كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2022

كتاب الحيوان للجاحظ - ط البابي الحلبي المؤلف الجاحظ

 

ج1.البخلاء  للجاحظ

خطبة الكتاب

بِسم اللَّه الرَّحمن الرحيم

وبه ثقتي

الجزء الأول

جَنَّبَك اللّهُ الشُّبْهةَ، وَعصَمك من الحَيرة، وجَعلَ بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سَبَباً، وحبَّب إليك التثبُّت، وزيَّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعرَ قلبكِ عِزَّ الحقّ، وأودَعَ صدرَك بَرْدَ اليقين وطرد عنك ذلَّ اليأس، وعرَّفك ما في الباطل من الذلَّة، وما في الجهل من القِلَّة، ولعمري لقد كان غيرُ هذا الدعاء أصوبَ في أمرك، وأدلَّ عَلَى مقدارِ وزنك، وعلى الحال التي وضعْتَ نفسك فيها، ووسَمْت عرضَك بها، ورضيتها لدينِك حظًّا، ولمروءتك شِكلاً، فقد انتهى إليَّ مَيلُكَ على أبي إسحاق، وحَملُك عليه، وطعنُك على مَعْبَدٍ، وتنقّصك له في الذي كان جَرَى بينَهما في مساوي الديكِ ومحاسِنِه، وفي ذكرِ منافع الكلب ومضارِّه، والذي خرجَا إليه من استقصاءِ ذلك وجمْعِه، ومن تتبُّعِه ونظمِه، ومن الموازَنَة بينَهما، والْحُكم فيهما، ثم عبتَني بكتاب حيل اللصوص، وكتاب غِشّ الصناعات، وعبتَني بكتاب المُلَح والطُّرَف، وما حَرَّ من النوادر وبَرُد، وما عاد بارده حارًّا لفَرْط برده حتى أمتَعَ بأكثر من إمتاع الحارّ، وعبتني بكتاب احتجاجات البخلاء، ومناقضَتِهم للسُّمَحاء، والقولِ في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّاً في العاجل، والكذب إذا كان نافعاً في الآجِل، ولِمَ جُعل الصدقُ أبداً محموداً، والكذبُ أبداً مذموماً، والفرق بين الغَيرة وإضاعة الحُرْمة، وبين الإفراط في الحميّة والأنَفَة، وبين التقصير في حفظ حقِّ الحرمة، وقلَّة الاكتراثِ لِسوء القالَة، وهل الغيرة اكتساب وعادة، أم بعض ما يعرض من جهة الديانة، ولبعض التزيُّد فيه والتحسن به، أو يكون ذلك في طباع الحريّة، وحقيقة الجوهريَّة، ما كانت العقولُ سليمة، والآفات منفيَّة والأخلاطُ معتدلة، وعبتَني بكتاب الصُّرَحاء والهُجَناء، ومفاخرة السُّودان والحمران، وموازنة ما بين حقِّ الجئولة والعمومة، وعبتَني بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب، وأقسام فضول الصناعات، ومراتب التجارات؛ وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفرقِ ما بين الذكور والإناث، وفي أيِّ موضع يَغلبن ويفضُلْن، وفي أي موضع يكنَّ المغلوباتِ والمفضولات، ونصيب أيِّهما في الولد أوفَر، وفي أيِّ موضع يكون حقُّهنّ أوجب، وأيَّ عملٍ هو بهنَّ أليق، وأيّ صناعةٍ هنَّ فيها أبلغ،

 

وعبتَني بكتاب القحطانيَّة وكتاب العدنانيَّة في الردّ على القحطانية، وزعمتَ أنّي تجاوزتُ الحميَّة إلى حدِّ العصبيَّة، وأنِّي لم أصل إلى تفضيل العدنانيَّة إلا بِتنقُّص القحطانيّة، وعبتَني بكتاب العرب والموالي، وزعمت أنِّي بَخَسْت المواليَ حقوقَهم، كما أنِّي أعطيتُ العربَ ما ليس لهم، وعبتَني بكتاب العرب والعجم، وزعمت أنّ القولَ في فرقِ ما بين العرب والعجم، هو القولُ في فرقِ ما بين الموالي والعرب، ونسبتَني إلى التكرار والترداد، وإلى التكثير، والجهل بما في المُعَاد من الخَطَل، وحَمْلِ الناسِ المؤن، وعبتَني بكتاب الأصنام، وبذكر اعتلالات الهند لها، وسبب عبادة العرب إيّاها، وكيف اختلفا في جهة العِلَّة مع اتّفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عُبَّاد البِدَدَة والمتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة، والأصنام المنجورة، أشدَّ الديّانين إلْفاً لما دانوا به، وشغفاً بِمَا تعبَّدوا له، وأظهَرَهم جِدّاً، وأشدَّهم على من خالفهم ضِغناً، وبما دانو ضِنّاً، وما الفرق بين البُدِّ والوثَن، وما الفَرق بين الوثَن والصنم، وما الفرق بين الدُّمية والجثَّة، ولِمَ صوَّروا في محاريبهم وبيوت عباداتهم، صُوَرَ عظمائهم ورجالِ دعوتهم، ولم تأنَّقوا في التصوير، وتجوَّدوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم، وكيف كانت أوَّليَّة تلك العبادات، وكيف اقترفت تلك النِّحل، ومن أيّ شكل كانت خُدَع تلك السدنة، وكيف لم يزالوا أكثرَ الأصنافِ عدداً، وكيف شمل ذلك المذهب الأجناسَ المختلفة، وعبتني بكتاب المعادن، والقولِ في جواهرِ الأرض، وفي اختلاف أجناس الفِلِزِّ والإخبار عن ذائبها وجامدها، ومخلوقها ومصنوعها، وكيف يسرع الانقلاب إلى بعضها، ويُبطئ عن بعضها، وكيف صار بعض الألوان يَصبُغ ولا ينصبغ، وبعضها يَنْصبِغُ ولا يصْبَغُ، وبعضها يصبغُ وينصبغ، وما القولُ في الإكسير والتلطيف، وعبتَني بكتاب فرق ما بين هاشمٍ وعبد شمس، وكتاب فرق ما بين الجنّ والإنس، وفرق ما بين الملائكة والجنّ، وكيف القولُ في معرفة الهدهد واستطاعة العفريت، وفي الذي كان عنده عِلْمٌ من الكتاب، وما ذلك العلم، وما تأويل قولهم: كان عنده اسم اللّه الأعظم، وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضات، وما القولُ في الأرزاق والإنفاقات وكيف أسباب التثمير والترقيح، وكيفَ يجتلب التجار الحُرَفاء، وكيف الاحتيال للودائع، وكيف التسبُّب إلى الوصايا، وما الذي يوجب لهم حسن التعديل، ويصرف إليهم باب حسن الظن، وكيف ذكرنا غشَّ الصناعات والتجارات، وكيف التسبُّب إلى تعرف ما قد ستروا وكشف ما موَّهوا؛ وكيف الاحتراس منه والسلامة من أهله، وعبتني برسائلي، وبكلّ ما كتبت به إلى إخواني وخُلَطائي، من مَزْح وجِدٍّ، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافُل وتوقيف، ومن هجاء لا يزال مِيسَمه باقياً، ومديح لا يزال أثرُه نامياً ومن مُلَح تُضحِك، ومواعظَ تُبكي.
وعبتَني برسائلي الهاشميّات، واحتجاجي فيها، واستقصائي معانيَها، وتصويري لها في أحسَن صورة، وإظهاري لها في أتمِّ حلية، وزعمتَ أنّي قد خرجتُ بذلك من حدِّ المعتزلة إلى حد الزيديّة، ومن حدّ الاعتدال في التشيُّع والاقتصاد فيه، إلى حدِّ السرف والإفراط فيه، وزعمتَ أنّ مقالة الزيدية خطبة مقالةِ الرافضَة، وأنّ مقالة الرافضة خطبة مقالة الغاليَة، وزعمتَ أنّ في أصل القضيّة والذي جَرَتْ عليه العادة، أن كلَّ كبير فأوّلهُ صغير، وأنَّ كلَّ كثير فإنما هو قليل جُمع مِنْ قليل، وأنشدت قول الراجز:

قد يَلحَق الصغيرُ بالجليل

 

وإنما القَرْمُ من الأَفِـيل

وسُـحُـقُ الـنـخـلِ

 

من الـفَــســـيل

وأنشدت قول الشاعر:

ربّ كبير هاجَه صـغـيرٌ

 

وفي البُحور تَغرَق البحورَُ

وقلت: وقال يزيدُ بن الحكم:

فاعلم بنـي فـإنـه

 

بالعلم ينتفع العلـم

إن الأمور دقيقهـا

 

مما يهيج له العظيم

وقلتَ : وقال الآخر:

صار جداً ما مزحت به

 

رب جدٍ ساقه اللعـب

وأنشدت قول الآخر:

ما تنظرون بحق وردة فيكـم

 

تقـضـــي الأمـــور

قد يبعث الأمر الكبير صغيرة

 

حتى تظل له الدماء تصبب

وقالت كَبْشة بنت مَعْدِ يكَرِب:

 

جدعتم بعبد اللـه آنـف قـومـه

 

بني مازن أن سب راعي المحزم

وقال الآخر:

أية نار قدح القـادح

 

وأي جدٍ بلغ المازح

وتقول العرب: العَصَا من العُصَيَّة، ولا تلد الحيَّةَ إلا حَيَّةٌ.
وعبتَ كتابي في خلْق القرآن، كما عبت كتابي في الردِّ على المشبّهة؛ وعِبْتَ كتابي في القول في أصول الفتيا والأحكام، كما عبتَ كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديعِ تركيبه، وعبتَ معارضَتي للزيدِيَّة وتفضيلي الاعتزالَ على كلِّ نِحْلة، كما عبتَ كتابي في الوعد والوعيد، وكتابي على النصارى واليهود ثمَّ عبتَ جملةَ كتبي في المعرفة والتمست تهجينَها بكلِّ حيلة، وصغَّرت من شأنها، وحطَطت من قدرها، واعترضت على ناسخيها والمنتفعين بها، فعبتَ كتاب الجوابات، وكتاب المسائل، وكتابَ أصحابِ الإلهام، وكتابَ الحجَّة في تَثبيت النبوّة، وكتاب الأخبار، ثمّ عبتَ إنكاري بصيرةَ غنام المرتدِّ، وبصيرةَ كلِّ جاحد وملحد، وتفريقي بين اعتراض الغُمْر، وبين استبصار المحقّ، وعبتَ كتابَ الردِّ على الجَهْمِيّة في الإدراك، وفي قولهم في الجَهْالات، وكتاب الفرقِ ما بينَ النبيّ والمتنبي، والفرق ما بينَ الحِيَل والمخاريق، وبينَ الحقائقِ الظاهرة والأعلام الباهِرة، ثمّ قصدتَ إلى كتابي هذا بالتصغير لقدره والتهجين لنظمه، والاعتراض على لفظه، والتحقير لمعانيه، فزَرَيت على نحْتِهِ وسَبكه، كما زَرَيت على معناهُ ولفظِه، ثمّ طعنتَ في الغرض الذي إليه نزعْنا، والغاية التي إليها قَصَدنا، على أنّه كتابٌ معناه أنبَهُ من اسمِهِ، وحقيقتهُ آنَقُ من لفظه، وهو كتابٌ يحتاجُ إليه المتوسِّط العامي، كما يحتاجُ إليه العالم الخاصي، ويحتاج إليه الرَّيِّض كما يحتاج إليه الحاذق: أما الرّيض فللتعلُّم والدرْبة، وللترتيب والرياضة، وللتمرينِ وتمْكين العادة، إذْ كان جليلُه يتقدم دقيقه، وإذا كانت مقدِّماته مرتبةً وطبقاتُ معانيه منزّلة، وأما الحاذقُ فلكفايةِ المُؤنة، لأن كلَّ من التقط كتاباً جامعاً، وباباً من أمَّهات العلم مجموعاً، كان له غُنْمه، وعلى مؤلّفه غُرمُه، وكان له نفعُه، وعلى صاحِبهِ كَدُّه، معَ تعرُّضِهِ لمطاعِن البُغَاةِ، ولاعتراض المنافِسِين، ومع عرْضِهِ عقلَه المكدودَ على العقولِ الفارغة، ومعانيه على الجهابِذة، وتحكيمه فيه المتأوِّلين والحسَدَة، ومتى ظَفِر بمثله صاحبُ علم، أو هجمَ عليه طالبُ فقه، وهو وادعٌ رافِه، ونَشِيط جَامٌّ، ومؤلِّفه مُتعَبٌ مكدود، فقد كُفي مَؤُونَة جمعه وخزنِه، وطلبِه وتتبُّعِه، وأغناه ذلك عن طول التفكير، واستفادِ العمر وفلِّ الحدِّ، وأدرَك أقصى حاجتِه وهو مجتمعُ القُوَّة، وعلى أنّ له عند ذلك أن يجعَلَ هُجومه عليه من التوفيق، وظفَره به باباً من التسديد.
وهذا كتابٌ تستوي فيه رغبةُ الأُمم، وتتشابَه فيه العُرْبُ والعَجَم، لأنه وإن كانَ عَرَبيًّا أعرابياً، وإسلاميًّا جماعيًّا، فقد أخَذَ من طُرَفِ الفلسفة، وجمع بين معرفةِ السماعِ وعلْم التجرِبة، وأشرَكَ بين علمِ الكتاب والسنة، وبينَ وِجْدان الحاسَّة، وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيُوخ، ويشتهيه الفاتِكُ كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعبُ ذو اللَّهو كما يشتهيه المجدّ ذو الحَزْم، ويشتهيه الغُفْلُ كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبيُّ كما يشتهيه الفَطِن.

 

وعبتَني بحكاية قولِ العثْمانِيَّة والضِّرَارية، وأنت تسمعني أقول في أوَّل كتابي: وقالت العثمانية والضراريَّة، كما سمعتَني أقول: قالت الرافضة والزيدية، فحكمتَ عليَّ بالنصْب لحكايتي قول العثمانية، فهلاَّ حكمتَ عليّ بالتشيُّع لحكايتي قول الرافضة وهلا كنتُ عندَك من الغالِية لحكايتي حجج الغالية، كما كنتُ عندك من الناصِبة لحكايتي قولَ الناصِبة وقد حكينا في كتابنا قولَ الإباضيَّة والصُّفْرية، كما حكينا قولَ الأزارقة والزيدية، وعلى هذه الأركان الأربعة بُنِيَت الخارجية، وكلُّ اسمٍ سواها فإنما هو فرعٌ ونتيجةٌ، واشتقاقٌ منها، ومحمولٌ عليها، وإلاَّ كنَّا عندَك من الخارجية، كما صرنا عندَك من الضِّرَاريَّة والناصِبَة، فكيف رضيتَ بأن تكون أسرع من الشيعة، أسرع إلى إعراض الناس من الخارجية، اللهم إلا أن تكون وجدتَ حكايتي عن العثمانيَّة والضِّراريَّة أشبعَ وأجمعَ، وأتَمَّ وأحكم، وأجود صنعة، وأبعد غاية، ورأيتني قد وهَّنت حقَّ أوليائك، بقدر ما قوَّيتُ باطل أعدائك ولو كان ذلك كذلك، لكان شاهدك من الكتاب حاضراً، وبرهانك على ما ادعيت واضحا.
وعبتَني بكتاب العباسية، فهلاَّ عبتَني بحكايِة مقالِة مَن أبى وجوبَ الإمامة، ومَنْ يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أنّ تَركَ النَّاس سُدًى بلا قيِّم أردُّ عليهم، وهملاً بلا راع أربحُ لهم، وأجدَرُ أنْ يجمع لهم ذلك بين سلامَةِ العاجل، وغنيمة الآجل، وأنَّ تركَهم نَشَراً لا نظامَ لهم، أبعد من المَفاسِد، وأجمعُ لهم عَلَى المراشد بل ليس ذلك بك، ولكنَّه بهرَك ما سمعتَ، وملأَ صدرَك الذي قرأت، وأبعَلك وأبْطَرَك، فلم تتّجه للحجّة وهي لك معرضة، ولم تعرف المقاتل وهي لك بادية، ولم تَعرِف بابَ المخرج إذ جهلتَ بابَ المدخَل، ولم تعرِف المصادر إذ جهلتَ الموارد.
رأيتَ أنَّ سبَّ الأولياء أشفى لدائك، وأبلغَ في شفاء سَقَمك، ورأيتَ أن إرسالَ اللسان أحضَرُ لَذَّةً، وأبعدُ من النَّصَب، ومن إطالة الفكرة ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة.
ولو كنتَ فطِنت لعجْزك، ووصَلْتَ نقصَك بتمامِ غيرِك، واستكفيْتَ من هو موقوفٌ على كفايةِ مثلك، وحَبيسٌ على تقويم أشباهك كان ذلك أزينَ في العاجِل، وأحقَّ بالمثُوبة في الآجل، وكنتَ إنْ أخطأَتك الغنيمةُ لم تُخْطِك السلامة، وقد سَلِم عليك المخالفُ بقدر ما ابتُلي به منكَ الموافِق، وعلى أنَّه لم يُبتَل منك إلا بقْدرِ ما ألزمَته من مُؤنةِ تثقيفك، والتشاغُلِ بتقويمك، وهل كنتُ في ذلك إلاّ كما قال العربي: هَلْ يَضُرُّ السَّحابَ نَبْاحُ الكلابِ، وإلاّ كما قال الشاعر:

هل يَضُرُّ البحرَ أمسى زَاخِراً

 

أَنْ رَمَى فيهِ غُلامٌ بَحـجَـرَْ

وهل حالُنا في ذلك إلاّ كما قال الشاعر:

ما ضرَّ تغلِبَ وائلٍ أهجَوْتَها

 

أم بُلْتَ حَيْثُ تَنَاطَحَ البَحْرَانِ

وكما قال حسَّانُ بنُ ثابت:

ما أُباِلي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيسٌ

 

أم لَحَانِي بظهْرِ غَيْبٍ لَئِيمَُ

وما أشكُّ أنَّكَ قد جعلت طول إعراضنَا عنك مَطِيَّةً لك، ووجَّهتَ حِلمَنا عنك إلى الخوف منك، وقد قال زُفَر بنُ الحارث لبعضِ مَنْ لم ير حقَّ الصفح، فجعل العفْوَ سبباً إلى سوء القول:

فإنْ عدتَ وَاللّهِ الذي فوقَ عَرْشِه

 

مَنَحْتُك مسنون الغِرَارَينِ أزْرَقـا

فإنّ دواءَ الجهل أن تُضْرَبَ الطُّلَى

 

وأن يُغْمس العِرِّيضُ حتى يغرّقا

وقال الأوّل:

وضغَائنٍ دَاوَيتُها بضغـائنٍ

 

حتَّى شَفَيتُ وبالحُقُودِ حُقُودا

وقال الآخر:

وما نَفى عنك قوماً أنت خائفُـهـم

 

كَمِثل وَقمك جُهَّـالاً بـجُـهّـالِ

فاقْعَسْ إذَا حَدِبوا واحدَبْ إذا قَعسوا

 

وَوَازِنِ الشَّرَّ مثقالاً بِـمـثـقـالِ

فإنّا وإن لم يكن عندنا سِنَان زُفَرَ بنِ الحارث، ولا معارضةُ هؤلاء الشرَّ بالشرّ، والجهلَ بالجهل، والحِقد بالحِقد، فإن عندي ما قال المسعوديَُّ:

فمُسَّا تراب الأرض منه خُلقتُمـا

 

وفيه المعادُ والمصيرُ إلى الحشر

ولا تأنفا أن تَرْجِعا فتـسـلِّـمـا

 

فما كسى الأفواه شَرًّا من الكِبْرِ

 

فلو شئتُ أدْلى فيكما غير واحد

 

علانيةً أو قالَ عندي في السِّرِّ

فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ عنكُمـا

 

ضَحِكْتُ له كيما يَلجَّ ويَسْتَشْرِي

وقال النَّمِر بن تَولَب:

جزَى اللّهُ عنِّي جَمرَةَ ابنة نوفلٍ

 

جَزَاءَ مُغِلٍّ بالأمـانةِ كـاذِب

بما خَبَّرَتْ عنِّي الوُشاةَ ليكذِبـوا

 

عليَّ وقد أوليتُها في النـوائِب

يقول: أخرجتْ خَبرَها، فخرج إلى من أحبُّ أن يعابَ عندها ولو شئتَ أن نعارضَك لعارضناك في القول بما هو أقبحُ أثراً وأبقى وَسْماً، وأصدقُ قِيلاً، وأعدلُ شاهداً، وليس كلُّ مَن تَرَكَ المعارضَةَ فقد صفح، كما أنَّه ليس من عَارضَ فقد انتصرَ، وقد قال الشاعر قولاً، إن فهمتَه فقد كفَيتَنا مئونةَ المُعارضَة، وكفيتَ نفسَك لزوم العارِ، وهو قوله:

إن كنتَ لا ترهَبُ ذمِّي لِـمَـا

 

تَعْرِفُ مِنْ صَفْحِي عن الجاهلِ

فاخشَ سُكُوتي إذ أنا منـصـت

 

فيكَ لمسموعِ خَـنَـا الـقـائلِ

فالسـامـعُ الـذمِّ شـريكٌ لـهُ

 

ومُطِعمُ المأكـولِ كـالآكِـل

مقالةُ السُّـوء إلـى أهـلـهـا

 

أسرَعُ من مُـنْـحَـدر سـائلِ

ومن دَعا الـنـاسَ إلـى ذمِّـه

 

ذمُّوه بالحـقِّ وبـالـبـاطـل

فلا تَهِـجْ إنْ كـنـتَ ذا إربَةٍ

 

حرْبَ أخي التجرِبة العـاقـل

فإنَّ ذا العَـقـل إذا هِـجْـتَـه

 

هجتَ بـه ذا خَـيَلٍ خـابـل

تُبْصرُ في عـاجـلِ شـدَّاتـه

 

عليك غِبَّ الـضـرَر الآجـلِ

وقد يقال: إنّ العفوَ يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم، وقد قال الشاعر:

والعَفو عندَ لبيبِ القومِ موعِظةٌ

 

وبعضهُ لسَفيهِ القومِ تـدريبُ

فإنْ كنَّا أسأنا في هذا التقريع والتوقيفِ، فالذي لم يأخُذ فينا بحُكم القرآن ولا بأدَب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يَفزَع إلى ما في الفِطَن الصحيحة، وإلى ما توجبهُ المقاييسُ المطَّرِدةُ، والأمثالُ المضرُوبة، والأشعار السائرة، أولَى بالإساءَة وأحقُّ باللائمة

أخذ البريء بذنب المذنب

قال اللّه عزَّ وجل: "وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌُ وِزْرَ أُخْرَى"، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: "لا يَجْنِ يمِينُكَ عَلَى شِمَالك"، وهذا حكمُ اللّه تعالى وآدابُ رسوله والذي أُنْزِلَ به الكتابُ ودلَّ عليه من حُجَج العقول.
فأمَّا ما قالوا في المثل المضروب رَمَتْنيِ بِدَائهَا وانسَلَّتْ، وأمّا قولُ الشعراءِ، وذمُّ الخطباءِ لِمنْ أخَذَ إنساناً بذنْب غيره، وما ضَرَبُوا في ذلك من الأمثال، كقول النابغة حيث يقول في شعره:

وكَلَّفْتَنِي ذَنْبَ امْـرِئٍ وتـرَكْـتَ

 

كذِي العُرِّ يُكوَى غيرُه وهو رَاتِع

وكانوا إذا أصاب إبلَهُم العُرّ كَوَوُا السليمَ ليدفعَه عن السقيم، فأسقمُوا الصحيحَ من غير أن يُبْرِئوا السقيم.
وكانوا إذا كثُرتْ إبلُ أحدِهم فَبَلَغَت الألف، فقئوا عَينَ الفحْل، فإنْ زادَت الإبلُ على الألف فقئوا العينَ الأخرى، وذلك المفقَّأُ والمعمَّى اللذان سمعتَ في أشعارهم.
قال الفرزدق:

غلبتك بالمفقئ والمعنَّـى

 

وبيتِ المُحْتَبِي والخافقاتِ

وكانوا يزعمون أن المفقأ يطرد عنها العين والسواف والغارة، فقال الأوّل:

فقأت لها عَيْنَ الفَحِـيل عِـيَافَةً

 

وفيهنّ رَعْلاَءُ المسامِع والحامي

الرعلاء: التي تشقّ أذنها وتترك مدلاَّة، لكرمها،- يذبح العتيرة وكانوا يقولون في موضع الكَفَّارة والأمْنِيَّة، كقول الرجل: إذا بلغَتْ إبلي كذا وكذا وكذلك غنَمي، ذَبحْتُ عند الأوثان كذا وكذا عتيرة، والعتيرة من نُسُك الرَّجبيّة والجمع عتائر والعتائر من الظباء فإذا بلغتْ إبلُ أحدِهم أو غنمُه ذلك العددَ، استعملَ التأويلَ وقال: إنَّما قلتُ إنِّي أذبحُ كذا وكذا شاة، والظباء شاء كما أنّ الغنم شاء، فيجعل ذلك القربانَ شاءً كلَّه ممَّا يَصِيد من الظباء، فلذلك يقول الحارثُ ابن حِلِّزةََ اليشكُريُّ:

عَنَتاً باطلاً وظُلْماً كـمـا تُـع

 

تَرُ عَنْ حَجْرَةِ الرَّبِيضِ الظِّباءَُ

بعد أن قال:

 

أمْ عَلينا جُناحُ كِنْدَةَ أن يَغ

 

نَمَ غَازِيُهمُ ومِنَّا الجزاءُ

وكانوا إذا أورَدُوا البقرَ فلم تشرَبُ، إمَّا لكَدر الماء، أَو لقلَّةِ العطَش، ضربوا الثورَ ليقتَحِم الماء، لأنَّ البقرَ تَتْبَعه كما تتْبع الشَّوْلُ الفحل، وكما تتبع أتُنُ الوحش الحِمار، فقال في ذلك عَوْفُ بن الخَرِع:

تمنَّتْ طيِّئٌ جَهْـلاً وجُـبْـنـاً

 

وقد خالَيتُهم فـأَبَـوْا خـلائي

هَجَوْني أنْ هَجَوْتُ جِبَال سَلمى

 

كضَرْب الثَّورِ للبقرِ الظِّمـاء

وقال في ذلك أَنَس بن مُدْرِكة في قتله سُلَيك بنَ السُّلَكَة:

إنّي وقَتْلي سُلَيْكاً ثمَّ أعْـقِـلـهُ

 

كالثَّورِ يُضرَب لمَّا عافَتِ البَقَرُ

أنِفْتُ لِلْمَرء ِإذْ نِيكتْ حَلِيلـتُـه

 

وأن يُشَدَّ على وجعائها الثَّفَـرُ

وقال الهَيَّبان الفهميّ:

كما ضُرِبَ الْيَعْسُوب أَنْ عافَ باقِرٌ

 

وما ذَنْبُهُ أن عافَتِ الماءَ بـاقـرُ

ولمّا كان الثورُ أميرَ البقر، وهي تطيعُه كطاعة إناث النحل لليعسوب، سمَّاه باسم أمير النحْلِ.
وكانوا يزعمون أنَّ الجنَّ هي التي تصُدُّ الثِّيرانِ عن الماء حتى تُمْسِكَ البقرُ عن الشرب حتى تهلِك، وقال في ذلك الأعشى:

فإنِّي وما كلَّفتُمونـي وربِّـكـم

 

لأعلَمُ مَنْ أمْسَى أعقَّ وأَحربـا

لَكالثَّور والجنّيُّ يَضرِبُ ظَهرَه

 

وما ذنْبُه أن عافَتِ الماءَ مَشرَبا

وما ذنْبُه أَنْ عافَتِ الماءَ باقِـرٌ

 

وما إن تَعَافُ الماءَ إلاَّ ليُضْرَبا

كأنّه قال: إذا كان يُضْرَب أبداً لأنها عافت الماء، فكأنَّها إنما عافَتِ الماءَ ليُضْرب، وقال يحيي بن منصور الذُّهليّ في ذلك:

لكالثَّور والجنيّ يَضْرِبُ وَجْهَه

 

وما ذَنْبه إن كانَتِ الجِنُّ ظالِمه

وقال نَهْشلُ بنُ حَرِّيٍّ:

أتُتْرَكُ عارضٌ وبنـو عَـدِيٍّ

 

وتَغْـرَمَ دارِمٌ وهُـم بَـرَاءُ

كدأبِ الثَّوْرِ يُضْرَبُ بالهَراوى

 

إذا مَا عَافَتِ البَقَرُ الظِّمَـاءُ

وكيف تكلّفُ الشِّعرَى سُهيلاً

 

وبينَهما الكواكبُ والسَّـمـاء

وقال أبو نُوَيرة بن الحصين، حين أخذه الحكم بن أيُّوب بذَنْب العَطَرَّق:

أبا يُوسُفٍ لو كنتَ تَعلَمُ طاعَتي

 

ونُصْحِي إذنْ ما بِعتَني بالمحلَّق

ولا ساقَ سَرّاق العِرَافة صالحٌ

 

بَنِيَّ ولا كُلِّفْتُ ذَنْبَ العطـرق

وقال خِداش بن زُهير حين أُخذ بدماء بني محارب:

أُكلّفُ قَتْلَى مَعْشر لسـتُ مِـنـهـمُ

 

ولا دارُهُمْ داري ولا نصرُهُم نَصْرِي

أُكلَّفُ قَتلَى العِيصِ عِيصِ شُـواحِـط

 

وذلك أمرٌ لـم تُـثَـفّ لَـهُ قِـدْرِي

وقال الآخر:

إذا عَرَكت عِجْلٌ بنا ذنْبَ طـيِّءٍ

 

عَرَكْنا بتَيمِ اللاتِ ذنبَ بَني عِجْلِ

ولما وَجَد اليهودِيُّ أخا حنبض الضبابيّ في منزله فخصَاه فمات، وأخذَ حنبض بني عَبْس بجنايَة اليهوديّ ، قال قيس بن زُهَيْر: أتأخذُنا بذنْبِ غيرِنا، وتسألنا العَقلَ والقاتلُ يهوديٌّ من أهل تيماء? فقال: واللّه أنْ لو قتلَتْه الريح، لودَيْتُمُوه فقال قيس لبني عَبس: الموتُ في بني ذُبيانَ خَيْرٌ من الحَياةِ في بَني عامر ثم أنشأ يقول:

أكلَّفُ ذا الخُصْيَيْن إن كان ظَالمـاً

 

وإن كنتُ مظلوماً وإن كنتُ شاطنا

خصاه امرؤٌ من آلِ تيمـاءَ طـائر

 

ولا يَعْدمُ الإنسيُّ والجـنُّ كـائنـا

فَهَلاَّ بنـي ذُبـيانَ أمُّـكَ هَـابِـلٌ

 

رَهَنْتَ بفَيفِ الرِّيحِ إن كُنْتَ رَاهِنا

إذا قلتَُ قد أفلتُّ من شَرِّ حنبـض

 

أتاني بأُخْرَى شرّه مُتَـبـاطِـنـا

فقد جَعَلَتْ أكبادُنـا تـجـتـويكُـمُ

 

كما تجتَوِي سوقُ العِضاهِ الكرازِنا

قتل لقمان بن عاد لنسائه وابنته

 

ولما قَتَل لُقمان بنُ عادٍ ابنَته - وهي صُحْر أختُ لُقَيم - قال حين قَتَلها: ألَسْتِ امرأة وذلك أنّه قد كان تزوج عِدَّةَ نساء، كلُّهنَّ خُنَّهُ في أنفُسهنّ، فلمَّا قَتَلَ أُخراهنَّ ونزل من الجبل، كان أوَّلَ من تلقّاه صُحْر ابنته، فوثَبَ عليها فقتلها وقال: وأنت أيضاً امرأة وكان قد ابْتُلِي بأنَّ أختَه كانت مُحْمِقة وكذلك كان زوجُها، فقالتْ لإحدَى نساءِ لُقْمان: هذه ليلةُ طُهْرِي وهي ليلتُك، فدَعيني أنامُ في مَضجَعِك، فإنَّ لقمانَ رجلٌ مُنْجِب، فعسَى أن يقَع عليَّ فأُنْجِبَ، فوَقَعَ على أُختِه فَحَمَلَتْ بِلُقَيْم، فهو قولُ النَّمِرِ بن تَولَب:

لُقيمُ بنُ لُقمانَ من أُختِـهِ

 

فكانَ ابنَ أُختٍ لهُ وابنَما

ليالِيَ حمّق فاستحصنَتْ

 

عليه فَغُرَّ بها مُظْلِمـا

فأحبَلَهَا رَجلٌ مُحـكِـمٌ

 

فجاءت به رجلاً مُحْكِمَا

فضربت العربُ في ذلك المثلَ بقتل لقمان ابنتَه صُحراً، فقال خُفافُ بن نَدْبةَ في ذلك:

وعَبّاس يُدِبُّ لي المـنـايا

 

وما أذنَبْتُ إلاَّ ذَنْبَ صُحْر

وقال في ذلك ابن أُذَيْنَة:

أتجمَع تَهيَاماً بـلـيلَـى إذا نـأَتْ

 

وهِجْرانَها ظُلماً كما ظُلِمَتْ صُحْرَُ

وقال الحارثُ بن عُبَاد:

قَرِّبا مربطَ النعامةِ مِـنِّـي

 

لَقِحَتْ حربُ وائلٍ عَنْ حِيالِ

لم أكنْ من جُنَاتِها عَلِمَ الـل

 

هُ وإنِّي بحَرِّها اليومَ صالِي

وقال الشاعر، وأظنُّه ابنَ المقفَّع:

فلا تَلُمِ المرءَ في شأنِهِ

 

فربَّ ملومٍ ولَمْ يُذْنِبَِ

وقال آخر:

لعلَّ لَهُ عُذْراً وأَنتَ تَلُـومُ

 

وكم لائمٍ قد لاَمَ وهْوَ مُليم

حديث سنمَّار وقال بعض العرب، في قتل بعضِ الملوك لِسِنمَّار الرومي؛ فإنه لما علا الخَوَرْنَق ورأى بُنْياناً لم يرَ مثله، ورأى في ذلك المستشرف، وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثلَ ذلك البنيانَ لرجُلٍ آخرَ من الملوك، رمَى به من فوق القصر، فقال في ذلك الكلبيّ في شيءٍ كان بينَه وبين بعضِ الملوك:

جَزَاني جَـزَاهُ الـلّـهُ شَـرَّ جـزائه

 

جَزَاءَ سِنِمَّـارٍ ومـا كـان ذَا ذنـب

سِوَى رَصِّه البنيانَ سَبـعـين حِـجَّةً

 

يُعَلَّى عليه بالقرَامِـيدِ والـسَّـكْـبِ

فلما رأى البُـنْـيانَ تـمَّ سُـحُـوقَـه

 

وآضَ كمِثْلِ الطَّوْدِ ذِي الباذِخ الصَّعْبِ

وظنَّ سِـنِـمّـارٌ بـه كُـلَّ حـبـوة

 

وفازَ لَـدَيْهِ بـالـمـودَّةِ والـقُـرب

قال اقذِفُوا بالعِلْجِ مِنْ رأسِ شـاهـقٍ

 

فذاكَ لعَمْرَ اللّهِ مِنْ أعظَمِ الخَـطْـب

وجاء المسلمونَ، يروي خَلَفٌ عن سلف، وتابعٌ عن سابِق، وآخَرُ عنْ أوّل، أنَّهمْ لم يختلِفُوا في عيبِ قول زِياد: لآخُذَنَّ الوَلِيَّ بالوَلِيِّ، والسَّمِي بالسَّمِيِّ، والجارَ بالجارِ، ولم يختلفُوا في لَعْن شاعِرهم حيث يقول:

إذا أُخِذَ البَريءُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ

 

تجَنَّبَ ما يُحاذِرُه السقيمُ

قال: وقِيل لِعَمْرو بن عُبَيد: إنّ فلاناً لما قدَّم رجلاً ليُضْرَبَ عُنُقه، فقيل له: إنَّه مجنون فقال: لولا أنَّ المجنونَ يَلِدُ عاقلاً لخلَّيت سبيلَه، قال: فقال عَمْرو: ما خَلَقَ اللّهُ النَّارَ إلاّ بالحق ولمّا قالت التغلَبِيَّةُ للجَحَّافِ، في وَقْعَة البِشْر: فضَّ اللّهُ فاكَ وأعماك، وأطالَ سُهادَك، وأَقَلَّ رُقادَك، فوَاللّه إنْ قَتَلْتَ إلاّ نساءً أعالِيهنَّ ثُدِيٌّ، وأسافِلُهُنَّ دُمًى فقال لِمنْ حَولَه: لولا أن تَلِدَ هذِه مثلَها لخَلَّيتُ سَبيلَها فبلغ ذلك الحسنَ فقال: أمَّا الجَحَّاف فجَذْوةٌ من نارِ جهنَّم.
قال: وذمَّ رجلٌ عند الأحنَفِ بنِ قيس الكَمْأةَ بالسَّمْنِ، فقال عند ذلك الأحنَف: رُبَّ مَلومٍ لا ذَنْبَ لَه.
فبِهذهِ السيرةِ سرتَ فينا.
وما أحسنَ ما قال سعيدُ بنُ عبدِ الرحمن:

وإنّ امرأ أمْسَى وأصْبَحَ سالماً

 

مِنَ النَّاس إلاَّ ما جَنَى لَسَعيدُ

عناية العلماء بالملح والفكاهات

 

وقلتَ: وما بالُ أهلِ العلمِ والنظرِ، وأصحابِ الفكرِ والعِبَر، وأربابِ النِّحَلِ، والعلماءِ وأهلِ البصر بمخارجِ المِلَل، وورثَةِ الأنبياء، وأعوانِ الخلفاء، يكتُبُون كتبَ الظُّرَفاءِ والمُلَحَاء، وكُتب الفُرَّاغِ والخُلَعاء، وكتبَ الملاهي والفُكَاهات، وكتبَ أصحابِ الخُصوماتِ، وكتبَ أصحابِ المِراءِ، وكتبَ أصحاب العصبيَّةِ وحَمِيَّةِ الجاهليّة ألأَنَّهُمْ لا يحاسِبون أنفسهم، ولا يُوازِنون بينَ ما عليهم ولهم، ولا يخَافُون تصفُّحَ العلماءِ، ولا لائمة الأرَبَاءِ، وشنف الأَكْفَاء، ومَشْنأة الجُلَساء? فهلاّ أمسكتَ - يَرْحَمُكَ اللّه - عَنْ عَيْبِها والطَّعْنِ عليها، وعن المَشُورَةِ والموعِظة، وعن تخويفِ ما في سوء العاقبةِ، إلى أنْ تبلغَ حالَ العلماء، ومراتبَ الأَكْفاء? فأمَّا كتابُنا هذا، فسنذكرُ جُمْلَة المذاهب فيه، وسَنَأتِي بعد ذلك على التفسير، ولَعلَّ رأيَك عند ذلك أنْ يتحوَّل، وقولَك أن يتبدل، فتُثْبِتَ أو تكونَ قد أخذتَ من التوقُّفِ بنصيب، إن شاء اللّه.

أقسام الكائنات

وأقولِ: إنّ العالَم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء: متَّفق، ومختلف، ومتضادٌّ؛ وكلُّها في جملةِ القول جمادٌ ونامٍ، وكان حقيقةُ القولِ في الأجسام من هذه القِسْمة، أن يقال: نامٍ وغيرُ نام، ولو أنَّ الحكماءَ وضعُوا لكلِّ ما ليس بنامٍ اسماً، كما وضعُوا للنامي اسماً، لاتبّعنا أَثرَهُمْ؛ وإنما ننتهي إلى حيثُ انتهوا، وما أكثَرَ ما تكونُ دلالةُ قولِهمْ جماد، كدَلاَلةِ قولهم مَوَات، وقد يَفتَرِقان في مواضِعَ بعضَ الافتراق، وإذا أخرجت من العالَمِ الأفلاكَ والبروجَ والنجومَ والشمسَ والقمر، وجدتَها غيرَ نامية، ولم تجدْهم يسمُّون شيئاً منها بجَماد ولا مَوات، وليس لأنَّها تتحرَّكُ من تِلقاءِ أنفُسِها لم تُسَمَّ مواتاً ولا جماداً، وناسٌ يجعلونها مدبِّرة غير مدبَّرة، ويجعلونها مسخِّرة غير مسَخَّرَّة، ويجعلونها أحْيَا من الحيوان؛ إذْ كان الحيوانُ إنَّمَا يَحْيا بإحيائها لَه، وبِما تُعطيه وتُعِيره، وإنما هذا منهم رأي، والأُمَمُ في هذا كلِّه على خلافِهم، ونحنُ في هذا الموضعِ إنَّما نعبِّر عن لُغَتنا، وليس في لُغتنا إلاّ ما ذكرنا.
والناسُ يسمُّون الأرضَ جماداً، وربّما يَجعلونها مَوَاتاً إذا كانتْ لم تُنْبِتْ قديماً، وهي مَوَات الأرض، وذلك كقولهم: مَنْ أحيَا أَرضاً مواتاً فهي له.
وهم لا يجعلون الماء والنارَ والهواءَ، جماداً ولا مَوَاتاً، ولا يسمُّونَها حيواناً ما دامت كذلك، وإن كانت لا تضاف إلى النَّماء والحسّ.
والأرضُ هي أحدُ الأركانِ الأربعة، التي هي الماءُ والأرضُ والهواءُ والنار، والاسمانِ لا يتعاوَرَانِ عندَهم إلاّ الأرض.

تقسيم النامي

ثمَّ النامِي على قسمين: حيوان ونبات، والحيوانُ على أربعة أقسام: شيءٌ يمشي، وشيء يطير، وشيء يسْبَحُ، وشيءٌ يَنْسَاح، إلاّ أنّ كلَّ طائرٍ يمشي، وليس الذي يَمشي ولا يَطِير يسمى طائراً، والنوعُ الذي يَمشي على أربعةِ أقسام: ناس، وبهائم، وسباع، وحشرات، على أنّ الحشَرَاتِ راجعةٌ في المعنى إلى مشاكلةِ طباع البهائمِ والسباع، إلاّ أنّنا في هذا كلِّه نتبع الأسماءَ القائمة المعروفة، البائنات بأنفُسِها، المتميِّزاتِ عند سامعيها، مِنْ أهلِ هذه اللغةِ وأصحاب هذا اللسان، وإنَّما نُفْرِد ما أفْرَدوا، ونَجْمَع ما جَمَعوا.

تقسيم الطير

والطيرُ كلٌّ سَبُعٍ وبَهيمة وهَمَج، والسباعُ من الطير على ضَربَيْن: فمنها العِتاقُ والأحرارُ والجوارحَ، ومنها البغاث وهو كلُّ ما عظمَ من الطير: سبعاً كان أو بهيمة، إذا لم يكنْ من ذواتِ السلاحِ والمخالبِ المعقَّفة، كالنُّسورِ والرَّخَم والغِربان، وما أشبهها مِنْ لئامِ السباع، ثم الخَشَاش، وهو ما لطُف جِرمُه وصَغُر شخصه، وكان عديمَ السلاح ولا يكون كالزُّرَّقِ واليُؤيُؤ والباذنجان.
فأما الهَمَج فليس من الطير، ولكنَّه ممَّا يطير، والهمَجَ فيما يطيرُ، كالحشراتِ فيما يمشي،  والحيّاتُ من الحشرات، وأيُّ سبع أَدخَلُ في معنى السَّبُعيَّة مِنَ الأفاعي والثعابِين? ولكن ليس ذلك من أسمائها، وإن كانتْ من ذوات الأنيابِ وأكَّالة اللُّحوم وأعداِء الإنسِ وجَميعِ البهائم، ولذلك تأكلُها الأوعَال والخَنازيرُ والقَنافِذُ والعِقبان والشاهْمُرك والسنانير، وغير ذلك من البهائم، والسباع، فَمنْ جَعَلَ الحيَّاتِ سِباعاً، وسمَّاها بذلك عندَ بعضِ القولِ والسببِ فقدْ أصابَ، ومن جَعلَ ذلك لها كالاسمِ الذي هو العلامةُ كالكَلْبِ والذئب والأسَد فقد أخطأ.
ومن سِباعِ الطيرِ شكلٌ يكون سِلاحُه المخالبَ كالعُقابِ وما أشبهها، وشيءٌ يكونُ سِلاحُه المناقيرَ كالنُّسُورِ والرَّخَمِ والغِرْبان، وإنَّما جعلْناها سباعاً لأنّها أكَّالةُ لحوم.
ومِنْ بهائم الطير ما يكون سلاحُه المناقيرَ كالكَرَاكِيِّ وما أشبهها، ومنه ما يكونُ سلاحُه الأسنانَ كالبُومِ والوَطْوَاطِ وما أشبهها، ومنه ما يكون سلاحُه الصياصي كالدِّيَكَة، ومنه ما يكون سلاحه السَّلْح كالحُباري والثعلب أيضاً كذلك.
والسَّبع من الطير: ما أكل اللحمَ خالصاً، والبهيمةُ: ما أكلت الحبَّ خالصاً، وفي الفنِّ الذي يجمعها من الخلْقِ المركَّبِ والطبع المشتَرَك، كلامٌ سنأتي عليه في موضعه إن شاء اللّه تعالى، والمشتَرَك عندهم كالعصفور؛ فإنَّه ليس بذي مِخْلَبٍ معقَّف ولا مِنْسَر وهو يلقط الحبَّ، وهو مع هذا يصيد النَّمْل إذا طار، ويَصِيد الجرادَ، ويأْكُلُ اللحم، ولا يَزُقُّ فِرَاخَه كما تزقُّ الحمامُ، بل يُلْقِمها كما تُلْقِمُ السباعُ من الطير فراخَها، وأشباهُ العصافيرِ من المشترَك كثيرٌ، وسنذكُر ذلكَ في موضِعه إن شاء اللّه تعالى.
وليس كلُّ ما طار بجَناحينِ فهو من الطير؛ قد يطير الجِعْلاَن والجَحْلُِ واليَعاسِيبُ والذّبابُ والزَّنابِيرُ والجَرادُ والنمْل والفَراشُ والبَعوضُ والأرضَة والنحلُ وغيرُ ذلك، ولا يسمَّى بالطير، وقد يقال ذلك لها عند بعض الذكرِ والسبب، وقد يسمُّون الدجاجَ طيراً ولا يسمُّون بذلك الجراد، والجرادُ أَطْيَر، والمثلُ المضروبُ به أشهر، والملائكةُ تطِيرُ، ولها أجنحةٌ وليستْ من الطير، وجَعفر بن أبي طالب ذو جناحين يَطير بهما في الجنَّة حيثُ شاء، وليس جعفرٌ من الطير.
واسم طائرٍ يقَع على ثلاثة أشياء: صورة، وطبيعة، وجَناح، وليس بالريشِ والقَوادِمِ والأباهِرِ والخوافي، يسمَّى طائراً، ولا بعدمه يسْقط ذلك عنه، ألا ترى أنَّ الخفَّاشَ والوَطواطَ من الطير، وإن كانا أمْرَطَينِ ليس لهما رِيشٌ ولا زَغَبٌ ولا شَكِيرُ ولا قَصَب وهما مشهورانِ بالحمل والولادة، وبالرَّضاع، وبظهور حَجْم الآذان، وبكثرة الأسنان، والنعامة ذاتُ ريشٍ ومِنقارِ وبَيضٍ وجَناحين، وليست من الطير.
وليس أيضاً كلُّ عائمٍ سمكة، وإن كان مناسباً للسمك في كثير من معانيه، ألا تَرَى أنّ في الماء كَلْبَ الماء، وعنْزَ الماء، وخِنزيرَ الماء؛ وفيه الرِّقُّ والسُّلَحْفاة، وفيه الضِّفْدَع وفيه السرطان، والبَيْنيبُ، والتِّمساح والدُّخس والدُّلْفين واللَّخْمُ والبُنْبُك، وغيرُ ذلك من الأصناف، والكَوسَج والد اللُّخْم، وليس للكوسج أبٌ يُعرَف، وعامَّةُ ذا يَعيش في الماء، ويبيت خارجاً من الماء، ويبيض في الشطِّ ويَبِيضُ بيضاً له صُفْرَةٌ، وقَيْضٌ وغِرْقِئٌ، وهو مع ذلك ممّا يكون في الماء مع السمك.

تقسيم الحيوان إلى فصيح وأعجم

ثمَّ لا يخرج الحيوان بعد ذلك في لغة العرب من فصيح وأعجم، كذلك يقال في الجملة، كما يقال الصامت لما لا يَصْنَع صمتاً قطُّ ولا يجوز عليه خلافه، والناطق لِمَا لَمْ يتكلَّمْ قطُّ، فيحملون ما يرغو، ويَثغو، ويَنهَق، ويَصْهِل، ويَشْحَج، ويَخُور، ويَبْغَم، ويَعوِي، ويَنبَح، ويَزْقُو، ويَضْغُو، ويَهْدِر، ويَصْفِر، ويُصَوْصِي، ويُقَوْقِي، ويَنْعَبُ، ويَزْأَر، ويَنْزِبُ، ويكِشُّ، ويَعِجُّ، على نطقِ الإنسان إذا جمع بعضه على بعض، ولذلك أشباهٌ، كالذكور والإناث إذا اجتمعا، وكالعِيرِ التي تسمَّى لَطِيمة، وكالظُّعُن؛ فإنَّ هذه الأشياءَ إذا وجد بعضُها إلى بعض، أو أَخَذ بعضُها من بعض، سُمِّيَتْ بأنبَه النوعَين ذِكْراً، وبأقواهما، والفصيحُ هو الإنسان، والأعجم كلُّ ذي صوتٍ لا يفهَمُ إرادتَه إلاّ ما كان من جنسه، ولعمري إنا نفهم عَن الفَرس والحمارِ والكلبِ والسِّنَّور والبعير، كثيراً من إرادته وحوائجه وقصوره، كما نفهم إرادةَ الصبيِّ في مَهْده ونعلم - وهو من جليل العلم - أنّ بكاءَه يدلُّ على خلافِ ما يدُلُّ عليه ضَحِكُه، وحَمْحَمَةُ الفرَس عند رؤية المخلاة، على خلاف ما يدلُّ عليه حَمحمتُه عند رؤية الحِجْر، ودُعاء الهِرَّةِ الهرَّ خلافُ دعائها لولدها، وهذا كثير.
والإنسانُ فصيح، وإنْ عبَّرَ عن نفسِه بالفارسيّة أو بالهنديّة أو بالروميّة، وليس العربيُّ أسوأ فهماً لِطَمْطَمَةِِ الروميِّ من الرومي لبيانِ لسان العربيّ، فكلُّ إنسانٍ من هذا الوجه يقال له فصيح، فإذا قالوا: فصيح وأعجَم، فهذا هو التأويل في قولهم أعجم، وإذا قالوا العرب والعجم ولم يلفظوا بفصيح وأعجم، فليس هذا المعنى يريدون، إنَّما يَعنُون أنَّه لا يتكلَّم بالعربيَّة، وأنَّ العربَ لا تفهم عنه، وقال كُثَيِّر:

فبُورِك ما أعطَى ابنُ لَيلَـى بِـنِـيَّةٍ

 

وصامتُ ما أعطَى ابنُ ليلى وناطقُه

ويقال جاء بما صَأى وصمت، فالصامت مثل الذهب والفضّة، وقوله صأى يعني الحيوانَ كلَّه، ومعناه نطق وسكَت؛ فالصامت في كلّ شيءٍ سِوَى الحيوان.
ووجدْنا كونَ العالَم بما فيه حكمةً، ووجدْنا الحِكمَة على ضربَين: شيءٌ جُعِلَ حكمةً وهو لا يَعقِل الحكمةَ ولا عاقبةَ الحِكمة، وشيءٌ جُعِل حكمةً وهو يَعْقِل الحكمة وعاقبةَ الحكمة، فاستوى بذاكَ الشيء العاقلُ وغير العاقل في جهةِ الدَّلالةِ على أَنَّهُ حكمة؛ واختلفا من جهةِ أَنَّ أحدهما دَليلٌ لاَ يَسْتَدِلّ، والآخر دليل يستدل، فكلُّ مُسْتَدِلٍّ دليل وليس كلُّ دليل مستدلاً، فشارك كل حيوانٍ سوى الإنسان، جميعَ الجمادِ في الدَّلالة، وفي عدم الاستدلال، واجْتَمَع للإنسان أَنْ كان دليلاً مستَدِلاًّ، ثُمَّ جُعِل للمستدِلِّ سببٌ يدلُّ به على وجوهِ استدلاله، ووُجوهِ ما نتج له الاستدلال، وسمَّوا ذلك بياناً.

وسائل البيان

وجُعِل البيانُ على أربعة أقسام: لفظ، وخطّ، وعَقْد، وإشارة، وجُعِل بيانُ الدليل الذي لا يستدِلُّ تَمْكِينَهُ المستدِلَّ من نفسه، واقتيادَه كلَّ من فكَّر فيه إلى معرفةِ ما استُخْزِنَ من البرهان، وَحُشِيَ من الدَّلاَلة، وأُودِع مِن عَجيب الحكمة، فالأجسامُ الخُرْسُ الصامتة، ناطقةٌ مِن جهة الدَّلالة، ومُعْرِبةٌ من جهة صحَّة الشهادة، على أنَّ الذي فيها من التدبير والحِكمة، مخبرٌ لمن استخبَرَه، وناطقٌ لِمَن استنطقه، كما خبَّر الهُزَالُ وكُسُوف اللونِ، عن سُوءِ الحال، وكما ينطق السِّمَنُ وحُسْنُ النَّضْرَة، عن حسن الحال، وقد قال الشاعر وهو نصيب:

فعاجُوا فأثنَوا بالذي أَنْتَ أَهلُـه

 

ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائب

وقال آخر:

تُخَبِّرْكَ العيونُ عن القلوبِ

 

مَتى تَكُ في عدوٍّ أو صديقٍ

وقد قال العُكْليُّ في صِدق شمِّ الذّئب وفي شدّةِ حسِّه واسترواحه:

بمثل مقراعِ الصَّفا الموقَّع

 

يَستخبِر ُالريحَ إذا لم يَسْمَعِ

وقال عنترة، هو يصف نَعِيبَ غُراب:

جَلَمانِ بالأخبار هَشٌّ مُولَـع

 

حَرِقُ الجَنَاحِ كأنَّ لَحْييْ رأسه

وقال الفضل بن عيسى بن أبان في قصصه: سَل الأَرْضَ، فقلْ: مَنْ شقَّ أنهارَكِ، وغَرَسَ أشجارَكِ، وجَنَى ثِمارَكِ؛ فإنْ لم تُجبكَ حِواراً، أجابتْكَ اعتباراً. فموضوعُ الجسم ونَصْبته، دليلٌ على ما فيه وداعيةٌ إليه، ومنبهة عليه، فالجمادُ الأبكمُ الأخرسُ من هذا الوجه، قد شارَكَ في البيان الإنسانَ الحيَّ الناطق، فمَنْ جَعَل أقسام البيانِ خمسة، فقد ذهَبَ أيضاً مذهباً له جوازٌ في اللّغة، وشاهدٌ في العقل، فهذا أحدُ قِسمَي الحكمة، وأحَدُ مَعْنَيَيْ ما استخرنها اللّه تعالى من الوديعة.

ما يعجز عنه الإنسان والحيوان

والقسمة الأُخرى ما أودَع صدور صنوفِ سائر الحيوان، مِنْ ضُرُوبِ المعارف، وفَطَرها عليه من غريب الهداياتِ، وسخَّر حناجِرَها لَهُ من ضروبِ النَّغَم الموزونة، والأَصواتِ الملحنة، والمخارِجِ الشجِيَّة، والأغاني المطربة؛ فقد يقال إنَّ جميعَ أصواتها معدَّلة، وموزونة موقَّعة، ثمَّ الذي سهَّل لها من الرفق العجيبِ في الصنعة، مما ذلَّله اللّه تعالى لمناقيرها وأكُفِّها، وكيف فَتَحَ لها من باب المعرفةِ على قدر ما هَيَّأَ لها من الآلة، وكيفَ أَعطَى كثيراً مِنها مِنَ الحسِّ اللطيفِ، والصنْعةِ البديعة، من غير تأديبٍ وتثقيف، ومن غير تقويمٍ وتلقين، ومن غير تدريج وتمرين، فبَلَغَتْ بِعَفوها وبمقدار قوى فِطرتها، من البَديهةِ والارتجال، ومن الابتداءِ والاقتضاب، ما لا يَقْدرُ عليه حُذّاقُ رجالِ الرأي، وفلاسفةُ علماءِ البشر، بِيَدٍ ولا آلة، بل لا يبلغ ذلك من الناسِ أكملُهُمْ خصالا وأَتمُّهُمْ خلالاً، لا مِنْ جهة الاقتضاب والارتجال ولا من جِهة التعسُّف والاقتدار، ولا من جهة التقدُّم فيه، والتأنِّي فيه، والتأتِّي له، والترتيبِ لمقدِّماته، وتمكين الأسباب المُعِينةِ عليه، فصار جهد الإنسان الثاقبِ الحسِّ، الجامِعِ القُوى، المتصرِّفِ في الوجوه، المقدَّم في الأُمور، يَعجِز عن عَفْوِ كَثيرٍ منها، وهو ينظرُ إلى ضروب ما يجيء منها، كما أعطيت العنكبوتُ، وكما أعطِيَت السُّرْفَة، وكما عُلِّم النحْل، بل وعُرِّفَ التُّنَوِّطُ مِن بديعِ المعرفة، ومِن غَرِيبِ الصنعة، في غير ذلك مِن أصناف الخلق، ثم لم يوجب لهم العجز في أَنْفُسِهِمْ في أكثر ذلك، إلاّ بما قوي عليه الهَمَجُ والْخشَاشُ وصِغارُ الحشرات، ثم جعل الإنسان ذا العقلِ والتمكينِ، والاستطاعة والتصريف، وذا التكلُّفِ والتجرِبَة، وذا التأنِّي والمنافَسَة، وصاحبَ الفهْمِ والمسابَقَة، والمتبصِّرَ شأنَ العاقبة، متى أحسَنَ شيئاً كان كلُّ شيءٍ دونَه في الغُمُوض عليه أَسهلَ، وَجَعَل سائِرَ الحيوانِ، وإن كان يحسنُ أحدُها ما لا يحسنُ أحذَقُ الناس متى أحسنَ شيئاً عجيباً، لم يمكنْهُ أن يُحسِن ما هو أقربُ منه في الظنّ، وأسهلُ منه في الرأي، بل لا يحسِنُ ما هو أقرب منه في الحقيقة، فلا الإنسانُ جَعَلَ نفسه كذلك، ولا شيءٌ من الحيوان اختارَ ذلك، فأحسَنَتْ هذه الأجناسُ بلا تعلُّم، ما يمتَنِع على الإنسان وإن تعلَّم، فصار لا يحاوله؛ إذْ كان لاَ يطمع فيه، ولا يحسُدُها؛ إذا لا يؤمِّل اللَّحَاقَ بها، ثمّ جعل تعالى وعزَّ، هاتين الحكمتين بإزاء عُيونِ الناظِرين، وتُجَاهَ أسماعِ المعتَبرِين، ثمَّ حثَّ على التفكير والاعتبار، وعلى الاتّعاظ والازدِجار، وعلى التعرُّفِ والتبَيُّنِ، وعلى التوقُّفِ والتذَكُّر، فَجَعَلَها مذكّرةً منبِّهة، وجَعَلَ الفِطر تُنْشِئ الخَواطرَ، وتجُولُ بأهلها في المذاهب، ذَلِكَ اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ. "فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ".

مزج الهزل بالجدّ في الكتاب

وهذا كتابُ موعظةٍ وتعريفٍ وتفقُّهٍ وتنبيه، وأراكَ قد عِبتَه قبل أن تقفَ على حُدودِه، وتتفكَّرَ في فصوله، وتَعتبِرَ آخَره بأوله، ومَصَادِرَه بموارده، وقد غلّطَك فيه بعضُ ما رأيتَ في أثنائه من مزحٍ لا تعرف معناه، ومن بَطالةٍ لم تطّلِعْ على غَورها؛ ولم تدرِ لم اجتُلِبت، ولا لأََيِّ علِّة تُكُلِّفت، وأيّ شيءٍ أُرِيغَ بها، ولأيِّ جِدٍّ احتُمِل ذلك الهزل، ولأيِّ رياضةٍ تُجُشِّمتْ تلك البَطالة؛ ولم تَدْرِ أَنَّ المزاحَ جِدٌّ إذا اجتُلِب ليكون علَّةً للجِدِّ، وَأَنَّ البَطالة وَقارٌ ورَزانة، إذا تُكُلِّفت لتلك العافية، ولمَّا قال الخليلُ بن أحمد: لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاجُ إليه، حتَّى يتعلَّم ما لا يحتاج إليه، قال أَبو شمر: إذا كان لا يُتوصَّل إلى ما يحتاج إليه إلاّ بما لا يحتاج إليه، فقد صار ما لا يُحتاج إليه يُحتاج إليه، وذلك مثل كتابنا هذا؛ لأنّه إن حَمَلْنَا جميعَ من يتكلَّف قراءة هذا الكتابِ على مُرِّ الحق، وصُعوبة الجِدّ، وثِقل المؤونة، وحِلية الوقار، لم يصبر عليه مع طوله إلاّ من تجرَّدَ للعلم، وفهم معناه، وذاق من ثمرته، واستشعر قلبه من عزِّه، ونال سروره على حسب ما يُورث الطولُ من الكَدّ، والكثرةُ من السآمة، وما أكثر مَن يُقَاد إلى حظِّه بالسواجير، وبالسوق العنيف، وبالإخافة الشديدة.

