلبذ فمن يُطربك? فقال كسرى: المدة التي بقيت لك هي التي أنطقَتْكَ، خلُّوا سبيله.

تأديب الهند الفيلة

وقال صفوان بن صفوان الأنصاريّ، وكان عند داود بن يزيد بالمولتان: الهند تؤدّب الفيلة بأنواع من التّأديب، وبضروب من التقويم، فمنها آدابُ الحروب، حتى ربَّما رَبَطُوا السَّيف الهُذَام الرَّغيب، الشَّديد المتن، الحديد الغَرْب، التّام الطول، الطَّويل السِّيلان، في طرَف خُرطوم الفيل، وعلموه كيف يضرب به قُدُماً، يميناً وشمالاً، وكيف يرفعُه بخرطومه حتى يكونَ فوقَ رؤوس الفَيَّالين القعودِ على ظهره.

شعر هارون في الفيل

قال: وأنشدني هارون بن فلان المولى، مولى الأزد، قصيدته التي ذكر فيها خروجَه في الحرب إلى فيلٍ في هذه الصفة، فمشَى إليه، فلما كان حيثُ ينالُه السَّيفُ وثَبَ وَثْبَةً أعجَلَه بها عن الضَّربة، ولصق بصدْر الفيل، وتعلّق بأُصول نابَيه - وهما عندهم قرناه - فجال به الفيلُ جوْلة كاد يحطِمُه مِن شدَّة ما جال به، وكان رجلاً شدِيد الخَلْق، رابط الجأش، قال: فاعتمدتُ وأنا في تلك الحال - وأصولُ الأنياب جُوف - فانقلعا من أصلِهما، وأدبَرَ الفيلُ، وصار القرنان في يَدَيَّ، وكانت الهزيمة وغَنِم المسلمون غنائمَ كثيرة، وقلت في ذلك:

وقد وصَلُوا خُرطومَه بـحُـسَـامِ

 

مشيتُ إليه وادعـاً مـتـمـهِّـلا

بأبيضَ مِن ماءِ الـحـديد هُـذَامِ

 

فقلتُ لِنفسي: إنّه الفـيلُ ضـاربٌ

لَدَى كلِّ منخُوب الفُـؤَادِ عَـبـامِ

 

فإنْ تَنْكلي عنْه فعـذْرُكِ واضـحٌ

كظُلمة لَيْلٍ جُـلِّـلـت بـقَـتـامِ

 

وعندَ شُجاع القومِ أكلـفُ فـاحـمٌ

كما لاحَ برقٌ من خلالِ غـمـامِ

 

ولما رأيتُ السيفَ في رأسِ هضبةٍ

فلما هـوى لازَمْـتُ أيَّ لِـزامِ

 

فناهَشْتُه حَتى لَصِقـتُ بـصـدْره

وذلك مِن عاداتِ كلِّ محـامِـي

 

وَعذْتُ بِقَـرْنَـيْهِ أُرِيدُ لَـبَـانَـهُ

وَأُبْتُ بقـرْنَـيْ يَذبُـلٍ وشَـمـامِ

 

فجَال وهِجِّيراهُ صوتُ مُخَضْـرَمٍ

وقال هارون:

بقائمِ سَيفٍ فاضِل الطُّول والـعَـرضِ

 

ولمَّـا أتـانـي أنّـهُـم يَعـقِـدُونـه

إذا كانَ أنفُ الفيلِ في عَفَـر الأرضِ

 

مَرَرتُ ولم أحْفِـلْ بـذلـك مـنـهـمُ

ويَلمَعُ لَمْعَ الصُّبْح بالبَلَدِ المـفْـضِـي

 

وحين رأيتُ السَّـيفَ يَهْـتَـزُّ قـائِمـاً

يُصَرِّفه في الرَّفْع طوراً وفي الخَفْضِِ

 

وصارَ كمِـخـراقٍ بِـكَـفِّ حَـزَوَّرٍ

وصرتُ كأَنِّي فَوقَ مَزْلـقَةٍ دَحْـضِ

 

فأقبلَ يَفْري كـلَّ شـيءٍ سَـمـا لَـهُ

فلاذَ بقرنـيه أخـو ثـقةٍ مـحـضِ

 

وأهوي لجارِي فاغتنـمْـتُ ذُهـولـهُ

كثيرِ مِراسِ الحرب مجتنبِ الخفْـضِ

 

فجال وجَالَ القَرْن في كـفِّ مـاجـدٍ

رطانةُ هِنديٍّ بـرفـعٍ ولا خـفـضِ

 

فطـاحَ وَوَلّـى هـاربـاً لا يَهــيده

نابا الفيل

والهندُ تزعمُ أنّ نابَي الفِيل يخرجان مستبطِنين حتى يخرِقا الحنك ويخرجا أعقَفين، وإنما يجعَلهما نابين مَن لا يفهمُ الأمور، قالوا: والدَّليل على ذلك أنّ لهما أصلين في موضع مخارج القرون، يُوجَد ذلك عند سَلْخ جلده، ولأنّ القرن لا يكون إلاّ مصْمت الأعلى مجوَّف الأسفل وكذلك صفةُ هذا الذي يسمِّيه مَن لا علم له ناباً، ومع ذلك إنّا لا نجد الفيل يعضّ كعضِّ الأسد للأكل، ولا كعضِّ الجمل الصَّؤُول للقتل، ولا كعضِّ الأفعى لإخراج السمّ، ولا تراه يصنع به ويستعمله إلاّ على شبيهٍ بما تستعمله ذوات القرن عند القِتال والغضب.
فقال لهم بعضُ من يردُّ عليهم: أمَّا قولكم إنّ القرنَ لا يكون إلاّ مجوَّفَ الأصل، فهذا قرنُ الأيِّل مُصمَت من أوَّله إلى آخره، وهو ينصل في كلِّ سنة، فإذا نبتَ حديثاً لم يظهَرْ حتى يستحكِم في يُبسه وصَلابته، وإذا علم أنه قد بلغ ذلك ظهَرَ، وأكثرُ القُرُونِ الجُوفِ يكون في أجوافها قرونٌ، وليس ذلك لقرن الفِيل.
قالوا: ولم نجد هذا القرنَ في لون القُرون، ووجدناه بسائر أسنانه وأضراسه أشبهَ، للبياض واليبس، وليس كذلك صفةُ القرون.
وتقول الهند: فم الأيِّل صغير، وهو أفقَم، ولا يجوز أن يكون مثلُ ذلك اللَّحي والفكِّ ينبُتُ فيه ومنه نابان يكون فيهما ثلاثمائة مَنّ، وقد رأيتُ قروناً كثيرة الأجناس، بِيضاً، وبُرْشاً، وصُهْباً، وهذه أيضاً من أعاجيب الفيل.
وقرن الكركَدَّن أغلظُ من مقدار ذراع، وليس طولُه على قدر غِلَظه، وهو أصلب وأكرم مِن قرني الفيل.
أعضاء التناسل لدى الحيوان ويقال: إنّ أكبر أُيور الحيوان أيْر الفيل، وأصغَرَها قضيبُ الظبي، وقضيب البطّ لا يذكر مع هذه الأشكال، وليس شيءٌ على قَدْره ومقدار جسمه أعظمُ أيراً من البغل.
وقد علمنا أنّ للضب أيرَين، وكذلك الحِرذَون والسَّقَنْقُور، وعرفنا مقدارَ ذلك، ولكنَّه لا يدخل في هذا الباب لضَعفٍ لا يخفَى.

خرطوم الفيل

ولو لم يكن من أعاجيب الفيل إلاّ خرطومُه الذي هو أنفه وهو يدُه، وبه يوصِل الطعامَ والشَّرَابَ إلى جوفه، وهو شيءٌ بَيْنَ الغُضروف واللحم والعصبِ، وبه يقاتِل ويضرِب، ومنه يصيح، وليس صياحُه في مقدارِ جرْم بدنه، ويضرِبُ به الأرضَ ويرفعِه في السَّماء ويصرِّفه كيف شاء، وهو مَقتلٌ من مقاتله، والهند تربِط في طرَفه سيفاً شديدَ المتْن فيقاتِلُ به، مع ما في ذلك من التهويل على من عايَنه.

سباحة الفيل والجاموس والبعير

وهو مع عِظم بدَنه جيِّد السِّباحة إلاّ أنه يخرج خرطومه ويرفعُه في الهواء صُعُداً لأنّه أنفه، ألا ترى أنّ الجاموسَ يغيب جميعُ بدنِه في الماء إلاّ منخريه.
والبعير قبيح السِّباحة: لأنه لا يسبح إلاَّ على جنبه فهو في ذلك بطيءٌ ثقيل، والبعير مما يُخايَر بينه وبين الفيل، فلذلك ذكرناه.
ما يغرق من الحيوان وقد علمنا أنَّ الإنسان يغرق في الماءِ ما لم يتعلَّم السِّباحة، فأمّا الفَرس الأعسرُ والقِرد فإنَّهما يغرقان البتَّة، والعقرب تقُومُ وسطَ الماءِ لا طافيةً ولا لازقة بالأرض.
أشراف السباع وساداتها وأشراف السِّباع وساداتها وكبارها ورؤساؤها ثلاثة: الكَرْكدَّن والفِيل والجاموس، قال: ولعلَّ بعضَ مَن اعتاد الاعتراض على الكتب يقول: وأينَ الخيل والإبل، وفيها من خصال الشَّرَف والمنافع والغَناء في السَّفر والحَضَر، وفي الحرْب والسّلم، وفي الزِّينة والبهاء، وفي العُدَّة والعتاد، ما ليس عند الكركدَّنِ ولا عندَ الفيل ولا عند الجاموس.
قال القوم: ليس إلى هذا الباب ذَهبْنا، ولا إليه قصدنَا، ولا ذلك البابُ ممَّا يجوز أَن نُدخله في هذا الباب، ولكنَّا ذَهبْنا إلى المحاماة والدَّفع عن الأنفس والقتال دون الأولاد، وإلى الامتناع من الأضداد بالحيلة اللطيفة، وبالبطش الشديد، وليس عند الخيل والإبل إذا صافت الأُسد والنُّمور والبُبُور، ما عند الجاموس والفِيل، فأمّا الكركَدَّن فإن كلَّ شيء من الحيوان يقصِّر عن غايته التقصيرَ الفاحش.
إنكار الكركدن والعنقاء  وما أكثر مَن ينكر أن يكون في الدنيا حيوانٌ يسمّى الكَرْكدَّن، ويزعمون أنَّ هذا وعَنْقاءَ مُغْرِِبٍ سواء، وإنْ كانوا يرون صُورة العَنقاء مصوَّرَةً في بُسُط الملوك، واسمها عندهم بالفارسيَّة سِيمَرْكْ كأنه قال: هو وحدَه ثلاثون طائراً، لأنَّ قولهم بالفارسية سي هو ثلاثون بالعربية، ومرغ بالفارسيَّة هو الطائر بالعربية، والعرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت: حلّقت به في الجوِّ عنقاءُ مغرب، وفي بعض الحديث: أنّ بعضَ الأمم سألوا نبيَّهم وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا، أو تلقي في فم العنقاء اللِّجام، وتردَّ اليومَ أمسِ.
شعر في العنقاء قال أبو السّريّ الشُّميطي، وهو مَعْدان المكفوف المديبريّ:

دِ وَجَدَّ الصبيِّ ذي الخَلخالِ

 

يا سَمِيّ النبيِّ والصادقَ الوَع

بعد حَرْسٍ مَثاقـبُ الـلآلِ

 

صاحب التُّومة التي لم يشِنْها

رُبَّ مهدٍ يكون فوقَ الهلالِ

 

مَهَدتْه العنقاءُ وهي عـقـيمٌ

شُ طُرّاً لِشـدّة الـزَّلـزالِ

 

يومَ تُصِغي له النَّعامة والأحْنا

فأهل هذه النِّحلةُ يثبتون العنقاءَ، ويزعمون أنها عقيم.
وقال زُرارة بن أعْيَن، مولى بني أسعد بن همام، وهو رئيس الشميطيَّة وذكر هذا الصبي الذي تكفُله العنقاء، فقال:

ولو شاءَ أحيا ربها وهو مذنـبُ

 

وأوّلُ ما يحيَا نِعَـاجٌ وأكـبُـشٌ

وقال سَيكفِيني الشقيقُ المقـرّبُ

 

ولكنّـه سـاعَـى بـأمٍّ وجَـدّةٍ

وإلجامُه العنقاءَ في العين أعجبُ

 

وآخِرُ برهاناتِه قلـبُ يومـكـم

وذلك سرٌّ لو علمناه معـجـب

 

يَصِيفُ بسَاباطٍ ويشـتُـو بـآمِـد

ومَلَّكَه الأبراجَ والشَّمْسُ تُجْنَـبُ

 

أماعَ له الكِبريتَ والبحرُ جامـدٌ

وقام عسِيب القفر يُثْني وَيخْطُبُ

 

فيومئذٍ قامت شماط بـقـدرهـا

عليهم بأصناف اللِّسَانَيْنِ مُعْـربُ

 

وقام صبيٌّ دَرْدَقٌ في قِمـاطِـهِ

فثبّت زرارة بنُ أعيَنَ قولَ أبي السَّرِيِّ في العنقاء، وزادنا تثبيت الكِبريت الأحمر ولا أعلمُ في الأرض قوماً يُثَبِّتون العنقاءَ على الحقيقة غيرَهم.
الكركدن قال: والذي يثبت الكركَدَّن أن داود النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الزّبور حتّى سمّاه.
وقد ذكره صاحب المنطق في كتاب الحيوان إلاّ أنه سمَّاه بالْحِمار الهنديّ، وجعل له قرناً واحداً في وسْط جبهته، وكذلك أجمع عليه أهلُ الهند كبيرُهم وصغيرُهم.
وإنما صار الشكُّ يعرِضُ في أمْرِهِ من قِبَل أنّ الأنثى منها تكون نَزُوراً، وأيام حَمْلها ليست بأقل من أيام حمل الفيلة فلذلك قلَّ عددُ هذا الجنس.
وتزعم الهندُ أنّ الكركدَّن إذا كانت ببلاد، لم يَرْعَ شيءٌ من الحيوان شيئاً من أكناف تلك البلاد، حتى يكونَ بينه وبينها مائةُ فرسَخٍ من جميع جهات الأرض؛ هيبةً له، وخضوعاً له، وهرباً منه.
وقد قالوا في ولَدها وهو في بطنها قولاً لولا أنّه ظاهرٌ على ألسِنَة الهند لكان أكثرُ النّاس، بل كثيرٌ من العلماء، يُدْخلونه في باب الخرافة وذلك أنهم يزعمون أنَّ أيامَ حَمْلها إذا كادت أن تتم، وإذا نضجت وسُحِبتْ وجرّت وجرى وقت الولادة، فربما أخرجَ الولدُ رأسَه من ظَبْيتها فأكل من أطراف الشجر، فإذا شبع أدخَلَ رأسَه، حتَّى إذا تمّت أيامُه وضاق به مكانَه وأنكرتْه الرَّحِم، وضعَتْه مُطِيقاً قويّاً على الكسب والحُضْر والدفع عن نفسه، بل لا يَعْرِضُ له شيءٌ من الحيوان والسِّباع.

ولد الفيل

وقد زعم صاحبُ المنطق أنّ ولد الفيل يخرُج من بطن أمّه نابت الأسنان، لطول لبثه في بطنها.
وهذا جائزٌ في ولد الفيل غيرُ مُنكر، لأن جماعةَ نساءٍ معروفاتِ الآباء والأبناء، قد ولدْنَ أولادَهنَّ ولهم أسنانٌ نابتة، كالذي روَوْا في شأن مالك بن أنس، ومحمد بن عَجْلان وغيرهما، أعاجيب الولادة  وقد زعم ناسٌ من أهل البصرة أنَّ خاقانَ بنَ عبد اللّه بن الأهتم استوفى في بطن أُمِّه ثلاثةَ عشر شهراً، وقد مُدِح بذلك وهُجِيَ، وليس هذا بالمستنكر، وإنْ كنت لم أَرَ قطُّ قابلةً تُقرّ بشيء من هذا الباب وكذلك الأطبّاء، وقد روَوْه كما علمت، ولكنَّ العجبَ كلَّ العجَب ما ذكروا من إخراج ولَد الكركدَّنِ رأسَه واعتلافَه، ثم إدخاله رأسَه بعد الشِّبع والبِطْنة، ولا بدَّ - أكرمك اللّه - لِمَا أكَلَ مِنْ نَجْوٍ فإن كان بقي ذلك الولدُ يأكل ولا يرُوث فهذا عجبٌ، وإن كان يروث في جَوْفها فهذا أعجب.
وإنما جعلناه يروثُ حيثُ سمَّوه حماراً، وهذا ممّا ينبغي لنا أن نذكرَه في خصال الحمير إذا بلغْنا ذلك الباب.
ولا أُقِرُّ أنّ الولدَ يُخرج رأسه من فرج أمِّه حتى يأكل شبعه، ثمَّ يدخل رأسَه من فَرْج أمِّه، ولستُ أراه مُحالاً ولا ممتنعاً في القُدرة، ولا ممتنعاً في الطبيعة، وأرى جَوازَه مَوْهُوماً غيرَ مستحيل، إلاّ أنَّ قلبي ليس يقبلُه، وليس في كونه ظُلْمٌ ولا عَبَثٌ ولا خطأ ولا تقصير في شيء من الصفات المحمودة، ولم نجد القرآنَ يُنكره، ولا الإجماعَ يدفعُه، واللّه هو القادر دون خَلْقه، ولست أبتُّ بإنكاره وإن كان قلبي شديدَ الميل إلى ردِّه، وهذا ممّا لا يعلمه النَّاسُ بالقياس، ولا يعرفونه إلاّ بالعيان الظاهر، والخبر المتظاهر.
عجيبة الدسَّاس وليس الخبر عنهُ مثلَ الخبرِ عن الدَّسَّاس التي تَلِدُ ولا تَبيض، وإنما أنكر ذلك ناسٌ لأنَّ الدَّسّاس ليس بأشرف كالخُفَّاش، بل هو من الممسوح كسائر الطير، وكاللواتي يبضْن من ذوات الأربع من المائيَّات والأرضيَّات.
عجائب الدلفين واللُّخم والكوسج وليس الخبر عن الكركدَّن أيضاً كالخبر عن الدُّلْفين أنَّها تَلِد وعن اللُّخْم مثل ذلك، وأنَّ الكَوسج يتولَّد من بين اللَّخْم وسمكةٍ أخرى، وهذا كلُّه غيْرُ مستحيل، إلاّ أنِّي لا أجعلُ الشيءَ الجائزَ كونُه كالشيء الذي تثبِّته الأدلَّة ويخرِجه البرهان من باب الإنكار، والواجبُ في مثل هذا الوقفُ، وإن كان القلبُ إلى نقض ذلك أمْيَل.
والمَيْل أيضاً يكون في طبقات، وكذلك الظن قد يكون داخلاً في باب الإيجاب، وربَّما قصَّر عن ذلك شيئاً.
زعم ولادة السمك وقد زعم ناسٌ من أهل العلم أنَّ السَّمَكَ كلَّه يلِد، وأنهم إنما سمَّوْا ذلك الحَبَّ بيضاً على التشبيه والتمثيل، لأنّه لا قشر له هناك ولا مُحّ ولا بَياضَ، ولا غِرْقِئَ؛ وأنّ السمكةَ لا تخرج أبداً إلاَّ فارغةَ الْبَطْنِ أو محشوَّة، ولم نر الحَبَّ الذي بقرب مَبالها أعظمَ، ولم نَرها ألقَتْ إحدى تلك الطّوامير وبقّت الأخرى، وإنما غلط في ذلك ناسٌ من قِبَل ضيق السبيل والمَسْلَكَ، فظنوا أنّ خرق المبال يضيق عن عِظم ذلك الجسم العظيم المجتمع من الحبِّ الصغار، قالوا: فإنما تُخرج تلك الطواميرَ واحداً فواحداً، وأوّلاً فأولاً.
عجائب الولادة وما ذلك بأعجبَ ولا أضيق من حياء الناقة والسَّقبُ والحائلُ يخرجان منه خروجاً سَلِساً إذا أذن اللّه بذلك، وكذلك المرأة وولدها، والفِيلةُ، والجاموسة، والرَّمَكةُ، والحِجْر والأتان، والشاة في ذلك كلِّه مثلُ السمكة.
وقالوا: لا بُدَّ للبيض من حَضْن، ومتى حَضَنَت السمَكةُ بيضَها لا تلتفت إلى بيضها وفراخها.
زعم العوام في الكركدن والعوامُّ تضرِبُ المثلَ في الشدّة والقوَّة بالكركدَّن، وتزعم أنه ربما شطحَ الفيل فرفعه بقرنه الواتِد في وسْط جَبْهته، فلا يشعرُ بمكانه ولا يحسّ به حتّى ينقطع على الأيَّام.
وهذا القولُ بالخرافة أشبَه.
مزاعم في ضروب من الحيوان وأعجبُ من القول في ولد الكركدَّن ما يخبرنا به ناسٌ من أهل النظر والطبّ وقراءة الكتب، وذلك أنّهم يزعمون أنّ النمرة لا تَضَعُ ولدَها أبداً إلاّ وهو متطوِّق بأفعى، وأنها تعيش وتنهش، إلاّ أنها لا تقتل، ولو كنتُ أجسُر في كتبي على تكذيب العلماء وَدَرَّاسِي الكتب، لبدأت بصاحب هذا الخبر.
وليس هذا عندي كزعمهم أنّ الأفعى تلد وتبيض، لأنَّ تأويل ذلك أنَّ الأفعى تتعضَّلُ ببيضها، فإِذا طرَّقتْ بالبيض تلوّت فحطمَتْه في جَوفها، ثم ترمي بتلك القشور والخَرَاشِيّ أَوّلاً فأولاً، كما لا بدّ لكلِّ ذات حملٍ أن تُلْقِيَ مشيمتَها.
 ويزعُم كثيرٌ من الأعراب أنّ الكَمْأَة تتعفَّن، ويتخلّق منها أفاعي، فهذا الخبرُ وإن كنت لا أتسَرَّعُ إلى ردِّه فإنِّي على أصحابه أَلْيَن كَنفاً.
قرن الكركدن وأمَّا قَرْن الكَرْكَدَّن فخبَّرَني من رآه ممَّن أثِقُ بعقْله، وأسكن إلى خَبَره، أنَّ غِلظَ أصله وسَعة جسمه يكونُ نحواً من شِبرين، وليس طولُه على قدْرِ ثِخَنه، وهو محدَّد الرأس، شديدُ الملاسة، ملموم الأجزاء مُدْمج، ذو لدونةٍ وعُلوكة في صلابة، لا يمتنع عليه شيءٌ، ويُجهز مِنْ عِندنا بالبصرة إلى الصين؛ لأنَّه يقع إلينا قبلهم، فإذا قطعُوه ظهرت في مقاطعه صُوَرٌ عجيبة، وفيه خصال غير ذلك، لها يطلب.
خيل النهر وقد كنا نزعُم أنّ الهواء للعقاب، والماء للتمساح، والغياض للأسَد حتى زعم أصحابُنا أنَّ في نيل مصر خُيولاً تأكل التماسيح أكلاً ذريعاً وتقوى عليها قوة ظاهرة، وتغتصِبُها أنفسَها فلا تمتنع عليها، وعارَضوا مَن أنكر خيلَ الماء، بخنازير الماء وبكلابِ الماء، وبدُخّس الماء.
إنقاذ بعض حيوان البحر للغريق ولم أجدْهم يشكُّون أن بعضَ الحيوان الذي يكون في البحر ممّا ليس بسمك وهو يعايش السمك - وقد ذهبَ عنِّي اسمُه - أنَّه متى أبصر غريقاً عَرض له وصار تحت بَطنه وصَدْره، فلا يزال كالحامل له والمُزْجي والمعين، حتى يقذفَ به إلى حزيرة، أو ساحلٍ، أو جبل.
وأصنافُ سمَك البحر، وأجناسُ ما يعايش سمكَ البحر لا تكون في أوساط اللُّجج وفي تلك الأهوَاز العِظام، مثل لجَّة سقُوطْرَا، وهركند، وصنجى، وكذلكَ أهلُ البحرِ إذا عاينُوا نباتاً أو طيراً، أيقَنُوا بقرب الأرض إلاَّ أنّ ذلك القريب قد سمِّيَ بعيداً، فلذلك سَلِم ذلك الغريقُ بمعونة ذلك الحيوان.
مسالمة الأسد للببر ومعاداته للنمر فأمّا الأسَد والبَبْر فَمُتسالمان، وأما الأسد والنمر فَمُتَعَاديان والظَّفَر بينهما سِجال، والنَّمر وإن كان ينتصف من الأسد فإنّ قُوَّتَه على سائر الحيوان دون قوَّته على الأسد، وبدنه في ذلك أحملُ لوَقْع السِّلاح، ولا يعرِضُ له البَبْر، وقد أيقنا أنَّهما ليسا من بابته، فلا يعرض لهما، لسلامة ناحيته وقلة شرِّه، وهما لا يعرضان له لما يعرفان من أنفسهما من العَجْز عنه، وأمَّا البهائم الثلاث اللواتي ذكَرْناها فإنَّها فوق الأسد والنمر.
والبَبْر هنديٌّ أيضاً مثل الفيل، وأمَّا الكركدَّن فلا يقوم له سبعٌ ولا بهيمة، ولا يطمع فيه، ولا يَرومُ ذلك منه.
مبارزة الجاموس للأسد وأمّا الجاموس والأسَد فخبَّرني محمد بن عبد الملك أنّ أمير المؤمنِين المعتصمَ باللّه، أبرَزَ للأسد جاموسَيْن فغلبَاه، ثم أبرز له جاموسةً ومعها ولدُها فغلبته وحمَتْ ولدَها منه، وحَصّنته، ثم أبرز له جاموساً وحْدَه فواثَبَه ثم أدبر عنه.
هذا وفي طبع الأسد الجرأة عليه، لأنّه يعدّ الجاموسَ من طعامه، والجاموسُ يعرف نفسَه بذلك، فمع الأسد من الجُرأة عليه على حَسب ذلك ومع الجاموس من الخوف على قَدْر ذلك، وفي معرفة الأسد أنّ له في فمه من السِّلاح ما ليس لشيء سواه، وفي معرفة الجاموس بعدم ذلك السِّلاح منه، فمعه من الجرأة عليه بمقدار ما مع الجاموس من التهيُّب له، فيعلم أنّه قد أعطي في كفِّه ومخالبه من السلاح ما ليس لشيء سواه، ويعلم الأسَد والجاموسُ جميعاً أنّه ليس في فم الجاموس ويده وظِلْفه من السِّلاح قليلٌ ولا كثير، فمع الأسد من الجَراءة عليه، ومع الجاموس من الخوف منه، على حَسب ذلك، ويَعلمُ الأسدُ أنّ بدنَه يَمُوج في إهابه، وأنّ له مِن القوَّة على الوثوب والضَّبْر والحُضْر، والطَّلَب والهرَب، ما ليس في الجاموس، بل ليس ذلك عند الفَهْد في وثوبه، ولا عند السِّمْع في سرعة مَرِّه، ولا عند الأرنب في صَعْدَاء ولا هَبُوط، ولا يبلُغُه نَقَزان الظَّبي إذا جَمَعَ جراميزهُ، ولا ركْضُ الخيلِ العِتاق إذا أُجيد إضمارُها، والجاموسُ يعرف كلَّ ذلك منه.
ومع الجاموس من النُّكوص عنه بقَدْر ما مع الأسد من الإقدام عليه، ويعلم أنّه ليس له إلاّ قرنُه وأنّ قرنَه ليس في حدّة قُرون بقَر الوحْش، فضلاً عن حِدّة أطراف مخالب الأسَد وأنيابه وأن قرنه مُبْتَذَلٌ، لا يصان عن شيءٍ، ومخالب الأسد في أكمام وصِوان.
 وإذا قوي الجاموسُ مع هذه الأسباب المجبِّنة على الأسد مع تلك الأسباب المشجِّعَة حتى يقتله أو يعرِّدَ عنه، كان قد تقدَّمَه تقدُّماً فاحشاً، وقد علاه عُلوّاً ظاهراً، فلذلك قدَّمنا الجاموسَ وهو بهيمة، وقدَّمنا رؤساء البهائم على رؤساء السباع، هذا سِوى ما فيها من المرافق والمنافع والْمَعاون.
والجاموس أجْزَعُ خلْق اللّه مِن عَضِّ جِرجسةٍ وبعوضةٍ، وأشدُّهُ هرباً مِنْهُما إلى الماء، وهو يمشي إلى الأسد رَخِيَّ البال، رابط الجأش، ثابت الجنان، فأمَّا الفيلُ فلم يولّد الناسُ عليه وعلى الكركدَّن ما ولَّدُوا من إفراط القُوَّة والنَّجدة والشَّهامة، إلاّ والأمرُ بينهما متقاربٌ عندهم.