مدح الكتب

ثم لم أرَكَ رضِيتَ بالطعن على كلِّ كتاب لي بعينه، حتَّى تجاوزتَ ذلك إلى أَنْ عبت وضْعَ الكتبِ كيفما دارت بها الحالُ، وكيفَ تصرفَتْ بها الوجوه، وقد كنتُ أعجَب من عيبك البعضَ بلا علم، حتَّى عِبتَ الكلَّ بلا علْم، ثم تجاوزْت ذلك إلى التشنيع، ثم تجاوزتَ ذلك إلى نصب الحربِ فعبتَ الكِتَابَ؛ ونعم الذخر والعُقدة هو، ونعم الجليس والعُدَّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل، ونعم الوزير والنزيل، والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً، وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً، وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً؛ إِنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل، وإن شئت كان أعيا من باقِل، وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مُغرٍ، وبناسكٍ فاتِك، وبناطقٍ أخرسَ، وبباردِ حارّ، وفي البارد الحارِّ يقولُ الحسنُ بن هانئ:

أَقْليِلْ أَوَ أَكْثِر فَأَنْتَ مِهْـذَارُ

 

قُلْ لزُهير إذا انتَحـى وشـدا

تَّى صِرْتَ عِنْدِي كَأَنَّكَ النارُ

 

سَخُنْتَ مِنْ شِدِّةِ الـبُـرُودَةِ ح

كذلك الثـلـجُ بـارِدٌ حـارُ

 

لاَ يَعجَبِ السامعُون مِنْ صِفَتِي

ومَنْ لكَ بطبيب أَعرابيّ، وَمَنْ لَكَ برُوميٍّ هِنْدِيّ، وبفارسي يُونَانيّ، وبقَدِيمٍ مولَّد، وبميِّتٍ ممتَّع، وَمَنْ لَكَ بشيءٍ يَجْمَعُ لَكَ الأَوَّلَ والآخِر، والناقص والوافر، والخفيَّ والظاهر، والشاهدََ والغائبَ، والرفيعَ والوضيع، والغَثَّ والسمين، والشِّكْلَ وخِلافَه، والجِنسَ وضدَّه.
وبعد: فمتى رأيتَ بستاناً يُحمَل في رُدْن، ورَوضةً تُقَلُّ في حِجْرٍ، وناطقاً ينطِق عن الموتَى، ويُترجمُ عن الأحياء وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومِك، ولا ينطق إلاّ بما تهوَى؛ آمَنُ مِنَ الأرض، وأكتمُ للسرِّ من صاحب السرِّ، وأحفَظُ للوديعةِ من أرباب الوديعة، وأحفَظ لما استُحْفِظَ من الآدميِّين، ومن الأعْرَابِ المعرِبين، بل مِنَ الصِّبيانِ قبلَ اعتراضِ الاشتغال، ومن العُميانِ قبلَ التمتُّع بتمييز الأشخاص، حينَ العنايةُ تامَّةٌ لم تنقص، والأذهانُ فارغةٌ لم تنقَسِم، والإرادَةُ وافرةٌ لم تتشعَّب، والطِّينَةُ ليِّنة، فهي أقبلُ ما تكون للطبائعِ، والقضيبُ رطبٌ، فهو أقربُ ما يكون من العُلوق، حينَ هذه الخصالُ لم يَخْلُق جديدُها، ولم يُوهَنْ غَرْبُهَا، ولم تتفرَّق قُواها، وكانت كما قال الشاعر:

فصادف قلباً خالياً فتـمـكّـنـا

 

أتانِي هواها قبل أَنْ أَعرِفَ الهَوى

وقال عَبْدة بن الطَّبِيب:

بَيْنَ القوابِلِ بالعَدَاوةِ يُنْشَعُ

 

لا تأمَنوا قوماً يَشِبُّ صبيُّهم

ومن كلامهم: التعلُّمُ في الصِّغَر كالنقشِ في الحجر، وقد قال جِرَانُ العَودِ:

تنكّرتِ الديارُ على البَصيرِ

 

تُركْنَ برجلة الروحاء حتَّـى

بأَيْدِي الرُّومِ بَاقِيَةِ النَّـؤُور

 

كَوَحْيٍ في الحِجارةِ أو وُشُومٍ

وقال آخر، وهو صالحُ بن عبد القُدُّوس:

كالعُود يُسْقَى الماءَ في غَرْسِهِ

 

وإنّ مَن أدَّبته في الـصِّـبَـى

بعدَ الذي قد كان في يُبْـسِـهِ

 

حَتَّى تُرَاهُ مُورِقـاً نـاضِـراً

وقال آخر:

ولا يَنْفَعُ التأديبُ والرأسُ أشيَبُ

 

يُقَوِّمُ مِنْ مَيلِ الغُلامِ الـمـؤدِّبُ

وقال آخر:

وَمِنَ العَنَاءِ رِياضَةُ الهَـرمِ

 

وَتَلُومُ عِرْسَكَ بَعْدَ ما هَرِمَتْ

وقد قالَ ذو الرُّمَّةِ لعيسى بن عمر: اكتبْ شِعري؛ فالكتابُ أحبُّ إليَّ من الحفظ، لأنّ الأعرابيَّ ينسى الكلمةَ وقد سهر في طلبها ليلَته، فيضَعُ في موضعها كلمةً في وزنها، ثم يُنشِدها الناسَ، والكتاب لا يَنْسَى ولا يُبدِّلُ كلاماً بكلام.
وعبتَ الكتابَ، ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ، ولا خَليطاً أنصفَ، ولا رفيقاً أطوعَ، ولا معلِّماً أخضعَ، ولا صاحباً أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَةً، ولا أقلَّ إمْلالاً وإبراماً، ولا أحفَلَ أخلاقاً، ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً، ولا أقلَّ غِيبةً، ولا أبعدَ من عَضِيهة، ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفاً، ولا أقلَّ تصلُّفاً وتكلُّفاً، ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَب، ولا أزهَدَ في جدالٍ، ولا أكفَّ عن قتالٍ، من كتاب، ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونةً، ولا أخفَّ مؤونة، ولا شجرةً أطولَ عمراً، ولا أجمعَ أمراً، ولا أطيَبَ ثمرةً، ولا أقرَبَ مُجتَنى، ولا أسرَعَ إدراكاً، ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ، من كتاب، ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه، ورُخْص ثمنه، وإمكانِ وُجوده، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحة، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة، ومِنَ الحِكَم الرفيعة، والمذاهب القوِيمة، والتجارِبِ الحكيمة، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المتنازِحة، والأمثالِ السائرة، والأمم البائدة، ما يجمَعُ لك الكتابُ، قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( فَوَصَفَ نَفْسَهُ، تبارك وتعالى، بأنْ علَّمَ بالقَلم، كما وصف نفسَه بالكرَم، واعتدَّ بذلك في نِعَمه العِظام، وفي أيادِيه الجِسام، وقد قالوا: القَلَمُ أحدُ اللسانَين، وقالوا: كلُّ مَنْ عَرَف النِّعمةَ في بَيان اللسانِ، كان بفضل النِّعمة في بيانِ القلم أعرَف، ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآناً، ثمَّ جعلَه في أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب.

كون الاجتماع ضرورياً

ثمَّ اعلمْ، رحِمَك اللّه تعالى، أَنّ حاجةَ بعض الناس إلى بعضٍ، صفةٌ لازمةٌ في طبائِعهم، وخِلقةٌ قائِمةٌ في جواهِرِهم، وثابتةٌ لا تُزَايلُهم، ومُحيطةٌ بجماعَتِهم، ومشتملةٌ على أدناهم وأقصاهم، وحاجَتُهُمْ إلى ما غاب عنهم - ممَّا يُعِيشُهم ويُحْييهم، ويُمسِك بأرْماقِهم، ويُصلِحُ بالهم، وَيجْمَع شملَهم، وإلى التعاوُنِ في دَرْكِ ذلك، والتوازُرِ عليه - كَحَاجَتِهم إلى التعاون على معرفة ما يضرُّهم، والتوازرِ على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تَغِبْ عنهم، فحاجَةُ الغائِبِ مَوصُولةٌ بحاجةِ الشاهد، لاحتياج الأدنَى إلى معرِفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفَةِ الأدنى، معانٍ متضمّنةٌ، وأسبابٌ متَّصلة، وحبالٌ منعقدة، وجعل حاجتنَا إلى معرفة أخبارِ مَنْ كان قبلَنا، كحاجةِ من كان قبلنا إلى أخبار مَنْ كان قبلهم، وحاجةِ من يَكُونُ بعدَنا إلى أخبارِنا؛ ولذلك تقدَّمت في كتب اللّه البشارات بالرُّسل، ولم يسخِّر لهم جميعَ خلْقه، إلاّ وهم يحتاجُون إلى الارتفاق بجميع خلْقه، وجعلَ الحاجَةَ حاجَتَين: إحداهما قِوامٌ وقُوت، والأخرى لذّةٌ وإمتاع وازديادٌ في الآلة، وفي كلِّ ما أجذَلَ النفوس، وجمع لهم العَتاد، وذلكَ المقدارُ مِنْ جميع الصِّنْفَين وفقٌ لكثرةِ حاجاتهم وشَهوَاتهم، وعلى قدْر اتّساعِ معرفتهم وبُعْدِ غَوْرهم، وعلى قَدْرِ احتمال طبع البشريَّة وفِطرةِ الإنسانيَّة، ثم لم يقطعِ الزيادةَ إلا لعجْزِ خلقِهم عن احتمالها، ولم يجز أن يفرق بينهم وبين العجْز، إلاّ بعدَم الأعيان، إذ كان العجزُ صفةً من صفاتِ الخلق، ونعتاً من نُعوتِ العبيد.
لم يخلق اللّه تعالى أحداً يستطيعُ بلوغَ حاجتِه بنفسه دونَ الاستعانة ببعضِ من سخَّرَ له، فأدناهم مسخَّرٌ لأقصاهم، وأجلُّهم ميسَّر لأدقِّهم، وعلى ذلك أحوَجَ الملوكَ إلى السُّوقة في بابٍ، وأحوَجَ السُّوقَةَ إلى الملوك في باب، وكذلك الغنيُّ والفقير، والعبدُ وسيِّدُه، ثُمَّ جَعلَ اللّه تعالى كلَّ شيءٍ للإنسان خَوَلاً، وفي يَدِه مُذَلّلاً مُيَسَّراً إمّا بالاحتِيالِ له والتلطُّفِ في إراغَتِه واستِمالتِه، وإمّا بالصَّوْلةِ عليه، والفتكِ به، وإمّا أَنْ يأْتِيَهُ سهواً ورهواً، على أَنَّ الإنسانَ لولا حاجَتُهُ إليها، لما احتالَ لها، ولا صَالَ عليها، إلاّ أَنّ الحاجةَ تفتَرِق في الجنس والجهةِ والجِبِلَّة، وفي الحظِّ والتقدير.
ثمَّ تعبَّدَ الإنسانَ بالتفكُّرِ فيها، والنظرِ في أُمورِها، والاعتبار بما يَرَى، ووَصَل بينَ عُقولهم وَبيْنَ معرفةِ تلك الحكَم الشريفة، وتلك الحاجاتِ اللازمة، بالنظرِ والتفكير، وبالتنقيب والتنْقير، والتثبت والتوقُّف؛ ووَصَلَ معارفَهم بموَاقعِ حاجاتِهم إليها، وتشاعُرِهم بمواضع الحكم فيها بالبيانِ عنها.

البيان ضروري للاجتماع

وهو البيانُ الذي جعلَه اللّه تعالى سبباً فيما بينَهم، ومعبِّراً عن حقائق حاجاتهم، ومعرِّفاً لمواضع سدِّ الخَلَّة ورفْع الشبهة، ومداواةِ الحَيرة، ولأنّ أكثرَ الناسِ عن الناس أفهمُ منهم عن الأَشباحِ الماثلة، والأجسامِ الجامدة، والأجرامِ الساكنة، التي لا يُتَعَرَّفُ ما فيها من دَقائق الحكمةِ وكُنوزِ الآداب، وينابيعِ العلمِ، إلاّ بالعقلِ الثاقب اللطيف، وبالنظرِ التامِّ النافذ، وبالأداةِ الكاملة، وبالأسبابِ الوافرة، والصبرِ على مكروه الفكر، والاحتراسِ من وُجوه الخُدَع، والتحفُّظِ مِن دواعي الهوى؛ ولأنَّ الشِّكلَ أفهَمُ عن شِكله، وأسكَنُ إليه وأصَبُّ به، وذلك موجودٌ في أجناسِ البهائم، وضُروبِ السباع، والصبيُّ عن الصبيِّ أفهمُ له، وله آلفُ وإليه أنزَع، وكذلك العالِمُ والعالم، والجاهل والجاهل، وقال اللّه عزّ وجلّ لنبيِّه عليه الصلاة والسلام: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً" لأَنَّ الإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعَه بطِباعه آنس؛ وعلى قدْر ذلك يكونُ موقعُ ما يسمع منه. ثمَّ لم يرضَ لهم من البنيان بصِنفٍ واحد، بل جَمع ذلك ولم يفرِّق، وكثَّر ولم يقلِّل، وأظهَرَ ولم يُخْفِ، وجعَل آلة البيانِ التي بها يتعارَفُون معانِيَهُم، والتَّرْجُمانَ الذي إليه يرجِعون عند اختلافِهم؛ في أربعة أشياء؛ وفي خَصْلةٍ خامسة؛ وإن نقصت عن بلوغ هذه الأربعة في جهاتها، فقد تُبدَّل بجنسها الذي وَضِعت له وصُرفتْ إليه، وهذه الخصال هي: اللفظ، والخطّ، والإشارة، والعَقْد؛ والخَصلة الخامسة ما أوجَدَ من صحَّة الدَّلالةِ، وصدقِ الشهادة ووُضوحِ البرهان، في الأَجْرَامِ الجامدة والصامتة، والساكنة التي لا تَتَبيَّن ولا تحسُّ، ولا تَفهَم ولا تتحرَّك إلاّ بداخلٍ يدخل عليها، أو عندَ مُمْسِكٍ خلِّي عنها، بعد أََنْ كان تقييده لها.
ثمَّ قسّم الأقسامَ ورتَّب المحسوسات، وحصَّل الموجوداتِ، فجعل اللفظَ للسامع، وجعل الإشارةَ للناظر، وأشرَك الناظرَ واللامس في معرفة العَقْد، إلاّ بما فضّل اللّه به نصيبَ الناظرِ في ذلك على قدْرِ نصيبِ اللامس، وجَعَلَ الخطّ دليلاً على ما غابَ من حوائجه عنه، وسبباً موصولاً بينه وبين أعوانه؛ وجعله خازناً لما لا يأمَن نسيانَه، ممَّا قد أحصاه وحفِظه، وأتقنه وجَمعه، وتكلف الإحاطة به؛ ولم يجعل للشامِّ والذائق نصيباً.

خطوط الهند

ولولا خطوطُ الهِندِ لضاع من الحساب الكثيرُ والبسيط، ولبطلت مَعرِفةُ التضاعيف، ولَعدِموا الإحاطة بالباورات وباورات الباورات، ولو أدرَكوا ذلك لَما أدرَكُوه إلاّ بعد أَنْ تغلُظَ المؤونة، وتنتَقِضَ المُنّةُ، ولصارُوا في حال مَعْجَزَةٍ وحسور، وإلى حالِ مَضيعَةٍ وكَلالِ حدّ، مع التشاغُلِ بأمورٍ لولا فقدُ هذه الدَّلالةِ لكان أربحَ لهم، وأرَدَّ عليهم، أن يُصرَف ذلك الشغلُ في أبوابِ منافع الدين والدنيا.

نفع الحساب

ونفع الحساب معلوم، والخَلَّةُ في موضعِ فقدِه معروفة، قال اللّه تعالى: "الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ"، ثم قال: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بحُسْبَانٍ"، وبالبَيَانِ عَرَفَ الناسُ القرآنَ، وقال اللّه تبارَكَ وتعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ" فأجْرَى الحسابَ مُجرَى البيان بالقرآن، وبحُسْبان منازلِ القمر، عَرَفنا حالاتِ المدِّ والجزْر، وكيف تكونُ الزيادةُ في الأهِلَّة وأنصافِ الشهور، وكيف يكونُ النقصانُ في خلال ذلك، وكيف تلك المراتبُ وتلك الأقدار.

فضل الكتابة

ولولا الكتبُ المدوَّنَة والأخبار المخلَّدة، والحكم المخطوطة التي تُحصِّنُ الحسابَ وغيرَ الحساب، لبَطَل أكثر العلم، ولغلَب سُلطانُ النِّسيانِ سلطانَ الذكْر، ولَمَا كان للناس مفزعٌ إلى موضعِ استذكار، ولو تمَّ ذلك لحُرِمْنا أكثرَ النفع؛ إذ كنَّا قد علمْنا أنَّ مقدار حفْظ الناسِ لعواجل حاجاتهم وأوائلها، لا يَبلغ من ذلك مبلغاً مذكوراً ولا يُغْنِي فيه غَنَاء محموداً، ولو كُلِّفَ عامّةُ مَن يطلب العلمَ ويصطَنِع الكتب، ألاّ يزال حافظاً لفِهرست كتبه لأَعجزه ذلك، ولكُلِّفَ شططاً، ولَشَغله ذلك عن كثيرٍ ممّا هو أولى به، وفهمُك لمعاني كلامِ الناس، ينقطع قبل انقطاعِ فهْمِ عين الصوتِ مجرَّداً، وأَبعَدُ فهمِك لصوتِ صاحبك ومُعامِلك والمعاوِنِ لك، ما كان صياحاً صرفاً، وصوتاً مصمَتاً ونداءً خالصاً، ولا يكون ذلك إلاّ وهو بعيدٌ من المفاهمة، وعُطْلٌ من الدَّلالة، فجعل اللفظ لأقرَب الحاجاتِ، والصوتَ لأنفَسَ من ذلك قليلاً، والكتابُ للنازح من الحاجاتِ، فأمّا الإشارة فأقربُ المفهومِ منها: رَفْعُ الحواجبِ، وكسرُ الأجفان، وليُّ الشِّفاهِ وتحريك الأعناق، وقبْض جلدةِ الوجه؛ وأبعدُها أن تلوى بثوبٍ على مقطع جبل، تُجاهَ عينِ الناظر، ثمَّ ينقطع عملُها ويدرُس أثرها، ويموت ذكرها، ويصير بعدُ كلُّ شيءٍ فضَل عن انتهاء مدَى الصوت ومنتهى الطرف، إلى الحاجة وإلى التفاهم بالخطوطِ والكتب، فأيُّ نفع أعظمُ، وأيُّ مِرْفَقٍ أعوَنُ من الخطِّ، والحالُ فيه كما ذكرنا وليس للعَقْد حظُّ الإشارةِ في بُعد الغاية.

فضل القلم

فلذلك وضع اللّه عزّ وجلّ القلم في المكان الرفيع، ونوَّه بذِكره في المنْصِب الشريف حين قال "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" فأقسَمَ بالقَلَم كما أقسمَ بما يُخَطُّ بالقلم؛ إذ كان اللسانُ لا يتعاطى شأوَه، ولا يشُقُّ غبارَه ولا يجري في حلبته، ولا يتكلف بُعْدَ غايتِه، لكنْ لما أَنْ كانت حاجات الناسِ بالحَضْرة أكثرَ مِنْ حاجاتهم في سائِر الأماكن، وكانت الحاجَةُ إلى بيانِ اللسانِ حاجةً دائِمة واكدة، وراهِنةً ثابِتة، وكانت الحاجةُ إلى بَيانِ القلم أمراً يكونُ في الغَيبة وعند النائبة، إلاَّ ما خُصَّت به الدواوين؛ فإِنّ لسانَ القلم هناك أبسَطُ، وأثرَهُ أعَمُّ، فلذلك قدَّموا اللسانَ على القلم.

فضل اليد

فاللسانُ الآنَ إنَّما هو في منافع اليدِ والمرافق التي فيها، والحاجاتِ التي تبلُغها، فمن ذلك حظُّها وقِسْطُها من منافع الإشارة، ثم نَصِيبُها في تقويم القلم، ثم حَظُّها في التصوير، ثم حَظُّها في الصناعات، ثم حَظُّها في العَقْد، ثم حَظُّها في الدَّفْع عن النفس، ثمَّ حَظُّها في إيصال الطعام والشراب إِلى الفم، ثم التوضُّؤ والامتساح، ثم انتقادِ الدنانيرِ والدراهمِ ولُبسِ الثِّياب، وفي الدفع عن النفس، وَأََصْنَافِ الرَّمْي، وأصنافِ الضرْب، وأصناف الطعْن، ثم النَّقْرِ بالعُود وتحريكِ الوتر؛ ولولا ذلك لبَطَل الضرْبُ كلُّه أو عامَّتُه، وكيف لا يكون ذلك كذلك ولها ضَرْبُ الطبْل والدُّفّ، وتحريكُ الصفَّاقَتين، وتحريك مخارِق خروق المزامير، وما في ذلك من الإطلاق والحبس، ولو لم يكنْ في اليدِ إلاَّ إمساكُ العِنان والزِّمام والخِطام، لكانَ من أعظمِ الحظوظ، وقد اضطرَبوا في الحكْم بين العَقْد والإشارة، ولولا أنّ مغْزانا في هذا الكتابِ سوى هذا الباب، لقد كانَ هذا ممَّا أُحِبُّ أن يعرفَه إخوانُنَا وخلطاؤنا، فلا ينبغي لنا أيضاً أن نأخذ في هذا الباب من الكلام، إلاّ بعدَ الفَراغ ممَّا هو أولى بنا منه، إذ كنتَ لم تنازِعني، ولم تَعِبْ كتبي، من طريقِ فضل ما بين العَقْد والإشارة، ولا في تمييز ما بين اللفظ وبينهما، وإنَّما قَصَدْنا بكلامنا إلى الإخبار عن فضيلة الكتاب.

فضل الكتاب

والكتابُ هو الذي يؤدِّي إلى الناس كتبَ الدين، وحسابَ الدواوين مع خفَّة نقلِه، وصِغَر حجمه؛ صامتٌ ما أسكتَّه، وبليغ ما استنطقته، ومَن لك بمسامر لا يبتديك في حالِ شُغْلك، ويدعُوك في أوقاتِ نشاطِك، ولا يُحوِجك إلى التجمُّل له والتذمُّم منه، ومَن لكَ بزائرٍ إن شئتَ جعل زيارتَه غِبّاً، وورُوده خِمْساً، وإن شئت لَزِمَك لزومَ ظلِّك، وكان منك مكانَ بعضِك.
والقلمُ مكتفٍ بنفْسه، لا يحتاج إلى ما عندَ غيرِه؛ ولا بدَّ لبيان اللسانِ من أمور: منها إشارة اليد، ولولا الإشارةُ لَمَا فهموا عنك خاصَّ الخاصِّ إذا كان أخصُّ الخاصِّ قد يدخل في باب العامّ، إلاّ أنّه أدنى طبقاته؛ وليس يكتفي خاصُّ الخاصّ باللفظ عمَّا أدّاه، كما اكتفى عامُّ العامّ والطبقاتُ التي بينه وبين أخصِّ الخاصّ.
والكتابُ هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغْريك، والرفيق الذي لا يملُّكَ، والمستَمِيح الذي لا يستَريثُك، والجارُ الذي لا يَسْتَبْطِيك، والصاحبُ الذي لا يريد استخراجَ ما عندَك بالملَق، ولا يعامِلُك بالمَكر، ولا يخدَعك بالنِّفاق، ولا يحتالُ لك بالكَذِب، والكتابُ هو الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك، وشحَذَ طباعَك، وبسَط لسانَك، وجوَّدَ بَنانك، وفخَّم ألفاظَك، وبجَّح نفسَك، وَعمَّر صدرك، ومنحكَ تعظيمَ العوامِّ وصَداقَةَ الملوك، وعَرفتَ به في شهر، ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر، مع السلامةِ من الغُرم، ومن كدِّ الطلب، ومن الوقوفِ بباب المكتِسب بالتعليم، ومِن الجُلوس بين يَديْ مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاً، وأكرمُ منه عِرْقاً، ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء ومقارنةِ الأغبياء. والكتابُ هو الذي يُطِيعُك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعُك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنومٍ، ولا يعتَرِيه كَلالُ السهرِ، وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرتَ إليه لم يُخْفِرْك، وإن قطعتَ عنه المادَّة لم يقطعْ عنك الفائدة، وإن عُزِلتَ لم يَدعْ طاعتَك، وإن هبَّتْ ريحُ أعادِيك لم ينقلبْ عليك، ومتى كنتَ منه متعلِّقاً بسبب أو معتصماً بأدنى حبْل، كان لك فيه غنًى من غيره، ولم تَضْطَرَّك معه وحشةُ الوَحدةِ إلى جليس السوء، ولو لم يكن مِن فضْله عليك، وإحسانِه إليك، إلاّ منعُه لكَ من الجلوس على بابك، والنظرِ إلى المارَّةِ بك، مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوقِ التي تَلزَم، ومن فُضولِ النظَر، ومن عادةِ الخوض فيما لا يعنيك، ومِن ملابسةِ صغارِ الناس، وحضورِ ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسِدة، وأخلاقهم الرديَّة، وجَهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة، ثم الغنيمةُ، وإحرازُ الأصل، مع استفادةِ الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلاّ أنّه يشغَلُك عن سُخْف المُنَى وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب، وكلِّ ما أشبهَ اللعب، لقد كان على صاحبه أسبَغَ النعمةَ وأعظَمَ المِنَّة.
وقد علمنا أنَّ أفضلَ ما يقطع به الفُرَّاغ نهارَهم، وأصحابُ الفُكاهات ساعاتِ ليلِهم، الكتاب، وهو الشيء الذي لا يرى لهم فيه مع النيل أثرٌ في ازدِياد تجربةٍ ولا عقلٍ ولا مروءة، ولا في صونِ عرض، ولا في إصلاحِ دِين، ولا في تثمير مال، ولا في رَبِّ صنيعة ولا في ابتداء إنعام.
أقوال لبعض العلماء في فضل الكتاب وقال أبو عبيدة، قال المهلَّب لبنِيه في وصيَّتِه: يا بَنيَّ لا تقوموا في الأسواقِ إلاّ على زَرَّادٍ أَو وَرَّاق.
وحدَّثني صديقٌ لي قال: قرأتُ على شيخٍ شاميٍّ كتاباً فيه مِن مآثر غطفان فقال: ذهبَت المكارمُ إلاّ من الكتب.
وسمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول: غَبَرتُ أربعين عاماً ما قِلْتُ ولا بِتُّ ولا اتكأت إلاّ والكتابُ موضوعٌ على صدري.
وقال ابن الجهْم: إذا غشِيَني النعاس في غير وقتِ نوم - وبئس الشيءُ النومُ الفاضِلُ عن الحاجة - قال: فإذا اعتراني ذلك تناولتُ كتاباً من كتب الحِكَم، فأجدُ اهتزازي للفوائِد، والأريحيَّة التي تعتريني عند الظفَر ببعض الحاجة، والذي يغشَى قلْبي من سرور الاستبانة وعزِّ التبيين أشدَّ إيقاظاً مِن نَهيق الحمير وهَدَّةِ الهدْم.
وقال ابن الجهم: إذا استحسنتُ الكتابَ واستجدتُه، ورجوتُ منه الفائدة ورأيتُ ذلك فيه - فلو تراني وأنا ساعةً بعدَ ساعةٍ أنظرُ كم بقي من ورقِهِ مخافَةَ استنفاده، وانقطاعِ المادَّة من قَلْبِه، وإن كان المصحفُ عظيمَ الحجم كثير الورق، كثير العدد - فقد تَمَّ عيشي وكَمُلَ سروري.
وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال: لولا طولُه وكثرةُ ورقه لنسختُه، فقال ابن الجهم: لكنِّي ما رغّبني فيه إِلاّ الذي زهّدك فيه؛ وما قرأتُ قطُّ كتاباً كبيراً فأخْلاني من فائدة، وما أُحصِي كم قرأتُ من صغارِ الكتب فخرجتُ منها كما دخلت.
وقال العتبي ذاتَ يومٍ لابن الجهم: ألا تتعجَّبُ من فلانٍ نَظَر في كتابِ الإقليدس مع جارية سَلْمَويه في يومٍ واحد، وساعة واحدة، فقد فرغتِ الجاريةُ من الكتابِ وهو بعدُ لم يُحكِم مقالةً واحدة، على أنَّه حُرٌّ مخيَّر، وتلك أمَةٌ مقصورة، وهو أحرصُ على قراءةِ الكتاب مِن سَلْمَوَيهِ على تعليمِ جارية، قال ابن الجهم: قد كنت أظنُّ أنّه لم يفهم منه شكلاً واحداً، وأُرَاك تزعم أنّه قد فرغ من مقالة قال العتبي: وكيف ظننتَ به هذا الظنَّ، وهو رجلٌ ذو لسانٍ وأدب? قال: لأنِّي سمعتُه يقول لابنِه: كم أنفقتَ على كتابِ كذا? قال: أنفقت عليه كذا، قال: إنَّما رَغّبَني في العلم أنّي ظننتُ أنّي أنفق عليه قليلاً وأكتسِب كثيراً، فأمّا إذا صرتُ أنفِق الكثيرََ، وليس في يدي إلاّ المواعيدُ، فإنِّي لا أريد العلمَ بشيء.

السماع والكتابة

فالإنسان لا يعلمُ حتى يكثُرَ سماعُه، ولا بُدَّ من أن تكون كتبُه أكثرَ من سَمَاعِه؛ ولا يعلمُ، ولا يجمع العلم، ولا يُخْتَلَف إليه، حتى يكون الإنفاقُ عليه من ماله، ألذَّ عندَه من الإنفاق من مال عدوِّه، ومَن لم تكن نفقتُه التي تخرج في الكتب، ألذَّ عنده مِن إنفاق عُشَّاق القيان، والمستهتَرين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغاً رضِيّاً، وليس يَنتفِع بإنفاقِه، حتَّى يؤثِر اتِّخاذَ الكتبِ إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله، وحتَّى يؤَمِّل في العلم ما يؤَمِّل الأعرابي في فرسه، - حرص الزنادقة على تحسين كتبهم. وقال إبراهيم بن السِّنديّ مرة: ودِدْتُ أنَّ الزنادقة لم يكونوا حرصاء على المغالاة بالورق النقيِّ الأبيض، وعلى تخيُّر الحبرِ الأسودِ المشرِق البرَّاق، وعلى استجادةِ الخطِّ والإرغاب لمن يخطّ، فإنِّي لم أَرَ كورَق كتبِهم ورقاً، ولا كالخطوط التي فيها خطّاً، وإذا غرِمتُ مالاً عظيماً - مع حبِّي للمال وبُغْضِ الْغُرْم - كان سخاءُ النفس بالإنفاق على الكتب، دليلاً على تعظيمِ العلمِ، وتعظيمُ العلم دليل على شرف النفس، وعلى السلامَة من سُكْر الآفات، قلت لإبراهيم: إنّ إنفاقَ الزنادقةِ على تحصيل الكتب، كإنفاق النصارى على البِيَع، ولو كانت كتبُ الزنادقةِ كتبَ حكمٍ وكتبَ فلسفة، وكتبَ مقاييسَ وسُنَنٍ وتبيُّنٍ وتبيين، أو لو كانت كتُبهم كتباً تُعرِّف الناسَ أبوابَ الصِّناعات، أو سُبُلَ التكسُّب والتجارات، أو كتبَ ارتفاقاتٍ ورياضاتٍ، أو بعض ما يتعاطاه الناسُ من الفطن والآداب - وإنْ كان ذلك لا يقرِّب من غِنًى ولا يُبْعِد من مأثَم - لكانوا ممَّن قد يجوز أن يُظَنَّ بهم تعظيمُ البيان، والرغبةُ في التبيُّن، ولكنَّهم ذهبوا فيها مذهبَ الدِّيانة، وعلى طريقِ تعظيم المِلّة، فإنّما إنفاقهم في ذلك، كإنفاق المجوس على بيت النار، وكإنفاقِ النصارَى على صُلْبان الذهب، أو كإنفاق الهند على سَدَنةِ البِدَدَة، ولو كانوا أرادوا العلمَ لكان العلمُ لهم مُعرضاً، وكتبُ الحكمة لهم مبذولةً، والطرقُ إليها سهْلةً معروفة، فما بالُهُم لا يصنعون ذلك إلاّ بكتُب دياناتهم، كما يزخرفُ النصارى بيوتَ عباداتهم ولو كان هذا المعنى مستحسَناً عند المسلمين، أو كانوا يرون أنّ ذلك داعيةٌ إلى العبادة، وباعثةٌ على الخٌشوع، لبلَغُوا في ذلك بعَفْوهم، ما لا تبلُغُه النصارى بغاية الجَهْد.
مسجد دمشق وقد رأيتُ مسجِدَ دِمَشْق، حين استجاز هذا السبيل ملِكٌ من ملوكها، ومَنْ رآه فقد علم أنّ أحداً لا يرومه، وأنَّ الرومَ لا تسخوا أنفُسهم به، فلمَّا قام عمرُ بنُ عبد العزيز، جَلَّله بالجِلال، وغَطَّاه بالكرابيس، وطبَخَ سلاسلَ القناديلِ حتَّى ذهب عنها ذلك التلألؤُ والبريق؛ وذهب إلى أنّ ذلك الصنيعَ مجانِبٌ لسنَّة الإسلام، وأنَّ ذلك الحُسنَ الرائعَ والمحاسنَ الدِّقاق، مَذهَلةٌ للقلوب، وَمشغَلةٌ دونَ الخشوع، وأنّ البالَ لا يكون مجتمِعاً وهناك شيء يفرِّقه ويعترض عليه.
صفة كتب الزنادقة  والذي يدلُّ على ما قلنا، أنّه ليس في كتبهم مثلٌ سائر، ولا خبرٌ طَريف، ولا صنعةُ أدبٍ، ولا حكمةٌ غرِيبة، ولا فلسفةٌ، ولا مسألةٌ كلاميَّة، ولا تعريفُ صِناعة، ولا استخراجُ آلة، ولا تعليمُ فِلاحةٍ، ولا تدبير حرب، ولا مقارَعة عن دِين، ولا مناضَلة عن نِحْلة، وجُلُّ ما فيها ذِكر النور والظلمة، وتناكُحُ الشياطين، وتسافُدُ العفاريت، وذكر الصنديد، والتهويل بعمود السنخ، والإخبار عن شقلون، وعن الهامة والهمامة، وكلُّه هَذْرٌ وعِيٌّ وخُرافة، وسُخْريَة وتكذُّب، لا ترى فيه موعظةً حسنة، ولا حديثاً مُونِقاً، ولا تدبيرَ مَعاشٍ، ولا سياسةَ عامة، ولا ترتيبَ خاصَّة، فأيُّ كتابٍ أجهلُ، وأيُّ تدبيرٍ أفسدُ من كتابٍ يوجِب على الناس الإطاعة، والبخوع بالديانة، لا على جهة الاستبصار والمحبَّة، وليس فيه صلاحُ مَعاشٍ ولا تصحيحُ دين? والناسُ لا يحبُّون إلا ديناً أو دنيا: فأمَّا الدّنيا فإقامةُ سوقها وإحضار نفعها، وأما الدِّين فأقلُّ ما يُطمع في استجابة العامة، واستمالة الخاصَّة، أنْ يصوَّر في صورةٍ مغلِّطة، ويموَّهَ تمويهَ الدِّينارِ الْبَهْرَج، والدرهمِ الزائف الذي لا يغلط فيه الكثير، ويعرفُ حقيقته القليل، فليس إنفاقُهم عليها من حيثُ ظننت، وكلُّ دين يكون أظهر اختلافاً وأكثرَ فساداً، يحتاج من الترقيع والتمويه، ومن الاحتشاد له والتغليظ فيه إلى أكثر، وقد علمْنا أنَّ النصرانيَّةَ أشدُّ انتشاراً من اليهوديَّة تعبداً، فعلى حسب ذلك يكون تزيُّدُهم في توكِيده، واحتفالُهم في إظهار تعليمه.

فضل التعلم

وقال بعضهم: كنتُ عندَ بعضِ العلماء، فكنتُ أكتب عنه بعضاً وأدَعُ بعضاً، فقال لي: اكتبْ كلَّ ما تسمعُ، فإن أخسَّ ما تسمعُ خيرٌ من مكانه أبيض.
وقال الخليل بن أحمد: تكثَّرْ من العلم لتعرِف، وتقلّلْ منه لتحفَظ.
وقال أبو إسحاق: القليل والكثير للكتب، والقليلُ وحدَه للصدر.
وأنشد قول ابن يَسِير:

وأحفَظُ من ذاكَ ما أجمعُ

 

أما لو أعِي كلَّ ما أسمَـع

ت لَقِيلَ هو العالِم المِصقَع

 

ولم أستَفِدْ غَيْرَ ما قد جمع

عٍ من العلم تسمعُه تنـزِعُ

 

ولكنَّ نفسي إلى كـلّ نـو

تُ ولا أنا مِن جَمعه أشبعُ

 

فلا أنا أحفظُ ما قد جَمـع

وعِلميَ في الكُتْبِ مستودَعُ

 

وأَحصَر بالعِيِّ في مجلسي

يكنْ دهرَهُ القهقَرَى يرجِعُ

 

فمن يكُ في علمِه هـكـذا

فجمعُك للكتبِ لا ينـفـع

 

إذا لم تكنْ حافظـاً واعـياً

التخصص بضروب من العلم وقال أبو إسحاق: كلَّفَ ابنُ يسيرٍ الكتبَ ما ليس عليها، إن الكتبَ لا تحيي الموتَى، ولا تحوِّل الأحمقَ عاقلاً، ولا البليد ذكِيّاً، ولكنَّ الطبيعةَ إذا كان فيها أدنى قَبُول، فالكتبُ تشحَذُ وتَفتِق، وتُرهِف وتَشفي، ومن أرادَ أن يعلمَ كلَّ شيء، فينبغي لأهلهِ أن يداووه فإنّ ذلك إنما تصوَّرَ له بشيءٍ اعتراه فَمنْ كان ذكيّاً حافظاً فليقصِد إلى شيئين، وإلى ثلاثة أشياء، ولا ينزِع عن الدرس والمطارَحَة، ولا يدعُ أن يمرَّ على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه، ما قدَر عليه من سائر الأصناف، فيكون عالماً بخواصّ، ويكون غيرَ غفلٍ من سائرِ ما يجري فيه الناسُ ويخوضون فيه، ومن كان مع الدرس لا يحفظ شيئاً، إلاَّ نسيَ ما هو أكثرُ منه، فهو من الحفظ من أفواه الرجال أبعد.

جمع الكتب وفضلها

وحدَّثني موسى بنُ يحيى قال: ما كان في خِزانةِ كتبِ يحيى، وفي بيت مدارسه كتابُ إلاّ وله ثلاثُ نسخ.
وقال أبو عمرو بنُ العلاء: ما دخلتُ على رجل قطُّ ولا مررتُ ببابه، فرأيتُه ينظرُ في دفترٍ وجليسُه فارغُ اليد، إلاّ اعتقدتُ أنَّه أفضلُ منه وأعقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: قِيل لنا يوماً: إنّ في دار فلانٍ ناساً قد اجتمعوا على سَوءة، وهم جُلوسٌ على خميرة لهم، وعندهم طُنبُورٌ، فتسوَّرنا عليهمْ في جماعةٍ من رجالِ الحيِّ، فإذا فتىً جالسٌ في وسط الدار، وأصحابُه حوله، وإذا همْ بِيضُ اللِّحَى، وإذا هو يقرأ عليهم دفتراً فيه شعر، فقال الذي سعى بهم: السَّوءة في ذلك البيت، وإنْ دخلتموه عثَرتم عليها فقلت: واللّه لا أكشفُ فتىً أصحابُه شيوخ، وفي يده دفترُ علم، ولو كان في ثوبه دمُ يحيى بنِ زكريَّاء وأنشد رجلٌ يُونُسَ النحويَّ:

فَبِئْسَ مستودَعُ العلمِ القراطيسُ

 

استودَعَ العلمَ قرطاساً فضيّعَـه

قال، فقال يونس: قاتَلَه اللّه، ما أشدَّ ضَنانَتَه بالعلم، وأحسنَ صِيانته له، إنَّ علمَك مِن روحِك، ومالَكَ مِن بدنك، فضعْه منكَ بمكان الرُّوح، وضعْ مالَكَ بمكان البدن!.
وقيل لابن داحة - وأخرجَ كتابَ أبي الشمقمق، وإذا هو في جلود كوفيَّة، ودَفَّتَين طائفيّتَين، بخطٍّ عجيب - فقيل له: لقد أُضيع من تجوَّدَ بشعر أبي الشمَقْمق فقال: لا جرم واللّه إنَّ العلمَ ليُعطيكم على حسابِ ما تعطونه، ولو استطعتُ أن أودِعَه سُويداءَ قلبي، أو أجعلَه محفوظاً على ناظري، لفعلت.
ولقد دخلت على إسحاق بن سليمان في إمْرته، فرأيتُ السِّماطَين والرجالَ مُثُولاً كأَنَّ على رؤوسهم الطير، ورأيتُ فِرْشَتَه وبِزَّته؛ ثم دخلتُ عليه وهو معزول، وإذا هو في بيتِ كتبِه، وحوالَيه الأسفاطُ والرُّقوق، والقماطِرُ والدفاتِر والمَساطر والمحابر، فما رأيتُه قطُّ أفخمَ ولا أنبلَ، ولا أهيبَ ولا أجزَل منهُ في ذلك اليوم؛ لأنَّه جمعَ مع المهابَة المحبَّة، ومع الفَخامة الحَلاوة، ومع السُّؤدَد الحِكْمة.
وقال ابن داحة: كان عبدُ اللّه بنُ عبدِ العزيز بنِ عبد اللّهِ بن عمر بن الخطَّاب، لا يجالِسُ الناسَ، وينزلُ مَقْبُرَةً من المقابر، وكان لا يكادُ يُرى إلاَّ وفي يده كتابٌ يقرؤه، فسُئِل عن ذلك، وعن نزولِه المقبُرة فقال: لم أرَ أَوْعظَ من قبر، ولا أمنَع من كتاب، ولا أسلَمَ من الوَحدة، فقيل له: قد جاء في الوَحدة ما جاء فقال: ما أفسَدَها للجاهِل وأصلحها للعاقل.

منفعة الخط

وضروبٌ من الخُطوطِ بعد ذلك، تدلُّ على قدرِ منفَعَة الخطِّ. قال اللّه تبارَك وتعالى "كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون" وقال اللّه عزّ وجلَّ "فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بأَيْدِي سَفَرَةٍ" وقال "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه" وقال "وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ" وقال "اقْرَأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً".
ولو لم تكتب أعمالُهم لكانت محفوظةً لا يدخلُ ذلك الحفظَ نِسيانٌ، ولكنَّه تعالى وعزَّ، علم أنّ كتابَ المحفوظِ ونسخَه، أوكَدُ وأبلغُ في الإنذار والتحذير، وأهيبُ في الصدور.
وخط آخر، وهو خطُّ الحازي والعرَّاف والزَّاجِر. وكان فيهم حليس الخطَّاط الأسديّ، ولذلك قال شاعرهم في هجائهم:

غَناؤكم تِلْكَ الأخاطيطُ في التُّرْبِ

 

فأنتم عضاريط الخَمِيسِ إذا غزَوْا

وخُطوطٌ أخَر، تكون مستراحاً للأَسيرِ والمهموم والمفكِّر، كما يعتري المفكر من قَرْع السنِّ، والغضبانَ من تصفيقِ اليد وتجحيظ العين. وقال تأبَّطَ شَرَّاً:

إذا تذكَّرتِ يوماً بعضَ أخلاقي

 

لتَقْرَعَنَّ عَلَيَّ السنَّ مِـنْ نَـدَمٍ

وفي خطِّ الحزينِ في الأرض يقول ذو الرُّمَّة:

بِلَقْطِ الْحَصَى والخطّ في الدارِ مُولَعُ

 

عَشِيَّةَ ما لِي حِـيلةٌ غـيرَ أَنَّـنِـي

بكفِّيَ والغِرْبانُ فـي الـدارِ وُقَّـعُ

 

أخطُّ وأَمحـو الـخـطَّ ثـم أُعِـيدُه

وذكر النابغةُ صنيعَ النساءِ، وفزَعَهنَّ إلى ذلك، إذا سُبِين واغتربن وفكّرن، فقال:

ويَخبَأنَ رُمَّانَ الثُّدِي النـواهـدِ

 

ويخْططْنَ بالِعيدانِ في كلِّ منزلٍ

وقد يفزع إلى ذلك الخَجِلُ والمتعلِّل، كما يفزع إليه المهمومُ وهو قولُ القاسم ابن أمية بن أبي الصَّلْت:

 

لتلمُّسِ العِلاَّتِ بـالـعِـيدانِ

 

لا ينقرون الأرضَ عند سُؤالهِم

عندَ اللقاء كأحسَـنِ الألـوانِ

 

بل يبسُطُون وجوهَهم فتَرَى لها

 








وقال الحارث بن الكِنْديّ، وذكرَ رجلاً سأله حاجةً فاعتراه العبثُ بأسنانه، فقال:

يُرِينَا أنَّهُ وَجِعٌ بضِرْسِ

 

وآضَ بكَفِّهِ يحتَكُّ ضِرساً

وربما اعتَرى هؤلاء عدُّ الحصى، إذا كانوا في موضعِ حصى، ولم يكونوا في موضع تراب، وهو قول امرئ القيس:

أعدُّ الحصَى ما تَنْقَضِي حَسَراتِي

 

ظلِلْتُ رِدَائِي فوقَ رَأسِيَ قاعـداً

وقال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْت:

يعتري المعتَفين فضلُ ندَاكا

 

نَهَراً جَارِياً وبيتـاً عِـلـيّاً

لم تعلِّلهمُ بلَقْطِ حَصـاكَـا

 

في تراخ من المكارمِ جَزْلٍ

وقال الآخر، وهو يصِف امرأةً قُتِل زوجُها، فهي محزونة تلقط الحصى:

على أمِّ أحوى المُقْلَتَـين خَـذُولِ

 

وبيضاءَ مكسال كأنَّ وشـاحَـهـا

مع الصُّبح أو في جُنحِ كلِّ أصيلِ

 

عَقَلت لها منْ زوجَها عَدَدَ الحصى

يقول: لم أُعْطِِهَا عقْلاً عن زوجها، ولم أُورثها إلاّ الهمَّ الذي دعاها إلى لقط الحصى، يخبر أنَّه لمنِعَتِه، لا يُوصَل منه إلى عقلٍ ولا قَوَد.

أقوال الشعراء في الخط

ومّما قالوا في الخطّ، ما أنشدنا هشامُ بن محمد بن السائب الكلبي قال: قال المقنَّع الكنديُّ في قصيدةٍ له مدح فيها الوليدَ بنَ يزيد:

بِمداده، وأسَدَّ مـن أقـلامـهِ

 

كالخطِّ في كُتُبِ الغلام أجـادَه

مُستَحفِظٌ للعلم من عـلاّمِـه

 

قلمٌ كخُرطوم الحمـامةِ مـائلٌ

لبيانِها بالنَّقْط مـن أرسـامـهِ

 

يَسم الحروفَ إذا يشاءُ بناءَهـا

حتى تغيَّرَ لونُها بسُـخـامِـه

 

مِن صُوفةٍ نَفث المداد سُخامـه

كقُلاَمة الأُظْفُورِ من قلاّمِـه

 

يَحْفَى فيُقْصَمُ من شَعيرة أنفِـه

سُقِيَ المدادَ، فزاد في تَلآمِـه

 

وبأنفه شَقٌّ تلاءَم فـاسـتَـوى

نطق اللسانُ به على استعجامِه

 

مُسْتعجِمٌ وهو الفصِيحُ بكلِّ مـا

تبيانُ ما يَتلُونَ من تَرجَـامِـه

 

وله تراجِمةٌ بألـسـنةٍ لـهـمْ

ما إن يبوحُ به على استكتامِه

 

ما خطَّ من شيء به كـتّـابـه

ميم معلَّقةٌ بـأسـفـلِ لامِـه

 

وهجاؤه قاف ولام بـعـدهـا

ثم قال:

وجهَ المقنَّع من وراءِ لِثامِـه

 

قالتْ لجارتها الغـزَيِّلُ إذ رأت

فالعينُ تُنكره من ادْهِيمـامِـه

 

قد كان أبيضَ فاعـتـراه أدْمَةٌ

سُرُحِ اليدينِ ومن بُويزِل عامِه

 

كم من بُويزِل عامِها مهـرّية

وكذاكَ ذاكَ برَحلِهِ، وزِمامـه

 

وَهَبَ الوليدُ برَحْلها وزمامهـا

لبن اللَّقُوحِ فعادَ مِلءَ حِزامِهِ

 

وقويرحٍ عـتـد أُعِـدَّ لِـنِـيِّهِ

وكذاك ذاك بسَرجه، ولِجَامـه

 

وهبَ الوليدُ بسَرْجها ولجامهـا

كالسيفِ أُرهِف حدُّه بحُسامه

 

أهدَى المقنّع للوَليدِ قـصـيدةً

وله الخِلافةُ بعد موتِ هشامِه

 

وله المآثرُ في قريشٍ كلِّـهـا

وقال الحسن بن جَماعةَ الجُذامِيُّ في الخطِّ:

أصمُّ الصدى مُحرورِفُ السِّنِّ طائعُ

 

إليكَ بِسِرِّي بَـاتَ يُرقِـلُ عـالـمٌ

لسانٌ ولا أُذْنٌ بهـا هُـوَ سـامـعُ

 

بَصيرٌ بما يُوحَـى إلـيه ومـا لَـهُ

لديه، إذا ما حَثْحَثَتْـهُ الأصـابـعُ

 

كأَنَّ ضميرَ القلـبِ بـاح بِـسـرِّه

ولا مِنْ ضُلوعٍ صفَّقتها الأضالِـعُ

 

له رِيقةٌ من غـير فـرثٍ تـمـدُّه

وقال الطائيُّ، يمدح محمَّدَ بن عبدِ الملك الزَّيات:

 

أعنَّتُها مُذْ راسلَـتـك الـرسـائل

 

وما برِحتْ صُوراً إليكَ نـوازعـاً

 

يُصَابُ من الأمرِ الكُلَى والمفاصلُ

 

لكَ القلمُ الأعلى الذي بشـبـاتـه

 

لما احتفلت للمُلْكِ تلك المحـافـلُ

 

لك الخَلواتُ اللاءِ لولا نـجـيُّهـا

وأَرْيُ الجَنَى اشتارَتْه أىدٍ عَـواسِـلُ

 

لُعابُ الأفاعي القـاتـلاتِ لُـعـابُـه

 

بآثارِها في الشرقِ والغـرب وابـلُ

 

له رِيقَةٌ طـلٌّ ولـكـنَّ وقـعَـهــا

 

وأعجمُ إن خاطبـتَـه وهـو راجِـلُ

 

فصيحٌ إذا استنطقْتَـه وهـو راكـبٌ

 

عليه شِعابُ الفكرِ وهـي حَـوافِـلُ

 

إذا ما امتطى الخمسَ اللِّطَافَ وأُفرغت

 

لنَجواه تقويضَ الخيامِ الـجَـحـافـلُ

 

أطاعَتْه أطرافُ القَنـا وتـقـوَّضَـتْ

 

أعاِليه في القِرطاس وهي أسـافـلُ

 

إذا استغزر الذهن الجلِيّ وأقـبـلـتْ

 

ثلاثَ نواحِـيه الـثـلاثُ الأنـامِـلُ

 

وقد رفدته الخِـنْـصَـران وسـدَّدت

 

ضنى وسميناً خَطْبُه وهـو نـاحـلُ

 

رأيتَ جليلاً شأنُـهُ وهـو مُـرْهَـفٌ

 

فدانٍ وأمَّا الحـكـمُ فـيه فـعـادلُ

 

أرى ابنَ أبي مـروانَ أمَّـا لِـقـاؤُه

 








وقد ذكر البُحتُريُّ في كلمةٍ له، بعض كهولِ العسكر، ومن أَنبَل أبناء كتّابهم الجِلّة فقال:

برقَت مصابيحُ الدُّجَى في كتبه

 

وإذا دجَتْ أقلامُه ثم انتـحَـتْ

الكتابات القديمة

وكانوا يجعلون الكتاب حفراً في الصخور، ونقشاً في الحجارة، وخلقة مُرَكَّبةً في البُنْيان، فربَّما كان الكتابُ هو الناتئ، وربّما كان الكتابُ هو الحفر، إذا كان تاريخاً لأمر جَسيم، أو عهداً لأمرٍ عظيم، أو مَوعظةً يُرتَجى نفعُها، أو إحياءَ شرفٍ يريدون تخليد ذكره، أو تطويل مدته، كما كتبوا على قُبَّةُ غُمْدَان، وعلى باب القَيرُوان، وعلى باب سَمَرْقَند، وعلى عمود مأرِب، وعلى ركن المشقَّر، وعلى الأبلَق الْفَرْد، وعلى باب الرُّها، يعمِدُون إلى الأماكن المشهورة، والمواضع المذكورة، فيضعون الخطَّ في أبعدِ المواضع من الدُّثور، وأمنَعِها من الدروس، وأجدرَ أَنْ يراها من مرَّ بها، ولا تُنسى على وجه الدهر.

فضل الكتابة وتسجيل المعاهدات والمحالفات

وأقول: لولا الخطوطُ لبطَلت العهودُ والشروطُ والسِّجِلاَّتُ والصِّكاك، وكلُّ إقطاعٍ، وكلُّ إنفاق، وكلُّ أمان، وكلّ عهدٍ وعَقْدٍ، وكلُّ جِوارٍ وحِلف، ولتعظيمِ ذلك، والثقة به والاستنادِ إليه، كانوا يَدْعُونَ في الجاهليَّةِ مَنْ يكتبُ لهم ذكرَ الحِلْف والهُدْنة، تعظيماً للأمر، وتبعيداً من النسيان، ولذلك قال الحارثُ بن حِلِّزة، في شأنِ بكرٍ وتغلب:

دِّمَ فيه العهـودُ والـكـفـلاءُ

 

واذكرُوا حِلْفَ ذِي المَجَاز وما قُ

قُض ما في المَهارِقِ الأهـواءُ

 

حَذَرَ الجَورِ والتَّعـدِّي وهـلْ يَنْ

والمهارق، ليس يراد بها الصُّحُفُ والكتب، ولا يقال للكتب مَهارقُ حتَّى تكونَ كتبَ دينٍ، أو كتبَ عهودٍ، ومِيثاقٍ، وأمان.

الرقوم والخطوط

وليس بين الرُّقومِ والخطوط فَرق، ولولا الرقوم لهلكَ أصحابُ البَزِّ والغُزول، وأصحابُ الساجِ وعامَّةِ المتاجر، وليسَ بينَ الوُسومِ التي تكون على الحافر كلِّه والخفِّ كلِّه والظِّلفِ كلِّه، وبين الرقومِ فرق، ولا بينَ العقودِ والرقوم فرق، ولا بين الخطوط والرقوم كلُّها فرق، وكلُّها خطوط، وكلها كتابٌ، أو في معنى الخطِّ والكتاب، ولا بين الحروف المجموعةِ والمصورَّةِ من الصوت المقطَّع في الهواء، ومن الحروف المجموعة المصوّرة من السواد في القرطاس فرق  واللسان: يصنَع في جَوبة الفمِ وهوائه الذي في جوفِ الفم وفي خارجه، وفي لَهاته، وباطنِ أسنانه، مثلَ ما يصنع القلمُ في المدادِ واللِّيقة والهواءِ والقرطاسِ، وكلُّها صورٌ وعلاماتٌ وخَلْقٌ مواثل، ودَلالات، فيعرف منها ما كانَ في تلك الصُّوَر لكثرةِ تَردادها على الأسماع، ويعرف منها ما كان مصوَّراً من تلك الألوان لطول تكرارها على الأبصار، كما استدلُّوا بالضَّحك على السرور، وبالبكاء على الألم، وعلى مثل ذلكَ عرفوا معاني الصوتِ، وضروبَ صورِ الإشارات، وصورِ جميع الهيئات، وكما عرف المجنون لقَبه، والكلبَ اسمَه، وعلى مثل ذلك فهم الصبيُّ الزجرَ والإغراء، ووعى المجنون الوعيد والتهدُّد، وبمثل ذلك اشتدّ حُضْرُ الدابّة مع رفع الصوت، حتّى إذا رأى سائسَه حمحم، وإذا رأى الحمامُ القيِّمَ عليه انحطَّ للقطِ الحبّ، قبل أن يُلِقيَ له ما يلقطه، ولولا الوسومُ ونُقُوش الخواتم، لدخل على الأموالِ الخللُ الكثير، وعلى خزائنِ الناس الضررُ الشديد.

الخط والحضارة

وليس في الأرض أمّةٌ بها طِرْق أَوْ لها مُسْكَة، ولا جيلٌ لهم قبضٌ وبسْط، إلاّ ولهم خطّ، فأمّا أصحاب الملك والمملكة، والسلطانِ والجِباية، والدِّيانة والعبادة، فهناك الكتابُ المتقَن، والحساب المحكَم، ولا يخرج الخطُّ من الجزْم والمسنَد المنمنم والسمون كيف كان، قال ذلك الهيثمُ بن عدي، وابن الكلبي.
تخليد الأمم لمآثرها قال: فكلُّ أمّةٍ تعتمدُ في استبقاءِ مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضربٍ من الضروب، وشكل من الأشكال.
تخليد العرب لمآثرها وكانت العربُ في جاهليَّتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفَّى، وكان ذلك هو ديوانها، وعلى أنّ الشعرَ يُفيد فضيلةَ البيانِ، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلةَ المأثُرة، على السيِّد المرغوبِ إليه، والممدوحِ به، وذهبت العجَم عَلَى أن تقيِّد مآثرَها بالبُنيان، فبنوا مثلَ كرد بيداد، وبنى أرْدشير بيضاء إصطَخْر، وبيضاء المدائن، والحَضْر، والمدن والحصون، والقناطر والجسور، والنواويس، قال: ثمَّ إنّ العربَ أحبَّتْ أن تشارك العجمَ في البناءِ، وتنفرد بالشعر، فبنوا غُمدان، وكعبةَ نَجْران، وقصرَ مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب والأبلق الفرد، وفيه وفي مارد، قالوا تمرَّدَ مارِدٌ وعزَّ الأبلق وغيرَ ذلك من البُنيان، قال: ولذلك لم تكن الفرسُ تبيح شريفَ البُنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء، إلاّ لأهل البيوتات، كصنيعهم في النواويس والحمَّامات والقِباب الخضر، والشُّرَف على حيطان الدار، وكالعَقْد على الدِّهليز وما أشبهَ ذلكَ ، فقال بعض من حضر: كُتُبُ الحكماءِ وَما دَوَّنت العلماءُ من صنوف البلاغات والصِّناعات، والآداب والأرفاق، من القرون السابقة والأمم الخالية، ومن له بقيَّة ومن لا بقيّة له، أبقى ذكراً وأرفعُ قدراً وأكثر ردّاً، لأنَّ الحكمةَ أنفعُ لمن ورثها، من جهة الانتفاع بها، وأحسنُ في الأحدوثة، لمن أحبَّ الذكر الجميل.
طمس الملوك والأمراء آثار من قبلهم والكتبُ بذلك أولى من بُنيان الحجارة وحِيطان المدَر؛ لأنَّ من شأن الملوك أن يطمِسوا على آثار مَن قبلَهمُ، وأن يُميتوا ذكرَ أعدائهم، فقد هدَموا بذلك السبب أكثرَ المدنِ وأكثرَ الحصون، كذلك كانوا أيَّامَ العجَم وأيَّامَ الجاهليّة، وعلى ذلك همْ في أيّام الإسلام، كما هدم عُثمانُ صومعةَ غُمدان، وكما هدمَ الآطامَ التي كانت بالمدينة، وكما هدم زيادٌ كلَّ قصر ومصنَع كان لابن عامر، وكما هدم أصحابُنا بناءَ مدن الشامات لبني مروان.

تاريخ الشعر العربي

وأما الشعرُ فحديثُ الميلاد، صغير السنِّ، أوّلُ من نَهَجَ سبيلَه، وسهَّل الطريقَ إليه: امرؤ القيس بن حُجْر، ومُهَلْهِل بنُ ربيعة، وكُتُبُ أرِسطاطاليسَ، ومعلِّمِه أفلاطون، ثم بَطْلَيموس، وديمقراطس، وفلان وفلان، قبلَ بدِءِ الشعر بالدهور قبلَ الدهور، والأحقاب قبلَ الأحقاب.
ويدلُّ على حداثةِ الشعر، قولُ امرئ القيس بن حُجْر:

 

ضيّعه الدُّخلُلُـون إذ غَـدَرُوا

 

إنَّ بني عوفٍ ابتَنَوا حـسـنـاً

 

ولم يَضِعْ بالمَغيب مَنْ نَصَرُوا

 

أدَّوا إلى جارهم خـفـارتـه

ولا اسـت عَـيرٍ يحـكـهـا الـثَّـفـــر

 

لا حِـمْـــيَريٌّ وفـــى ولا عُـــدَسٌ

 

 

 

لكن عُوَيرٌ وفَى بذمَّتِه لا قِصَر عابَهُ ولا عَوَرُ

 








فانظُرْ، كم كان عمرُ زُرارةَ وكم كان بين موت زُرارة ومولدِ النبي عليه الصلاة والسلام? فإذا استظهرنا الشعرَ، وجدنا له إلى أن جاء اللّه بالإسلام خمسين ومائةَ عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام.
قال: وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر.
قال: وجميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدين، والحكم في الصناعات، وإلى كلِّ ما أقام لهم المعاشَ وبوَّب لهم أبوابَ الفِطَن، وعرَّفهم وجوهَ المرَافق؛ حديثُهم كقديمهِم، وأسودُهم كأحمرِهم، وبعيدُهم كقريبهم؛ والحاجة إلى ذلك شاملَة لهم.

صعوبة ترجمة الشعر العربي

وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم ، التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم، وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها، فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر، من البُنيان والشعر.
ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها، ويؤدِّيَ الأمانة فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ، وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها، إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها، واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها، وتأويلاتِ مخارجِها ، ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه، فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق، وابن ناعمة، وابن قُرَّة، وابن فِهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثلَ أرِسطاطاليس? ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون?

قيمة الترجمة

ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة، في وزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين، علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها، وتعترضُ عليها، وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة، فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات، وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء.

ترجمة كتب الدين

هذا قولُنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه، حتىَّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد، ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى، ممَّا لا يجوز، وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز، وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ، والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة، وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر، ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم، وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب؛ وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح، وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال؛ وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك، وأيّ القولين أفحشُ: المُحال أم الكذب، وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع، والكذب أشنع؛ وحتَّى يعرف المثلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر، والمقصورِ والمبسوط والاختصار، وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام، وعاداتِ القوم، وأسبابَ تفاهمهِم، والذي ذكرنا قليلٌ من كثير، ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين، والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة، والفلسفةِ والكَيْمِياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم.
وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال، وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل? وما علْمه بالأخبار النجوميّة? وما علمه بالحدود الخفيّة? وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب? وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات? وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة، ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً، وكالخيط الممدود، وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً، ومرتَّباً مفصَّلاً، من معلِّمٍ رفيقٍ، ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام، وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم?! ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة، ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز، ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين، وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ، ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثمّ لا ينقص منه؛ ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته.

مشقة تصحيح الكتب

ولربَّما أراد مؤلِّف الكتاب أن يصلِح تصحيفاً، أو كلمةً ساقطة، فيكون إنشاء عشرِ ورقاتِ من حرِّ اللفظ وشريفِ المعاني، أيسَرَ عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يردَّه إلى موضعه من اتِّصال الكلام ، فكيف يُطيق ذلك المعرض المستأجَر، والحكيمُ نفسهُ قد أعجزه هذا الباب وأعجب من ذلك أنَّه يأخذ بأمرَين: قد أصلحَ الفاسدَ وزاد الصالحَ صَلاحاً، ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخةً لإنسان آخَرَ، فيسير فيه الورَّاقُ الثاني سيرَةَ الوَرَّاقَ الأوَّل؛ ولا يزال الكتابُ تتداوله الأيدي الجانية، والأعْرَاض المفسِدة، حتَّى يصير غَلَطاً صِرفاً، وكذِباً مصَمتاً، فما ظنُّكم بكتابٍ تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخُطَّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله، كتابٍ متقادِم الميلاد، دُهْرِيّ الصنعة.

بين أنصار الكتب وأنصار الشعر

قالوا: فكيف تكون هذه الكتبُ أنفعَ لأهلها من الشعر المقفَّى?  قال الآخر: إذا كان الأمرُ على ما قلتم، والشأنُ على ما نزَّلتم، أليس معلوماً أَنَّ شيئاً هذه بقيَّتُهُ وفضلتُه وسُؤرهُ وصُبَابته، وهذا مظهرُ حاله على شدَّة الضيم، وثبات قوته على ذلك الفسادِ وتداوُلِ النقص، حريٌّ بالتعظيم، وحقيقٌ بالتفضيلِ على البنيان، والتقديمِ على شعرٍ إن هو حُوِّل تهافَتَ، ونفعُه مقصورُ على أهله، وهو يُعدُّ من الأدب المقصور، وليسَ بالمبسوط، ومن المنافع الاصطلاحيَّة وليست بحقيقة بيِّنة ، وكلُّ شيءٍ في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات، فهي موجودات في هذه الكتب دونَ الأشعار، وهاهنا كتبٌ هي بينَنَا وبينكم، مثل كتاب أُقليدِس، ومثل كتاب جالينوس، ومثل المجسْطي، مّما تولاّه الحَجّاج، وكتبٌ كثيرةٌ لا تحصى فيها بلاغٌ للناس، وإن كانت مختلفة ومنقوصة مظلومة ومغَيَّرة، فالباقي كافٍ شاف، والغائب منها كان تكميلاً لتسلُّط الطبائع الكاملة.
فأما فضيلة الشعر فعلى ما حكينا، ومنتهى نفعِه إلى حيث انتهى بنا القول.
وحسُبُك ما في أيدي الناس من كتب الحساب، والطبّ، والمنطق، والهندسة، ومعرفةِ اللُّحون، والفِلاحة، والتِّجارة، وأبواب الأصباغ، والعِطر، والأطعمة، والآلات، وهم أتَوكم بالحكمة، وبالمنفعة التي في الحمَّامات وفي الأصطرلابات والقَرِسطونات وآلات معرفة الساعات، وصنعة الزجاج والفُسَيفِساء، والأسرنج والزنجفور واللازَوَرد والأشربة، والأنْبَجَات، والأيارجات ولكم المينا، والنشادر والشَّبَه وتعليق الحيطان والأساطين، وردُّ ما مال منها إلى التقويم، ولهم صبُّ الزردج، واستخراج النَّشَاسْتَج، وتعليق الخَيش، واتِّخاذ الجمَّازات، وعمل الحَرَّاقات، واستخراج شراب الداذِيّ وعمل الدّبابات.

ما ابتدعه الحجاج من السفن والمحامل

وكان الحجَّاجُ أوّلَ مَن أجرى في البحر السفن المقيَّرة المسمَّرة غيرَ المخرَّزة، والمدهونة والمسطّحة، وغيرَ ذواتِ الجؤجؤ، وكان أوَّلَ من عمِل المحامل، ولذا قال بعضُ رُجَّاز الأكرياء:

أخزاَهُ ربِّي عاجلاً وآجِلا

 

أوَّل خَلْقٍ عَمِلَ المحامِلا

وقال آخر:

مَحَاملٌ لِقدِّها نَـقِـيضُ

 

شَيَّبَ أصداغِي فهُنَّ بيضُ

وقال آخر:

مَحَامِلٌ فيها رجال قبَّـضُ

 

شيَّب أصداغِي فهن بـيَّضُ

 

 

لو يتكون سنة لم يغرضوا

وقال القوم: لولا ما عرَّفوكم من أبواب الحُمْلانات لم تعرفوا صنعة الشَبَه، ولولا غَضارُ الصين على وجه الأرض لم تعرفوا الغَضار، على أَنَّ الذي عَمِلْتُم ظاهرٌ فيه التوليد، منقوصُ المنفعة عن تمام الصِّينيّ، وعلى أن الشَّبَهَ لم تستخرجوه، وإنَّما ذلك من الأُمور التي وقعت اتّفاقاً، لسقوط الناطف من يد الأجير في الصُّفْر الذائب، فَخِفتم إفساده، فلَمَّا رأيتم ما أعطاه من اللون عَمِلْتم في الزيادة والنقصان، وكذلك جميعُ ما تهيَّأ لكم، ولستم تخرُجون في ذلك من أحدِ أمرَين: إمَّا أن تكونوا استعملتم الاشتقاق من علمِ ما أورثوكم، وإمّا أن يكون ذلك تهيَّأ لكم من طريق الاتِّفاق!

الجمازات

وقد علمتم أَنَّ أَوَّل شأن الجَمَّازاتِ، أنَّ أُمَّ جعفر أمرت الرحَّالِينَ أن يَزيدُوا في سيرِ النجيبة التي كانت عليها، وخافت فوتَ الرشيد، فلما حُرِّكت مشَت ضروباً من المشي، وصنوفاً من السير، فجَمزت في خلال ذلك، ووافقت امرأةً تحسن الاختيار، وتفهم الأمور، فوجدت لذلك الجمزِ راحةً، ومع الراحة لذَّة، فأمرتْهم أن يسيروا بها في تلك السِّيرة، فما زالوا يقرِّبون ويبعِّدون، ويخطئون ويصيبون، وهي في كلِّ ذلك تصوِّبهم وتخطئُهم على قدر ما عرفَتْ، حتى شَدَوا من معرفة ذلك ما شَدَوا، ثمَّ إنّها فرّغتهم لإتمام ذلك حتى تمَّ واستوى، وكذلك لا يخلو جميعُ أمركم، من أن يكون اتِّفاقاً، أو اتِّباعَ أثر.

الترغيب في اصطناع الكتاب

ثم رجع بنا القولُ إلى الترغيب في اصطناع الكتاب، والاحتجاج على مَنْ زَرَى على واضِع الكتب، فأقول: إنّ من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومَرَاشدِهم، ومضارِّهم ومنافِعهم، أن يُحتَمَل ثِقْلُ مؤونتهم في تقويمهم، وأن يُتَوَخَّى إرشادُهم وإن جهِلوا فضلَ ما يُسْدَى إليهم، فلن يُصانَ العلمُ بمثل بذْله، ولن تُستَبقى النعمةُ فيه بمثل نشره، على أَنَّ قراءة الكتبِ أبلغُ في إرشادهم من تلاقيهم؛ إذ كان مع التّلاقي يشتدُّ التصنُّع، ويكثُر التظالُم، وتُفرط العصبيّة، وتقوَى الحَمِيَّة، وعند المواجَهةِ والمقابلَة، يشتدُّ حبُّ الغلَبة، وشهوةُ المباهاةِ والرياسة، مع الاستحياء من الرجوع، والأنفِة من الخضوع؛ وعن جميعِ ذلك تحدُث الضغائن، ويظهرُ التباين، وإذا كانت القلوبُ على هذه الصِّفِة وعلى هذه الهيئة، امتنعتْ من التعرُّف، وعمِيت عن مواضع الدلالة، وليست في الكتب عِلَّةٌ تمنَع من دَرْك البُغْية، وإصابة الحجَّة، لأنَّ المتوحِّد بِدَرْسها، والمنفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسَه ولا يغالب عقلَه، وقد عَدِم مَنْ له يُباهي وَمِنْ أجله يغالب.

الكتاب قد يفضل صاحبه

والكتابُ قد يفضلُ صاحبَه، ويتقدَّم مؤلِّفَه، ويرجِّح قلمَه على لسانِه بأمور: منها أنّ الكتابَ يُقرأ بكلِّ مكان، ويظهرُ ما فيه على كلِّ لسان، ويُوجَد مع كلِّ زمان، على تفاوتِ ما بينَ الأعصار، وتباعُدِ ما بين الأمصار، وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع في المسألة والجواب، ومناقلةُ اللسان وهدايته لا تجوزان مجلسَ صاحبه، ومبلغَ صوتِه، وقد يذهب الحكيمُ وتبقى كتبُه، ويذهب العقلُ ويبقى أثره، ولولا ما أودعت لنا الأوائلُ في كتبها، وخلَّدت من عجيبِ حكمتها، ودوَّنت من أنواعِ سِيَرِها، حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنَّا، وفتحنا بها كلَّ مستغلق كان علينا، فجمَعنا إلى قليلنا كثيرَهم، وأدركنْا ما لم نكن ندركُه إلاّ بهم، لما حَسُنَ حظُّنا من الحكمة، ولضعُف سبَبُنَا إلى المعرفة، ولو لجأنا إلى قدر قوَّتِنا، ومبلغ خواطرِنا، ومنتهى تجارِبنا لما تدركه حواسُّنا، وتشاهدهُ نفوسنا، لقلَّت المعرفةُ، وسَقَطت الهِمّة، وارتفعت العزيمة، وعاد الرأيُ عقيماً، والخاطِر فاسداً، ولَكلَّ الحدُّ وتبلَّد العقل.

أفضل الكتب

وأكثرُ مِنْ كتبهم نفعاً، وأشرف منها خَطَراً، وأحسنُ موقعاً، كتُبُ اللّه تعالى، فيها الهُدَى والرحمة، والإخبارُ عن كلِّ حكمة، وتعرِيفُ كلِّ سيِّئةٍ وحسَنة، ومازالت كتبُ اللّه تعالى في الألواح والصُّحُف، والمهارِق والمصاحف، وقال اللّه عزَّ وجلَّ "المَ ذلكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ"، وقال: "مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ"، ويقال لأهل التَّوراةِ والإنْجيل: أهل الكِتاب.

مواصلة السير في خدمة العلم

وينبغي أن يكونَ سبيلُنا لمَنَْ بعدَنا، كسبيلِ مَن كان قبلنا فينا، على أنَّا وقد وجدْنا من العبرة أكثرَ ممّا وجدوا، كما أنَّ مَن بعدَنا يجدُ من العِبرة أكثرَ ممّا وجدْنا، فما ينتظر العالمُ بإظهار ما عندَه، وما يمنَع الناصرَ للحقِّ من القيامِ بما يلزمُه، وقد أمكن القولُ وصلحَ الدهرُ وخوى نجم التَّقِيَّة، وهَبَّتْ رِيحُ العلماء، وكسَدَ العِيُّ والجهل، وقامت سوقُ البيان والعلم ?! وليس يجدُ الإنسانُ في كل حينٍ إنساناً يدَرِّبه، ومقوِّماً يثقِّفه، والصبرُ على إفهام الريِّض شديد، وصرفُ النفسِ عن مغالبة العالم أشدُّ منه، والمتعلِّم يجدُ في كلِّ مكانٍ الكتابَ عتيداً، وبما يحتاج إليه قائماً وما أكثرَ مَن فرَّط في التعليم أيَام خُمولِ ذكره، وأيَّام حَداثةِ سنِّه ولولا جِيادُ الكتبِ وحسَنُها، ومُبَيَّنُها ومختَصرَها، لَمَا تحرَّكت هممُ هؤلاء لطلب العلم، ونزعت إلى حبِّ الأدب، وأنِفَتْ من حال الجهل، وأَن تكون في غِمار الحَشْو، ولَدخل على هؤلاء من الخَللِ والمضرَّة، ومن الجهل وسوء الحال، وما عسى ألا يمكن الإخبارُ عن مقداره، إلاّ بالكلام الكثير، ولذلك قال عمرُ رضي اللّه تعالى عنه: "تفقَّهوا قبلَ أن تسودوا"

كتب أبي حنيفة

وقد تجدُ الرجلَ يطلبُ الآثارَ وتأويلَ القرآن، ويجالس الفقهاءَ خمسين عاماً، وهو لا يُعدُّ فقيهاً، ولا يُجعَل قاضياً، فما هو إلاّ أن ينظرَ في كتب أبي حنيفة، وأشباه أبي حنيفة، ويحفَظَ كتبَ الشروط في مقدارِ سنةٍ أو سنتين، حتى تمرَّ ببابه فتظن أنه من باب بعض العُمَّال، وبالحَرَا ألاّ يمرَّ عليه من الأيّام إلاَّ اليسير، حتَّى يصير حاكماً على مصرٍ من الأمصار، أو بلدٍ من البلدان، وجوب العناية بتنقيح المؤلفات وينبغي لمن كَتبَ كتاباً ألا يكتُبَه إلاّ على أَنَّ النَّاس كلَّهم له أعداء، وكلُّهم عالمٌ بالأمور، وكلُّهم متفرِّغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفْلاً، ولا يرضى بالرأي الفطير، فإنَّ لابتداءِ الكتابِ فتنةً وعُجُباً، فإذا سكنت الطبيعةُ وهدأت الحركة، وتراجَعَتِ الأخلاطٍُ، وعادت النفسُ وافرة، أعاد النَّظر فيه، فَيَتَوَقَّفُ عند فصوله توقُّفَ من يكونُ وزنُ طمَعُه في السلامةَ أنقَصَ من وزَنِ خوفِه من العيب، ويتفهَّم معنى قول الشاعر:

حتَّى يَلِجَّ بهم عِيٌّ وإكثـارُ

 

إنَّ الحديثَ تَغُرُّ القومَ خلوتُه

ويقفُ عند قولهم في المثل: كلُّ مُجْرٍ في الخَلاءِ يُسَرُّ فيخاف أن يعتريه ما اعترى مَنْ أحرى فرسه وحدَه، أو خلا بعلمه عند فقدِ خصومه، وأهل المنزلة من أهل صناعته.

تداعي المعاني في التأليف

وليعلم أنَّ صاحبَ القلم يعتريه ما يعتري المؤدِّبَ عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يَعزمِ على خمسةِ أسواط فيضرب مائة? لأنَّه ابتدأ الضربَ وهو ساكنُ الطباع، فأراه السكونُ أنَّ الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرَّك دمُه، فأشاع فيه الحرارةَ فزادَ في غضبه، فأراه الغضبُ أنّ الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم؛ فما أكثرَ من يبتدئ الكتابَ وهو يُريد مقدارَ سطرين، فيكتب عشرة والحفظُ مع الإقلال أمكَن، وهو مع الإكثار أبعَد.

مقايسة بين الولد والكتاب

واعلم أَنَّ العاقلَ إنْ لم يكن بالمتتبِّع، فكثيراً ما يعتريه من ولده، أَنْ يحسُنَ في عينه منه المقبَّحُ في عين غيره، فليعلمْ أنَّ لفظه أقربُ نسباً منه من ابنه، وحركَتَه أمسُّ به رِحْماً من ولده، لأَنَّ حركتَه شيءٌ أحدثَه من نفسه وبذاتِهِ، ومن عين جوهرِه فَصَلت، ومن نفسِه كانت؛ وإنَّما الولدُ كالمخْطَةِ يتمخَّطها، والنُّخَامةِ يقذِفها، ولا سواءٌ إخراجُك مِنْ جزئك شيئاً لم يكن منك، وإظهارُك حركةً لم تكن حتَّى كانت منك، ولذلك تجِدُ فتنةَ الرجُل بشِعرِه، وفتنتَه بكلامِه وكتبِه، فوقَ فتنتِه بجميعِ نعمته.

ما ينبغي أن تكون عليه لغة الكتب

وليس الكتابُ إلى شيءٍ أحوجَ منه إلى إفهام معانيه، حَتَّى لا يحتاجُ السامع لما فيه من الرويَّة، ويحتاجُ مِنَ اللفظ إلى مقدارٍ يرتفع به عَنْ ألفاظ السِّفْلَةِ والحَشْو، ويحطُّه من غريب الأعراب ووَحْشِيِّ الكلام، وليس له أَنْ يهذِّبَه جدّاً، وينقِّحَه ويصفِّيه ويروّقه، حتى لا ينطِقَ إلاّ بِلُبِّ اللُّبِّ، وباللفظ الذي قد حذف فُضُولَه، وأسقطَ زوائِده، حتِّى عاد خالصاً لا شَوْب فيه؛ فإنَّه إنّْ فعل ذلك، لم يُفْهَمْ عنه إلا بأن يجدِّد لهم إفهاماً مِرَاراً وتَكراراً، لأنَّ النَّاسَ كلَّهم قد تعوَّدوا المبسوطَ من الكلام، وصارت أفهامُهم لا تزيد على عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها، ألا تَرَى أنَّ كتاب المنطق الذي قد وُسم بهذا الاسم، لو قرأتَه على جميعِ خطباء الأمصار وبلغاءِ الأعراب، لما فهموا أكثرَه، وفي كتاب إقليدِسَ كلامٌ يدور، وهو عربيٌّ وقد صُفِّي، ولو سمِعه بعضُ الخطباء لما فهمه، ولا يمكن أن يفهِّمه من يريد تعليمه، لأنَّه يحتاج إلى أن يكون قد عرَف جهةَ الأمر، وتعوَّد اللفظ المنطقيَّ الذي استُخرِج من جميع الكلام.

قول صحار العبدي في الإيجاز

قال معاويةُ بن أبي سفيان، رضي اللّه عنهما، لصُحَارٍ العبدي: ما الإيجاز? قال: أَن تجيبَ فلا تبطئ، وتقولَ فلا تخطئ، قال معاوية: أو كذلك تقول قال صحار: أقِلْنِي يا أمير المؤمنين لا تخطئ ولا تبطئ. فلو أنَّ سائلاً سأَلك عن الإيجاز، فقلت: لا تخطئ ولا تبطئ، وبحضرتك خالد بنُ صفوان، لما عرَفَ بالبديهة وعندَ أَوَّل وهلة، أَنَّ قولَك لا تخطئ متضمِّنٌ بالقول، وقولَك لا تبطئ متضمِّن بالجواب، وهذا حديثٌ كما ترى آثروه ورَضُوه، ولو أن قائلاً قال لبعضنا: ما الإيجاز? لظننتُ أنّه يقول: الاختصار.

حقيقة الإيجاز

والإيجاز ليس يُعنَى به قلَّةُ عددِ الحروفِ واللفظ، وقد يكونُ البابُ من الكلام مَنْ أتى عليه فيما يسع بطن طُومارٍ فقد أوجز، وكذلك الإطالة، وإنَّمَا ينبغي له أن يحذف بقدرِ ما لا يكون سبباً لإغلاقه، ولا يردِّد وهو يَكتفي في الإفهام بشِطره، فَما فضَل عن المقدار فهو الخطل.
استغلاق كتب الأخفش وقلتُ لأَبي الحسن الأخفش: أنت أعلمُ الناسِ بالنَّحو، فلم لا تجعَلُ كتبَك مفهومة كلَّها، وما بالُنا نفهمُ بعضَها ولا نفهم أكثرها، وما بالُك تقدِّم بعضَ العويصِ وتؤخِّر بعض المفهوم? قال: أنا رجلٌ لم أضَعْ كتبي هذه للّه، وليست هي من كتبِ الدين، ولو وضعتُها هذا الوضع الذي تدعوني إليه، قلَّت حاجاتُهم إليَّ فيها، وإنَّما كانت غايتي المَنَالة، فأنا أضعُ بعضَها هذا الوضع المفهومَ ، لتدعوَهم حلاوةُ ما فهموا إلى التماس فهْم ما لم يفهموا، وإنَّما قد كسَبتُ في هذا التدبير، إذ كنتُ إلى التكسُّب ذهبت، ولكنْ ما بالُ إبراهيم النظَّامِ، وفلانٍ وفلان، يكتبون الكتبَ للّه بزعْمِهم، ثم يأخذُها مثلي في مواقفته، وحُسْنِ نظره، وشدَّةِ عنايته، ولا يفهمُ أكثرَها? وأقول: لو أنَّ يوسف السَّمْتيَّ، كتب هذه الشروطَ ، أيَّام جلسَ سَلمان بن ربيعة شهرين للقضاء، فلم يتقدَّم إليه رجُلان، والقلوب سليمةٌ والحقوقُ على أهِلها موفَّرة، لكان ذلك خطلاً ولغواً؛ ولو كتبَ في دهره شروطَ سَلمان، لكان ذلك غَرارةً ونقصاً، وجهلاً بالسياسةِ، وبما يصلحُ في كلِّ دهر.

مواضع الإسهاب

ووجدنا الناسَ إذا خطبُوا في صلحٍ بين العشائر أطالوا، وإذا أنشدوا الشعر بين السِّماطين في مديح الملوك أطالوا، وللإطالة موضعٌ وليس ذلك بخطَل، وللإقلال موضعٌ وليس ذلك من عَجْز.
ولولا أنَّي أتّكل على أنَّك لا تملُّ بابَ القولِ في البعير حتَّى تخرجَ إلى الفيل، وفي الذَّرَّة حتَّى تخرجَ إلى البعوضة، وفي العقربِ حتَّى تخرجَ إلى الحيّةَ، وفي الرجل حتَّى تخرجَ إلى المرأة، وفي الذِّبان والنحل حتى تخرج إلى الغِرْبان والعِقْبان، وفي الكلبِ حتَّى تخرجَ إلى الديك، وفي الذئب حتَّى تخرج إلى السبُع، وفي الظِّلفِ حتَّى تخرجَ إلى الحافر، وفي الحافر حتَّى تخرج إلى الخُفّ، وفي الخفِّ حتَّى تخرجَ إلى البُرْثُنِ، وفي البرْثُنِ حتَّى تخرج إلى المِخلَب، وكذلك القول في الطيرِ وعامَّةِ الأَصناف، لَرأيتُ أنَّ جملة الكتاب، وإنْ كثُر عددُ ورقِه، أَنَّ ذلك ليس مما يُمِلُّ، ويُعتَدُّ عليَّ فيه بالإطالة، لأنَّه وإن كان كتاباً واحداً فإنَّه كتبٌ كثيرة، وكلُّ مُصحَف منها فهو أمٌّ على حِدَة، فإن أرادَ قراءةَ الجميع لم يَطل عليه الباب الأوّل حتَّى يهجمَ على الثاني، ولا الثاني حتَّى يهجمَ على الثالث، فهو أبداً مستفيدٌ ومستَطْرِف، وبعضُه يكون جَماماً لبعض، ولا يزالُ نشاطُه زائداً، ومتى خرج منْ آي القرآن صارَ إلى الأَثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعِر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكمٍِ عقليّة، ومقاييس سِداد، ثم لا يترك هذا البابَ؛ ولعلَّه أن يكون أثقَلَ ، والملالُ إليه أسرع، حتَّى يفضِيَ به إلى مزحٍ وفكاهة، وإلى سُخْفٍ وخُرافة، ولست أراه سُخفاً، إذ كنتُ إنما استعملتُ سِيرة الحكماءِ، وآدابَ العلماء.
مخاطبة العرب وبني إسرائيل في القرآن الكريم ورأينا اللّه تبارك وتعالى، إذا خاطب العربَ والأَعْرَابَ، أخرجَ الكلامَ مُخْرَجَ الإشارة والوحي والحذف، وإذا خَاطَبَ بني إسرائيل أو حكَى عنهم، جعلَه مبسوطاً، وزاد في الكلام، فأصوبُ العمل اتِّباعُ آثار العلماء، والاحتذاءُ على مثالِ القدماء، والأَخذُ بما عليه الجماعة.
أقوال بعض الشعراء في صفة الكتب قال ابن يسير في صفِة الكتب، في كلمةٍ له:

 

في الأَرض منهمْ فَلم يُحْصِنِّيَ الهربُ

 

أقبلْتُ أهـرُب لا آلـو مُـبـاعـدةً

ولا النواويسُ فالماخورُ فالخَـرب

 

بقصر أوسٍ فَما والت خـنـادِقُـه

 

فِمن ورائي حثيثاً منهمُ الـطـلـبُ

 

فأَيُّما موئِلٍ منها اعتصـمـتُ بـه

 

فوتاً ولا هَرَباً، قرَّبت أحـتـجِـبُ

 

لمَّا رأىتُ بأني لستُ معجـزَهـم

 

جَارَ البراءة لا شكوَى ولاشَـغَـبُ

 

فصرتُ في البيت مسروراً بهم جَذِلاً

 

عن علمِ ما غاب عنِّي منهمُ الكتبُ

 

فرداً يحدِّثني الموتى وتنطِـقُ لـي

 

فليس لي في أنيسٍ غيرهـم أَرَبُ

 

هم مُؤْنِسون وأُلاَّف غَنِىتُ بـهـمْ

 

ولا عشيرهُمُ للسُّـوءِ مـرتَـقِـبُ

 

لِلّهِ من جَُلَـسَـاءٍ لا جَـلـيسـهـمُ

 

ولا يُلاقِيه منهمْ مَـنْـطِـقٌ ذَربُ

 

لا بادراتِ الأَذَى يخشى رفيقُـهـمُ

 

أُخْرَى الليالي على الأيَّام وانشعبـوا

 

أبقَوا لنَا حِكماً تبقى منـافِـعُـهَـا

 

إليه فهو قريبٌ مـن يَدِي كَـثَـبُ

 

فأيّمـا آدبٍ مـنـهـم مـددتُ يدي

 

إلى النبيِّ ثِقَـاتٌ خِـيرةٌ نُـجُـبُ

 

إن شئتُ من مُحكَم الآثارِ يرفعُـهـا

 

في الجاهليَّة أنبتْني بـه الـعـرب

 

أو شئتُ من عَرَبٍ علماً بـأوَّلِـهـم

 

تُنْبي وتُخْبرُ كـيف الـرأيُ والأَدبُ

 

أو شئتُ مِنْ سِيَرِ الأَملاكِ مِنْ عَجَمٍ

 

وقد مضَتْ دونهم من دَهِرِهم حِقَبُ

 

حتَّى كأنِّيَ قد شاهدتُ عصـرَهُـمُ

 

أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِـبُ

 

يا قائلاً قصُرَت في العلم نُـهْـيَتُـهُ

 

خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهـبـوا

 

إنَّ الأوائل قد بانوا بـعـلـمـهـم

 

نكون منه إذا ما مات نَكـتِـسـبُ

 

ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لـنـا أدبـاً

 








وقال أبو وَجْزة وهو يصف صحيفةً كُتب له فيها بِستِّينَ وَسْقاً:

ما حُمِّلَتْ حِمْلَها الأَدنى ولا السِّدَدا

 

راحَتْ بِسِتِّين وَسْقاً في حقيبـتـه

سِتِّينَ وَسقاً وما جابت به بـلـدَا

 

ما إنْ رأيتُ قلوصاً قبلها حَمَلـت

وقال الراجز:

تَبقى ويُفْنِي حادثُ الدَّهر الغَنَمْ

 

تَعَلَّمَنْ أنَّ الـدواةَ والـقـلَـمْ

يقول: كتابُكَ الذي تكتبُه عليَّ يبقى فتأخذني به، وتذهب غنَمي فيما يذهب.
نشر الأخبار في العراق ومَّما يدلُّ على نفع الكتاب، أنَّه لولا الكتابُ لم يجُزْ أن يعلمَ أهل الرَّقَّة والموصِل وَبغدادَ وواسط، ما كان بالبصرة، وما يحدث بالكوفِة في بياض يوم، حتَّى تكون الحادثةُ بالكوفِة غُدوة، فتعلمُ بها أهل البصرة قبلَ المساءَ.
وذلك مشهورٌ في الحمام الهدَّى، إذا جُعِلت بُرُداً، قال اللّه جلّ وعزَّ وذكر سليمانَ وملكه الذي لم يؤت أحداً مثله فقال "وَتَفَقَّدَ الطَّيرَ فَقَالَ مَا ليَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ" إلى قوله: "أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّي بِسلُطَانٍ مُبِينٍ" فلمْ يلبثْ أن قال الهُدْهُدُ: "جِئْتُكَ مِنْ سَبأ بِنَبَأ يَقِينٍ، إنِّي وَجَدْتُ امرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وأوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ" قال سليمان: "اذْهَبْ بكتابي هذا فَأَلْقِهْ إليَهِمْ" وقد كان عندَه مَن يبلِّغ الرسالة على تمامها. مِن عِفريت، ومِن بعض مَن عنده علمٌْ من الكتاب، فرأى أنَّ الكتابَ أبهى وأنبَلُ، وأكرمُ وأفخمُ من الرسالة عن ظهر لسان، وإن أحاطَ بجميعِ ما في الكتاب، وقالت مَلكةُ سَبَأ "يَا أَيُّها المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إليَّ كِتَابٌ كرِيمٌ"، فهذا مما يدل على قدْر اختيار الكتب استخدام الكتابة في أمور الدين والدنيا وقد يريد بعضُ الجِلَّةِ الكبارِ، وبعضُ الأُدباءِ والحكماءِ، أن يدعو بعضَ مَن يجري مَجْراه في سلطانٍ أوْ أدبٍ، إلى مأدُبةٍ أو نِدام، أو خُروج إلى متنزَّه، أو بعض ما يشبهُ ذلك، فلو شاءَ أن يبلِّغهُ الرسولُ إرادته ومعناه، لأصابَ من يُحسن الأَداء، ويصدُق في الإبلاغ، فيرى أنَّ الكتاب في ذلك أسرى وأنبَه وأبلغ. ولو شاءَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم ، ألاّ يكتبَ الكتبَ إلى كسرَى، وقَيْصَرَ، والنَّجَاشيِّ، والمقوقِس، وإلى ابني الجُلَنْدَى، وإلى العباهلة من حمير، وإلى هوذَة بن علي، وإلى الملوك والعظماء، والسادة النجباء، لفعل، ولوجد المبلِّغَ المعصوم من الخطأ والتبديل، ولكنّهُ عليه الصلاة والسلام، عِلم أنَّ الكتابَ أشبهُ بتلك الحال، وأليق بتلك المراتب، وأبلغُ في تعظيم ما حواه الكتاب.
ولو شاء اللّه أن يجعَل البشارات على الأَلسنة بالمرسلين، ولم يودعها الكتب لفعل، ولكنه تعالى وعزّ، علم أن ذلك أتمُّ وأكمل، وأجمع وأنبل.
وقد يكتب بعضُ من له مرتبةٌ في سلطان أو ديانة، إلى بعض من يشاكله، أو يجري مجراه، فلا يرضى بالكتاب حتَّى يخزمه ويختمه، وربَّما لم يرض بذلك حتى يُعَنْوِنه ويعظمه، قال اللّه جلَّ وعز: "أمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِماَ في صُحُفِ مُوسَى وإبْراهيمَ الَّذِي وَفَّى" فذكر صحف موسى الموجودة، وصحفَ إبراهيم البائدة المعدومة، ليعرف الناس مقدارَ النفع، والمصلحة في الكتب.
نظام التوريث عند فلاسفة اليونانية قالوا: وكانت فلاسفة اليونانية، تورث البنات العَين، وتورث البنين الدين: وكانت تصل العجز بالكفاية، والمؤونة بالكلفة، وكانت تقول: لا تورثوا الابنَ من المال، إلاّ ما يكونُ عوناً له على طلب المال، واغذُوه بحلاوة العلم، واطبَعوه على تعظيم الحكمة، ليصير جمْع العلم أغلبَ عليه من جمع المال، وليرى أنَّه العُدَّة والعتاد، وأنّه أكرم مستفاد.
وكانوا يقولون: لا تورِّثوا الابن من المال إلاّ ما يسد الخلة، ويكون له عوناً على درك الفضول، إن كان لا بُدَّ من الفضول؛ فإنَّه إن كان فاسداً زادت تلك الفضول في فساده، وإن كان صالحاً كان فِيما أورثتموه من العلم وبقّيتم له من الكفاية، ما يكسبه الحال، فإن الحال أفضل من المال، ولأَنَّ الماَل لم يَزَلْ تابعاً للحال، وقد لا يتبع الحال المال، وصاحب الفضول بعرَض فساد، وعلى شفا إضَاعة، مع تمام الحنكَة، واجتماع القوَّة، فما ظنُّكم بها مع غرارة الحداثة، وسوء الاعتبار، وقلة التجربة.
وكانوا يقولون: خير ميراثٍ ما أكسبك الأركان الأَربعة، وأحاط بأصول المنفعة، وعجَّل لك حلاوة المحبة، وبقّى لك الأحدوثة الحسنة، وأعطاك عاجل الخير وآجله، وظاهره وباطنه.
وليس يجمع ذلك إلاّ كرامُ الكتب النفيسة، المشتملة على ينابيع العلم، والجامعة لكنوز الأَدب، ومعرفِة الصناعات، وفوائدِ الأَرفاق، وحجج الدين الذي بصحته، وعند وضوح برهانه، تسكن النفوس، وتثلج الصدور، ويعود القلب معموراً، والعزُّ راسخاً، والأَصل فسيحاً.
وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه، وتداويه وتصلحه، وتهذبه، وتنفي الخَبَث عنه، وتفيدك العلم ، وتصادق بينك وبين الحجَّة، وتعوّدك الأَخذ بالثقة، وتجلب الحالَ، وتكسب المال.
وراثة الكتب ووراثة الكتب الشريفة، والأَبواب الرفيعة، منبهة للمورِّث، وكنز عند الوارث، إلا أنه كنز لا تجب فيه الزكاة، ولا حقُّ السلطان، وإذا كانت الكنوز جامدة، ينقصها ما أخذ منها، كان ذلك الكنز مائعاً يزيده ما أخذ منه، ولا يزال بها المورِّث مذكوراً في الحكماء ومنوّهاً باسمه في الأسماء، وإماماً متبوعاً وعَلماً منصوباً، فلا يزال الوارث محفوظاً، ومن أجله محبوباً ممنوعاً، ولا تزال تلك المحبَّة ناميةً، ما كانت تلك الفوائد قائمة، ولن تزال فوائدها موجودةً ما كانت الدار دار حاجة، ولن يزال من تعظيمها في القلوب أثر، ما كان من فوائدها على الناس أثر، وقالوا: من ورَّثته كتاباً، وأودعته علماً، فقد ورثته ما يُغِل ولا يَستَغِلّ، وقد ورثته الضيعة التي لا تحتاج إلى إثارة، ولا إلى سقي، ولا إلى إسجال بإيغار، ولا إلى شرط، ولا تحتاج إلى أكّار، ولا إلى أن تُثار، وليس عليها عُشر، ولا للسلطان عليها خَرْج، وسوَاء أفدته علماً أو ورثته آلة علم، وسواءٌ دفْعُك إليه الكفايةَ، أو ما يجلب الكفاية، وإنما تجري الأمور وتتصرف الأفعال على قدر الإمكان، فمن لم يقدر إلاّ على دفع السبب، ولم يجب عليه إحضار المسبَّب، فكتُب الآباء، تحبيب للأحياء، ومحي لذكر الموتى. وقالوا: ومتى كان الأديب جامعاً بارعاً، وكانت مواريثه كتباً بارعة، وآداباً جامعة، كان الولد أجدر أن يرى التعلُّم حظاً، وأجدر أن يسرع التعليمُ إليه، ويرى تركه خطأً، وأجدرَ أن يجري من الأدب على طريق قد أنهج له، ومنهاج قد وطئ له، وأجدرَ أن يسري إليه عِرقْ مَن نَجله، وسقي من غرسه، وأجدر أن يجعل بدل الطلب للكسْب، النظر في الكتب ، فلا يأتي عليه من الأيَّام مقدارُ الشغل بجمع الكتب، والاختلاف في سماع العلم، إلا وقد بلغ بالكفاية وغاية الحاجة، وإنَّما تُفسد الكفاية من له تمت آلاته، وتوافت إليه أسبابه، فأما الحدَث الغرير، والمنقوص الفقير. فخير مواريثه الكفاية إلى أن يبلغ التمام، ويكمل للطلب، فخير ميراثٍ وُرّث كتبٌ وعلم، وخير المورّثين من أورث ما يجمع ولا يفرِّق،، ويبصِّر ولا يُعمي، ويُعطي ولا يأخذ، ويجود بالكلِّ دون البعض، ويدع لك الكنزَ الذي ليس للسلطان فيه حقّ، والرِّكازَ الذي ليس للفقراء فيه نصيب، والنِّعمةَ التي ليس للحاسد فيها حيلة، ولا للُّصُوصِ فيها رغبة، وليس للخصم عليك فيه حجَّة، ولا على الجار فيه مَؤونة.
قول ديمقراط في تأليف كتب العلم وأما ديمقراط فإنه قال: ينبغي أن يعرف أنه لا بدَّ من أن يكون لكلِّ كتابٍ علمٍ وضعَه أحدٌ من الحكماء، ثمانيةُ أوجه: منها الهمَّة، والمنفعة، والنسبةُ، والصحَّةُ، والصِّنف، والتأليف، والإسناد، والتدبير، فَأَوَّلُها أن تكون لصاحبه هِمَّة، وأن يكون فيما وضع منفعة، وأن يكون له نسبة يُنْسَب إليها، وأن يكون صحيحاً، وأن يكون على صِنف من أصناف الكتب معروفاً به، وأن يكون مؤتلفاً من أجزاء خمسة، وأن يكون مسنداً إلى وجه من وجوه الحكمة، وأن يكون له تدبير موصوف.
فذُكِر أن أبقراط قد جمع هذه الثمانية الأوجه في هذا الكتاب، وهو كتابه الذي يسمى أفوريسموا تفسيره كتاب الفصول.
مقاولة في شأن الكلب وقولك: وما بلغَ من قدر الكلب مع لؤم أصله ، وخُبث طبعه، وسقوط قدره، ومهانة نفسه، ومع قلَّةِ خيره وكثرة شره، واجتماع الأمم كلِّها على استسقاطه، واستسفاله، ومع ضربهم المثل في ذلك كلِّه به، ومع حاله التي يعرف بها، ومن العجز عن صولة السِّباع واقتدارها، وعن تمنُّعها وتشرُّفها، وتوحُّشها وقلة إسماحها، وعن مسالمة البهائم وموادعتها، والتمكين من إقامة مصلحتها والانتفاع بها، إذ لم يكن في طبعها دفع السباع عن أنفسها، ولا الاحتيال لمعاشها، ولا المعرفة بالمواضع الحريزة من المواضع المخُوفة، ولأنَّ الكلب ليس بسبع تام، ولا بهيمة تامة، حتى كأنه من الخلْق المركَّب والطبائع الملفَّقة، والأخلاط المجتلبة، كالبغل المتلوِّن في أخلاقه، الكثير العيوب المتولِّدة عن مزاجه.
وشرّ الطبائع ما تجاذبته الأعراق المتضادَّة، والأخلاق المتفاوتة، والعناصر المتباعدة، كالراعبيِّ من الحمام، الذي ذهبت عنه هداية الحمام، وشكل هديره وسرعة طيرانه، وبطل عنه عمر الورَشان، وقوَّة جناحه وشدة عصبه، وحسنُ صوته، وشَحْو حلقه، وشكل لحونه، وشدَّة إطرابه، واحتماله لوقع البنادق وجرح المخالب، وفي الراعبي أنّه مُسرْوَل مثقل، وحدث له عِظَمُ بدن، وثقل وزن لم يكن لأبيه ولا لأمِّه.
وكذلك البغل، خرج من بين حيوانين يلدان حيواناً مثلهما، ويعيش نتاجُهما ويبقى بقاءَهما، وهو لا يعيش له ولد وليس بعقيم، ولا يبقى للبغلة ولد وليست بعاقر، فلو كان البغل عقيماً، والبغلة عاقراً، لكان ذلك أزيدَ في قوتهما، وأتمَّ لشدتهما، فمع البغل من الشّبق والنَّعظ ما ليس مع أبيه، ومع البغلة من السَّوَس، وطلب السفاد، ما ليس مع أمِّها، وذلك كلُّهُ قدح في القوَّة، ونقص في البنية، وخرج غرموله أعظم من غراميل أعمامه وأخواله، فترك شبههما، ونزع إلى شيء ليس له في الأرض أصل، وخرج أطول عمراً من أبويه، وأصبرَ على الأثقال من أبويه.
أو كابن المذكَّرة من النساء، والمؤنث من الرجال، فإنه يكون أخبث نتاجاً من البغل، وأفسد أعراقاً من السِّمع، وأكثر عيوباً من العِسبار، ومنْ كلّ خلقٍ خلق إذا تركب من ضدّ، ومن كل شجرة مُطَعَّمَةٍ بخلاف.
وليس يعترِي مثلُ ذلك الخِلاسيّ من الدجاج، ولا الورداني من الحمام.
وكلُّ ضعف دخل على الخلقة، وكل رقَّة عرضت للحيوان، فعلى قدر جنسه، وعلى وزن مقداره وتمكنه، يظهر العجزُ والعيب. وزعم الأصمعيُّ، أنَّه لم يسبق الحلبةَ فرسٌ أهضم قط.
وقال محمد بن سلاّم: لم يسبق الحلبة أبلق قط ولا بلقاء.
والهداية في الحمام، والقوَّة على بعد الغاية، إنما هي للمصْمَتَة من الخضر.
الشيات في الحيوان ضعف ونقص.
وزعموا أنَّ الشِّياتِ كلَّها ضعف ونقص والشِّيَةَ: كلُّ لون دخلِ على لون - وقال اللّه جلّ وعزّ: "إنَّه يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ولاَ تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فيهَا".
ابن المذكرة من المؤنث وزعم عثمان بن الحكم أنَّ ابن المذكرة من المؤنث، يأخذ أسوأ خصال أبيه، وأردأ خصال أمه، فتجتمع فيه عظام الدواهي، وأعيان المساوي، وأنَّه إذا خرج كذلك، لم ينجع فيه أدب، ولا يَطمع في علاجه طبيب، وأنَّه رأى في دور ثقيف، فتًى اجتمعتْ فيه هذه الخصال، فما كان في الأرض يومٌ، إلاَّ وهم يتحدثون عنه بشيءٍ، يصغُر في جنْبِه أكبرُ ذنبٍ كان يُنسَب إليه.
وزعمتَ أنَّ الكلب في ذلك كالخنثى، والذي هو لا ذكر ولا أنثى، أو كالخصي الذي لمَّا قُطع منه ما صار به الذَّكر فحلاً، خرجَ من حدِّ كمالِ الذكَر بفقدان الذكَر، ولم يكملُ لأن يصير أنثى، للغريزة الأصلية، وبقيّةِ الجوهريّة.
وزَعَمْتَ أنَّه يصير كالنبيذ الذي يفسده إفراطُ الحرّ، فيخرجه من حدِّ الخل، ولا يدخلهُ في حدِّ النبيذ.
وقال مرداس بن خذام:

فمالت بلُبِّ الكاهلِيِّ عِقـالِ

 

سَقَينا عِقالاً بالثَّـوِيّةِ شَـرْبةً

هي الخمرُ خَيَّلْنا لها بِخَـيالِ

 

فقُلتُ اصطبِحْها يا عِقالُ فإنَّما

فلم ينتعش منها ثلاثَ لـيالِ

 

رَمَيْتُ بأُمِّ الخلِّ حبَّةَ قلـبِـه

فجعل الخمر أُمَّ الخلّ قد يتولد عنها، وقد يتولّد عن الخل - إذ كان خمراً مرة - الخمرُ.
وقال سعيد بن وهب:

رَوْدَ الشَّبابِ قليلَ شَعْرِ العارض

 

هَلاَّ وأنت بماءِ وجهِك تُشْتَهَـى

ذهَبَتْ بملحك مثل كفِّ القابضِ

 

فالآن حين بدَتْ بخـدِّك لـحـية

بعدَ اللَّذاذة خَلَّ خمرٍ حـامـضِ

 

مثل السلافة عادَ خمرُ عصيرها

ويصير أيضاً كالشعر الوسط، والغناء الوسط، والنادرة الفاترة، التي لم تخرج من الحرِّ إلى البرد فتضحك السِّن، ولم تخرُج من البرد إلى الحر فتضحك السِّن.

ما يعتري الإنسان بعد الخصاء

وكيف ما كان قبل الخصاء

قالوا: كلُّ ذي ريح مُنتِنةٍ، وكُلُّ ذي دَفْرٍ وصُنَانٍ كريهِ المشَمَّةِ، كالنَّسر وما أشبهه، فإنَّه متى خُصي نقص نتنُه وذهبَ صُنانه، غيرَ الإنسان، فإنَّ الخصيَّ يكون أنتنَ، وصنانُه أحدَّ، ويعمُّ أيضاً خبْثُ العرقِ سائرَ جسدَه، حتى لَتُوجَد لأجسادهمْ رائحةٌ لا تكون لغيرهم، فهذا هذا.
وكلُّ شيءٍ من الحيوان يُخصَى فإنَّ عظمَه يدِقُّ، فإذا دقَّ عظمُه استرخَى لحمه، و تبرَّأ من عظمه، وعاد رَخْصاً رطْباً، بعد أن كان عَضِلاً صُلباً، والإنسان إذا خُصِيَ طال عظمُه وعرُض، فخالف أيضاً جميعَ الحيوان من هذا الوجه.
وتعرض للخصيان أيضاً طول أقدامٍ، واعوجاج في أصابع اليد، والتواءٌ في أصابع الرِّجْل، وذلك مِن أوَّلِ طعْنهم في السنِّ، وتعرِض لهم سرعة التغيُّر والتبدُّل، وانقلاب من حدِّ الرطوبة والبضاضة ومَلاسة الجلد، وصفاءِ اللون ورقَّته، وكثرةِ الماء وبريقه، إلى التكرُّش والكمود، وإلى التقبُّض والتخَدُّد، وإلى الهُزال، وسوء الحال، فهذا الباب يعرِض للخصيان، ويعرض أَيضاً لمعالجي النبات من الأكرة مِن أهل الزرع والنخل، لأنَّكَ ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوفَ تلمع في لونه، وكأنَّه مِرْآةٌ صينيَّة، وكأنه وَذيلة مجلوَّة، وكأنه جُمَّارَة رَطْبة، وكأنه قضيبُ فِضَّةٍ قد مسَّهُ ذهب، وكأن في وجناته الورد، ثم لا يلبثُ كذلك إلا نُسَيْئاتٍ يسيرةً، حتى يذهبَ ذلك ذَهاباً لا يعود، وإن كان ذا خِصبِ، وفي عيش رَغَد، وفي فراغ بالٍ، وقلَّةِ نصَب.

من طرائف عبد الأعلى القاصّ

وكان من طرائف ما يأتي به عبد الأعلى القاصّ، قوله في الخصي، وكان لغلبة السلامة عليه يُتوهَّم عليه الغفلة، وهو الذي ذكر الفقيرَ مرة في قصصه فقال: الفقير مرقته سُلْقة، ورداؤه عِلْقة، وجَرْدَقته فِلْقة، وسمكته شِلقَة، وإزاره خرقة. قالوا: ثمَّ ذكر الخَصيَّ فقال: إذا قُطِعت خُصيته، قَوِيت شَهوته وسخُنت مَعِدته، ولانَتْ جِلدتُه، وانجردت شَعْرته، واتَّسعت فَقْحته، وكثُرتْ دمعته.
وقالوا، الخصيُّ لا يصلَع كما لا تصلَع المرأة، وإذا قطع العضوُ الذي كان به فحلاً تامّاً، أخرجه ذلك من أكثرِ معاني الفحول وصفاتهم، وإذا أخرجه من ذلك الكمال، صيَّره كالبغل الذي ليس هو حماراً ولا فرساً، وتصيرُ طباعُه مقسومةً على طباعِ الذكر والأنثى، وربما لم يَخْلُص له الخلقُ ولم يَصْفُ، حتّى يصير كالخلق من أخلاق الرجال، أو يلحق بمثله من أخلاق النساء، ولكنَّه يقع ممزوجاً مركباً، فيخرج إلى أن يكون مذبذباً، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وربما خرجت النتيجة وما يولّده التركيب، عن مقدار معاني الأبوين، كما يجوزُ عمرُ البغْل عمرَ أبويه، وكذلك ما عددنا في صدر هذا الكلام.

طلب النسل

وقالوا: وللإنسان قوًى معروفةُ المِقدارِ، وشهواتٌ مصروفةٌ في وجوهِ حاجاتِ النفوس، مقسومةٌ عليها، لا يجوزُ تعطيلُها وتركُ استعمالِها ما كانت النفوسُ قائمةً بطبائعها ومِزاجاتها وحاجاتها، وبابُ المنكَح مِن أكبرِها، وأقواها، وأعمِّها.
ويدخل في باب المنكَح ما في طبائِعهم من طلبِ الولد، وهو بابٌ من أبوابهم عظيم؛ فمنهم من يطلبه للكثرة والنُّصرة، وللحاجة إلى العدد والقوَّة، ولذلك استلاطت العربُ الرجالَ، وأغضتْ على نسب المولود على فراش أبيه، وقد أحاط علمُه بأنَّه من الزوج الأوَّل، قال الأشهبُ بن رُمَيلة:

وأَغْن نفسَكَ عنَّا أيها الرجُلُ

 

قال الأقاربُ لا تغرُرْكَ كثرتُنا

والنَّبْعُ يَنْبُتُ قُضْباناً فيكتهـل

 

علَّ بَنِيَّ يشدُّ اللّهُ كثـرتَـهـم

وقال الآخَر:

أَفْلَحَ مَنْ كان لَهُ رِبْعِيُّونْ

 

إنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِـيُّون

يشكو كما ترى صِغَر البنين، وضعف الأسر.
وما أكثر ما يطلب الرجل الوَلدَ نفاسةً بماله على بني عمِّه، ولإشفاقِه من أن تليه القضاةُ وترتع فيه الأمناء، فيصيرَ مِلكاً للأولياء، ويقضيََ به القاضي الذِّمامَ ويصطنع به الرجال.
وربما همَّ الرجلُ بطلب الولد لبقاء الذكْر، وللرغبة في العقب، أو على جهة طلَبِ الثواب في مباهاة المشركين، والزيادةِ في عدد المسلمين، أو للكسب والكفاية، وللمدافعة والنُّصْرة، وللامتناع، وبقاء نوع الإنسان، ولما طبع اللّه تعالى تعالى بني آدم عليه، من حبِّ الذُّرِّيَّةِ وكثرةِ النسل، كما طبع اللّه تعالى الحمام والسنانير على ذلك، وإن كان إذا جاءه الولد زاد في هَمِّه ونصبه، وفي جُبْنِه وبخْله، وقد قال النبي: "الْوَلَد مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ فيحتمل في الولد المُؤَن المعروفة، والهموم الموجودة لغير شيء قصَد له، وليس في ذلك أكثرُ من طلب الطباع، ونزوعِ النفس إلى ذلك.
وذكر أبو الأخزَر الحِمَّاني عَير العانة بخلاف ما عَليه أصحابُ الزِّواج من الحيوان، فقال عند ذكر سِفاده:

لا مُبتَغِي الذرْء ولا بالعازِلِ

لأنَّ الإنسانَ من بين الحيوان المُزَاوِج، إذا كرِهَ الولدَ عزَل، والمزاوج من أصناف الحيوانات إنَّما غايتُها طلبُ الذرْء والولد، لذلك سُخِّرت، وله هيِّئت، لِما أراد اللّه تعالى من إتمامِ حوائِج الإنسانِ، والحمارُ لا يطلبُ الولدَ، فيكون إفراغه في الأتان لذلك، ولا إذا كان لا يريد الولد عزَل كما يعزل الإنسان، غير أنّ غايتَه قضاءُ الشهوة فقط، ليس يَخْطُر على باله أنَّ ذلك الماءَ يُخلَق منه شيء.
وروى ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال: ليس في البهائم شيء يعمل عمل قوم لوط إلا الحمار.
وعامَّة اكتساب الرجال وإنفاقهم، وهمِّهم وتصنُّعهم، وتحسينهم لما يملكون، إنَّما هو مصروفٌ إلى النساء والأسباب المتعلقة بالنساء، ولو لم يكن إلاّ التنمُّص والتطيُّب والتطوُّس والتَعرُّس والتخضُّب، والذي يُعَدُّ لها من الطيب والصِّبغ، والحَلْيِ، والكِساءِ، والفُرُش، والآنية، لكان في ذلك ما كفى، ولو لم يكن له إلاّ الاهتمامُ بحفظها وحراستها، وخوفُ العارِ من جنايتها والجناية عليها، لكان في ذلك المؤْنةُ العظيمة، والمشقة الشديدة.

قوله في الغرائز وبيان سبب شره الخصي

فإِذا بطل العضوُ الذي من أجله يكون اشتغالُ النفس بالأصناف الكثيرة، من اللذَّة والألَم، فباضطرارٍ أنْ تعلَمَ أنَّ تلك القوَى لم تَبطل من التركيب، ولم تَعدَمْها الخلقة، وإنَّما سُدَّ دونَها بسدٍّ، وأدخل عليها حجاب، فلا بدَّ لها إذا كانت موجودةً من عمل ، لأنَّ عملَ كلِّ جوهرٍ لا يُعدَم إلاّ بعدم ذاته، فإذا صُرِفَتْ من وجهٍ فاضَتْ من وجه، ولا سيما إذا جمَّت ونازعتْ، ولا بُدَّ إذا زخرت وغَزُرت، وطغت وطَمَتْ، من أن تفيضَ أو تفتح لنفسها باباً، وليس بعد المنكح بابٌ له موقعُ كموقعِ المطعم، فاجتمعت تلك القوى التي كانت للمنكَح وما يشتمل عليه باب المنكح، إلى القوَّة التي عنده للمطعم، فإذا اجتمعت القوَّتان في بابٍ واحد كان أبلغ في حكمِهِ، وأبعدَ غايةً في سبيله، ولذلك صارَ الخَصيُّ آكَلَ من أخيه لأمِّه وأبيه، وعلى قدر الاستمراء يكون هضمه، وعلى قدر حاجةِ طبعه وحركة نفسه والحرارةِ المتولّدةِ عن الحرَكة يكونُ الاستمراء، لأن الشهوة من أمتن أبواب الاستمراء، والحركة من أعظم أبواب الحرارة.

تفوق رغبة الإناث على الذكور في الطعام

ودوامُ الأكل في الإناثِ أعمُّ منه في الذكور، وكذلك الحِجْرُ دون الفَرَس، وكذلك الرَّمَكة دونَ البِرذَون، وكذلك النعجة دونَ الكبش، وكذلك النساءُ في البيوت دونَ الرجال، وما أشكُّ أنَّ الرجلَ يأكلُ في المجلسِ الواحِد ما لا تأكل المرأة، ولكنَّها تستوفِي ذلك المقدارَ وتُربِي عليه مقطَّعاً غيرَ منظوم، وهي بدوامِ ذلك منها، يكون حاصلُ طعامِها أكثرَ، وهنَّ يُناسِبْن الصبيانَ في هذا الوجه، لأنَّ طبعَ الصبيِّ سريعُ الهضم، سريعُ الكلَب، قصيرُ مدَّةِ الأكل، قليلُ مقدارِ الطُّعْم، فللمرأةِ كثرةُ معاودتها، ثمَّ تَبِينُ بكثرةِ مقدارِ المأكول، فيصير للخَصيِّ نصيبان: نصيبُه من شِبْه النساء، ثم اجتماعُ قوى شهوتيه في بابٍ واحد، أعني شهوةَ المنكَح التي تحولت، وشهوةَ المطعم.
قال، وقيل لبعض الأعراب: أيُّ شيء آكَلُ? قال: بِرْذَونَة رَغُوث.
ولشدَّةِ نَهَمِ الإناثِ، صارت اللبؤة أشدَّ عُرَاماً وأنزقَ، إذا طلبت الإنسانَ لتأكله، وكَذلك صارت إناثُ الأَجناس الصائدة أصيَدَ، كالإناثِ من الكلاب والبُزاةِ وما أشبهَ ذلك، وأحرصَ ما تكونَ عندَ ارتضاع جِرائها من أطبائها، حتَّى صار ذلك منها سبباً للحرص والنَّهم في ذلك.

صوت الخصي

ويعرض له عند قطع ذلك العضوِ تغيُّرُ الصوت، حتى لا يخفى على من سمِعه من غير أن يرى صاحبَه أنَّه خَصِيٌّ، وإن كان الذي يخاطبه ويناقله الكلام أخاه أو ابنَ عمِّه، أو بعضَ أترابه مِن فُحولة جنسه، وهذا المعنى يعرض لخِصيان الصقالِبَة أكثر ممَّا يعرِض للخراسانية، وللسودان من السِّنْد والحُبْشان، وما أقلَّ مَن تجده ناقصاً عن هذا المقدار، إلاّ وله بيضة أو عِرْق، فليس يُحتاج في صِحَّةِ تمييزِ ذلك، ولا في دقة الحسِّ فيه، إلى حِذقٍ بقيافة، بل تجد ذلك شائعاً في طباع السِّفلة والغَثْرَاءِ، وفي أجناس الصِّبيان والنساء.

شَعر الخصي

ومتى خُصي قبلَ الإنباتِ لم يُنْبِتْ، وإذا خُصِي بعد استحكام نباتِ الشعر في مواضعه، تساقط كله إلاَّ شعرَ العانة، فإنه وإن نقَص من غَلظه ومقدارِ عَدده فإنَّ الباقيَ كثير، ولا يعرِضُ ذلك لشعر الرأس، فإنَّ شعرَ الرأس والحاجبين وأشفار العينين يكون مع الولادة، وإنما يعرض لما يتولد من فضول البدن.
وقد زعم ناسٌ أنَّ حكمَ شعر الرأس خلافُ حكم أشفار العينين، وقد ذكرنا ذلك في موضعه من باب القول في الشعر، وهذه الخصال من أماكن شَعر النساء، والخصيان والفحولة فيه سواء، وإنما يعرض لسوى ذلك من الشعر الحادثِ الأصول، الزائدِ في النبات، ألا ترى أن المرأة لا تصلَعُ، فناسبها الخصيُّ من هذا الوجه، فإنْ عرضَ له عارضٌ فإنما هو من القرَع، لا من جهة النَّزَع والجَلَح، والجَلَه والصَّلَع وكذلك النساء في جميع ذلك.
والمرأة ربَّما كان في قَصَاص مقاديم شعرِ رأسها ارتفاع، وليس ذلك بنزَعٍ ولا جلَح، إذا لم يكن ذلك حادثاً يُحدثه الطعنُ في السنّ. وتكون مقاطعُ شعر رأسه ومنتهى حدود قُصاصه، كمقاطع شعر المرأة ومنتهى قُصاصها، وليس شعرُها كلما دنا من موضع الملاسَة والانجراد يكون أرقَّ حتى يقلَّ ويضمحلَّ، ولكنه ينبُت في مقدارِ ذلك الجلد على نبات واحد، ثم ينقطع عند منتهاه انقطاعاً واحداً، والمرأة ربَّما كانت سبلاءَ، وتكون لها شَعَراتٌ رقيقة زَغَبِيَّةٌ كالعِذار موصولاً بأصداغها، ولا يعرض ذلك للخَصي إلا من علة في الخصاء، ولا يرى أبداً بعد مقطَع من صُدْغَيه شيءٌ من الشَّعر، لا من رقيقه ولا من كثيفه

ذوات اللحى والشوارب

وقد توجد المرأة ذات لحية، وقد رأيت ذلك، وأكثرُ ما رأيته في عجائِز الدَّهاقين، وكذلك الغَبَب والشارب، وقد رأيت ذلك أيضاً، وهي ليست في رأي العين بخُنْثى، بل نَجِدها أنثى تامَّة ، إلا أن تكون لم تضرِب في ذلك بالسبب الذي يقوَى، حتى يظهر في غير ذلك المكان، ولا تعرض اللحى للنساء، إلا عند ارتفاع الحيض، وليس يعرض ذلك للخَصي.
وقد ذكر أهلُ بَغداد، أنَّه كان لابنةٍ من بناتِ محمَّدِ بنِ راشدٍ الخنَّاق، لحيةٌ وافرة، وأنّها دخلت مع نساءٍ متنقِّباتٍ إلى بعض الأعراس لتَرَى العُرس وجَلْوَةَ العَرُوس، ففطِنت لها امرأة فصاحت: رجلٌ واللّه وأحال الخدم والنساءُ عليها بالضرب، فلم تكن لها حيلةٌ إلا الكشفَ عن فرْجِها، فنزَعن عنها وقد كادت تموت.
ويفضل أيضاً الخصيُّ المرأةَ في الانجراد والزَّعَر، بأن تجدَ المرأة زَبَّاءَ الذراعين والساقين، وتجد رَكَب المرأة في الشعْر كأَنَّه عانَةُ الرجل، ويعرض لها الشعر في إبطيها وغير ذلك، ولا يعرِض للخصيِّ ما يعرض للديك إذا خُصي: أن يذبُلَ غُضروفُ عُرْفِه ولحيته.
والخصاءُ ينقُص من شدَّة الأسر، وينقُض مُبْرَمَ القُوَى، ويُرْخِي مَعاقِدَ العَصَب، ويقرِّب من الهرَم والبِلى

مشي الخصي

ويعرِض للخصيِّ أن يشتدَّ وقعُ رجله على أرض السَّطح، حتى لو تفقَّدتَ وقعَ قدمه وقدَم أخيه الفحل الذي هو أعبلُ منه لوجدتَ لوقْعِه ووطْئه شيئاً لا تجده لصاحبه، وكأنَّ العضوَ الذي كان يشدُّ توتير النَّسَا، ومَعاقد الوركين ومعاليق العصب، لَمَّا بطل وذهب الذي كان يمسكُه ويرفعه، فيخفّ لذلك وقْعُ رجلِه، صار كالذي لا يتماسَكُ ولا يحمل بعضه بعضاً.