مغالبة الفيل للأسد

والهندُ أصحابُ البُبور والفُيول، كما أنَّ النُّوبة أصحابُ الزَّرافات دونَ غيرهم من الأُمم، وأهلُ غانةَ إنما صار لباسُهم جلودَ النمور لكثرة النمور بها، إلا أنَّها على حالٍ موجودةٍ في كثيرٍ من البُلدان.
وقد ذكَرُوا بأجمعهم قُوّةَ الفِيل الوحشيِّ على الأَسد، وقالوا في الفِيَلة الأَهليَّة إذا لقِيتْ عندنا بالعِراق الأُسْد وجمعنا بينهما، قالوا: أما واحدة فإنّ ذُكور الفِيَلة لا تكاد تعيشُ عندكم، وأنيابُها التي هي أكبَرُ سلاحِها لا تنبُت في بلادكم، ولا تعظُم ولا تزيدُ على ما كانت عليه ما أقامت في أرضكم، وهي أيضاً لا تتناتج عندكم، وذلك من شدّة مُخالَفة البلدة لِطبائعها ونقضها لقواها، وإنما أسْرَعَ إليها الموتُ عندكم للذي يعتريها من الآفات والأعراض في دُوركم، فاجتمعت عليها خصال، أوّل ذلك أنها مع الوحش وفي صميم بلادها أجرأ وأقوى، وأشهَمُ نفساً وأمضى، فلمّا اصطَدْناها بالْحِيَل، وصيَّرْناها مقصورة أهليَّة بعد أن كانت وحشيَّةً وفي غير غذائها، لأنّها كانت تشرب إذا احتاجت، وتأكل إذا احتاجت وتأخذ من ذلك على مقادير ما تعرف من مَوقعِ الحاجة، فلما صارت إلى قيام العبيد عليها، والأجَراء بشأنها، والوكلاء بما يصلحها دخل ذلك من النقض والخوَر، والخطأ والتقصير، على حسب ما تَجِدُ في سائر الأشياء، ثم لم نَرْض بذلك حتَّى نقلناها من تلك البلدة على إنكارها لتلك اللدة، فصيَّرْناها إلى الضدِّ بعد أن كانت في الخلاف.
وقد علمنا أنَّ سبيلَها سبيلُ سائر الحيوان، فإنّ الإبلَ تموت ببلاد الروم وتَهلكُ وتسوءُ حالُها، والعقارب تموت في مدينة حِمْص، والتماسيح تموت إن نُقلت إلى دِجلة والفرات، والنَّاس يصيبهم الجَلاءُ فيموتون ويتهافتون، وقد علمنا أنَّ الزِّنج إذا أُخرجوا من بلادهم فما يحصل بالبصرة عندنا منهم إلاَّ اليسير، وكذلك لو نقلوا إليكم بزر الفُلفُل والسَّاج والصَّندل والعُود، وجميعَ تلك الأهضام، فما امتناعُ نباتِ العاج ببلادكم إلاّ كامتناع نباتِ الآبنوس، وإن كان ينبت في حيوان والآخر في أرض.
فلا يفتخرنَّ مفتخر في الأسد في هذه البلدة إذا قاوم الفيل، والأسد هاهنا في بلاده وفي الموضع الذي تتوفّر أموره عليه، لأنَّ أُسْد العراق هي الغاية، وأقواها أُسْد السّواد ثم أُسْد الكوفة، ولأنّ الفِيَلَة عندكم أيضاً تَرَى عندَكم السَّنانير، وقد جَعَل اللّهُ في طَبْع الفيل الهربَ من السِّنَّور والوَحشةَ منه، كما أنَّ بعضَ شجعانِكم يمشي إلى الأسد، ويقبض على الثُّعبان، ولا يستطيع النَّظَرَ إلى الفأر والجرذان، حتى يهرُب منها كلَّ الهرب، ويعتريه من النّفضة واصفرار اللّوْن ما لا يعتري المصبور على السَّيف وهو يلاحِظُ بريقه عند قفاه.
خوف عبد اللّه بن خازم من الجرذ وذكر عليّ بن محمد السميري قال: بينما عبد اللّه بن خازم السُّلَميّ عند عبيد اللّه بن زياد، إذ أُدْخِلَ على عبد اللّه جرذ أبيض ليُعجَّبَ منه، فأقبل عبيدُ اللّه على عبد اللّه فقال: هل رأيتَ يا أبا صالحٍ أعجَب من هذا الجرذ قط? وإذا عبد اللّه قد تضاءَل حتى صار كأنه فرخ، واصفَرَّ حتى صار كأنَّه جرادة ذَكَرٌ، فقال عبيد اللّه: أبو صالحٍ يَعصِي الرَّحمن، ويتهاوَن بالشيطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي إلى الأسد، ويَلقَى الرِّماح بوجهه، وقد اعتراه من جُرَذ ما ترون? أشهَدُ أنَّ اللّه على كلِّ شيءٍ قدير.

خوف الفيل من السنور

وإذا عاين الفِيلُ الأسدَ رأى فيه شَبَه السّنّور، فيظنُّ أنه سنّور عظيمُ فلا يبلغ منه مقدارَ تلك المناسبة، وذلك الشّبه، ومقدارَ ذلك الظنّ ما يبلغ رؤيةُ السِّنَّور نفسهِ، وليس هربُه منه مِن جهةِ أنّه طعامٌ له، وأنّه إن ساوَرَه خافه على نفسه، وإن كان في المعنى يرجع إلى أنّه طعامٌ لصغار السِّباع وكبارها، وهَلْ قتل أسدٌ قطُّ فيلاً، ومتى أكله? وإنَّه مع ذلك لرُبَّما رَكَله الرَّكْلة، فإمّا أنْ يقتُلَه، وإمَّا أنْ يذهبَ عنه هارباً في الأرض، وإمَّا أن يُجْلِيَهُ.
وأيّة حُجَّة على الفيل في أن يرى سنوراً فينفر منه? فالأسدُ يُشار إليه بِشُعلةٍ من نار، أو يُضرَب له بالطَّسْتِ فيهربُ منه، فإنما هذا كنحو تفزُّع الفَرَس من كلِّ شيءٍ يراه في الماء وهو عطشانُ فيأباه.
ويزعم ناسٌ من أصحاب الخيل أنّ الفَرَس ليس يضرب بيديه في الماءِ الصافي ليثوِّره، لأنَّ الماء الكدرَ أحبُّ إليه، وما هو إلا كالثَّور الذي يحبُّ الصافي ويختاره، ولكنه إذا وقف على الماء الصافي رأى فيه ظِلّه وظلّ غيرِه من الأشخاص، فيفزعه ذلك، فلمعرفته بأنَّ الماء الكدرَ لا تتصوَّر فيه الصُّوَر يضرِب بيديه، هذا قول هؤلاء، وأمَّا صاحبُ المنطق وغيرهُ ممَّن يدَّعي معرفةَ شأنِ الحيوان فإنّه يزعُم أنَّ الفرسَ بالماء الكدِر أشدُّ عُجْباً منه بالماء الصافي، كما أنَّ الإبلَ لا يُعجِبها الماءُ إلاَّ أنْ يكونَ غليظاً، وذلك هو الماءُ النَّمير عندهم، وإنَّما تصلُح الإبل عندَهم على الماء الذي تصلُح عليه الخيل.
تداوي الحبشة والنوبة بأضراس خيل الماء وأعفاجها ويزعُم مَنَ أقام ببلاد السُّودان أنَّ الذين يسكُنون شاطئ النيل من الحبشة والنُّوبة، أنهم يشربون الماء الكدر، ويأكلون السَّمك النِّيء فيعتريهم طحالٌ شديد، فإذا شدُّوا على بطونهم ضِرْساً من أضراس خَيل الماء وجدْوه صالحاً لبعض ما يعرض من ذلك، ويزعمون أن أعفاج هذا الفرس تُبْرِئُ من الصَّرْع الذي يكون في الأهِلّة.
دفاع صاحب الأسد وقال بعض من يَنْصُرُ الأسَد: إن الأُسْدَ في الهند أضعَفُ، بل هي ضعيفةٌ جدّاً، والفيل في بلادهم أقوى، والوحشي منها أجرأ، والمغتلم لا يقوم له إلا الكركدَّن؛ وإنه ليهجُم عليه فيحجم عنه حتى تذهب عنه سَكْرة الغُلْمة، فيرجعُ إلى معرفةِ حال الكركدَّن فلا يَطور طوَارَه، ولا يحلُّ بأَدانِي أرضه.
وأما الفيل فإذا كان غيرَ هائجٍ والأسدُ في غير أيَّام هِيَاجِه ثم يكونُ الأسَدُ عِراقيّاً ويكونُ سَوادِيّاً ويكون من أجَمَة أبْزيقيا فإنَّ الفيلَ لا يقوم له.

قول صاحب الفيل

وقال صاحب الفيل: الفيل لا يُعاينُ أسداً أبْزيقيّاً حتى تفسَخَه البلْدة، وتَهدِمَهُ الوحشة، ويُمرضه الغِذاء، ويُفسده الماء، وهو لا يصل إلى ذلك المكان حتى يجمع بينه وبين ذلك الأسد، وحتى يَسْمَع تجاوُبَ السَّنانير وتَضَاغيها - وهو أسمَعُ من قُراد - فيغِبّ ذلك في صدره، وتتزايد تلك الوَحشةُ في نفسه، فمتى رأى أسداً قائماً فربَّما دعَته الوحشة منه، والبغض المجعُول فيه، إلى الصُّدُود والذَّهاب عنه، فيظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ ذهابَه هرَب، وأنّ صدودَه جُبْن، وإنَّما هو من الوَحشة منه، والكَراهة لمنظَرَتِه، وربَّما اضطرَّهُ الأسدُ بخُرْقه حتى يُنقَضَ حِلمُه، ويُغلَب وقارُه، فيخبطُه خَبطةً لا يُفلح بعدها أبداً.
فخر صاحب فرس الماء قال صاحبُ الفَرَس: زعمتم أنَّ الأسدَ في الأرض كالعقاب في الهواء، وكالتمساح في الماء، وأنَّ تمساحاً وأَسداً اعتلجا على شريعةٍ فقتَلَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وكأنَّ التمساح ضرب الأسد بذنبه في الشريعة، وضغمَ الأسدُ رأْسَه فماتا جميعاً.
قال: والفَرسُ المائيُّ بالنِّيل يقتُلُ التَّماسيحَ ويقهرُها ويأكلها ولا يُساجلُها الحرب، ولا تقَعُ بينهما مغالَبةٌ ومجاذَبة، وتكون الأيام بينهما دُوَلاً، فهذه فضيلةٌ ظاهرة على الأَسد، وشرفُ فَرس الماء راجعٌ إلى فرس الأَرض، فإنْ كان فرسُ الأرض لا يقوى على الأَسَد ولا على النَّمر ولا على البَبْر، فإن ابنَ عمِّه وشكلَه في الجنْسِ قد قوِيَ على التِّمساح وهو رئيسُ سُكان الماء.
 قالوا: أَمَّا واحدة فإن التمساح ليس برئيسِ سُكان الماء إلا أَن تَريد بعضَ سكان الأَودية والأَنهار والخُلجان والبُحَيْرات في بعض المياه العذبة، والكوسج واللُّخْم والسَّرَطان والدُّلْفين وضَرُوبٌ من السباع مما يعايشَ السَّمك ليس التمساح من بابه، وعلى أن التمساح إنما يأكله ذلك الفرسُ وهو في الماء، وليس للتمساح في جوف الماء كبيرُ عملٍ إلا أن يحتمل شيئاً بذنبه ويحتجنَه إليه، ويدخله الماء، وربَّما خرج إلى الأرض للسِّفاد ولحضْن البيض، فلا يكونُ على ظهر الأرض شيءٌ أذلُّ منه، وذلُّه على ظهر الأرض شبيهٌ بذُلِّ الأسَد في وسط الماء الغَمْر، ولَعمري أَنْ لو عَرَض له هذا الفرسُ في الشرائع فغلبه لقد كان ذلك من مفاخره، فلذلك لم تُذْكَر الخيل في باب الغلبة، والقتال والمساجلة، والانتصاف من الأعداء.
والفرَس قد يُقاتل الفرسَ في المُرُوج إذا أراد أن يحمِيَ الحُجور، كما يحمِي العيرُ العانة ويقاتل دونها كلَّ عيرٍ يريد مشاركتَه فيها، وهذا شيءٌ يعرض لجميع الفُحولة في زمن الهيج.
وقد يصاوِلُ الجملُ الجملَ فربَّما قتلَ أحدُهما صاحبَه، ولكنَّ هذه الفَحولَةَ لا تعرِض لشيءٍ من الحيوان في غير هذا الباب.
وإن أرادَ الفرسَ أسدٌ، فليس عنده من إحراز نفسه وقَتْل عدوِّه ما عند الجاموس، فإنْ فضَلَه الجاموسُ بقرنيه، فإن السِّلاح الذي في فَم الفَرس لو استعمله لكان سِلاحاً، ولو استدْبَرَ الأسدَ فركله ورَمَحه وعَضّه بفيه، لكان ذلك ممَّا يدفع عنه ويحمي لحمَه.
وليس للجاموس في أظلافه وفي يديه ورجليه وفي فمه سلاح، فقد دلّت الحالُ على أنّ مدارَ الأمر إنَّما هو في شَجاعة القلب.
وفي هذا القياس أنّ الصَّقْر إنَّما يواثِبُ الكُرْكيَّ لمكان سلاحه دون شجاعة القلب التي يقوى بها الضَّعيف، وبخلافها يضعُف القويّ.
وسأقرّب ذلك عندك ببعض ما تعرِفه، لا نَشكّ أنّ الهرّ أقوى من الهرَّة في كلِّ الحالات، حتى إذا سفِدها فحدثَتْ بينهما بغضاء ومطالبة حدثت للهرَّة شجاعةٌ وللهرِّ ضَعف، فصارت الهرَّةُ في هذه الحال أقوى منه، وصار الهرُّ أضعف، ولولا أنَّه يُمعِن في الهرب غايةَ الإمعان ثمَّ لحقته، لقطَّعته وهو مستخْذٍ.
ومثل ذلك أنَّ الجُرذ يُخْصَى ويرمى به في أنابِير التّجّار وفي الأقرِحَة والبيادر، فلا يدَعُ جُرذاً ضخْماً قد أعيا الهرّ وابن عِرْس إلاَّ قَتَلَه، وإنْ كان أعظمَ منه وأشدّ.
والخَصيُّ من كلِّ شيءٍ أضعَفُ قوَّةً من الفَحْل إلاّ الجرذ، فإنه إذا خُصي أحدث له الخصاء شجاعةً وجَراءة، وأحدثَتْ له الشَّجَاعة قوَّة وأحدث علم الجرذان بحال الخصاء لها جُبْناً، وأحدَثَ الجُبنُ لها ضعْفاً.
والرَّجُلُ الشّدِيدُ الأسر قد يَفْزَعُ فتنحلُّ قُوَاهُ، ويسترخي عصبُه حتّى يضربه الصبيُّ، والذِّئبُ القويُّ من ذئاب الخمر يكون معه الذئبُ الضعيف من ذئاب البراري، فيصيب القويَّ خدشٌ يسيرٌ، فحينَ يَشمّ ذلك الذئبُ الضعيف رائحةَ الدَّم وثب عليه، فيعتري ذلك القويّ عند ذلك من الضّعف بمقدار ما يعتري الضعِيفَ من القُوَّة حتى يأكله كيف شاء.
والأسَد الذي يعتريه الضَّعف في الماء الغَمْر حتّى يركبَ ظهرَه الصبيُّ ثم يقبضَ على أذنيه فيُغطه كيف شاء.
وقد يفعل به ذلك غِلمان السَّوَادِ وشاطئ الفرات، إذا احتملت المدودُ الأسْدَ لا تملك من أنفُسها شيئاً، وهو مع ذلك يشدُّ على العسكر حتى يفرقه فَرْقَ الشَّعر، ويطويه طيَّ السِّجِل؛ ويهارِشُ النمرَ عامّة يومه لا يقتلُ أحدُهما صاحبَه، وإنْ كان الجمل الهائجُ باركاً أتاه فضرب جنبَه ليثنِيَ إليه عنقَه، كأَنه يريد عضّهُ فيضربُ بيساره إلى مشْفره فيجذبه جذبةً يفصل بها بين دَأَيات عنُقه، وإن ألفاه قائماً وثب وثبة فإذا هو في ذروة سنامه، فعند ذلك يصرِّفه كيف شاء، ويتلعَّب به كيف أحبّ. ونحن لا نشكُّ أنّ للفَرس تحتَ الفارس غَناءً في الحرب لا يُشْبهه غَناء، ولذلك فُضِّل في القَسْم، وإنما ذلك بتصرِيف راكِبه له، وقتالِه عليه، فأمَّا هو نفسهُ فإنه إذ كان أوفَرَ سلاحاً من الجاموسِ وخام عن قِرنه، واستسلم لعدوِّه؛ فإنّه من هاهنا لا يقدم على غيره، ولم يكن اللّه ليجعلَ انحصارَ جميع أقسام الخير في شخصٍ واحد، ولكن لمَّا أن كان الفَرَس عليه تقاتل الأنبياءُ وأتْباع الأنبياء، ملوكَ الكفَّار وأتْباعَ مُلوك الكُفار حتّى يقمَع اللّه الباطلَ ويُظْهِر الحقّ؛ فلذلك قدَّمناه على جميع البهائم والسِّباع، وإنما نُقَدِّمه على الوجه الذي قدَّمه اللّه فيه.
الرد على صاحب فرس الماء واعترضَ على أصحاب فرَس الماء معترِضون فقالوا: الفرسُ لا يكون إلاّ بهيمة، والبهائم لا تصيد وتأكل صَيدَها، وإنما طعامُ الفرسِ النَّباتُ وليس اللَّحمُ لها بطعام، وقال النمر بن تولب:

نُطْعمُها اللّحمَ إذا عَزّ الشَّجَـرْ

 

والخيلُ في إطعامها اللّحمَ ضرَرْ

في كلمته التي يقول فيها:

اللّهُ من آياته هذا القمرْ

وقد تُعلَف في تلك الحالاتِ اللّحمَ اليابس وهسيسَ السّمك، فأمّا الهسيس فلخُيول أهل الأسياف خاصّة.
الرد على صاحب فرس الماء قيل لهؤلاء المعترضين على فَرَس الماء: وقد يكون في الخلْق المشترك وغير المشترك ما يأكلُ اللَّحمَ والحَبّ، فالمشترك مثلُ الإنسانِ الذي يأكل الحيوان والنبات، وهذا العصفور من الخلق المشترك لأنّه يأكل الحبّ، ويصطاد النمل الطّيار والأرضة فيأكلُها، ويأكل اللّحم، والدَّجاجُ تأْكل اللَّحمَ والدِّيدان، وتحسُو الدَّمَ وتلقُط الحبّ، والغراب لا يَدَعُ شيئاً إلاَّ أكله.
وما خرج من حدِّ المشترك وهو كنحو الذِّئب والضَّبع، وكنحو الشَّاهين والصَّقر، فإنّ هذه وأشباهَها لا تعرفُ إلا اللَّحم، والحمامُ وضروبٌ من الطيرِ لا تعرِف إلاَّ الحبَّ والنَّبات، والمشتركُ أجمَعُ مما هو غير مشترك.
والسّمكة تأكل الطِّين والنّبات، وتأكل الجيف التي تصيب في الماء، وتُصاد بضروبٍ من الحيوان تُجعل لها في الشُّصوص، ثم ينصبون لكلِّ ضربٍ من السَّمك بضربٍ من الطُّعم.
والجِرّيُّ يأكل الجرذانَ ويصيدُها، وهو آكلُ لها من السّنانير والحيّات والكلابِ السَّلوقية، ويأكلُ الجِرِّيُّ جميعَ جِيفِ الموتى، والسَّمك يأكل السّمكَ ويأكلُ من كلّ حَبّ ونبات يسقط في الماء.
وإن استفهَمَ مستفهِمٌ، أو اعترض معترضٌ فقال: وكيف يأكل الجِرِّيُّ الجرذان، والجرذانُ أرضيَّةٌ بيوتيَّة، والجِرّيُّ مائي? قيل له: يخبِّرنا جميعُ مَن يبيتُ في السُّفُن وفي المشارع، في فيض البَصرة عندنا، أنّ جرذان الأنابير تخرُج أرسالاً باللّيل كأنّها بناتُ عِرْس، والجرِّيُّ قد كَمَنَ لهنَّ وهو فاتحٌ فاه، فإذا دنا الجُرذُ من الماء فعبَّ فيه التهمه ليس دون ذلك شيء، بشَجْر فمٍ واسع يَدخُل في مثله الضبُّ الهرم، وإنما يضَع بخطمه على الشَّريعة.
وسنذكر شيئاً من الطُّرَف والحِكم والأشعار، إذْ كُنَّا قد ذَكرْنا من الكلام في الحيوان صدراً صالحاً، وأبواباً جامعةً، ثم نعود في ذكر الفيل إنْ شاء اللّه، واللّهُ الموفّق.
شيء من الطرف والحكم والأشعار قال الشّاعر:

معَ الغَيْثِ ما نُلْقَى ومَن هو غالبُ

 

ونحنُ أناسٌ لا حجازَ بـأرْضِـنـا

خُطانا إلى أعدائنا فـنـضـاربُ

 

وإن قصُرَت أسيافُنا كان وصلُهـا

وتقصُر عمَّا يبلـغـون الـذَّوائبُ

 

ترى كلّ قومٍ ينظـرون إلـيهـمُ

مثل قول الآخر:

وليس إلينا في السَّلاليمِ مطلعُ

 

لكلِّ أناسٍ سُلَّمٌ يُرْتَـقَـى بـه

وكلُّ حجازٍ إن هبطناهُ بلقَـعُ

 

ومنزلُنا الأعلَى حجازٌ لمن به

إلى وَحْشِنا وحشُ البِلاد فيَرْبعُ

 

وينفِر منا كلُّ وحشٍ وينتمِـي

وقال حسَّان بن ثابت:

إذَا راح فَضْفاضَ العشيَّاتِ خِضْرما

 

ونَدْمانِ صِدقٍ تقطر الخـيرَ كَـفُّـه

ولم أكُ عِضّاً في الندامى مُلـوّمـا

 

وصلتُ به كفِّي وخالَطَ شِـيمَـتـي

شماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وتـكـرُّمـا

 

لنا حاضـرٌ فَـعـمٌ وبـادٍ كـأنّـه

 

فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنـمـا

 

ولدْنا بني العَنْقاء وابْنَيْ مـحـرِّقٍ

وأسيافُنا يقطرْنَ من نجـدةٍ دَمـا

 

لنا الجفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى

وقال أعرابيٌّ غزليّ:

بِبَعض الأذَى لم يَدْرِ كيف يُجيبُ

 

بنفسي وأهلي مَن إذا عَرَضُوا له

به سَكْتةٌ حتّـى يُقَـالُ مُـريبُ

 

ولم يعتذِرْ عُذْرَ البريء ولم تَزَلْ

وقال أعرابيٌّ من هُذيل:

وللّهُ أن يَسْقِيكِ أولَى وأوسَعُ

 

رَعاكِ ضمانُ اللّهِ يا أمَّ مالكٍ

أخافُ وأرجو والذي أتوقَّعُ

 

يُذكِّرُنِيكِ الخيرُ والشرُّ والذي

 

 

قطعة من أشعار الاتعـاظ

قال الشاعر:

وما ليس يُغْنِيك عنـه فَـذَرْ

 

عليك مِنَ امْرِكَ ما تستطـيع

مِنَ القَوْلِ في خَطَلٍ أوْ هَذَرْ

 

وللصَّمْتُ أجْمَلُ في حِـينِـهِ

فعادَ وَأوْدَى الذي في الحضَرْ

 

وكم غائبٍ كَانَ يَخشَى الرَّدَى

نَ مال إلى عِطْفِه فانقـعَـرْ

 

وبينا الفَتى يُعجبُ النَّاظـري

فإنَّ الفَنَا شأنُـهُ وَالـكِـبَـرْ

 

وبعضُ الحوادث إن يُبْـقِـهِ

تعلَّقَه الدَّهْرُ حتـى عَـثَـرْ

 

وكم من أخي نجدة مـاهـرٍ

تأتَّى لهُ الدَّهرُ حَتى انجَبَـرْ

 

وكم من أخي عثرة مُقْـتِـرٍ

وقال علقمة بن عبدة:

عَرِيفُهُمْ بأَثافي الشَّرِ مرجـومُ

 

وكلُّ قوْمٍ وإن عَزُّوا وإنْ كَثُرُوا

ممَّا يَضِنُّ به الأقوامُ معلـومُ

 

والحمدُ لا يُشْتَرَى إلا لهُ ثمـنٌ

والحِلْمُ آوِنَةً في النَّاس مَعْدُومُ

 

والجهلُ مَنْقَصَةٌ شَيْنٌ لصاحبِـهِ

على دعائمه لا بدَّ مَـهـدومُ

 

وكلُّ حِصْنٍ وإنْ طالَتْ سلامَتُه

عَلَى سَلاَمَتِهِ لا بُدَّ مـشـؤومُ

 

ومَنْ تَعَرََّض للغرْبانِ يَزْجُرُهَا

أنَّى تَوَجَّهَ والمحرومُ مَحْـرُومُ

 

وَمُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الْغُنمِ مُطْعَمُهُ

وقال عديُّ بن زيد العباديّ، وهو أحدُ من قد حُمِل عَلَى شعره الحَمْلُ الكثير، ولأهل الحِيرة بشعره عنايةٌ، وقال أبو زيدٍ النحويّ: لَو تمنَّيت أنْ أقولَ الشِّعر ما قلتُ إلا شعرَ عديِّ بن زَيد:

تروح له بالواعظاتِ وتغـتـدي

 

كَفَى زاجراً للمـرء أيَّامُ عـمـرهِ

متى تُغْوِها تُغْوِ الذي بك يَقتَـدِي

 

فنفسَك فاحفَظْها من الغيِّ والرَّدَى

فمثلاً بهَا فاجْزِ المُطالـب أو زِدِ

 

فإنْ كانتِ النَّعماءُ عنـدَك لامـرئ

فإنَّ القرين بالمقارَِنِ مُـقـتـدِي

 

عن المرْء لا تَسألْ وأبصِرْ قرينَـه

بحلمك في رِفْق وَلَمَّـا تَـشَـدَّدِ

 

ستُدرِك مِن ذي الجَهْل حقَّك كلـه

على المرء من وَقْع الحُسام المهنَّدِ

 

وظُلم ذوِي القرْبَـى أَشـدَّ عـداوةً

إذا خَطرَتْ أيدي الرِّجال بمشهَـدِ

 

وفي كثرة الأيدي عن الظُّلمِ زاجرٌ

قال المهلب بن أبي صُفرة: عجبْت لمن يشتري المماليك بمالِهِ كيف لا يشتري الأحرارَ بمعروفه.
وقال عبد اللّه بنُ جعفرٍ لرجلٍ يُوصِيه: عليك بصُحبةِ مَنْ إنْ صحِبْتَهُ زَانَك، وإنْ تركتَه شانَكَ؛ إن سألتَه أعطاك، وإن تركتَه ابتداك؛ إنْ رأى منك سيِّئة سدَّها، وإن رأى حسنةً عدّها؛ وإن وَعَدَك لم يُجْرِضْك وإن ألجِئْتَ إليه لم يرفُضْك.
وسأل يزيدَ بنَ المهلَّب رجلٌ من أصحابه حاجةً وذَكَرَ له خَلّة، فقال: أوجِّهُ بها إليك، ثمَّ حَمَلَ إليه خمسين ألفَ درهم، ثم كتب إليه: قد وجَّهتُ إليك بخمسينَ ألفَ دِرهم، لم أذكُرْها تمنُّناً، ولم أدَعْ ذكرها تجبُّراً، ولم أقْطَعْ بها لك رَجاء، ولم أُرِدْ بها منك جزاء.
وقيل ليزيد: ما أحسَنُ ما مُدِحتَ به? قال: قول زياد الأعجم:

إذا غَيَّرَ السلطانُ كـلَّ خـلـيلِ

 

فتًى زَادهُ السُّلطان في الحمد رَغبةً

شبيهٌ بقول الآخر:

وكلّ عزيزٍ عندَه متواضعُ

 

فتًى زادهُ عِزُّ المَهابةِ ذِلَّةً

وقال الآخر، وهو يدخل في باب الشكر:

طيَّرَ ما أبْلَيْتَني نُـعـاسِـي

 

شوقي إليك يا أبا العـبّـاس

والشُّكرُ قِدْماً في خيار النَّاسِ

 

إنّي لمعروفك غـير نـاس

أبيات لبعض الشعراء العميان أنشدني ابنُ الأعرابيِّ لرجلٍ من بني قُريع يَرْثي عينَه ويذكر طبيباً:

فأعْيا عَليَّ الطبُّ والمتطَبِّـبُ

 

لقد طُفتُ شرقيّ البلادِ وَغَرْبَها

وما خير عَيْنٍ بعد ثَقْبٍ بمثقبِ

 

يقولون إسماعيلُ نَقَّـابُ أعـيُنٍ

وما ماءُ عينٍ خانَ عيناً بطيِّبِ

 

يقولون ماءٌ طيِّبٌ خان عـينَـه

بعينَيْ قُطاميٍّ علا فوقَ مَرْقبِ

 

ولكـنَّـه أيّامَ أنْـظُـرُ طـيِّبٌ

على ماء إنسانيهما ماءَ طُحلبِ

 

كأنَّ ابنَ حَجلٍ مدَّ فضلُ جناحه

وقال الخُرَيميّ:

من القرْب إلاّ بالتَّكَلُّفِ والجـهـدِ

 

كفى حزَناً أن لا أزورَ أحـبّـتـي

ليَعدِلَني قبل الإجـابة فـي الـردِّ

 

وأنِّي إذا حُيِّيت نـاجـيتُ قـائدِي

بيَ النَّفْسُ حتى ما أحِيرَ وما أُبْدِي

 

إذا ما أفاضُوا في الحديث تقاصَرَتْ

فإنْ لم يحولوا عن وفاءٍ ولا عَهـدِ

 

كأَني غريبٌ بينهم لستُ مـنـهـمُ

من الناسِ إلا كلُّ ذِي مِرَّةٍ جَـلْـدِ

 

أقاسي خطوباً لا يقوم بثِـقْـلـهـا

باب في الحاجة قال ابنُ الأعرابيّ: قيل للأحنف: أتيناك في حاجةٍ، لا تَرْزَؤُك ولا تنكؤك، فقال: ليس مِثلي يُؤْتى في حاجةٍ لا تَرْزأ ولا تَنكأ.
وقال أعرابيٌّ لرجل: إني لم أصُنْ وجْهي عن الطَّلب إليك، فصُنْ وجهَك عن رَدِّي، وأنزِلْني مِنْ كرمك بحيثُ وَجْهي مِنْ رجائك.
وقال أبو عقيل بن دُرُسْت: لم يقْضِ ذِمامَ التَّأميل، ولم يَقُم بحُرمة الرَّجاء إلاّ مَن أعطاها حقَّها، ووفّاها حظَّها، وعرَف قدْرَها، وكيف يستبقي النِّعمة فيها، وكيف الشُّكرُ على أداء حقِّها، بالبِشْر عند المسألة، وقلّةِ التَّضجُّر عند المعاودة، وتوكيد الضَّمان عند العِدَةِ، وانتهازِ الفرصة عند القُدرة، ويكونُ النُّجح المعجل أحبَّ إليه من عُذْر المَصْدَق، وحتّى يرى أنَّ حقّك عليه في بذْل وجهك إليه أكثرُ من حقّه عليك في تحقيق أملك فيه، ثم إيجاب سترها، فإنَّ سَتْرَها هو المخبر عنها، والدالُّ عليها، والزَّائد في قدرها، والمتوَلِّي لنَشرها.
وقال الشاعر:

وإنَّ مَنّاً بِهَا يكدِّرُها

 

فإنَّ إحياءَها إماتتُها

باب في الوعد والوفاء به والخلف له قال عمرو بن الحارث: كنتُ متى شئتُ أن أجِدَ صفةَ من يَعِد ويُنجز وجدتُه، فقد أعياني من يعدُ ولا ينجز.
وقال أبو إسحاق النَّظام: كنَّا نلهو بالأماني، ونَطيب أنفساً بالمواعيد، فَذَهَبَ مَنْ يَعِدُ، وقطعَتْنا الهمومُ عن فضُول الأماني.
وقال الشاعر:

فإِذا جُلُّ مواعيدِكَ والجَحدُ سـواءُ

 

قد بَلوناك بحمد اللّه إن أغنى البلاءُ

وقال أعرابيٌّ: وعْدُ الكريم نقدٌ وتعجيل، ووعد اللئيم مَطلٌ وتعطيل.
وذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال: إذا أَوْعَدَ صدق، وإذا وَعَدَ كذب، ويغضَبُ قبل أن يُشتم، ويجزِم قبلَ أن يَعْلَم.
وقال عبدُ اللّه بنُ قيس الرقيَّات:

 

واللّهُ لِلمرْءِ خَيرُ مَنْ قَسَمَا

 

اخْتَرْتُ عبدَ العزيزِ مرتغِبـا

 

دادُ إذا ما مَدَحْتَه كـرَمـا

 

مِن البهاليل مِـنْ أمـيَّةَ يَزْ

 

كلبيّةٌ كان بيتُهـا دِعَـمـا

 

جاءت به حُـرّةٌ مـهـذّبةٌ

 

ثالُ بنيهنَّ تمنع الـذِّمـمـا

 

هُنَّ العَرَانينُ من قضاعةَ أَمْ

 

سِ كلَيْثٍ يُفرِّج الأَجـمـا

 

تُكِنُّهُ خِرْقةُ الدِّرَفْس من الشَّم

 

قد ناهَزَا للفِطام أو فُطِمـا

 

يقُوتُ شِبْلَين في مَغارِهمـا

 

لحمُ رجال أو يَوْلَغان دَمـا

 

لم يأتِ يومٌ إلا وعندَهُـمـا

 

كنَّ ابنَ ليلَى يفوقُه شيمـا

 

فذاك أشبَهْتَهُ ابنَ ليْلَـى ول

غِزْلانِ والخيلَ تعلك اللجُما

 

مَنْ يَهَبُ البُخْتَ والولائد كال

 

مِنْ فيه إلاّ مُحَالِفاً نَعَـمـا

 

يُنكر لا إنّ لا لمـنـكَـرَةٌ

 








وقال زيادَة بن زيد:

فأنتَ مُلاقٍ لا مَحالةَ مَذْهَـبـا

 

إذا فُرْجَةٌ سدّتْ عليكَ فروجَهـا

عليك رِتاجاً لا يُرامُ مُضبَّـبـا

 

فلم يجعلِ اللّهُ الأُمورَ إذا اغتدت

به صَيرفيّاتُ الأمور تقلـبـا

 

كفاك الغِنى يوماً إذا ما تقلَّبـتْ

لوجِه امرئٍ يوماً إذا ما تجنَّبـا

 

وإني لمزْوَرٌّ قليلٌ تـقـلُّـبـي

فإنْ حَلَّ يوماً قلتُ للشَّرِّ مَرْحَبا

 

قليلٌ ليوم الشَّرِّ وَيْكَ تعرُّضـي

وكان لنا حقًّا على الناس تُرْتُبَا

 

مَلَكْنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُـقَـدْ

وقال هُدْبة العُذْرِيّ:

وصِيحَ بريْعان الشَّباب فـنُـفِّـرا

 

فأُب بي إلى خيرٍ فقد فاتني الصِّبا

بنا وزمانٌ عُرْفُه قـد تـنـكّـرا

 

أمُورٌ وألوانٌ وحالٌ تـقـلَّـبـتْ

لَسُهِّلَ من أركانه مـا تـوعَّـرا

 

أُصِبْنا بما لو أنّ سَلْمى أصـابَـهُ

علينا فإنّ اللّهَ مـا شـاء يَسَّـرَا

 

فإن ننجُ من أهوالِ ما خاف قومُنا

ملوكَ بني نَصْرٍ وكِسرى وقَيْصَرَا

 

وإنْ غالَنا دهرٌ فقد غال قبـلـنَـا

فأعيا مَداهُ عن مَدَايَ فقَـصَّـرا

 

وذي نَيربٍ قد عابَني لينـالَـنـي

برَيْبٍ فإنْ تُشْوِي الحوادثُ مَعْشَرا

 

فإن يكُ دَهرٌ نالني فأصـابَـنـي

ولا جَزِعٍ إنْ كان دَهرٌ تـغـيَّرَا

 

فلست إذا الضَّرَّاءُ نابَتْ بـجُـبَّـأ

وكان هُدبةُ هذا من شياطين عُذْرة، وهذا شعرهُ كما ترى، وقد أُمِرَ بضرب عنقه وشَدّ خِناقه، وقليلاً ما ترى مثلَ هذا الشّعر عند مثل هذه الحال؛ وإنَّ امرأً مجتمعَ القلب، صحيحَ الفكر، كثير الرين، عَضْبَ اللّسان في مثل هذه الحال، لَنَاهِيكَ به مطلقاً غير موثق، وادِعاً غير خائف، ونعوذ باللّه من امتحان الأخيار.
وهو القَائلُ في تلك الحال:

إذا ما مضى يومٌ ولا اللوم مرجعا

 

فلا تعذليني لا أرى الدهر معتبـاً

ولاقي المنايا مصعدا ومفـرعـا

 

ولكن أرى أن الفتى عرضة الردى

نصيب الفتى من ماله ما تمتـعـا

 

وإن التقى خير المـتـاع وإنـمـا

أغم القفا والوجه ليس بأنـزعـا

 

فلا تنكحي إن فرق الدهر بينـنـا

إذا القوم هشوا للفعال تقـنـعـا

 

ضروبا للحييه على عظـم زوره

زيالك يوماً كان كالدهر أجمـعـا

 

وأخرى إذا ما زار بـيتـك زائرٌ

ومجداً قديماً طالما قد تـرفـعـا

 

سأذكر من نفسي خـلائق جـمةً

ولا قاطعاً عرقاً سنونا وأخـدعـا

 

فلم أر مـثـلـي كـاوياً لـدوائه

ولا حين جد الشر ممن تخشـعـا

 

وما كنت ممن أرث الشر بينـهـم

إذا ما رآني فاتر الطرف أخشعـا

 

وكنت أرى ذا الضغن ممن يكيدني

وما قرأتُ في الشِّعر كشعر عبد يغوث بن صَلاءةَ الحارثيّ، وطرفة بن العَبْد، وهدبة هذا، فإنّ شِعرَهم في الخوفِ لا يقصِّر عن شِعرهم في الأمْن، وهذا قليلٌ جدّاً.
من أشعار الأعراب أنشدني ابنُ الأعرابيِّ في معنى قوله:

 

كمخْض المـاءِ لـيس لـه إنَـاء

ولكن أساءَتْ هِمّةٌ مِن فتى مَحْضِ

 

وما كان مثلي يعتريكَ رجاؤُه

لكالمرْتجي زُبداً من الماء بالمخضِ

 

وإنّي وإشرافي إليك بـهـمَّـتـي

وقال الآخر في مثل قول عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة:

تسِير مع الرُّكبان أبْرَدُها يَغْلِـي

 

فلولا اتّقاءُ اللّه قـلـتُ مـقـالة

كمثلكَ إني مُبْتغٍ صاحباً مِثـلـي

 

ابنْ لي فكنْ مِثْلِي أوَ ابْتغ صاحباً

إذا لم يؤلَّف رُوح شكلٍ إلى شكلِ

 

ولا يلبثُ الأصحابُ أن يتفرَّقُـوا

فقال:

وقُرَّةُ عينِ الفَسْل أن يتبع الفَسْلا

 

لكلِّ امرئ شكلٌ يقرُّ بـعـينـه

ويَنذُلُ أنْ تلقَى أخَـا أمِّـهِ نَـذْلا

 

وتعرف في جُودِ امرئ جُودَ خالِه

وفي غير هذا الباب يقول الجَرَنفس اللص:

فقدْ أنَى لكَ مِنْ نِيءٍ بـإنْـضَـاجِ

 

أبلغ بني ثعَلٍ عنِّـي مُـغَـلـغَـلةً

واللّيْلَ فِي جوفِ منحُوتٍ من السَّاجِ

 

أمَّا النهارَ ففـي قَـيْدٍ وسِـلـسـلةٍ

وقال بعضُ اللصوص:

وهَجْرُ حبيبٍ إنَّ ذَا لَعظيمُ

 

أقَيْدٌ وَحَبْسٌ واغْترَابٌ وفرقةٌ

عَلَى عُشْرِ ما بي إنَّه لَكريمُ

 

وإن امرأً دَامت مَواثِيقُ وَدِّهِ

ومن المراثي المستحسَنة قولُ حارثة بن بدر الغُدانيّ، يرثي زياداً ابنَ أبيه:

وإنّ مَن غَرّت الدُّنيا لَمَـغْـرُورُ

 

أبَا المغـيرةِ والـدُّنـيا مـغـيِّرةٌ

وكان عندك للنَّكـراء تـنـكـيرُ

 

قد كانَ عِندَك للمعروف مَعـرِفةٌ

إن كان قبرُك أمْسَى وهو مهجورُ

 

وكنتَ تُؤْتَى فتُؤْتي الخيرَ من سعةٍ

دُونَ الثّويّة يسفي فوقَهُ الـمُـورُ

 

صلَّى الإلهُ على قبرٍ بِمَـحْـنِـيةٍ

وأنشد ابنُ الأعرابيّ:

ورُبَّ حسيب الأصلِ غيرُ حَسيبِ

 

وما حسَبُ الأقوامِ إلا فِعـالـهـم

وقال الآخر في مثله:

وَيَرَى مُرْوءتَه تكون بمنْ مضَى

 

ليس الكريمُ بمَنْ يدنِّسُ عِرضَـه

وَيَزِينَ صالحَ ما أتَوْه بما أتَـى

 

حَتَّى يَشِيدَ بنـاءَهـم بـبـنـائِه

وقال عبد اللّه بن معُاويةَ بنِ عبد اللّه بن جعفر:

يوماً على الأحسابِ نَتَّكِلُ

 

لَسْنا وإنْ كرُمَتْ أوائِلنُـا

تَبْني ونَفْعَلُ مِثْل ما فَعَلوا

 

نَبْني كما كانت أوائلُـنـا

وقال عُمر بنُ الخطّاب: كفى بالمرء عيباً أن تكون فيه خَلةٌ من ثلاث: أن يبدو له مِن أخيه ما يخفى عليه من نفسه، أو يَعيبَ شيئاً ثم يأتيَ مثله، أو يؤذِيَ جليسَه فيما لا يعنيه.
ووصف أعرابيٌّ رجُلاً فقال: آخَذُ النَّاسِ بما به أمَرَ، وأتْرَكُهم لما عنه زَجَر.
من هجا امرأته قدِم أعرابيٌّ فحلَفَ بطلاقِ امرأتَيه على شيء فحنث ثم هربَ فقال:

ما خوَّفوني بالطّلاقِ العاجـلِ

 

لو يعلم الغرَماء منزلَتَـيْهـمـا

عجفاءُ مرضِعةٌ وأُخرَى حاملُ

 

قد مَلَّتا وَمَلِلْتُ من وجْهَيهـمـا

وقال الأقرع بن مُعاذ القُشَيريّ:

إليَّ وإنْ ضاجَعْتُها لَبـغـيضُ

 

لَعمرُك إنّ المسّ من أمِّ خالـدٍ

على الثّوب نملٌ عاذمٌ وبَعوضُ

 

إذا بُزَّ عنها ثوبُها فـكـأنـمـا

وقال أعرابيٌّ يتألّهُ، لامرأته، وما الأعرابُ وهذا المذهبُ، ولكن كذا وقَعَ، واللّه أعلمُ بكثيرٍ من الرِّواية:

وأنَّها عِدَّةٌ تُـقْـضَـى وأوتـارُ

 

لولا مخافةُ ربِّي أنْ يُعاقِبَـنـي

وتُبْتُ بعدُ فإنّ الـلّـه غـفَّـارُ

 

لقد جعلْتُ مكانَ الطّوقِ ذا شُطَبٍ

وقال بعض المولَّدين:

ذاكِ جَزَاءُ الجوامِحِ الشُّمُسِ

 

تجهَّزي للطَّلاقِ وانصرِفي

ألذُّ عِنْدِي مِنْ لَيلةَ العُـرُسِ

 

للَيْلَتي حين بِـتُّ طـالـقةً

وأنشدني ابنُ الأعرابيِّ لأعرابي:

ناتية الناب كزوم قـنـفـرش

 

قد قرنوني بعجوز جحـمـرش

من آخر الليل كلاب تهـتـرش

 

كأنما دلاها عـلـى الـفـرش

كأن طي بـطـنـهـا كـرش

 

وجلدها من حكها القمل بـرش

تخشخش الضب دنا للمحتـرش

 

فقماء في حضن الضجيع تهتمش

وقال رجلٌ من بني نُميرٍ لامرأته، وكانت حضَرية:

تظلُّ بِرَوْقَيْ بَيتها الرِّيحُ تخفقُ

 

لَعـمـرِي لأَعـرابـيّةٌ بـدويةٌ

إذا رُفعَت عنها المراويحُ تعرقُ

 

أحبُّ إلينا من ضِنَاكٍ ضِـفِـنَّةٍ

صحيحٌ ويبدُو داؤها حين تُفْتَـقُ

 

كبِطّيخةِ البُسْتان ظاهرُ جِلدهـا

وأنشدني محمد بن يَسِير في امرأته أو في غيرها:

عُرقوبُها مِثلُ شَهر الصَّوم في الطولِ

 

أنْبِئْتُ أنَّ فتاةً كـنـتُ أخـطـبُـهـا

كأنّها حين يبـدو وَجْـهُـهـا غُـولُ

 

أسـنـانُـهـا مـائةٌ أو زِدْن واحـدةً

وإنما أكتب لك من كلّ بابٍ طَرَفاً، لأنّ إخراجَك مِن بابٍ إلى باب أبقى لنشاطك، ولو كتبتُه بكمالِه لكان أكملَ وأنبل، ولكن أخافُ التَّطْويل، وأنتَ جديرٌ أن تعرف بالجملةِ التّفصيلَ، والآخر بالأوّل.
مَن هجتْه زوجته قالت عصيمة الحنظليّة:

علينا حُفْرَةٌ مُلِئَتْ دُخانـا

 

كأنّ الدّارَ حين تكونُ فيها

فتصبِحَ لا نَرَاك ولا تَرانا

 

فليتَك في سَفين بني عِبادٍ

لقد أعطيتُها مائةً هِجانـا

 

فلو أنّ البُدور قَبِلْنَ يومـاً

وقالت امرأةٌ من بني ضبة لزوجها:

يمشي على مِثْل معوَجِّ العراجينِ

 

تراهُ أهْوَجَ ملعوناً خـلـيقـتُـه

إلاّ وآخَـرُ يَتْـلُـوهُ بـآمِــينِ

 

وما دعوتُ عليه قـطُّ ألـعـنُـه

وأنَّني قبلَه صُيِّرتُ بـالـصِّـينِ

 

فليتَه كان أرضُ الرُّوم مَنْـزلَـه

وقالت جمرة الأزدية لزوجها أبي وائل:

إذا ذُكِرَ القومُ بالطـائلِ

 

لعمرك ما إنْ أبـو وائل

وعُوجِلْتُ بالحدَث العاجلِ

 

فيا ليتني لم أكنْ عِرْسَـه

وقالت امرأةٌ من بني زياد الحارثي:

أريد كرامَ النَّاس أو أتـبـتَّـلُ

 

فلا تأمُرُوني بالتـزوُّج إنّـنـي

يُريحُ عليه حلمُه حين يجـهـلُ

 

أريد فتًى لا يملأُ الهَوْلُ صـدرَه

كعالية الرُّمح الطويل أوَ اطوَلُ

 

كمثل الفتَى الجعْدِ الطَّويل إذا غَدا

وقالت امرأةٌ من باهلة:

كأنَّ به كـلُّ فـاحـشةٍ وَقْـرَا

 

أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه

ولا مانع خيراً ولا قائلٌ هُجْـرا

 

سليمُ دَوَاعِي الصَّدْرِ لا باسطٌ أذًى

إذا ما بدا في ظلمةٍ طالعاً بَدْرا

 

كَمثل الفتى الذُّهْليِّ تحسِبُ وجهَه

وقال لبيد بن ربيعة:

وإلى اللّه يستـقـرُّ الـقَـرَارُ

 

إنما يحفطُ الـتـقَـى الأبـرارُ

اللّه وِرْدُ الأمـورِ والإصـدارُ

 

وإلى اللّه تُرْجَـعُـونَ وعِـنْـدَ

ظِرتُ لو كان ينفع الإنـظـارُ

 

إنْ يَكنْ في الحياة خيرٌ فقـد أُن

إلاَّ يَرَمْـرَمٌ وَتِـــعَـــارُ

 

عشْتُ دهراً فلن يدوم على الأيَّام

وأنشدني الأصمعيُّ قال: أنشدني رجلٌ، ولم يُسمِّهِ:

تدلُّ على مكـنـونِـهِ يُقْـبِـلُ

 

إذا ما بَدا عمرٌو بدَتْ منه صورةٌ

وَجُثَّةُ رُوميٍّ وشَعرٌ مُفَلْـفَـلُ

 

بياضُ خُراسانٍ ولُكْـنَةُ فـارسٍ

يدُلُّ عليها آخِـر الـقَـوْمِ أوَّلُ

 

لقد ألَّفَتْ أعضاءَُ عمرٍو عصِابةٌ

وقالت أخت ذي الرُّمّة ترثيه:

عَزاءً وجفنُ العَين مَلآن متْرَعُ

 

تعزَّيت عن أوفَى بغَيلانَ بعـدَه

ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوجَعُ

 

ولَمْ تنْسِني أوفَى المصيباتُ بَعْدهُ

وذو الرُّمَّة القائل: إذا قلت كأنَّ فلم أجِدْ مخْرجاً فقطَعَ اللّهُ لِسَاني.
وأنشد:

فِعْلَ الذَّليلِ ولو بَقِيتُ وحِـيدا

 

لا أتَّقي حَسَكَ الضَّغائنِ بالرُّقى

حتَّى أُدوايَ بالحُقود حُقـودا

 

لكن أعِدُّ لها ضغائنَ مِثلـهـا

تَشْفي السَّقيمَ وتُبْرِئُ المنجودا

 

كالخمرِ خَيْرُ دوائها منها بهـا

فأخذ الحِكَميُّ هذا فقال:

وأخرَى تداوَيْتُ منها بها

 

وكأْس شرِبْتُ على لـذَّةٍ

وقال ابنُ هَرْمة:

جَلَّت عن الوَصْف والإحصاء والعددِ

 

إنَّ أياديك عـنـدي غـيرُ واحــدةٍ

مُستوجِبُ الشُّكرِ منِّي آخِـرَ الأبـدِ

 

وليس منـهـا يدٌ إلاَّ وأنْـتَ بـهـا

وقال الآخر:

 

كشكْري ولا يَدْرِي عليَّ بن ثابتِ

 

سأشكُرُ ما أبْقانيَ اللّـهُ خـالِـداً

وحَمَّلَني مِن شكرِه فوقَ طاقَتي

 

حمَلْتُ عليه مُثْقِلاً فـأطـاقَـهُ

 








ورأى رجلٌ من النبيط الحجَّاج بعد موته في منامه فقال: يا حجَّاج، إلامَ صيَّرك ربُّك? فقال: وماذا عليك يا ابن الزَّانية، فقال: ما سِلمْنا مِن قَولك مَيْتاً، ولا مِن فِعْلكَ حَيّاً.
وقال الأشهب رجلٌ من أهل الكوفة يهجو نُوح بن دَرَّّاج:

إذ صار حاكمنَا نوحُ بنُ درَّاجِ

 

إنّ القيامة فيما أحسَبُ اقتربـتْ

صَحيحةً يدهُ من نَقْش حَجَّـاجِ

 

لو كان حَيًّا لَهُ الحجَّاجُ ما سَلِمَتْ

وكان الحجَّاج يَشِمُ أيديَ النَّبَط علامةً يُعْرَفون بها.
وقال رجلٌ من طيّئ لرجلٍ من فَزارة، وكان الرجل يتوعّده:

لنخشى فما نرتاع للجلـبـاب

 

فإن كان هذا يا فزار تجلـبـاً

وصارت نيوب العود مختلفات

 

أألآن لما أن علا الشيب مفرقي

لأعيننا ما كـنـتـم بـقـذاة

 

فو أن سافي الريح يحملكم قذى

إذ قام بين الأنف والسـبـلات

 

ألست فزارياً تـبـين لـؤمـه

عليها حياء البدن الخـفـرات

 

ترى الخيل تستحي إذا ما ركبتم

وقال أبو عبيدة:ما ينبغي أن يكون في الدُّنيا مثل النظَّام: سألتُه وهو صبيّ عن عَيب الزُّجاج، فقال: سريع الكَسْرِ، بطيء الجبر.
ومَدَحوا النَّخلةَ عِندَه، فقال:صعبةُ المرَتقى، بعيدةُ المَهْوَى، خشِنة المسّ، قليلة الظلّ.
وذكر النظّام الخليلَ بن أحمدَ فقالَ: توحَّدَ به العُجْبُ فأهلكَه، وصَوَّر له الاستبدادُ صوابَ رأيه فتعاطى ما لا يحسنُه، ورامَ ما لا يناله، وفتنَتْه دوائرُه التي لا يحتاجة إليها غيره.
وكان أبو إسحاق إذا ذكر الوهمَ لم يشكَّ في جُنونه، وفي اختلاط عقله، وهكذا كان الخليلُ، وإن كان قد أحسَنَ في شيء.
وكان النطَّام كثيراً ما ينشد:

به الخامل الجثَّامُ في الخفْض قانعُ

 

فلو كنت أرضَى لا أبالكَ بـالـذي

عَلَيّ وعندي للرِّجـال صـنـائعُ

 

قُصِرْتُ علَى أدْنى الهموم وأصبحَتْ

وقال المَرِيسيُّ لأبي الهُذيل بحضرة المأمون، بعد كلامٍ جرى: كيف ترى هذه السِّهام? قال: ليِّنة كالزُّبد، حُلوة كالشَّهد، فكيفَ ترى سهامَنا? قال: ما أحسستُ بها، قال: لأنَّها صادفَتْ جَماداً.
وأُنشِدَ أبو الهذيل:

ترَكَ التَّوهّمُ وجْهَها مَكلُوما

 

فإذا توهَّمَ أنْ يَراها ناظـرٌ

فقال: هذِهِ تُناكُ بأيرٍ من خاطر وأنشدني أبو الهذيل بعد أن أنشد هذا البيت:

ولا تُسَائِلْ عن خَبيءِ شأنِهِ

 

اسجُدْ لقِرد السَّوء في زمانِهِ

وقال آخر:

وكم مِنْ لئيمٍ أصبَحَ اليومَ صـاعِـدا

 

كم من كريم ضعْضَع الدَّهرُ حالَـهُ

بتجربةٍ أهْدَى النَّصـيحةَ جـاهِـدا

 

وقد قال في الأمثال في النَّاسِ واعظٌ

وذلك من حُسن المداراة سـاجـدا

 

إذا دولةٌ للقِرد جاءت فـكُـنْ لـهُ

تَراه إلى تُـبَّـانِـهِ الـرَّثِّ عـائدا

 

بذاك تـداريِه ويُوشِـكُ بـعَـدَهـا

وأنشدني الأصمَعيُّ في معنى قول الفرزدقِ:

بهِ لا بظبيٍ بالصَّريمةِ أعفرا

لرجل من بني القَين:

بنات الدهر ويحك ما دهاكا

 

أقول لصالحٍ لمـا دهـتـه

من الفتيان كربة ماشجاكـا

 

شجاك العزل لا بأخي نوالٍ

كذاك تكون أوبة من أتاكـا

 

أتيتك زائراً فرجعت صفراً

وإن كنت امرأ بخلت يداكا

 

أحب لك السلامة يا ابن أمي

فإن العرف من به سواكـا

 

حفاظاً للعشيرة لا بعـرفٍ

وقال الفرزدق:

سألتُ ومن يَسْأَلْ عن العِلم يَعْـلَـمِ

 

ألا خبِّرُوني أيُّها الـنـاس إنَّـنـي

وما العالم الواعي الأحاديثِ كالعَمي

 

سؤالَ امرئٍ لم يُغْفِل العلمَ صـدرُه

وقال أيضاً:

تَهيجُ جَليلاِت الأمور دقيقُهـا

 

ألم تعلموا يا آل طَوْعةَ أنـمـا

وخير أحاديث الرِّجال صدوقُها

 

سَأُثْني على سعدٍ بما قد عَلِمْتِـهِ

قال أبو عثمان: ومما أكتب لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسُر عليها إلا كلُّ وَقَاحٍ أخبارُ بعضِ العلماء وبعض من يؤلِّف الكُتب ويقرؤها ويدارس أهل العبر ويتحفَّظها.
زعموا أنَّ الضبع تكون عاماً ذكراً وعاماً أنثى، وسمعت هذا من جماعةٍ منهم ممَّنْ لا أستجيز تسميته.
قال الفضل بن إسحاق: أنا رأيتُ العَفْص والبَلُّوط في غصن واحد.
قال: ومن العفْص ما يكونُ مثلَ الأُكَر، وقد خبَّرني بذلك غيرُه، وهو يشبه تحوُّل الأنثى ذكراً والذَّكرِ أنثى.
وقد ذكرت العربُ في أشعارها الضِّباعَ والذِّئابَ والسِّمعَ والعِسبار، وجميعَ الوحوش والحشرات، وهم أخْبَرُ الخلق بشأن الضَّبع، فكيف تركَتْ ما هو أعجبُ وأطرَفُ.
وقد ذكرت العلماء الضِّباعَ في مواضعَ من الفُتْيا لم نرَ أحداً ذكَرَ ذلك، وأولئك بأعيانهم هم الذين زعموا أن النمر الأنثى تضع في مشيمةٍ واحدةٍ جرواً وفي عنقه أفعى قد تطوَّقَتْ به، وإذا لم يأتِنا في تحقيق هذه الأخبارِ شعرٌ شائع، أو خبرٌ مستفيض، لم نلتفتْ لِفْتَه، وقد أقرَرْنا أن للسَّقَنْقُور أيرَين، وكذلك الحِرْذَون والضبّ، حين وجَدْناه ظاهراً على ألسنة الشُّعراء وحكاية الأطِبَّاء.
خرطوم الفيل والخرطوم للفيل هو أنفه، ويقومُ مقام يده ومقام عنقه، والخَرْق الذي هُوَ فيه لا ينفذ، وإنما هو وعاءٌ إذا ملأه الفيل من طعام أو ماء أولجه في فيه، لأنّه قصير العُنق لا ينال ماء ولا مرعى، وإنما صار ولدُ البُخْتِيِّ من البُختِيّة جَزُور لحمٍ لقصَر عنُقه، ولعجْزه عن تناوُل الماء والمرعَى.
خرطوم البعوضة وللبعوضة خرطومٌ، وهي تُشَبَّه بالفيل إلاَّ أنَّ خرطومها أجوفُ فإذا طَعَنَ به في جوف الإنسان والبهيمة فاستقَى به الدَّمَ من جوفه قذفت به إلى جوفها، فهو لها كالبلعوم والحلقوم.
وللذبابة خرطومٌ تخرِجُه إذا أرادَتٍ الدَّم، وتُدْخِلُه إذا رَوِيَتْْ، فأمَّا مَنْ سَمَّى خطمَ الخنزيرِ والكلبِ والذَّئبِ خرطوماً فإنما ذلك على التشبيه، وكذلك يقولون لكلِّ طويل الخطم قصير اللَّحييْنِ.
وقد يقال للخَطْم خرطوم على قوله: "سَنَسِمُهُ عَلى الْخُرْطُومِ".
وأنشدنا ابنُ الأعرابي لفتًى من بني عامر:

ولا أمرُّ على تلك الخراطيمِ

 

ولا أقومُ على شيخي فأشتُمُه

جعل سادةَ عشيرته في النَّادي والمجالس كالخراطيم والمقاديم والهوادي، وعلى ذلك قالوا: بنو فلانٍ أنفُ بني فلانٍ ورؤوسُهم وخَراطيمُهم، ومعنى العامريِّ الذي ذهب إليه في شعره كأنَّه عظّم المشيخَة أن يمرّ بهم، وقد قال الشاعر:

هم الأنفُ المقدَّم والسَّنامُ

والفِيلُ والبَبْرُ، والطَّاوس والبَبْغا، والدّجاج السِّنديُّ، والكركَدَّن، مما خص اللّه به الهندَ، وقد عدَّد ذلك مطيعُ بن إياس، حين خاطب جاريةً له كانت تسمى رُوقَة، فقال:

سادسـنـا دونـي وأرمـائيل

 

روق أي روق كيف فيك أقول

ن وبين الحبـيب قـنـدابـيل

 

وبعيدٌ من بينه حـيثـمـا كـا

ببلادٍ معروفهـا مـجـهـول

 

روق يا روق لو ترين محلـى

س وفيها يزاوج الـزنـدبـيل

 

ببلاد بها تبـيض الـطـواوي

د له في ذرى الأراك مـقـيل

 

وبها الببغاء والصفر والـعـو

رن والليث في الغياض النسول

 

والخموع العرجـاء والأيل الأق

وقال أبو الأصلع الهنديُّ، يفخر بالهِند وما أخرجت بلاد الهند:

وما ذلك بـالأمـثـل

 

لقد يعذلني صحـبـي

وسهم الهند في المقتل

 

وفي مدحتي الهـنـد

وفيه الفيل والدغفـل

 

وفيه الساج والـعـاج

كمثل الجبل الأطـول

 

وإن الـتـوتـيا فـيه

وفيه ينبت الفلـفـل

 

وفيه الدار صـينـي

والمتشابه عندهم من الحيوان الفيل، والخنزير، والبعوضة، والجاموس، وقال رؤبة:

والأَقْهََبيْنِ الفيلَ والجاموسا

 

ليث يَدُقّ الأسَدَ الهَمُوسَـا

هجاء أبي الطروق لامرأته ولما هجا أبو الطّروق الضبِّيُّ امرأتَه، وكان اسمها شَغْفَر بالقُبح والشناعة فقال:

وكلُّهنَّ في الجمال شَغْفرُ

 

جاموسة وفيلةٌ وخَنـزرُ

جعل الخنزير خَنزراً، فجمعها كما ترى للتّشابه، وقال الآخر:

جَحافلُ عَيرٍ أو مشافر فِيلِ

 

كأنّ الذي يَبْدُو لنا من لِثامِها

شعر في الفيل

والفيل يوصف بالفَقَم، ولذلك قال الأعرابيّ:

ولم أكن أخدع فـيمـا أعـلـم

 

قد قادني أصحبي الـمـعـمـم

وأدنى الفيل لنا وتـرجـمـوا

 

إذا صفق الباب العريض الأعظم

خبعثنٌ قد تم منه الـمـحـزم

 

وقيل إن الفـيل فـيلٌ مـرجـم

يجر أرحاءً ثقـالاً تـحـطـم

 

أجرد أعلى الجسم منه أصحـم

وحـنـكٌ حـين يمـد أفـقـم

 

ما تحتها من قرضها وتهـشـم

يرده في الجوف حين يطـعـم

 

ومشفرٌ حـين يمـد سـرطـم

نجيت نفسي جاهداً لا أظـلـم

 

لو كان عندي سبـبٌ أو سـلـم

وقال آخر:

إنّ الذي يركَبُهُ محمـولُ

 

مَنْ يركبِ الفيلَ فهذا الفيلُ

كالطَّودِ إلاَّ أنّـهُ يجـولُ

 

على تهاويلَ لها تـهـويلُ

 

 

وأذنٌ كأنهـا مِـنـديلُ

وقال عمارة بن عقيل يضرب المثل بقوَّة الفيل:

هَيْداً وجالتْ بنا منه الأحابِـيلُ

 

إذا أتانا أميرٌ لـم يقـلْ لـهـمُ

مِنَ المظالم ما لا يحمِلُ الفِـيلُ

 

وعَضَّ مجهودنا الأقصَى وحَمَّله

وقال أبو دَهْبَلٍ يمدح أبا الفيل الأشعريّ:

قد عَمَّ بالعُرْفِ كلَّ العُجْمِ والعَربِ

 

إنّ أبا الفيل لا تحصى فضـائلـه

ونظر ابن شهلة المدينيّ إلى خُرطوم الفيل وإلى غُرموله فقال:

قد اعتدَلاَ في مَشْرَبٍ ومَـبـالِ

 

ولم أرَ خُرطومَينِ في جسمِ واحدٍ

فقد غلِط لأنّ الفيلَ لا يشرَبُ بخرطومه ولكن به يُوصِلُ الماءَ إلى فمه، فشبَّه غُرموله بالخرطوم، وغُرموله يشبَّه بالجعْبة والقنْديل والبَرْبخ.
وقال المخبَّل في تعظيم شأن الفيل:

نهاراً وليلاً بَلَّياني فـأسْـرَعَـا

 

أتهزأ منِّي أمُّ عـمـرة أنْ رأت

فقد أفْنيا النُّعْمان قبلي وتُبَّـعـا

 

فإن أكُ لاقيتُ الدَّهارِيسَ منهمـا

على الفيل حتى يستدير فيُصْرَعا

 

ولا يلبثُ الدَّهرُ المفرِّق بَـيْنَـهُ

وقال مروان بن محمد وهو أبو الشَّمَقْمَق وحدّثني صديقٌ لي قال سألتُ أبا الشَّمقمقِ عن اسمه ونسبه، فقال: أنا مَرْوَان بن محمد، مولى مروانَ بن محمد:

فبارَكَ اللّه لي في رُؤْيةِ الفيلِ

 

يا قوم إنَّي رأيتُ الفِيلَ بعدَكُـم

فكدتُ أصنعُ شيئاً في السراويلِ

 

رأيت بيتاً له شـيءٌُ يحـرّكـه

وقالت دودة لأمِّها:

لا بارَك اللّهُ لي في رؤية الفيلِ

 

يا أمِّ إنّي رأيتُ الفِيلَ مِن كَثَـبٍ

عن الحميرِ وعن تلك الأباطيلِ

 

لمّا بصُرْت بأير الفِيل أذْهَلنـي

خطبة بدوي فيها ذكر الفيل

وقال الأصمعي: جَنَى قومٌ من أهل اليمامة جناية فأرسل إليهم السُّلطانُ جنداً من بُخاريّةِ ابن زياد، فقام رجلٌ من أهل البادية يُذمِّرُ أصحابَه فقال: يا معشَر العرب، ويا بني المحصنات، قاتِلُوا عَن أحسابكم ونِسائكم، واللّه لَئنْ ظَهَرَ هؤلاء القومُ عليكم لا يَدَعُون بها لِينَةً حَمْراءَ، ولا نخلةً خضراءَ، إلاّ وضعُوها بالأرض، ولا أغرُّكم مِن نُشّابٍ معهم، في جِعاب كأنَّها أيور الفِيَلة، يَنزِعُونَ في قسِيٍّ كأنَّها العَتَلُ تئط إحداهُنّ أطِيطَ الزُّرنُوق، يَمْغَطُُ أحدُهم فيها حتى يتفرّق شعرُ إبطَيْه، ثم يُرْسِل نُشَّابةً كأنها رِشاءٌ منقطع، فما بينَ أحَدِكم وبين أن تفضخ عينه، أو يُصدَع قلبُه منزلةٌ.
قال: فخلَعَ قلوبَهم فطارُوا رُعْباً.

الزندبيل

قالوا: الفِيَلة ضربانِ: فيلٌ وزندبيل، وقد اختلفوا في أشعارهم وأخبارهم، فبعضهم يقول كالبُخْت والعراب، والجواميسِ والبقَر، والبَراذين والخيل، والفأر والجِرذان، والذّرّ والنمل، وبعضهم يقول: إنما ذهبوا إلى الذَّكَرِ والأُنثى.
قال خالدٌُ القَنَّاص، وفي قصيدته تلك المزَاوَجةِ والمخمَّسة، التي ذكر فيها الصَّيد فأطنَبَ فيها، فقال حينَ صار إلى ذِكْر الفيل:

وهو من الأَفيال زَنْدَبيلُ

 

ذاك الذي مِشفَرُهُ طويلُ

فذهب إلى العِظَم، وقال الذَّكْواني:

وفيلة كالطّوْدِ زندبيل

وقال الآخر:

مِن بين فِيلاتِ وزَنْدَبِيلِ

فجعل الزَّنْدَبِيل هو الذكر، وقال أبو اليقظان سحيمُ بنُ حفص: إنَّ الزَّنْدَبيلَ هو الأنثى، فلم يقِفُوا مِن ذا على شيءٍ.
الجنّ والحن وبعض النّاس يقْسِم الجنَّ على قِسْمين فيقول: هم جِنّ وحِنّ، ويجعل التي بالحاء أضعفَها، وأما الرّاجزُ فقال:

مختلفٍ نَجْرَاهُمُ جِنٌّ وحِـنّ

 

أبِيتُ أهْوِي في شَياطينَ تُرِنّ

ففرق هذا بين الجنسين.
الناس والنسناس وسمع بعضُ الجهَّال قولَ الحسن: ذهبَ النَّاسُ وَبَقِيتُ في النِّسناس فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة، وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة، وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ الكميت:

نَسناسهم والنَّسانسا

فزعموا أنّهمْ ثلاثةُ أجناسٍ: ناس، ونَسْناس، ونَسانِسُ، هذا سوى القول في الشِّق، وواق واق، وذوال باي، وفي العُدَار، وفي أولاد السَّعالِي من الناس، وفي غير ذلك مما ذكرناه في موضعه من ذكر الجنّ والإنس.
وقد علم أهلُ العقلِ أنّ النّسناس إنما وقَعَ على السِّفْلة والأوغاد والغَوْغاء، كما سمَّوا الغوغاء الجراد إذا ألقى البيض وسخُف وخفّ وَطار.

هياج الفيل

قال: وإذا اغْتَلمَ الفيلُ قَتَلَ الفِيَلَة والفيَّالين وكلََّ مَن لَقِيَه من سائر النَّاس، ولم يقمْ له شيءٌ، حتى لا يكونُ لسُوَّاسِه هَمٌّ إلاّ الهرَبُ، وإلاّ الاحتيالُ لأنفسهم.
وتزعُم الفرُس أنّ فيلاً من فِيَلة كِسرى اغتلمَ، فأقبَلَ نحو النَّاس فلم يقمْ له شيءٌ، حتى دنا من مَجلس كِسرى فأقَشَعَ عنه جُندُه، وأسلمتهُ صنائعهُ، وقصد إلى كسرى ولم يبقَ معه إلاّ رجلٌ واحدٌ من فرسانِه كان أخصَّهم به حالاً، وأرفعَهم مكاناً، فلمّا رأى قُرْبَه من الملك شَدَّ عليه بِطَبْرَزِينٍ كان في يده فضرَبَ به جبهتَه ضربةً غابَ لها جميعُ الحديدة في جبهته، فصدفَ عنها وارتدع، وأبَى كِسرَى أن يزُولَ من مكانه، فلمَّا أيقَنَ بالسَّلامة قال لذلك الرجل: ما أنا بما وَهَبَ اللّه لي من الحياةِ على يدك بأشدَّ سروراً منِّي بالذي رأيت من هذا الجلَد والوفاء والصَّبْر في رجل من صنائعي، وحين لم تخطئْ فِرَاسَتي، ولم يَفِلْ رأيي فهل رأيت أحداً قطُّ أشدَّ َّمنك? قال: نعم، قال: فحدِّثْني عنه، قال: على أن تؤمِّنني، فأمّنه فحدَّث عنبِْهرام جُوبين بحديثٍ شقَّ على الملك وكرِهَه، إذ كان عدُوُّه على تلك الصّفة.
قال: إذا اغتَلمَ الفِيلُ وصَالَ وغَضبَ وخَمط خلاَّهُ الفيَّالون والرٍّوَّاضُ، فربًَّما عاد وحشيًّا.

أهليُّ الفيلة ووحشيُّها

والفيلة من الأجناس التي يكون فيها الأهليُّ والوحشيُّ، كالسّنانير والظِّباء والحمير وما أشْبَهَ ذلك، وأنشد الكِرمانيّ لشاعر المُولْتانِ قولَه:

كراكب الفيل وَحْشِيّاً ومُغْتَلَمَا

 

فكنتُ في طلبي مِنْ عندِه فرَجاً

وهذه القصيدة هي التي يقول فيها:

حتى لقيت بها حِلْفَ النَّدَى حَكَمـا

 

قد كنت صَعَّدْتُ عن بُغْبُورُ مغترِباً

لو نَاطقَ الشَّمْس ألقَتْ نحوَه الكَلِما

 

قرَْمٌ كأنَّ ضياءَ الشَّمْس سُـنَّـتُـه

خصال كسرى وتقول الفُرْس: أُعْطِيَ كسرى أبْرَوِيزَ ثمان عشْرَةَ خَصْلةً لم يُعطها ملكٌ قطّ ولا يعطاها أحدٌ أبداً، من ذلك أنّه اجتمَعَ له تِسْعُمائة وخمسون فيلاً، وهذا شيءٌ لم يجتمعْ عندَ ملِك قطّ، ومن ذلك أنّه أنْزَى الذُّكورة على الإناث، وأنَّ فيلةً منها وضعَتْ عنده، وهي لا تتلاقح بالعراق، فكانت أوَّل فِيلةٍ بالعراق وآخر فيلةٍ تضع.
قالو: ولقي رُسْتَمُ الآزَريّ المسلمين يوم القادسيّة ومعه من الفيلة عشرون ومائة فيل، وكنّ من بقايا فِيَلة كِسرى أبرويز.
قالوا: ومن خصاله أنّ النَّاس لم يَرَوْا قط أمَدَّ قامةً، ولا أتمّ ألواحاً، ولا أبرَعَ جمالاً منه، فلما مات فرسُهُ الشَّبْدِيز كان لا يحمله إلاَّ فيلٌ من فِيَلته، وكان يجمع وطاءةَ ظَهْر الفِيل وثَباتَ قوائمه، ولِينَ مشيته، وبُعْدَ خَطوه، وكان ألطفَها بدَناً، وأعدلها جسماً.

أكثَر خلفاء المسلمين فيلة

قالوا: ولم يجتمع لأحد من ملوك المسلمين مِن الفيَلة ما اجتمع عندَ أمير المؤمنين المنصور، اجتمع عنده أربعون فيلاً، فيها عشرون فحلاً.

شرف الفيل

قالوا: والفِيل أشرَفُ مراكب الملوك، وأكثرُها تصرُّفاً، ولذلك سأل وَهْرَز الأسْوارُ عن صاحب الحبشة، حين صافَّهم في الحرب، فقيل له: ها هو ذاكَ على الفيل، فقال: لا أرميه وهو على مركب الملوك، ثم سأل عنه فقيل له: قد نزل عنه ورَكِبَ الفرَس، قال: لا أرميه وهو على مركب الحُمَاةِ، قيل: قد نزلَ عنه وركب الحمار، قال: قد نزل عن مَرْكبِه لحمارٍ فدعَا بعِصابةٍ رَفَع بها حاجِبَيْه وكان قد أسنَّ حتى سقط جاجباه على عينيه ثم رماه فقتَله.

ذكاء الفيل

وكان سهلُ بنُ هارونَ يتعجَّبُ مِنْ نَظَر الفيلِ إلى الإنسان، وإلى كلّ شيء يمرّ به، وهو الذي يقول:

ظننْتُ بأنّ الفيلَ يلزمُه الفرضُ

 

ولمَّا رأيتُ الفيلَ ينظُرُ قاصـداً

قال أبو عثمان: وقد رأيتُ أنا في عَين الفِيل من صحّة الفَهْم والتأمُّلِ إذا نظَر بها، وما شبهت نظرَه إلى الإنسان إلاّ بنظرِ ملكٍ عظيم الكِبْر راجح الحِلم، وإذا أرْدتَ أن ترَى من الفيل ما يُضحِك، وترَاهُ في أسخَف حالاته وأجهِلهِ فألق إليه جوزةً، فإنَّه يريد أن يأخذ بطَرَف خُرطومِه، فإذا دنا منها تنفَّسَ، فإذا تنفَّس طارت الجَوزة من بين يديه، ثم يدنو ثانيةً ليأخذَها فيتنفسُ أخرى، فتبعد عنه، فلا يزال ذلك دأبَه.

فضله في الحرب

قالوا: ويفضُل الفيلُ الفرسَ في الحرب أنّ الفيل يحمِي الجماعة كلهم، ويقاتل ويَرمي ويزجّ بالمزاريق، وله من الهول ما ليس للفرسِ، وهو أحسن مطاوعةً، ولا يُعْرَفُ بجماح ولا طِماحٍ ولا حِران.
والخيولُ العِتاقُ ربَّما قتلَت الفُرسانَ بالحِران مَرَّةً وبالإقدام مَرَّة، وبسُوء الطّاعة وشدّة الجزع، وربّما شبَّ الفرسُ بفارسه حتى يلقِيَه بين الحوافر والسُّيوف، للسَّهم يصيبه والحجرِ يقع به، وما يشبه ظهرُ الفرسِ مِن ظهره، وظهرُ الفيل منظرةٌ من المناظر ومَسْلَحَةٌ من المسالح.

عمر الفيل

وفي الفِيَلة عجبٌ آخرُ، وذلك أنَّ قصَر الأعمارِ مقرونٌ بالإبل والبراذين وبكلِّ خَلقٍ عظيم، وكلُّ شيء يعايشُ النَّاسَ في دُورهم وقُراهم ومَنازلهم فالناس أطولُ أعماراً منها، كالجمل، والفَرَس والبرذَوْن، والبغل والحِمار، والثّوْر والشَّاة، والكلْب والدَّجاج، وكلِّ صغيرٍ وكبيرٍ، إلا الفيل فإنّه أطولُ عمراً.
والفيلُ أعظم من جميع الحيوان جسماً وأكثرُ أكلاً، وهو يعيشُ مائة السنة ومائتي السَّنة.
وزعم صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان أنّه قد ظهَرَ فيلٌ عاش أربعمائةِ سنة، فالفيل في هذا الوجه يشارك الضِّباب والحيَّات والنُّسُور، وإذا كان كذلك فهو فوقَ الوَرَشان وعَيْر العانة وهو من المعمَّرين وفوق المعمَّرين وهو مع ذلك أعظم الحيوان بدناً، وأطولُها عمراً.