أثر الخصاء في الذكاء

ويعرض له أنَّ أخوين صَقْلَبِيَّيْنِ مِن أمّ وأبٍ، لو كان أحدهُما توءمَ أخيه، أنَّه متى خُصِيَ أحدُهما خرَج الخَصيُّ منهما أجوَدَ خِدمةً، وأفطن لأبواب المعاطاة والمُنَاولةِ، وهو لها أتقَنُ وبها أليق، وتجده أيضاً أذكى عقلاً عند المخاطبة، فيُخصُّ بذلك كلِّه، ويبقى أخوه على غثارة فطرته، وعلى غباوة غريزته، وعلى بلاهة الصَّقْلَبيَّة، وعلى سوءِ فهم العجَميّة.
ويدُ الإنسان لا تكون أبداً إلا خرْقاءَ، ولا تصير صَناعاً ما لم تكنْ المعرفةُ ثِقافاً لها، واللسان لا يكون أبرأَ، ذاهباً في طريق البيان، متصرفاً في الألفاظ، إلاّ بعد أن تكونَ المعرفةُ متخلِّلَةً به، منقّلة له، واضعةً له في مواضع حقوقِه، وعلى أماكن حظوظِه، وهو علَّةٌ له في الأماكن العميقة، ومصرِّفةٌ له في المواضع المختلفة.
فأوَّلُ ما صنع الخِصاءُ بالصَّقْلَبِيِّ تزكيةُ عقلهِ، وإرهافُ حدِّه، وشحْذُ طبعِه، وتحريكُ نفسه، فلما عرَف كانت حركته تابعةً لمعرفته، وقوَّته على قدر ما هيّجه.
فأمَّا نساءُ الصقالبة وصبيانهم، فليس إلى تحويل طبائعهم، ونقْل خَلْقهم إلى الفطنة الثاقبة، وإلى الحرَكَة الموزونة، وإلى الخدمة الثابتة الواقعة بالموافقة، سبيلٌ، وعلى حسَب الجهْل يكون الخُرْق، وعلى حسب المعرفة يكون الحِذق، وهذا جملةُ القول في نسائهم، وعلى أنّهنَّ لا حظوظَ لهنَّ عند الخلوة، ولا نفاذَ لهنَّ في صناعة؛ إذ كنَّ قد مُنِعن فهمَ المعاطاة ومعرفةَ المناولة. والخِصيانُ معَ جودة آلاتهم ووَفَارة طبائعهم في معرفةِ أبوابِ الخِدْمة، وفي استواءِ حالهم في باب المعاطاة، لم تر أحداً منهم قطُّ نفَذَ في صناعةِ تنُسب إلى بعضِ المشقَّة، وتضافُ إلى شيءٍ من الحكمة، ممَّا يُعرَف ببُعْد الرَّوِيَّةً، والغوصِ بإدامة الفكرة، إلا ما ذكرُوا من نَفَاذ ثقف في التحريك للأوتار، فإنَّه كانَ في ذلك مقدَّماً، وبه مذكوراً، إلاَّ أنَّ الخصيَّ من صباه، يُحسِن صنعة الدّابوق، ويُجِيد دُعاءَ الحمام الطوُّريِّ، وما شئتَ من صغار الصناعات.
وقد زعم البصريُّون أَن حَديجاً الخصيّ، خادمَ المُثنّى بن زُهَير، كان يُجاري المُثَنّى في البصَر بالحمام، وفي صحّة الفِراسة، وإتقان المعرفة، وجودة الرياضة، وسنذكُر حالَه في باب القول في الحمام إن شاء اللّه تعالى.
هذا قولهم فيمن خُصي من الصقالبة، وملوكُنا لعقول خِصيان خُراسانَ أحمد، وهم قليل، ولذلك لم نأتِ من أمرهم بشيءٍ مشهور، وأمر مذكور.

خصيان السند

وأما السِّند، فلم يكن فيهم أيضاً من الخِصيان إلاّ النَّفرُ الذين كان خصاهم موسى بنُ كعب، وقد رأيت أنا بعضَهم، وزعم لي أنَّه خَصَى أربعةً هو أحدهم، ورأيتُ الخِصاء، قد جذبَه إلى حبِّ الحمام، وعمل التكك، والهراش بالديوك، وهذا شيءٌ لم يُجْرِ منه على عِرق، وإنما قاده إليه قطعُ ذلك العضو.

خصيان الحبشة والنوبة والسودان

فأمَّا الخصيان من الحُبْشان والنُّوبة وأصناف السودان، فإنّ الخصاءَ يأخذُ منهم ولا يعطيهم، وينقُصهم ولا يزيدهم، ويحطُّهم عن مقادير إخوانهم، كما يزيد الصقالبةَ عن مقادير إخوتهم، لأن الحبشيَّ متى خُصِي سقطَتْ نفسه، وثقُلت حركته، وذهب نشاطه، ولا بدَّ أن يعرض له فساد، لأنه متى استُقْصي جِبابُه لم يتماسك بوله، وسلُس مخرجه، واسترخى الممسك له، فإن هم لم يستقصوا جِبابه، فإنما يُدخل الرجل منزله مَن له نصفُ ذلك العضو، وعلى أنك لا تجد منهم خَصِياً أبداً، إلاّ وبِسُرَّتِه بُجْرَةٌ، ونفخة شنيعة، وذلك عيبٌ شديد، وهو ضرب من الفتق، مع قُبحِه في العَين، وشُنعَته في الذِّكْر، وكلُّ ما قَبُح في العين فهو مؤلم، وكل ما شنُع في النفس فهو مؤذٍ، وما أكثَرَ ما تجد فيهم الألطَع، وذلك فاشٍ في باطن شفاههم، ومتى كانت الشفاه هُدْلاً، وكانت المشافرُ منقلبة، كانت أَظهر للَّطَع، وهو ضرب من البرص، والبياض الذي يعرض لغَرَاميل الخيل وخُصَاها، ضربٌ أيضاً من البرص، وربما عَرَض مثل ذلك لحشفةِ قضيب المختون، إمَّا لَطَبَع الحديد، وإمّا لقرب عهده بالإحداد وسقْيِ الماء، إِلاّ أنَّ ذلك لا يعدُو مكانه، وكلما عظُمت الحشفةُ انبسَطَ ذلك البياضُ على قدر الزيادة فيها، وإنَّما ذلك كالبياض الذي يعرِض من حَرْق النار وتشييطها، وكالذي يعرض للصقالِبَة من التَّعالُج بالكيِّ، وربَّما اشتدَّ بياضُه حتى يفحُشَ ويُردِيه، إلا أنَّه لا يفشو ولا ينتشر، إلاّ بقدر ما ينبسط مكانه، ويتحوَّل صاحبه رجُلاً، بعد أن كان صبيّاً، وليس كالذي يعرِض من البلغم ومن المِرَّة، وبعضُ البرص يذهب حتى كأنه لم يكن، وبعضُه لا يذهب ولا يقف، بل لا يزال يتفشَّى ويتَّسع حتى ربَّما سلخه، ولا يذهب إلاّ بأنْ يذهب به نبي، فيكون ذلك علامةً له، ومن البهق الأبيض ما يكاد يلحق بالبَرَص، ولكن الذي هوَّن أمره الذي ترونَ من كثرَةِ بُرءِ الناس منه.
ثمَّ الخصاءُ يكونُ على ضروبٍ، ويكون في ضروب، فمن ذلك ما يعرِض بعدَ الكِبَر للأحرار، كما يعرض للعبيد، وللعرب كما يعرض للعجم، كما خَصَى بعضُ عَبَاهلةِ اليمن علقمةَ بنَ سهلٍ الخَصيّ

علقمة الفحل وعلقمة الخصي

وإنما قيل لعلقمةَ بن عَبَدَةَ الفحلُ، حين وقعَ على هذا اسمُ الخصي، وكان عبداً صالحاً، وهو كان جَنَبَ الجدِيل وداعراً، الفحلين الكريمين، إلى عمان، وكان من نازليها، وهو كان أحدَ الشهودِ على قُدامة بنِ مَظْعونٍ في شرب الخمر، وهو الذي قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه: أتَقبَلُ شهادةَ الخصيِّ? قال: أما شهادتك فأقبَلُ، وهو عَلقمةُ بن سهْلِ بن عمارة، فلمَّا سمّوه الخصيّ، قالوا لعلقمةَ ابن عَبَدة: الفحل، وعلقمةُ الخصيّ، الذي يقول:

 

ولن يعدَم الميراثَ منِّي المواليا

 

فلن يَعْدَمَ الباقون قبراً لجثَّتـي

هَنِيئاً لهمْ جَمْعِي وما كنتُ والِـيا

 

حِراصٌ على ما كنت أجمعُ قَبْلَهم

 

لشأنهِمُ قَدْ أَفْرَدُونِـي وشَـانِـيا

 

ودُلِّيتُ في زَوْراءَ ثُمَّتَ أعنَقـوا

 

لغيري وكانَ المالُ بالأمس ماليا

 

فأصبح مالي من طريفٍ وتالـدٍ

 








وكما عرَض للدَّلال ونَومَةِ الضُّحى، مِن خصاءِ عُثمانَ بن حيَّان المرّيّ والي المدينة لهما، بكتابِ هشام بن عبد الملك.
أثر تحريف كتاب هشام بن عبد الملك فمِنْ بني مرْوان من يدَّعي أنَّ عاملَ المدينةِ صحَّف، لأنه رأى في الكتاب: أَحصِ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ المخنَّثين فقرأها: اخْصِ مَنْ قِبَلَك من المخنَّثين، وذكر الهيثمُ عن الكاتب الذي تولَّى قراءَة ذلك الكتاب، أنَّه قال: وكيف يقولون ذلك ولقد كانت الخاء معجمةً بنقطةٍ، كأنها سُهيل أو تمْرةُ صيحانية? فقال اليقطري: ما وجْهُ كتابِ هشامٍ في إحصاءِ عدَد المخنَّثين? وهذا لا معنى له، وما كان الكتابُ إلاّ بالخاء المعجمة دون الحاء المهملة.
وذُكِر عن مشايخَ من أهل المدينة أنهم حكَوا عنهما أنهما قالا: الآن صِرنَا نساءً بالحقّ كأَنَّ الأمرَ لو كان إليهما لاختارا أن يكونا امرأتين قال: وذُكِر أنهما خرجا بالخصلتين من الخصاء والتخنيث، من فُتورِ الكلام ولِين المفاصل والعظام، ومن التفكُّك والتثنِّي، إلى مقدار لم يرَوا أحداً بلغه، لا من مخنَّثات النساء، ولا من مؤنَّثي الرجال أبو همام السنوط وكما عرَض لأبي همام السَّنُوط مِن امتلاخِ اللُّخْم مذاكيرَه وخصيَيه، أصابَه ذلك في البحر في بعضِ المغازي، فسقطت لحيتُه، ولقِّب بالسَّنُوط، وخَرَج لذلك نَهِماً وشَرِهاً.
وقال ذات يوم: لو كان النخلُ بعضُه لا يحمل إلاَّ الرُّطَب، وبعضُه لا يحمل إلاّ التمرَ، وبعضُه لا يحملُ إلاّ المجزَّع، وبعضُه لا يحمل إلاّ البُسر، وبعضُه لا يحمل إلا الخَلاَل، وكنَّا متى تناولْنا من الشِّمْراخ بُسْرَةً، خلقَ اللّهُ مكانها بُسَرتين، لَمَا كان بذلك بأس ثم قال: أستغفرُ اللّه لو كنتُ تمنيَّتُ أن يكونَ بدل نواةِ التمر زُبدة كان أصوَب!! ومنه ما يعرض من جهة الأوجاع التي تعرِض للمذاكير والخصيتين، حتى ربما امتلخَهما طبيبٌ، وربَّما قطَع إحداهما، وربما سقطتا جميعاً من تلقاءِ أنفسهما

نسل منزوع البيضة اليسرى

والعوامُّ يزعمون أنَّ الولدَ إنّما يكونُ من البيضة اليسرى، وقد زعمَ ناسٌ من أهل سليمان بن عليٍّ ومواليهم، أنَّ ولدَ داود بن جعفر الخطيب المعتزليِّ، إنَّما وُلِد له بعد أن نُزِعت بيضتُه اليُسرى، لأمر كانَ عرض له.
والخصيُّ الطيّان، الذي كان في مسجد ابن رَغبان، وُلِدَ له غلام، وكان ليس له إِلاَّ البيضةُ اليُمنى، فجاء أشبهَ به من الذُّباب بالذُّباب والغرابِ بالغرابِ، ولو أبصَرَه أجهلُ خلقِ اللّه تعالى بِفراسةٍ، وأبْعدُهم من قِيافةٍ، ومن مخالَطَةِ النخَّاسين، أو من مجالسةِ الأَعراب، لعِلمَ أنَّه سُلالَتُه وخلاصته، لا يحتاج فيه إلى مجزِّز المُدْلجِيّ، ولا إلى ابن كريز الخُزاعي

خصاء الروم

ومن أهل الملل من يَخْصي ابنَه ويقفُه على بيت العبادَة، ويجعله سادناً، كصنيع الرُّوم، إلا أنهم لا يُحدثون في القضيب حدثاً، ولا يتعرضون إلا للأنثيين، كأنهم إنما كرهوا لأولادهم إحبالَ نسائِهم ورواهبهم فقط فأما قضاءُ الوَطَر وبلوغُ اللذة، فقد زعموا أنهم يبلُغون من ذلك مبلغاً لا يبلُغه الفحل، كأنهم يزعُمون أنه يستقصي جميعَ ما عِندها ويستَجْلبه، لفَرْط قوَّته على المطاولة.
الروم أول من ابتدع الخصاء  وكلُّ خصاءٍ في الدنيا فإنما أصلُه من قِبَل الروم، ومن العجب أنهم نصارى، وهم يدَّعون مِن الرأفة والرحمة، ورقَّة القلبِ والكَبِد، ما لا يدَّعيه أحد من جميع الأصناف، وحسبك بالِخصاء مُثْلةً وحسبك بصنيع الخاصي قسوة ولا جَرَم أنهم بعثوا على أنفسهم من الخِصيان، من طَلَب الطوائل وتذكُّر الأحقاد، ما لم يظنُّوه عندَهم، ولا خافوه من قِبَلِهم، فلا هم ينزِعون، ولا الخِصيانُ يَنْكِلون، لأنَّ الرِّمايةَ فيهم فاشية، وإن كان الخصيُّ أسواراً بلغَ منهم، وإن كان جمع معَ الرماية الثَّرْوة، واتخذ بطَرَسُوس، وأذَنَة، الضِّياعَ واصطنعَ الرجال، واتخذ العُقَد المُغِلَّة فمضرَّة كلِّ واحدٍ منهم عليهم، تَفِي بمَضَرَّةِ قائدٍ ضخم، ولم ترَ عَداوةً قطُّ تجوز مقدارَ عداوتهم لهم، وهذا يدلُّ على مقدار فرطِ الرغبة في النساء، وعلى شهوةٍ شديدةٍ للمباضَعة، وعلى أنهم قد عرفوا مقدار ما فقدوا، وهذه خصلةٌ كريمة مع طلب المثوبة، وحسن الأحدوثة

خصاء الصابئة

فأما الصابئون، فإنَّ العابدَ منهم ربَّما خصى نفْسَه، فهو في هذا الموضع قد تقدم الروميَّ، فيما أظهرَ من حُسْنِ النيَّة، وانتحل من الديانةِ والعبادة، بخصاء الولد التامِّ، وبإدخاله النقصَ على النَّسلِ، كما فَعَل ذلك أبو المبارك الصابي، وما زال خلفاؤنا وملوكنا يبعثون إليه، ويسمعون منه، ويَسمَر عندَهم، للَّذي يجدونه عنده من الفهم والإفهام، وطُرَف الأخبار، ونوادر الكتب، وكان قد أربى على المائة، ولم أسمعْ قطُّ بأغزَلَ منه، وإنْ كان يصدُق عن نفسه فما في الأرض أزنى منه حديث أبي المبارك الصابي حدَّثني محمد بن عباد قال: سمعته يقول وجرى ذكرُ النساء ومحلِّهن من قلوب الرجال، حتَّى زعموا أنَّ الرجلَ كلما كانَ عليهن أحرصَ كان ذلك أََدلَّ على تمام الفُحولة فيه، وكان أذهبَ له في الناحية التي هي في خلقِته ومعناهُ وطبعهِ، إذ كان قد جُعِل رجلاً ولم يُجعل امرأة قال ابن عبّاد، فقال لنا: ألستْم تعلمون أنِّي قد أربَيتُ على المائة، فينبغي لمن كان كذلك أن يكون وهْنُ الكِبَرِ، ونفاذُ الذِّكْرِ، وموتْ الشهوة، وانقطاعُ ينبُوع النطْفةِ، قد أماتَ حنينه إلى النساء وتفكيرَه في الغزَل? قال: قلنا: صَدقتَ، قال: وينبغي أن يكون مَن عوَّد نفسه تركَهنَّ مُدداً، وتخلى عنهن سِنينَ ودهراً، أن تكون العادة وتمرينُ الطبيعة، وتوطينُ النفسِ، قد حطَّ من ثقل منازعة الشهوة، ودواعي الباءة، وقد علمتمْ أنَّ العادة التي هي الطبيعة الثانية، قد تستحكم ببعض عمدِ هَجْرٍ لملامسةِ النساء، قال: قلنا: صدقت، قال: وينبغي أن يكونَ مَن لم يذُقْ طعم الخَلوة بهنَّ ولم يجالسهنَّ متبذلات، ولم يسمَعْ حديثَهنَّ وخِلاَبتهنَّ للقلوب، واستِمالتهن للأهواء، ولم يَرَهُنَّ منكشفاتٍ عارياتٍ، إذا تقدم له ذلك معَ طولِ التَّرك، ألا يكون بقي معه من دواعيهن شيء? قال: قلنا: صدقت، قال: وينبغي أن يكون لِمَنْ قد عِلم أنه محبوبٌ، وأنَّ سببه إلى خِلاطهنَّ محسوم، أن يكون اليأسُ من أمتن أسبابه إلى الزهد والسلوة، وإلى موت الخواطر، قال: قلنا : صدقت، قال: وينبغي أن يكونَ من دعاهُ الزُّهدُ في الدنيا، وفيما يحتويه النساءُ مع جمالهنَّ وفتنةِ النُّسَّاكِ بهنّ، واتخاذِ الأنبياء لهنّ، إلى أن خَصَى نفسه، ولم يُكْرهُه عليه أبٌ ولا عدوٌّ، ولا سَباه سابٍ، أن يكون مقدارُ ذلك الزهد هو المقدار الذي يُميت الذِّكْرَ لهنَّ، ويُسَرِّي عنه ألم فقد وُجودِهنَّ، وينبغي لمن كان في إمكانه أن ينشئ العزم ويختارَ الإرادة التي يصير بها إلى قطع ذلك العضوِ الجامع لِكبار اللذَّات، وإلى ما فيه من الألم، ومع ما فيه من الخطر، وإلى ما فيه من الْمُثلة والنَّقصِ الداخل على الخلقة، أن تكون الوساوس في هذا الباب لا تعرُوه، والدواعي لا تقْروه، قال: قلنا: صدقت، قال: وينبغي لِمَنْ سَخَتْ نفسه عن السَّكَن وعن الوَلد، وعن أن يكون مذكوراً بالعقب الصالح، أن يكون قد نسيَ هذا البابَ، إن كان قد مرَّ منه على ذُكْرِ، هذا وأنتم تعلمونَ أنِّي سَمَلْتُ عيني يومَ خصَيت نفسي، فقد نسيتُ كيفية الصُّوَرِ وكيف تَرُوع، وجَهِلت المراد منها، وكيف تُراد، أفما كان مَنْ كان كذلك حَرِيًّا أن تكون نفسُه ساهيةً لاهية مشغولةً بالبابِ الذي أحتمل له هذه المكاره?  قال: قلنا: صدقت، قال: أَو لوْ لم أكنْ هَرِماً، ولم يكن هاهنا طولُ اجتنابٍ، وكانت الآلة قائمةً أليس في أنِّي لم أذقْ حيواناً منذُ ثمانينَ سنة ولم تمتلِ عُروقي من الشرابِ مخافةَ الزيادة في الشهوة، والنقصانِ من العزم - أليسَ في ذلك ما يقطع الدواعي، ويُسْكِن الحركة إن هاجت? قال: قلنا: صدقت، قال: فإنِّي بعدَ جميع ما وصفتُ لكم، لأَسْمَعُ نغْمة المرأةِ فأظنُّ مرَّةً أنّ كَبِدي قد ذابت، وأظنُّ مرّةً أنها قد انصدعت، وأظنُّ مرّةً أنّ عقلي قد اختُلِس، وربَّما اضطرب فُؤادِي عند ضحِك إحداهُنّ، حتَّى أظنّ أنَّه قد خرجَ من فمي، فكيف ألومُ عليهنَّ غيري? فإن كان - حفظك اللّه تعالى - قد صدقَ على نفسه في تلك الحال، بعد أن اجتمعت فيه هذه الخصال، فما ظنُّك بهذا قبل هذا الوقت بنحو سِتِّين سنة أو سبعين سنةً? وما ظنَّك به قبلَ الخصاء بساعة? وليس في الاستطاعةِ ولا في صفِة الإمكان، أن يحتَجِز عن إرادة النساء، ومعِه من الحاجِة إليهنَّ والشهوةِ لهنَّ هذا المقدارُ اللّه تعالى أرحمُ بخلقِه، وأعدَلُ على عباده، من أن يكلِّفَهم هِجرانَ شيءٍ، قد وصلَه بقلوبهم هذا الوصلَ، وأكَّدَه هذا التأكيد.
وقد خصى نفسه من الصابئين رجالٌ، قد عرَفناهم بأسمائهم وأنسابهم، وصفاتهم وأحاديثهم، وفي الذي ذكرنا كفايةٌ إن شاء اللّه تعالى

استئذان عثمان بن مظعون في الخصاء

وقد ذُكرِ أَنَّ عثمانَ بن مَظْعونٍ، اسْتَأْذنَ النبي صلى اللّه عليه وسلم في السياحة فقال: سِيَاحَةُ أُمَّتِي الجَمَاعَة، واستأْذَنَه في الخصاءِ فقال: خِصاء أمَّتي الصوم، والصوم وِجاء، فهذا خِصاءُ الديانة.

خصاء الجلب وقسوته

فأمَّا من خصى الجَلَبَ على جهة التجارة، فإنه يَجُبُّ القضيب، ويمتلخ الأنثيين، إلا أن تقلَّصت إحداهما من فَرْط الفَزَع، فتصيرُ إلى موضعِ لا يمكن ردُّها إلا بعلاج طويل، فللخاصي عند ذلك ظلمٌ لا يفي به ظُلم، وظلم يُربي على كلِّ ظلم، لأنّه عندَ ذلك لا يحفِل بفوت المتقلِّص، ويقطع ما ظهر له، فإن برئ مجبوبَ القضيب أو ذَا بيضةٍ واحدة، فقد تركه لا امرأةً ولا رجُلاً ولا خَصِيًّا، وهو حينَئذٍ ممَّن تخرُج لحيتُه، ومِمَّن لا يدعه الناسُ في دُورهم ومواضعِ الخُصوص من بيوتهم، فلا يكونُ مع الخصيان مقرَّباً ومكرَّماً، وخَصِيبَ العَيش منعَّماً، ولا هو إذا رُمِي به في الفحول، كان له ما للفحول من لذَّةِ غِشيان النساء، ومِن لذّةِ النسل والتمتُّعِ بشم الأولاد؛ فلم يزَل عندَ الفحولِ مستضعَفاً محتقراً، وعند الخِصيان مجرَّحاً مطرحاً، فهو أسوأُ حالاً من السَّدِم المعنَّى فلا أعلم قتْلَهُ إذا كان القتلُ قِتلةً صريحة مُرِيحة إلا أصغَر عند اللّه تعالى، وأسهلَ على هذا المظلوم من طول التعذيب، واللّه َتعالى بالِمرصاد.

خصاء البهائم

وأمّا خصاءُ البهائم، فمنه الوِجاءُ، وهو أن يشدَّ عصَبُ مجامع الخُصيةِ من أصل القضيب، حتَّى إذا نَدَرت البيضة، وجَحَظت الخُصية، وجأَها حتى يرضَّها، فهي عند ذلك تذبُل وتنخسف، وتذوِي وتستَدِقّ، حتى تذهبَ قُواها، وتنسدَّ المجاري إليها، ويسريَ ذلك الفسادُ إلى موضع تربيةِ النُّطْفة، فيمنعَها من أن تكثُر أو تعذب أو تخثُر.
ومنها ما يكون بالشدِّ والعصْب، وشدَّةِ التحزيق، والعَقْدِ بالخيط الشديد الوَتير الشديد الفتل، فإذا تركه على ذلك عِمل فيه وحزَّ، أَو أََكلَّ ومنعَه من أن يجزيَ إليه الغذاءُ، فلا يلبثُ أن ينقطعَ ويسقط.
ومنه الامتلاخ، وهو امتلاخ البيضتين

خصاء الناس

فأمَّا خصاءُ الناس، فإنّ للخاصي حديدةً مرهَفَةً مُحْماة، وهي الحاسمة، وهي القاطعة، قال أبو زيد: يقال خصَيت الدابة أَخصِيها خِصاءً، ووجأتها أجَؤُها وِجاءً، ويقال: برئتُ إليك من الخصاء أو الوجاء، ولا يقال ذلك إلاّ لما كان قريبَ العهد لم يبرأ منه، فإذا برئ لم يُقل له.
وأما الخِصاءُ فهو أنْ يسلَّ الخُصيتين، والوجاء أن توجَأ العرقُ والخصيتان على حالهما، والمعصوب من التيوس الذي تُعصَب خُصيتاه حتى تسقطا، والواحد من الخصيان خَصِيٌّ ومخصيّ، ويقال ملست الخصيتَين أملُسهما ملْساً، ومَتَنْتُهما أمتنهما متْناً، وذلك أن تشقّ عنهما الصَّفَن فتسلَّهُما بعروقهما، والصَّفَن: جلدة الخُصيتين.

خصاء البهائم والديكة

والخِصاءُ في أَحداثِ البهائم، وفي الغنم خاصةً، يدع اللَّحمَ رَخْصاً وندِيًّا عذباً، فإنْ خَصَاه بعد الكبر، لم يقو خِصاؤُه بعدَ استحكامِ القوَّة على قلْب طباعه، وأجود الخِصاء ما كانَ في الصِّغَر، وهو يسمَّى بالفارسية ثربخت يُعنى بذلك أنّه خُصِيَ رطباً، والخَصيُّ من فحولها أحَملُ للشحم، لعدم الهيْج والنَّعْظ، وخروج قواه مع ماء الفِحْلة، وكثرةُ السِّفاد تورث الضَّعْفَ والهُزالَ في جميعِ الحيوان، وقد ذُكِر لمعاوية كثرة الجماع فقال: ما استُهتِرَ به أحدٌ إلاّ رأيت ذلك في مُنَّته، والديك يُخصى ليَرطب لحمُه ويطيب ويحملِ الشحم.

خصاء العرب لفحولة الإبل

وكانت العربُ تَخصِي فُحولَةَ الإبل لئلاَّ يأكلَ بعضُها بعضاً، وتستبقي ما كان أجودَ ضِراباً، وأكثرَ نَسْلاً، وكلَّ ما كان مئناثاً وكان شابًّا ولم يكن مذكاراً، وهم يسمُّون الإذكار المحْقَ الخَفِيّ، وما كان منها عَيَاياءَ طَبَاقاءَ، فمنها ما يجعل السّدِمَ المعنَّى، وإذا كان الفحلُ لا يُتَّخذ للضِّراب، شدُّوا ثِيلَه شدّاً شديداً، وتركوه يهدِر ويُقَبقِب في الهَجْمة، ولا يصل إليهنَّ وإن أردنَه، فإذا طلبْنَ الفحلَ جِيءَ لهنَّ بفحلٍ قَعْسريٍّ ويقولون: لَقْوَةٌ لاقَتْ قَبيساً، والقَبيس من الجِمال: السريع الإلقاح، واللَّقوة: السريعة القَبول لماءِ الفحلِ.
وشكت امرأةٌ زوجَها، وأخبرتْ عن جهِله بإتيان النساء، وعِيِّه وعجْزِه، وأنَّه إذا سقط عليها أطَبقَ صدرَه - والنساءُ يكرهْنَ وقُوعَ صدورِ الرجال على صدورهنَّ فقالت: زَوْجِي عَيَاياءُ طَباقاء، وكلُّ داءٍ لَهُ داءُ وقال الشاعر:

رِكاباً إلى أكوارِها حينَ تعكف

 

طَباقَاءُ لم يَشْهدْ خُصوماً ولم يَقُدْ

خصاء العرب للخيل

وكانوا يخْصُون الخيل لشبيه بذلك، ولعلَّة صهيلها ليلةَ البَيَات، وإذا أكمنوا الكُمَناء أوْ كانو هُرَّاباً.
القول في كلمة خنذيذ ويزعم من لا علم له، أنَّ الخنذيذ في الخيل هو الخصيُّ، وكيف يكون ذلك كما قال، مع قول خُفَاف بن نَدْبة:

وخناذيذ خصيةً وفُحولا

وقال بشرُ بنُ أبي خَازم:

كَطيِّ البُرْدِ يَطويه التِّجَارُ

 

وخنذيذٍ تَرَى الغُرْمُولَ منهُ

وليس هذا أرادَ بِشر، وإنَّما أراد زمانَ الغزو، والحالَ التي يعتري الخيلَ فيها هذا المعنى ، كما قال جد الأحيمر:

ب ولا أُغِيرُ على مُضَرْ

 

لا لا أعـقُّ ولا أحُــو

ضجَّ المطيُّ من الدَّبَـرْ

 

لكـنَّـمـا غـزوِي إذا

وإنَّما فخر بالغزْو في ذلك الزمان.
وأما الخنذيذ فهو الكريم التامُّ، وربَّما وصفوا به الرجل، وقال كثير:

وخَيْفانةٍ قد هذَّب الجريُ آلَها

 

على كل خنذيذ الضُّحَى متمطِّر

وقال القطامي:

تخنَّثَ منه لحمُه المتكـاوِسُ

 

على كلِّ خنذيذ السَّراة مُقلِّصٍ

ومن الدليل على أنَّهم ربما جعَلوا الرجلَ إذا ما مدحوه خنذيذاً، قولُ بعضِ القيسيين، مِن قيس بن ثعلَبة:

خناذيذُ مِن سعدٍ طِوالُ السواعد

 

دعوتُ بني سعدٍ إليَّ فشمَّـرتْ

عبد اللّه بن الحارث وعبد الملك بن مروان وقال عبدُ اللّه بن الحارث، وكتب بها إلى عبدِ الملكِ بن مرْوان حينَ فارقَ مُصعباً:

يُقدَّم قبلي مُسِلمٌ والـمـهـلَّـبُ

 

بأيِّ بـلاءٍ أم بــأيَّةِ عِـــلَّةٍ

خَصِيٌّ دنا للماءِ من غير مَشْرَبِ

 

وَيُدعَى ابنُ منجوفٍ أمامي كأنَّـه

فقلت ليونس: أقوى فقال: الإقواءُ أحسَنُ من هذا قال: فلمَّا أخذتْه قيسٌ نصبُوه، فجَعلوا يرمُونه بالنبل ويقولون: أذاتَ مغازل تَرَى? يريدون بيت ابن الحرّ:

لِحاهَا وباعت نبلها بالمغـازل

 

ألم تر قيساً قيسَ عَيلانَ برقعت

فلما أتي مُصعبٌ برأسِه، قال لسُويد: يا أبا المِنهال كيف ترى? قال: أيُّهَا الأمير هو واللّه الذي أتَى الماءَ من غير مَشْرَب.
وقال أعشَى هَمْدان:

فينا أذَلُّ مِن الخَصيِّ الدَّيزجِ

 

وأبو بُريذِعةَ الذي حُدِّثْـتَـهُ

وتعرِض للخصيِّ سُرعة الدَّمعة، وذلك مِن عادةِ طبائعِ الصبيان ثم النِّساءِ، فإنَّه ليس بعدَ الصبيان أغزَر دَمعةً من النساء، وكفاك بالشيوخ الهرمين  أخلاق الخصي

ويعرض للخصيِّ العبثُ واللَّعِبُ بالطير، وما أشبهَ ذلك من أخلاق النساء، وهو من أخلاق الصبيان أيضاً.
ويعرض له الشَّرَه عندَ الطعام، والبخل عليه، والشحُّ العامُّ في كلِّ شيء، وذلك مِن أخلاق الصِّبيانِ ثم النِّساء.
وقال الشاعر:

خَصِيُّ بَراذينٍ يُقَـاد رَهـيصُ

 

كأنَّ أبا رُومان قيسـاً إذا غـدَا

وحَنجرةٌ بالدورقين قـمـوصُ

 

له معْدَةٌ لا يشتكي الدهرَ ضَعْفَها

ويعرض للخصيِّ سرعةُ الغضبِ والرضا، وذلك من أخلاق الصِّبْيان والنِّساء، ويعرض له حبُّ النميمة، وضيقُ الصدرُ بما أُودِع من السرّ، وذلك من أخلاق الصبيان والنساء، ويعرض له دون أخيه لأُمِّه وأبيه، ودون ابنِ عمِّه وجميعِ رهطه، البصَرُ بالرَّفْع والوضْع، والكنسِ والرشِّ، والطَّرح والبسْطِ، والصبرُ على الخدمة، وذلك يعرِض للنساء، ويعرض له الصبرُ على الرُّكوب، والقوَّة على كثرةِ الركْض حتَّى يجاوز في ذلك رجالَ الأتراكِ وفرسانَ الخوارِج، ومتى دفَع إليه مَولاه دابَّتَه ودخل إلى الصلاة، أو ليغتسل في الحمام، أو ليعودَ مريضاً، لم يترُكْ أن يُجرِيَ تلك الدابَّةَ ذاهباً وجائياً، إلى رجوع مولاه إليه.
ويعرض له حبُّ الرمي بالنَّشَّاب، لِلَّذي يدور في نفسِه من حبِّ غزو الرُّوم، ويعرض له حبُّ أن تَمْلكَه الملوك، على أَلاَّ تقيمَ له إلاَّ القوتَ ،ويكونُ ذلك أحبَّ إليه من أنْ تملكَه السُّوقةُ، وإن ألحقتْه بعيشِ الملوك.
ومن العجب أنَّهم مع خروجِهم من شَطْر طبائع الرجال، إلى طبائع النساء، لا يعرِض لهم التخنيث، وقد رأيت غيرَ واحدٍ من الأعرابِ مخنَّثاً متفكِّكاً، ومؤنثاً يَسِيلُ سيلاً، ورأيتُ عدّةَ مجانينَ مخنَّثين، ورأيتُ ذلك في الزَّنج الأقْحاح، وقد خبَّرني من رأى كُردِيّاً مخنثاً، ولم أَر خَصيّاً قط مخنَّثاً، ولا سمعتُ به؛ ولا أدري كيف ذلك ولا أعرف المانعَ منه، ولو كان الأمرُ في ذلك إلى ظاهِر الرأي، لَقَدْ كان ينبغي لهم أن يكونَ ذلك فيهم عامّاً.
ومما يَزيدني في التعجُّب من هذا الباب، كثرةُ ما يعرِض لهم من الحُلاَق، مع قلّةِ ما يعرِض لهم من التخنيث، مع مفارقتِهم لشطرِ معاني الرجال إلى شبه النساء.
ويزعم كثير من الشيوخ المعمَّرين؛ وأهل التجرِبة المميِّزين، أنّهم اختبروا أعمارَ ضُروبِ الناس، فوجدوا طولَ الأعمارِ في الخصيان أعمَّ منه في مثلِ أعدادهم من جميع أجناس الرجال، وأنّهم تفقدوا أعمارَهم وأعمارَ إخوتِهم وبني أعمامهم الذين لم يُخصَوْا، فَوجدُوا طول العُمُر في الخِصيان أعمَّ، ولم يجدوا في عمومِ طوال العمر فيهم واحداً نادراً، كفلانٍ وفلان من الفحول.
وزعموا أنّهم لم يجدوا لطول أعمارِهمْ علّةً إلاَّ عدَمَ النِّكاح، وقلّةَ استفراغِ النُّطف لقُوى أصلابهم.
قالوا: وكذلك لم نجدْ فيما يعايشُ الناسَ في دُورهم، من الخيل والإبل، والحمير، والبقر، والغنم، والكِلابِ، والدَّجاج، والحمام، والدِّيَكة، والعصافير، أطول أعماراً من البغال.
وكذلك قالوا: وجدْنا أقلّها أعماراً العصافيرَ، وليس ذلك إلاَّ لكثْرةِ سفادِ العصافير وقلّةِ سِفادِ البغال.
وجعل هؤلاء القومُ زيادةَ عمر البغلِ على عمرٍ أبويَه دليلاً على أنّ قول الناسِ: لا يعيشُ أحدٌ فوق عمر أبويه خطأ، وأولئك إنما عنوا الناسَ دونَ جميع الحيوان

النتاج المركب

وقالوا: قد وجدنا غُرمولَ البغل أطولَ من غرمول الحمار والفرس والبرذون، وهؤلاء أعمامُه وأخواله، فقد وجدْنا بعض النِّتاجِ المركَّبِ، وبعضَ الفروعِ المستخرجة، أعظَم من الأصل؛ ووجدنا الحمام الرَّاعبي أعظمَ من الوَرَشان الذي هو أبوه، ومِن الحمامة التي هي أمُّه، ولَم نجدْه أخذَ من عمر الوَرَشان شيئاً، وخرج صَوْتهُ من تقديِر أصواتهما، كما خرج شَحِيح البغْل من نهيق الحمار وصهيل الفرَس، وخرَج الرَّاعبِي مُسروَلاً، ولم يكن ذلك في أبويه؛ وخرَج مُثْقَلاً سَيِّءَ الهداية، وللوَرشَان هداية، وإن كان دونَ الحمام؛ وجاءَ أعظمَ جُثّة من أبويه، ومقدارُ النّفَس مِن ابتداءِ هَدِيله إلى منقطعه، أضعافُ مقدارِ هديل أبويه. وفَوالجُ البُخْتِ إذا ضرَبت في إناث البُخْت، ولم يخرُج الحُوَارُ إلاّ أدَنّ قصيرَ العُنق، لا ينال كلأً ولا ماءً إلاَّ بأنْ يُرفعا إليه، فيصيرُ لمكانِ نُقْصان خلقه جَزورَ لحم، ولا يكون من اليعمَلات ولا من السابقة، ولو عالُوه وكفَوه مُؤْنة تكلف المأكولِ والمشروب، ثم بلَغَ إلى أن يَصيرَ جملاً يمكنه الضِّراب، وكذلك الأنثى التي هي الحائل إلى أن تصيرَ ناقة؛ فلو ألقحها الفحلُ لجاء ولدُها أٍقصرَ عنقاً من الفيل، الذي لو لم يجعل اللّه تعالى له خرطوماً يتناولُ به طعامَه وشرابه، لمات جُوعاً وهُزالاً؛ وليس كذلك العِرَاب، وإذا ضربت الفوالجُ في العراب جاءت هذه الجوامز والبُخْت الكريمة التي تجمع عامَّة خصال العراب وخصالِ البُخت، فيكونُ ما يُخرِج التركيبُ من هذين الجنسين أكرمَ وأفخمَ وأنفس وأثمن، ومتى ضربت فحولُ العرَاب في إناث البُخْت جاءت هذه الإبل البَهْوَنِيَّة والصَّرصرانية فتخرج أقبح منظراً من أبويها، وأشدَّ أسْراً من أبويها، وقال الراجز:

ولا بهونيٌّ من الأباعرِ

وبعد؛ فإنّ هذه الشِّْهْريَّة الخُراسانية، يخرج لها أبدانٌْ فوقَ أبدانِ أمّهاتِها وآبائها من الخيل والبراذين، وتأخذ من عِتْق الخيل، ومن وثاجة البراذين، وليس نِتاجها كنتاج البِرذَونِ خالصاً والفرس خالصاً.
وما أشبهَ قرابةَ الحمارِ بالرَّمكة والحِجْرِ، من قرابة الجمل الفالج البُخْتيِّ بقرابةِ القَلوص الأعرابيَّة.

الحمر الوحشية

ويقال إن الحمرَ الوحشيَّة، وبخاصّةٍ الأخدريَّة، أطولُ الحَمير أعماراً وإنما هي من نِتَاج الأخدَر، فرس كانَ لأَرْدَشير بن بابَك صار وحشيّاً فحمَى عِدَّة عاناتٍ فضرب فيها، فجاء أولادُه منها أعظمَ من سائر الحمر وأحسنَ، وخرجتْ أعمارُها عن أعمارِ الخيل وسائر الحُمُر أعني حمر الوحش فإنَّ أعمارَها تزيد على الأهليَّة مِراراً عدَّة.
عير أبي سيارة ولا يعرفون حماراً وحشيّاً عاشَ أكثر وعُمِّر أطول من عير أبي سيَّارَة عُمَيلة بن أعزل؛ فإنهم لا يشكُّون أنّه دَفَع عليه بأهلِ الموسم أربعين عاماً!! قال الأصمعيُّ: لم يكن عيراً وإنما كان أتاناً.

لهج ملوك فارس بالصيد

وزعموا وكذلك هو في كتبهم أنَّ ملوكَ فارسَ، كانت لهجة بالصيد؛ إلا أنَّ بهرام جور هو المشهور بذلك في العوامّ.
وهم يزعمون أنّ فيروز بن قباذ الملك الفارسيّ، ألحَّ في طلب حمار أخدري؛ وقد ذُكر له ووُصف؛ فطاوَله عند طلبه والتماسه، وجدَّ في ذلك فلجَّ به عند طلبه الاغترام،وأخرجته الحفيظةُ إلى أن آلى ألاَّ يأخذهَ إلا أسراً، ولا يطاردَه إلا فرداً، فحمل فرَسه عليه، فحطََّه في خبَار فجمع جَراميزه وهو على فرسه ووثَب؛ فإذا هو على ظهره؛ فقمَص به، فضم فخذيه فحطّم بعض أضلاعه، ثم أقبل به إلى معظم الناس، وهم وقوف ينظرون إليه وهو راكبه.
قالوا: وكان الملك منهم إذا أخذَ عَيراً أخدريًّا وغيرَ ذلك؛ فإذا وجدَه فتياً وسمَه باسمه وأرَّخ في وسمِه يومَ صيده وخلَّى سبيله، وكان كثيراً إذا ما صاده الملكُ الذي يقوم به بعدَه، سار فيه مثلَه تلك السِّيرةَ وخلَّى سبيله، فعرَف آخرُهم صنيعَ أوّلهم؛ وعرفوا مقدارَ مقاديرِ أعمارها.

الحكمة في تخالف النزعات والميول

ولولا أنَّ ناساً من كلِّ جيل، وخصائص من كلِّ أمَّة، يلهجون ويَكْلَفون بتعرُّف معاني آخرين لدرستْ، ولعلَّ كثيراً من هؤلاء يُزْري على أولئك، ويعجِّب الناسَ من تفرُّغهم لما لا يجدي، وتركهم التشاغلَ بما يُجْدِي، فالذي حبَّب لهذا أن يرصُد عمر حِمار أو وَرَشَانٍ أو حيَّة أو ضبٍّ، هو الذي حبَّب إلى الآخر أن يكون صيَّاداً للأفاعي والحيَّات، يتتبَّعُها ويطلُبها في كلِّ واد وموضع وجَبَلٍ للترياقات، وسخَّرَ هذا ليكون سائسَ الأُسْدِ والفُهود والنُّمُور والببور، وترك من تِلقاء نفسِه أن يكونَ راعيَ غنم.
والذي فرَّق هذه الأقسام، وسخَّر هذه النفوسَ، وصَرف هذه العقول لاستخراجِ هذه العلوم من مدافِنها، وهذه المعاني من مخابِيها، هو الذي سخَّر بَطْليمُوس مع مُلْكِه، وفلاناً وفلاناً للتفرُّغِ للأمور السماويَّة، ولِرعايِة النجوم واختلاف مَسير الكواكب، وكلٌّ ميسَّرٌ لَمِا خُلِق له، لتَتمَّ النعمة ولتكمُل المعرفة، وإنما تأبَّى التيسير للمعاصي. فأمَّا الصناعاتُ فقد تقصُر الأسباب بعضَ الناس على أن يصير حائكاً، وتقصرُ بعضَهم على أن يكون صَيْرَفيّاً، فهي وإن قصَرتْه على الحِياكِة، فلم تقصُرْه على خُلْف المواعيد وعلى إبدال الغُزُول، وعلى تشقيق العملِ دونَ الإحكام والصدق وأداءِ الأمانة، ولم تقصر الصيرفيَّ على التطفيف في الوزِن والتغليط في الحساب، وعلى دسِّ المموَّه؛ تعالى اللهّّ عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً.

خضوع النتاج المركب للطبيعة

ولو كان أمرُ النِّتاج وما يحدث بالتراكيب ويخرج من التزاويج، إلى تقدير الرأي وما هو أقربُ إلى الظنِّ، لكانت الأظْلاف تجري مَجْرى الحوافر والأخفاف، ألا ترى أنَّ قرابة الضأن من الماعز، كقرابة البخْت من العراب، والخيل من الحمير !! وسبيل نتائج الظِّلْف على خلافِ ذلك؛ لأنَّ التيسَ على شدَّة غُلمته لا يعرض للنعجة إلاّ بالقليل الذي لا يُذكر، وكذلك ما يحدث بينهما من الولد كذلك: إمَّا ألاّ يتمّ خَلقُه، وإما ألاّ يعيش؛ وكذلك الكبشُ والعنز فضلاً عن أن يكون بينهما نتاج؛ لأنه قد يضرِب الجنس في الجنس الذي لا يُلْقحه، ولا يكون اللِّقاح إلا بعد ضراب.
وطلبََ التيسِ للنعجة قليل وأقلُّ من القليل، وكذلك الكبش للعنز، وأقلُّ من ذلك أنْ تتلاقح ولا يبقى ذلك الولد البتة.
وقد تجاسَرَ ناسٌ على توليدِ أبوابٍ من هذا الشكل، فادَّعوا أموراً، ولم يحفِلوا بالتقريع والتكذيب عند مسألة البرهان.

زعم في الزرافة

زعموا أنَّ الزرافة خلقٌ مركب من بين الناقة الوحشية وبين البقرة الوحشية، وبين الذِّيخ وهو ذكر الضباع؛ وذلك أنّهم لَّما رأََوا أنَّ اسمها بالفارسية أشتر كاو بلنك؛ وتأويل أشتر بعير، وتأويل كاو بقرة، وتأويل بلنك الضبع؛ لأن الضباعَ عُرْج؛ كذلك الذكر والأنثى يكون بهما خُمَاع؛ كما عرض للذئِب القزَل - وكلُّ ذئبٍ أقزَل - وكما أنَّ كلَّ غرابٍ يحجِل كما يحجِل المقيَّد من الناس؛ وكما أنَّ العصفورَ لا يمشي؛ ومشيُه أن يجمَع رجليه أبداً معاً في كلِّ حركةٍ وسكون، وقولهم للزرافة أشتر كاو بلنك اسم فارسيٌّ، والفُرس تسمِّي الأشياءَ بالاشتقاقات؛ كما تقول للنعامة: اشتر مرغ، وكأنَّهم في التقدير قالوا: هو طائر وجمل؛ فلم نجد هذا الاسم أوجبَ أن تكون النعامةُ نِتاجَ ما بين الإبل والطير، ولكن القوم لما شبهوها بشيئين متقارِبين؛ سمَّوها بذينك الشيئين، وهم يسمون الشيء المرَّ الحلو تَرْش شِيرِين وهو في التفسير حلوٌ حامض، فجسَر القومُ فوضعوا لتفسير اسم الزرافة حديثاً؛ وجعلوا الخِلقَةَ ضرْباً من التراكيب؛ فقالوا: قد يعرض الذيخ في تلك البلاد للناقة الوحشية فيسفدها، فتلقح بولدٍ يجيء خلقُه ما بين خلْق الناقة والضبع؛ فإن كان أنثى فقد يعرض لها الثور الوَحشي فيضربها؛ فيصير الولد زرافة، وإن كان ولدُ الناقة ذكراً عرَض للمهاة فألقحها فتلد زرافة، فمنهم من حجر البتَّةَ أن تكون الزرافة الأنثى تلقَح من الزرافة الذكر، وزعموا أنَّ كلَّ زرافةٍ في الأرض، فإنَّما هي من النِّتاج الذي ركَّبوا؛ وزعموا أَنَّ ذلك مشهورٌ في بلاد الحبَشة، وأَقاصي اليمن، وقال آخرون: ليس كلُّ خلقٍ مركَّب لا ينسِل ولا يبقَى نجلُه ولا يتلاقَح نسله، على ما حكينا من شأن الوَرشان والرَّاعبي، وهؤلاء وما أشبههم يُفسدون العلم، ويتَّهمون الكتب، وتغرّهم كثرةُ أتباعهم مَّمن تجدُه مستهتَراً بسماع الغريب، ومُغرَماً بالطرائف والبدائع، ولو أُعطُوا مع هذا الاستهتارِ نصيباً من التثبُّتِ، وحظًّا من التوقي، لسَلِمت الكتبُ من كثير من الفساد.

النتاج المركب في الطيور

وأنا رأَيتُ طائراً له صوتٌ غير حسن، فقال لي صاحب الطيور: إنّه من نِتاج ما بين القُمْريِّ والفاختة.
وقنَّاص الطيرِ، وَمن يأتي كلَّ أوقة وغيضةٍ في التماس الصيد، يزعمون أنَّ أَجناساً من الطير الأوابد والقواطعِ، تلتقي على المياه فتتسافد؛ وأنَّهم لا يزالون يرون أَشكالاً لم يروها قطُّ، فيقدِّرون أَنَّها من تلاقح تلك المختلفة.

زعم بعض الأعراب في الحرباء

وقال أَبو زيدٍ النحويّ، وذكر عّمن لقي من الأعراب أَنَّهم زعموا أَنَّ ذكرَ أمِّ حُبَين هو الحرباء، قال: وسمعت أَعرابيًّا من قيسٍ يقول لأمِّ حُبين حُبينة، والحُبينة هو اسمها، قال: وقيسٌ تسمِّي ذكر العَظاءة العَضْرفوط. وقال يحيى الأغر: سمعتُ أعرابياً يقول: لا خيرَ في العَظاءَة، وإنْ كان ضَبًّا مَكُوناً، قال: فإذاً سامُّ أبرَص، والوَرَل، والوَحَر، والضَّبّ والحَلَكاء، كلُّها عندَه عَظاءة.

ولد الثعلب من الهرّة الوحشية

وزعم يحيى بن نُجَيم أنَّ الثعلب يسفد الهرة الوحشية، فيخرج بينهما ولدٌ، وأنشد قول حسان بنِ ثابت رضي الله تعالى عنه:

فبئس البُنَيُّ وَبئس الأبُ

 

أبوك أبوك وأنت ابنُـه

كأنَّ أناملها العنـظـب

 

وأمُّكَ سَـوْدَاءُ نُـوبـيَّة

كما ساورَ الهرَّةَ الثعلبُ

 

يبيتُ أبوكَ بها معرسـاً

وأنشد أبو عبيدة قولَ عبد الرحمن بن الحكم:

مُغلغلَةً عن الرجُل اليمانـي

 

ألا أبلغْ مُعاوية بـنَ حـرب

وتَرضى أن يُقال أبوك زَاني

 

أتغضبُ أَنْ يقال أَبوك عَـفٌّ

كَرِحْم الفيل مِنْ وَلَدِ الأَتَـانِ

 

فأشهد أنّ رِحْمَكَ مِن قُرَيشٍ

قال كَيسان: ولأي شي قال:

كرحم الفيل من ولد الأَتان

إنما كان ينبغي أن يقول: كرِحْم الفِيل من الخنزير، قال أبو عبيدة: أرادها هو التبعيدَ بعينه؛ وأنت تُريد ما هو أقرب.

زعم بعض المفسرين والإخباريين في حيوان سفينة نوح

وزعم بعض المفسِّرين وأصحابِ الأخبار: أنَّ أهلَ سفينةِ نوحٍ كانُوا تأذَّوا بالفأر، فعَطَس الأسدُ عَطْسةً فرمى من مِنْخَريه بزوج سنانير، فلذلك السِّنَّوْرُ أشبهُ شيءٍ بالأسدِ، وسلَح الفيلُ زوجَ خنازير؛ فلذلك الخنزيرُ أشبهُ شيءٍ بالفيل، قال كيسان: فينبغي أن يكون ذلك السِّنَّورُ آدَمَ السنانير، وتلك السِّنَّورة حَوَّاءَها، قال أبو عبيدة لكيسان: أولم تعلمْ أنت أنّ لكل جنس من الحيوان آدم وحواء?َ وضحك فضحك القوم.

شره سعد القرقرة

ولمَّا رأى أبو قُردُودةَ سعدَ القرقرة، أكلَ عند النُّعمان مسلوخاً بعظامه قال:

وفي الذئاب له ظئر وأخْوالُ

 

بين النعامِ وبينَ الكلبِ مَنْبِـتُة

يقول: إنَّ سعداً ضرب في أعراقه نجر النعام الذي يلتهم الجمر، ويلتقم الحجارة، فيطفئ الجمرَ ويميع الصخْر، وضرب في أعراقه نَجْرُ الكلبِ الذي يرضُّ كلَّ عظم، ولا يقبِض عليه بكفِّه إلاّ هو واثق بفتّه، ولا يسيغه إلاّ وهو على ثقةٍ من استمرائه، فأمَّا الذئب فإنَّه لا يروم بفكَّيه شيئاً إلاّ ابتلعَه بغير معاناةٍ، عظماً كان أَو غيرَه، مصمتاً كان أو أَجْوفَ.
ولذلك قال الراجز:

في فمِهِ شَفْرتُـه ونـارُه

 

أَطلَس يُخْفِي شخصَه غُبَارُه

فأبو قُردُودةَ لم يُردْ أنَّ الذئب والكلب خالاه، وأَنَّ النعام نَجَلَه، وإنما قال ذلك على المثَل والتشبيه، ولم يردْ أَنَّ له ظئراً من الكلاب، وخالا من الذئاب.
وشبيهُ ذلك قول أَمير المؤمنين المأمون لبعض الناس: يا نُطَفَ الخمَّارين، ونزائع الظُّؤورة، وأشباه الخُؤولة.
وعلىَ شبيهٍ بذلك قال سلم بن قُتَيبة لبعض من ذَكره، وهو عند سليمان بن عليٍّ: أيُّها الأمير، إنَّ آلَ فلانٍ أعلاجُ خلقِ اللّه وأوباشُه، لئامٌ غُدر، شرَّابون بأَنْقُع، ثمَّ هذا بعدُ في نفْسه، نُطفَةُ خَمَّار في رَحِم صَنَّاجة.

زواج الأجناس المتباينة من الناس

وقال لي أبو إسحاق: قال لي أبو العباس وأبو العباس هذا كانَ ختنَ إبراهيمَ على أخته، وكانَ رجلاً يَدِين بالنجوم، ولا يقرُّ بشيءٍ من الحوادث إلاّ بما يجري على الطباع، قال أبو إسحاق: وقال لي مرَّة: أتعرفُ موضِع الحُظْوٍة من خَلْوة النساء?، قُلْتُ: لا واللّه لا أعرفُه، قال: بل اعلم أن لا يكونُ الحظُّ إلاَّ في نِتاج شِكلين متباينين، فالتقاؤهما هو الأكسير المؤدِّي إلى الخلاص: وهو أن تُزاوِج بين هِنديَّةٍ وخُراسانيٍّ، فإنها لا تلد إلاَّ الذهبَ الإبريز، ولكن احرُس ولدَها، إن كان الولدُ أنثى فاحذَر عليها من شدَّة لِواطِ رجال خراسان وزِناء نساء الهند، واعلمْ أن شهوتَها للرجال على قدرِ حُظْوِتها عندَهم، واعلمْ أنَّها ستساحق النساءَ على أعراقِ الخراسانيَّة، وتزْني بالرجال على أعراق الهند، واعلمْ أنّه مّما يزيد في زِناها ومساحَقَتها معرفتُها بالحُظوة عند الزُّناة، وبالحظِّ عند السحاقات.

مما زعموا في الخلق المركب

وقالوا في الخلق المركَّب ضُروباً من الحقِّ والباطل، ومن الصدق والكذب، فمن الباطِل زعُمهم أنَّ الشَّبُّوط ولد الزَّجْر من البُنِّيِّ، وأنَّ الشَّبُّوط لا يُخْلَق من الشَّبُّوط، وأنَّه كالبغلِ في تركيبِه وإنسالِه، ورووا ذلك عن أبي واثلِة إياسِ بنِ معاوية بن قرّة.
وزعموا أنّ أمَّ جعفر بنت جعفر بن المنصور، حصَرت في حوضٍ لها ضخمٍ أو بركةٍ كبيرةٍ عدداً كثيراً من الزجر والبُنِّيِّ، وأنَّها لم تخِلطْ بهما غيرَهما، فمات أكثره وبقيتْ بقيةٌ كانت الصميمَ في القوَّة، وفي احتمال تغيُّر المكان فلم تحمل البيضَ حِيناً، ثمَّ إنّها حملت بالشبابيط.

مطر الضفادع والشبابيط

وزعم حُريثٌ أنّه كان بأيذَج، فإذا سحابة دهماء طخياء تكاد تمسُّ الأرض، وتكاد تمسُّ قِممَ رُؤُوسهم، وأنَّهم سمعوا فيها كأصوات المجانيق، وكَهدير الفحول في الأشوال، ثم إنَّها دفَعَت بأشدِّ مطر رُئي أو سُمِع به، حتى استسلموا للغرق، ثمَّ اندفعتْ بالضفادع العظام، ثم اندفعت بالشبابيط السِّمان الخِدال فطبخوا واشتَوَوا، وملَّحوا وادَّخَروا.

غرور أبي واثلة والخليل بن أحمد

ورووا عن أبي واثلة أنَّه زعمَ أنَّ من الدليلِ على أنَّ الشَّبُّوط كالبغل، أنَّ الناسَ لم يجدوا في طولِ ما أكلوا الشبابيطَ في جوفِها بَيْضاً قطُّ، فإن كان هذا الخبرُ عن هذا الرجُلِ المَذكُورِ بشدَّة العقل، المنعوتِ بثُقُوب الفِراسة ودِقَّةِ الفطنة صحيحاً، فما أعظم المصيبةَ علينا فيه، وما أخلَقَ الخبَرَ أن يكون صحيحاً، وذلك أنِّي سمعتُ له كلاماً كثيراً من تصنيف الحيوان وأقسامِ الأجناس، يدلُّ على أنَّ الرجلَ حينَ أحسَنَ في أشياءَ وهَّمه العُجْبُ بنفسِه أنَّه لا يَروم شيئاً فيمتنعُ عليه.
وغرَّه مِن نفسِه الذي غرّ الخليل بنَ أحمدَ، حينَ أحسَنَ في النحوِ والعَرُوض، فظنَّ أنَّه يُحسِن الكلامَ وتأليف اللُّحون، فكتبَ فيهما كتابَين لا يَُشِير بهما ولا يُدلُّ عليهما إلاّ المِرَّةُ المحترِقة، ولا يؤدِّي إلى مثل ذلك إلاّ خِذلانٌ من اللّه تعالى، فإنّ اللّه عزَّ وجلَّ لا يُعجزه شيء.

بيض الشبوط وتناسله

والشَّبُّوط حفظك اللّه تعالى جِنسٌ كثيرُ الذكور قليلُ الإناث، فلا يكون إناثه أيضاً يجمعْن البيض، وإذا جمعنَ فلو جمعتَ بيضَ عشرٍ منهنَّ لَمَا كان كشَطْر بيضِ بُنِّيَّةٍ واحدةٍ، وقد رأيتُ بَيْضَ الشَّبُّوط وذقتُه للتعرُّف فوجدته غيرَ طائل، ولا مُعجِبٍ، وكلُّ صيّادٍ تسأله فهو يُنْبيك أنّ له بيضاً، ولكنَّه إذا كانَ يكونُ ضئيلاً قليلاً، لأنَّ الشبابيطَ في أصلِ العدد من أقلِّ السمك، وكذلك الجنس منه إذا كانت الأنثى منه مِذكاراً.
مواطن الشبوط على أنَّه رُبّ نهرٍ يكونُ أكثرُ سَمكه الشَّبُّوط، وذلك قليل، كنهر رَامَهُرْمز، والشَّبُّوط لا يتربَّى في البحار، ولا يسكن إلاّ في الأوديةِ والأنهار، ويكره الماءَ الملحَ ويطلبُ الأَعذبَ فالأَعذب، ويكون في الماء الجاري، ولا يكون في الساكن، وسنذكر شأنَه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.

رد على ما زعموا في الزرافة

ولم يصب أبو واثلة، وكذَبوا على أمِّ جعفر، فإذا قالوا في الزَّرافةِ ما قالوا فلا تأمَنْهم على ما هو دونَه، وإن كان مَن كذَب على الموتى واستشهد الغُيَّبَ أحذقَ، فصاحبُ الزرافة قد استعمل بعض هذه الحيلة، وصاحب الشَّبُّوط يكذِب على الأحياء، ويستشهد الحضور، وإن كان الذي دعا إلى القول في الزرافة أنهم جعلوا تركيب اسمه دليلاً على تركيب الخلق، فالجاموس بالفارسية كاوماش، وتأويله ضأنيّ بقريّ، لأنهم وجدوا فيه مشابهة َالكبش وكثيراً من مشابهة الثور، وليس أنّ الكِباشَ ضربت في البقر فجاءت بالجواميس.

رأي الفرس في تقسيم الحيوان

وزعم الفرسُ أنّ الحيوان كلَّه الذي يلد حيواناً مثلَه مَّما يمشي على أربع قوائم، لا تخلو أجناسها من المعز والضأن، والجواميسُ عندهم ضأن البقر،والبُخْت عندهم ضأن الإبل، والبَراذين عندهم ضأن الخيل

زعم في الإبل

والناس يقولون في الإبل أقاويلَ عجيبةً: فمنهم مَن يزعمُ أن فيها عِرقاً من سِفاد الجنّ، وذهبوا إلى الحديث: أنهم إنما كرهوا الصلاة في أعطان الإبل لأنها خُلِقَتْ من أعناق الشياطين فجعلوا المثل والمجاز على غير جهته، وقال ابن ميّادة:

تغنَّتْ شياطين وجُنَّ جنُونُها

 

فلما أتاني ما تقول مُحارِبٌ

قال الأصمعي المأثور من السيوف الذي يقال: إنّ الجنَّ عمِلته.
وهم يسمُّون الكِبر والخُنزُوانةَ والنَّعَرَة التي تضاف إلى أنف المتكبِّر شيطاناً، قال عمر: حتَّى أنزِعَ شيطانَه، كما قال: حتى أنزِع النَّعَرة التي في أنفه، ويسمُّون الحيَّة إذا كانت داهية منها شيطاناً، وهو قولهم: شيطان الحَماطة، قال الشاعر:

تَعَمُّجُ شَيْطانٍ بذي خِروعٍ قَفْرِ

 

تعالج مَثنَى حَضْرميٍّ كـأنـه

شبَّه الزِّمام بالحيَّة، وعلى مثل ذلك قال الشاعر:

حباب بكف الشأو من أسطع حشر

 

شناحية فيهـا شـنـاح كـأنـهـا

والحباب: الحية الذكر، وكذلك الأيم، وقد نُهي عن الصلاةِ عند غيبوبة الشمس، وعند طلوع القرص إلى أن يتتامّ ذلك، وفي الحديث: إنّها تطلُع بين قَرْنَي شيطان.

ضرورة حذق اللغة للعالم والمتكلم

فللعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبِنية، وموضعُ كلام يدُلُّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضعُ أُخَرُ، ولها حينئذ دَلالات أخر، فمن لم يعرفْها جَهِل تأْويل الكتابِ والسُّنَّة، والشاهد والمثلِ، فإذا نظَر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أَهل هذا الشأن، هلك وأَهلك.

الإبل الوحشية

وزعم ناسٌ أنَّ من الإبل وحشيًّا وكذلك الخيل، وقاسوا ذلك على الحمير والسَّنانير والحمام وغيرِ ذلك، فزعموا أنَّ تلك الإبلَ تسكنُ أرض وَبَارِ، لأنَّها غيرُ مسكونة، ولأنَّ الحيوانَ كلَّما اشتدَّت وحشيَّتهُ كان للخَلاء أطلب، قالوا: وربَّما خرجَ الجملُ منها لبعضِ ما يعرِض، فيضرب في أدنى هَجْمةٍ من الإبل الأهلية، قالوا: فالْمَهْرِيَّةُ من ذلك النِّتاج.
وقال آخرون: هذه الإبلُ الوحشيَّة هي الحُوش، وهي التي مِن بقايا إبل وَبَار، فلمَّا أهلكهم اللّه تعالى كما أهلك الأمم مثلَ عادٍ وثمودَ والعمالقة وطَسْمٍ وجَدِيسَ وجاسم، بقيَتْ إبلُهم في أماكنهم التي لا يَطُورها إنْسيٌّ فإن سقَطَ إلى تلك الجِيزة بعض الخلعاء، أَوْ بَعْضُ من أضلَّ الطريق حثَت الجنُّ في وجهه، فإنْ ألحَّ خَبَلته، فضرَبَتْ هذه الحوش في العُمَانيّة، فجاءَت هذه المَهْرِيَّة، وهذه العسجديَّة التي تسمى الذهبيَّة.
وأنشدني سعدان المكفوف عن أبي العميثل قول الراجز:

جُلودُها مِثلُ طَواويسِ الذَّهبْ

 

ما ذمَّ إبْلِي عَجَمٌ ولا عَـرَبْ

وقال الآخر:

تلاقَى العَسجديَّةُ واللَّـطِـيمُ

 

إذا اصطكَّتْ بضيق حَجْرَتاها

والعسجد من أسماء الذهب.

قالوا: وإنَّما سُمِّيتْ صاحبةُ يزيد بن الطَّثَريَّة حُوشِيَّةً على هذا المعنى.

وقال رؤبة:

جرت رحانا من بلاد الحُوش

رد على ما زعموا من مطر الضفادع والشبابيط

وأما الذي زعم أنَّهم مُطِروا الشَّبوط، فإنه لما ظنّ أنَّ الضفادعَ التي تُصابُ بعَقِبِ المطر، بحيثُ لا ماءٌ ولا وحلٌ ولا عينٌ ولا شريعة - فإنهم ربَّما رأَوها وسط الدَّوِّ والدَّهناء والصَّمَّان - ولم يشُكَّ أنَّها كانت في السحاب وعلم أنَّها تكون في الأنهار ومنابع المياه، وليس ذلك من الذكر والأنثى، قاسَ على ذلك الظنِّ السمك، ثم جسَرَ فجعلَ السمك شَبُّوطاً، وتلك الضفادعُ إنما هي شيءٌ يُخلَق تلك الساعة، من طباع الماء والهواء والزمانِ وتلك التُّرْبة، على مقاديرَ ومقابلات، وعلى ما أجرى اللّه تعالى عليه نشأة الخلق.

امتناع التلاقح بين بعض الأجناس المتقاربة

وقد تُعرف القرابةُ التي تكون في رأي العين بين الشكلين من الحيوان فلا يكون بينهما تسافُدٌ ولا تلاقُح، كالضأن والمعز، وكالفأر والجُرْذان، فليس بالعجَب في البقر والجواميس أن تكون كذلك، وقد رأينا الخِلاسيَّ من الدجاج والدِّيَكة، وهو الذي تخلَّقَ من بين المولَّدات والهِنديَّات، وهي تحمل اللحم والشحم. وزعم لي مسعود بن عثمان، أنه أهدى إلى عمرو بن مَسْعَدة، دجاجة ووُزنَ فيها سبعة عشرَ رِطلاً بعد طرح الأسقاط وإخراج الحشوة.

أثر زواج الأجناس المتباينة من الناس

ورأينا الخِلاسيَّ من الناس، وهو الذي يتخلَّق بين الحبشيِّ والبيضاء، والعادةُ من هذا التركيب أنه يخرج أعظمَ من أبوَيه وأقوى من أصلَيه ومثْمِرَيه، ورأينا البَيْسَريَّ من الناس، وهو الذي يُخلَق من بين البيض والهند، لا يخرج ذلك النِّتاجُ على مقدار ضخم الأبوين وقوّتهما، ولكنه يجيءُ أَحسنَ وأملح، وهم يسمُّونَ الماءَ إذا خالطته الملوحة بيسراً قياساً على هذا التركيب الذي حكَينا عن البيض والهنديات، ورأينا الخِلاسيَّ من الكلاب، وهو الذي يُخلْق بين السَّلُوقيِّ وكلب الراعي، ولا يكون ذلك من الزِّئني والقلطي، ومن كلاب الدُّور والحرَّاس، وسنقول في السِّمْع والعِسبار، وفي غيرِهما من الخَلْقِ المركَّب إن شاء اللّه تعالى.
أطول الناس أعماراً وذكروا أنَّهم وجدوا أطولَ أعمار الناس في ثلاثة مواضع: أوَّلها سَرْوحمير، ثم فَرغانة، ثم اليمامة، وإنّ في الأعراب لأعماراً أطول، على أَنَّ لهم في ذلك كِذْباً كثيراً، والهندُ تُربي عليهم في هذا المعنى، هكذا يقول علماء العرب.
أثر النبيذ في عمر الإنسان وكان عثمانُ ماش ويزال وجذعان، يذكرون أنّهم عدُّوا أربعينَ فتًى مِنْ فتيانِ قريش وثقيف أعذارَ عامٍ واحد فأحصَوْا عشرينَ من قريش، وعشرين من ثقيف، وتوخَّوا المتجاوِرين في المحلَّة والمتقارِبين في الدُّور من الموفَّرين على النبيذ، والمقصورين على التنادُم، وأنّهم أحصَوا مثلَ ذلك العدد وأشباهَ أولئك في السِّن ممَّن لا يذوق النبيذَ ولا يعرفُ شراباً إلا المَاءَ، فذكَرُوا أَنَّهُمْ وجدُوا بعدَ مرورِ دهرٍ عامَّةَ من كان يشرَبُ النبيذَ حيّاً، ومن لا يشربه قد مات عامَّتُهم، وكانوا قد بلغوا في السنِّ، أما عثمان ويزال فكانا من المعمَّرين، وقد رأيتهما جميعاً ولم أَسمع هذا منهما، وسنأتي على هذا البابِ في موضعه من ذكر المعمَّرين، ونميِّز الصدقَ فيه من الكذب، وما يجوز وما لا يجوز إن شاء اللّه تعالى

بعض ما يعرض للخصيان

وما أَكثر ما يعرض للخصيان البولُ في الفراش وغيرِ ذلك، ولا سيّما إذا بات أحدُهم ممتلئاً من النبيذ.
ويعرض لهم أيضاً حبُّ الشراب والإفراط في شهوته وشدَّة النَّهم.
ويعرض لهمْ أيضاً إيثار المخْفِس وحبُّ الصِّرْفِ، وذلك أيضاً مّما يعرض للنساء، والإفراط في شهوتهنَّ وشدَّة الهمَّة لهنَّ والغيرة عليهنَّ، ويحتلمون، ويجنبُون ويغتسلون، ويرون الماءَ غَير الرائق ولا الغليظ، الذي له ريح طلع الفُحَّال.
ويعرض للخصيِّ شدَّةُ الاستخفاف بمن لم يكن ذا سلطان عظيم أو مال كثيرٍ أو جاهٍ عريض، حتَّى ربَّما كان عند مولاه بعضُ من عسى أن يتقدَّم هؤلاء المذكورين الذين يكون الخصيُّ كلِفاً بهم وبتعظيمهم، ومُغرَماً بخدمتهم، في الأدبِ والحسب، وفي بُعْدِ الهمَّة وكرم الشِّيمة، فيعمِد عند دخول ذلك الرجل الذي له السلطانُ والجاهُ والمالُ إلى متَّكأ هذا الأديب الكريم، والحسيبِ الشريف، فينزِعه من تحت مِرْفَقهِ، غيرَ محتفل بذلك ولا مكترث لما فيه، ويضعُه له من غير أَنْ يكونَ موضع المرافقَ بعيداً، أَو كان ذلك ممَّا يفُوت بعضَ الفوت، ويفعل ذلك وإن كان يعاشر هذا الأديب الكريم مولاه وهو على يقين أنه لا يرى ذلك الموسَر وصاحبَ الجاهِ أبداً.
أقوال في خصاء الخيل وقد حرَّم بعضهم خِصاءَ الخيل خاصَّة، وبعضُهُم زاد على ذلك حتَّى حَرَّم خِصاء البهائم، وقال بَعْضُهُمْ: إذا كان الخِصاءُ إنَّمَا اجتلَبه فاعله أَوْ تَكَلّفهُ صاحبُهُ على جهة التماسِ المنفعَة، أَو على طريقِ التجارة، فذلك جائز، وسبيلُه سبيل المِيسَم، فَإنّ المِيسم نار، و أَلمه يجوزُ كلَّ ألم وقد رأينا إبلَ الصدَقة موسُومة، ووسمَت العربُ الخيلَ وجميعَ أصنافِ النَّعم في الإسلام، على مِثل صنيعِها في الجاهليَّة، وقد كانت القَصواءُ ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم موسومة، وكذلك العضْباءُ.
أقوال في وسم الحيوان  وقال آخرون: الخِصاء غيرُ شبيه بالميسم، لأنَّ في الخصاء من شدَّة الألمِ، ومن المُثلة، ومن قطْع النَّسْل، ومن إدخال النقصِ على الأعضاء، والنقصِ لموادِّ القوى، ما ليس في الميسم وغيره، وهو بقطع الأَلية أشبَه، والسِّمَةُ إنَّمَا هي لَذْعة، والخصاءُ مجاوِزٌ لكلِّ شديدة.
قال القوم: ولا بأسَ بقطع الأَليةِ إذا مَنعت بِثِقلِهَا أو عِظَمها الشاةَ من اللَّحاقِ بالقطيع وخيف عليها من الذئب، وقطعُ الألية في جواز العقول أشبهُ من الميسم، لأنَّ المِيسمَ ليس للبعير فيه حظٌّ، وإنَّما الحظُّ فيه لربِّ المال، وقطعُ الأليةِ من شكل الخِتان، ومن شكل الْبَطِّ والفصْد، ومن جنس الوَجُور والبيطرة، ومن جنس اللَّدُود والحِجامة، ومن جنس الكيِّ عند الحاجة، وقطع الجارحة إذا خِيف عليها الأَكِلَة وسم الإبل قال الأوَّلون: بل لعمري إنَّ للإبل في السِّمات لأعظمَ المنافع، لأنهَّا قد تشْرَب بِسماتها ولا تُذَاد عن الحوض إكراماً لأربابها، وقد تضِلُّ فتُؤْوَى، وتُصاب في الهُوَاشات فتُردّ.
قالوا: فإنا لا نسألكم إلاّ عن سماتِ الخيل والبغالِ والحمير والغنم، وبعدُ فكيف نستجيز أنْ نَعمَّها بالإحراق بالنار، لأمَر عسى ألاَّ يحتاج إليه من ألفِ بعيرٍ واحد، ثم عسى أَلاَّ يحتاج من جميع ذلك في جميع عمره إلاّ إلى شَرْبةٍ واحدة.
وقال القوم: إنَّمَا المياسم في النَّعَم السائمة كالرُّقوم في ثياب البَزَّاز، ومتى ارتفعت الرقومُ ومُنِعت المياسم، اختلَطَت الأموال، وإذا اختلطت أمكَنَ فيها الظلم، والمظلومُ باذلٌ نفسَه دونَ المعيشة والهَضِيمة.
وقالوا: ليس قطعُ الأليةِ كالمجثَّمة وكالشيء المصبور، وقد نُهِينا عن إحراق الهوامِّ، وقيل لنا: لا تعذِّبوا بعذاب اللّه تعالى، والميسمُ نار، وقطعُ الأَلية من شكل قَطْعِ العروق، وصاحبُ المجثَّمة يقدِر أن يرميَ - إن كان به تعلُّم الرماية - شيئاً لا يألم ولم يُنْهَ عن تعذيبه، فَمَا يَردُّ الشيء المصبور من العذاب مَرَدّاً بوجه من الوجوه القول في نقص بعض أجزاء الحيوان أو نقضها أو إيلامها وقال آخرون: ليس لك أن تُحدِث في جميع الحيوانِ حدثاً من نقْضٍ أو نقص أو إيلام، لأنك لا تملك النشأَة، ولا يمكنك التعويض له، فإذا أذن لك مالك العين، بل مخترعه ومنشئ ذاته والقادر على تعويضه، وهو اللّه عزَّ وجلَّ، حلَّ لك من ذلك ما كان لا يحلّ، وليس لك في حُجَّة العقل أن تصنعَ بها إلاّ ما كان به مصلحةٌ، كعلاج الدَّبَر وكالبيطرة.
وقال آخرون: لنا أن نصنعَ كلَّ ما كان يُصنَع على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبعدَه، ممّا لم يكن مدفوعاً عندَ بعضهم، إلاّ أن يكون نَهْيُ ذلك البعضِ من جماعتهم، في طريق الخلافِ والردِّ والمفارقة ولا يكون عندهم قولاً من الأقاويل، فإنَّ ذلك في سبيل العلاج بعد أن كان المتكلِّف يَعْرِفُ وجهَ الملام، والمذهب في ذلكَ معروف وإن كان خارجاً من ذلك الحدِّ، فقد علمنا أنَّه أُبيح من طريق التعبُّد والمحنة، كما جعل اللّه تعالى لنا ما أحلَّ ذبحَه من البهائم، وكما جعَل لنا أن نقتُل القملَ والبراغيثَ والبعوض، وإن لم يكن منها إلاّ مقدارُ الأذى فقط، والقتل لا يكون قصاصاً من الأذى، ولكن لمَّا أباح لنا خالقُ الشيء والقادر على تعويضه قتلَه، كان قتلُه أسوغَ في العقل مع الأذى، مِنْ ذبح البهيمة مع السلامة من الأذى.
قال: وليس كل مؤذٍ ولا كل ذي أذى حكم اللّه تعالى فيه بإباحة القتل، واللّه عزَّ وجلَّ، بمقادير الأمورِ وبحكم المختلف والمتَّفِق، والقليلِ من ذلك والكثير، أحكَمُ وأعلم.
وقد أمرَ اللّه تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بذبح إسحاق أو إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فأطاع الوالدُ وطاوع الولد.
والجواب الماضي إنما هو قول من قال بالتعويض، وهو قول النظَّام، وأكثرُ المتكلِّمين يعترِضون عليه فيه.

منع خصاء الإنسان وإباحته

ولا يزال - يرحُمك اللّه تعالى - بعضُ الملحِدين من المعاندين، أو بَعْضُ الموحِّدين من الأغبياء المنقوصين، قد طعَن في مِلْكِ الخصيِّ وبيعِه وابتياعه، ويذكرون الخصيَّ الذي كان المقوقِس عظيمُ القِبط أهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، مع مارية القِبطيَّة أمِّ إبراهيم عليه السلام، قالوا: فقد ملك عليه الصلاة والسلام خَصِياً بعد أن عرَفه وأحاط علمُهُ بأنَّه خصيٌّ، وأنتم تزعمون أنَّ الخِصاء حرام، وأنَّ من اشترى من الخاصي خَصِيَّاً ثم زاد على قيمته وهو فحل، فقد أعان على الخصاء وحثَّ عليه، ورغَّب فيه، وأنَّه من أفحش الظلم وأشدِّ القسوة، وزعمتم أنَّ من فعَل ذلك فهو شريكُ الخاصي في الإثم، وأنََّ حالَه كحال المعروفين بالابتياع من اللصوص، وقلتم: وكذلك من شهد القِمار وهِراشَ الكلاب، ونِطاحَ الكِباش وقتال الديوك، وأصحاب المجارحات وحرب الفئتين الضالَّتين، وقلتم: لأنَّ هذه المواضعَ لو لم تحضرها النَّظَّارةُ لما عمِلوا تلك الأعمال، ولو فَعلوها ما بَلغوا مقدارَ الشَّطر، لغلَبة الرياءِ والسُّمعة على قلوب الناس، فكذلك الخاصي، والمشتري، والمبتاع من المشتري، شركاءُ متعاوِنون، وخُلَطاءُ مترادفون، وإذا كان المبتاع يَزيد في السِّلْعةَ لهذه العلَّة، والبائع يزيد في السَّوْم لهذا السبب، وقد أقررتم بأنَّ النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قَبِل له من المقوقس، كما قبل مارية، واستخدمه، وجرى عليه ملكُه وأمرُه، فافهمْ فهّمك اللّه تعالى ما أنا مجيبٌ به في هذه المسألة، واللّّه الموفِّقُ، وعلى اللّه قَصْدُ السبيل.
أقول: قبلَ كلِّ شيء لا يخلو هذا الحديث الذي رويتموه من أن يكون مرضيَّ الإسناد،صحيحَ المخرج، أو يكونَ مسخوط الإسناد، فاسدَ المخرج، فإن كان مسخوطاً، فقد بطلت المسألة، وإن كان مرضيّاً، فقد علمنا أنّه ليس في الحديث أنَّه قَبِله منه بعد أنْ عِلم أنَّه خصيٌّ، وعلى أنَّ قبولَ الهديّة خلاف الابتياع، لأَنَّ بائعَ الخصيِّ إنَّما يحرُم عليه التماسُ الزيادة، وكذلك المبتاع إنَّما يحرم عليه دفعُ الزيادة إذا كان لو سلم إليه بذلك الثمن فحلاً أجملَ منه وأشبَّ وأخدمَ منه لم يزدْه، والبائع أيضاً لا يستام بالفحل سَومَه بالخصي، وقبول الهديَّة، وقبول الهِبَة، وسبيلُ البيع والابتياع لا بأس به إذا كان على ما وصفنا، وإنَّما هديَّة الخِصيِّ كهديَّة الثوب والعِطر، والدابَّةِ والفاكهة، ولأَنَّ الخصيَّ لا يحرم مِلكُه ولا استخدامُه، بل لا يحلُّ طرده ونفيُه، وعتقُه جائز، وجوازُ العِتق يوجب الملك، ولو باعه المالك على غير طلبِ الزيادة، أو لو تاب من الخِصاء أو استحلَّه مما أتى إليه، لَمَاَ حرم على الخاصي نفسِه استخدامه، والخصيُّ مالٌ وملك، واستخدامه حسَنٌ جميل، ولأنَّ خِصاءه إيّاه لا يَعتِقه عليه، ولا يُزيل عن ملكه إلا بمثل ما وَجَبَ به مِلكُه.
وأخرى: أنَّ في قَبول هديَّةِ ذلك الملِكِ، وتلَّقي كرامِته بالإكرام تدبيراً وحكمة، فقد بطلت المسْألة، والحمدُ للّه كما هو أهله.
وقد رووا مع ذلك أيضاً: أنَّ زِنباعاً الجُذَاميّ، خصى عبداً له، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعتقَه عليه فيما بلغنا، واللّه أعلم.
وربَّما سألوا عن الشيء وليس القولُ فيه يقَع في نسق القول في الخصيّ، وفي الخلْق المركَّب، ولكنْ إذ قد أجبْنا في مسألةٍ كلاميَّة من مسائل الطعْن في النبوَّة، فلا بأسَ أن نُضيف إليها أخرى، ولا سيَّما إذا لم تَطُلْ فتَزِيدَ في طُول الكتاب.
وقد لا يزال الطاعنُ يقول: قد علمْنا أنَّ العربَ لم يَسِمُوا حروب أيّام الفِجار بالفجور وقريش خاصّة، إلاّ أنّ القتال في البلد الحرام، في الشهر الحرام كان عندهم فجوراً، وتلك حروبٌ قد شهدها النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله، وهو ابن أربَع عشرَ سنةً، وابن أربعَ عشرة سنة يكونُ بالغاً، وقال: شَهِدتُ الفِجَارَ فكنْتُ أنبُلُ على عمومتي. وجوابنا في ذلك: أنَّ بني عامر بن صعصعة، طالبوا أهلَ الحرَم من قريشٍ وكنانة، بجريرة البرَّاض بن قيس، في قتله عروة الرحَّال، وقد علموا أنَّهم يُطالِبون مَنْ لم يجنِ ومن لم يعاونْ، وأنَّ البرَّاض بنَ قيس كان قبل ذلك خليعاً مطروداً، فأتوَهمَ إلى حَرَمهم يُلزِمونهم ذنبَ غيرهم، فدافعوا عن أنفسِهم، وعن أموالهم، وعن ذراريهم، والفاجر لا يكون المسْعِيَّ عليه، ولذلك أشهدَ اللّه تبارك وتعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام ذلك الموقف، وبه نُصروا كما نُصرت العربُ على فارسَ يوم ذي قارٍ، به عليه الصلاة والسلام وبمخرجه، وهذان جوابان واضحان قريبان، واللّه الموفِّق للصواب، وإليه المرجع والمآب.

ذكر محاسن الخصي ومساوِيه

ثم رجَعَ بنا القولُ إلى ذكرِ مَحاسِن الخصيّ ومساويه.
الخصيُّ يَنْكِحُ ويتّخذ الجواري ويشتدُّ شغفه بالنساء، وشغفُهنَّ به، وهو وإن كان مجبوب العضو فإنَّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجبُ إليهنَّ، وقد يحتلم ويخرجُ منه عند الوطء ماءٌ، ولكنَّه قليلٌ متغيِّر الريح، رقيقٌ ضعيف، وهو يباشِر بمشقّة، ثم لا يمنعه من المعاودة الماءُ الذي يخرج منه إذْ كان قليل المقدار لا يخرجه من القوّة إلى الضعف، مثل الذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان، وهو أخثرُ، وأكثر، وأحدُّ ريحاً، وأصحُّ جوهراً، والخصيُّ يجتمع فيه أُمنيَّةُ المرأة، وذلك أنَّها تبغض كلَّ سريعِ الإراقة، بطيء الإفاقة، كما تَكرهُ كلَّ ثقيل الصدر، وخفيف العَجْز، والخصيُّ هو السريع الإفاقة، البطيء الإراقة، المأمونُ الإلقاح، فتقيمُ المرأةُ معَه، وهي آمنة العار الأكبر، فهذا أشدُّ لتوفير لذّتها وشهوتها، وإذا ابتذلن الخِيصانَ، وحَقَرن العبيد، وذهبت الهيبةُ من قلوبهنّ، وتعظيمُ البعول، والتصنُّع لذوي الأقدار باجتلاب الحياء وتكلّفِ الخجل، ظهَر كلُّ شيء في قوى طبائِعهنّ وشَهوَاتهنّ، فأمكنَهَا النَّخير والصِياح، وأن تكون مرَّةً من فوقُ، ومرَّةً من أسفل، وسمحت النفسُ بمكنونِها، وأظَهرت أقصى ما عنِدها.
وقد تجد في النساء مَنْ تؤْثر النساءَ، وتجدُ فيهنَّ من تُؤثر الرجال، وتجد فيهنَّ مَنْ تؤْثرُ الخِصيان، وتجد فيهنَّ من تجمعُ ولا تفرِّق، وتعمُّ ولا تخصُّ، وكذلك شأنُ الرجال في الرجال، وفي النساء والخصيان فالمرأة تنازِع إلى الخصيِّ لأَنَّ أمرَه أستر وعاقبتهُ أسلم، وتحرِص عليه لأنَّه ممنوعٌ منها، ولأنَّ ذلك حرام عليها، فلها جاذبان: جاذبُ حرصٍ كما يُحْرَص على الممنوع، وجاذبُ أَمْنٍ كما يُرغَب في السلامة، وقال الأَصمعيّ: قال يونس بن عُبَيد: لو أُخِذْنا بالْجَزَعِ لصَبَرنا، قال الشاعر:

وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا

 

وزادها كَلَفاً بالحبِّ أَنْ منـعَـتْ

والحرصُ على الممنوعِ بابٌ لا يَقْدِر على الاحتجاز منه، والاحتراسِ من خُدَعه، إلاَّ كلُّ مبرِّز في الفطنة ومتمهِّل في العزيمة، طويلِ التجارب، فاضِل العقل على قُوَى الشهوات، وبئس الشيءُ القرينُ السوء، وقالوا: صاحب السُّوءِ قِطعةٌ من النار.
وبابٌ من هذا الشكل، فَبِكم أعظُم حاجةٍ إلى أن تعرفوه وتقِفُوا عندَه، وهو ما يصنع الخَبَرُ السابق إلى السمع، ولا سيَّما إذا صادفَ من السامع قلَّةَ تجرِبة، فإنْ قرَن بين قلَّة التجربةِ وقلَّةِ التحفُّظِ، دخل ذلك الخبر السابقُ إلى مستقرِّه دُخولاً سهلاً، وصادفَ موضعاً وطيئاً، وطبيعة قابلة، ونفساً ساكنة؛ ومتى صادفَ القلبَ كذلك، رسَخَ رسوخاً لا حيلة في إزالته، ومتى أُلقِيَ إلى الفِتيان شيءٌ من أمور الفَتيات، في وقت الغَرَارةِ، وعند غلَبةِ الطبيعة، وشَبابِ الشهوَةِ، وقلَّة التشاغُل؛ وكذلك متى أُلقِي إلى الفِتيان شيءٌ من أمورهنَّ وأُمُورِ الغِلْمان، وهناك سُكْر الشَّباب، فكذلك تكون حالهم، وإنَّ الشُّطَّار لَيخلُو أحدُهم بالغلام الغَرير فيقول له: لا يكون الغلامُ فتًى أبداً حتَّى يصادِقَ فتًى وإلاّ فهو تِكش، والتكش عندهم الذي لم يؤدّبه فتًى ولم يخرِّجه، فما الماءُ العذْبُ البارد، بأسرعَ في طباع العطشان، من كلمته، إذا كان للغُلام أدنى هوًى في الفتوَّة، وأدنَى داعيةٍ إلى المنالة، وكذلك إذا خلَت العجوز المدربة بالجارية الحَدَثة كيف تخلبها، وأنشدنا:

تخلط الجِدَّ بأصنافِ اللعـبْ

 

فأتـتْـهـا طَـبَّةٌ عـالـمةٌ

وتَنَاهَى عند سَورات الغَضَب

 

ترفعُ الصوتَ إذا لانت لهـا

وقال الشاعر فيما يشبهُ وقوعَ الْخَبَرِ السابق إلى القلب:

ما الحبُّ إلاَّ للـحـبـيبِ الأَوَّلِ

 

نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئْتَ من الهوى

وحنينُـه أبـداً لأوَّلِ مَـنْـزِلِ

 

كم منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتَى

وقال مجنون بني عامر:

فصادفَ قلباً خالياً فتـمـكَّـنَـا

 

أتاني هَواهَا قَبْلَ أنْ أعرِفَ الهوَى

أثر التكرار في خلق الإنسان

وبابٌ آخر ممَّا يدعو إلى الفساد، وهو طولُ وقوعِ البصرِ على الإنسان الذي في طبعه أدنى قابلٍ، وأدنى حركةٍ عند مثله، وطولُ التداني، وكثرةُ الرؤيةِ هما أصلُ البلاء، كما قيل لابنة الخُسّ: لم زَنيتِ بعبْدِك ولم تزني بحرٍّ، وما أغْرَاك به? قالت: طُولُ السِّواد، وقُرْبُ الوِساد.
ولو أنَّ أقبحَ الناسِ وجهاً، وأنتنَهم ريحاً، وأظهرَهم فقراً، وأسقطَهم نفساً، وأوضعَهم حسَباً، قال لامرأةٍ قد تمكَّنَ من كلامِها، ومكَّنته من سَمْعِها: واللّهِ يا مولاتي وسيِّدتي، لقد أسهَرْتِ ليلي، وأرَّقْتِ عَيني، وشغلْتِنِي عن مُهِمِّ أمري، فما أعقِلُ أهلاً، ولا مالاً، ولا ولداً؛ لنَقَض طِباعَها، ولفسَخ عَقْدَها، ولو كانتْ أبرعَ الخلْقِ جمالاً، وأكملَهم كمالاً، وأملحهم مِلحاً، فإنْ تهيّأَ مع ذلك مِن هذا المتعشِّق، أَنْ تدمَع عينهُ، احتاجت هذه المرأة أن يكون معها وَرَعُ أمِّ الدرداء، ومُعاذة العدويّة، ورابعةَ القيسيَّة، والشجَّاء الخارجيَّة.

زهد الناس فيما يملكونه ورغبتهم فيما ليس يملكونه

وإنَّمَا قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللّه تعالى عنهُ: اضربُوهنَّ بالعُرْي لأَنَّ الثيابَ هي المدعاةُ إلى الخُروج في الأَعراس، والقيامِ في المَناحات، والظهورِ في الأعياد، ومتَى كثر خروجُها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها، ولو كان بعلُها أتمَّ حسناً، والذي رأتْ أنقَصَ حسناً، لكان ما لا تملكه، أطرفَ ممَّا تملكُه، ولكان ما لم تنلْه، ولم تَستكثر منهُ، أشدَّ لها اشتغالاً وأشد لها اجتذاباً، ولذلك قال الشاعر:

هوى النفس شيءٌ كاقتيادِ الطرائف

 

ولِلعين مَلْهًى بالـتِّـلادِ ولـم يقُـدْ

وقال سعيد بن مسلم: لأَن يرى حرمتي ألفُ رجل على حالٍ تكشَف منها وهي لا تراهم، أحبُّ إليّ من أن ترى حُرْمتي رجلاً واحداً غيرَ منكشف.
وقال الأوَّل: لا يضرُّك حُسْنُ من لم تعرف؛ لأنَّك إذا أتبعتها بصَرك، وقد نقضت طبعك، فعلمْتَ أنَّك لا تصل إليها بنفسك ولا بكتابك ولا برسولك، كان الذي رأيت منها كالحلم، وكما يتصور للمتمنِّي، فإذا انقضى ما هو فيهِ مِنَ المنى، ورجعت نفسُه إلى مكانها الأوَّل، لم يكن عليه من فقدها إلاّ مثلُ فقد ما رآه في النوم، أو مثَّلته له الأمانيّ.

عقيل بن علفة وبناته

وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة: لو زوَّجْتَ بناتِك فإنَّ النساءَ لحمٌ على وَضَمٍ إذا لم يكنَّ غانيات قال: كلا، إنِّي أُجِيعُهنَّ فلا يأشَرْنَ، وأُعْرِيهنَّ فلا يظهرْن فوافقت إحدى كلمتيه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ووافقت الأخرى قول عمر بن الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصَّوْمُ وِجَاء، وقال عمر: استعينُوا عليهنّ بالعُرْي، وقد جاء في الحديث: وفِّروا أشعارهن فإنَّ ترك الشعر مَجْفَرة، وقد أتينا على هذا الباب في الموضع الذي ذكرنا فيه شأن الغيرة، وأوَّلَ الفسادِ، وكيف ينبُت، وكيف يُحصَد.

بعض ميول الخصيان

وقد رأيتُ غيرَ خَصيٍّ يتلوَّط، ويطلب الغلمان في المواضع، ويخلو بهم ويأخذهم على جِهة الصداقة، ويحمل في ذلك الحديد، ويقاتل دون السخول، ويتمشى مع الشطَّار. وقد كانَ في قطيعةِ الربيعِ خصيٌّ أثيرٌ عندَ مولاه، عظيم المنزلة عنده؛ وكان يثِق به في مِلْكِ يمينِه، وفي حُرَمه من بنتٍ وزوجَةٍ وأختٍ، لا يخصُّ شيئاً دونَ شيء، فأشرَفَ ذاتَ يومٍ على مِرْبَدٍ له، وفي المِربد غنمٌ صفايا، وقد شدَّ يَدي شاةٍ وركبها من مؤخَّرها يكُومُها، فلمَّا أبصره بَرِقَ وَبَعِل وسُقِطَ في يديه، وهجم عليه أمرٌ لو يكون رآه من خصيٍّ لعدوٍّ لَهُ لَمَا فارقَ ذلك الهولُ أبداً قلبَه، فكيف وإنّما عايَن الذي عاين فيمَن كان يخلُفُه في نسائه مِن حُرَمه ومِلْكِ يمينه، فبينما الرجلُ وهو واجم حزين، وهو ينظر إليه وقد تحرَّق عليه غيظاً إذْ رَفَع الخصيُّ رأسَه، فلمَّا أثبَت مولاهُ مَرَّ مُسرِعاً نحوَ باب الدار ليركَبَ رأسَه، وكان المولى أقربَ إلى الباب منه، فسبقه إليه، وكان الموضعُ الذي رآه منه موضعاً لا يُصعَد إليه، فحدَثَ لشقائِهِ أمرٌ لم يجد مولاه معه بُدّاً من صُعودِه، فلبثَ الخصيُّ ساعةً ينتفِض من حُمَّى ركِبته ثم فاظ، ولم يُمسِ إلاَّ وهو في القبر.
ولفرْط إرادتِهم النساء، وبالحسرة التي نالتهم، وبالأسف الذي دخلَهم، أبغَضُوا الفحولَ بأشدَّ مِنْ تباغُضِ الأعداءِ فيما بينهم، حتَّى ليس بين الحاسدِ الباغي وبينَ أصحابِ النِّعَم المتظاهرة، ولا بين المَاشي المعنَّى وبين راكب الهِمْلاجِ الفارِه، ولا بين ملوكٍ صاروا سُوقةً، وبينَ سُوقَةٍ صاروا ملوكاً، ولا بينَ بني الأعمام مع وقوع التنافسِ، أو وقوعِ الحربِ، ولا بين الجِيرانِ والمتشاكلين في الصناعات، من الشنف والبغضاء، بقدرِ ما يلتحف عليه الخِصيانُ للفحول.
وبُغضُ الخصيِّ للفَحل من شِكل بُغض الحاسِدِ لذِي النعمة، وليس مِنْ شكل ما يولِّده التنافسُ وتُلحِقُه الجنايات.

نسك طوائف من الناس

ولرجالِ كلِّ فَنٍّ وضربٍ من الناس، ضربٌ من النسك، إذْ لا بدَّ لأحدِهم من النزوع، ومن تركِ طريقته الأولى: فنسك الخصيِّ غزْو الروم، لِمَا أَنْ كانوا هم الذين خَصَوهم، ولُزُومُ أَذَنة والرِّباطُ بطَرَسُوسَ وأَشباهِها، فظنَّ عند ذلك أهلُ الفِراسة أنَّ سببَ ذلك إنّما كان لأنَّ الرُّوم لِما كانوا هم الذين خَصَوهم، كانوا مغتاظين عليهم، وكانت متطلِّبةً إلى التشفِّي منهم، فأخرج لهم حبُّ التشفِّي شدَّةَ الاعتزامِ على قتلهم، وعلى الإنفاقِ في كلِّ شيء يَبلُغ منهم، ونُسكُ الخراسانيِّ أن يُحجَّ: ونسكُ البنوي أن يَدَع الديوان، ونسكُ المغنِّي: أن يُكثر التسبيحُ وهو يشربُ النبيذ، والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة في جماعة، ونسك الرافضيِّ: إظهارُ ترْك النبيذ، ونسك السَّواديِّ ترْكُ شرب المطبوخ فقط، ونسكُ اليهوديِّ: إقامة السبت، ونسك المتكلِّم: التسرُّع إلى إكفارِ أهل المعاصي، وأنْ يرمَي الناسَ بالجبْر، أو بالتعطيلِ، أو بالزندقة، يريد أن يوهم أموراً: منها أنَّ ذلك ليس إلاّ من تعظيمه للدِّين، والإغراق فيه، ومنها أن يقال: لو كان نَطِفاً، أو مرتاباً، أو مجتنحاً على بليَّة، لما رمى الناسَ، ولرضي منهم بالسلامة، وما كان ليرميَهم إلاّ للعزِّ الذي في قلبه، ولو كان هناك من ذُلِّ الرِّيبة شيء لقطَعَه ذلك عن التعرُّض لهم، أو التنبيه على ما عسى إنْ حرَّكهم له أنْ يتحرَّكوا، ولم نجدْ في المتكلِّمين أنْطفَ ولا أكثرَ عيوباً، ممَّن يرمي خصومَه بالكفر.
الجماز وجارية آل جعفر وكان أبو عبد اللّه الجمَّاز، وهو محمد بن عمرو، يتعشَّق جاريةً لآلِ جعفر يقال لها طُغْيان، وكان لهم خصِيٌّ يحفظُها إذا أرادتْ بيوتَ المغنِّين، وكان الخصيُّ أشدَّ عشقاً لها من الجمَّاز، وكان قد حال بينَه وبينَ كلامِها، والدنوِّ منها، فقال الجماز وكان اسم الخادم سناناً:

ولِلظِّباءِ المِلاحِ

 

ما للمَقِيتِ سِنانٍ

غازٍ بغير سلاحِ

 

لَبِئْسَ زانٍ خَصِيٌّ

وقال فيه أيضاً وفيها:

يحبُّني وأُحـبُّـهْ

 

نَفْسِي الفداءُ لظبيٍ

إذا رآني يَسُبُّـهْ

 

ن أجلِ ذاكَ سِنانٌ

يَنيكهُ أين زُبُّـه

 

َبْهُ أجابَ سِنـانـاً

وقال أيضاً فيهما:

فيه فبئسَ الشرِيكُ

 

ظبيٌ سنانُ شريكي

ولا يَدَعْنا نـنـيكُ

 

ا يَنِـيكُ سِـنـانٌ

ما قيل من الشعر في الخصاء وقال الباخَرزيّ يذكرُ محاسِنَ خِصال الخِصيان:

ورجال إن كانت الأسفارُ

 

ونساء لمطمـئنِّ مُـقـيمٍ

وقال حميد بن ثور يهجو امرأته:

بفِي من بغَى خيراً إليها الجلامدُ

 

جُلُبَّانةٌ ورهاء تخصي حمارهـا

وقال مزرِّد بن ضِرار:

ولا جَاجَةٌ منها تلُوحُ علـى وَشْـمِ

 

فجاءتْ كخاصي العَيرِ لم تَحْلَ عَاجةً

وقال عمرو الخارَكى:

نصيحٌ زادَني حـرصـا

 

إذا لامَ علـى الـمـرد

لع ما عمِّرت أو أُخْصى

 

ولا والـلّـه مـــا أقْ

وقال آخر:

ولا عافاكَ من جَهْد البَـلاءِ

 

رَمَاك اللّهُ من أيْرٍ بأفـعَـى

إذا بلغت بي رَكَبَ النسـاء

 

جَزَاكَ اللّهُ شَرّاً من رفـيقٍ

وما تنفكُّ تُنعِظ في الخَـلاَءِ

 

أجُبْناً في الكريهة حين نلقى

ولولا البولُ عُوجِل بالخصاء

 

فلا واللّه ما أمسَى رفيقـي

وقال بعض عبد القيس:

يرجو المناكحَ في بني الجـارودِ

 

ما كان قَحذَمٌ ابنُ واهِصَة الْخُصى

ولكلِّ دهرٍ عَـثـرةٌ بـجُـدُود

 

ومِن انتكاس الدهرِ أن زُوِّجتَهـا

حيّاً لكان خَصَاكَ بالمـغـمـود

 

لو كان منذرُ إذ خطبت إلـيهـم

وقال أبو عبيدة: حدَّثني أبو الخطاب قال: كان عندنا رجلٌ أحدبُ فسقَط في بئرٍ فذهبت حَدَبته وصار آدَر فقيل له: كيف تجِدك? فقال: الذي جاءَ شرٌّ من الَّذِي ذهب.
وأبو الحسن عن بعض رجاله قال: خرج معاويةُ ذاتَ يومٍ يمشي ومَعه خَصِيٌّ له، إذ دخلَ على ميسونَ ابنة بحدل وهي أمُّ يزيد، فاستترت منه فقال: أتستترين منه، وإنَّما هو مثلُ المرأَة? قالت: أتُرَى أنَّ المثلة به تُحِلُّ ما حرَّم اللّه تعالى.
ذكر ما جاء في خصاءِ الدوابّ ذكر آدمُ بن سليمان عن الشعبيّ قال: قرأت كتابَ عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى سعد، يَنْهَى عن حذْف أذناب الخيل وأعرافها، وعن خصائها، ويأمره أن يُجْرِيَ من رأس المائتين، وهو أربعة فراسخ.
وسُفيان الثَّوري عن عاصم بن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان ينهى عن خِصَاء البهائم ويقول: هل الإنماء إلاّ في الذكور.
وشَريك بن عبد اللّه، قال: أخبرني إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم النَّخَعي أنّ عمرَ رضي اللّه تعالى عنه نَهَى عن خصاءِ الخيل.
وسفيان الثوري عن إبراهيم بن المهاجر قال: كتب عمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لبعض عماله: لا تُجرِيَنَّ فرساً إلاَّ من المائتين، ولا تخْصِينَّ فرساً.
وقال: وسمعتُ نافعاً يقول: كان عبد اللّه بن عمر يكرَه خِصاءَ الذكورِ من الإبل، والبقر، والغنم.
وعبيد اللّه بن عمر عن نافع: أنَّ ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان يكره الخصاء ويقول: لا تقطعوا ناميةَ خَلْقِ اللّهِ تعالى.
وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن نافع قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أن تُخصَى ذكورُ الخيلِ، والإبلِ، والبقر، والغنم، يقول: فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلاَّ بالذكور.
ومحمد بن أبي ذئب قال: سألت الزُّهريَّ: هل بخِصاء البهائم بأس? قال: أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود، أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهِرين، نهى عن صَبْرِ الروح، قَالَ الزُّهريُّ: والخِصاءُ صبرٌ شديد.
وأبو جعفَر الرَّازيّ قال: حدَّثنا الرَّبيعُ بن أنس، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه" قال: هو الخِصاء.
وأبو جرير عن قتادة عن عِكرِمة عن ابن عبَّاس نحوه.
أبو بكر الهذليّ قال: سألتُ الحسنَ عن خِصاء الدواب فقال: تسألني عَن هذا? لعن اللّه من خَصَى الرجال.
أبو بكر الهذليُّ عن عِكرِمة في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرَنَّ خَلْقَ اللّهِ" قال: خصاء الدواب، قال: وقال سعيد بن جبير: أخطأ عكرمة، هو دين اللّه.
نَصر بن طريف قال: حدَّثنا قَتادة عن عِكرمة في قوله تعالى: "فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ" قال: خصاء البهائم، فبلغ مجاهداً فقال: كذَبَ هو دين اللّه. فمن العجب أن الذي قال عكرمة هو الصواب، ولو كان هو الخطأ لما جاز لأحد أن يقول له: كذبت، والناسُ لا يضعون هذه الكلمةَ في موضِع خطأ الرأي ممَّن يُظَنُّ به الاجتهاد، وكان ممَّن له أن يقول، ولو أنَّ إنساناً سمِع قولَ اللّه تبارك وتعالى: "فَلَيُغَيِّرُنََّ خَلْقَ اللّهِ" قال: إنَّما يعني الخِصاء، لم يقبل ذلك منه؛ لأنَّ اللفظ ليست فيه دلالةٌ على شيءٍ دونَ شيء، وإذا كان اللفظُ عامّاً لم يكن لأحدٍ أن يقصِد به إلى شيءٍ بعينه إلاَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوةِ الآية، أو يكونَ جبريلُ عليهِ السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي، ولا يخصُّ ولا يعمُّ بالقصد؛ وإنَّما الدلالةُ في بِنيةِ الكلام نفسِه، فصورة الكلام هو الإرادة وهو القصد، وليس بينه وبين اللّه تعالى عملٌ آخر كالذي يكون من الناس، تعالى اللّهُ عن قول المشبِّهة علوّاً كبيراً.
أبو جرير عن عمار بن أبي عمار أَنَّ ابنَ عباسٍ قَالَ في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ" قَالَ: هو الخصاء.
وأبو جرير عن قَتادة عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ مثله.
أبو داود النَّخَعِيّ، عن محمَّدِ بن سعيدٍ عن عبادة بن نسيّ، عن إبراهيم بن محيريز قال: كان أحبَّ الخيلِ إلى سَلَفِ المسلمين، في عهد عمر، وعثمان، ومعاوية، رضي اللّه تعالى عنهم، الخِصْيان؛ فَإنَّها أخفى للكَمينِ والطلائع، وأبقَى على الجَهْدِ.
أبو جرير قال: أخبرني ابن جُريج عن عطاء أنَّه لم يَرَ بأساً بخصاء الدواب.
وأبو جرير عن أيُّوبَ عن ابن سيرين، أنَّه لم يكن يرى بأساً بالخصاء، ويقول: لو تُرِكت الفحولةُ لأكل بعضُها بعضاً.
وعمر ويونس عن الحسن: أنّه لم يكن يرى بأساً بخصاءِ الدواب.
سفيان بن عُيينة عن ابن طاوس عن أبيه: أنّه خَصى بعيراً.
وسفيان بن عيينة عن مالك بن مِغوَل عن عطاء، أنه سئل عن خصاء البغل فقال: إذا خفت عِضاضه.

أقوال في النتاج المركب

ولْنَصِلْ هذا الكلام بالكلام الذي قبل هذا في الخلق المَركب وفي تلاقح الأجناس المختلفة، زعموا أن العِسبارَ ولد الضبع من الذئب، وجمعه عسابر، وقال الكميت:

نَ من الفَراعِل العَسابِرْ

 

وتجمَّع المـتـفـرِّقُـو

يرميهم بأنَّهم أخلاطٌ وَمُعَلْهَجُونَ.
السمع ولد الذئب من الضبع وزعموا أنّ السِّمع ولد الذئب من الضبع، ويزعمون أنّ السِّمع كالحيَّةِ لا تعرف العِلَل، ولا تموتُ حَتْفَ أنفِها، ولا تموت إلاّ بِعَرَض يَعْرِض لها، ويَزْعمون أنّه لا يَعدو شيءٌ كعدو السِّمع، وأنّه أسرعُ مِنَ الريح والطَّير.
وقال سهم بن حنظلة يصف فرسه:

بذي شبيبٍ يُقاسِي لـيْلَـهُ خَـبَـبَـا

 

فاعْصِ العواذل وارْمِ اللَّيلَ في عرضٍ

ولم يَدِجْه ولم يَغمِز لـه عَـصَـبَـا

 

كالسِّمع لم يَنقب البَـيْطَـار سـرّتـه

وقَالَ ابن كُناسة يصف فرساً:

لُّ وقد صَوَّبَتْ على عِسبـار

 

كالعقاب الطلوب يَضْرِبُها الطّ

وقال سؤر الذئب:

وعُقابٌ يحثُّها عِسْبـارُ

 

هو سِمْعٌ إذا تمطَّرَ شيئاً

يقول: إذا اشتدَّ هربُ المطلوبِ الهاربِ من الطالب الجادّ، فهو أحث للطالب، وإذا صار كذلك صار المطلوبُ حينئذٍ في معنى من يحثٌّ الطلب، إذ صار إفراط سرعَتِه سبباً لإفراط طلبِ العُقاب.
وقال تأبط شرّاً، أو أبو محرز خلف بن حيَّان الأحمر:

وإذا يَعْدُو فسِمْـعٌ أَزَلُّ

 

مُسْبِلٌ بالحيِّ أحوى رِفَلُّ

وإنَّما قال أَزَلّ وجعَلَه عادياً ووصفهُ بذلك، لأنَّه ابن الذئب، وقال الأصمعي:

يدير عيني لمظةٍ عِسبارَه

وقال في موضع آخر:

كأن منها طرفه استعارَه

وقال آخر:

تَلقى بها السِّمْعَ الأَزَلَّ الأطلَسَا

وزعموا أنَّ ولدَ الذئب من الكلبة الدَّيْسَم، ورووا لبشَّارِ بنِ بُرْد في دَيْسَمٍ العَنزِيّ أنّه قال:

أَتَرْوِي هِجائِي سادراً غَيْرَ مُقْصِرِ

 

أدَيْسَمُ يا ابنَ الذئبِ مِنْ نسلِ زارعٍ

وزارع: اسم الكلب، يقال للكلاب أولاد زارعٍ.
زعم لأرسطو في النتاج المركب  وزعم صاحب المنطق أنّ أصنافاً أُخَرَ من السباع المتزاوِجات المتلاقِحات مع اختلاف الجنس والصورة، معروفة النتاج مثل الذئاب التي تسفَد الكلابَ في أرض رُومِيَة: قال: وتتولَّد أَيضاً كلابٌ سَلوقيةٌ من ثعالبَ وكلاب، قال: وبين الحيوان الذي يسمَّى باليونانيَّة طاغريس وبين الكلب، تحدث هذه الكلابُ الهندية، قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى.
قال أبو عثمان: عن بعض البصريين عن أصحابه قال: وزعموا أنَّ نِتاجَ الأولَى يخرجُ صعباً وحشيّاً لا يلقَّن ولا يؤلَّف.
تلاقح السبع والكلبة وزعم لي بعضهم عن رجلٍ من أهل الكوفة من بني تميم أنَّ الكلبةَ تعرِض لهذا السبع حتَّى تلقَح، ثم تعرَض لمثله مراراً حتى يكون جرو البطن الثالث قليلَ الصعوبة يقبلُ التلقين، وأنَّهم يأخذون إناثَ الكلاب، ويربِطونها في تلك البراريّ، فتجيءُ هذه السباعُ وتسفَدُها، وليس في الأرض أنثى يُجتَمَع على حبِّ سفادها، ولا ذكرٌ يجتمع له من النزوع إلى سفاد الأجناسِ المختلفة، أكثرَ في ذلك من الكلب والكلبة.
قال: وإذا رَبَطوا هذه الكلابَ الإناثَ في تلك البراري، فإن كانت هذه السباع هائجةً سفِدَتها، وإن لم يكن السبع هائجاً فالكلبة مأكولة، وقال أبو عدنان:

تَرُودُ بها عينُ المَهَا والجـآذرُ

 

أيا باكيَ الأطلالِ في رَسْمِ دمنةٍ

وسنداوة فضفاضة وحَضَاجِرُ

 

وعاناتُ جَوَّال وهَيْق سَفَـنَّـجٌ

وثُرْمَلَةٌ تعتادها وعَـسـابـرُ

 

وسِمْعٌ خَفِيُّ الرِّزِّ ثِلْبٌ ودَوْبَـلٌ

وقد سمعنا ما قال صاحبُ المنطق من قبل، وما نظنُّ بمثله أن يخلِّد على نفسه في الكتب شهاداتٍ لا يحقِّقُها الامتحان، ولا يعرِف صدقَها أشباهُه من العلماء، وما عندَنا في معرفةِ ما ادَّعى إلاّ هذا القول.
وأمَّا الذين ذَكروا في أشعارهم السِّمْع والعِسبار، فليس في ظاهر كلامهم دليلٌ على ما ادَّعى عليهم النّاسُ من هذا التركيب المختلف، فأدَّينا الذي قالوا وأمسكْنا عن الشهادة، إذ لم نجد عليها بُرهاناً.
ولاد السعلاة وللنَّاس في هذا الضَّرْب ضروبٌ من الدعوى، وعلماءُ السوء يُظهرون تجويزَها وتحقيقَها، كالذي يدَّعون من أولاد السَّعَالِي من الناس، كما ذكروا عن عمرو بن يربوع، وكما يروي أبو زيدٍ النحويُّ عن السِّعلاة التي أقامت في بني تميم حتى وَلَدت فيهم، فلمَّا رأتْ برقاً يلمَعُ من شقِّ بلاد السَّعالِي، حنَّت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:

فَلاَ بِكِ ما أسَالَ وما أغاما

 

رأى بَرْقاً فأوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ

وأنشدني أن الجنَّ طرقوا بعضَهم فقال:

فقالوا الجِنُّ قلتُ عِموا ظَلامَا

 

أتَوا ناري فَقُلْتُ مَنُونَ أنـتـمْ

زعيمٌ نَحْسُدُ الإنسَ الطَّعامـا

 

فقلتُ إلى الطَّعام فقال منهـم

ولم أعِب الرواية، وإنَّما عبتُ الإيمانَ بها، والتوكيدَ لمعانيها، فما أكثَرَ من يَروي هذا الضربَ على التعجُّبِ منه، وعلى أن يجعَلَ الرواية له سبباً لتعريفِ النَّاس حقَّ ذلك من باطِلِه، وأبو زيدٍ وأشباهُه مأمونون على النَّاس؛ إلاَّ أنَّ كلَّ من لم يكن متكلِّماً حاذقاً، وكان عند العلماء قدوةً وإماماً، فما أقرَبَ إفسادَه لهم من إفسادِ المتعمِّد لإفسادهم وأنشدوا في تثبيتِ أولاد السعلاة:

وحَسَنٌ أَنْ كَلَّفَتْنِي مَـا أجِـد

 

تقول جمع من بُـوان ووَتِـدْ

أو ولدِ السِّعلاةِ أو جِروِ الأسَدْ

 

وَلَمْ تقل جِيء بأبَـان ٍأو أُحُـدْ

 

 

أو ملكِ الأعجام مأسوراً بقِدّ

وقال آخر:

يا قاتَلَ اللّه بَنِي السِّعلاةِ عمراً وقابوساً شِرَارَ الناتِ

ما زعموا في جرهم وذكروا أَنَّ جُرهُماً كان من نِتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان الملَكُ من الملائكة إذا عصى ربَّه في السماء أهبَطَه إلى الأرض في صورة رجل، وفي طبيعته، كما صنع بهاروت وماروت حين كان من شأنهما وشأنِ الزُّهَرة، وهي أناهيد ما كان، فلَّما عصى اللّهَ تعالى بعضُ الملائكة وأهبطَه إلى الأرض في صورةِ رجل، تزوَّج أمَّ جُرهمٍ فولدتْ له جُرهماً، ولذلك قال شاعرهم:

الناس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا

 

لا هُمَّ إنَّ جُرهُماً عِبادُكا

ما زعموا في بلقيس وذي القرنين  ومن هذا النسل ومن هذا التركيب والنجل كانت بِلْقِيسُ ملكةُ سَبأ، وكذلك كان ذو القرنين كانت أمُّه فيرى آدميَّة وأبوه عبرى من الملائكة، ولذلك لما سمِع عمرُ بن الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه رجلاً ينادي: يا ذا القرنين، فقال: أفَرَغْتُمْ من أسماءِ الأنبياء فارتفعتم إلى أسماءِ الملائكة?.
وروى المختارُ بن أبي عبيد أَنَّ عليّاً كان إذا ذَكَر ذا القرنين قال: ذلك المَلكُ الأمرط.
ما زعموا من تلاقح الجن والإنس وزعموا أنَّ التناكُح والتلاقُح قد يقع بين الجنِّ والإنس، لقوله تعالى: "وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ"، وذلك أن الجِنِّيَّاتِ إنَّما تعرِض لصَرْع رجالِ الإنس على جهة التعشُّق وطلبِ السِّفاد، وكذلك رجال الجنِّ لنساء بني آدم، ولولا ذلك لعرض الرِّجالُ للرِّجال، والنساءُ للنساء، ونساؤهم للرجال والنساء.
ومن زعَم أن الصَّرْعَ من المِرَّة، ردَّ قوله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُون الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ" وقال تعالى: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ"، فلو كان الجانُّ لا يفتضُّ الآدَمِيَّاتِ، ولم يكنْ ذلك قطُّ، وليس ذلك في تركيبِه، لَما قال اللّه تعالى هذا القول.
ما زعموا في النسناس وغيره وزعموا أنّ النَّسْنَاسَ تركيبُ ما بين الشِّق والإنسان، ويزعمون أنَّ خلقاً من وراء السدِّ تركيبٌ من النَّسْنَاسِ، والناس، والشقِّ، ويأجوج ومَأجوج، وذكروا عن الوَاق واق والدوَال باي أنهُمْ نِتاجُ ما بينَ بعض النَّباتِ والحيوان، وذكروا أنَّ أمَّةً كانت في الأرض، فأمرَ اللّه تعالى الملائكة فأجلوَهم؛ وإيَّاهم عَنَوا بقولهم: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ لآدم وحواء: "وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمينَ"،فهذا يدلُّ على أن ظالماً وظُلماً قد كان في الأرض.
قال الأصمَعيُّ - أو خلَفٌ - في أرجوزة مشهورة، ذكرَ فيها طُوْلَ عمر الحَيَّة:

حَسِبْتَ وَرْساً خالَطَ اليَرَنَّا

 

أرْقَشُ إنْ أسبَطَ أو تَثَنَّـى

إذا تراءَاهُ الحواةُ استَنَّـا

 

خالَطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَهَنَّـا

قال: وكان يقال لتلك الأمَّة مهنا.
قول المجوس في بدء الخلق وزعم المجوس أنَّ الناسَ من ولد مهنة ومهنينة، وأنَّهما تولدا فيما بينَ أرحام الأرَضين، ونطفتين ابتدرتا من عينَي ابن هُرمُز حين قتله هرمر، وحماقات أصحابِ الاثنَين كثيرةٌ فِي هذا الباب، ولولا أنِّي أحببْتُ أن تسمَعَ نوعاً من الكلام، ومبلغَ الرأي، لتُحدِثَ للّه تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرتُ كثيراً من هذا الجنس.
عبد الله بن هلال صديق إبليس وختنه وزعم ابن هيثم أنَّه رأى بالكوفة فتًى من ولد عبد اللّه بن هلال الحميري، صديق إبليس وخَتَنِهِ، وأنَّهم كانوا لا يشكُّون أنَّ إبليسَ جَدُّه من قِبَل أمَّهاتِه، وسنقولُ في ذلك بالذي يجبُ إن شاء اللّه تعالى، وصِلَة هذا الكلام تجيءُ بعد هذا إن شاء اللّه تعالى.