الأسد والفيل

وقال بعض من يستفهم ويحب التَّعلمَ: ما بال الأسد إذا رأى الفيلَ عَلِم أنَّه طعام له، وإذا رأى النَّمر والبَبْر لم يكونا عنده كذلك? وكيف وهو أعظمُ وأَضخَم وأشْنَع وأهول? فإن كانَ الأسدُ إنما اجترأ عليه لأنّه من لحمٍ ودمٍ، واللّحْمُ طعامُه والدَّم شرابُه، فالببر والنَّمر من لحمٍ ودم، وهما أقلُّ من هؤلاء وأقمأ جسماً.
قال القوم: ومَتَى قَدّرَ الأسدُ في الفيل أنه إذا قاتله غلبه، وإذا غلبه قتَله، وإذا قتلَه أَكلَه? وقد نَجِدُ الببْرَ فوقَ الأسد وهو لا يعْرِض له، والأسد فوق الكلب وهو يشتهي لحمه، ويشتهي لحم الفهد بأكثر ممّا يشتهي لحمَ الضّبع والذئب، وليست علَّته المواثبة التي ذهبتم إليها.
معرفة الحيوان فأمَّا عِلْم جميعِ الحيوان بمواضع ما يُعيشها، فَمنْ علّم البعوضة أنّ مِن وراء ظاهرِ جلد الجاموس دَماً، وإنّ ذلك الدمَ غذاءٌ لها، وأنّها مَتَى طعَنتْ في ذلك الجلدِ الغليظ الشَّثْن، الشديد الصُّلبِ، أن خرطومَها ينفذ فيه على غير مُعاناة.
ولو أن رجلاً منَّا طعنَ جلدَه بشوكةٍ لانكسرت الشَّوكةُ قبل أن تصل إلى موضع الدم، وهذا بابٌ يُدْرَك بالحسِّ وبالطبع وبالشبه وبالخِلْقة، والذي سخّر لخرطوم البَعوضِة جلدَ الجاموس، هو الذي سخَّر الصخرةَ لذنَب الجرادة، وهو الذي سخَّر قمقُمَ النُّحاس لإبرة العقرب. علة عدم تلاقح الفيلة بالعراق

وقال بعض خصماء الهند: لو كانت الفِيَلة لا تتلاقَحُ عندنا بالعِراق لأنها هنديَّة لتغيّر الهواءِ والأرض، فعَقَر ذلك أرحامَها،وأعْقَمَ أصلابها لكان ينبغي للطواويس أن لا تتزاوج عندنا ولا تبيض ولا تُفرخَ، ونحن قد نَصيد البلابِل والدباسيّ، والوراشين، والفواخت والقمارى والقَبَجَ والدُّرَّاج، فلا تتسافَدُ عندنا في البيوت، وهي من أطيار بساتيننا وضياعنا، ولا تتلاقَحُ إذا اصطَدْناها كرارزة، بل لا تصوِّت ولا تغنِّي ولا تَنُوح، وتبقى عندَنا وحشيّةً كمِدةً ما عاشت، فإن أخذْناها فراخاً زاوَجتَ وعَشَّشت وباضت وفرّخت، فلعلَّكم أن تكونوا لو أهديتم إلينا أولادَها صغاراً فنشأت عندنا وذهب عنها وحشة الخلاء، وجدَتْ أُنسَ الأهليّ، فإنَّ الوحشة هي التي أكْمَدَتْها، ونقضَتْ قوّتَها، وأفنت شهْوَتَها.

وفاء الشفنين

وقد نجِد الشِّفْنينَ الذَّكر تهلِكُ أنثاه فلا يُزاوِج غيرَها أبداً، في بلادها كان ذلك أو في غير بلادها، ونحن لو جِئْنا بالأُسد والذِّئاب والنُّمور والبُبُور فأقامَتْ عِندنا الدَّهرَ الطَّويل لم تتلاقح، قصة الذئب والأعرابي وقد أصاب أعرابيٌّ جروَ ذئبٍ فرّباه ورجَا حراستَه وأن يألفَه، فيكونَ خيراً له من الكلب، فلما قوِيَ وثب على شاةٍ له فأكلها، فقال الأعرابي:

فما أدراك أنَّ أباكَ ذيبُ

 

أكلْتَ شُوَيْهَتي ورَبِيتَ فينا

تسافد حمير الوحش وقد تتسافد عندنا حمير الوحش، وقد تلاقحتْ عندَ بعض الملوك.
تلاقح الظباء في البيوت وكان جعفُر بنُ سليمانَ أحضَرَ على مائدته بالبَصرة يوم زارَهُ الرّشيدُ ألبانَ الظِّباء وزُبْدَها وسِلاها ولبَأها، فاستطاب الرشيدُ جميعَ طعومِها، فسأل عن ذلك وغمَزَ جعفرٌ بعضَ الغِلمان فأطَلقَ عن الظّباء ومَعَها خشْفانُها، وعليها شُمُلها، حتى مَرّتْ في عَرْصةٍ تُجاهَ عينِ الرَّشيد، فلما رآها على تلك الحال وهي مقرَّطة مخضّبة استخفَّه الفرح والتعجُّب حتى قال: ما هذه الألبان? وما هذه السُّمْنان واللِّبأ والرَّائب والزُّبد الذي بينَ أيدينا? قال: مِن حَلَبِ هذه الظّباء أُلِّفَتْ وهي خشْفانٌ فتلاقحتْ وتلاحقت.
استنتاج الذئاب والأسد بالعراق ولو أطلقوا الذِّئابَ والأُسْد في مرْوجِ العراق، وأقاموا لها حاجاتها لتسافدَتْ وتلاقحت، فلعلَّهم لو تقدَّموا في اصطناع أولاد الفِيَلة واقتنائها صغاراً أن تأنس حتى تتسافد وتتلاقح، وقد زعمتم أنَّ كسرى أبرويز استنْتج دَغْفلاً واحداً.
احتجاج الهندي قال الهندي: تكفِينا هذه الحُجَّة، وهي بيننا وبينكم، أوَ ليس قد جَهد في ذلك جميعُ الملوك من جميع الأمم في قديم الدهر، فلم يستنتجوا إلا واحداً، وعلى أنَّ هذه الأحاديثَ من أحاديث الفُرْس، وهم أصحاب نَفْجٍ وتزيد ولا سيَّما في كلِّ شيء مما يدخل في باب العصبيَّة، ويزيد في أقدار الأكاسرة، وإن كانوا كذلك فهم أظنَّاء، والمتهم لا شهادة له، ولكن هل رأيتم قطُّ هندياً أقرَّ بذلك، أو هل أقرَّت بقايا سائر الأمم للفرسِ بهذا الأمر للفيلِ المعروفِ بهذا الاسم.
استطراد لغوي ويقال رجل فيلٌ إذا كان في رأيهِ فِيَالة، والفِيالة، الخطأ والفساد، وهم يسمُّون الرَّجل بفيل، منهم فيلٌ مولى زياد، ويكنون بأبي الفيل، منهم أبو الفِيل الأشعريّ الذي امتدحه أبو دَهْبَل.
وقال: الرَّاجز غَيْلان يقال له راكبُ الفِيل: ومنهم عَنْبَسة الفيل، وكذلك يقال لابنه مَعدان وله حديث، وقال الفرزدق:

لعَنْبسةَ الرّاوي عليَّ القصـائدا

 

لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ

وقال الأصمعيّ: إذا كان الرجلُ نبيلاً جباناً قِيلَ هذا فِيلٌ، وأنشد:

أَزَبُّ خَصِيٌّ نَفَّرَتْهُ القَعاقِعُ

 

يقولون للفِيلِ الجبان كأنّـه

وقال سلمة بن عَيَّاش: قال لي رؤبة: ما كنتُ أُحِبُّ أَنْ أرَى في رأيك فيالة.
ويقول الرَّجل ُ لصاحبه: لم يَفِلْ رأيُك، وهو رأيٌ فائل، ورجلٌ فِيل، وبالكوفة بابُ الفيل، ودار الفِيل في السبابجة، وكذلك حَمَّام فيل، وفي حمَّام فِيل يقول بعض السَّلَف:

على الثلثينِ من حمَّام فيلِ

 

لَعمْرُ أبيكَ ما حمّامُ كِسرَى

وقال الجارود بن أبي سبرة:

كسنَّتنا على عهد الرّسولِ

 

وما إرْقاصُنا خَلْفَ المَوَالي

وأبو الفيل محمد بن إبراهيم الرافقي كان فارس أهل العراق.
وفِيلُويه السّقطي هو الذي كان يُجري لأمّه كلَّ أضْحى درهماً، فحدثتني امرأة قالت قلتُ لأمّ فِيلُويَهْ: أو ما كان يجري فِيلويَه في كلِّ أضْحَى إلا درهماً? قالت: إي واللّه، وربَّما أدخل أضْحى في أَضحى!.

مثالب الفيل

وقال بعضُ من يخالف الهند: الفيل لا يُنْتَفع بلحمه ولا بلبَنه، ولا بسمْنِه ولا يزبده، ولا بشَعره ولا بوبَره ولا بصوفه،عظيم المؤُونة في النفقَة، شديد التَّشزُّن على الرُّوَّاض، وإن اغتلم لم تفِ جميعُ منافعه في جميع دهرِهِ بمضرَّة ساعة واحدة، وهو مرتفعٌ في الثمن، وإن أخطؤوا في تدبير مَطَمِه وَمَشربه، وتعلُّمه وتلقنه هلَكَ سريعاً، ولا يتصرَّف كتصرُّف الدّوابّ، ولا يُركب في الحوائج والأسواق وفي الجنائز والزِّيارات، ولو أنّ إنساناً عادَ مريضاً أو اتَّبع جنازة على فيل لصارَ شهرةً، وتركَ الميِّت آية.

رؤيا الفيل

وسئِل ابن سِيرينَ عن رجلٍ رأى فيما يَرَى النَّائم كأنه راكبٌ على فيل، فقال: أَمرٌ جسيمٌ لا منفعة له.
قالوا: وقال رجلٌ للحجَّاج بن يوسف: رأيت في المنام رجلاً مِن عُمَّالك قدَّمَ فيلاً فضربَ عُنقَه، فقال: إن صدقَتْ رؤْياك هلك دَاهَر بن بصبهرى.

حكم أكل لحمه

وسئل الشَّعبيُّ عن أكل لحمِ الفيل، فقال: ليس هو من بهيمة الأنعام.

خرطوم الفيل

وخرطومُه، الذي هو سلاحُه والذي به يبطِشُ وبه يعيش، مِنْ مَقاتلِه.
وقال زَهْرة بن جُؤيَّة يوم القادسية: أمَّا لهذه الدابة مقتل? قالوا: بلَى، خُرطومه، فشدَّ عليهم حتى خالَطهم، ودنا من الفيل، فحمَلَ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه فضَرَبَ خرطومَه فبَرَك وأدبر القوم.

بعض صفة الفيل

قال: والفيل أفقَمُ قصير العنق، مقلوبُ اللسان، مشوَّه الخَلْق، فاحش القُبْح، ولم يفْلِحْ ذو أربعٍ قطُّ قصير العُنق في طلبٍ ولا هرب، ولولا أنّ مسلوخَ النَّور يجول في إهابه، ولولا سعته وغَبَبُه، لما خَطَا مع قصَر عنقه، ولذلك قال الأعرابي: ومن جَعَل الأوْقَص كالأعْنق والمطبّق كالضابع، وقال الشَّاعر في غَبَبِ الثَّور، وهو إسحاق بن حسان الخرَيميّ:

يُدافع غَبْغَبَه بالـوظِـيفِ

 

وأغلبَ فضفاض جلد اللَّبَانِ

وليس يُؤتى البَعيرُ في حُضره مع طول عنقه إلاَّ من ضِيق جلْده، والفيلُ ضئيل الصَّوت، وذلك من أشدِّ عيوبه، والفيل إذا بلغَ في الغلمة أشدَّ المبالغ أشبَهَ الجملَ في ترْك الماءِ والعَلف حتى تنضمّ أيْطلاه ويتورَّم رأسه، وقد وصف الرّاجزُ الجملَ الهائج فقال:

إذْ ضَمَّ إطْليْهِ هَياجٌ وقَطَـمْ

 

سامٍ كأنّ رأسَـه فـيه وَرَمْ

 

 

وآضَ بعد البُدْنِ ذَا لحمٍ زِيَمْ

ولو لم يكنْ في الفِيَلة من العيب إلا أن عِدةَ أيام حملها كعمر بعض البهائم، لكان ذلك عيباً، وقد ترك أهلُ المدينة غِراسَ العَجْوة، لمَّا كانت لا تطعِمُ إلاّ بعد أربعين سنة.

قدرته على حمل الأثقال

قال: وليس شيءٌ يحمل من عدد الأرطال ما يحمل الفِيلُ، لأنّ الذي يفضُل فيما بين حِمْل الفيل وحِمْل البُخْتيّ أكثرُ مِن قَدرِ ما يفضل بين جسم الفيل على جسم البُخْتي.
وقد قال الأعرابيُّ الذي أُدخل على كِسرى ليعْجب من جفائه وجهله، حين قال له: أيُّ شيء أبعَدُ صوتاً? قال: الجمل، قال: فأيُّ شيءٍ أطيَبُ لحماً? قال: الجمل، قال: فأيُّ شيء أنهض بالحِمْل? قال: الجمل، قال كسرى: كيف يكون الجملُ أبعَدَ صوتاً ونحن نسمَعُ صوتَ الكُركيِّ من كذا وكذا ميلاً? قال الأعرابي: ضَعِ الكرْكيَّ في مكان الجمل، وضَعِ الجملَ في مكان الكُركيّ حتى يُعرفَ أيُّهما أبعَدُ صوتاً، قال: وكيف يكون لحمُ الجملِ أطيبَ من لحم البطّ والدّجاج والفِراخ والدُّرَّاج والنَّوَاهِض والجِداء? قال الأعرابيّ: يُطبَخ لحمُ الدَّجاج بماء ومِلح، ويُطبخ لحم الجملِ بماء وملح، حتى يُعرَف فَضْل ما بين اللّحمَين، قال كِسرى: فكيف تزعُم أنّ الجملَ أحْمَلُ للثِّقْل من الفيل والفيلُ يحمل كذا وكذا رطلاً? قال الأعرابيّ: ليبركِ الفِيلُ ويَبركِ الجمل، وليُحمَل على الفيل حِمْل الْجمل، فإنْ نهض به فهو أحمَلُ للأثقال. قال القوم: ليس في استطاعة الْجمال النهوضَ بالأحمال ما يوجب لها فضيلةً على حَمْل ما هو أثقل، ولعمري، إنَّ للجمل بِلينِ أرساغه وطُول عنقِه لفضيلةً في النُّهوض بعد البروك، فأمَّا نفس الثقل فالذي بَينهما أكثر من أن يقع بينهما الخيار.
قالوا: وبِفارِسَ ثِيرَانٌ تحمِل حِمْلَ الْجملِ باركةً ثم تنهض به، فهذا باب الذمّ.

مناقب الفيل

فأمَّا باب الحَمدِ فقد حُدِّثنا عن شَرِيكٍ، عن جَابر الجُعْفي، قال: رأيت الشعبيَّ خارجاً فقلت له: إلى أَينَ? قال: أَنظُرُ إلى الفيل.
قال: وسألتُ أبا عبيدةَ فقلتُ: ما لونُ الفيل? قال: جَوْن.

ما يحث به الفيل

ومن أعاجيب الفيل أن سَوطه الذي به يُحَثُّ ويصَرَّف، مِحجَنُ حديدٍ طرفُه في جبهته، والطَّرَف الآخَر في يد راكبه، فإِذا راد منه شيئاً غمَزَ تلك الحديدة في لحمه، على قَدْر إرادته لوجوهِ التصرُّف.

قصة الفيل

وقد ذكر ذلك أبو قيس بن الأسلت في الجاهليَّة، وهذا الشِّعر حجَّة في صَرْفِ اللّه الفيلَ والطَّيرَ الأبابيل، وصدِّ أبي يَكسوم عن البيت، وسنذكر من ذلك طرفاً إن شاء اللّه تعالى، قال أبو قيس:

شِ إذْ كلّما بَعثُـوه رَزَمْ

 

ومِن صُنْعِه يومُ فِيل الحُبو

وقد كَلَمُوا أنفه فانْخَـرَمْ

 

محاجِنُهم تحتَ أقـرابـهِ

إذا يمَّمُوهُ قَفَـاهُ كـلَـمْ

 

وقد جعلوا سَوْطهُ مِعْوَلاً

يلفُّهم مثلَ لَفِّ الـقَـزَمْ

 

فأرسَلَ من فوقهم حاصِباً

وقال أيضاً صَيْفيُّ بنُ عامر، وهو أبو قيس بن الأسلت، وهو رجلٌ يمان من أهل يثْرب، وليس بمكيّ ولا تَهامٍ ولا قُرَشِيّ ولا حَليفِ قرشيّ، وهو جاهليّ:

بأركان هذا البيت بين الأخاشب

 

قوموا فصلوا ربكم وتـعـوذوا

غداة أبي يكسوم هادي الكتائب

 

فعندكم منـه بـلاءٌ مـصـدقٌ

جنود الإله بين سافٍ وحاصبٍ

 

فلما أجازوا بطن نعمان ردهـم

إلى أهله ملحبش غير عصائب

 

فولوا سراعاً نادمين ولـم يوب

ويدلُّ على صحَّة هذا الخبرِ قول طُفيل الغَنَوِيّ، وهو جاهليّ، وهذه الأشعارُ صحيحةٌ معروفةٌ لا يرتاب بها أحدٌ من الرُّواة، وإنما قال ذلك طُفيلٌ لأنَّ غَنِيّاً كانت تنزل تِهامة، فأخرجتها كِنانةُ فيمن أخرجَتْ، فهو قوله:

بالجِزْعِ حيثُ عَصَى أصحابَه الفِيلُ

 

تَرْعَى مَذَانِبَ وَسْمِـيٍّ أطـاعَ لـه

قال أبو الصَّلت، واسمه ربيعة، وهو أبو أميَّة بن أبي الصَّلت، وهو ثَقَفِيّ طائفيّ، وهو جاهليٌّ، وثقيفٌ يومئذ أضداد بالبلدة وبالمال وبالحدائق والجِنان، ولهم اللاتُ والغَبْغَب، وبيتٌ له سَدَنة يضاهِئُون بذلك قريشاً، فقال مع اجتماع هذه الأسباب التي توجب الحسدَ والمنافسة:

ما يمارِي فيهنَّ إلاَّ الكَفورُ

 

إنَّ آيات ربِّـنـا بـيِّنــاتٌ

ظَلَّ يَحْبُو كأنَّه مَـعْـقـورُ

 

حَبسَ الفِيلَ بالمغمَّس حَتَّـى

رَ صخرٌ من كَبْكَبٍ محدُورُ

 

واضعاً حَلْقَةَ الجِرَانِ كما قُطِّ

وقال بعضهم لأبْرَهَةَ الأشرم:

والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب

 

أينَ المفرُّ والإله الـطـالـبْ

وقال عبد المطَّلب يوم الفيل وهو على حِراء:

نَعُ رَحْلَه فامْنَعْ حِلالَكْ

 

لاهُـمّ إنَّ الـمـرءَ يم

وَمِحَالُهُمْ أَبَداً مِحالَـكْ

 

لا يغلبَنَّ صلـيبُـهُـمْ

لَتَنا فأمْرٌ ما بَـدَا لَـكْ

 

إنْ كنتَ تاركَهُمْ وَقِـبْ

وقال نُفَيْل بن حَبيب الخثعميّ، وهو جاهليٌّ شهِدَ الفيلَ وصُنْعَ اللّهِ في ذلك اليوم:

نَعِمْنَاكُم مع الإصْباحِ عَيْنَـا

 

ألاَ رُدِّي جِمالَـكِ يا رُدَيْنَـا

لدى جنْبِ المحصَّبِ ما رأَيْنَا

 

فإنَّكِ لو رأيتِ وَلَـنْ تـرَيْهِ

كأنّ عَلَيَّ للحُبْـشَـانِ دَيْنَـا

 

أكلُّ الناس يَسْأَلَ عن نُـفـيل

وحَصْبَ حجارة تُلْقَى علينا

 

حَمِدْتُ اللّهَ أَنْ عاينْتُ طـيراً

وقال المغيرة بنُ عبدِ اللّه المخروميّ:

حبَسْتَه كأنَّـهُ مُـكَـرْدَسْ

 

أنتَ حبستَ الفيلَ بالمغمَّسْ

 

 

مُحْتَبَسٌ تزهَقُ فيه الأنفُسْ

قال اللّه تبارك وتعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِأَصْحَاب الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكَولٍ"، وأنزل هذه السورةَ وقريشٌ يومئذٍ مُجْلبون في الردِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، وما شيءٌ أحبّ إليهم مِن أن يَرَوْا له سَقطةً أو عَثْرَةً أو كِذْبة، أو بعضَ ما يتعلَّق به مثلُهم، فلولا أنّه كان أذكَرَهُم أمراً لا يتدافعونه ولا يستطيع العدوُّ إنكارَه، لِلذي يُرى من إطباق الجميع عليه، لوجدوا أكبرَ المقال، فهذا بابٌ يكثُر الكلام فيه، وقد أَتينا عليه في كتاب الحُجَّة.
وقال: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ"، مثل قوله: "أَلَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ"، وقال: "وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ"، وهذا كلُّه ليس من رؤية العين لنا.
استطراد لغوي وباب آخَرُ من هذا، وهو قوله: "وَتَرَاهُمْ يَنْظرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ"، ويقول الرجُل: رأيتُ الرجلَ قال كذا وكذا، وسمعتُ اللّه قال كذا، وفلانٌ يرى السّيف، وفلان يرَى رأيَ أبي حنيفة، وقد رأيت عَقْلَهُ حسناً، وقال ابن مُقبل:

بحيْثُ يَرَى هَضْبَ القليب المضيَّحُ

 

سَلِ الدَّارَ مِنْ جَنْبيْ حِبِرٍّ فَوَاهِـبٍ

وإذا قابل الجبلُ الجبلَ فهو يراهُ، إذْ قام منه مقام الناظر الذي ينظر إليه.
وتقول العرب: دارُ فلانٍ تَنْظر إلى دار فلان، ودُورُ بني فلان تتناظر.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنا بريءُ من كلّ مسلمٍ مع مشرك قيل: ولم يا رسول اللّه? قال: لا تتراءى ناراهما.
ويقولون: إذا استقمت تلقاءَ وجهك فنظَرَ إليك الجبلُ فَخُذْ عن يمينك، وقال الكميت:

خَطافِ وسَرْحَةُ والأحْـدَلُ

 

وفي ضِبْنِ حِقفٍ يَرَى حِقْفَهُ

جسامة الفيل

قال أبو عثمان: خرجتُ يومَ عيدٍ، فلما صِرت بعيساباذ إذَا أنا بتَلٍّ مُجَلَّلٍ بقطوع ومقطَّعات، وإذا رِجالٌ جلوسٌ، عليهم أسلحَتُهم فسألتُ بعضَ مَن يشهَدُ العِيد فقلتُ: ما بال هذه المَسْلَحةِ في هذا المكان وقد أحاطَ النّاس بذلك التَّلِّ? فقال لي: هذا الفيلُ فقصدتُ نحوَه وما لي هَمٌّ إلاّ النّظرُ إلى أذنيه فرجعتُ عنه بعد طول تأمُّل وأنا أتوهّم عامَّة أعضائه بل جميعَ أعضائه إلاّ أذنَيه، وما كانت لي في ذلك عِلَّةٌ إلاَّ شَغْلَ قلبي بكلِّ شيءٍ هجمتُ عليه منه، وكلُّه كان شاغلاً لي عن أذنه التي إليها كان قَصْدي، فذاكرتُ في ذلك سَهل بنَ هارون، فذكر لي أنَّه ابتُلِيَ بمثلها، وأنشدني في ذلك بيتين من شعره، وهما قوله:

لأُبصِرَ أُذنَه وَيطولَ فِكْرِي

 

أتيتُ الفيل محتسِباً بقَصْدي

يقرِّب بين نِسياني وذِكرِي

 

فلم أرَ أذْنَه ورأيتُ خَلْـقـاً

أعجب الأشياء قال: وقال رجلٌ مرَّة: أخزى اللّه الفيل فما أقبحه، فقال بكر بن عبد اللّه المزَنيّ: لا تشتم شيئاً جعله اللّه آيةً في الجاهليّة، وإرهاصاً للنبوَّة.
وقال سعدان الأعمَى النحوي: قلتُ للأصمعيّ: أيُّ شيءٍ رأيت أعجبُ? قال: الفيل.
وقيل لابن الجهم: أيُّ أمورِ الدنيا أعجب? قالَ: الشمّ.
وقيل لإبراهيم النظّام: أيُّ أمور الدُّنيا أعجب? قال: الرُّوح.
وقيل لأبي عقيل بن دُرُسْت: أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب? قال: النَّوْم واليقَظة.
وقيل لأبي شمر: أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب? قال: النِّسْيان والذِّكر.
وقيل لسلم الخلاَّل: أيُّ أمور الدُّنيا أعجب? قال: النار.
وقيل لبَطْلَيْمُوس: أيُّ أمور الدنيا أعجب? قال: بَدَنُ الفلك، وقال مرَّة أخرى: الضِّياء.
وقيل لأبي عليٍّ عمرُ بن فائدٍ الأُسْواريّ: أيّ شيءٍ ممّا رأيت أعجب? قال: الآجال والأرزاق، وكان إبراهيم بن سيَّارٍ النَّظامُ شديدَ التعجُّب من الفيل.
وكان مَعْبَدُ بنُ عُمَر يقول: إنَّ السرطان والنعامة أكثر عجائبَ من الفيل، وهذا كله تفسير قول الخضر في بعض الدواب أبو عقيل السّوّاق، عن مُقاتل بن سليمان، قال: قال مُوسى للخضر: أي الدوابِّ أحبُّ إليك، وأَيُّها أبغَض? قال: أُحِبُّ الفرسَ والحمارَ والبعيرَ؛ لأنّها من مراكب الأنبياء، وأُبغِض الفيل والجاموسُ والثَّور.
فأمّا البعير فمركب هُودٍ وصالحٍ وشعيب والنبيِّين عليهم السلام، وأما الفرَس فمركب أُولِي العزْم من الرُّسل وكلِّ من أمرَهُ اللّه بحمل السِّلاح وقتالِ الكفَّار، وأمّا الحِمار فمركب عيسى بنِ مَريم وعُزَير وبَلعَم، وكيف لا أحبُّ شيئاً أحياه اللّه بعدَ موته قبل الحشْر.
قال: ولمّا نظر الفضلُ بن عيسى الرَّقاشيُّ إلى سَلْم بن قُتيبة على حمارٍ يريد المسجد قال: قِعْدة نَبِيٍّ وبِذْلة جَبّار.
وأبغض الفيل لأنَّه أبو الخنزير، وأبغض الثَّور لأنّه يشبه الجاموس، وأبغض الجاموسَ لأنّه يشبه الفيل.
وأنشدني في هذا المعنى جَعفرٌ ابنُ أختِ واصل، في منزل الفضل بن عاصم الباخَرزيّ:

أحب عيراً وذا كم غاية الـكـذب

 

ما أبغض الخضر فيلاً منذ كان ولا

وكان في الفلك فراجاً من الكرب

 

وكيف يبغض شيئاً فيه معـتـبـرٌ

حاجاتِ نفسكَ من جدٍ ومن لعـبِ

 

والفيلُ أقبلُ شيء لو تـلـقـنُـه

زيّ الملوكِ لقد أوفى على الركبِ

 

ولو تتـوجَ فـينـا واحـدٌ فـرأى

وليس يعدِ له النشوانُ في الطربِ

 

يغضى ويركعُ تعظيماً لهـيبـتـه

حرٍ ومنبته من خالص الـذهـبِ

 

وليس يجذل إلا كـلُّ ذي فـخـرٍ

بالجود والتًّطويل في الخـطـب

 

مثل الزنوج فإنّ الله فضَّـلـهـم

قال: أنشدنيها يونس لابن رباح الشارزنجيّ، فمدَحَ الفيل كما ترى بالطَّرب والحِكاية، وأنّه قد أُدِّب وعُلِّم السجودَ للملوك.