حوار في الكلب والديك

وقلت: ولو تمَّ للكلب معنى السبع وطباعه، لما أَلف الإنسانَ، واستوحش من السبع، وكرِه الغياض، وألِف الدُّور، واستوحَشَ من البرارِي وجانب القفار، وألِفَ المجالسَ والدِّيار، ولو تمَّ له معنى البهيمة في الطبع والخلق والغذاءِ، لما أكل الحيوانَ، وكَلِب على النَّاس، نعمْ حتَّى رُبَّما كلِب وَوَثَبَ على صاحبِه وكلِبَ على أهله، وقد ذكر ذلك طرفةُ فقال:

تَقْتُلُ حالَ النَّعِيم بالبُؤُس

 

كُنْتَ لَنَا والدُّهـورَ آوِنةً

يَعُلُّه بالحَليبِ في الغَلَسِ

 

ككَلْبِ طَسْمٍ وقد تَرَبَّبـه

إلاَّ يَلَغ في الدماءِ يَنْتهِسِ

 

ظلَّ عليه يوماً يُفَرْفِـرُه

وقال حاجب بن دينار المازِنيُّ في مثل ذلك:

بمالٍ وسُلطانٍ إذا سَلِم الـحَـبْـلُ

 

وكم من عدُوٍّ قد أعنتمْ عـلـيكُـم

بإحدى الدَّواهي حينَ فَارَقَه الجهلُ

 

كذِي الكلبِ لمَّا أسمَنَ الكَلْبَ رابَهُ

وقال عوف بن الأحوص:

تُخَدِّشُهُ أَنْيَابُه وأظَافِـرُه

 

فإنِّي وقيساً كالمسمِّنِ كَلْبَه

وأنشد ابن الأعرابي لبعضهم:

ولو ظَفِروا بالحزْمِ مَا سُمِّنَ الكَلْبُ

 

وهُمْ سَمَّنُوا كلباً ليأكُلَ بعضَـهـمْ

وفي المثل: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْك.
وكان رجلٌ من أهل الشام مع الحجَّاج بن يوسف، وكان يحضُر طعامَه، فكتب إلى أهله يخبرُهم بما هو فيه من الخِصْب، وأنه قد سَمِن فكتبت إليه امرأته:

وأنتَ على بابِ الأمـيرِ بَـطِـينُ

 

أتُهدِي ليَ القِرطَاسَ والخبْزُ حاجَتِي

فأنتَ على ما في يَدَيك ضَـنِـينُ

 

إذا غِبْتَ لم تَذْكُرْ صَدِيقاً وإن تقـمْ

فيُهْزَلُ أهلُ الكلب وهو سَـمِـينُ

 

فأنت ككَلْبِ السَّوْءِ في جُوعِ أهلِـه

وفي المثل: سمن كلب في جوعِ أهلِه، وذلك أنه عند السُّواف يصيب المال، والإخداجِ يعرض للنُّوق، يأكُلُ الجِيفَ فيسمَن، وعلى أنه حارِسٌ مُحتَرَسٌ منه، ومؤنسٌ شديد الإيحاش من نفسه، وأليفٌ كثير الخيانةِ على إلفِه، وإنما اقتنوه على أنْ ينذِرَهم بموضع السارق، وتركوا طَرده لينبههُم على مكان المبيِّت، وهو أسرقُ من كل سارق، وأدومُ جنايةً من ذلك المبيِّت، ويدلُّ على أنَّه سروقٌ عندَهم، قولُ الشاعر:

وجَبْجَبةً للوَطب لَيْلَى تُطلقُ

 

أَفِي أَنْ سرَى كلبٌ فبيَّت جُلَّةً

فهو سَرَّاق، وصاحب بَيات، وهو نَبَّاشٌ، وآكلُ لحومِ النَّاس، أَلا إنَّه يجمعُ سِرقة الليل مع سرقة النّهار، ثم لا تجده أبداً يمشي في خِزانةٍ، أَو مطبَخ، أَو عَرْصةِ دار، أو في طريقٍ، أَو في بَراريَّ، أَو في ظهرِ جَبل، أو في بَطْن وادٍ، إلاَّ وخطمُه في الأرض يتشمَّم ويستروح، وإنْ كانت الأرضُ بيضاءَ حَصَّاءَ ودَوِّيَّةً ملساءَ، أو صخرةً خلقاء؛ حرصاً وجشعاً، وشرهاً وطمعاً، نعم حتَّى لا تجده أيضاً يرى كلباً إلاَّ اشتمَّ استَه، ولا يتشمَّم غيرهَا مِنهُ، ولا تراه يُرمَى بحجر أيضاً أبداً إلاَّ رجَع إليه فعضَّ عليه؛ لأنَّه لمَّا كان لا يكاد يأكلُ إلاَّ شيئاً رمَوا به إليه صار ينسَى لِفَرْط شرَهِه وغلَبة الجشعِ على طبعه، أنَّ الراميَ إنَّما أراد عقْره أو قتلَه، فيظنّ لذلك أنَّه إنَّما أراد إطعامه والإحسانَ إليه، كذلك يخيِّل إليه فرْطُ النَّهم وتُوهِمُه غلبَةُ الشَّرَه، ولكنَّه رَمى بنفسِه على الناس عجزاً ولؤماً، وفُسولةً ونقصاً، وخافَ السباعَ واستوحش من الصَّحارى.
ولَمَّا سمِعوا بعضَ المفسِّرين يقول في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" إنَّ المحروم هو الكلب؛ وسمِعوا في المثل: اصنَعُوا المعروفَ ولو إلى الكلب عَطفُوا عليه واتَّخَذُوه في الدُّور، وعلى أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ من سِفْلتهم وأغبيائهم، ومن قلَّ تقزُّزُهُ وكثُر جهلُه، وردَّ الآثارَ إمَّا جهلاً وإمَّا معانَدة.
وأما الديك فمِن بهائم الطير وبغاثها، ومن كلولِها والعِيال على أربابها، وليس مِنْ أحرارها ولا مِنْ عِتاقِها وجوارحها، ولا ممَّا يطرِب بصوته ويُشجِي بلحنه، كالقَماريِّ والدَّباسيِّ والشَّفَانين والوراشِين والبلابل والفواخت، ولا ممَّا يُونِق بمنظره ويمتع الأبصار حسنُه، كالطواويس والتَّدارِج، ولا مما يعجِب بهدايته ويُعقَد الذمام بإلْفه ونِزاعه، وشدةِ أُنسه وحنينه، وتُرِيده بإرادته لك، وتَعطِف عليهِ لحبِّهِ إياك، كالحمام، ولا هو أيضاً من ذوات الطيران منها، فهو طائرٌ لا يطير، وبهيمةٌ لا يَصيد، ولا هو أيضاً مما يكون صيداً فيمْتِع من هذه الجهة ويُراد لهذه اللَّذة.
والخُفَّاش أمرَطُ، وهو جيِّدُ الطيران، والدِّيكُ كاسٍ وهو لا يطير، وأيُّ شيءٍ أعجبُ من ذي ريشٍ أرضيٍّ، ومن ذي جلدةٍ هوائيّ. وأجمعُ الخلق لخصال الخير الإنسان، وليس الزِّواجُ إلاّ في الإنسان وفي الطير، فلو كان الديك من غير الطير ثمَّ كان ممن لا يزاوج، لقد كان قد مُنِع هذه الفضيلة وعَدِم هذه المشاكَلَة الغريبة، وحُرم هذا السَّببَ الكريم والشِّبْه المحمود، فكيف وهو لا يزاوج، وهو من الطيرِ الذي ليس الزواجُ والإلْف وثباتُ العهْد، وطلَبُ الذرء وحبُّ النَّسل، والرجوعُ إلى السكن والحنين إلى الوطن - إلاَّ له وللإنسان، وكلُّ شيء لا يزاوج فإنَّما دخله النقصُ وخسِر هذه الفضيلَة من جهةٍ واحدة، وقد دخل الديكَ النقص مِنْ جهتين، ووصف أبو الأخزَر الحِمَّانيُّ الحِمارَ وعَيْر العانةِ خاصَّة، فإنَّه أمثلُ في باب المعرفة من الأهْليّ، فذكركيف يضرِب في الأُتُن، ووصَفَ استبهامَه عن طلب الولد، وجهلَه بموْضِع الذَّرْء، وأنَّ الولدَ لم يجئ منه عن طلبٍ له، ولكن النُّطفة البريئة من الأسقام، إذا لاقت الأرحام البريئَة مِن الأسقام حَدَث النِّتاج على الخلقة، وعلى ما سوِّيت عليه البِنية، وذكر أنّ نزوَه على الأتان، من شكل نَزْوه على العير، وإنَّما ذلك على قدْر ما يحضُره من الشَّبَق، ثمَّ لا يلتفِت إلى دُبرٍ من قُبُل، وإلى ما يَلقَحُ من مثلِه ممَّا لا يُلقَحُ فقال:

لا مُبْتَغِي الضِّنْءِ ولا بالعازلِ

يقول: هو لا يريد الولَد ولا يعزل.
والأشياء التي تألفُ الناسَ ولا تريدُ سِواهم، ولا تحنُّ إلى غيرهم، كالعصفور والخُطّاف والكلْب والسِّنَّور، والدِّيك لا يألَفُ منزِلَه ولا رَبْعه ولا يُنازع إلى دجاجته ولا طَرُوقته، ولا يحنُّ إلى ولده، بل لم يَدرِ قطُّ أنّ له ولداً؛ ولو دَرَى لكان على دِرايتِهِ دليل، فإذ قد وجدناه لبيضِه وفراريجهِ الكائنةِ منه، كما نجدُه لما لم يلدْه ولِمَا ليسَ من شَكلهِ ولا يرجِع إلى نسبه، فكيف تُعرَف الأمور إلاَّ بهذا وشبهه، وهو مع ذلك أبلَهُ لا يعرِف أهلَ دارِه، ومبهوتٌ لا يُثْبِتُ وَجهَ صَاحِبه، وهو لم يُخْلَق إلاَّ عندَه وفي ظلِّه، وفي طعامِه وشرابِه، وتَحْتَ جناحه.
والكلْبُ على ما فيه يعرف صاحبَهُ، وهو والسِّنَّور يعرِفان أسماءهما، ويألَفَان موضعَهما، وإن طُردا رَجعا، وإن أُجِيعا صَبَرَا، وإن أُهِينا احتملا.
والديك يكون في الدار من لَدُنْ كانَ فَرُّوجاً صغيراً إلى أن صار ديكاً كبيراً، وهو إن خرَج من باب الدار، أو سقط على حائط من حيطان الجيران، أو على موضعٍ من المواضع، لم يعرِفْ كيف الرُّجوعُ، وإن كان يُرَى منزلُه قريباً، وسهل المطلبِ يسيراً، ولا يَذكُر ولا يتذَكَّر، ولا يهتدي ولا يتصوَّر لَه كيف يكونُ الاهتداء، ولو حنَّ لَطَلَبَ، ولو احتاج لالتمس، ولو كان هذا الخُبْرُ في طباعه لظَهَر، ولكنَّهَا طبيعةٌ بلهاءُ مستبهِمة، طامحة وذاهلة، ثمَّ يسفَدُ الدَّجاجةَ ولا يعرفُها، هذا مع شدَّةِ حاجته إليهنَّ وحِرصِه على السِّفاد، والحاجةُ تفتِقُ الحِيلَة، وتَدُلُّ على المعرفة، إلاَّ ما عليه الديك؛ فإنَّه مع حِرصهِ على السِّفاد، لا يعرفُ التي يسفَد، ولا يقصِد إلى ولدٍ، ولا يحضُن بيضاً ولا يعطِفُه رَحِمٌ، فهو من ها هنا أحمقُ من الحُبارَى وأعقُّ من الضبِّ، وقال عثمان بن عفَّان رضي اللّه تعالى عنه: كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتى الحُبَارى، فضرَب بها المثلَ كما ترى في المُوقِ والغفْلة، وفي الجهل والبَلَه، وتقول العرب: أعَقُّ من الضَّبِّ؛ لأنَّه يأكلُ حُسُولَه.
أكل الهرة أولادها وكرُمَ عند العرَب حظُّ الهِرَّة، لقولهم: أَبَرُّ مِنْ هِرَّة، وأعقُّ مِنْ ضَبٍّ، فوَجَّهوا أكلَ الهرَّةِ أولادَها على شدَّة الحبِّ لها، ووجَّهوا أَكْلَ الضبِّ لها على شدَّةِ البغْض لها، وليس ينجو مِنْهُ شيءٌ منها إلاّ بشغْلِه بِأَكْل إخْوته عنه، وليس يحرُسُها ممَّا يأكلُها إلاَّ ليأكلَها، ولذلك قال العَمَلَّسُ بن عَقيل، لأبيه عَقيل بن عُلَّفَة:

وَجدتَ مَرارةَ الكلأ الوبيل

 

أكلْتَ بَنِيك أكْلَ الضَّبِّ حتَّى

منَعْتَ فِناءَ بيتك من بَجيلِ

 

فلو أنَّ الأُلَى كانوا شهـوداً

وقال أيضاً:

ترَكت بَنِيك لَيْسَ لَهُمْ عديد

 

أكلْت بَنِيك أَكل الضَّبِّ حتَّى

وشبَّه السّيِّدُ بن محمَّد الحميريُّ، عائشةَ رضي اللّه تعالى عنها في نصْبِها الحربَ يوم الجملِ لقتال بنيها، بالهرَّةِ حين تأكلُ أولادَها، فقال:

تُزْجِي إلى البَصْرَةِ أجْنَادَها

 

جَاءَتْ معَ الأَشْقَينَ في هَوْدَجٍ

تُريدُ أن تـأكُـلَ أولادَهَـا

 

كأنَّها في فِعـلِـهـا هِـرَّةٌ

رعاية الذئبة لولد الضبع وتقول العرب أيضاً: أحمَقُ مِنْ جَهِيزَة، وهي عِرس الذئب؛ لأنَّها تدعُ ولدها وترضع ولد الضبع.
قال: وهذا معنى قولِ ابن جِذْل الطِّعَان.

بَنِيهَا فلم تَرْقَع بذلك مَرْقَـعـا

 

كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضَيَّعَتْ

رعاية الذئب لولد الضبع ويقولون: إنَّ الضبعَ إذا صِيدَت أو قُتلت، فإنَّ الذئب يأتي أولادَها باللحم، وأنشد الكُميت:

لِذِي الحبل حتى عَال أوسٌ عِيالها

 

كما خَامَرَتْ في حِضْنِها أمُّ عامرٍ

وأوس هو الذئب، وقال في ذلك:

ضِغْثٌ يَزيد على إبَالَه

 

في كلِّ يومٍ من ذُؤَالَه

أوساً أُويسُ من الهباله

 

فلأحْشأنَّك مِشْقَـصـاً

الأوس: الإعطاء، وأويس هو الذئب، وقال في ذلك الهذليّ:

ما فَعَلَ اليومَ أُويسٌ في الغنمْ

 

يا ليتَ شعري عنك والأَمْرُ أَمَمْ

وقال أميَّةُ بن أبي الصّلْت:

وَيُحوطُهم في كلِّ عامٍ جامد

 

وأبو اليتامى كانَ يُحْسِنُ أوسهم

حمق النعامة ويقولون: أحْمَقُ مِنْ نَعَامة كما يقولون: أَشْرَدُ مِنْ نعامة قالوا ذلك لأنّها تدَعُ الحَضْن على بيضِها ساعةَ الحاجة إلى الطُّعم، فإن هي في خروجِها ذلك رأتْ بيضَ أخرى قد خرجت للطُّعم، حضَنت بيضَها ونسِيت بيضَ نفسها، ولعلَّ تلك أن تُصادَ فلا ترجعُ إلى بيضها بالعَرَاء حتَّى تهلِك، قالوا: ولذلك قال ابن هَرْمة:

وقَدْحِي بكَفِّيَ زَنْداً شَحَاحا

 

فإنِّي وتَرْكي نَدَى الأَكرَمِينَ

ومُلبِسةٍ بَيضَ أُخْرَى جناحا

 

كتاركةٍ بيضَها بالـعَـرَاء

وقد تحضُن الحمامُ على بيض الدَّجاج، وتحضُن الدَّجاجةُ بيضَ الطاوُس، فأمَّا أن يَدَعَ بَيضَه ويحضُنَ بيضَ الدَّجاجة، أو تَدَعَ الدجاجةُ بيضَها وتحضُن بيضَ الطاوس فلا، فأمَّا فَرُّوجُ الدَّجاجة إذا خرج من تحت الحمامة؛ فإنَّهُ يكونُ أكيسَ، وأَمَّا الطاوُس الذي يخرج من تحت الدَّجاجة فيكون أقلَّ حسناً وَأَبْغَضَ صوتاً.
الفرخ والفروج وكلُّ بيضةٍ في الأرض فإنَّ اسمَ الذي فيها والذي يخرُج منها فرخ، إلاَّ بيضَ الدَّجاج فإنَّه يسمى فرُّوجاً، ولا يسمَّى فرخاً، إلاَّ أن الشعراء يجعلون الفَرُّوج فَرخاً على التوسُّع في الكلام، ويجوِّزون في الشعر أشياءَ لا يجوِّزونها في غير الشعر، قال الشاعر:

وسَودٌ تَدَاعى بالعشيِّ نَـواعِـبُـه

 

لَعَمْرِي لأَصْواتُ المَكَاكيِّ بالضُّحَى

ومِنْ دِيكِ أنباطٍ تَنُوسُ غباغِـبُـه

 

أحبُّ إلينـا مـن فِـراخِ دَجـاجةٍ

وقال الشمَّاخ بن ضِرار:

تأمَّلْ حِينَ يضربُك الشِّتـاءُ

 

ألا مَنْ مُبلغٌ خاقانَ عـنِّـي

ومن شيخٍ أَضرَّ به الفَنـاءُ

 

فتجعل في جنابك من صغير

يَلُذْنَ به إذا حَمِس الوَغَـاء

 

فراخ دَجاجةٍ يَتْبَعْـنَ دِيكـاً

فإنْ قلت: وأيُّ شيء بلَغَ من قدْر الكلبِ وفضيلة الديك، حتَّى يتفرّغ لذكر محاسِنهما ومساويهما، والموازنة بينهما والتنوية بذكرهما، شيخان من عِلْيةِ المتكلِّمين، ومن الجلة المتقدِّمين، وعلى أنَّهما متى أبرما هذا الحكمَ وأفصحا بهذه القضيَّة، صار بهذا التدبير بهما حظٌّ وحكمة وفضيلة وديانة، وقلدَهما كلُّ مَن هو دونَهما، وسيعودُ ذلك عذراً لهما إذا رأيتهما يوازيان بين الذِّبَّان وبناتِ وَرْدانَ، وبين الخنافس والجِعْلان، وبينِ جميع أجناس الهمَج وأصناف الحشراتِ، والخشاش، حتَّى البعوض والفَراش والديدان والقِردان فإن جاز هذا في الرأي وتمَّ عليه العمل، صار هذا الضَّربُ من النظر عِوضاً من النَّظَر في التوحيد، وصار هذا الشكلُ من التمييز خَلَفاً من التعديل والتجوير، وسقَط القولُ في الوعد والوعيد، ونُسي القياسُ والحكم في الاسم، وبطَلَ الردُّ على أهلِ الملل، والموازنةُ بين جميع النِّحَل، والنظرُ في مراشد الناس ومصالحهم، وفي منافِعهم ومَرافقهم؛ لأنَّ قلوبَهم لا تتَّسع للجميع، وألسنَتهم لا تنطِلق بالكلِّ، وإنَّما الرأيُ أن تبدأ من الفتق بالأعظم، والأخوف فالأخوف.
وقلتَ: وهذا بابٌ من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرُّف وطريق من طرق المزاح، وسَبيلٌ من سُبُل المضاحك، ورجالُ الجدَِّ غير رجالِ الهزْل، وقد يحسُن بالشَّبَابِ ويقبُح مثلُه من الشيوخ، ولولا التحصيلُ والموازنَة، والإبقاء على الأدب، والدَّيانة بشدَّة المحاسبة، لما قالوا: لكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ زمانٍ رجالٌ، ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، ولكلِّ طعامٍ أكلة.
تنوع الملكات وقوتها وضرورة ظهورها قد زعم أناسٌ أنَّ كلِّ إنسانٍ فيه آلةِ لَمِرْفِقٍ من المرافق، وأداةٌ لمنفعةٍ من المنافع، ولا بدَّ لتلك الطبيعة من حركةٍ وإنْ أبطأَت، ولا بدَّ لذلك الكامنِ من ظهور، فإنْ أمكَنهُ ذلك بعثَه، وإلاَّ سَرَى إليه كما يسري السمُّ في البدن، ونمَى كما يَنْمِي العرق، كما أنّ البُزور البرّيَّة، والحبَّةَ الوحشيَّة الكامنةَ في أرحام الأَرَضين، لا بدَّ لها من حركةٍ عندَ زمانِ الحركة، ومن التفتُّق والانتشار في إبَّانِ الانتشار، وإذا صارت الأمطارُ لتلك الأرحامِ كالنُّطفة، وكان بعضُ الأرض كالأُم الغاذية فلا بدَّ لكلِّ ثديٍ قوِيٍّ أن يُظهِر قُوَّتَه، كما قال الأوّلُ:

ولا بدَّ للمصدور يوماً من النَّفْثْ

وقال:ولا بدَّ من شَكوى إذا لم يكنْ صبرُ ولذلك صارَ طلبُ الحسابِ أخفَّ على بعضهم، وطلبُ الطِّبِّ أحبَّ إلى بعضهم، وكذلك النِّزاع إلى الهندسة، وشغَفُ أهلِ النُّجوم بالنُّجوم، وكذلك أىضاً ربَّما تحرَّك له بعد الكَبرَة، وصَرف رغبتَه إليه بعد الكهولة، على قدر قوَّة العِرق في بدنه، وعلى قدْر الشَّواغل له وما يعترضُ عليه، فتجد واحداً يَلهج بطلب الغِناء واللحون، وآخر يلهج بشهوة القتال، حتى يَكْتَتِبَ مع الجُند، وآخر يختار أن يكون ورّاقاً، وآخر يختارُ طلبَ الملك، وتجِدُ حرصَهم على قدر العلل الباطِنة المحرِّكة لهم، ثمَّ لا تَدْرِي كيف عرضَ لهذا هذا السّببُ دونَ الآخَرِ إلاَّ بجملة من القول، ولا تجدُ المختارَ لبعض هذه الصناعات على بعضٍ يعَلمْ لم اختارَ ذلك في جملةٍ ولا تفسير، إذْ كان لم يَجْرِ منه عَلَى عِرْق، ولا اختارَه على إرْث.
من سار على غير طبعه وليس العجبُ من رجلٍ في طباعه سببٌ يَصِل بينه وبينَ بعض الأمور ويحرِّكه في بعض الجهات، ولكنَّ العجبَ ممَّن يموت مغنِّياً وهو لا طبعَ له في معرفة الوزن، وليس له جِرمٌ حسَن، فيكون إن فاته أن يكون معلِّماً ومغنِّيَ خاصَّة أنْ يكون مُطرباً ومُغَنِّيَ عامّة، وآخر قد ماتَ أن يُذكرَ بالجود، وأن يسخَّى على الطعام، وهو أبِخلُ الخلق طبعاً، فتراه كلفاً باتِّخاذ الطيِّبات ومستَهتَراً بالتكثير منها، ثمّ هو أبداً مفْتَضِحٌ وأبداً منتقض الطباع، ظاهرُ الخطأ، سيِّئ الجزع عندَ مؤاكلةِ من كان هو الداعيَ له، والمرسِلَ إليه، والعارفِ مقْدارَ لَقْمِه ونهايةَ أكله،  فإنْ زعمتم أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء إنَّما هو رهنٌ بأسبابه، وأسيرٌُ في أيدي عِلَله، عذَرتم جميعَ اللئام وجميع المقصِّرين، وجميعَ الفاسقين والضالِّين، وإن كان الأمر إلى التمكين دونَ التسخير،أفَليس من أعجبِ العجبَ ومن أسوأ التقدير التمثيل بين الدِّيَكة والكِلاب.
قَدْ عَرَفنا قولَك، وفهمْنا مذهبَك.
فأما قولُك: وما بلَغ من خَطَر الديك وقدر الكلب فإنَّ هذا ونحوَه كلامُ عبدٍ لم يفهم عن ربِّه، ولم يَعقِل عن سيِّده، إلاَّ بقدْر فهمِ العامَّةِ أو الطبقةِ التي تلي العامَّة، كأنَّكَ، فهَّمك اللّه تعالى، تظنُ أنَّ خَلْقَ الحيَّةِ والعقرَب، والتدبيرَ في خلقِ الفَراش والذباب، والحكمةَ في خلْق الذئاب والأسدِ وكلِّ مبغَّضٍ إليك أو محقَّر عندك، أو مسخَّرٍ لك أو واثبٍ عليك، أنَّ التدبير فيه مختلِفٌ أو ناقص، وأنَّ الحكمةَ فيه صغيرةٌ أو ممزوجة.
مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشر اعلم أنَّ المصلحةَ في أمرٍ ابتداء الدنيا إلى انقضاءِ مُدَّتها امتزاجُ الخير بالشرِّ، والضارِّ بالنافع، والمكروهِ بالسارِّ، والضَّعَةِ بالرِّفعة، والكَثرة بالقِلَّة، ولو كان الشرُّ صِرْفاً هلَكَ الخلقُ، أو كان الخيرُ مَحضاً سقَطت المِحْنة وتقطَّعَتْ أسبابُ الفِكرة، ومع عَدَم الفِكرةِ يكون عَدَمُ الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالِمِ تثبُّتٌ وتوقُّف وتعلُّم، ولم يكن علم، ولا يُعرف بابُ التبيُّن، ولا دفعُ مضرةٍ، ولا اجتلابُ منفعة، ولا صَبْر على مكروهٍ ولا شكْرٌ على محبوب، ولا تفاضُلٌ في بيانٍ، ولا تَنَافس في درجةٍ، وبطلَت فَرحةُ الظَّفَر وعزُّ الغلبة، ولم يكن على ظهرها مُحِقٌّ يجد عزَّ الحق، ومُبْطِلٌْ يجد ذِلَّة الباطل، وموقنٌ يجد بَرْدَ اليقين، وشاكٌّ يجد نقصَ الحَيرةِ وكَرْبَ الوُجوم؛ ولم تكن للنفوس آمالٌ ولم تتشعَّبْهَا الأطماع، ومَن لم يعرف كيف الطَّمعُ لم يعرِفِ اليأس، ومن جَهِل اليأسَ جهِلَ الأمن، وعادت الحالُ من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياءُ والأولياءُ، إلى حالِ السبُعِ والبهيمة، وإلى حال الغباوةِ والبلادة، وإلى حال النجوم في السُّخْرة؛ فإنها أنقص من حالِ البهائم في الرَّتْعَةِ، ومَنْ هذا الذي يسرُّه أن يكون الشمسَ والقمرَ والنَّارَ والثلج، أو برجاً من البروج أو قطعةً من الغيم؛ أو يكونَ المَجرَّةَ بأسْرها، أو مكيالاً من الماء أو مقداراً من الهواء? وكلُّ شيءٍ في العالم فإنما هو للإِنسان ولكلِّ مختَبَرٍ ومُختَار، ولأهل العقول والاستطاعة، ولأهل التبيُّن والرويَّة.
وأين تقَعُ لَذَّة البهيمة بالعَلُوفة، ولذَّة السبع بلَطْع الدَّمِ وأكل اللحم - مِن سرورِ الظَّفَر بالأعداء؛ ومِنِ انفتاحِ بابِ العلم بعد إدْمان القَرْع? وأين ذلك من سرورِ السُّودَد ومن عزِّ الرياسة? وأين ذلك من حال النُّبوّةِ والخِلافة، ومِن عزِّهِما وساطعِ نورهما، وأينَ تقعُ لذَّةُ درْك الحواسِّ الذي هو ملاقاةُ المطعَم والمشرب، وملاقاةُ الصوتِ المُطرِبِ واللّونِ المونق، والملمسة الليِّنة - مِن السرور بنَفاذ الأمرِ والنَّهي، وبجواز التوقيع، وبما يُوجب الخاتَمُ من الطاعة ويُلزِم من الحجَّة?، ولو استَوت الأمور بطَلَ التمييزُ، وإذا لم تكن كلفةٌ لم تكن مَثوبة، ولو كان ذلك لبطلتْ ثمرةُ التوكُّلِ على اللّه تعالى، واليقينِ بأنَّه الوَزَرُ والحافظ، والكالئ والدافع، وأَنَّ الذي يحاسِبُك أَجْوَدُ الأَجْوَدِين، وأرحَمُ الراحمين، وأنه الذي يقبلُ اليسيرَ ويَهَبُ الكثير، ولا يهلِك عليه إلاّ هالك، ولو كان الأمرُ على ما يشتهيه الغَرِير والجاهلُ بعواقبِ الأمور، لبطلَ النَّظَرُ وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطَّلت الأرواحُ من معانيها، والعقولُ من ثِمارها، ولعَدِمت الأشياءُ حظوظَها وحقوقَها. فسبْحَان من جعل منافعَها نعمةً، ومضارَّها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسّمها بين مُلِذٍّ ومُؤلم، وبين مؤنِسٍ ومُوحش، وبين صَغيرٍ حقير وجليل كبير، وبين عدوٍّ يرصُدُك وبين عقيلٍ يحرسك، وبين مُسَالمٍ يَمْنَعُكَ، وبين مُعينٍ يعضُدك، وجعَل في الجميع تمامَ المصلحة، وباجتماعها تتمُّ النعمة، وفي بطلانِ واحدٍ منها بُطلانَ الجميع، قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً، فإنّ الجميع إنَّما هو واحدٌ ضُمّ إلى واحدٍ وواحدٌ ضُمَّ إليهما، ولأنّ الكلَّ أبعاضٌ، ولأنّ كلَّ جُثَّةٍ فمن أجزاء، فإذا جوَّزتَ رفْعَ واحدٍ والآخرُ مثلُه في الوزن وله مثلُ علَّتِه وحظِّه ونصيبِه، فقد جوَّزْتَ رفعَ الجميع؛ لأنّه ليس الأولُ بأحقَّ من الثاني في الوقت الذي رجوتَ فيه إبطالَ الأوَّل، والثاني كذلك والثالث والرابع، حتَّى تأتيَ على الكلِّ وتستفرغ الجميع، كذلك الأمورُ المضمَّنة والأسباب المقيَّدة؛ ألا ترى أنَّ الجبلَ ليس بأدلَّ على اللّه تعالى مِنْ الحصاة، وليس الطاوسُ المستحسنُ بأدَلَّ على اللّه تعالى مِنْ الخِنزير المستقبح، والنارُ والثلج وإنْ اختلفا في جِهَة البرودة والسُّخونة، فإنَّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدَّلالة.
وأظنُّك ممَّن يرى أنَّ الطاوسَ أكرمُ على اللّه تعالى من الغراب، وأن التُّدْرُجَ أعزُّ على اللّه تعالى من الحِدَأةِ، وأنّ الغزالَ أحبُّ إلى اللّه تعالى من الذئب، فإنَّما هذه أمور فرّقها اللّه تعالى في عيون الناس، وميَّزها في طبائع العباد، فجعَلَ بعضها بهم أقربَ شبهاً، وجعل بعضَها إنسيّاً، وجعل بعضَها وحشيّاً، وبعضها غاذِياً، وبعضها قاتلاً، وكذلك الدُّرَّة وَ الخَرَزة والتمرة والجَمرة.
فلا تَذْهَبْ إلى ما تريك العينُ واذهَبْ إلى ما يريك العقل.
الاعتماد على العقل دون الحواس وللأُمور حكمان: حكم ظاهرٌ للحواس، وحكم باطنٌ للعقول، والعقل هو الحجَّة، وقد علمْنا أنَّ خَزَنَة النارِ من الملائكة، ليسوا بدون خزَنَةِ الجنَّة؛ وأنَّ ملك الموت ليس بدُونِ ملَكِ السَّحاب، وإن أتانا بالغَيث وجلب الحيَاء؛ وجبريلُ الذي يَنْزِل بالعذاب، ليسَ بدونِ ميكائيل الذي ينزِل بالرحمة؛ وإنَّما الاختلاف في المطيع والعاصي، وفي طبقاتِ ذلك ومواضعه، والاختلاف بين أصحابنا أنَّهم إذا استووا في المعاصي استَووا في العقاب، وإذا استَووا في الطاعة استووا في الثواب، وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية استووا في التفضل، هذا هو أصل المقالة، والقُطْب الذي تدورُ عليه الرحى.

التين والزيتون

وقد قال اللّه عزّ وجلَّ: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" فزعم زَيدُ بنُ أسلم أنَّ التِّين دمشق، والزيتون فِلَسطين، وللغاليةِ في هذا تأويلٌ أرغبُ بالعِتْرة عنه وذكرِه، وقد أخرَجَ اللّه تبارك وتعالى الكلامَ مُخرَجَ القسم، وما تُعرَف دِمَشق إلاّ بدِمشق، ولا فِلَسطين إلاّ بفلسطين، فإن كنتَ إنَّما تقف من ذكرِ التين على مقدار طعمِ يابسِه ورَطْبه، وعلى الاكتنانِ بورَقِه وأغصانه، والوَقود بِعيدانه، وأنّه نافعٌ لصاحب السُّلِّ، وهو غذاءٌ قويٌّ ويصلُح في مواضعَ من الدواء، وفي الأضْمدةِ، وأنَّه ليس شيءٌ حلو إلاّ وهو ضارٌّ بالأسنانِ غيره، وأنَّه عند أهلِ الكتاب الشَّجرةُ التي أكَلَ منها آدمُ عليه السلام، وبورقها ستَرَ السّوءَة عند نزولِ العقوبة، وأنّ صاحبَ البواسيرِ يأكله ليُزْلِقَ عنه الثفل، ويسهلَ عليه مخرج الزِّبل؛ وتقف من الزيتون على زيتِه والاصطباح به، وعلى التأدُّم بهما والوَقود بشجرهما، وما أشبه ذلك من أمرهما - فقَدْ أسأتَ ظَنّاً بالقرآن، وجهِلتَ فضلَ التأويل، وليس لهذا المقدارِ عظّمهما اللّه عزّ وجلَّ، وأقسَمَ بهما ونوّه بذكرهما.

التأمل في جناح البعوضة

ولو وقفْتَ على جَناحِ بَعوضةٍ وُقوفَ معتبِر، وتأمَّلتَه تأمُّلَ متفكِّر بعد أن تكونَ ثاقبَ النَّظرِ سليمَ الآلة، غوَّاصاً على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحَّةِ عقلك، ولا من الشواغل إلاّ ما زادَ في نشاطِك، لملأت ممَّا تُوجِدك العِبرةُ من غرائب الطوامير الطِّوال، والجلود الواسعةِ الكِبار، ولرَأَيتَ أنَّ له من كثرة التصرُّف في الأعاجيب، ومن تقلُّبه في طبقات الحكمة، ولرأَيتَ له من الغزْر والرَّيع، ومن الحَلب والدَّرِّ ولتَبجَّسَ عليك من كوامِنِ المعاني ودفائِنها، ومن خَفِيَّاتِ الحكم وينابيعِ العلم، ما لا يشتدُّ معه تعجّبُك ممَّن وقَفَ على ما في الدِّيك من الخصالِ العجِيبة، وفي الكلبِ من الأمور الغريبة، ومن أصنافِ المنافع، وفنون المرافق؛ وما فيهما من المِحَن الشِّداد، ومع ما أودِعا من المعرفة، التي مَتى تجلَّت لك تصاغَرَ عندك كَبِيرُ ما تستعظم، وقلَّ في عينك كثير ما تستكثر، كأنَّك تظنُّ أنَّ شيئاً وإنْ حسُن عندك في ثمنِه ومنظره، أنَّ الحكمةَ التي هي في خلْقه إنَّما هي على مقدارِ ثمنه ومنظَره.

كلمات اللّه

وقد قال اللّه تعالى: "وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ" والكلماتُ في هذا الموضع، ليس يُريد بها القولَ والكلامَ المؤلَّفَ من الحروف، وإنَّما يريد النِّعَم والأعاجيب، والصفات وما أشبه ذلك، فإنَّ كلاًّ من هذه الفنون لو وقَف عليه رجلٌ رقيقُ اللسان صافي الذهن، صحيحُ الفِكْر تامُّ الأَدَاة، لما بَرِح أن تحسره المعاني وتَغْمرَه الحِكَم.
وقد قال المتكلمون والرؤساء والجِلَّةُ العُظماءُ في التمثيل بين الملائكةِ والمؤمنين، وفي فرقِ ما بين الجنِّ والإنس، وطباعُ الجنِّ أبعدُ من طباع الإنس، ومن طباعِ الديك، ومن طباع الكلب، وإنَّما ذهبوا إلى الطاعة والمعصية، ويخيَّل إليَّ أنك لو كنت سمعتَهما يمثِّلان ما بين التُّدْرُج والطاوُس، لَمَا اشتدَّ تعجُّبُك، ونحن نرى أنَّ تمثيلَ ما بينَ خصالِ الذَّرَّة والحمامة، والفيل والبعير، والثَّعلبِ والذيب أعجَب، ولسنا نعني أنَّ للذَّرَّة ما للطاوس من حسنِ ذلك الريش وتلاوينه وتعاريجه، ولا أنَّ لها غَناءَ الفرَس في الحرب والدَّفْعِ عن الحريم؛ لكنَّا إذا أردنا مواضعَ التدبير العجيبِ من الخلْق الخسيس، والحسِّ اللطيفِ من الشيء السخيف، والنَّظرِ في العواقب من الخلق الخارج من حدود الإنس والجنِّ والملائكة، لم نذهب إلى ضِخَم البدَن وعِظَم الحجم، ولا إلى المنظر الحسَن ولا إلى كثرة الثمن، وفي القرد أعاجيبٌ وفي الدُّبِّ أعاجيب، وليس فيهما كبير مَرْفِقٍ إلاّ بقدْرِ ما تتكسَّب به أصحاب القردة، وإنما قصدنا إلى شيئين يَشِيعُ القولُ فيهما، ويكثرُ الاعتبار ممَّا يستخرِج العلماءُ من خفِيّ أمرهما، ولو جمعْنا بين الدِّيك وبين بعضِ ما ذكرت، وبين الكلب وبين بعض ما وصفت، لانقطع القولُ قبل أن يبلغَ حدَّ الموازنِة والمقابلة.
وقد ذكرتَ أنَّ بعضَ ما دعاك إلى الإنكار عليهما والتعجُّبِ من أمرهما، سقوطُ قدرِ الكلب ونذالتُه، وبَلَهُ الدِّيكٍ وغباوتُه، وأنَّ الكلبَ لا بهيمةٌ تامَّة ولا سبعٌ تامٌّ، وما كان ليخرِجَه من شيءٍ من حدود الكلاب إلى حدود الناس، مقدارُ ما هو عليه من الأُنس بهم، فقد يكون في الشيءِ بعضُ الشبه مِنْ شيء ولا يكون ذلك مُخرِجاً لهما من أحكامِهما وحدودِهما.
تشبيه الإنسان بالقمر والشمس ونحوهما  وقد يشبِّه الشعراءُ والعلماءُ والبلغاءُ الإنسانَ بالقمر والشمس، والغيثِ والبحر، وبالأسد والسيف، وبالحيَّة وبالنَّجم، ولا يخرجونه بهذه المعاني إلى حدِّ الإنسان، وإذا ذمُّوا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القِرد والحمار، وهو الثور، وهو التَّيس، وهو الذيب، وهو العقرب، وهو الجُعَل، وهو القرنْبَى؛ ثم لا يُدخِلون هذه الأشياءَ في حدود الناس ولا أسمائِهم، ولا يُخرجون بذلك الإنسانَ إلى هذه الحدودِ وهذه الأسماء، وسمَّوا الجاريةَ غزالاً، وسمَّوها أيضاً خِشْفاً، ومُهْرةً، وفاخِتةً، وحمامةً، وزهرةً، وقضيباً، وخيزراناً، على ذلك المعنى، وصنَعوا مثلَ ذلك بالبروج والكواكب، فذكَروا الأسدَ والثور، والحَمَل والجدي، والعقربَ والحُوت، وسمَّوها بالقوس والسُّنبلة والميزان، وغيرها، وقال في ذلك ابن عَسَلة الشيبانيّ:

عَمَّ السِّمَاكِ وخَالةَ النَّجْـمِ

 

فصَحَوتَ والنَّمَريُّ يحسَبُها

ويُروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: نِعْمَتِ العَمة لَكُم النَّخلة خُلقت مِنْ فضلة طينةِ آدم وهذا الكلام صحيحُ المعنى، لا يَعيبه إلاّ مَن لا يعرِف مجاز الكلام، وليس هذا ممَّا يطَّرِد لنا أن نقيسَه، وإنَّما نُقدِم على ما أقدَموا، ونُحجم عمّا أحجموا، وننتهي إلى حيثُ انتهوْا.
ونراهم يسمُّون الرجلَ جملاً ولا يسمُّونه بعيراً، ولا يسمُّون المرأةَ ناقة؛ ويسمُّون الرجلَ ثوراً ولا يسمُّون المرأةَ بقرةً، ويُسَمُّونَ الرجل حماراً ولا يسمون المرأة أتاناً؛ ويسمُّون المرأة نعجةً ولا يسمُّونها شاة، وهم لا يضعون نعجةً اسماً مقطوعاً، ولا يجعلون ذلك علامةً مثلَ زيد وعمرو، ويسمُّون المرأة عنْزاً.

تسمية الإنسان بالعالم الأصغر

أوَ ما علمتَ أنّ الإنسان الذي خُلقت السمواتُ والأرضُ وَمَا بَينَهما مِن أجْله كما قال عزَّ وجلَّ: "سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ" إنَّما سَمُّوه العالَم الصغير سليلَ العالَم الكبير، لِمَا وجَدوا فيه من جَمع أشكالِ ما في العالم الكبير، ووجدْنا له الحواسَّ الخمسَ ووجدُوا فيه المحسوساتِ الخمس، ووجدُوه يأكل اللَّحمَ والحبَّ، ويجمعُ بينَ ما تقتاته البهيمةُ والسبع، ووجَدوا فيه صَولةَ الجمل ووُثوبَ الأسد، وغدْرَ الذئب، ورَوَغان الثعلب، وجُبْن الصِّفْرِد، وجَمْعَ الذَّرَّةِ، وصنْعةَ السُّرْفة وجُودَ الدِّيكِ، وإلفَ الكلب، واهتداءَ الحمام، وربَّما وجدوا فيه ممَّا في البهائم والسباع خُلُقَيْن أو ثلاثة، ولا يبلغُ أن يكون جملاً بأن يكون فيه اهتداؤه وغَيرته، وصَولته وحِقدُه، وصبرُه على حَمْل الثِّقْل، ولا يلزَم شبهُ الذئبِ بقدْر ما يَتَهَيَّأُ فيه من مِثل غدْرِه ومكْرِه، واسترواحِه وتوحُّشه، وشدَّة نُكْره، كما أن الرجلَ يصيبُ الرأيَ الغامضَ المرَّةَ والمرَّتين والثَّلاثَ، ولا يبلغُ ذلك المقدارُ أن يقال له داهيةٌ وذو نَكراء أو صاحبُ بَزْلاء، وكما يخطئ الرجل فيفحُش خَطَاؤه في المرَّة والمرَّتين والثلاث، فلا يبلغ الأمرُ به أن يقال له غبيٌّ وأبلهُ ومنقوص. وسمَّوه العالمَ الصغيرَ لأنَّهم وجدُوه يصوِّر كلَّ شيءٍ بيده، ويحكي كلَّ صوتٍ بِفَمه، وقالوا: ولأنَّ أعضاءَه مقسومةٌ على البروج الاثني عشر والنجومِ السبعة، وفيه الصفراء وهي من نِتاج النار، وفيه السوداء وهي من نِتاج الأرض، وفيه الدَّمُ وهو من نِتاج الهواء، وفيه البلغَمُ وهو من نِتاج الماء، وعلى طبائعه الأربع وضعت الأوتاد الأربعة، فجعَلوه العالَمَ الصغير، إذ كانَ فيه جميعُ أجزائِه وأخلاطِهِ وطبائعه، ألا تَرَى أنَّ فيه طبائعَ الغضبِ والرضَا، وآلة اليقين والشكِّ، والاعتقاد والوقف وفيه طبائعُ الفِطنةِ والغَباوة، والسلامة والمكر، والنصيحةِ والغِشِّ، والوَفاء والغدر، والرياء والإخلاص، والحبّ والبُغْض، والجِدِّ والهزْل، والبخْل والجُود، والاقتصادِ والسّرَف، والتواضع والكبر، والأُنسِ والوحشة، والفكرة والإمهال، والتمييز والخبْط، والجبْن والشجاعة، والحزم والإضاعة، والتبذير والتقتير، والتبذل والتعزز، والادِّخار والتوكُّل، والقَناعة والحِرْصِ، والرغبة والزُّهْد، والسُّخْط والرِّضا، والصبر والجزَع، والذِّكر والنسيان، والخوفِ والرجاء، والطَّمَعِ واليأس، والتنزُّه والطبَع، والشكِّ واليقين، والحياء والقِحَة، والكِتْمانِ والإشاعة، والإقرار والإنكار، والعلم والجهل، والظلم والإنصاف، والطلب والهَرب، والحِقْد وسرْعة الرضا، والحِدَّةِ وبُعْدِ الغَضب، والسُّرور والهمّ، واللَّذَّةِ والأَلَم، والتأميلِ والتمنِّي، والإصرارِ والنَّدَم، والجِمَاحِ والبَدَوات، والعيِّ والبلاغَة، والنُّطْق والخَرَس، والتصميمِ والتوقف، والتغافُلِ والتفاطُن، والعفوِ والمكافأة، والاستطاعةِ والطبيعة، وما لا يحصى عدده، ولا يُعرَف حَدُّه.
فالكلبُ سبع وإن كانَ بالناس أنيساً، ولا تخرِجُه الخصلة والخَصلتان ممَّا قاربَ بعضَ طبائِع الناس، إِلى أن يخرجَه من الكَلْبيَّة، قال: وكذلك الجميع، وقد عرَفت شبَه باطنِ الكلب بباطن الإنسان، وشبَه ظاهِر القرد بظاهر الإنسان: ترى ذلك في طَرْفِه وتغميضِ عينه، وفي ضِحْكه وفي حكايته، وفي كفِّه وأصابِعه، وفي رفعِها ووضعِها، وكيف يتناولُ بها، وكيف يجهز اللُّقمة إلى فيه وكيف يكسِر الجَوْزَ ويستخرج لبَّه وكيف يَلْقَنُ كل مَا أُخِذَ به وأُعِيدَ عليه، وأنَّهُ من بين جميعِ الحيوان إذا سقط في الماء غرِق مثلَ الإنسان، ومع اجتماعِ أسبابِ المعرفة فيه يغرق، إلاّ أن يكتسب معرفةَ السباحة، وإن كان طبعُه أوفى وأكمل فهو من هاهنا أنقص وأكلُّ، وكلُّ شيءٍ فهو يسبَح من جميع الحيوانات، ممَّا يوصف بالمعرفة والفِطنة، وممَّا يوصَفُ بالغَباوة والبَلادة؛ وليس يصير القردُ بذلك المقدار من المقارَبَة إلى أن يخرُج من بعض حدود القرود إلى حدود الإنسان.
عود إلى الحوار في شأن الكلب والديك وزعمتَ أنَّ ممَّا يمنعُ من التمثيل بين الديك والكلب أنّه حارسٌ محترسٌ منه، وكلُّ حارسٍ من الناس فهو حارسٌ غيرُ مأمونٍ تَبدُّلُه.
ولقد سأل زيادٌ ليلةً من الليالي: مَنْ على شُرطتكم? قالوا: بَلْج بنُ نُشْبَة الجُشَميّ، فقال:

ومحتَرسٍ مِن مثلِه وهو حارس

 

وساعٍ مع السلطانِ يَسعى عليهمُ

ويقال: إن الشاعر قال هذا الشعرَ في الفلافس النَّهشَليّ، حين ولِيَ شُرطةَ الحارِث بن عبد اللّه فقال:

وذُمِّي زماناً سادَ فيه الفُلافـسُ

 

أقلِّي عليَّ اللومَ يا ابنةَ مـالـكٍ

ومُحتَرسٍ من مثلِه وهو حارسُ

 

وساعٍ مع السلطان يَسعَى عليهمُ

وليس يُحكمَ لِصغار المضارِّ على كبارها بل الحكمُ للغامر على المغمور والقاهِر على المقهور، ولو قد حكَينا ما ذكر هذا الشَّيخُ من خِصال الكلب وذكَرَ صاحبُه من خصالِ الديك، أيقنتَ أنَّ العجَلةَ من عمل الشيطان، وأنَّ العُجْبَ بئس الصاحب.
 وقلتَ: وما يبلغُ من قدْر الكلب ومِن مقدارِ الديك، أن يتفرَّغ لهما شيخان من جِلَّة المعتزِلة، وهم أشراف أهلِ الحكمة؛ فأيُّ شيءٍ بلغ، غفر اللّه تعالى لك، من قدْرِ جزءٍ لا يتجزَّأ من رمْل عالج، والجزءِ الأقلِّ من أوَّل قطْع الذَّرَّة للمكان السحيق، والصحيفة التي لا عمقَ لها، ولأيِّ شيء يُعنَوْن بذلك، وما يبلغ من ثمنِه وقدْرِ حجْمه، حتَّى يتفرَّغَ للجدالِ فيه الشُّيوخ الجِلَّة، والكهولُ العِلْية، وحتَّى يختاروا النَّظرَ فيه على التسبيح والتهليل، وقراءةِ القرآن وطولِ الانتصابِ في الصلاة؛ وحتَّى يزعم أهلُه أنَّه فوقَ الحجِّ والجهاد، وفوقَ كلِ برٍّ واجتهاد، فإنْ زعمتَ أنّ ذلك كلّه سواءٌ، طالت الخُصومةُ معَك، وشغلْتنا بهما عمّا هو أولى بِنا فيك، على أنَّك إذا عَممْتَ ذلك كلَّه بالذمِّ، وجَلَّلته بالعيب، صارت المصيبةُ فيك أجلَّ، والعزاءُ عنها أعسر، وإن زعمتَ أنَّ ذلك إنَّما جاز لأنَّهم لم يذهبُوا إلى أثمان الأعيان في الأسواق، وإلى عظم الحجم، وإلى ما يروقُ العينَ ويلائِمُ النفس، وأنَّهم إنَّما ذهبوا إلى عاقبة الأمر فيه، وإلى نتيجتِه، وما يتولَّد عنه من علم النِّهايات، ومن باب الكلِّ والبعْض، وكان ويكون، ومن باب ما يحيط به العلم أو ما يفضل عنه، ومن فَرقِ ما بين مذاهب الدُّهريَّة ومذاهب الموحِّدين، فإن كان هذا العذْرُ مقبولاً، وهذا الحكم صحيحاً، فكذلك نقول في الكلب، لأنَّ الكلبَ ليس له خطرٌ ثمين ولا قَدْر في الصدرِ جليل؛ لأنَّه إن كان كلبَ صيد فديتُه أربعون دِرهماً، وإن كان كلب ضَرْعٍ فديتُه شاة، وإن كان كلبَ دارٍ فديتُه زِنبيلٌ من ترابٍ، حُقَّ على القاتل أَن يؤدِّيَه، وحُقَّ على صاحبِ الدار أن يقبلَه، فهذا مقدارُ ظاهِر حاله ومُفتَّشِه، وكوامِنُ خِصاله، ودفائِنُ الحكمةِ فيه، والبرهاناتُ على عجيب تدبير الربِّ تعالى ذكرُه فيه،على خلاف ذلك؛ فلذلك استجازُوا النَّظَر في شأنه، والتمثيلَ بينَه وبين نظيره، وتعلم أيضاً مع ذلك أنَ الكلبَ إذا كانَ فيه، مع خُموله وسقوطِه، مِن عجيبِ التدبير والنعمةِ السابغةِ والحكمةِ البالغة، مثلُ هذا الإنسان الذي له خلق اللّه السمواتِ والأرض وما بينهما، أحقُّ بأنْ يُفكر فيه، ويُحْمَدَ اللّهُ تعالى على ما أودَعَه من الحكمةِ العجيبةِ، والنِّعمة السابغة.
وقلت: ولو كان بدلُ النظرِ فيهما النظرَ في التوحيد، وفي نفي التشبيه، وفي الوعد والوعيد، وفي التعديل والتجوير، وفي تصحيح الأخبار، والتفضيلِ بين علم الطبائع والاختيار، لكان أصوبَ.
دفاع عن المتكلمين والعجبُ أنَّك عَمَدْتَ إلى رجالٍ لا صناعةَ لهم ولا تجارةَ إلاَّ الدعاء إلى ما ذكرت، والاحتجاجُ لما وصفت، وإلاَّ وضْعُ الكتبِ فيه والولايةُ والعداوةُ فيه، ولا لهمْ لَذّةٌ ولا هَمٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلا عليهِ وإليه؛ فحين أَرادُوا أن يُقَسِّطُوا بينَ الجميعِ بالحِصص، ويَعْدِلوا بينَ الكلِّ بإعطاء كلِّ شيء نصيبه، حتَّى يقعَ التعديلُ شاملاً، والتقسيطُ جامعاً، ويظهرَ بذلك الخفيُّ من الحِكَم، والمستورُ من التدبير، اعترضْتَ بالتعنُّتِ والتعجُّب، وسطّرت الكلامَ، وأطلتَ الخطب، من غير أنْ يكون صوَّبَ رأيَكَ أديبٌ، وشايَعَك حكيم.
نسك طوائف من الناس وسأضرِب لك مثلاً قد استوجبتَ أغلظَ منه، وتعرَّضتَ لأشدَّ منه ولكنَّا نستأنِي بك وننتَظِرُ أوْبَتَك، وَجَدْنَا لجميعِ أهلِ النَّقص، ولأهلِ كلِّ صِنفٍ منهم نُسْكاً يعتمِدون عليه في الجَمَال، ويحتسِبون به في الطاعة وطلَب المثُوبة، ويفزَعون إليه، على قدْرِ فسادِ الطِّباع، وضعفِ الأصل، واضطراب الفرْع، مع خبْث المنشأ، وقلَّةِ التثبُّتِ والتوقُّفِ، ومع كثرة التقلُّب والإقدام مَعَ أوّلِ خاطر: فنُسك المَريبِ المرتابِ من المتكلِّمين أنْ يتحلَّى برمْي الناسِ بالرِّيبة، ويتزيَّنَ بإضافةِ ما يجدُ في نفسه إلى خَصمه، خوفاً من أن يكونَ قد فطِن له، فهو يستُرُ ذلك الداءَ برمْيِ الناس به.
ونُسكُ الخارجيِّ الذي يتحلَّى به ويتزيَّا بجماله، إظهارُ استعظامِ المعاصي، ثم لا يَلتفِت إلى مجاوزَة المقدارِ وإلى ظُلْمِ العباد، ولا يقِف على أنَّ اللّه تعالى لا يحبُّ أن يَظْلِمَ أظلمَ الظَّالمين، وأنَّ في الحقِّ ما وسِعَ الجميع. ونسْك الخُراسانيِّ أن يُحجَّ ويَنَام على قفاه، ويعقد الرِّياسة، ويتهيَّأ للشَّهادة، ويبسُطَ لسانَه بالحِسْبة، وقد قالوا: إذا نَسَك الشَّريفُ تواضَعَ، وإذا نسَكَ الوضيعُ تكبَّر، وتفسيرُه قريبٌ واضح، ونُسْك البَنَوي والجنديِّ طرحُ الديوانِ، والزِّرايةُ على السُّلطان، ونسك دَهاقِين السَّوادِ تركُ شُرْب المطبوخ، ونُسْك الخَصِيِّ لُزُوم طَرَسُوس وإظهارُ مجاهَدَةِ الروم، ونُسك الرافضيِّ تركُ النبيذ، ونسك البستانيِّ تركُ سَرِقة الثَّمر، ونُسْك المغنِّي الصَّلاةُ في الجماعة وكثرةُ التسبيح، والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ونسك اليهودِيِّ التشدُّدُ في السَّبْت وإقامته.
والصوفيُّ المظهِرُ النُّسكَ من المسلمين، إذا كان فسلاً يبغض العمل تطرف وأظهر تحريمَ المكاسب، وعاد سائلاً، وجعل مسألتَه وسيلة إلى تعظيم الناسِ له.
وإذا كان النَّصرانيُّ فسلاً نذْلاً مبغِضاً للعمَل، وترهَّب ولَبِس الصُّوف؛ لأنَّه واثقٌ أنَّه متى لبِس وتزيَّا بذلك الزِّيِّ وتحلَّى بذلك اللِّباس، وأظهر تلك السِّيما، أنَّه قد وجَبَ على أهل اليُسرِ والثَّروة منهم أن يعُولُوه ويَكْفُوه، ثمَّ لا يرضى بأنْ رَبحَ الكِفايةَ باطلاً حتى استطال بالمرتبة.
فإذا رمى المتكلِّمُ المريبُ أهلَ البراءة، ظنَّ أنَّه قد حوَّل ريبتَه إلى خَصمه، وحوَّل براءةَ خصمِه إليه، وإذا صار كلُّ واحدٍ من هذه الأصناف إلى ما ذكرنا، فقد بلغ الأمنيَّة، ووقَفَ على النِّهاية، فاحذَر أن تكونَ منهم واعلَمْ أنَّكَ قد أشبهتهم في هذا الوجه، وضارعتَهم في هذا المذهب.
مما قدَّمْنَا ذكرَه، وبينَه وبينَ ما ذكرنا بعضُ الفرْق.
يقال: أجرأ من الليث، وأجبَنُ من الصِّفْرِد، وأسخَى مِنْ لافِظة، وأصبرُ على الهُونِ من كَلب، وأحذر من عَقْعَق، وأَزهى مِن غراب، وأصنَع من سُرفَة وأظلم من حيَّة، وأغدَر من الذئب، وأخبَث من ذئِبِ الحَمَز وأشدُّ عداوةً من عقرب، وأروغُ من ثعلب، وأحمقُ من حُبارى، وأهدى من قطاة، وأكذَبُ مِن فاختة، وألأمُ من كلبٍ على جيفة، وأجمَعُ من ذَرّة، وأضلُّ من حِمار أهلي، وأعقُّ من ضَبٍّ، وأبرُّ من هِرَّة، وأنْفَر من الظليم، وأضَلّ من وَرَل وأضلُّ من ضبٍّ، وأظلم من الحيَّة.
فيعبِّرون عن هذه الأشياء بعبارةٍ كالعبارة عن الناس، في مواضع الإحسان والإساءة، حتَّى كأنَّهم من الملومِين والمشكورين، ثم يعبِّرون في هذا البابِ الآخَر بدونِ هذا التعبير، ويجعلونَ خبَرهم مقصوراً على ما في الخِلقة من الغريزة والقُوى فيقولون: أبصرُ من عُقاب، وأسمعُ من فرَس، وأطولُ ذماءً من ضبٍّ، وأصحُّ من الظليم.
والثاني يشْبِه العبارةَ عن الحمد والذمِّ، والأوَّل يُشبِه العبارةَ عن اللائمةِ والشكر، وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّ كلّ مشكورٍ محمود، وليس كلُّ محمودٍ مشكوراً؛ وكلُّ ملومٍ مذموم وليس كلُّ مذمومٍ ملوماً، وقد يحمدون البَلدَةَ ويذمُّون الأخرى، وكذلك الطعام والشراب، وليس ذلك على جهة اللّوم ولا على جهة الشكر؛ لأنَّ الأجْر لا يقع إلاَّ على جهة التخيُّر والتكلُّف، وإلاَّ على ما لا يُنال إلاّ بالاستطاعة والأوَّلُ إنَّما يُنالُ بالخِلقة وبمقدارٍ من المعرفة، ولا يبلغ أنْ يسمَّى عقْلاً، كما أنّه ليس كلُّ قُوَّةٍ تسمَّى استطاعة، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

ما ذكر صاحبُ الديك من ذمِّ الكلابِ

وتعدد أصناف معانيها

وتعداد أصناف معايبها ومثالبها، مِن لؤمها وجبنها وضعْفها وشرَهها، وغدْرِها وبَذَائِها، وجهْلها وتسرُّعِها، ونتْنها وقذَرها، وما جاء في الآثار من النَّهْي عنِ اتخاذها وإمساكها، ومن الأَمْر بقتْلِها وطردها، ومن كثرةِ جناياتها وقلَّة رَدِّها ومِن ضرب المثَل بلؤمها ونذالتها، وقبحِها وقبْحِ معاظلتِها وَمِن سماجة نُباحِها وكثرة أذاها، وتقذُّر المسلمين من دنوِّها، وأنّها تأكل لحومَ الناسِ، وأنَّها كالخلْق المركّبِ والحيوان الملفّق: كالبغْل في الدوابِّ وكالراعِبيِّ في الحمام، وأنّها لا سبعٌ ولا بهيمة، ولا إنسيَّةٌ ولا جِنِّيَّة، وأنَّها من الحِنِّ دون الجِنّ، وأنّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ من المِسْخ، وأنَّها تنبُش القبورَ وتأكُلُ الموتى، وأنَّها يعتريها الكَلَبُ مِن أكل لحوم الناس. فإذا حكيْنَا ذلكَ حكَينا قولَ من عدَّد محاسنَها، وصنّف مناقبها، وأخذْنا مِنْ ذكر أسمائِها وأنسابها وأعراقها، وتفدية الرجال إيَّاها واستهتارهم بها، وذكر كسْبِها وحراستها، ووفائها وإلْفها وجميعِ منافعها، والمرافق التي فيها، وما أُودِعت من المعرِفة الصحيحةِ والفِطَن العجيبة والحسِّ اللطيف والأدب المحمود، وذلك سِوى صِدق الاسترواح وجَودَةِ الشمِّ، وذِكْر حفظها ونَفَاذها واهتدائِها، وإثباتِها لصُوَر أربابها وجيرانها، وصبرِها، ومعرفتِها بحُقوق الكرام، وإهانتها اللئام، وذكر صبْرها على الجفا، واحتمالها للجوع، وذكر ذِمامها وشدَّةِ مَنْعِها مَعَاقِدَ الذِّمَارِ منها، وذكر يَقَظَتها وقِلَّة غفلتها وبُعْدِ أصواتها، وكثرة نسْلها وسرعة قَبولها وإلقاحها وتصرُّفِ أرحامِها في ذلك، مع اختلاف طبائِع ذكورها والذكور من غير جنسها، وكثرةِ أعمامِها وأخوالها، وتردُّدها في أصناف السِّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وذكر لَقَنها وحكايتها، وجودة ثقافتِها ومَهْنِها وخِدمتها، وجِدِّها ولِعْبها وجميعِ أمورها؛ بالأشعارِ المشهورة والأحاديث المأثورة، وبالكتُبِ المنَزَّلة والأمثالِ السائرة، وعن تجرِبةِ النَّاس لها وفِراستِهم فيها، وما عايَنوا منها؛ وكيف قال أصحابُ الفأل فيها، وبإخبار المتطيِّرين عنها، وعن أسنانها ومنتهى أعمارها وعدد جرائها، ومدَّةِ حملها، وعن أسمائها وألقابِها، وسِماتِها وشِياتها، وعن دوائها وأدوائها وسياستها، وعن اللاتي لا تلقَنُ منها وعن أعراقِها والخارجيِّ منها وعن أصول مواليدها ومخارج بلدانها.
وذكر صاحبُ الديك ما يحفظ من أَكلِ الكلابِ للحُوم النَّاس فقال: قال الجَارود بن أبي سَبْرَة في ذلك:

وقوَّتِه أخزى ابنَ عَمْرَةَ مـالـكـا

 

ألم تر أنَّ اللّـهَ ربِّـي بَـحـوْلِـه

فقد صارَ في أرض الرُّصافةِ هالكا

 

فَمنْ كانَ عنه بالـمـغـيَّبِ سـائلاً

إذا اجتَبْن مُسْوَدّاً مِنَ الليل حالـكـا

 

تظلُّ الكلابُ العـادياتُ يَنُـشْـنَـه

وقال نُفَيع بن صفَّار المحاربي من ولد مُحارِب بن خُصَفة في حرب قيسٍ وتغلب:

حتى تَعادَلَ مَيلُ تَغلِب فاستَوَى

 

أفنَتْ بَني جُشَم بن بكرٍ حَرْبُنـا

فلتَبْكِ تَغْلِبُ للأُنوفِ وللخُصى

 

أكَلَ الكلابُ أَنوفَهم وخُصَاهُـمُ

وقال أبو يعقوب الخُرْيمي، وهو إسحاق بن حسَّان بن قوهي في قتلَى حربٍ ببغداد:

المعتْرَكِ مَعفورة مَنَاخِرُهـا

 

وهَل رأيتَ الفتيانَ في بـاحة

يشقَى به في الوَغَى مَساعِرُها

 

كلّ فتًى مانـعٍ حـقِـيقَـتَـه

مخضوبةً من دمٍ أظافِـرُهـا

 

باتَتْ عليه الكلابُ تنـهَـشُـه

وقال أبو الشمقمق وهو مَرْوان بن محمد، مولى مرْوان بنِ محمَّد، ويكنى أبا محمَّد:

وجَدُوه بـالأُبُـلَّـه

 

يُوسفُ الشاعرُ فَرْخ

كامناً في جَوف جُلَّه

 

حَلَقِيٌّ قَدْ تُـلـقِّـي

بِ عليْهِ بمِسَـلَّـه

 

خيَّطوها خشْيَةَ الكل

وذُكر لي عن أبي بَكر الهُذَليِّ، قال: كنَّا عندَ الحسن إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس، فقال يا أبا سعيد: ما تقولُ في دم البراغيث يُصيب الثوب: أيصلَّى فيه? فقال: يا عجباً ممَّن يلَغ في دماءِ المسلمين كأنَّه كلبٌ، ثم يسألُ عن دم البراغيث فقام وكيعٌ يتخلَّج في مِشيتِه كتخلُّج المجنون، فقال الحسن: إنَّ للّه في كلِّ عضوٍ منه نعمةً فيستعين بها على المعصية، اللَّهمَّ لا تجعلْنا ممَّن يتقوَّى بنعمتِك على معصيتك.
ما أضيف من الحيوان إلى خبث الرائحة وقال صاحب الديك: أشياءُ مِنَ الحيوانِ تُضافُ إِلى نتْنِ الجُلُود وخُبث الرائِحة، كريح أبْدان الحيَّات، وكنتْن التُّيوس وصُنانِ عرَقها، وكنتن جِلدِ الكلاب إذا أصابه مطر، وضروبٌ من النَّتن في سوى ذلك، نحنُ ذاكروها إن شاء اللّه تعالى.
وقال رَوح بن زنباع الجُذَاميّ في امرأته، وضرب بالكلب المثل:

وريحُها ريحُ كلْبٍ مَسَّهُ مَطَرُ

 

رِيح الكرائمِ معروفٌ لَهُ أَرَجٌ

قال: وكانت امرأةُ رَوح بن زِنباع أمَّ جعفر بنتَ النُّعمان بن بشير، وكان عبدُ الملك زوَّجه إيّاها، وقال: إنَّها جاريةٌ حسناء، فاصبرْ على بَذَاءِ لسانِها.
وقال الآخر:

وريح كلبٍ في غَدَاةٍ طَلّهْ

 

وريحُ مَجْروبٍ وريح جُلَّه

وأنشد أبو زيد في ذلك:

ريحُ الكلاب إذا ما بلّها المطر

 

كأنَّ ريحَهُمُ من خُبْثِ طُعْمَتِهِمْ

ومما ذُكر به الكلبُ في أكله العَذِرة، قولُ الراجز:

أَحرَصُ من كلبٍ على عِقْيِ صَبِي

وقال مثل ذلك حَنْظَلة بن عَرَادة في ذكره لابنِه السَّرَنْدَى:

خَلَّى أباه بقفـر الـبِـيد وادَّلـجـا

 

ما للسَّرَنْدَى أطالَ الـلّـهُ أيْمَـتَـهُ

وإن رأى غفلةً من جـارِهِ ولـجـا

 

مِجْعٌ خَبيثٌ يُعاطي الكَلْبَ طُعْمَـتَـه

والكلبُ يلحَسُ من تحتِ استِه الرَّدَجا

 

رَبَّيْته وهو مثلُ الفَـرْخ أَصْـرُبُـهُ

يقال للذي يخرُج من بطن الصبيِّ حين يخرُج من بطن أمه عِقي بكسر العين، ويقال عقَى الصبي يعِقي عَقْياً، فإذا شُدَّ بطنُه للسِّمن قيل قد صُرِبَ ليسمَن، والعِقي وهو العَقْية الغيبة، وإيَّاه عنَى ابنُ عمر حين قيل له: هلاَّ بايعت أخاك ابن الزُّبير? فقال: إنَّ أخي وضَعَ يده في عَقْيَةٍ ودعا إلى البَيعة، إنِّي لا أنزَع يَدِي مِن جماعةٍ وأضعُها في فُرقة.
وفي الحديث المرفوع: الراجعُ في هِبَتِه كالرَّاجِع في قَيئه، وهذا المثلُ في الكلب.
ويقالُ: أبخَلُ من كلبٍ على جِيفة، وقال بعضُهم في الكلب: الجِيفة أحبُّ إليه من اللّحم الغريض، ويأكل العَذِرة ويرجِع في قيئه، ويشغَر ببَوله فيصير في جوفِ فيه وأنفه، ويحذفه تِلقاءَ خَيشومه.
وقال صاحب الكلب: إنْ كنتُم إنَّما تستسقطون الكلب وتستسفلونه بهذا وأشباهه، فالجيفةُ أنتنُ من العذرة، والعَذرة شرٌ من القيء، والجيفة أحبُّ إلى أشراف السباع ورؤسائها من اللحم العبيط الغريض الغضِّ.
مأكل السبع والأسَد سَيِّد السباع، وهو يأكل الجِيفةَ، ولا يعرِض لشرائع الوحش وافتراس البهائم، ولا للسابلة من الناس، ما وَجَدَ في فريسته فَضْلة، ويبدأ بعدَشُرْب الدَّم فيبقُر بطنَه ويأكل ما فيه من الغثيثة والثفل والحَشْوة والزِّبل، وهو يرجع في قيئه، وعنه ورِث السِّنَّور ذلك.
ما قيل في السبع من الأمثال وهو المضروبُ به المثلُ في النَّجدة والبسالة، وفي شِدَّة الإقدام والصَّولة، فيقال: ما هو إلاّ الأسد على براثنه وهو أشدُّ من الأسد وهو أجرَأ من الليث العادي وفلان أسدُ البلاد وهو الأسد الأسود، وقيل لحمزة بن عبد المطَّلب أسدُ اللّه، فكفَاك من نُبْل الأسد أنَّه اشتُقَّ لحمزة بن عبد المطَّلب من اسمه، ويقال للملك أَصْيَد إذا أرادوا أن يصِفوه بالكِبْر وبقلَّةِ الالتفات، وبأنَّ أنفَه فيه أسلوب ولأنَّ الأسد يَلتفت معاً لأنَّ عنقه من عظم واحد، وقال حاتم:

ورفعتَ رأسَك مثلَ رأسِ الأصْيَدِ

 

هَلاَّ إذا مَطَرَ السماءُ عـلـيكُـمُ

وقال الآخر:

وتَغلِبَ والصِّيدَ النواظرِ من بَكر

 

يَذُودونَ كلباً بالـرِّمـاحِ وطَـيِّئاً

وقال الآخر :

نَمَاه أبٌ ما جدٌ أصـيَدُ

 

وكم لي بها من أبٍ أصْيَدٍ

وبعدُ فإِنّ الذي يأكل الجِيفةَ لم يبعُد من طبعِ كثيرٍ من الناس؛ لأنَّ من الناس من يشتهي اللحمَ الغابَّ، ومنهم من يشتهي النَّمكْسُود، وَلَيْسَ بَيْنَ النَّمَكْسُودِ، وبين المصلوب اليابس كبيرُ فرق، وإنَّما يذبحون الدِّيَكَةَ والْبَطَّ والدَّجاج والدُّرّاج من أوََّلِ الليل، ليسترخيَ لحمُها، وذلك أول التَّجييف.
فالأسد أجمعُ لهذه الخصال من الكلب، فهلاَّ ذكرتمْ بذلك الأسد وهو أنبَهُ ذِكراً وأبعدُ صيتاً.
وأمَّا ما ذكرتم من نَتْن الجِلد ومن استنشاق البول، فإنَّ للتيسِ في ذلك ما ليس للكلب، وقد شاركه في الحذْفِ ببوله تِلقاءَ أنفه، وباينَه بشدَّةِ الصُّنان؛ فإنَّ الأمثالَ لَه أكثرُ ذِكراً، وفي العنز أيضاً عيوب.
وفي توجيه التيس ببوله إلى حاقِّ خَيشومه قال الشاعر لبعض من يهجُوه:

 

فعادَ لك المُسْمِي فأسْمَاك بالقحر

 

دُعِيتَ يَزِيدَ كي تَزِيدَ فلـم تَـزِدْ

عَلَيْهِ فيمذي في لَبَانٍ وفي نحر

 

وما القَحْرُ إلاَّ التيسُ يَعْتِك بولُه

 








وقال آخر في مثل ذلك:

عَتُودٌ في مفارِقِه يَبولُ

 

أَعثمانُ بنُ حَيَّانَ بن لؤم

نَعامَتُه ويفهم ما يقول

 

ولو أَنِّي أشافِهُه لشالت

وبعد: فما يُعلمَ من صنيع العنز في لبنها وفي الارتضاع من خلفها إلاَّ أقبح.
وقال ابن أحْمَرَ الباهليُّ في ذلك:

كالعنز تعطِفُ روْقَيها وتَرْتَضِعُ

 

إنّا وجَدْنا بَني سَهْمٍ وجاملـهـم

وقلتم: هَجَا ابْنُ غادية السلمي بعضَ الكِرام، حينَ عُزِل عن يَنْبُع، فقال لمن ظنَّ أنَّه إنَّما عُزِل لمكانه:

دَبِرُ الحراقفِ والفَقَارِ مُوقَّعُ

 

رَكِبوك مُرتَحَلاً فظهرُك منهمُ

نحوَ الذين بهم يَعِزُّ ويمـنـعُ

 

كالكلبِ يَتْبَعُ خانِقِيهِ وينتحـي

وقال ابن هَرْمة الفِهريّ:

ولا ضَرَّت بفُرْقتها نِـزارَا

 

فما عادَت لذِي يمنٍ رؤوسـاً

وتَرْأَمُ مَنْ يُحِدُّ لها الشِّفـارَا

 

كعَنْز السَّوْءِ تَنْطَحَ مَنْ خَلاهَا

وما نعلم الرُّجوعَ في الجِرَّة، وإعادةَ الفرثِ إلى الفم ليُستقصَى مضغُه إلاَّ أسمجَ وأقذَرَ من الرُّجوعِ في القَيْءِ، وقد اختار اللّه عَزّ وجلَّ تلك الطبيعةَ للأنعام، وجعل الناسَ ليسوا لشيءٍ من اللُّحمان أشدَّ أكلاً ولا أشدَّ عَجباً بِهِ منكم، ولا أصلحَ لأبدانهم ولا أغْذَى لهم من لُحُوم هذه الأنعام أفتائِهَا ومَسَانِّهَا.
وقال صاحبُ الديك: ما يشبه عَوْدُ الماشيةِ في الجِرَّة، ورجوعُها في الفرث تطحَنُه وتُسيغه، الرجُوعَ في القيء، وقد زعمتم أنَّ جِرَّةَ البعيرِ أنتنُ مِن قَيءِ الكلاب لطول غُبُوبها في الجوف، وانقلابها إلى طباع الزِّبل، وأنَّها أنتن من الثلط، وإنَّما مثل الجِرَّة مثل الرِّيق الذي ذكره ابنُ أحمر فقال:

وقَدْ يدوِّمُ رِيقَ الطَّامِعِ الأَمَلُ

 

هذا الثناءُ وأجْدِرْ أن أُصاحبه

فإنَّما مَثَلُ القَيءِ مَثَلُ العَذِرَة؛ لأنَّ الرِّيق الذي زعمتم، ما دامَ في فم صاحبه، ألذُّ من السلوى، وأمتعُ من النسيم، وأحسنُ موقعاً من الماء البارد من العطاش المسهوم، والريقُ كذلك ما لم يزايِل موضعَه، ومتى زايل فَمَ صاحبِه إلى بعض جِلْده اشتدّ نتْنه وعادَ في سبيل القيء.
فالرِّيق والجِرَّةُ في سبيلٍ واحد، كما أنَّ القيء والعَذِرة في سبيل واحد، ولو أن الكلبَ قَلَسَ حتَّى يمتلئ منه فمه، ثم رجع فيه من غير مباينةٍ له، لكان في ذلك أحقَّ بالنظافة من الأنعام في جِرَّتها، وحشيِّها وأهليِّها، وإنَّ الأرانِبَ لَتَحِيضُ حيضاً نَتِناً، فما عاف لحمَهَا أصحابُ التَّقَذُّرِ لمشاركَتِها الأنعامَ في الجِرَّة.
فقال صاحب الكلب: أمَّا ما عبتموه من أكْلِ العَذِرة، فإنَّ ذلك عامٌّ في الماشيةِ المتخيَّرِ لحمُها على اللُّحْمان، لأنَّ الإبل والشياه كلّها جَلاّلة وهُنَّ على يابسِ ما يخرُج من الناسِ أحرَصُ؛ وعلى أنّها إذَا تعوَّدت أكل ما قد جفَّ ظاهرُه وداخلُه رطبٌ، رَجَع أمرُها إلى ما عليه الكلب، ثم الدَّجاج لا تَرْضَى بالعَذِرة، وبما يَبْقَى من الحبوبِ التي لم يأتِ عليها الاستمراء والهضْم، حتَّى تلتمِس الديدانَ التي فيها، فتجمع نوعين من العذرة لأنها إذا أكلت ديدان العَذِرَةِ فقد أتَتْ على النَّوْعين جميعاً، ولذلك قال عبد الرحمن بن الحَكَم في هجائِه الأنصار بخبيث الطعام، فضرب المثلَ بالدَّجاج من بين جميع الحيوان، وترَكَ ذِكر الكلاب وهي له مُعْرِضة فقال:

لخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الدَّجَاجِ

 

وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُـرَاهـا

ولو قال:

لِخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الْكِلابِ

 

وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُـرَاهـا

لكان الشِّعْر صحيحاً مُرضياً.
وعلى أنَّ الكلابَ متى شبِعت، لم تعرض للعَذِرة، والأنعامُ الجلاَّلةُ وكذلك الحافِر، قد جعلت ذلك كالحَمْضِ إذا كانت لها خَلَّةٌ؛ فهي مَرَّة تتغذَّى به ومرة تتحمَّض، وقد جاء في لحُوم الجَلاَّلة ما جاء.
رغبة الملوك والأشراف في الدجاج  
وملوكُنا وأهلُ العيشِ مِنَّا، لا يرغبون في شيءٍ من اللُّحمان رغبَتَهم في الدَّجاج، وهم يقدِّمونها على البطِّ والنواهض، والقَبَجِ والدُّرَّاج، نعم وعلى الجِداء والأَعْنُقِ الحُمْرِ من بَنَاتِ الصَّفَايا، وهم يعرفُون طبعها وسوء قُوتِها، وهم مع ذلك يأكلون الرَّواعِيَ كما يأكُلون المسمَّنات.
الشبوط أجود السمك وأطيبُ ما في الأنهار من السمك، وأحسنُها قُدوداً وخَرْطاً، وأسبطُها سُبُوطاً، وأرفعُها ثمناً وأكثرُها تصرُّفاً في المالح والطريّ، وفي القَرِيسِ والنَّشوطِ الشَّبُّوطُ، وليس في الماء سمكة رفيعةُ الذكر ولا ذاتَ خمول، إلاَّ وهي أحرص على أكْل العَذِرة منها، وإنّها في ذلك لأَشدُّ طلباً لها من الخِنزير في البرِّ، والجِرِّيِّ في البحر.
لحم الخنزير وقد عَلم الناسُ كيفَ استطابةُ أكلِ لحُومِ الخنازير، وأكلُ الخنازيرِ لها، وكيف كانت الأَكاسرة والقياصرةُ يقدِّمونها ويفضِّلونها، ولولا التعبُّدُ لجَرَى عندنا مَجْرَاه عندَ غيرِنا.
وقد علم النَّاسُ كيف استطابةُ أكل الجِرِّيِّ لأذنابها.
ما قيل في الجري وفي الجِرّيِّ قال أبو كَلْدة: هو أُدْم العُميان، وجيِّدٌ في الكَوْشَان ودواءٌ للكليتين، وصالحٌ لوجَع الظهر وعَجْبِ الذَّنب، وخِلافٌ على اليهود، وغيظٌ على الروافض؛ وفي أكله إحياءٌ لبعض السُّنن، وإماتةُ بعضِ البِدَع، ولم يُفْلَجْ عليهِ مُكثِرٌ منه قطُّ، وهو محنةٌ بين المبتدِع والسُّنِّي، هلك فيه فِئَتَانِ مذْ كانت الدنيا: محلِّلٌ ومحرِّم.
وقال أبو إسحاق: هو قبيح المنظر، عاري الجِلدِ، ناقص الدّماغِ، يلتهم العَذِرة ويأكل الجرذان صحاحاً والفأرَ، وزَهِمٌ لا يُستَطاعُ أكلُه إلاّ محسِيّاً ولا يتصرَّفُ تصرُّفَ السمك، وقد وقع عليه اسم المِسْخ، لا يَطِيب مملوحاً ولا ممقوراً، ولا يؤكل كباباً، ولا يُختارُ مطبوخاً، ويُرمَى كلُّه إلاَّ ذنَبه.
والأصناف التي تَعرض للعَذِرة كثيرة، وقد ذكرنا الجلاَّلاَتِ من الأنعامِ والجِرِّيِّ والشَّبُّوطِ من السمك، ويعرِض لها من الطير الدَّجاجُ والرَّخَمُ والهَداهِد.
الأنوق وما سمي بهذا الاسم وقد بلغ من شَهوة الرَّخَمَة لذلك، أنْ سمَّوها الأنوق، حتى سمَّوا كلَّ شيءٍ من الحيوان يعرِض للعذِرة بأنوق، وهو قول الشاعر:

لجارتَيه ثـم ولَّـى فـنـثـلْ

 

حتَّى إذَا أضحى تَدَرَّى واكتحـل

 

 

رِزقَ الأَنُوقَينِ القَرَنْبَى والجُعَل

ما قيل من الشعر في الجُعَل

ولشدَّة طلب الجعل لذلك قال الشاعر:

كَأَنَّه شُرَطيٌّ بَاتَ في حَـرَسِ

 

يَبِيت في مجلس الأقوام يَربَؤُهم

وكذلك قال الآخر:

بَاتَ يعشِّي وَحْدَه ألفَيْ جُعَل

 

إذا أتَوه بـطـعـامٍ وأكَـلْ

هذا البيتُ يدلُّ على عِظَم مقدار النَّجْو، فهجاه بذلك، وعلى أنَّ الجُعَل يقتات البَراز.
وفي مثل ذلك يقول ابن عَبْدَل - إن كان قاله - وإنما قلت هذا لأنَّ الشعر يَرتفِع عنه، والشعر قوله:

ثى إذا ما غدا أبـو كـلـثـومِ

 

نِعْم جارُ الخنزيرةِ المرضعُ الغر

من ثَـريدٍ مـلـبَّـقٍ مـأدُوم

 

ثاوياً قد أصابَ عـنـد صـديقٍ

سِ فألقَى كالمِعْلَفِ المَـهْـدُوم

 

ثم أنحى بجَعره حاجبَ الـشـم

عامداتٍ لتـلِّـهِ الـمـركـومِ

 

بضَريطٍ ترى الخنـازير مـنـه

وقال الراجز في مثل ذلك:

ثُمَّتَ أَلبَانَ البَخاتِي جَعْجَعَـا

 

قد دقَّهُ ثَارِدُهُ وصَـوْمَـعَـا

ثُمَّتَ خوّى بارِكاً واسْتَرْجَعا

 

جَعْجَعَة العَوْدِ ابْتَغَى أنْ يَنْجَعا

 

 

عَن جاثِمٍ يُحْسَبُ كلباً أبقعا

وفي طلب الجُعَل للزِّبْلِ قال الراجز وهو أبو الغُصْن الأسَدي:

من كل ذات بُخْنقٍ غَمَلَّجـه

 

ماذا تلاَقي طَلَحَاتُ الحرجـه

مِنَ الضُّرَاطِ والفُسَاءِ السمجه

 

ظَلّ لها بَيْنَ الحـلال أَرَجَـه

تعطيه عنها جعَلاً مُدحرجَـه

 

فجئتُها قاعِـدَةً مـنـشـجـه

وقال يحيى الأغرّ: تقول العرب سَدكَ به جُعَله، وقال الشاعر:

إنَّ الشقيَّ الذي يُغْرَى به الجُعَلُ

 

إذا أتيتُ سُليمَى شَبَّ لي جُعَـل

يضرب هذا المثلُ للرَّجل إذا لَصِقَ به من يكره، وإذا كان لا يزال يراه وهو يهرُب منه، قال يحيى: وكان أصلُه ملازمةَ الجُعَل لمن بات في الصحراء، فكلَّما قام لحاجةٍ تبِعه؛ لأنَّه عنده أنَّه يريد الغائط.
القرنبى وفي القَرَنْبَى يقول ابنُ مقبل:

قبُوعَ القَرَنْبَى أخْلَفَتْه مجاعره

 

ولا أطرُق الجَاراتِ بِاللَّيل قابعاً

والقبوع: الاجتماع والتقبض، والقرَنْبى: دويْبَّةٌ فوق الخُنْفَسَاء ودونَ الجعل، وهو والجعل يتْبعان الرَّجلَ إلى الغائط.
الهدهد وخبث ريحه ومن الطَّير الذي يُضارِع الرَّخمة في ذلك الهدهدُ، منتنُ البَدَن وإن لم تجدْه ملطخاً بشيءٍ من العَذِرة؛ لأنَّهُ يبني بيته ويصنع أُفحوصَه من الزِّبل، وليس اقتياتُه منه إلاَّ على قدْر رغبتِه وحاجته في ألاّ يتَّخذ بيتاً ولا أُفحوصاً إلاّ منه، فخامَرَه ذلك النَّتنُ فَعَلِق ببدنه وجرى في أعراق أبويه؛ إذ كان هذا الصنيع عامّاً في جنسه.
وتعتري هذه الشَّهْوةُ الذِّبان، حتَّى إنَّها لو رأتْ عسلاً وقذَراً، لكانت إلى القذَر أسرعَ، وقال الشاعر:

قفا مالِكٍ يُقْصِي الهُمومَ عَلَى بَثْقِ

 

قَفاً خَلْفَ وَجْهٍ قَدْ أُطِـيلَ كـأنَّـه

وأبخَلُ من كَلْبٍ عَقُور على عَرْقِ

 

وأعظمُ زهواً من ذُبابٍ على خِراً

ويزعمون أَنَّ الزُّنبورَ لهِجٌ بصيد الذِّبان، ولا يكاد يصيده إلاَّ وهو ساقطٌ على عذرة لفَرْط شَهْوتِه لها ولاستفراغها، فيعرِف الزُّنبور ذلك، فيجعل غَفلتَه فُرصة ونُهْزة، قالوا: وإنَّما قلنا ذلك لأنّا لم نجِدْه يرومُ صيدَه وهو ساقِطٌ على ثمرةٍ، فما دونها في الحلاوة.
شعر في الهجاء وقال أبو الشَّمقمق في ذلك:

مقُ رأس الأَنتـانِ والـقَـذِره

 

الطّريقَ الطَّرِيقَ جـاءكُـم الأح

لِ وخالُ الجاموسِ والبـقَـره

 

وابْنُ عمِّ الحمارِ في صورةِ الفي

كمشي خِنـزيرةٍ إلـى عَـذِره

 

يمشي رُويداً يريد حَلْـقـتـكـم

وقال حَمَّادُ عَجْرَد في بشَّارِ بْن بُرْدٍ العُقَيليّ:

مِنْ كلِّ مَنْ مِنْ خَلْقِهِ صَوَّرا

 

ما صَوَّرَ اللّه شِبْـهـاً لَـه

بالكلب أعراقاً ولا مَكْسِـرا

 

أَشَبَهَ بِالخِنزيرِ وجـهـاً ولا

أنجَسَ أو أطْفَسَ أو أقـذرا

 

ولا رأينَـا أحـداً مـثـلـه

جِلْـدتُـه الـعَـنْـبــرا

 

لو طُلِيتْ جِلدتُه عنبراً لنتَّنت

تَحَوَّلَ المِسْكُ علـيه خِـرَا

 

أو طُلِيت مِسكـاً ذَكِـيّاً إذَنْ

وقال أبو نُواس في هِجَاء جَعْفرِ بْنِ يحيى بن خالد البرمَكيّ:

أَليس جَزَائي أن اعْطَى الخِرَا

 

إذا ما مدحتُ فتًى مـن خِـرَا

وقال أعرابيٌّ يهجو رجلاً يقال له جُلمود بن أوس، كان مُنتنَ العرق:

ورَعَـدت حـافـتـــه وَبـــرَقـــا

 

إنِّـي إذا مـا عـارضـي تـألَّــقـــا

كانَ لـحـمـقـاءَ فـصـارَ أَحـمَـقَــا

 

أهلـكـتُ جُـلـمـودَ بـنَ أَوس غَـرَقـا

 

 

أخـبـث شـيءٍ عَـرَقـاً وخِـرَقَـــا

 

 

وقال حَمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار:

كلبِ فـي الـخـلْـق أَنْـتَ لا الإنْـسَـانِ

 

يا ابنَ بُرْدٍ اخْسَأ إليك فمثلُ ال

بِ وأولَـى مِـنْـه بـكـــلِّ هَـــوَانِ

 

بَلْ لَـعَـمْـري لأَنْـتَ شَـرٌّ مـن الـكـل

حِكَ يا ابْـنَ الـطَّـيان ذي الـتُّـبَّـــانِ

 

ولَـرِيحُ الـخِـنْـزِيرِ أطـيَبُ مِــنْ رِي

 

 

وقال بعض الشعراء في عبد اللّه بن عُمير:

ثَنـاءَ كَـرِيحِ الـجَـوْرَبِ الـمـتـخـرقِ

 

غَزَا ابنُ عُميرٍ غَزْوةً تركَتْ له

وقال حمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار:

 

ومَن يفِرُّ الناسُ من رِجْـسِـه

 

قُلْ لشَقِيِّ الجَدِّ فـي رَمْـسِـه

 

تَحْفِل برغم القرد أو تَعـسـه

 

لِلقِرِدِ بَـشَّـارِ بْـنِ بُـردٍ ولا

 

فَمَا الَّذِي أدناك مـن مَـسِّـهِ

 

للقِرْدِ باللَّـيْثِ اغـتـرارٌ بـه

 

بنَابِـهِ يا قِـردُ أَوْ ضِـرْسِـهِ

 

يا ابنَ استِها فاصبِرْ على ضَغْمةٍ

ويومُه أخبثُ من أمـسِـهِ

 

نهارُه أخبثُ مـن لـيلِـه

 

حتى يُدلَّى القِردُ في رَمْسِه

 

وليس بالمُقْلِعِ عـن غَـيِّه

 

من جِنِّهِ طُرّاً ومن إنْسِـهِ

 

ما خَلقَ اللّه شبـيهـاً لـه

 

من رُبْعه بالعُشْر أو خمْسِهِ

 

واللّهِ ما الخِنزيرُ في نَتْنِـه

 

ومسُّه أليَنُ مِـن مـسِّـهِ

 

بل ريحُه أطيبُ من ريحـهِ

 

ونفسُه أنبَلُ من نـفـسـهِ

 

ووجهُه أحسنُ من وَجهِـه

 

وجِنسُه أكرمُ من جِنـسـهِ

 

وعودُه أكرمُ مـن عُـودِه

 








وأنا حفظك اللّه تعالى أستظرِف وضعَه الخنزيرَ بهذا المكان وفي هذا الموضع، حين يقول: وعودُه أكْرَمُ من عُودِه.
وأَيُّ عودٍ للخنزير? قَبَحه اللّه تعالى، وقبح من يشتهي أكله، وقال حمَّادُ عجرد في بشَّارِ بن بُرد:

بلا مَـشُـورةِ إنـسـانٍ ولا أَثَــرِ

 

إنَّ ابـنَ بُـردٍ رأى رُؤيَا فـأوَّلَـهَـا

عليه، إذ كانَ مكفوفاً عن الـنَّـظـرِ

 

رأى العَمَى نِـعـمةً لـلّـه سـابـغة

قد كان بُردٌ أَبِي في الضِّيقِ والعُسُـرِ

 

وقال: لو لَمْ أكُنْ أعمَى لكنـتُ كـمـا

إمَّا أجـيراً وإمَّـا غـيرَ مُـؤتَـجَـرِ

 

أكدُّ نفسيَ بالـتـطـيين مـجـتـهِـداً

قَصَّابَ شاءٍ شَقِيَّ الـجَـدِّ أو بَـقَـرِ

 

أو كنتُ إنْ أنا لم أقنَعْ بـفـعـلِ أبـي

في الحرِّ والبردِ والإدلاج وَ الْبُـكَـرِ

 

كإخوتي دائبـاً أشـقَـى شـقـاءَهُـمُ

والرِّزقُ يأتِي بأسبـابٍ مـن الـقَـدَرِ

 

فقد كفاني العَمَى من كلِّ مَـكْـسَـبَةٍ

إلاَّ بمَسْألتي إذ كنت فـي صِـغَـرِي

 

فصرتُ ذا نَشَبٍ من غير ما طـلـب

ممَّا أجمِّع من تمـر ومـن كِـسَـرِ

 

أضـمُّ شـيئاً إلـى شـيءٍ فـأذخـره

أو كان يبذُل لي شيئاً سِوى الحَـجَـر

 

مَن كان يعرفُني لو لـم أكـن زَمِـنـاً

فإنَّها عُرَّةٌ تُربِـي عـلـى الـعُـرَر

 

فقُل له لا هَـداه الـلّـهُ مِـن رجُـلٍ

يا ابنَ الخبيثة قد أدقَقْتَ في النـظـر

 

لقد فطِنتَ إلـى شـيءٍ تـعـيش بـه

لأَير ثوبانَ ذي الهامات والـعُـجَـرِ

 

يا ابنَ التي نَشَزَت عن شيخ صِبْيَتـهـا

ما في حِرامِّك من نَتْـن ومـن دَفَـرِ

 

أما يكفُّكَ عن شَتْمي ومنـقَـصَـتـي

فسل أسيداً وسل عنـهـا أبـا زُفَـرِ

 

نفَتْكَ عنهـا عُـقَـيلٌ وهـي صـادقة

من اللَّوَى، لستَ مولى الغُرِّ من مُضَر

 

يا عبدَ أمِّ الظباء المسـتـطـبِّ بـهـا

نَذَالةِ النفس كالـخـنـزيرِ والـيَعَـر

 

بل أنتَ كالـكـلـب ذُلاًّ أو أذلُّ وفـي

بل صورةُ القرد أبهى منك في الصُّوَرِ

 

وأنتَ كالقردِ في تشـويه مـنـظـرِه

ووصف ابن كريمة حشٌا له، كان هو وأصحابه يتأذون بريحه فقال:

أرواح وادي خبال غير فَتَّار

 

ولي كَنِيفٌ بِحَمْدِ اللّه يطرقني

من البَرِيَّةِ إلاَّ خَازِن الـنَّـارِ

 

له بدائعُ نَتْن ليس يَعـرِفـهـا

كَأَنَّهُ لَهِجٌ عَمْداً بـإضْـرَارِي

 

إذا أتانى دَخِيلٌ زَادَنِي بِـدَعـاً

وباعَ مَسْكَنَه مِن قُرْبه جاري

 

قد اجتوانِي له الخُلاَّنُ كلُّهُـم

أو الصُّدَاعِ فمرْه يدخُلَنْ داري

 

فمن أرادَ من البِرْسَامِ أقتَـلَـهُ

فليس يوجِدُنيه غيرُ إضماري

 

استكثَفَ النَّتنُ في أنفي لكثرتِه

ثروة المحلول من الشعر

وقيل للمحلول: ويلكَ، ما حفظتَ بيتَ شعرٍ قط? فقال: بيتاً واحداً اشتهيته فحفظتُه، فقيل له: فهاته، قال: أمَا إنِّي لا أحفَظُ إلاَّ بيتاً واحداً، قيل: فكيف رزق منك هذا البيت? فَأَنْشِدْهُ، فَأَنشَدَهم:

كأنَّما نَكْهَتُهَا مِدَّةٌ تَسِيلُ من مَخْطَةِ مَجْذُوم

وزعم أصحابنا أنّ رجُلاً من بني سعد - وكان أنتنَ الناس إبطاً - بلَغه أن ناساً من عبد القيس يتحدَّوْنَه برجلٍ منهم، فمضى إليهم شدّاً، فوافاهم وقد أَزْبَدَ إبطاه، وهو يقول:

بِذِي حُطاطٍ يُعطِسُ المخنُونا

 

أقبلتُ مِنْ جَلْهَةِ ناعـتـينـا

حتَّى تَرَى لوجهِه غُضُونـا

 

يَزْوِي له من نتْنِهِ الجَبـينـا

 

 

نُبِّئْتَ عبدَ القيس يَأبِطونـا

قال: ومتَح أعرابيٌّ على بئرٍ وهو يقول:

كأنَّنِي جاني عُبَيْثُرَانِ

 

يا رِيَّها إذا بَدا صُنَانِي

وقال آخر:

نَفْحَةُ خُرْءٍ مِنْ كَوَاميخ القرى

 

كَأنَّ إبطيَّ وقد طالَ الـمـدى

ويقال إنّهُ ليس في الأرض رائِحةٌ أنتنُ، ولا أشَدُّ على النفس، من بَخَر فمٍ أو نَتْنِ حِرٍ، ولا في الأرض رائِحةُ أعصمُ لرُوحٍ من رائِحة التفاح.
وقال صاحب الكلب: فما نرى النَّاسَ يَعافُون تسميدَ بُقولِهم قبل نُجومِها وتفتُّقِ بزورها ولا بعد انتشارِ ورقها وظهورِ موضع اللُّبِّ منها حتَّى ربَّمَا ذَرُّوا عليها السَّمادَ ذَرّاً، ثُمَّ يُرْسَل عليها الماءُ حتى يَشْرَبَ اللُّبُّ قُوى العذرة، بل مَن لهمْ بالعَذِرة? وعلى أنَّهُم ما يصيبونها إلاّ مغشوشةً مُفْسَدَة، وكذلك صنيعُهم في الريحان، فأمَّا النَّخْلُ فلو استطاعوا أن يَطْلوا بها الأجذاعَ طلياً لفعلوا، وإنَّهم لَيُوقدون بها الحَمَّاماتِ وأَتاتينَ المِلاَل، وتنانير الخبز، ومن أكرم سمادهم الأبعارُ كلُّهَا والأخثاءُ إذا جفَّت، وما بينَ الثَّلط جَافاً والخثاء يابساً، وبين العَذِرة جافَّةً ويابسةً فرق، وعلى أنَّهم يعالِجون بالعَذِرة وبخرْءِ الكلب، من الذُّبحة والخانُوق في أقصى مواضِع التقزُّز وهو أقصى الحلق، ومواضع اللهاة، ويضعونَها على مواضع الشَّوكة، ويعالجون بها عُيون الدَّوابّ.
أقولٌ لمسبِّحٍ الكناس وقال مسبّح الكناس: إنَّمَا اشتُقَّ الخير من الخُرْءِ، والخرء في النوم خير، وسَلْحَةٌ مُدرِكَةٌ ألذُّ مِن كَوْمٍ العَروس ليلةَ العُرس، ولقد دخلتُ على بَعْضِ الملوك لبعض الأسباب، وإذا به قُعاصٌ وزكام وثِقَلُ رأس، وإذا ذلك قد طاولَه، وقد كان بلغني أنَّه كان هجَر الجلوس على المقعدة وإتيانَ الخلاء، فأمرتُه بالعَود إلى عادته، فما مَرَّت به أيامٌ حتى ذهب ذلك عنه.
وزعم أنَّ الدنيا مُنتِنة الحِيطان والتُّرْبةِ، والأنهار والأودية، إلاّ أنَّ النَّاسَ قد غمرهم ذلك النتْن المحيط بهم، وقد مَحَقَ حِسَّهم له طولُ مُكثِه في خياشيمهم، قال: فمن ارتابَ بخبري، فليقفْ في الرَّدِّ إلى أن يمتحنَ ذلك في أوَّل ما يخرجُ إلى الدنيا، عَنْ بيتٍ مطيَّب؛ وليتشَمَّمْ تشمُّمَ المتشبِّث، عَلَى أنّ البقاعَ تتفاوت في النتن، فهذا قولُ مسبّح الكنَّاس.

عصبية سلمويه وابن ماسويه

وزعم لي سَلْمَوَيه وابن ماسَوَيه مُتطبِّبا الخلفاء، أنَّه ليس على الأرض جِيفةٌ أنتنُ نَتْناً ولا أَثْقَبُ ثُقوباً مِن جيفةِ بعير، فظننتُ أنَّ الذي وهَّمهما ذلك عَصَبِيَّتُهُمَا عليه، وبغضُهما لأربابه، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله، هو المذكورُ في الكتب براكب البعير، ويقال إن الحجَّاج قال لهم: أيُّ الجيَفِ أنتن? فقيل: جِيَف الكلاب، فامتحِنَتْ فقيل له: أنتن منها جيف السنانير، وأنتن جيفها الذكورُ منها، فصلب ابن الزُّبير بين جِيفَتَيْ سنَّورين ذكرين.
أطيب الأشياء رائحة وأنتنها  
وأنا أقول في النتن والطِّيب شيئاً، لعلَّك إن تفقّدتَه أن توافقَني عليه وترضى قولي، أمَّا النتن فإنِّي لم أشمَّ شيئاً أنتنَ من ريحِ حُشٍّ مقيَّر، يبول فيه الخِصيان ولا يُصَبُّ عليه الماء؛ فإِنّ لأبوالهم المترادفة المتراكبة ولريح القار وريح هواءِ الحشِّ وما ينفصل إليه من ريح البالوعة - جِهةً من النَّتْن ومذهباً في المكروه، ليس بينه وبين الأبدان عمل، وإنَّما يقصِد إلى عين الرُّوح وصميمِ القلب، ولا سيَّما إذا كان الخلاءُ غيرَ مكشوف، وكان مغموماً غيرَ مفتوح، فأمَّا الطِّيب فإني لم أشْمَمْ رائِحة قطُّ أحيا للنفس ولا أعصَمَ للرُّوح، ولا أفتَقَ ولا أغنج، ولا أطيب خِمرة من ريحِ عَروس، إذا أُحكِمت تلك الأخلاط، وكان عَرْف بَدَنها ورأسِهَا وشعرها سليماً، وإن كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنّك ستجد ريحاً تعلَمُ أنّهُ ليس فوقَهَا إلاّ ريحُ الجنة.

ما قيل في الظربان

ومما قالوا في النَّتْن، وفي ريح جُحْرِ الظَّرِبان خاصَّة، قول الحكم بن عَبْدَل:

ولحَصْدُ أنفِكَ بالمنَاجِل أَهْـوَنُ

 

ألقيتَ نفسَكَ في عَرُوضِ مَشَقَّةٍ

جَمٌّ وفُلفُلنا هُـنـاك الـدِّنْـدِنُ

 

أنت امرؤٌ في أرضِ أمِّكَ فُلفلٌ

بالبِرِّ واللَّطَفَ الذي لا يُخْـزَنُ

 

فبحقِّ أمّك وهي منك حقـيقةٌ

حتَّى يُداوِيَ ما بأنْفِكَ أَهْـرَنُ

 

لا تُدْنِ فاكَ من الأَميرِ ونحِّـه

فلَجُحْر أَنفك يا محمَّدُ أنـتَـنُ

 

إن كان للظّرِبانِ جُحْرٌ مُنـتِـنٌ

وقال الربيع بن أبي الحقَيق - وذكر الظّرِبان - حينَ رمى قوماً بأنّهم يَفسُون في مجالسهم، لأنّ الظَّرِبان أنتنُ خلْقِ اللّه تعالى فَسْوةً، وقد عَرَف الظّرِبانُ ذلك فجعَلَه من أشَدِّ سِلاَحِهِ، كما عرَفَتِ الحُبارَي مَا في سُلاَحِها من الآلة، إذا قرب الصقر منها، والظّربانُ يدخل على الضبِّ جُحرَه وفيه حُسوله أو بيضُه، فيأتِي أضيقَ موضعِ في الجُحر فيسدُّه بيديه، ويحوِّل استَه فلا يفسو ثلاثَ فَسَوَاتٍ حتى يُدَارَ بالضبِّ فيخِرَّ سكرانَ مفشِيّاً عليه، فيأكله، ثم يقيم في جُحره حتَّى يأتِيَ على آخِر حُسوله.
وتقول العرب: إنّه ربَّمَا دخَل في خِلال الهَجْمة فيفسو، فلا تتِمُّ له ثلاثُ فَسَواتٍ حتى تتفرَّق الإبل عن المبْرَك، تتركه وفيه قِرْدان فلا يردُّها الراعي، إلاّ بالجَهْدِ الشديد.
فقال الربيع، وهجاهم أيضاً بريح التُّيوس:

إذَا مَا تَنَادَوْا لأمـرٍ شـديدِ

 

قَلِيلٌ غَنَاؤُهُمُ فِي الـهِـياجِ

تهرُّ هريرَ العَقور الرَّصُودِ

 

وأنتمْ كِلاَبٌ لَـدَى دُورِكـم

وما إنْ لنا فيكمُ مـن نَـدِيدِ

 

وأنتم ظَرَابيُّ إذ تجلـسـونَ

بريح التُّيوسِ وقُبْح الخدودِ

 

وأنتم تيوسٌ وقد تُعْـرَفـونَ

قال: ويقال: أفسى من الظّرِبان ويسمّى مفرِّقَ النَّعَمِ، يريدون من نتْن ريحِ فُسَائه، ويقال في المثل - إذا وقعَ بين الرجُلين شرٌّ فتباينَا وتقاطَعَا -: فسَا بَيْنَهُمَا ظَرِبَان، ويقال: أنتَن مِنْ ظربان لأنَّ الضبّ إنَّما يخدع في جُحْره ويُوغِل في سِرْبه لشدَّة طلب الظّرِبان له، وقال الفرزدق في ذلك:

ظَرَابِيُّ من حِمَّانَ عنِّي تثيرهـا

 

ولو كنتُ في نارِ الجحيم لأصبَحَتْ

وكان أبو عُبيدة يُسمِّي الحِمَّانيَّ صاحِبَ الأصَمِّ: الظَّرِبان، يريد هذا المعنى، كما يسمى كل حِمَّانِيٍّ ظَرِبَاناً.
وقال ابن عَبدََلٍ:

حتَّى يداوِيَ ما بأنْفِك أهْرَنُ

 

لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونحِّه

فلَجُحر أنفِك يا محمد أنتن

 

إن كانَ للظَّرِبان جُحرٌ مُنتِنٌ

في شعره الذي يقول:

 

من كلِّ مَن يُكْفِي القصيدَ ويَلْحَنُ

 

ليتَ الأميرَ أطاعَنِي فشـفـيتُـه

 

باتَتْ مناخِرُهُ بدُهْـنٍ تُـعْـرَنُ

 

متكَوِّرٌ يَحْثُو الكـلام كـأنَّـمـا

 

زَمناً فأضربُ مَن ْ أشَاءُ وأسجُنُ

 

وبنَي لهم سِجناً فكنتُ أمـيرَهـم

 

إن كنتَ من حبِّ التقرُّب تجبُنُ

 

قل لابنِ آكِلة العِفَاصِ محـمَّـدٍ

ولَحَصْدُ أنفِك بالمناجِـلِ أهْـوَنُ

 

ألقيْتَ نفسَك في عَروضِ مَشَقَّةٍ

 

جَمٌّ وفلفلنا هـنـاك الـدِّنْـدِن

 

أنتَ امرؤٌ في أرضِ أمِّك فلفـلٌ

 

بالبرِّ واللَّطَفِ الـذي لا يُخْـزَنُ

 

فبحقِّ أمِّكَ وهي منك حـقـيقَةٌ

 

حتَّى يُداوِيَ ما بأنفِـك أهْـرَنُ

 

لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونـحِّـهِ

 

فلَجُحْر أنفِك يا محمَّـدُ أنـتَـنُ

 

إنْ كانَ للظَّرِبانِ جُحْرٌ منـتـنٌ

 

وبَنُو أبِيهِ للفَصـاحة مَـعْـدِنُ

 

فسَـلِ الأمـيرَ غـيرُ مـوفَّـقٍ

 

بسَليقةِ العُرْب التي لا تـحـزُن

 

وسَلِ ابنَ ذَكْوانٍ تَجِدْهُ عـالِـمـاً

 

فتجيدُ ما عمِلت يَداك وتحسِـنُ

 

إذْ أنتَ تجعَلُ كلَّ يومٍ عـفـصةً

 

أنْ قد خُتِنْتَ وأنَّها لا تُـخْـتَـنُ

 

أشبهتَ أمَّكَ غـيرَ بـابٍ واحـدٍ

 

وفُتِنت فيها، وابـنُ آدَمَ يُفـتَـنُ

 

فلَئِن أصبتَ دراهماً فدفنـتَـهـا

 

إذْ ذاك تَقْصِف في القِيان وتزْفِنُ

 

فبما أراك وأنتَ غيرُ مُـدَرْهِـمٍ

 

بَيْضَاءُ مُغْرِبَةٌ عليها السَّـوْسَـنُ

 

إذ رأسُ مَالِكَ لُعْـبَةً بـصـريَّة

 








وقال ابن عبدل أيضاً:

 

كرِيح الجَعْر فوق َ عَطِينِ جِلْدِ

 

نَجَوت محمـداً ودخـانُ فـيه

 

كريمٍ يطلبُ المعروفَ عِنـدي

 

ركبتُ إليه في رَجُلٍ أتـانـي

 

وذلكَ بعدَ تقريظي وحَـمْـدي

 

فقلتُ له ولم أعجَـل عـلـيه،

 

أكَلِّمُ صَخْرَةً في رأْس صمْـدِ

 

فأعْرَضَ مُكْمَحاً عنِّي كـأنِّـي

 

فما يزْداد منِّي غـيرَ بُـعْـدِ

 

أقرِّبُ كـل آصِـرَةٍ لـيدنـو

 

أبا بَخَرٍ لـتـتَّـخِـمَـنَّ رَدِّي

 

فأقسِمُ غيرَ مستـثـنٍ يمـينـاً

 

لخفتَ ملامَتي ورجوتَ حَمدي

 

فلو كنتَ المهذّبَ مـن تـمـيم

 

كريح الكلبِ ماتَ قريبَ عَهْدِ

 

نَجَوتُ محمداً فوجـدتُ ريحـاً

 

سيبلغ إنْ سلِمْنا أهـلَ نَـجْـدِ

 

وقد ألْذَعتَنِي ثعـبـانَ نَـتْـنٍ

 

قَرَنْتُ دونوَّه منـي بـبُـعْـدِ

 

وأدنَى خَطْمَـه فـودِدتُ أنِّـي

 

بخِلْعَتها ولم تَرجِـع بـزَنْـدِ

 

كما افَتَدَتِ المعاذةُ مـن جَـواهُ

 

وكانتْ عنـدَه كـأسـيرِ قِـدِّ

 

وفارقَها جواه فاسـتـراحَـتْ

 

قتلتُ بذاك نفسي غيرَ عَـمْـدِ

 

وقد أدنيتُ فـاه إلـيَّ حـتَّـى

 

ولو طُليت مَشافِرُه بـقَـنْـد

 

وما يدنُـو إلـى فـيه ذُبـابٌ

 

زعافاً إنْ همَمْنَ لـه بِـوردِ

 

يَذُقن حلاوةً ويَخفْـن مـوتـاً

 

بمثل غَثِيثَةِ الدَّبِـر الـمُـغِـدِّ

 

فلما فاحَ فُوه علـيّ فَـوْحـاً

 

فما هذا بـريحِ قُـتَـارِ رَنْـدِ

 

فقلت له: تنحَّ بفـيك عـنِّـي

 

يفوحُ خِرَاكَ منه غير سَـرْدِ

 

وما هذا بريح طِـلاً ولـكـنْ

 

لبابِ الحقِّ من كذِب وجَحْـدِ

 

فحدِّثْنِي فإنَّ الـصِّـدقَ أدنـى

 

فأعلم أمْ أتـاكَ بـه مُـغَـدِّي

 

أباتَ يجولُ في عَفَجٍ طحـور

 

شتيمٍ أعـصـلِ الأنـياب وَرْدِ

 

نكِهتَ عليَّ نـكـهةَ أخـدَريٍّ

 

فإِنِّي كالذي أهـديتَ أهـدي

 

فإن أهديتَ لي من فيكَ حتْفـي

 

تكونُ فنونُها من كـل فِـنـدِ

 

لكم شُرُداً يَسرِن مـغـنِّـياتٍ

 

رَوَاها النَّاسُ من شِيبٍ ومُـرْدِ

 

أما تخزَى خَزِيت لهـا إذا مـا

 

جَوًى إنِّي إذن لَسـعـيد جـدِّ

 

لأَرجُو إن نجوت ولم يُصبْنـي

 

فقال أصابني من جَوفِ مَهْدِي

 

وقلتُ له: متى استطْرفْتَ هذا

 

فتعذر فيه آمـالا بـجَـهْـدِ

 

فقلت لـه: أمـا دَاويتَ هـذا

 

فتسديَه لنا فيمـا سـتُـسْـدي

 

فقال: أمَا علمـت لـه رِقَـاءً

 

له فيمـا أسـرُّ لـه وأُبـدي

 

فقلـت لـه: ولا آلـوه عـيا

ومثليْ ذاك من نونٍ كَنَعْـدِ

 

عليكَ بقيئةٍ وبجَعْـرِ كَـلْـبٍ

 

وعُودَي حَرْمَلٍ ودِماغِ فَهْـدِ

 

وحِلـتـيتٍ وكُـرَّاثٍ وثُـومٍ

 

ووزنِ شَعيرةِ من بَزْر فَقْـدِ

 

وحَنْجَرَةِ ابنِ آوى وابنِ عِرسٍ

 

ومثقالين من صـوّان رَقْـدِ

 

وكَفِّ ذُرُحْرُحٍ ولسانِ صَقر

 

ببولٍ آجِن وبجَـعْـرِ قِـرد

 

يُدَقُّ ويُعجَن المنخول مـنـه

 

وترقبه فـلا يَبـدُو لـبَـرْدِ

 

وتدفِنُه زماناً فـي شـعـيرٍ

 

ولا يعجن بأظـفـار ونَـدِّ

 

فدخِّن فاكَ ما عتَّقت مـنـه

 

أراك اللّهُ غَيَّكَ أمرَ رشـدِ

 

فإنْ حضَرَ الشتاءُ وأنتَ حيٌّ،

 

متَى رُمْتَ التكلُّـم أيّ زَرْدِ

 

فدَحْرِجْها بنادِقَ وازدرِدْهـا

 

ببلعومٍ وشِدْقٍ مُـسْـمَـعِـدِّ

 

فتقذف بالمِصَلِّ على مِصَـلٍّ

 

كأنّ دوِيَّهُ إرزام رَعـــد

 

وويْلَك ما لِبَطْنِك مذْ قعَـدْنـا

 

دواءً إن صبرتَ له سيُجدِي

 

فإنَّ لحِكَّةِ الناسور عـنـدي

 

إن انت سَنَنْتَهُ سنَّ المقَـدِّي

 

يُميت الدُّودَ عنكَ وتشتـهـيه

 

وشيءٍ من جنَى لَصَفٍ ورَنْدِ

 

به، وطليتَه بأصولِ دِفْـلَـى

 

أهانَ اللهُ من ناجَاهُ بَـعْـدِي

 

أَظُنِّي ميِّتاً مِنْ نَـتْـن فـيهِ

 








أشعار العرب في هجاء الكلب

وقال صاحب الديك: سنذكُر أشعار العرب في هجاء الكلب مجرّداً على وجهه، ثمَّ نذكُر ما ذمُّوا من خلالهِ وأصنافِ أعماله، وأموراً من صفاته، ونبدأ بذكرِ هجائه في الجملة، قال بشَّار بن بُرْد:

وللكَلْبُ خَيْرٌ من سُويدٍ وتَولبِ

 

عددتَ سويداً إذ فخرتَ وتَوْلَباً

وقال بشَّارٌ أو غَيره:

وأنتَ شريكُ الكلب في كلِّ مَطْعَـمِ

 

أتَذْكُرُ إذ تَرْعَى على الحيِّ شـاءَهُـمْ

وقد عاثَ فيه بـالـيدَين وبـالـفـمِ

 

وتلحَسُ ما في القَعْبِ من فَضْلِ سُؤْرِهِ

وقال ابن الذئبة:

ويترك المالَ لِعَامِ جِـدْبِـه

 

من يجمع المال ولا يَتُبْ به

 

 

يهُنْ عَلَى النَّاسِ هَوانَ كلبِهِ

وقال آخر:

كُلومـي كـأنْ كـلـبـاً يُهـارِش أكْـلُـبـا

 

إنَّ شَـرِيبـي لاَ يغـبُّ بــوجـــهـــه

ولا أتـوقَّـاه وإن كـان مُـجْـــرِبـــا

 

ولا أَقْـسِـمُ الأعـطـان بـينـي وبـينَــه

 

 

هجا الأحوص ابناً له فشبَّهه بجرْوِ كَلْبٍ فقال:

ثل جُـرَيِّ الـكـلـب لـم يُفَـــقّـــحْ

 

قبِحْ به من ولدٍ وأَشْقِحْ

بالبـابِ عـنـد حـاجةِ الـمـسـتـفـتِـحْ

 

إن يَرَ سُـوءًا مَـا يَقُـمْ فــينـــبِـــحْ

وقال أبو حُزَابة:

أنتَ لغَيْرِ طَلْحَةَ الْفِـدَاءُ

 

يا ابنَ عليٍّ بَرِح الخَفـاءُ

أنَّك أنت النَّاقصُ اللَّفَـاءُ

 

قد علمَ الأشرافُ والأكفاءُ

يغُمُّه المِئزَرُ والـرِّدَاءُ

 

حَبلَّقَ جَدَّعـه الـرِّعـاء

كَأَنَّهـم زِينِـيَّةٌ جِـراءُ

 

بنو عليٍّ كلُّـهـمْ سـواءُ

وقال عبد بني الحسحاس، وذكر قبح وجهه فقال:

بوجهٍ بَرَاهُ اللّهُ غيرِ جميلِ

 

أتيتُ نِساءَ الحارثيِّينَ غُدْوةً

ولا دونَه إن كان غيرَ قليل

 

فشبَّهنَني كلباً ولسْتُ بفَوقِه

وقال أبو ذباب السعدي في هوان الكلب:

لياليَ فرَّ من أرْضِ الضَّبابِ

 

لكِسْرَى كانَ أعقَلَ من تمـيمٍ

وأَشجارٍ وأنـهـارٍ عِـذَابِ

 

وأسكنَ أهلَه بـبـلاد رِيفٍ

وصرنا نحنُ أمثالَ الكِـلاَبِ

 

فصار بنُو بَنيه لها مُلـوكـاً

فقد أزْرَى بنا في كلّ بـابِ

 

فلا رَحمَ الإلهُ صدَى تـمـيم

وأراد اللعين هجاء جرير - وجرير من بني كليب - فاشتق هجاءه من نسبه فقال:

 

وبين القَينِ قَينِ بني عِقـال

 

سأقْضِي بين كلبِ بني كُليبٍ

 

وإنَّ القينَ يَعمَل في سَفالِ

 

فإنَّ الكلبَ مَطعَمُه خبـيثٌ

 

كِلاَ العَبدين قد علمتْ مَعَدٌّلئيمُ الأصلِ من عمٍّ وخالِ

 

ولـكـنْ خِـفـتُـمـا صَـرَدَ الـنـــبـــال

 

فما بُقيَا عليَّ تركتُماني

 








وقال رجلٌ من همْدان، يقال له الضَّحَّاك بن سعد، يهجو مَرْوان بن محمد بن مروان بن الحكم، واشتقَّ له اسماً من الكلب فجعلَه كلباً فقال:

عادَ الظلوم ظليماً همُّهُ الهـربُ

 

لجَّ الفِرَارُ بمرْوانٍ فقـلـتُ لـه

منك الهُوَينَى فـلا دينٌ ولا أدبُ

 

أين الفِرارُ وتركُ الملْك إن قبلت

يُطلَب نَدَاهُ فكلبٌ دونَه كَـلِـبُ

 

فَرَاشَةُ الحلم فِرعون العذابِ، وإن

وقال آخر وجعل الكلبَ مثلاً في اللُّؤم:

على رجلٍ بالعَرْجِ أَلأَمَ مِنْ كلْـبِ

 

سَرَتْ ما سَرَت من ليلِها ثمّ عرّسَتْ

وكذلك قول الأسود بن المنذر، فإنّه قال:

تحُفُّون قُبَّتَه بالقِـبـابِ

 

فإنّ امرأً أنتُـمُ حـولَـه

ويقتُلكم مثلَ قتْل الكلابِ

 

يُهينُ سرَاتَكُم جـاهـداً

وقال سحيمة بن نعيم:

لها عندَ أطْنَاب البُيوتِ هَرِيرُ

 

ألستَ كليبيّاً لكَلْـبٍ وكـلـبةٍ

وقال النَّجْرانيُّ في ذلك:

تهّرُّ في وجهي هَرِير الكَلـبةِ

 

مِن منْزِلي قد أخرجَتْنِي زوجتي

قلت لها لمّا أراقتْ جَـرتـي

 

زُوِّجتُها فقيرةً من حِـرْفَـتـي

وأَبشرِي منك بقُرب الضَّـرَّة

 

أُمَّ هِلالٍ أبْشِرِي بالـحـسـرةِ

الفلحس والأرشم

ويقال للكلب فلحَس وهو من صفات الحِرْص والإلحاح، ويقال: فلان أسأَلُ مِنْ فَلْحَس، وفَلْحَسٌ: رجلٌ من بني شيبان كان حريصاً رغيباً، ومُلحِفاً مُلِحّاً، وكلُّ طُفَيليٍّ فهو عندهم فَلْحَسٌ.
والأرشَم: الكلب والذئب، وقد اشتقَّ منه للإنسان إذا كان يتشمَّم الطعام ويتْبع مواضعه، قال جريرٌ في بعضهم:

فجاءَتْ بيَتْنٍ للضِّيافةِ أرشَما

 

لَقًى حَملتْهُ أمُّه وهي ضَيفة

وقال جريرٌ في استِرواح الطعام:

ثُطُّ اللِّحَى مُتشابِهُو الألـوانِ

 

وبنو الهُجَيم سَخيفةٌ أحلامُهـم

بعُمَانَ أضحى جمْعُهم بعُمانِ

 

لو يَسمَعون بأكلةٍ أو شَـرْبةٍ

صُعرَ الخدودِ لريحِ كلِّ دُخانِ

 

متأبِّطين بنيهمُ وبـنـاتِـهـمْ

وقال سَهمُ بن حنْظَلَة الغَنَويُّ في ذلك:

ب لا يُحسِنُ الكلبُ إلاَّ هريرَا

 

وأمّا كلابٌ فمـثـلُ الـكِـلا

ل أشبَهْنَ آباءهُنَّ الحَـمـيرا

 

وأمَّا نُميرٌ فمـثـلُ الـبِـغـا

تبيع كِباءً وعِطْـراً كـثـيرا

 

وأمّـا هِـلالٌ فـعَـطَّـارَةُ

بين جرير والراعي

ومرَّ جريرٌ يوماً بالمِرْبَد، فوقف عليه الراعي وابنه جنْدَل، فقال له ابنه جندل: إنَّه قد طال وقوفُك على هذا الكلب الكُلَيبيّ، فإلى متى ? وضرب بغلَته، فمضى الراعي وابنه جندل، فقال جرير: واللّه لأُثْقِلنَّ رواحلك فلما أمسى أخذَ في هجائه، فلم يأته ما يريد، فلما كان معَ الصبح انفتَح له القولُ فقال:

فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابـا

 

فغضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُميرٍ

على خَبَثِ الحديدِ إذاً لذَابـا

 

ولو جُعِلت فِقاحُ بني نُمـيرٍ

ثم وقف في موقفه، فلمَّا مرَّ به جندلٌ قبض على عِنان فرسِه، فأنشده قوله، حتى إذا بلغ إلى هذا البيت:

إذا ما الأَيرُ في استِ أبيك غابا

 

أَجندلُ ما تقول بـنـو نـمـيرٍ

قال: فأدبَرَ وهو يقول: يقولون واللّه شرّاً.
وقال الشاعر - وضرب بالكلب المثلَ في قُبْح الوجه -:

فذكرتُ حين تبرقعت ضَبَّارا

 

سَفَرتْ فقلتُ لها هَجٍ فَتبرقَعَتْ

وضَبَّار: اسم كلب له.
أمثال في الكلاب وقال كعب الأحبارِ لرجل وأراد سفراً: إنّ لكلِّ رُفقةٍ كلباً، فلا تكنْ كلبَ أصحابِك. وتقول العرب: أحبُّ أهلي إليّ كلبهم الظاعن، ومن الأمثال وقَع الكلبُ على الذِّئب ليأخذَ منه مثل ما أخَذ، ومن أمثالهم: الكلابَ على البَقَر، ومن أمثالهم في الشؤم قولهم: على أهْلِها دلَّتْ بَرَاقِشُ، وبراقش: كلبةُ قومٍ نبحَت على جيشٍ مرُّوا ليلاً وهمْ لا يشعُرون بالحيِّ، فاستباحوهم واستدلُّوا على مواضعهم بنباحها.
قال الشاعر:

نُباتة عضَّهُ كلبٌ فماتا

 

ألم تَرَ أنَّ سيِّد آلِ ثورٍ

قتيل الكبش وقتيل العنز

وقال صاحب الكلب: قد يموت الناسُ بكلِّ شيء، وقد قال عبد الملك بن مروان: ألا تتعجبون من الضحَّاك بن قيس يطلب الخلافة ونطح أباه كبش فوُجِد ليس به حَبَضٌ ولا نَبَض، وقال عَرفجة بن شريك يهجو أسلَم بن زُرْعة - ووطئتْ أباه عنْزٌ بالمِربد فمات - فقال:

مكانَ قتيل العنز أنْ أتكلَّـمـا

 

ولم أستطع إذْ بانَ منِّيَ معشَري

بزُرعةَ تيساً في الزَّرِيبةِأزنمـا

 

فيما ابنَ قتيلِ العنْز هل أنت ثائرٌ

وقال أبو الهول يهجو جعفر بن يحيى:

في طلَبِ العُرْف إلى الكلْبِ

 

أصبحتُ محتاجاً إلى الضَّرْبِ

فصار لا ينحاش للـسَّـبِّ

 

قد وقَّح السَّبُّ لـه وجـهَـه

قال لهُ مالي ولـلـصـبِّ

 

إذا شَكَا صبٌّ إليه الـهـوَى

يشِبُّْ مَعَهُ خَشَبُ الصُّلْـبِ

 

أعْنِي فتًى يُطعَن فـي دينـهِ

قال: وقلتُ لأبي عبيدة: أليس بُقْعُ الكلاب أمثلَها? قال: لا، قلت: ولم قال:

كخَوْفِ الذِّئبِ من بُقْعِ الكِلابِ?