سجود الفيل للملك

وزعموا أنّ أَوَّلَ شيءٍ يؤدّبونَه بهِ السجُودُ للملك؛ قالوا: خرج كِسرى أبرويز ذات يومٍ لبعض الأعياد، وقد صَفّوا له ألفَ فيل، وقد أحدق به وبها ثلاثونَ ألفَ فارِس، فلما بصُرَتْ به الفِيَلةُ سجدتْ له، فما رفَعَتْ رأسَها حتى جُذِبَت بالمحاجن وراطَنَها الفيَّالون.
وقد شهد ذلك المشهد جميعُ أصناف الدوابِّ: الخيلُ فما دونها، وليس فيها شيءٌ يفصِل بين الملوكِ والرعيَّة، فلما رأى ذلك كسرى قال: ليت أنّ الفيلَ كان فارسيّاً ولم يكن هنديّاً، انظُروا إليها وإلى سائر الدوابّ، وفضِّلوها بقدر ما ترَون من فَهْمها وأدبها.
وأما ما ذَكَرَ بهِ الزِّنجَ من طول الخُطب فكذلك همْ في بلادهم وعند نوائبهم، ولكنَّ معانيهم لا ترتفع عن أقدار الدوابِّ إلاّ بما لا يذكر.

ما قيل في تعظيم شأن الفيل

وأنشدوا في تعظيم شأن الفيل وصحة نظره وجَودة تحديقه وتأمُّله، وسكونِ طرْفه، والشّعر لبعض المتكلّمين:

ظننت بأنّ الفيلَ يلزمُه الفَرْضُ

 

إذا ما رأيت الفيل ينظر قاصداً

وقد قيل إن الشِّعر لسهل بن هارون.
مثَل النون والضب وقال عبد الأعلى القاصّ: يقال في المثل: إنّ النون قال للضبّ حينَ رأى إنساناً في الأرض: إني قد رأيتُ عجباً، قال: وما هو? قال: رأيتُ خَلْقاً يمشي على رجليه، ويتناول الطعام بيديه فَيُهْوِي به إلى فيه، قال: إنْ كان ما تقولُ حَقاً فإنّه سيُخرجُني من قعر البحر ويُنزِلُك من وَكْرك من رأس الجبل.

تناول الفيل والقرد طعامه

والفيل أعجَبُ منه، لأنَّ يده أنفُه، وأيدي البهائمِ والسِّباع على حال عاملة شيئاً، والقِردُ يأكل بيديه وَيَنْقِي الجَوزة ويتفلَّى ويَفْلِي أُنثاه، وليس شيءٌ يكرَع بأنفه ويُوصِلُ الطعامَ إلى فيه بأنفه غير الفيل.
إطعام الدب ولدها والدب الأنثى تُقيم أولادَها تحت شَجرةِ الجوز، ثم تصعَد الشّجرة فتجمَع الجوز في كفِّها، ثم تضرب باليمنى على اليسرى فتحطم ذلك الجوز فترمي به إلى أولادها، فلا تزال كذلك حتى إذا شبعْنَ نزلَتْ.
وربّما قطع الدّبُّ من الشجرة الغُصْن العَبْل الضّخمَ الذي لا يقطعه صاحب الفأس إلاّ بالجهد الشديد، ثم يشدّ به على الفارس قابضاً عليه في موضع مقبض العصا فلا يصيبُ شيئاً إلاّ هَتَكه.

قلة تصرف يدي الفيل

قال صاحب المنطق: ليس شيءٌ من ذوات الأربع إلاّ وتصرُّف يديهِ في الجهات أقلُّ من تصَرُّف يَدَي الفيل.

شعر في وصف جلد الفيل والجاموس

وقال أبو عثمان: ويوصف جِلدُ الفيل، وجلدُ الجاموس بالقوَّة، قال جميل:

كما امتدّ نِهيُ الأصْلَفِ المترقرقِ

 

إذا ما علَتْ نَشْزاً تمدُّ زِمامَـهـا

ومِن جِلدِ جاموسٍ سمين مطرَّقِ

 

وما يبتغِي مِنِّي العُداةُ تفـاقـدوا

له بعد إخلاص الضريبة رَوْنَـقُ

 

وأبيضَ مِن ماءِ الحديدِ اصطفيتُـه

شعر فيه ذكر الفيل وقال كعبُ بن زهير في اعتذارِهِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم:

أَرى وأسمعُ ما لوْ يَسْمَعُ الفيلُ

 

لقد أقومُ مقاماً لـو يقـوم بـه

مِنْ الرَّسولِ بأمر اللّه تنـويلُ

 

لظَلَّ يُرعَدُ إلاّ أن يكـون لـه

وذكر أمية بن أبي الصلت سفينةَ نوح فقال:

مَعْ قويِّ السِّـبـاعِ والأفـيالِ

 

تصرخ الطَّيرُ والبريَّة فـيهـا

بين ظَهرَيْ غواربٍ كالجبـالِ

 

حينَ فيها من كلِّ ما عاشَ زوجٌ

وقال أميَّة أيضاً:

تَعْصِف اليابسات والمخْضُورا

 

خَلَقَ النَّحْل مُعْصِرَاتٍ تَرَاهـا

لَ شَتَّى والرِّيمَ واليعـفـورا

 

والتماسيحِ والـثـيَاتِـل والأيِّ

ونعَاماً خواضبـاً وحَـمـيرا

 

وصُواراً من النَّواشط عِـينـاً

وسِباعاً والنّمرَ والخِـنـزيرا

 

وأسـوداً عـوادِياً وفــيولاً

طيب عرق الفيل

وتزعم الهند أنّ جبهة الفيل في بعض الزمان تَعرق عرَقاً غليظاً غيرَ سائل، يكون أطيبَ رائحة من المِسْك، وهذا شيءٌ يعتريه كلَّ عامٍ، وموضعُ ذلك الينبوعِ في جَبْهته.
فأرة المسك والإبل والنّاسُ يجِدُون رِيحَ المسك في بيوتهم في بعض الأحايين، وهي ريح فارةٍ يقال لها فارة المِسْك، والذي يكون في ناحية خراسان الذي له فأر المسك ليسَ بالفأر، وهو بالخِشْف حين تضَعُه الظّبيةُ أشبَه.
وتقول العرب في فارةِ الإبلِ صادرةً: إنَّ أرَجَ ذلك العرقِ أطيبُ من المسك الأذْفَر في ذلك الزمان، وفي ذلك الوقت من اللّيل والنهار.
قال الراعي:

كمَا فَتَقَ الكافورَ بالمسكِ فاتقُهْ

 

لها فارةٌ ذَفْرَاءُ كـلَّ عـشِـيَّةٍ

قال الأصمعيّ قلت لأبي مهدية، أو قيل لأبي مهدية: كيف تقول لا طِيب إلا المسك? قال: فأين أنت من البان، قال: فقيل له: فقل: لا طيب إلا المسك والبان، قال: فأين أنت عن أدهانٍ بحَجْر، قالوا له: فقل: لا طيبَ إلاَّ المسك والبانُ وأدهانٌ بحَجْر، قال: فأين أنتم عن فارة الإبل صادرة?.
قالوا: وربّما وجَدَ النّاسُ في بيوتهم الجُرذَ يضرب إلى السَّوَاد، يجدونَ من بدَنه إذا عَدا إلى جُحْره رائحةً تشبه رائحةَ المسك، وبعضُ النّاس يزعم أنّ هذا الجنسَ هو الذي يَخْبأ الدَّنانير والدراهمَ والحُليّ، كما يصنع العَقْعق والغُرَابُ.
وهذا الجرذُ غير فارة المسك التي تكون بخُراسان، وتلك بالخِشْف الصَّغير أشبه، وإنما يأخذون سُرَّتَه وهي ملأى من دمٍ عَبيط.

الآية في الفيل

قالوا: وقد جعل اللّه الفيلَ من أكبر الآيات وأعظمِ البُرْهانات للبيت الحرام ولِقبْلة الإسلام، وتأسيساً لنبوَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتعظيماً لشأنه ولما أجْرَى من ذلك على يَدَي جدِّه عبد المطلب، حين غدَت الحبشةُ لِتهدمَ البيتَ الحرام وتُذِلَّ العرب، فلم يذكر اللّهُ منهم ملِكاً ولا سُوقةً باسمٍ ولا نَسب ولا لقب وذكرَ الفيلَ باسمه المعروف، وأضاف السورةَ التي ذكر فيها الفيل إلى الفيل، وجعل فيه من الآية أنهم كانوا إذا قصَدُوا به نحوَ البيت تَعَاصَى وبَرَك، وإذا خلَّوه وسَوْمَه صَدَّ عنه وصَدَف، وفي أضعاف ذلك التقَمَ أذنَه نُفيل بن حَبِيب، وقال: ابرُكْ محمود، وكان ذلك اسمَه.
الطعن في قصة الفيل  وقد طعن في ذلك ناسٌ فقالوا: قد يستقيم أن ينصرف عنه وَيحْرِدَ دونَه، كلّ ذلك بتصريف اللّه له، وكيف يجوز أن يَفْهَمَ كلامَ العرب ويعرفَ معنى قول نُفيل? فإن قلتم: قد يفهم الفيل عن الفَيّال جميعَ الأدب والتقويم، وجميعَ ما يريد منه عند الحَطِّ والرَّحيل والمُقام والمسير، قلنا: قد يَفهم بالهنديّة كما يعرف الكلبُ اسمَه، ويعرفُ قولَهم اخسَأ، وقد يعرِف السّنّورُ اسمَه ويعرف الدُّعاءَ والزَّجْر، وكذلك الطِّفلُ والمجنون، وكذلك الحمارُ والفرس إذا كنَّ قد عُوِّدْن تلك الإشارة، وسماعَ تلك الألفاظ، فأمّا الفيل وهو هنديٌّ جلبَه إلى تلك البلْدة حبشيٌّ، فخرجَ من عُجْمة إلى عجمة، كيف يفهمُ مع ذلك لسانَ العرب وسِرار نُفَيل بن حَبيب بالعربيّة? قلنا: قد يستقيم أن يكون قال له كلاماً بالهنديّة كان قد تعوَّدَ سَماعه من الفيّالين، فيكونَ ترجمتُه بالعربيّة هذا الكلامَ الذي حكَوْه، وقد يكون الذي أنطَقَ الذِّئبَ لأُهبانَ بنِ أوس؛ وجعل عود المنبر يحنّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يصوِّر لوهم الفيل إرادة نُفَيل بن حبيب، وقد يستقيم مع لَقَن الفيل وذكَائه وحكايته ومُؤاتاته، أن يعرف ذلك كلَّه وأكثرَ منه، لطول مُقامِه في أرض الحبَشة واليمن، وليس يبعُد أن يكون بأرض الحبشة جماعةٌ كثيرةٌ من العرب من وافد وباغٍ وتاجر،وغيرِ ذلك من الأصناف، فيسمع ذلك منهم الفيلُ فيعرفه، وليس هذا المقدار بمستنكَرٍ من الفيل، مع الذي قد أجمَعُوا عليه من فَهم الفيل ومَعرفته.
وكان منكه المتطبّب الهنديّ صحيح الإسلام، وكان إسلامَه بعد المناظرة والاستقصاء والتثبُّت، قالوا: فسمع مَرَّةً من رجل وهو يقرأ: "أَفلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِل كَيْفَ خُلِقَتْ"، وسمع بعضَ الجهال يقول: فكيف لو رأى الفيل? فعذلَه قَوم، فقال منكه: لا تَعْذلُوه فإنَّه لا شكَّ أنَّ خَلْقَ الفيل أعجَبُ، فقيل له: فكيف لم يضرب به اللّه تعالى المثلَ دونَ البعير? فقال أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظام، فقلت له: ليس الفيلُ بأعجبَ من البعير، واجعَلْه يعجِّب من البعير، وهو إنما خاطب العرب، وهم الحجةُ على جميع أهل اللغات، ثم تصير تلك المخاطبةُ لجميع الأمم بعد الترجمة على ألسنة هؤلاء العرب، الذين بهم بَدَأت المخاطبة لجميع الأمم، وكيف يجوز أن يعجِّب جماعةَ الأمم من شيءٍ لم يروْه قطّ، ولا كانَ على ظهرها يوم نزلَتْ هذه السورة رجلٌ واحد كان قد شهد الفيلَ والحبشة، وعلى أنَّ الفيلَ وافَى مكَّةَ وما بها أحدٌ إلاّ عبدُ المطلب في نفير من بقيَّة النَّاس، ولا كانوا حيث يتأمّلون الفيل.
وقد قال ناسٌ: كان النَّاسُ رَجلين، رجلٌ قد سمِع بهذا الخبر من رِجالات قريش الذين يجترُّون إلى أنفسهم بذلك التَّعظيم، كما كانت السَّدنةُ تكذِب للأوثان والأصنام والأنصاب، لتجترَّ بذلك المنافع، ورجلٌ لم يكن عندَه علمٌ بأنّ هذا الخبرَ باطل فلم يتقدَّم على إنكار ذلك الخبر، وجميعُ قريش تثبِّته.
قيل لهم: إنَّ مكَّة لم تَزَل دارَ خُزاعة وبقايا جُرهم وبقايا الأمم البائدة، وكانت كنانة منها النَّسَأة، وكانت مرّ بن أدّ مِنْ رَهْطِ صُوفة والرَّبِيط منها أصحاب المزدلفة، وإليهم كانت السِّدانة، وكانت عَدْوان وأبو سيّارة عَمِيلة بن أعزَل، تدفع بالنّاس، وقد كان بين خزاعة وبقايا جرهم ما كان حتى انتزعوا البيت منهم، وقد كان بين ثقيف وقُريش لقُرب الدار والمصاهرة، والتَّشابه في الثروة والمشاكَلة في المجاورة تحاسدٌ وتنافر، وقد كان هنالك فيهم المولى والحُلفاء والقطّان والنازِلة، ومَن يحجُّ في كلِّ عام، وكان البيت مَزُوراً على وجْه الدهر، يأتونه رجالاً ورُكباناً وعلى كل ضامرٍ يأتينَ من كلِّ فجٍّ عميق، وبشِقِّ الأنفس، كما قال اللّه تعالى: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ"، وكانوا بقرب سُوق عُكاظ وذي المجاز، وهما سوقان معروفانِ، وما زالتا قائمين حتى جاء الإسلام، فلا يجوز أن يكون السَّالب والمسلوب، والمفتخر به والمفتخَر عليه، والحاسد والمحسود، والمتديِّن به والمنكر له، مع اختلاف الطبائع وكَثْرة العلل، يُجْمِعُون كلهم على قَبول هذه الآية وتصديق هذه السُّورة، وكلهم مُطْبقٌ على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، والكُفْر به. والمحلُّون من العرب ممَّن كان لا يرى للحَرَم ولا للشَّهر الحرام حُرمةً: طيِّئٌ كلها، وخثعمٌ كلُّها، وكثيرٌ من أحياء قُضاعة ويَشْكُرَ والحارثِ بن كعب، وهؤلاء كلُّهم أعداءٌ في الدِّين والنَّسَب، هذا مع ما كان في العرب من النّصارى الذين يخالفون دِينَ مُشركي العرب كلَّ الخلاف، كتغلبَ، وشيبانَ، وعبدِ القيس، وقضاعةَ، وغَسَّان، وسَليح، والعِباد، وتَنوخَ، وعاملةَ،ولخمٍ، وجُذَامَ، وكثيرٍ من بَلحارث بن كعب، وهم خُلَطاء وأعْداء، يُغاوِرون ويَسْبُون، ويُسْبَى منهم، وفيهم الثُّؤُور والأوتار والطوائل، وهي العربُ وألسنتُها الحِداد، وأشعارُها التي إنما هي مَياسم، وَهِمَمُها البعيدة، وطلبُها للطّوائل، وذمُّها لكلّ دقيقٍ وجليل من الحسَن والقبيح، في الأشعار والأرجاز والأسجاع، والمزدَوِج والمنثور، فهل سمْعنا بأحد من جميع هؤلاء الذين ذكرْنا أنكَرَ شأنَ الفيل، أو عَرَضَ فيه بحرف واحد.

كلام الفيل والذئب

ورَزِينٌ العَروضيُّ - وهو أبو زهير - لم أر قطُّ أطيبَ منه احتجاجاً، ولا أطيب عبارة قال في شعرٍ له يهجو ولدَعقبةَ بنِ جعفر، فكان في احتجاجه عليهم وتقريعِه لهم أن قال:

فقد لعمري أبُوكُم كَلَّمَ الـذِّيبـا

 

تِهتُمْ علينا بأن الذِّئبَ كلّمـكـمْ

تركتمُ الناس مأكولاً ومَشرُوبـا

 

فكيفَ لو كلمَ اللّيث الهصورَ إذاً

يكلّم الفِيلَ تصعيداً وتَصـويبـا

 

هذا السُّنَيديُّ لا أصلٌ ولا طرف

ولو كان ولد أُهبان بن أوسٍ ادَّعَوا أنّ أباهم كلم الذئب، كانوا مجانين وإنما ادَّعوا أنّ الذئبَ كلّمَ أباهم، وأنّه ذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّه صَدَّقه.
والفيلُ ليس يكلِّم السنديّ، ولم يدَّعِ ذلك السنديّ قطُّ، وربَّما كان السِّندِيُّ هو المكلّم له، والفيل هو الفَهِمَ عنه، فذهب رَزين العَرُوضيُّ من الغَلَط في كل مذهب.
ما يكلَّم من ضروب الحيوان والنَّاس قد يكلّمون الطيرَ والبهائم والكلابَ والسَّنانير والمَرَاكب، وكلَّ ما كان تحتَهم من أصناف الحيوان التي قد خوِّلوها وسُخِّرَتْ لهم، وربَّما رأيتَ القرَّادَ يكلّم القِرد بكلِّ ضرب من الكلام، ويُطيعه القِرد في جميع ذلك، وكذلك ربَّما رأيتَه يلقِّن الببغاء ضروباً من الكلام، والبَبْغاء تحكيه، وإنّ في غراب البَيْنِ لَعَجَباً، وكذلك كلامهم للدب والكلب والشاة المكّيَّة، وهذه الأصنافِ التي تَلْقَن وَتَحْكِي.
تكليم الأنبياء للحيوان وقد رَوَى الناسُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلام السِّباع والإبل ضروباً، ولم يذهبوا إلى أنها نطقَتْ بحروفٍ مقطّعة، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون اللّه أوحَى إليه بحاجاتها، وإمَّا أن تكون فِراسته وحِسّه وتثبُّتُه في الأمور، مع ما يُحْضِرُهُ اللّه من التوفيق، بَيَّنَ له معانيَها وجلاَّها له، واستدلَّ بظاهر على باطنٍ، وبهيئة وحركةٍ على موضع الحاجة، وإمَّا أن يكون اللّه ألهمه ذلك إلهاماً.
وأمَّا جِهةَ سليمان بن داود، صلى اللّه على نبينا وعليه، في المعرفة بمنطق الطير ومَنطِق كلِّ شيء، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلاّ أن يقوم منها في الفهم عنها مَقامَ بعضِها من بعض، إذا كان اللّه قد خصَّه بهذا الاسم، وأبانَه بهذه الدَّلالة، وأعلام الرُّسُل لا يكثُر عددُها، ولا تَعظم أقدارها على أقدار فضائل الأنبياء؛ لأن أكثر الأنبياء فوقَ سليمان بن داود، وأدنى ذلك أنّ داود فَوْقه، لأن الحكم في الوارث والمورِّث، والخليفة والذي استخلفه، أن يكون الموروثُ أعلى، والمستخلِف أرفَعَ، كذلك ظاهر هذا الحكم حتى يخصّ ذلك برهانٌ حادث.
 وإنما تكثر العلامات وتعظُم على قدْر طبائع أهل الزمان، وعلى قدر الأسباب التي تتَّفق وتتهيَّأ لقومٍ دون قوم، وهو أن يكونوا جبابرةً عُتاةً، أو أغبياءَ مَنقوصين، أو علماءَ معاندين، أو فلاسفةً محتالين، أو قوماً قد شملهم من العادات السيِّئة وتراكمَ على قلوبهم من الإلف للأمور المرْدية، مع طول لبثِ ذلك في قلوبهم، أو تكون نِحْلتهم وملتهم ودَعوتهم تحتمل من الأسْباب والاحتيالات أكثَرَ ممَّا يحتملُ غيرها من ذلك، فإنّ من الكفر ما يكون عند المسألة، والجواب أسرَع انتشاراً وأظهرَ انتقاضاً، ومنه ما يكون أمْتَنَ شيئاً، وإن كانَ مصيرُ الجميع إلى الانتقاض وإلى الفساد، ومنه شيء يحتاج من المعالجة إلى أكثَرَ وأطولَ، وإنما يتفاضَلُ العلماءُ عند هذه الحال، وقد يكون أن ينقدح في قلوب الناس عداواتٌ وأضغانٌ سَببها التَّحاسُد الذي يقع بين الجيران والمتفقين في الصِّناعة، وربما كانت العداوةُ من جهة العصبيَّة، فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه، وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال، فإذا أبغض شيئاً أبغضَ أهلَه، وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ، وإذا أبغض تلك الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السَّلف والقدوة.
أثر الغُلمة في الجسم والعمر وتزعم الهندُ أنّ شِدّةَ غلْمة الفيل وطولَ أيَّامه فيها وهجرانَه الطَّعامَ والشرَابَ، وبقيَّة تلك الطبيعة، وعملَ ذلك العرقِ السَّاري، هو الذي يمنع الفيل أن يصير في جسمه مَرَّتَين، لأنّ ذلك مِن أمتن أسباب الهُزَال، وإذا تقادَمَ ذلك في بدن وغَبَّ فيه، عمِل في العظْم والعصَب، بعْدَ الشَّحم واللَّحم، وإذا كان رفعُ الصوت والصِّياحُ وكثرةُ الكلام والغضبُ والحدّة، إنما صار يورثُ الهُزال لأنّ البدن يسخُن عن ذلك، و إذا شاعَت فيه الحرارة أحرقَتْ وأكلَتْ وشربت، ولذلك صار الخَصيُّ من الدُّيوكِ والأنعامِ أسمَنَ.
وزعَمُوا أنَّه ليس فيما يعايش الناس من أصناف الحيوان أقصرُ عمراً من العصفور، ولا أطْوَلُ عمراً من البغل، وللأمور أسبابٌ، فليس يقع الظنُّ إلاّ على قلّة سِفاد البغل وكثرة سفاد العُصفور.
قالوا: ونجد العمرَ الطَّويلَ أمراً خاصاً في الرُّهبان، فنظنّ أيضاً أنّ تركها الجِماعَ من أسباب ذلك.
قالوا: وإذا اغتلم الذكرُ من الحيوان فهو أخبَث ما يكون لحماً، وإذا كثُر سِفادُه تضاعَفَ فيه ذلك، وصار لحمه أيبَسَ ودمُه أقلَّ.
قال الشاعر:

أو جُرَذاً يرعى رَبيعاً أرْمَلاَ

 

أُحِبُّ أنْ أصطادَ ضَبّاً سَحْبَلاَ

فجعله أرْمَلَ لا زوجةَ له ليكون أسمَنَ له؛ لأنَّ كثرةَ السفاد مما يورث الهزال، ولا يكثر سفاده إلاّ من شدَّة غلْمته.
وهجا أعرابيٌّ صاحبه حين أكل لحمَ سَوْءٍ غَثٍّ فقال:

كالوَرَلِ السافد يَغْنَى بالنَّسَمْ

 

أكلته من غَرَثٍ ومن قَرَمْ

لأنّ لَحْمَ الورلِ لا يشبه لحم الضبّ، وهم لا يرغبون في أكله لأنه عَضِلٌ مَسِيخٌ، ولأنهم كثيراً ما يجدون في جوفه الحيَّاتِ والأفاعي، وله ذنبٌ سمينٌ، وذلك عامٌّ في الأذناب، وإنْ رأيتَها في العين كأنها عضَل، فإذا كان لحمُها كذلك، ثم كان في زمن هيجه وسفاده كان شرّاً له.
وللورَل في السِّفاد ما يجوز به حَدّ الجملِ والخنزير.
قال: والنسم هو النَّسيم في هذا المكان.
وقالت أمُّ فَرْوَة القرنية:

فما إنْ به عيبٌ تراه لشـاربِ

 

نفى نَسَمُ الرِّيح القَذَى عن مُتونِه

وأنا أعلمُ أني لو فسَّرْتُ لك معانيَ هذه الأشعار وغريبَها، لكان أتمَّ للكتاب وأنفَعَ لمن قرأ هذه الأبواب، ولكني أعرف مَلالَة الناس للكتاب إذا طال، قال الشاعر يهجو من قَرَاه لحمَ كلب:

كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقدَ سافِدِ

 

فجاءَ بخِرْشَاوَيْ شَعيرٍ عليهمـا

فلم يرضَ أنْ جعله كلباً حتى جعله سافداً، فأمَا ابنُ الأعرابيِّ فزعم أنّه إنما عَنَى تيساً، وقد أبطَلَ، وعلى أنَّ المعنى فيهما سواء.
أثر الخصاء في اللحم قالوا: وإنما صار الخصيُّ من كلّ جنسٍ أسمنَ لأنّه لا يَسْفَد ولا يَهيج.
السقنقور  قالوا: والسقنقور إنما ينفَعُ أكلَه إذا اصطادوه في أيام هَيْجه وسِفاده؛ لأنَّ العاجز عن النِّساء يتعالج بأكل لحمه، فصار لحمُ الهائج أهْيَج له.
أبو نواس والحرامِي أقبل أبو نواسٍ ومعه الحرَامِيّ الكاتب، وكان أطْيَبَ الخَلْق، وقد كانا قبل ذلك قد نظرا إلى الفيلة فأبصرا غُرمولَ فيل منها، وعلم الحَرَاميّ أنّ غُرمولَ الفيلِ يُوصَفَ بالجَعْبة، فوصف لنا غرمولَه، وأنشدنا فيه شعراً لنفسه:

جَعْبةُ تُرْكيٍّ عليها لِبْدُ

 

كأنّه لمَّا بَدَا للسَّـفْـدِ

قلنا له: أقْوَيْتَ واجتلبتَ ذِكر اللِّبد عن غير حاجة، قال: فإني قد قلتُ غيرَ هذا، قلنا: فأنشِدْنا، فقال:

شمعةُ قَيلٍ لُفِّفَتْ في لِبْدِ

 

كأنه لمَّا دنـا لـلـشـدِّ

قلنا: فلا نرى لك بُدّاً من اللِّبد على حال? قال: قال أبو نواس: فإني أقولُ عنك بيتين، قال: فهاتِهما، فقال:

أُيورُ أعيارٍ جمعن ضَرْبَهْ

 

كأنه لما دَنَا لـلـوثْـبَـه

قال الحَرَامي لأبي نواس: هَبهُما لي على أن لا تدَّعيهما، فعسى أن أنتحِلَهما، قلت له: وما ترجُو من هذا الضَّرب من الأشعار? قال: قد رأيتُ غُرمولَه، فما عُذْري عند الفيل إنْ لم أقُلْ فيه شيئاً.

فهم الفيلِ الهنديةَ

وحدَّثني صديقٌ لي قال: رأيتُ الفيَّالينَ على ظهر فيلٍ من هذه الفِيَلة، وأقبل صبيٌّ يريد السِّنديّ الرّاكب، فكلَّمَ الفيلَ بالهنديَّة فوقف، ثم كلَّمه فمدّ يدَه رافِعَها في الهواء حتى رَكِبَها الغلامُ، ثم رفع يَدَه حتى مدَّ السنديُّ يدَه، فأخذ بيد الصبيِّ.
أخلاف الحيوان وأطْباؤه وللبقر والجواميس أربعةُ أخْلافٍ في مُؤخّر بُطونها، وللشاة خِلفان، وللناقة أربعة في مؤخّر البطن، وللمرأة والرّجُل والفِيل ثديانِ في الصدر، وثَدْيُ الفيل يصغُر جدّاً إذا قرنته إلى بدنه، وللسّنّور ثمانيةُ أطْباءٍ، وكذلك الكلْبةُ في جميع بطونهما، والخنزيرة كثيرةُ الأطْباء، وللفَهدةِ في بطنها أربعةُ أطْباء، وللَّبؤة طبْيانِ لا يصغُران عن مقدار بَدَنِها، والبقرة والأتان والرَّمَكة والحِجْر في ذلك سواءٌ، إلاّ أنها من الحافرِ أطْباء، ومن الظّلْف أخلاف، والسِّباعُ في ذلك والحافرُ سواءٌ.

عضو الفيل

وقال صاحبُ المنطق: غُرمول الفِيل يصغُر عن مقدار بَدَنِه، وخُصيتُه لاحقةٌ بكُلْيته لا تُرَى،ولذلك يكونُ سريع السِّفاد.
وزعم الهنديُّ صاحبُ كتاب الباه أنَّ أعظمَ الأُيور أيْرُ الفِيل، وأصغرها أير الظَّبي.

الفيل في كتاب الحيوان

وما أعجَبَ ما قَرأتُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق، وجدتُه قد ذكر رأس الفيل وقِصَر عنقه، ولم يذكر انقلابَ لسانه، وذلك أعجَبُ ما فيه، ولم يذكر في كم يَضَعُ، ولا مقدار وزن أعظم الأنياب وكيف يخرج من بطن أمِّه نابت الأسنان.

خصائص الفيلة

والفِيَلةُ لا تلِد التؤام، قال: وهي تفِذُّ وتُفْرِد، قال: وقال بعضُ العلماء: لا يقال أفذّت ولا أفرَدَت إلاّ لما يجوز أن يُتْئم.
قال: وأمراضُها أقلُّ من أمراضِ غيرها، إلاّ أنّ النَّفْخَ والرِّياحَ يعرِضُ لها كثيراً ويُؤْذيها أذًى شديداً، وعامَّةُ أمراضِها من ذلك، حتى ربَّما مَنَعها البولُ وغير ذلك، قال: وإذا أكلت التُّراب ضَرَّها ذلك، ولا سيَّما إذا أكثرَتْ منه فعاودَتْه.
علاج الفيلة قال: وربَّما ابتلعت منه الحجارة، قال: وإذا أصابَها استطلاقٌ سُقيَت الماءَ الحارَّ وعُلِفَت الحشيشَ المعْسول، وإذا أتْعَبُوها اعتراها السَّهَر، فتعالجَ عند ذلك بأن تُدْلَكَ أكتافُها بزيتٍ وماءٍ حار، قال: وبعضها يشرب الزَّيت شُرْباً ذَريعاً.
تذليل الفيل قال: وإذا تصعَّب الفيل وكانَ في حِِدْثان ما اقتطعُوه من الوحْش فإنهم يُنْزُون عليه فِيلاً مثلَه، ويحتالون له في ذلك؛ فما أكثرَ ما يَجِدُونه بعد ذلك قد لاَنَ.
قال: وهو مادامَ راكبُه عليه فهو ألينُ من كلِّ ذي أربع، وأحسَنُ طاعة، ولكن لبعضها صعوبةٌ عند نزُوله عنه، فإِذا شدُّوا مقاديمَ قوائمها بالحبال شَدّاً قويّاً لانَتْ.
قال: وهي على صعوبتها تأنَسُ سريعاً وتَلقَنُ سريعاً، فأوَّلُ ما يعلَّم السُّجودُ للملك، فإذا عَرَفَه فكلما رآه سجَدَ له.
صدق حس الفيل  فأمَّا صِدْقُ الحسّ فهو يفوقُ في ذلك جميعَ الحيوان، وهو والجمل سواءٌ إذا علّما، لأنّ الأنثى إذا لَقِحت لم يعاوِدَاها للضِّراب، فهذه فضيلةٌ مذكورة في حسِّ الجمل، وقد شاركهُ الفيلُ فيها وبايَنه في خصالٍ أخر.
بعض خصائص الفيل وإناثُ الفِيَلة وذكورُها متقاربة في السنّ، وكذلك النِّساء والرِّجال، وهو بحريّ الطّباع، ونَشَأ في الدَّفاء، وهو أجردُ الجلد، فلذلك يشتدُّ جزعه منَ البرْد، فإنْ كان أجْرَدَ الجلدِ، فما قولهم في أحاديثهم: طلبوا من الملك الفيلَ الأبيضَ والفِيل الأبقَع، وجاء فلانٌ على الفيل الأسود.
حقد الفيل قال: وأخبَرَني رجلٌ من البَحْرِيِّين لم أر فيهم أقْصَدَ ولاَ أسدّ ولا أقلَّ تكلُّفاً منه، قال: لم أجدْهم يشكُّون أنَّ فيَّالاً ضربَ فِيلاً فأوجَعَه فألحَّ عليه، وأنَّهم عندَ ذلك نَهَوْه وخوّفوه وقالوا: لا تَنمْ حيثُ ينالك؛ فإنه من الحيوان الذي يحقِد ويُطالِب، ولمَّا أراد ذلك السائسُ القائلةَ شدَّه إلى أصل شجرةٍ وأحكم وَثاقَه، ثم تنحّى عنه بمقدارِ ذراعٍ ونام، ولذلك السائس جُمَّة، قال: فتناولَ الفيلُ بخُرطومه غصناً كان مطروحاً، فوطِئ على طَرَفه حتى تشعَّث، ثم أخَذَه بخرطومه، فوضع ذلك الطَّرَف على جُمَّة الهندي، ثم لواها بخُرْطومه، فلما ظنَّ أنها قد تشبّكت به وانعقَدت، جذبَ العود جَذبةً فإذا الهنديُّ تحت قوائمه، فخبطه خبطة كانت نَفْسُه فيها.
فإِنْ كان الحديثُ حقّاً في أصل مخرَجِه فكفاك بالفيل معرفةً ومكيدةً، وإنْ كان باطلاً فإنهم لم يَنْحَلُوا الفيلَ هذِه النِّحْلة دونَ غيره من الدوابّ إلاّ وفيه عندهم ما يحتمل ذلك ويليق به.
طيب عرق الفيل قال: والعرَق الذي يسيل من جَبْهته في زمنِ من الزَّمان يضارِع المِسْكَ في طيبه، ولا يعرِض له وهو في غير بلاده.

أثر المدن في روائح الأشياء

وقد علمنا أنّ لرائحة الطِّيب فضيلةً إذا كان بالمدينة، وأنّ الناسَ إذا وجَدُوا ريح النَّوى المنقَعِ بالعِراق هَرَبوا منه، وأشراف أهل المدينة ينتابُون المواضِعَ التي يكون فيها ذلك، التماساً لِطيب تلك الرائحة.
ويزعم تُجَّار التُّبَّتِ ممن قد دخَل الصِّين والزَّابِج، وقلَّب تلك الجزائر، ونقّب في البلاد، أنّ كلَّ من أقام بقصبة تُبَّت اعتراه سُرورٌ لا يدري ما سببُه، ولا يزال مبتسماً ضاحكاً من غير عجَب حتى يخرجَ منها.
ويزعمون أنّ شِيرازَ من بين قُرى فارس، لها فغمَةٌ طيّبة، ومَن مَشَى واختلف في طُرقات مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وجَدَ منها عَرْفاً طيِّباً وَبَنّةً عجيبَة لا تخفَى على أحدٍ، ولا يستطيع أنْ يسمِّيَها.
ولو أدخلتَ كلَّ غالية وكلَّ عطر، من المعجونات وغير المعجونات، قَصبة الأهواز أو قصبة أنطاكِية لوجدتَه قد تغيَّر وفَسد، إذا أقام فيها الشَّهرين والثَّلاثة.

أثر بعض التمر في العرق

وأجمَعَ أهلُ البَحْرين أنَّ لهمْ تمراً يسمى النَّابجِيّ، وأنّ مَن فَضَخَه وجَعلَه نبيذاً ثمّ شربه وعليه ثوبٌ أبيض، صبغَهُ عرقه، حتى كأنه ثوب أتحَميٌّ.
استعمال الفيلة وزعم لي بعضُ البحريِّين أنها بالهند تكون نَقَّالةً وعوامِلَ كعوامل البقر والإبل، والنَّقالة التي تكون في الكَلاَّءِ والسُّوق، وأنها تذلّ لذلك وتُسامِح وتُطاوع، وأنّ لها غلاَّتٍ من هذا الوجه.
وزعم لي أنَّ أحَد هذه الفِيَلَةِ التي رأيناها بسُرّ من رأى، أنّه كان لقَصَّارٍ بأرض سَنْدان، يحملُ عليه الثِّيابَ إلى الموضع الذي يغسلها فيه، ولا أعلَمُه إلا الفيلَ الذي بعثَ به ماهانُ أو زكريا بن عطية.
العاج قالوا: وعظامُ الفيل كلها عاجٌ، إلاّ أنّ جوهَرَ النَّاب أثمنُ وأكرم، وأكثَرُ ما تَرى من العاج الذي في القِباب والحِجال والفُلك والمَدَاهن إنما هو من عظام الفيل، يعرَفُ ذلك بالرَّزانة والملاسة.
والعاجُ مَتْجر كبير، ويتصرّف في وجوهٍ كثيرة، ولولا قَدْرَهُ لما فخر الأحنفُ بن قيس فيما فخر به على أهل الكوفة، حيث قال: نحن أكثرُ منكم عاجاً وساجاً، وديباجاً، وخراجاً، ويقال إنّه من كلام خالد بن صفوان، ويقال إنه من كلام أبي بكر الهذلي.
موت الذباب  وإذا خفق بأذنه الفيلُ فأصاب ذُباباً أو يعسوباً أو زنبوراً لم يفْلحْ، والفرسُ الكريم تقَعُ الذُّبابة على مُوقَيْ عينيه، فيَصْفِق بأَحَدِ جفنَيه، فتخرُّ الذُّبابة ميّتة، وقال ابن مُقْبل:

صِفاقُ أديمٍ بالأديمِ يُقابِلـهْ

 

كأنّ اصطفاقَ مَأْقيَيْهِ بِطرْفِه

ويصيح الحمار فتصعق منه الذبابة فتموت، قال العَبْشَمِيّ:

بكلِّ مَيْثاءَ كتغريد المغَنّ

 

مِنَ الحمير صَعِقاً ذِبَّانُـهُ

وقال عُقبة بن مكدَّم التّغلبي:

أعْوَجيّاً يطنُّ رأسَ الذُّبابِ

 

وتَرَى طَرْفَها حديداً بعيداً

وقال ابن مُقبل:

فرَادَى وشَتَّى أصعقَتْهَا صواهله

 

ترى النُّعَرَات الخُضْرَ تحتَ لَبَانِهِ

وأنشد في غير هذا الباب:

وَيَشْكُرَ إنِّي بالقضاء بصـيرُ

 

وإنِّي لقاضٍ بين شيبـانَ وائل

ويَشْكُرُ خنزيرٌ أدَنُّ قصـيرُ

 

وجدنا بني شيبانَ خُرطوم وائل

وليس هذا موضع هذين البيتين، وأنشد:

ليسُوا كما كان المَضَـاءُ يقـولُ

 

أمسى المَضَاءُ ورهطُهُ في غِبطةٍ

فاليومَ تخرَأُ فوقَـهـا وتـبـولُ

 

لا تَخْرَأُ الذِّبان فوقَ رَؤُوسِـهـم

قول زياد في بناء داره أبو الحسن قال: قال زياد ودخلَ دارَه، وكان بناها له فيلٌ موْلاهُ، فلم يرضَ بناءَها، فقال: ادعُوا لي فيلاً، فلم يجِدُوه، فقال: ليتَها في بطن فيل، وفيلٌ في البحر.

قصة فيل مولى زياد

وكان فيلٌ مولى زيادٍ شديدَ اللُّكْنة، وأهدى بعضُهم إلى زيادٍ حمارَ وحش، فقال فيل: أصلح اللّه الأمير، قد أهدَوْا لنا همارَ وَهْش فقال: أيَّ شيءٍ تقول ويْلكَ? قال: أهْدَوْا لنا أيراً، يريد عيراً فقال زياد: الأوَّل أمثل.

العيثوم

وكان أبو مالكٍ يقول: العيثُوم الفيلُ الأنثى، وذهب إلى قول الشاعر:

وطِئَتْ عليك بخُفِّها العيثومُ

ويدلّ قولُ علقمةَ بن عَبْدَة على أنّ العيثومَ من صفات الفيل العظيم الضَّخْم، وقال:

كأَنّ دُفّاً عَلَى العَلياءِ مَهـزُومُ

 

تَتْبعُ جُوناً إذا ما هيِّجَتْ زَجَلَتْ

حَنَّت شعاميمُ من أوساطها كُومُ

 

إذا تزغَّمَ من حافاتـهـا رُبَـعٌ

من الجمال شديدُ الخَلْق عَيثُومُ

 

يَهْدِي بها أسْجَحُ الخدَّين مُختَبِرٌ

ضرب المثل ببعد ما بين الجنسين وقد أكثروا في ضرب المثل ببُعدِ ما بين الجِنْسين، وقال عبد الرحمن بن الحكم:

وتَرْضَى أنْ يقال أبوك زَانِي

 

أتغضَبُ أن يقالَ أبوك عَـفٌّ

كرحم الفيلِ من ولد الأتـانِ

 

وأشهدُ أنْ رحمك مـن زيادٍ

فجعل معاويةَ من نسل الفيل لشرفه، وجعل زياداً من نسل الحمار لضَعَتِه ولعمري لقد باعد؛ لأنّ الغنم وإن كانت من النعَم من ذوات الجِرّة والكروش فإنّ ما بين الغنم والإبل بعيد.
وكذلك قول الكميت:

على الحيتان من شَبَهِ الحُسُولِ

 

وما خِلتُ الضَّبابَ معطَّفـاتٍ

قال: فهذا أبْعَد وأبعد، لأنه وإن ذهب إلى أنّ ولدَ نزارٍ عربٌ فهم في معنى الضِّباب وساكني الصَّحارَى، وأولئك عَجَم، فجعلهم كالسَّمك الذي يعيش في الماء، ألا ترى أنّ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ بن يزيد بن معاوية، لمّا قتلَتْه ضبَّةُ دسَّت في استه سَمَكة.
قال جرير:

إلاّ قرابةُ بَيْنِ الزِّنْجِ والـرُّوم

 

ما بين تيم وإسماعيلَ مِن نَسبٍ

فقال قطرب: الصَّقالبة أبعد، قيل له: إنّ جريراً لا يفْصِلْ بين الصَّقالبة والرُّوم.
وعلى معنى الكميت قال الآخر: حتى يؤلفَ بين الضّبّ والنّونِ وتقول العرب: لا يكون ذاك حتى يجمع بين الأروَى والنَّعام لأنّ الأرْوَى جبليَّة والنّعامَ سُهْلية، وقد قال الكميت:

ويعجبُ أنْ نبرّ بني أبينا

 

يؤلِّف بين ضِفْدِعَة وضَبٍّ

وهذا هو معناه الأوَّل، وأبعَدُ من هذا قولُ الشاعر:

حَتّى يؤلّف بين الثَّلجِ والنَّارِ

قصة الجارية وأمها  وقال أبو الحسن المدائني: قال أبو دهمان الغلاّبي عن الوقّاصي، قال وحدثني بذلك الغَيْدَاقيّ عن الوقّاصي قال: قالت جارية لأمّها ليلة زَفافها: يا أُمَّهْ، إن كان أيرُ زوجي مثلَ أير الفيل كيف أحتال حتى أنتفع به? قال: فقالت الأم: أي بُنَيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمي فذكرتْ أنّها سألتْ عنها أمَّها فقالت: لا يجوز إلا أن يجعلَكِ اللّهُ مثلَ امرأةِ الفيل، قال: فسكتَتْ حولاً ثم قالتْ لأمّها يا أمَّه، فإنِّي إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَني مثلَ امرأةِ الفيل أتطمعين أن يفعلَ ذلك? قالت: يا بُنَيَّة، قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمَّها فقالت: لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّهُ جميعَ نساءِ الرِّجال مثلَ نساءِ الفيلة، قال: فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت: فإن سألتُ ربّي أن يَجْعَلَ نساءَ جميعِ الرِّجالِ مثلَ نساء الفيلة أتطمعين أن يفعلَ ذلك? قالت: يا بُنَيَّة، قد سألتُ عن مثل هذه أمِّي فذكرت أنها سألَتْ أمَّها عنها فقالت: لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّه جميعَ رجال النساء مثلَ رجالِ نساء الفيلة، قال: فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت فإنْ سألتُ ربِّي أنْ يجعلَ جميعَ رجالِ النساء مثلَ جميع رجالِ نساء الفِيَلة أتطمعين أن يَفْعَل ذلك? قال: يا بُنيَّة، قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنَّها قد سألَتْ أمَّها عنها، وأنّها قالت: يا بُنَيّة، إنّ اللّه إنْ جعلَ جميع النّاسِ فيلةً لم تجد امرأةُ الفيل مع عِظَمِ بدنها من اللّذة إلا مثلَ ما تجدين أنتِ اليومَ مع زوجك من اللذَّة، ثم تذهب عنك لذّةُ الشَّمِّ والتَّقبيل والضمّ والتقليب، والعِطْر والصِّبْغ، والحَلْي والمِشطة والعِتاب والتفدية وجميع ما لكِ اليومَ، قال: فسكتَت حَولاً ثم قالت: يا أمَّهْ، إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَ أير الفِيل أعظمَ أتطمعينَ أن يفعلَ ذلك? قالت الأمّ: أيْ بُنيَّة، قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمّها، وأنها قالت: أيْ بُنيَّة، إنّ اللّه إنْ جعَل أير الفيل أعظمَ، جعل حِرَ امرأةِ الفيل أوسَع وأعظمَ، فيعودُ الأمرُ كلُّه إلى الأمر الأول، قال: فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت: يا أمّه، فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعل أَير الفيل أشدَّ غلْمة فيصير عددُ أكوامه أكثرَ أتطمَعين أن يفعل ذلك? قالت: أي بُنَية، قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكَرَتْ أنها سألَتْ أمَّها عنها، وأنها قالت: أيْ بُنَية سَلِي اللّهَ أن يجعل زوجَك أشدَّ غُلْمةً مما هو عليه، ولكن لا تسأليه ذلك حتى تسأليه أن يزيدك في غلمتك، قالت: يا أُمَّه، فإن سألْتُ ربِّي أن يجعَلَه في غُلْمة التيس أتطمعين أن يفعلَ ذلك? قالت: أَيْ بُنيَّة، قد سألتُ عن مثل هذه المسألة أُمِّي فذكرَتْ أنها سألت عنها أُمَّها، وأنها قالت: لا يجوز أن يجعلَه في غُلمة التَّيس حتى يجعلَه تَيساً، قالت: يا أُمّه فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعله تيساً أتطمعين في ذلك، قالت: أي بُنَيَّة، إنه لا يجعله تيساً حتى يجعلَك عَنْزاً، قال: أيْ أُمَّه، فإنْ سألتُه أن يجعله تيساً ويجعلني عنزاً أتطمعين أن يفعلَ ذلك? قالت:أيْ بنيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكَرتْ أنها زارَتْ أُمَّها لتسألها عن هذه المسألة فوجَدتْها في آخِر يومٍ من الدُّنيا وأوَّلِ يومٍ من الآخرة، وما أشكُّ أن يَوْمي قد دنا.
فلم تلبَثِ الأمُّ إلا أياماً حتى ماتت.

باب الظلف

وهي الظِّباء وهي مَعْزٌ، والمعزُ أَجناسٌ، والبقرُ الوحشيُّ ذاتُ أظلافٍ وهي بالمعْز أشبَهُ منها بالبقر الأهليّ، وهي في ذلك تسمَّى نعاجاً، وليس بينها وبين الظِّباء، وإن كانت ذواتِ جرّةٍ وكرُوشٍ وقُرونٍ وأظلافٍ تَسافدٌ ولا تلاقح، وهي تُشْبهها في الشعَر، وفي عَدَم السّنام.
ومن الظِّلْف الوَعِل، والثَّيتَل، والتَّامور، والأيّل، جبَليات كلُّها، لا أدري كيفَ التَّسافد والتلاقح منها.
ومن الظّلف الخنازيرُ وهي بلا كَرِشٍ ولا جِرّة ولا قَرْنٍ، وليس بينهما موافقةٌ إلا في الظّلف، وفي الخنازير ما ليس ظِلفُه بمنشقٍّ، فذاك هو المخالفُ بالنَّاب وبعدم هذه الأشياءِ كلِّها، وتُشاكُل المعْزَ والبقرةَ والظباءَ بالشَّعَر وقِصَر الذَّنب، وتُخالف البقر والجواميسَ في طول الذَّنب، وفي عدد أيّام الحَمْل. ومن الظلف الضأنُ والمَعْز، وقد يكون بينهما تسافدٌ وتلاقح إلا أنها تُلقيه مَلِيطاً قبل أن يُشْعِر، وذلك أقلُّ من القليل.
ومن الظلف البقر الأهليُّ، والجواميس، وهي أهليةٌ أبداً، وهي موافقةٌ للضأن في القرن وفي عدم النَّاب، وفي الجرَّة والكَرِش، وتخالف الضأنَ في الصُّوف والسنام وتوافق المعز في الشعر وتخالف في السنام، وتخالف جميع َ الغنم في الحَمْل؛ لأن الغنمَ تضع لخمسة أشهر، والبقر تضَعُ كما تضعُ المرأةُ في تسعة أشهر، وليس تُشْبه المرأة في غير ذلك، إلا ما يذكرون من الغَبَب ونُتُوِّ الكاهل، فإنهما ربما كانا في بعض النساء، وأكثر ذلك في نساء الدّهاقين.

في الزرافة

قالوا: والزَرافة تكون في أرض النُّوبة فقط، قالوا: وهي تسمَّى بالفارسية أُشتُرْكَاوْ بلنك كأنه قال: بعير، بقرة، نمر، لأنّ كاوْ هو البقرة، وأُشتُر هو الجَمل، وبلنك هو النَّمر.
فزعموا أنّ الزرافةَ ولدُ النمرة من الجمل، فلو زعمتم أَنَّ الْجملَ يكوم الضَّبُعَ ويكوم بعض ما له ظِلفٌ ما كان إلا كذلك، والمسافدةُ في أجناس المِخلب والخفِّ والحافر أعمُّ، فلو جعلوا الفحلَ هو النمر، والأنثى هي الناقة، كان ذلك أقرَبُ في الوهم.
وليس كلُّ ذكرٍ يكومُ أنثَى يُلقِحُها، وقد يكومُ الإنسانُ الدابَّةَ بشهوةٍ منهما جميعاً ولا يكون تَلاقُح كما اتّفقا في المسافدة، وإنّ الرّاعيَ يكومُ الغنمَ وغيرَ الغنم.
وانظرْ، كم مِنْ ضَرْبٍ ادَّعَوْا ممّا لا يُعرَف: فواحدة أنّ بهيمةً ذكراً اشتَهى سبعاً أنثى، وهو من أصعب السِّباع، ثم الثانية أنه ألقَح، والثالثة أنّ أرحامَ النمور لا تتّسع لأولاد الإبل.
قالوا: نمورُهم عِظامٌ وإبلُهم لِطاف، وقد تتّسِع أرحامُ القِلاص العربيَّة لفوالج كِرْمان، فتجيء بهذه الجَمَّازات، ولولا أنه فسَّرَ لجازَ أن يكونَ النَّمِرُ يكومُ النَّاقةَ فتتَّسع أرحامُها لذلك.
قالوا: وفي أعالي بلاد النُّوبة تجتمع سباعٌ ووحوشٌ ودوابٌّ كثيرة، في حَمَارَّةِ القَيظ إلى شرَائعِ المياه، فتتسافَدُ هناك فيَلْقَح منها ما يَلْقَح، ويمتنعَ ما يمتنع، فيجيءُ من ذلك خلقٌ كثيرٌ مختلفُ الصُّورة والشكل والقَدْر، منها الزَّرَافة.
وللزّرافةُ خَطْمُ الجَمل، والجِلد للنَّمِر، والأظلاف والقرن للأَيِّل، والذَّنَب للظَّبْي، والأسنان للبقَر، فإِنْ كانت أمُّها ناقة فقد كامَها نمِرٌ وظبْيٌ وأيِّل في تلك الشرائع، وهذا القولُ يدلُّ على جَهْلٍ شديد.
والزّرافة طويلةُ الرِّجْلين، منحنية إلى مآخيرها، وليس لرجلَيْها ركبتان، وإنما الرُّكبتانِ ليديها؛ وكذلك البهائم كلُّها، وعَسَاهُ إنما أرادَ الثفِنات، والإنسانُ ركْبتاه في رجليه.
ويقولون: أُشْتُرْ مُرْك للنَّعامة، على التَّشبيه بالبعير والطّائر، يريدون تشابُهَ الخلق، لا على الولادة.
ويقولون للجاموس كاوماش على أن الجاموس يُشْبه الكبشَ والثّوْر، لا على الولادة، لأنّ كاو بقرة، وماش اسمٌ للضأن.
وقال آخر: تضع أمُّ الزَّرافة ولدَها من بعض السِّباع، ولا يشعرُ النَّاسُ بذلك الذَّكر، قالوا: كاوماش على شَبَه الجواميس بالضّأن، لأنَّ البقرَ والضأنَ لا يقع بينهما تلاقحٌ، والتّفليس الذي في الزَّرافة لا يُشْبه الذي في النَّمر، وهو بالبَبْر أشبَه، وما النمرُ بأحقَّ به من هذا الوجه من الفَهْد.

تسافد الأجناس المختلفة

وقد يمكن أن تُسْمِحَ الضَّبعُ للذّئب، والذِّئبة للذِّيخ، والكلبةُ للذِّئبِ وكذلكَ الثعلبُ والهرَّةُ، وكذلِكَ الطَّيْرُ وأجْناس الحمامِ كالوَرْدَانيِّ والوَرَشان والحمام، وكالشِّهريّ من بين الحِجْر والبِرْذَوْن، والرَّمَكة والفَرَس، والبغلِ من بين الرَّمَكة والحمار.
فأمَّا بُروك الْجمل على النَّمرة، والْجملُ لا بدَّ أنْ تكون طَرُوقتُه باركةً، فكيف تبركُ النّمرة للجمل، والسِّباع إنما تتسافد وتتلاقح قائمةً، وكذلك الظِّلف والحافر، والمِخْلَب، والخُفّ، والإنسانُ والتِّمْساح يتبطّنان الأنثى، والطيرُ كلُّه إنما يتسافَدُ ويتلاقح بالأستاه من خلف وهي قائمة.

شواذ السفاد

وعموا أنَّ الغرابَ يُزَاقُّ، والحُمَّرُ والقَبَج ربّما ألقحا الإناث إذا كانا على عُلاَوَة الرِّيح، ولا تكونُ الولادةُ إلاّ في موضع إلقاء النُّطفة والشيءِ الذي يلقح منه. وأمَّا السَّمكةُ فقد عايَن قومٌ مُعارضَةَ الذكر للأُنْثَى، فإذا سَبَح الذكَرُ إلى جنب الأنثى عَقَفَ ذنَبَه وعقفَتْ ذَنَبها، فيلتقي المبالان فتكونُ الولادة من حيث يكون التلقيح، لا يجوزُ غير ذلك.
والذين يزعمون أن الحجَلةَ تلقَحُ من الحجَل إذا كانَتْ في سُفَالة الرِّيح، من شيءٍ ينفصل من الذّكر، فإنما شبَّهوا الحجَل بالنَّخْل، فإن النخلةَ ربما لقِحَتْ من ريح كافورِ الفُحَّالِ إذا كانت تحتَ الرِّيح.

المخايرة بين ذوات القرون والجم

قال: وسئل الشَّرْقيّ عن مخايرةِ ما بين ذوات القرون والجُمّ فقال: الإبل والخيل من الخفّ والحافر، والبرثُن والمِخْلب والقدَم التي هي للإنسان، قال: فمن خصال ذي القرن أنَّ منه وإليه ينسب ذو القرنين الملكُ المذكورُ في القرآن، ويزعم بعضُهم أنه الإسكَنْدَر، وقال أميَّة بن أبي الصَّلْت:

والنَّسْرُ للأُخْرى ولَيْثٌ مُرْصَد

 

رَجُلٌ وثَوْرٌ تحتَ رجل يمينـهِ

استطراد لغوي وَيقالُ ضَرَبَه على قَرْنه، وقَرْنٌ من دم، كما يقال قرنٌ من عَرَقٍ، والقَرْن: أمَّة بعد أمَّة، والقَرْنُ: شيءٌ يصيب فُروج النساء يُشْبِه العَفَلة.

ذوات القرون

والفيل من ذوات القرون، وفي الحيَّات والأفاعِي ما لها قرون، وإنما ذلك الذي تسمع أنه قرن إنما هو شيءٌ يقولونه على التَّشبيه، لأنّه من جنس الجِلْد والغضروف، ولو كان من جنس القُرون لكانت الحيّة صلبةَ الرأس، والحية أضعفُ خَلق اللّه رأساً، ورأسُه هو مَقْتلُه؛ لأن كلَّ شيءٍ له قرنٌ فرأسُه أصْلَب وسلاحَه أتمّ، والقَرْنُ سلاحٌ عَتِيدٌ غير مُجْتَلَبٍ ولا مصنُوع، وهو لذَوات القُرون في الرؤوس، وللكرْكدَّن قرنٌ في جبهته، والجاموس أوثق بقَرْنِه من الأسد بمخْلبه ونابه.
وتقول المجوس: يجيء بَشُوتَن على بقرةٍ ذاتِ قُرون.
وظهرت الآية في شأن داودَ وطالوتَ في القَرْن، وشَبُّورُ اليَهود من قَرْن.
والبُوق في الحُروب مُذ كانت الحَرْب إنما كان قرناً.
وبُوق الرَّحَى قرنٌ، والأيّل يَنْصُل قَرنُه في كلّ عامٍ، وكان سِنان رُمح الفارس في الجاهليَّة رَوقَ ثَور.

ما يسمى بروق

ويسمَّى الرَّجلُ بِرَوق، والرَّوْق كالشيء يعاقب الشيء وقال بشّار في التَّعَاقُب:

أعَقَبَتْه الجَنُوبُ رَوْقاً من الأزْيَبِ

وفي العرَب رَوْق وأبو رَوْقٍ، وقال ابن مَيادة:

وَقَبْلَهُ دَانَتْ له حِمْـيَرُ

 

دَانَ له الرَّوقانِ من وائلٍ

الرَّوْقانِ: بكرٌ وتَغْلِب.

استطراد لغوي

ويقال قَرْنُ الضُّحى، وقَرْنُ الشّمس، وقُرون الشَّعَر، وقرْنُ الكَلأ، وقرون السُّنْبل، وأطرافُ عذوق النّخْل وأطاف عروق الحَلْفاء وإبرةُ العقرب كلُّها قُرون.

علاقة القرون واللحى بالذكور

والأجناس التي تكون لها القرون تكونَ قُرونُها في الذُّكور منها، وقد يكون الفحلُ أجمَّ، كما أن اللِّحَى عامٌّ في الرِّجال، وقد يكون فيهم السِّناط.
أنواع القرون وقد تَتَشعَّبُ قرونُ الظباء إذا أسنَّتْ.
وقرونُ الظِّباء وبقَرِ الوحْش شِدادٌ جدّاً، وإنما تعتمد الأوعالُ في الوُثوب وفي القذْف بأنفسها مِن أعالي الجبال على القُرون، والأغلب على القُرون أن تكون اثنَيْن اثنَين، وقد يكون لبعض الغنم قرون عِدّة.
استخدام القرون والجواميسُ تمنَعُ أنفسَها وأولادَها من الأسْد بالقُرون، وبقَر الوحش تمنَع أنفسَها وأولادَها من كِلاب القُنَّاص ومن السِّباع التي تُطيف بها، بالقُرون، قال الطّرِمَّاح:

تَسْألُ الأشباحَ غَيرَ انهزَامْ

 

أكَلَ السَّبْعُ طَلاَها فـمـا

قصة في سفاد الخنزير وقال ابن النُّوشَجانيّ: أقبلت من خراسان في بعض طُرُق الجِبال فرأيتُ أكثرَ من مِيلَين متّصلينِ في مواضعَ كثيرةٍ من الأرض، أثر سِتِّ أرجل، فقلت في نفسي: ما أعرف دابّة لها ستُّ أرجُل فاضطرَّني الأمر إلى أنْ سألتُ المُكارِيَ، فزَعَم أنَّ الخنزيرَ الذّكرَ في زمان الهَيْج يركب الخنزيرة وهي ترتُع أو تذهَبُ نحوَ مَبيتِها، فلا يَقْطعُ سفادَه أميالاً، ويداه على ظَهْرها ورجلاهُ خَلْف رجليها، فَمنْ رأى تلك الآثار، رأى ستّ أرجل، لا يدري كيفَ ذلك.
ما يعرف بطول السفاد  قال: فالخنزير في ذلك على شَبِيهٍ بحال الذباب الذكر إذا سقط على ظهر الأنثى، في طول السِّفاد.
وإنّ الجملَ في ذلك لعجيب الشّأن، فأمَّا العدد فالعصفور، ويُحكَى أنَّ للورَل في ذلك ما ليس لشيءٍ، يعني في القوة، وأنشد أبو عبيدةَ:

وطولِ عَيْسِ جَـمَـلٍ إذا دَحَـسْ

 

في عُظْمِ أير الفيل في رَهْز الفرَسْ

فرس الماء

قال عَمْرُو بنُ سعيد: فرس الماء يأكل التمساح، قال: ويكون في النِّيل خُيول، وفي تلك البحور - يعني تلك الخُلْجان - مثلُ خيول البرّ، وهي تأكل التماسيح أكلاً شديداً، وليس للتماسيح في وسط الماءِ سلطان شديد إلاّ على ما احتمَلَه بذنَبه من الشَّريعة.
قال: وفرس الماء يؤْذِن بطلوع النِّيل، بأثر وطْء حافرِه، فحيث وجدَ أهلُ مِصرَ أثرَ تلك الأرجل عرَفُوا أنّ ماء النيل سينتَهي في طلوعه إلى ذلك المكان.
وهذا الفَرَس ربَّما رعَى الزُّرُوع، وليس يبدأُ إذا رَعَى في أدْنَى الزَّرْع إليه، ولكنّه يحزُرُ منه قدْرَ ما يأكل، فيبدَأُ بأكله من أقصاه، فيرعى مُقْبِلاً إلى النِّيل، وربَّما شرب هذا الفرس من الماء، بعد المَرْعَى ثم قاءَه في المكان الذي رَعى فيه، فينبت أيضاً.
والطَّير عندنا يأكلُ التُّوت ويَذرُِقه، فينبت من ذَرْقه شجَر التُّوت.
قالوا: وإذا أصابُوا من هذه الخيل فِلْواً صغيراً ربّوه مع نسائهم وصبيانهم في البيوت، ولم يزِدْ على هذا الكلام شيئاً.
قال: وفي سنّ من أسنانه شفاءٌ من وجع المَعِدة.

التداوي بفرس الماء وبنات عرس

قال: والنُّوبةُ وناسٌ من الحبَشة يأكلون الحيتان نِيَّةً بغير نار، ويشربون الماءَ العكر فيمرَضُون، فإذا علَّقوا سنّ هذا الفرس أفاقوا، قال: وأعفاج هذا الفرس تُبرئ من الجنون والصَّرْع الذي يعترِي مع الأهلَّة.
قال: وكذلك لحومُ بنات عِرْسٍ صالحة لِمَنْ به هذه العِلّة.

صيد الذئب للإنسان

قال: وإنما يكونُ الإنسان من مصايد الذِّئب إذا لقيه والأرض ثَلْجاء، فإنّه عند ذلك يحْفِش وجْهَ الأرض ويجمعُه، ويضرب وجهَ الرجل فارساً كان أو راجلاً، قال: ودُقاق الثَّلج وغُباره إذا صَكَّ وجهَ الفارس سَدِرَ واستَرْخَى وتحيَّرَ بَصَرُه، فإذا رأى ما قد حلَّ به فرَّبما بَعَج بطنَ الدَّابَّة، وربما عضَّها، فيقبضُ على الفارس فيصرعُه ولا حَرَاك به، فيأكله كيف شاء، وإلاّ أن يكون الفارس مجرباً ماهراً، فيشدُّ عليه عند ذلك بالسِّلاح، وهو في ذلك يَسيرُ ويقطعُ المفازةَ، ولا يدعَه حينئذٍ يتمكَّن من النفر عليه.

تعليم الذئب وتأليفه

وزَعَم عبويه أنّ الخصيّ العبدي الفقيه من أهل هَمَدان، السودانيّ الجَبَلّي، وهو رجل من العرب قد ولدته حليمةُ ظئرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو من بني سعد بن بكر، فزعَم أنَّ السُّوداني أشبَهُ خلْق اللّه بجارحةٍ وأحكمُهمْ بتدبير ذئبٍ وكلبٍ وَأسدٍ ونَمر، وتعليم وتثقيف، وأنّه بلَغَ مِن حذقه ورِفقه أنّه ضَرّى ذئباً وعلَّمه، حتى اصطاد له الظِّباء والثّعالبَ وغيرَ ذلك من الوحوش، وأنّ هذا الذئبَ بعينه سَرَّحَه فرجَع إليه من ثلاثين فرسخاً، وذكر أنّ هذا الذئبَ اليومَ بالعسكر، وحدّثني بهذا الحديث في الأيام التي قام بها أميرُ المؤمنين المتوكِّلُ على اللّه، وذكر أنَّه ضَرَّى أسداً حتى ألِف وصار أهليّاً صَيُوداً، حتى اصطادَ الحميرَ والبقرَ وعِظامَ الوحش صيداً ذريعاً، إلا أنَّ الأسَد بعد هذا كله وثَب على ولدٍ له فأكلَه، فقتَلهُ السوداني.
والذي عندنا في الذِّئب أنه يألف، ولو أخذَ إنسانٌ جرواً صغيراً من جرائه ثمَّ ربَّاه، لما نَزعَ إلا وحشيّاً غَدُوراً مُفْسداً، ولذلك قال الأعرابي:

فمن أنباك أنَّ أباكَ ذيبُ

 

أكلْتَ شُوَيَهتي ونَشأْت فينا

فالذي حكى عبويه من شأن هذا الذِّئب والأسد من غريب الغريب.

مصارعة كلبة لثعلب

وأخبرني عبويه صاحب ياسر الخادم قال: أرسلتُ كلبة لي فحاصرَتْ ثعلباً، فواللّه إنْ زالا كذلك حتى خرَّا ميّتين، قال: فقلت: أكرِمْ بهما صيداً ومَصيداً، وطالباً ومطلوباً.

من خصائص الكبار والفلاسفة

قال: وإذا أسنَّ القرشيُّ رَحَل إلى الحجاز. وقال: ما احتنَك رجلٌ قطُّ إلا أحبَّ الخلوة، وقالوا: ما فكَّر فيلسوفٌ قط إلا رأى الغُربةَ أجمَعَ لهمِّه وأجوَدَ لخواطره.

قول بكر المزني في الأرَضة

قال: وشتم رجلٌ الأرَضَة فقال بكر بن عبد اللّه المُزَني: مَهْ، فهي التي أكلَتْ جميع الصَّحِيفةِ التي تعاقَدَ المشركون فيها على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلا ذكرَ رسول اللّه، وبها تبيَّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا في العذاب المهين، وبها تكشَّف أمرُها عند العوّام بعد الفتنة العظيمة عندهم، وكان على الخاصّة من ذلك أعظم المحن.

طول ذماء الضب

وخبّرَني رجلٌ من بني هاشمٍ كان منهوماً بالصَّيدِ لَهِجاً به، أنَّه ضَرَب وَسَط ضَبٍّ بالسَّيفِ فقطعه نِصْفَين، فتحرَّك كلُّ واحدٍ منهما على حِيالِه ساعةً من نهار ثمَّ سَكَنا.

الورل والضب

وأخبرني أنهم كانوا يُهارِشون بين الضَّبِّ والورَل، فيُلْغِبُه الورلُ حتى يقتله.
وحكَى أنّ الورلَ يقتل الضبّ على معنى الصائد والطالب، وأن الضبّ يقاتل على معنى المُحْرَج، وأنّه هارَشَ بين الورَل والحيَّة فوجد الورَلَ يقتُل الحيّة ويأكلها، ويقتل الضبّ ولا يأكله ولكن حُسُوله.

علة عدم قتل الأعراب للورل والقنفذ

وزعم أنّه وجَدَ مشايخَ الأعرابِ لا يقتلون وَرَلاً ولا قنفُذاً ولا يدَعُون أحداً يصطادهما، لأنهما يقتُلان الأفاعيَ، ويُريحانِ الناسَ منها.

نوادر من الشعر والخبر

وأنشد أبو عبيدة لأبي ذؤيب:

كلَوْنِ النَّؤُورِ وهي بيضاءُ سَارُها

 

وسَوَّدَ ماءُ المَرْدِ فاهاً فـلَـونُـه

وأنشد شبيهاً به للنابغة:

صفراً مَناخرُها من الجرجار

 

يَتَحَلَّبُ اليعضيد من أشداقهـا

وأنشد شبيهاً بذلك لإبراهيم بن هَرْمة:

والحُرض والعسن والهَرْم العُصُمْ

 

كأنَّها إذْ خُـضِـبـت حِـنّـاً وَدَمْ

وأنشد أيضاً:

فما يحسُّ بها سِيدٌ ولا أسَدُ

 

تُعلَّمُ الأكلَ أولادُ الظباءِ بها

وأنشد:

وكُنْتُ إذا ذكرتُكِ لا أخِيبُ

 

ذكرتُكِ ذِكْرةً فاصطدت ظبياً

وما لي في مودَّتكم نصيبُ

 

منحتُكم المودَّة مِن فـؤادِي

وقال ابن مُقبل:

بأسمَرَ عَسَّالٍ إذا هُزَّ عاملُهْ

 

وكم من عَدُوٍّ قد شققنا قميصَهُ

وقال أيضاً:

بأكْدَرَ من ماء اللِّهابة والعَجْـبِ

 

ولم أصطبِحْ صهباءَ صافيةَ القَذى

غَطارفةٍ شُمِّ العَرانِين من كلْبِ

 

ولم أسْرِ في قومٍ كـرامٍ أعِـزَّةٍ

اللِّهابة والعَجْب: ماءان من مياه كلب موصفانِ بالعُذوبة، وهي في ذلك كَدِرة، وأنشد ابن مَزْرُوع لعديِّ بن غُطيفٍ الكلبيّ، وكان جاهليّاً:

والدَّهر يَعدُو عَلَى الفَتَى جَذَعا

 

أهلكَنا اللّيلُ والنـهـارُ مَـعـا

رَفَّعها في السماءِ مَن رَفَـعـا

 

والشَّمْسُ في رأسِ فُلْكِةٍ نُصِبَتْ

والنَّاسُ في الأرض فُرِّقوا شِيَعا

 

أمرٌ بِليطِ السمـاءِ مُـكْـتَـتـمٌ

ر وأرْكى لـتُـبَّـعٍ تـبـعـا

 

كما سَطَا بالآرامِ عادٌ وبالـحِـجْ

إن كنتَ شَيباً أنكرتُ أو صَلعَـا

 

فليس ممّا أصابـنـي عـجـب

قال: هو عاد بن عُوص بن إرم، وسَطَا بالحِجْر، أي بأهل الحِجْر، وأرْكَى أي أخَّر، والإركاء: التأخير.
وقال كعبُ بنُ زهير:

في خَلْقِها عن بَنات الفَحْل تَفضِيلُ

 

فَعْمٌٍ مُقلَّدُها عَـبْـلٌٍ مـقـيَّدُهـا

وعمُّها خالُها قَوداءُ شِـمْـلـيلُ

 

حَرْفٌٍ أخوها أبوها من مُهَـجَّـنةٍ

وكما قال ذو الرّمّة:

أخوها أبوها والضَّوَى لا يضيرُها

وقال سالم بن دارة:

من السَّير في الظّلماء خيطان خَرْوَعِ

 

حَدَوْتُ بهم حتّـى كـأنّ رِقـابَـهُـمْ

وقال بعض المحدَثين:

من اللِّين لم تُخلق لهنَّ عظامُ

 

وقد شَرِبُوا حتى كأنّ رقابَهُمْ

وقال آخر:

على المناكِبِ لم تُعْمَدْ بأعناقِ

 

كأنّ هامَهُمُ والنَّوْمُ واضِعُهـا

وقال الكميت:

نَ أُلْقِيَ مِن بَرْكها كلكلُ

 

وفي اللَّزَباتِ إذا ما السِّنُو

نَ هذا المُقِيمُ لنا المُرْحِلُ

 

لعامٍ يقولُ له المُؤْلِـفُـو

وقال أيضاً:

سِ والمنابتِ والمكَاسِـرْ

 

الطّيِّبُو تُرْبِ الـمَـغَـار

ن الأرضَ هُدّابَ المآزِرْ

 

والساحبون الـلاحـفُـو

ة كابراً مِن بَعْدِ كـابـرْ

 

أنتمْ معادِنُ لـلـخـلاف

ن خلائفاً وبخير عاشِـرْ

 

بالتِّسْعة المتـتـابـعـي

وقال أيضاً:

أعشَبْتَ فانزِلْ إلى معْشَوْشِبِ العُشْبِ

 

ولا يكـن قـولـه إلا لـرائدهــا

ذهب إلى قوله:

يقُلْنَ للرَّائد أعشَبْتَ انزِل

 

مُسْتَأْسدٌ ذِبَّانُه في غَيطلِ

ولكن انظُرْ كَم بين الدِّيباجتَين، وفي الأوَّل ذَهَبَ إلى قول الأعشى:

وجرُّوا أسافِلِ هُدّابِها

 

إذا الحَبَرَاتُ تَلوَّتْ بهِمْ

قال: كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولون: كونوا بُلْهاً كالحمام ولقد كان الرّجل منهم يدعُو لصاحبه يقول: أقلَّ اللّه فِطْنتك.
قال: وهذا يخالف قول عمرَ رضي اللّه عنه، حين قيل له: إنّ فلاناً لا يعرف الشَّرّ، قال: ذلك أجْدَرُ أن يقَعَ فيه.
وقال النابغة الذبياني:

ولا يحسبون الشَّرَّ ضربةَ لازبِ

 

ولا يحسَبونَ الخيرَ لا شَرَّ بَعْـدَهُ

وقال الآخر:

شِرَارُ الرجال مَنْ يسيء فيُعذَرُ

 

ولا تعذِراني في الإسـاءة إنّـه

وقالت امرأة ترثي عُمَير بنَ مَعْبَد بن زُرارة:

وكان ضروباً باليدينِ وبالـيدِ

 

أَعيْنُ ألا فابكي عُميرَ بن مَعبدِ

تقول: بالسَّيف وبالقداح، لأنّ القداح تُضرَبُ باليدين جميعاً، وقال ابن مقبل:

لَدْمَ الوليدِ وراءَ الغيبِ بالحجَرِ

 

وللفؤاد وجيب عنـد أبـهَـرِهِ

وقال ابن أحمر:

وفؤادهُ زَجلٌ كعزَفِ الهُدْهُدِ

وكان حسّان يقول لقائده إذا شهد طعاماً:أطعامُ يدٍ أم طعام يدين?، طعام يدين: الشِّواءُ وما أشبه ذلك، وطعام اليد: الثرائد وما أشبَهَها.
وقال بعض السَّلاطين لغلامٍ من غِلمانه وبين يديه أسيرٌ: اضربْ، قال: بيدٍ أو يدين? قال: بيد، فضرَبه بالسِّياط، قال: اذهبْ فأنتَ حُرّ، وزوّجَه وأعطاه مالاً.
وسارَّ رجلاً من الملوك بعضُ السُّعاة بابنٍ له ذكر أنّه بموضع كذا وكذا يشرب الخمر مع أصحاب له، فبعثَ غلاماً له يتعرّف حالَه في الشراب، فلمّا رجع وجَدَ عنده ناساً فكرِه التفسير، فقال له: مَهْيَمْ، قال: كان نَقْلُه جُبْناً، قال: أنت حُرّ، لأنّ مُعاقِري الخمرِ يتنقلون بالجبن لأسبابٍ كثيرة.
وكان فرجٌْ الحجَّام مملوك جعفر بن سليمان، إذا حَجَمه أو أخذَ من شَعرِه لم يتكلَّم ولم يتحرّك، ولم يأخذ في شيء من الفضول، فقال جعفر ذاتَ يومٍ: واللّه لأمتحننّه، فإن كان الذي هو فيه من عَقْلٍ لايَنْتُهُ، وإن كان كالطَّبيعة والخِلقْة لأحمدَنّ اللّه على ذلك، فقال له يوماً: ما اسمك يا غلام? قال: فرَج، قال: وماكُنْيتُك? قال: لا أكتني بَحضْرَة الأمير، قال: فهل تحتجِم? قال نعم، قال: مَتَى? قال: عند هيجه، قال: وهل تعرفُ وقتَ الهيج? قال: في أكثر ذلك، قال: فأيَّ شيءٍ تأكلُ على الحجامة? قٍال: أما في الصيَّفِ فسِكْباجةٌ محمَّضَة عذبة، وأمَّا في الشتاء فديجيراجة خاِثرةٌ حُلوة، فأعتقه وزَوَّجه، ووهَبَ له مالاً.
وكان قاطعَ الشهادة، ولم يكنْ أحدٌ من مواليه يطمع أن يُشهدَه إلاّ على شيء لا يختلف فيه الفقهاء، وهو الذي ذكره أبو فِرْعون فقال:

أنا حميمُ فَرَجِ الـحـجَّـام

 

خَلُّوا الطَّريق زَوْجتي أَمامي

وكان أهل المربد يقولون: لا نرى الإنصاف إلا في حانوتِ فرجٍ الحجَّام، لأنّه كان لا يلتفت إلى مَن أعطاه الكثيرَ دونَ من أعطاه القليل، ويقدِّم الأوّل ثم الثاني ثم الثالث أبداً حتى يأتي على آخرهم، على ذلك يأتيه من يأتيه، فكان المؤخَّر لا يغضَب ولا يشكُو.
وقال ابن مَقْروم الضّبي:

 

وإذا تُعلَّل بالـسِّـياط جِـيادُنـا                 أعطاك ثائبة ولم يتعلل

 

فدعَوْا نَزَالِ فكنـتُ أوّل نـازل              وعلام أركبه إذا لم أنزل

 

ولقد أفَدْتُ المال مِن جَمْع امرئٍ                وظلفت نفسي عن لئيم المأكل

 

ودخلتُ أبنيةَ الملوكِ عـلـيهـمُ               ولشر قول المرء ما لم يفعل

 

وشهدتُ مَعْرَكةَ الفُيولِ وحَولها                أبناء فارس بيضها كالأعبل

متَسرْبِلي حَلَقِ الحدِيدِ كأنّّهُمْ          جرب مقارفة عنية مهمل

 




=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...