 

وخِفْتُ هجاءهم لما تَـوَاصَـوْا

قال: ليس هكذا قال، إنما قال:

خَوْفِ الذِّئب من سُودِ الكِلابِ

ألا ترى أنّه حين أراد الهجاء قال:

تَخُوضُ غُمورَه بُقْعُ الكِلابِ

 

كأنَّك بالمبارَكِ بعدَ شـهـرٍ

ويدل على ذلك قول الجَدَليِّ:

أسافلـه مـيث وأعـلاه أجـزع

 

لعمري لجو مـن جـواء سـويقة

ويصبحَ منَّا وهو مرأًى ومسمـعُ

 

أحبُّ إلينـا أن نـجـاوِرَ أهـلَـه

على رأسه داعي المنيَّةِ يلـمَـعُ

 

مِن الجَوْسَقِ الملعونِ بالرَّيِّ لا يني

صَبَرتُ ولكنْ لا أرى الصَّبرَ ينفعُ

 

يقولون لي صبراً فقلتُ: لَطَالَمَـا

وكان لي الصَّمَّان والحزْنُ أجمعُ

 

فليتَ عطائي كانَ قُسِّمَ بَـيْنَـهُـمْ

بي البازلُ الكَوماء بالرمل تَضْبَع

 

وكان لهم أجْري هنيئاً وأصبحَـتْ

يموتُ به كلبٌ إذا مـاتَ أبـقَـعُ

 

أأجَعلُ نفسي عِدْلَ علجٍ كـأنَّـمـا

قال: فقد بيَّن كما ترى أنَّ الأبقَعَ شرُّها، قال: وقلت: فلم قال الشاعر:

أمسى شَرِيدُهمُ في الأرض فُلاَّلاَ

 

أرسلْتَ أُسداً على بُقْعِ الكلاب فقد

قال: فكيف يقول ذلك وهو يمدحهم? وإذَا صغّر شأنَ من هَزَموا فقد صغَّر شأنَ الممدوح، بل إنَّما قال: أرسلتَ أسداً على سود الكلاب.
قال: وإنَّما جاء الحديثُ في قتل سُود الكلاب، لأنَّ عُقُرَها أكثرُ ما تكون سوداً، وذلك من غلَبة أنفسها.
وليس في الأرض حيوانٌ من بقرةٍ وثورٍ وحِمارٍ وفرسٍ وكلبٍ وإنسان، إلاّ والسُّودُ أشدُّها أَسْراً وعَصَباً، وأظهرُها قُوَّةً وصبْراً.
وقال أبو سعد المخزومي في هجائه دِعبلاً:

دُوَلٌ وأحْرِ بها بأَنْ تـتـنَـقَّـلا

 

يا ثَابِتَ بن أبي سـعـيدٍ إنَّـهـا

في است أمِّ كلبٍ لا يساوي دِعبِلا

 

هلاّ جعلتَ لها كحُرْمَةِ دِعْـبِـلٍ

وقال ابن نوفل:

إلينا وكم من سوءةٍ لا تَهابُهـا

 

وجئتَ على قَصْواءَ تنقلُ سَوءةً

وقد خَزِيت بعدَ الرِّجال كلابُها

 

وتزعمُ أَنْ لم تخز سَلْمُ بنُ جنْدَلٍ

وقال الحسن بن هانئ يهجو جعفرَ بنَ يحيى:

قفا مالك يقضي الهموم على بثق

 

قفاً خلف وجه قد أطـيل كـأنَّـه

وأَبخَلُ من كَلْبٍ عَقُورٍ على عَرْق

 

وأعظم زهواً من ذباب على خِراً

وقال أبو الشَّمقمق:

 

غَلَبُوا الناسَ بالنَّدى والعطيَّهْ

 

أهلُ جودٍ ونـائلٍ وفَـعـالٍ

وتلقَّى بِمرْحَبٍ وتـحـيَّهْ

 

جئتُه زائراً فأدنَى مكانـي

 

مِ شبيهِ الكُلَيبة القَلَـطـيَّهْ

 

لا كمِثْلِ الأصَمِّ حارثةِ اللؤ

 

مثلَ إعراض قحبةٍ سُوسِيَّهْ

 

جئتُه زائراً فأعرضَ عنِّـي

 

غابَ في دُبْر بَغلةٍ مِصريَّهْ

 

وتولَّى كـأنَّـه أير بـغـلٍ

 








وقال أيضاً:

ووجهِ الكلب والتَّيْسِ الضروطِ

 

ألا قُولا لسرّان الـمـخـازِي

ودُبرٌ مثلُ رَاقود الـنَّـشـوط

 

له بطنٌ يَضـلُّ الـفـيلُ فـيه

كدَوْرِ سفينةٍ في بَـثْـق رُوط

 

وأَيْرٌ عـارمٌ لا خـيرَ فــيه

مُوَصَّلَةِ الجوانبِ بالـخُـيوطِ

 

ولحيَةُ حائكٍ من باب قـلـب

مُرقَّعة جـوانُـبـه بِـقـوطِ

 

له وجهٌ عليه الـفـقـرُ بـادٍ

تَرَى سَرَّانَ يَسْفَلُ فِي هَبُـوط

 

إذَا نَهَضَ الْكِرَامُ إلَى المَعَالِـي

وقال أيضاً في ذلك: من البسيط

والطيرِ والوحش في يهماءَ دوَّيَّهْ

 

يا رازقَ الكلبِ والخنزيرِ في سعةٍ

حتى تُقِرَّ بتلك الحـالِ عـينـيَّه

 

لو شئتَ صيَّرتَه في حالِ فاقـتـه

وقال جرير بن عطية، يهجو الصَّلَتان العبديّ:

متى كان حكمُ اللّهِ في كَرَبِ النخلِ

 

أقول لها والدَّمع يغسِل كُحـلَـهـا

فأجابه الصَّلَتَانُ فقال:

وودَّ أبوك الكلبُ لو كان ذا نَخْلِ

 

تُعيِّرنا أن كانت النَّخْلُ مـالَـنـا

يعيِّره جريرُ بأَنَّه كان هو وأبوه من أصحاب النَّخْل.
وقال وضّاحُ اليمن:

حتى يكون له وجهٌ ومستمِـعُ

 

وأكتم السِّرَّ غضباناً وفي سكري

حتى يكون لذاك النَّجْدِ مُطَّلَـعُ

 

وأتْرُكُ القولَُ عن علمٍ ومَقْـدِرَةٍ

يبيتُ يأوي إليه الكلب والرُّبَـع

 

لا قُوّتي قُوّة الراعي ركـائبَـه

حتَّى يَثُوبَ وباقي نعْلِه قطَـع

 

ولا العَسيفِ الذي تشتدُّ عُقْبَتُـه

وقال محمد بن عباد الكاتب مولي بحيلة، وأبوه من سبى دابق وكاتب زهير، وصديق ثمامة، يهجو أبا سعد دعى بني مخزوم، وبعد أن لقي منه ما لقي:

تأهَلْتَه نفـياً وضَـرْبَـا

 

فعلَتْ نزارُ بك الذي اس

جُوَهم مـكـايَدةً وإرْبـا

 

فهجوتَ قحـطـانـا لأه

بهجائهم منهم فَـتَـرْبَـا

 

وأردتَ كيما تشـتَـفـي

تَ، حَماكَ لؤمُك أن تُسَبَّا

 

ووثقت أَنَّك مَـا سـبـب

س جوابه إلاَّ اخْسَ كَلْبا

 

كالكلب إن ينبـح فـلـي

نَك لا تطفْ شرقاً وغربا

 

خفِّض عليك وقَرْ مـكـا

آباءُ ليس تُنال غَصْـبـا

 

واكشِفْ قِناعَ أبيك فـال

وقال آخر يصف كلباً:

بأرض العِدا من خَشية الحَدَثَانِ

 

ولَذٍّ كطَعْم الصَّرْخَدِيِّ تركـتُـه

دعوتُ وقد طال السُّرى فدعاني

 

ومُبْدٍ ليَ الشَّحناءَ بيني وبـينـه

فوصفه كما ترى أنَّه يبدي له البغضاء.
وقال آخر:

عَلَى رجُلٍ بالعَرْج ألأمَ من كلْـبِ

 

سَرَتْ ما سَرَتْ من ليلها ثم عرَّست

وقال راشِد بن شهاب اليشكُريُّ:

بكَلْبٍ على لحم الجزورِ ولا بَرَمْ

 

فلستُ إذا هبَّتْ شَمـالٌ عَـرِيَّةٌ

وقال كُثَيِّر بن عبد الرحمن، وهو يصف نعلاً من نِعال الكرام:

وإن وُضِعت في مجلس القَوم شُمَّتِ

 

إذا طُرِحَتْ لم يَطَّبِ الكلبَ ريحُهـا

وقال اللّعين في بعض أضيافه، يخبر أنّه قراه لحمَ كلب، وقد قال ابنُ الأعرابي: إنَّما وصف تيساً:

وأعفاجِه اللائي لـهـنَّ زوائدُ

 

فقلتُ لعَبْدَيَّ اقْتُلا داءَ بطـنِـه

كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ

 

فجاءَا بخِرشَاوَي شَعير عليهمـا

وقال خُلَيد عَيْنَين وهو يهجو جرير بن عطية ويردّ عليه:

وودَّ أبوك الكلب لو كان ذا نخل

 

وعيّرتَنا بالنخل أن كان مالـنـا

وقال دِعبل بن عليّ:

لما نال كفّاً من التُّـرْبـهْ

 

ولو يُرزَق الناسُ عن حيلةٍ

ف لما نال من مائهم شَرْبَهْ

 

ولو يشربُ الماءَ أهلُ العفا

يعمُّ به الكلبَ والكـلـبـهْ

 

ولكنَّه رزقُ مَـنْ رِزْقُـه

من هُجِيَ بأكل لحوم الكلاب ولحومِ الناس

قال سالم بن دَارة الغطفانيُّ:

لو خافَكَ اللّهُ عليه حرَّمه

 

يافَقْعَسِيُّ لِمْ أكلته لِـمَـهْ

فما أكلتَ لحمَه ولا دَمه وقال الفرزدق في ذلك:

وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه

 

إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلـدةٍ

وقال مساور بن هند:

فبشِّرها بلؤمٍ في الغـلامِ

 

إذا أسدِيَّةٌ ولدتْ غُـلاَمـاً

بأخبثِ ما يجدن من الطَّعام

 

يخرِّسها نساءُ بنـي دُبَـير

براثنُها.على وَضَم الثُّمَـامِ

 

ترى أظفارَ أعقَدَ مُلقـيَاتٍ

فهذا الشعر وما أشبَهه يدلُّ على أنَّ اللعين إنَّما قراهم كلباً ولم يَقْرِهم تيساً، وأنَّ الصوابَ خلافُ ما قال ابْنُ الأعرابيِّ.
وقال مُساوِر بن هند أيضاً:

فهذا إذنْ دَهْرُ الكلابِ وعامُها

 

بني أسدٍ أن تُمحل العامَ فَقْعس

وقال شرَيح بن أوس يهجو أبا المهوّش الأسدي:

وزادُك أير الكَلْب شيَّطه الجمْر

 

وعيَّرْتنا تمرَ الـعـراق وبُـرَّه

أكل لحوم الناس

وما قيل في ذلك من شعر

وقال معروفٌ الدُّبيريّ في أكلِهم لحومَ الناس:

فلا تَطعَمْ له أبداً طعـامـا

 

إذا ما ضِفْتَ يوماً فقعسـيّاً

وخيرُ الزَّادِ مَا مَنَع الحراما

 

فإنَّ اللحم إنسـانٌ فـدَعْـهُ

وقد هُجِيت هذيلٌ وأسد وبَلَعنْبَر وباهلة بأكلِ لحوم الناس، قال حسَّان بن ثابت يذكر هذيلاً:

فأت الرجيع وسل عن دارِ لِحْيانِ

 

إنْ سرَّك الغَدْرُ صِرفاً لا مِزَاجَ له

فالكلبُ والشَّاةُ والإنسـانُ سِـيَّانِ

 

قومٌ تواصَوا بأكل الجار بينـهـم

وقال الشاعر في مثل ذلك في هذيل:

زباب فلا يأمنْكُم أحـدٌ بـعـدُ

 

وأنتمْ أكلتُمْ شحمة بن مـخـدَّم

وقد نصل الأظفارُ وانسبَأ الجِلْدُ

 

تداعَوا له من بين خَمسٍ وأربعٍ

مُعاوية الفلحاء يالكَ ماشُـكْـدِ

 

ورَفَّعتم جُردَانَه لـرئيسـكـم

وقال الشاعر في ذلك في باهلة:

تمشَّشوا عظامَه وكاهلَه

 

إنَّ غفاقاً أكلَتْه بـاهـلـه

 

 

وأصبحتْ أم غفاق ثاكِلَه

وهجا شاعر آخر بَلْعَنبر، وهو يريد ثَوْبَ بن شَحْمَة، وكان شريفاً وكان يقال له مجير الطير، فأمَّا مجير الجراد فهو مدلج بن سويد بن مرشد بن خيبري فعيَّر الشاعرُ ثوب بنَ شحمة بأكل الرجلِ العنبريِّ لحمَ المرأة إلى أن أتى ثوبٌ من الجبَل فقال:

من العُنُوق ومن النِّعاجْ

 

عجِلتُمُ ما صادَكم عِـلاجْ

 

 

حتى أكلتمْ طَفْلَةً كالعاجْ

فلما عيَّره قال ثوب:

إذ لا تجنُّ خبيثَ الزاد أضلاعي

 

يا بنتَ عمِّيَ ما أدراكِ ما حسبي

عِنْدَ الصِّياحِ بِنَصْلِ السَّيْفِ قَرَّاعِ

 

إنِّي لذو مِرَّةٍ تُخْـشَـى بـوادِرُه

ومن ظريف الشعر قول أبي عدنان:

عُراقاً من الموتى مِرَاراً وتَكدِمُ

 

فما كلبة سوداءُ تفري بنـابِـهـا

فهارشَها وهي على العَرْق تَعْذِمُ

 

أُتيح لها كلبٌ فضنَّتْ بعَرْقِـهـا

فقفْ على هذا الشعر فإنّه من أعاجيب الدنيا.
وقال سُنَيح بن رباح شار الزِّنجي:

أن لم يُوازِنْ حَاجِباً وعِقال

 

مَا بالُ كلبِ بني كُليبٍ سبَّنا

قتيل الكلاب

وتنازع مالك بن مِسْمَع وشقيق بن ثور، فقال له مالِك: إنَّما رفعك قَبْرٌ بتُسْتَر فقال شقيق: حينَ وضَعَك قبرٌ بالمشقَّر، يا ابن قتيلِ النساء وقتيل الكلاب.
قال: وكان يقال لمسمع بن شيبان قتيلُ الكلاب، وذلك أنَّه لجأ في الردة إلى قومٍ من عبد القيس، فكان كلبُهم ينبحُ عليه فخاف أن يدلَّ على مكانه فقتَلَه فقُتِلَ به.

أمثال أخرى في الكلب

قال: والعرب تقول: أسرَعُ من لَحْسَةِ كلبٍ أنفه، ويقال: أحرصُ من لَعْوة وهي الكلبة، وجمعها لِعاء، وفي المثل: ألأم من كلبٍ على عَرْق، ونَعِم كلبٌ في بؤس أهله، وفي المثل: اصنع المعروف ولو مَعَ الكلب.

رؤيا الكلب وتأويلها

وقال ابن سِيرين: الكلبُ في النوم رجلٌ فاحش، فإن كان أسودَ فهو عربيٌّ، وإن كان أبقَعَ فهو عجَميّ.
وقال الأصمعيّ عن حمّاد بن سلمة عن ابنِ أخْتِ أبي بلال مِردَاسِ بن أُدَيَّة قال: رأيتُ أبا بلالٍ في النوم كلباً تذرِف عيناه، وقال: إنّا حُوِّلنا بعدَكم كلاباً من كلاب النار.
قال: ولمّا خرج شَمِر بن ذي الجَوشَن الضِّبابي لقتال الحسين بن علي رضي اللّه تعالى عنهما، فرأى الحسينُ فيما يرى النائم أنَّ كلباً أبقعَ يلغُ في دمائهم، فأوَّلَ ذلك أن يقْتُلهم شمر بن ذي الجوشن، وكان مُنْسلخاً بَرَصاً.
قال: والمسلمون كلُّهم يسمُّون الخوارجَ: كلابَ النار.
شعر في تشبيه الفرس بضروب من الحيوان ليس بينها الكلب وقال صاحب الديك: صاحب الكلب يصِفُه بالسُّرعةِ في الحُضْر، وبالصّبر على طول العَدْو، وبسَعة الإهاب، وأنَّه إذا عدا ضَبَع وبسَط يديهِ ورجليه حتى يمسَّ قَصَصُهُ الأرْض، وحتى يشرط أذنيه بشَبَا أظفاره، وأنَّه لا يحتِشي ريحاً مع ما يصيب الكلاب من اللَّهَث، فإن كان كما تقولون فلم وصفت الشعراءُ الفرسَ وشبّهته بضروب من الخلق، وكذلك الأعضاءُ وغير ذلك من أمره، وتركوا الكلب في المنْسَأ لا يلتفت أحَدٌ لِفْتَهُ? وقال أبو دُؤاد الإيادِيُّ في ذلك:

مر مـجَّ الـنَّـدِى عـلـــيه الـــعَـــرارُ

 

عن لـســانٍ كـــجـــثَّة الـــوَرَل الأح

 

 

ولم يذكره في شيء، وقال خالد بن عجرة الكلابي:

بدار مــضـــية مـــج الـــعـــرار

 

كأن لسانَه وَرَلٌ عليه

وقال امرؤ القيس:

كجُؤجؤ هَيقِ دَفُّه قد تموَّرا

 

وَخدٌّ أسِيلٌ كالمِسَنِّ وبِـرْكَةٌ

ولم يذكره في شيءٍ، وقال عُقْبة بن سابق:

هَةِ والصَّهوةِ والجنبِ

 

عريض الخدِّ والجـب

ولم يذكره في شيء، وقال امرؤ القيس:

كسامعتَي مذعورة وسطَ ربرب

 

وسامعتان تعرِف العتقَ فيهمـا

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال عقبة بن سابق:

ولَبَانٌ مضرّجٌ بالخِضَابِ

 

ولها بِركةُ كجؤجؤ هيقٍ

ولم يذكره في شيء، وقال خُفاف بن نَدبة:

كالسِّيدِ يَومَ القِرَّةِ الصاردِ

 

عَبل الذِّراعين سليم الشّظا

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال امرؤ القيس:

أقبَّ كتَيسِ الحُلَّـبِ الـغَـذَوانِ

 

سليم الشَّظا عبْل الشَّوى شَنِجِ النَّسا

ولم يذكره في شيءٍ من ذلك، وقال عقبة بن سابق:

ظِباءٍ أربع غُلْبِ

 

وأرساغ كأعناقِ

ولم يذكره في شيءٍ من ذلك، وقال الجَعْديُّ:

رِقابُ وُعُولٍ لَدَى مَشْرَبِ

 

كأن تماثـيلَ أرسـاغـهِ

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال امرؤ القيس:

أكبَّ عَلَى ساعديه النَّمِرْ

 

لها متْنَتَانِ خَظَاتَا كـمـا

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال أبو دُؤاد:

تُتابِعانِ أشقَّ شاخِصْ

 

يمشي كمشي نعامتَينِ

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال ابن الصَّعِق:

بِ تخالُه للضُّمرِ قِدْحا

 

بمحنَّبٍ مثلِ الـعُـقـا

ولم يذكره في شيءٍ من ذلك، وقال رَبيعة بن جُشم النمري، ويروى لامرئ القيس:

نِ لحمُ حَمَاتَيهما منبتِرْ

 

وساقانِ كعباهما أصمَعَا

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاري:

تقبَّضتا خيفةَ الأجدلِ

 

كأنَّ حَمَاتَيْهِما أَرنبانِ

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال خالد بن عبد الرحمن في مثل ذلك:

مقلِّصةٌ على ساقَي ظليمِ

 

كأنَّ حَماتَها كردوس فحْلٍ

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال الأعشى:

 

جِذْعٌ سَمَا فوقَ النَّخيلِ مشـذَّب

 

أمَّا إذا استقبـلـتَـه فـكـأنَّـه

 

فتقولُ سِرحانُ الغَضَا المتصوِّبُ

 

وإذا تصفَّحَه الفوارسُ معرضـاً

 

ساقٌ يقمِّصها وظـيفٌ أحـدَبُ

 

أما إذا استدبرته فـتـسـوقُـه

لما كشفت الجُلّ عنه أرنبَ

 

منهُ وجاعرة كأنّ حماتهـا

 








ولم يذكره في شيءٍ من ذلك، وقال الأسعر الجُعْفي:

بازٍ يكفكِفُ أن يطيرَ وقد رأَى

 

أما إذا استقبـلْـتَـه فـكـأنّـه

فتقول هذا مثلُ سِرحان الغَضا

 

أما إذا استعرضتَه متـمـطِّـرا

ساقٌ قُموصُ الوَقْعِ عاريةُ النَّسَا

 

أمَّا إذا استدبرته فـتَـسُـوقـه

ولم يذكره في شيءٍ، وقال أبو داؤد:

ولَّى تقول مُلَمْلَـمٌ ضَـرْبُ

 

السِّيد ما استقـبـلـتَـه وإذا

متتابعاً ما خانَـه عَـقْـبُ

 

لأمٌ إذا استعرضتَه ومـشَـى

أُخرى إذا هي راعَها خطْبُ

 

يمشِي كمشيِ نعامةٍ تبِعـتْ

ولم يذكره في شيء من ذلك، وقال امرؤ القيس:

وإرخاءُ سِرحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ

 

له أيطلاَ ظبي وساقَا نعـامةٍ

ولم يذكره في شيءٍ من ذلك، وقال ابن سِنانٍ العبْديّ:

كالجِذع شذّبهُ نفيُّ المِنْـجَـلِ

 

أما إذا ما أَقبلت فُـمـطـارةٌ

ضخمٌ مكانُ حِزامِها والمِركَلِ

 

أما إذا ما أعرضَتْ فنـبـيلة

تنفي سنابكُها صِلابَ الجَنْدَل

 

أما إذا تشتدُّ فهـي نـعـامةٌ

قول أبي عبيدة في تشبيه الفرس بضروب من الحيوان قال أبو عبيدة: ومما يشبِه خلْقُه من خَلْقِ النعامة طولُ وظيفِها وقصر ساقيها وعُري نَسَييها، وممَّا يشبه من خلقه خلْقَ الأرنب صِغَر كعبَيها، وممَّا يشبه من خلْقه خلْق الحمار الوحشيِّ غِلظ لحمه، وظمأ فصوصِه وسَراتِه، وتمحص عصَبِه، وتمكُّن أرساغه، وعَرض صهوته.
قال صاحب الكلب: قد قال أبو عبيدة: إنّ مما يشبه من خلقه خلْقَ الكلب هَرَت شدقِه، وطول لسانه، وكثرة ريقه، وانحدار قصِّه، وسبوغ ضُلوعِه، وطول ذراعيه، ورُحْب جلده، ولحوق بطنه، وقال طُفيل الغَنَويّ، يصف الخيل:

ضِرَاءُ أحسَّتْ نبأةً من مكلِّبِ

 

تبارِي مَراخِيها الزِّجاج كأنَّها

وقال طُفَيل أيضاً:

وإن يلق كلب بين لحييه يَذْهَبِ

 

كَأنَّ عَلَى أعطافِهِ ثوبَ مـائِحٍ

وقال صاحب الديك: وأين يقع البيتُ والبيتان والثلاثة، من جميع أشعار العرب? وقال صاحب الكلب: لعلَّنا إن تتبَّعنا ذلك وجدناه كثيراً، ولكنك تقدَّمت في أمر ولم تُشْعِر بالذي تعني، فَنَلتقط من الجميع أكثرَ مما التقطت، والإنسان شريف الأعضاء وقد تشبه مواضعُ منه مواضع من الفرس العتيق، وما حضرنا من الأشعار إلاّ قوله:

وكَأنّه رجلٌ مُغاصِبْ

 

وترى الكميتَ أمامَه

وقال الشاعر في ذلك:

فِعْلَ الضِّرَاءِ تَـرَاح لـلـكَـلاّبِ

 

خُوصٌ تَرَاحَ إلى الصراخ إذا غدت

وقد شبهوا بالكلب كلَّ شيء وكان اسم فرس عامر بن الطفيل، الكلب، والمزنوق، والوَرد.

شعر في وصف الناقة

قال صاحب الديك: قد قال أوس بن حجر، ووصف الناقةَ ونشاطها والذي يَهيجها فقال:

والتفَّ ديكٌ برجليها وخنْزيرُ

 

كَأَنَّ هرّاً جَنيباً عند مَغْرِضها

فهلاّ قال: والتف كلبٌ كما قال: والتفَّ ديك وقال أبو حيَّة:

هِرّاً ينشِّبُ ضَبْعَها بالأظفر

 

وتزاورَتْ عنه كأن بدَفِّهـا

وقال الأعشى:

هرّاً إذا انتعل المطيُّ ظلالَها

 

بجُلالةٍ سُرُحٍ كَأَنّ بـدَفِّـهـا

وقال عنترة بن شدَّاد العَبْسي:

وحْشِيِّ من هَزِج العشيِّ مؤوَّمِ

 

وكأنَّما ينأى بجانب دَفِّـهـا ال

غَضْبَى اتقاها باليدين وبالفـمِ

 

هرٌّ جَنيبٌ كلّما عطَفَـتْ لـه

وقال المثقِّب العَبْديّ:

عُذَافِرةٍ كَمِطْرَقةِ القُيُونِ

 

فسلِّ الهمَّ عنك بذاتِ لَوْثٍ

يُبارِيها ويأخُذُ بالوَضِـين

 

بصادقةِ الوَجِيفِ كأنّ هرّاً

قال صاحب الكلب: إنما يذكرون في هذا الباب السِّباعَ المنعوتة بالمخالب وطولِ الأظفار، كما ذكر الهرَّ وابن آوى، والكلبُ ليس يوصف بالمخالب، وليس أَنَّ الهر أقوى منه، ألا ترى أوسَ بن حجرِ قال في ذلك:

كأنّ هرّاً جَنِيباً عِنْدَ مغْرِضِها

فذكر الموضع الذي يوصف بالخلْبِ والخدْش والخمش والتظفير، فلما أراد أن يفزِّعها ويثَوِّرَها حتى تذهبَ جافلة في وجْهِها، أو نادَّة، أو كأنّها مجنونة من حاق المرح والنشاط قال:

والتفَّ دِيكٌ برجلَيها وخِنزيِر

وقال أبو النجم:

من شهوةِ الماءِ ورِزٍّ معضل

 

لو جُرَّ شَنٌّ وسطها لم تَحْفِـلِ

ولو قال أوس:

والتفّ شَنٌّ برِجليها وخِنزير

لكان جائِزاً، لولا يُبْس الشنِّ وقحُوله، وأنّه ليس مما يلتوي على رجليها، وقال آخر:

إذا هو لم يَكْلِمْ بنابَـيهِ ظَـفّـرا

 

كأنَّ ابنَ آوى مُوثَقٌ تحت غرْزِها

وقال صاحب الديك: حديث عمرو بن شُعيب عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه ابن عباس، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: لا يحِلُّ لرجلٍ أَنْ يُعطِيَ عَطِيَّةً ويرجٍع فيها، إلاّ الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يُعطي العطيَّةَ ثم يرجِعُ فيها كمثل الكلب يأكل، حتى إذا شَبِع قاءَ ثم عاد في قيئه.
وعن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا يرجع في هِبَته إلاّ الوالد من ولده، والعائِدُ في هبتِه كالعائد في قيئه.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد اللّه بن جعفر، أنّ أبا بكرٍ أمر بقتل الكلب، قال عبد اللّه بن جعفر: وكانت أمِّي تحتَ أبي بكر، وكان جروٌ لي تحت سريره فقلت له: يا أبتِ، وكلبي أيضاً? فقال: لا تقتلوا كلبَ ابني، ثمّ أشار بإصبعه إلى الكلب - أي خذوه من تحت السرير - وأنا لا أدري، فقتل.
وإسماعيل بن أُميَّة قال: أُمَّتان من الجنِّ مُسِختا، وهما الكلاب والحيَّات.
ابن المبارك قال: إذا عرف الرجلُ قدْرَ نفسه صار عِند نفسِه أذلَّ من الكلب.

لؤم الكلب

قال صاحب الديك - وذَكَرَ الكلب فقال -: من لؤمِه أنَّه إذا أسمنْتَه أكلك، وإِن أجعْتَه أنكرك، ومن لؤمه اتّبَاعه لمن أهانه، وإِلفُه لمن أجاعَه؛ لأنه أجهلُ من أن يأنس بما يؤنس به وأشره وأنَهمُ وأحرصُ وألجُّ من أن يذهب بمطمعته ما يذْهَب بمطامع السباع.
ومن جهله أيضاً أَنّا لم نجدْه يحرُس المحسنين إليه بنباحه، وأربابَهُ الذين ربّوه وتبنُّوه إلا كحراسته لمن عَرفه ساعةً واحدة، بل لمن أذلّه وأَجاعَه وأَعطشه، بل ليس ذلك منه حراسةً، وإنَّما هو فيه من فضل البَذَاء أَو الفُحْش، وشدَّة التحرُّش والتسرُّع، وقد قال الشاعر في ذلك:

ثم كسَرت العينَ من غير عَوَر

 

إذا تخازَرْتُ وما بي من خَزَرْ

أَسودَ قَزَّاحٍ يُعوِّي في السَّحَر

 

أبذى إذا بُوذيت من كلبٍ ذَكَـرْ

وإنَّما ذلك شكل من شكل الجبن، وكالذي يعتري نِسَاءَ السِّفْلة من الصخب.

جبن الكلب

والكلب جبانٌ وفيه جرأة ولؤم، ولو كان شجاعاً وفيه بعض التهيُّب كان أمثل، ومن فرط الجبن أنّه يفزَع من كلِّ شيء وينبحَه.
والبرذون ربَّما رمَح البرذونَ مبتدئاً، وقلق وصهل صَهِيلاً في اختلاط، وليس ذلك من فضْل قوَّةٍ يجدُها في نفسه على المرموح، ولكنَّه يكون جباناً، فإذا رأى البِرذون الذي يظنُّ أنَّه يعجِز عنه أراه الجبنُ أنَّه واقعٌ به، فعندها يقلَق وإذا قلِق رمَح، وهذه العلَّة تعرض للمجنون؛ فإنَّ المجنونَ الذي تستولي عليه السَّوداء، ربما وثَب على من لا يعرفه، وليس ذلك إلاّ لأنَّ المِرَّة أوهمتْه أنَّه يريده بسوء، وأنّ الرأي أن يبدأه بالضرب، وعلى مثل ذلك يرمي بنفسه في الماءِ والنار.

مما حدث للنظام

فأمّا الذي شهدت أنا من أبي إسحاق بن سيَّار النظّام، فإنّا خرجنا ليلةً في بعض طرقات الأبُلَّة، وتقدَّمتُه شيئاً، وألح عليه كلبٌ من شكل كلاب الرِّعاء، وكره أن يعدوَ فيغريَه ويُضَرِّيه، وأنف أيضاً من ذلك - وكانَ أنِفاً شديدَ الشَّكيمةِ أبَّاء للهَضيمة - وكرِه أن يجلسَ مخافةَ أن يشغَر عليه أو لعلَّه أن يعضَّه فيَهْرِتَ ثوبَه، وألحَّ عليه فلم ينله بسوءٍ، فلمَّا جُزْنا حدَّه وتخلَّصنا منه، قال إِبراهيم في كلامٍ له كثير، يعدِّد خصالَه المذمومة، فكان آخر كلامه أن قال: إن كنت سَبْع فاذهبْ مع السِّباع، وعليك بالبرارِي والغِياض، وإن كنت بَهيمة فاسكتْ عنَّا سكوت البهائم ولا تنكر قولي وحياتي عنه بقولٍ ملحون، من قولي: إن كنت سَبْع ولم أقلْ إن كنت سبعا.

إفساد الإعراب لنوادر المولدين

وأنا أقول: إنّ الإعرابَ يفسد نوادر المولَّدِين، كما أنّ اللحنَ يُفْسِد كلام الأعراب؛ لأنّ سامعَ ذلك الكلام إنَّما أعجبتْه تلك الصورة وذلك المخرَج، وتلك اللغة وتلك العادة؛ فإذا دَخَلْت على هذا الأمر - الذي إنما أضحك بِسُخْفِه وبعضِ كلام العجميَّة التي فيه - حروفَ الإعراب والتحقيق والتثقيل وحوَّلتَه إلى صورةِ ألفاظ الأعراب الفصحاء، وأهلِِ المروءَة والنجابة انقلب المعنى مع انقلاب نظْمِه، وتبدَّلَتْ صورته.
ثم قال أبو إسحاق: إِنْ أطعمَه اللصُّ بالنهار كسرةَ خُبْزٍ خلاّه، ودارَ حولَه ليلاً، فهو في هذا الوجه مرتشٍ وآكلُ سُحت؛ وهو مع ذلك أسمجُ الخلْقِ صوتاً، وأحمق الخلق يقَظَةً ونوماً، وينام النَّهارَ كله على نفس الجادَّة، وعلى مدقِّ الحوافر، وفي كل سوقٍ وملتقَى طريق، وعلى سبيل الحمُولة وقد سهر الليلَ كله بالصياح والصَّخَب، والنَّصَب والتَّعب، والغيظ والغضب، وبالمجيء والذَّهاب، فيركبه من حبِّ النوم على حسب حاجته إليه، فإن وطئتْه دابَّةٌ فأسوَأُ الخَلْقِ جزَعاً وأَلأمه لؤماً، وأكثره نُباحاً وعُواءً، فإن سلم ولم تَطَأهُ دابَّةٌ ولا وطئه إنسان، فليست تتمُّ له السلامة؛ لأنّه في حالِ متوقِّعٍ للبليَّةِ، ومتوقِّعُ البليَّةِ في بَليَّة، فإنْ لم يسلم فليس على ظهرها مبتلى أسوأُ حالاً منه؛ لأنّه أسوَؤُهم جزَعاً، وأقلُّهم صبراً، ولأنّه الجاني ذلك على نفسه، وقد كانت الطُّرق الخالية له معرضة، وأصول الحيطان مباحة.
وبعد فإنّ كلَّ خُلُقٍ فارقَ أخلاقَ النَّاس فإنّه مذموم، والناس ينامون بالليل الذي جعله اللّه تعالى سكَناً، وينتشرونَ بالنّهار الذي جعله اللّه تعالى لحاجات الناس مَسْرحاً.
قال صاحب الكلب: لو شئنا أن نقول: إنّ سهره بالليل ونومَه بالنهار خَصْلَةً ملوكيَّة لقلنا، ولو كان خلافُ ذلك ألذّ لكانت الملوك بذلك أولى، وأمَّا الذي أشرتمْ به من النوم في الطرق الخالية، وعبتُموه به من نومه على شارعاتِ الطُّرق والسِّكَكِ العامرة وفي الأسواق الجامعة، فكلُّ امرئٍ أعلم بِشَأْنِهِ، ولولا أنّ الكلبَ يعلمُ ما يَلقَى من الأحداث والسُّفهاءِ وصِبيان الكتَّاب، من رضِّ عظامِه بألواحهم إذا وجدوه نائِماً في طريق خالٍ ليس بحضرته رجالٌ يُهابون، ومشيخةٍ يرحمون ويزجرون السفهاءَ، وأنّ ذلك لا يعتريه في مجامع الأسواق - لقَلّ خلافه عليك، ولما رقد في الأسواق، وعلى أنّ هذا الخُلُق إنَّما يعتري كلاب الحُرَّاس، وهي التي في الأسواق مأواها ومنازلها.
وبعد فمن أخطأُ وأظلمُ ممَّن يكلِّف السباعَ أَخلاقَ الناس وعادات البهائِم وقد علمْنا أنّ سباعَ الأرض عن آخرها إنَّما تَهيج وتَسرح وتلتَمس المعيشةَ وتتلاقى على السفاد والعظال ليلاً؛ لأنها تبصر بالليل.

سبب اختيار الليل للنوم

وإنما نام الناسُ بالليل عن حوائِجِهم، لأنّ التمييز والتفصيل والتبيُّن لا يمكنهم إلاّ نهاراً، وليس للمتعَب المتحرِّك بدٌّ من سكون يكون جَماماً له، ولولا صرفُهم التماسَ الجَمام إلى الوقت الذي لو لم يناموا فيه والوقتُ مانع من التمييز والتبيُّن، لكانت الطبائعُ تنتقض، فجعلوا النَّوم بالليل لضربين: أحدهما لأنّ الليلَ إذ كان من طبعه البرد والرُّكود والخُثورة، كان ذلك أنزَعَ إلى النوم وما دعا إليه، لأنّه من شكله، وأمّا الوجه الآخر فلأنّ الليلَ موحِشٌ مخُوف الجوانب من الهوامِّ والسباع، ولأنّ الأشياء المبتاعةَ والحاجات إلى تمييز الدنانير، والدراهم، والحبوب، والبزور، والجواهر، وأخلاط العطر، والبَرْبَهار، وما لا يحصى عدده، فقادتهم طبائعُهم وساقتهم غرائزهم إلى وضعِ النوم في موضعه، والانتشار والتصرف في موضعه على ما قدَّر اللّه تعالى من ذلك وأحبَّه، وأمَّا السباع فإنها تتصرَّف وتبصر بالليل، ولها أيضاً عللٌ أخرى يطول ذكرُها.

نوم الملوك

وأمَّا ما ذكرتموه من نوم الملوك بالنَّهار وسهرهم بالليل، فإنّ الملوكَ لم تجهلْ فضلَ النوم بالليل والحركةِ بالنهار، ولكنَّ الملوك لكثرة أشغالها فضلَت حوائِجها عن مقدار النهار ولم يتّسع لها، فلما استعانَت بالليل ولم يكن لها بدٌّ من الخلوة بالتدبير المكتوم والسرِّ المخزون، وجمعت المقدارَ الفاضلَ عن اتِّسَاع النهار إلى المقدارِ الذي لا بدَّ للخلوة بالأسرار منه؛ أخذتْ من الليل صدراً صالحاً، فلمَّا طال ذلك عليها أعانها المِران، وخفَّ ذلك عليها بالدُّربة.
وناسٌ منهم ذهبوا إلى التناول من الشراب وإلى أن سَماع الصوت الحسن مما يزيد في المُنّة، ويكون مادَّةً للقوة، وعلموا أنّ العوامَّ إذا كانت لا تتناول الشّرابَ ولا تتكلّف السماع على هذا المعنى، أن ظنّها سيسوءُ، وقولَهَا سيكثُر؛ فرأوا أنّ الليل أسترُ وأجدرُ أن يتمَّ به التدبير، وقال الراجز:

اللَّيلُ أخفَى والنَهارُ أفْضَحُ

وقالوا في المثل: اللَّيل أخفَى للويل.

تلهي المحزون بالسماع

وما زالت ملوكُ العجَم تلهِّي المحزون بالسماع، وتعلِّل المريض، وتَشغله عن التفكير، حتَّى أخذت ذلك ملوكُ العرب عن ملوك العجم، ولذلك قال ابن عَسَلة الشيباني:

حتَّى نَنَامَ تَنَامَ تنَاوُمَ العُجْمِ

 

وسماع مُدْجنةٍ تعلِّـلـنُـا

عَمَّ السِّماكِ وخالَةَ النَّجْـم

 

فصحوت والنَّمَرِيُّ يحسَبُها

النجم: واحد وجمع، وإنَّما يعني في البيت الثريَّا، ومدجنة: يعني سحابةً دائِمة.
قول أم تأبط شراً في ولدها وفيما يحكى عن امرأةٍ من عقلاء نساءِ العرب - وإذا كان نساءُ العرب في الجملة أعقلَ من رجال العجَم، فما ظنُّكَ بالمرأةِ منهم إذا كانت مقدَّمة فيهم - فروَوا جميعاً أنَّ أمَّ تأبَّط شرّاً قالت: واللّه ما وَلَدْتُه يَتْناً، ولا سقَيته غَيْلاً ولا أبتُّه على مَأْقة.
فأمَّا اليتن فخروج رِجل المولود قبلَ رأسِه، وذلك علامة سُوءٍ، ودليلٌ على الفساد، وأَما سَقي الغَيْل، فارتضاع لبن الحبلى، وذلك فسادٌ شديد.
ما ينبغي للأم في سياسة رضيعها حين بكائه وأما قولها في المأقة، فإنَّ الصبيَّ يبكي بكاءً شديداً متعِباً موجِعاً، فإذا كانت الأمُّ جاهلةً حرّكته في المهد حركةً تورثه الدُّوار، أو نوّمته بأن تضرب يدَها على جنبه، ومتى نام الصبيُّ وتلك الفزْعةُ أو اللَّوعة أو المكروه قائمٌ في جوفه، ولم يعلَّلْ ببعضِ ما يلهيه ويُضحكه ويسرُّه، حتى يكون نومه على سرورٍ، فيسْرِي فيه ويعمَل في طباعه، ولا يكون نومه على فزعٍ أو غيظ أو غمٍّ؛ فإنَّ ذلك ممَّا يعمل في الفساد، والأمُّ الجاهلةُ والمرقِّصة الخرقاء، إذا لم تعرف فرقَ ما بين هاتين الحالتين، كثُر منها ذلك الفساد، وترادَفَ، وأعان الثاني الأوّلَ والثالثُ الثانيَ حتَّى يخرجَ الصبيُّ مائقاً، وفي المثل: صاحبي مَئِق وأنا تئقٌ، يضرب هذا المثل للمسافر الأحمق الرَّفيق والزَّميل، وقد استفرغه الضَّجر لطول السفر فقلبُه ملآن، فأوَّلُ شيءٍ يكون في ذلك المئق من المكروه لم يحتمله بل يَفيض ضجره عليه، لامتلائه من طول ما قاسى من مكروه السفر.
ما يحتاج إليه الملوك فاحتاج حُذَّاق الملوكِ وأصحابُ العنايات التامَّةِ، أن يداووا أنفسَهم بالسماع الحسن، ويشدُّوا من متْنِهم بالشراب، الذي إذا وقعَ في الجَوف حرَّك الدَّم، وإذا حرك الدَّم حرَّك طباعَ السرور، ثمَّ لا يزالُ زائداً في مِكيال الدم، زائداً في الحركة المولِّدة للسرور، هذه صفةُ الملوك، وعليه بنوا أمرَهم، جهل ذلك مَنْ جهله، وعَلمه من علمه.
وقال صاحب الكلب: أمَّا تركُه الاعتراضَ على اللِّصِّ الذي أطعمه أيَّاماً وأحسنَ إليه مِراراً، فإنَّما وجب عليه حفظُ أهلِه لإحسانهم إليه، وتعاهدهم له، فإذا كان عهده ببرِّ اللص أحدَث من عهده ببرِّ أهله، لم يكلَّف الكلبُ النظرَ في العواقب، وموازنة الأمور، والذي أَضمر اللصُّ من البَيات غَيْبٌ قد سُتِر عنه؛ وهو لا يَدري أجاء ليأخذَ أم جاء ليعطيَ، أو هم أمروه أو هو المتكلِّف لذلك؛ ولعلَّ أهله أيضاً أن يكونوا قد استحقُّوا ذلك منه بالضَّرب والإجاعة، وبالسبِّ والإهانة. وأمَّا سماجة الصَّوت فالبغل أسمجُ صوتاً منه، كذلك الطاووس على أنَّهم يتشاءَمون به، وليس الصَّوت الحسنُ إلاّ لأصناف الحمام من القَماريِّ والدَّبَاسيّ، وأصناف الشَّفانين والورَاشين، فأمّا الأسد والذئب؛ وابن آوى والخنزير، وجميعُ الطير والسباع والبهائِم فكذلك، وإنَّما لك أن تذمَّ الكلبَ في الشيء الذي لا يعمّ، والناس يقولون: ليس في الناس شيءٌ أقلَّ من ثلاثةِ أصناف: البيان الحسن، والصوت الحسنِ، والصورة الحسنة؛ ثمّ النَّاس بعدُ مختلِطون ممتزجون، وربّما كان مِنَ الناسِ بل كثيراً ما تجدُه وصوته أقبحُ من صوت الكلب، فلم تخصّون الكلبَ بشيءٍ عامَّةُ الخلق فيه أسوأ حالاً من الكلب? وأما عُواؤه مِن وَطْء الدَّابّة وسوءُ جزَعه من ضرب الصِّبيان، فجزعُ الفرَس من وقْع عذَبة السَّوط، أسوأ من جزَعه من وقع حافر بِرذون، وهو في هذا الموضع للفرس أشدُّ مناسبةً منه للحمار.
على أنَّ الدِّيكَ لا يُذكَر بصبرٍ ولا جزَع.

نوادر ديسيموس اليوناني

قال صاحب الديك: حدَّثني العُتْبي قال: كان في اليونانيِّين ممرور له نوادرُ عجيبة، وكان يسمَّى ديسيموس، قال: والحكماء يروون له أكثرَ من ثمانين نادرة ما منها إلاّ وهي غُرَّةٌ؛ وعينٌ من عُيون النوادر: فمنها أنَّه كان كلَّما خرجَ من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات للغائط والطهور، ألقَى في أصل باب دارِه وفي دُوَّارته حجراً، كي لا ينصفق الباب، فيحتاج إلى معالجة فتحه، وإلى دفعه كلَّما رجَع من حاجته، فكان كلَّما رجع لم يجد الحجَر في موضعه، ووجد البابَ منصفقاً، فكَمن له في بعضِ الأيّام ليرى هذا الذي يصنع ما يصنع، فبينا هو في انتظاره إذ أقبَل رجلٌ حتَّى تناوَلَ الحجر، فلمَّا نحَّاه عن مكانه انصفق البابُ، فقال له: ما لَك ولهذا الحجر? وما لك تأخذه? فقال لم أعلمْ أنَّه لك، قال: فقد علمتَ أَنَّه ليس لك.
قال: وقال بعضهم: ما بال ديسيموس يعلِّم الناسَ الشِّعرَ ولا يقول الشعر? قال: ديسيموس كالمِسَنِّ الذي يشحَذ ولا يقطع.
ورآه رجلٌ يأكل في السُّوق فقال: أتأكل في السوق? فقال: إذا جاع ديسيموس في السُّوق أكلَ من السوق.
قال: وأسمعه رجلٌ كلاماً غليظاً وسطَا عليه، وفحش في القول، وتحلَّم عنه فلم يجبه، فقيل له: ما منعك من مكافأته وهو لك مُعرِض? قال: أرأيتَ لو رمحَك حِمارٌ أكنتَ ترمحُه? قال: لا، قال: فإن ينبح عليك كلب تنبح عليه? قال:لا، قال: فإنَّ السفيهَ إمّا أن يكون حماراً، وإما أن يكون كلباً؛ لأنَّه لا يخلو من شَرارَةٍ تكون فيه أو جهل، وما أكثر ما يجتمعان فيه.

أمثال أخرى في الكلب

وقال صاحب الديك: يقال للسفيه إنَّما هو كلب، وإنَّما أنتَ كلبٌ نَبَّاح، وما زال ينبَح علينا منذُ اليوم، وكلبُ مَن هذا? ويا كلب ابن الكلب، وأخسَأْ كلباً.
وقالوا في المثل: احتاج إلى الصُّوف مَنْ جَزَّ كلبَه، و أجِعْ كلبَك يتبَعْك، وأحبُّ شيء إلى الكلبِ خانقهُ، وسمِّن كلبَك يأكلك، وأجوَع من كَلْبة حَومَل، وكالكلب يربِض في الآرِيِّ فلا هو يأكل ولا يدَعَ الدابَّة تعتلف.
براقش وفي أمثالهم في الشؤم: على أهلها دلَّتْ بَراقِشُ.
وبَراقش: كلبة نبحتْ على جيشٍ مرُّوا في جوف الليل وهم لا يشعُرون بموضع الحيِّ، فاستدلُّوا عليهم بنُباح الكلبة فاستباحوهم.
الجنّ والحنّ وقال صاحب الدِّيك: روى ِإسماعيلُ المكِي عن أبي عَطاءٍ العُطارِدي قال: سمعت ابن عبَّاس يقول: السُّود من الكلاب الجِنّ، والبُقْع منها الحنّ، ويقال إنَّ الحنَّ ضَعفة الجنِّ، كما أنَّ الجنيَّ إذا كفر وظلَم وتعدَّى وأفسد، قيل شيطان؛ وإن قوي على البنيان والحمل الثقيل، وعلى استراق السمع قيل مارد، فإنْ زاد فهو عِفريت، فإن زاد فهو عبقريّ، كما أنّ الرجلَ إذا قاتل في الحرب وأقدم ولم يحجم فهو الشجاع، فإن زاد فهو البطل، فإِن زاد قالوا: بُهْمة، فإن زاد قالوا: أَلْيَس، فهذا قول أبي عبيدة.
وبعض النَّاس يزعم أنَّ الحِنّ والجنَّ صِنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حينَ أتى بعضَ الملوك ليكتتب في الزَّمْنَى، فقال في ذلك:

مِن ظاهر الدَّاءِ وداءٍ مُسَتَكِنّ

 

إن تكتبوا الزَّمْنَى فإنِّي لَزَمِنْ

مختلفِ نجِارُهمْ حِنٌّ وجـنّ

 

أبيتُ أهوِي في شياطينَ تُرِنّ

ما ورد من الحديث والخبر في- قتل الكلاب وعن أبي عنبسة عن أبي الزبير عن جابر: قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى أن المرأة لتقدم بكلبها من البادية فنقتله، ثم نهانا عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النكتتين على عينيه؛ فإنه شيطان.
وعن أبي الزبير عن جابر قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، فكنا نقتلها كلها حتى قال: إنها أمة من الأمم؛ فاقتلوا البهيم الأسود ذا النكتتين على عينيه؛ فإِنه شيطان، وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن ابن عمر، ونافع عن أبي رافع قال: أمرَني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنْ أقتلَ الكلاب، فكُنَّا نقتُلُها؛ فانتهيت إلى ظاهر بني عامر، وإذا عجوزٌ مسكينة معها كلب وليس قربها إنسان فقالت: ارجعْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنَّ هذا الكلبَ يُؤنِسني، وليس قربي أحد، فرجع إليه فأخبره، فأمر أن يقتلَ كلبها فقتله، وقال في حديث آخر: إنَّه لمَّا فرَغ من قتل كلاب المدينة وقتلِ كلْب المرأة قال: الآنَ استرحْت، قالوا: فقد صحَّ الخبرُ عن قتل جميع الكلاب، ثمَّ صحَّ الخبر بنسخ بعضه وقتل الأسود البهيم منها، مع الخبر بأنَّها من الجنّ والحنّ، وأنَّ أمَّتين مُسِختا، وهما الحيَّات والكلاب.
ثم روى الأشعث عن الحسن قال: ما خطَب عثمانُ خُطبةً إلاّ أمرَ بقتْل الكلاب وذبح الحمام، وعن الحسن قال: سمعت عثمانَ بن عفَّانَ يقول: اقتلوا الكلابَ واذبحوا الحمام.
قال: وقال عطاءٌ: في قتل كَلْب الصيد إذا كان صائداً أربعُون درهماً، وفي كلب الزرع شاة.

ما ورد من الحديث والخبر في دية الكلب

والحسن بن عمارة عن يعلى بن عطاءٍ عن إسماعيل بن حسان عن عبد اللّه بن عمر قال: قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كلب الصَّيدِ بأربعين درهماً، وفي كلب الغنم بشاة، وفي كلب الزرع بفَرَق من طعام، وفي كلب الدار بفَرَق من تراب، حقَّ على القاتل أن يؤدِّيَه، وحُقَّ على صاحب الدار أن يقبِضه.
قالوا: والتراب لا يكون عقلاً إذا كان في مقدار الفَرَق.
وفي قوله: وحُقَّ على صاحب الدار أن يقبضه، دليلٌ على أنّه عقوبة على اتخاذه وأن ذلك على التصغير لأمر الكلب وتحقيره، وعلى وجه الإرغام لمالكه، ولو كان عوضاً أو ثواباً، أو كان في طريق الأموال المحروص عليها، لما أكْرِه على قبضه أحد، ولكان العفو أفضل.

ما ورد من الحديث والخبر في شأن الكلب

قال: وسئل عن الكلب يكون في الدار وفي الدار مَن هو له كاره.
ابن أبي عَروبة عن قَتادة عن أبي الحكم: أنّ ابنَ عمر سئل عن ذلك فقال: المأثَمُ على ربِّ الدَّار الذي يملكها.
وعن ابن عُمر قال: من اتَّخذ كلباً ليس بكلب زَرْع ولا ضَرْع ولا صَيد نَقَص من أجره كلَّ يوم قيراط، فقال رجل: فإن اتخذه رجلٌ وهو كاره? قال: إنَّما إثمه على صاحب الدار.
وصَدَقة بن طَيْسَلة المازنيّ قال: سألت الحسن قلت: إنَّ دورَنا في الجبّان وهي مُعْوِرة وليس عليها أبواب، أفترى أن نتَّخذ فيها كلاباً? قال: لا لا.
وعن ابن أبي أُنيسة عن سالم عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من اقتَنَى كلباً إلاَّ كلب صيدٍ أو كلب ماشية، نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان.
وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: من اقتنى كلباً فإنَّه ينقص من عمله كلَّ يوم قيراط.
ويونس عن أبيه عن إسحاق قال: حدثنا هُنَيدَةُ بن خالد الخزاعي قال: انطلقت مع نفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نعودُ رجلاً من الأنصار، فلمَّا انتَهوا إلى باب الدار ثارت أكلُبٌ في وجوه القوم، فقال بعضهم لبعض: ما يُبقي هؤلاءِ من عمل فلانٍ شيئاً، كلُّ كلبٍ منها ينقُص قيراطاً في كلِّ يومٍ.
هشام بن حسان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ كلباً ليسَ بكلبِ صيدٍ ولا زرْع ولا ضَرْع، فإنه ينقُص من أجره كلَّ يوم قيراطٌ، والقيراطُ مثلُ جبل أحُد.
يونس عن أبي إسحاق عن مجاهد قال: أقبل عبد اللّه بن عمرو بن العاص حتَّى نزل ناحية مكَّة، وكانت امرأةُ عمٍّ له تهاديه، فلما كانت ذاتَ يوم قالت له: لو أرسلتَ إليَّ الغنَم فاستأنستُ برعائها وكلابها فقد نزلتُ قاصية فقال: لولا كلابُها لفعلتُ؛ إنَّ الملائكةَ لا تدخلُ داراً فيها كلب. الثوريُّ عن سماك بن حرب، أنَّ ابنَ عباس قال على مِنبر البصرة: إنَّ الكلاب من الحِنّ وإنّ الحِنّ من ضَعفة الجن، فإذا غشيكم منها شيءٌ فألقُوا إليها شيئاً أو اطردوه، فإنَّ لها أَنفُسَ سوء، وهُشيم عن المغيرة عن إبراهيم قالوا: لم يكونوا ينهَوننا عن شيء من اللعب ونحنُ غلمان إلاَّ الكلاب.
قال صاحب الديك: روى إبراهيم بن أبي يحيى الأسلميّ، عن محمّد بن المنكدِر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: تقامر رجُلان على عهد عُمر بديكين، فأمر عمر بالديكة أن تُقْتَل فأتاه رجلٌ من الأنصار فقال: أمرتَ بقتل أمَّةٍ من الأمم تسبِّح اللّه تعالى? فأمر بتركها.
وعن قَتادة أنّ أبا موسى قال: لا تتَّخذوا الدَّجاج في الدُّور فتكونوا أهل قرية، وقد سمعتم ما قال اللّه تعالى في أهل القرى: "أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ".
وهذا عندي من أبي موسى ليس على ما يظنُّه الناس، لأنّ تأويله هذا ليس على وجه، ولكنَّه كرِه للفُرسان ورجالِ الحرب اتخاذَ ما يتّخذه الفلاَّح وأصحابُ التعيُّش، مع حاجته يومئذ إلى تفرُّغِهم لحروب العجم، وأخْذهم في تأهُّب الفُرسان وفي دُرْبة رجال الحرب، فإن كان ذهب إلى الذي يظهَرُ في اللفظ فهذا تأويلٌ مرغوب عنه.
وقال صاحب الكلب لصاحب الديك: فقد أمر عُمَر بقتل الدِّيَكة ولم يستثنِ منها شيئاً دون شيء، ونهى أبو موسى عن اتخاذ الدجاج ولم يستثن منها شيئاً دون شيء، والدِّيكةُ تدخل في هذا الاسم، واسم الدَّجاج يجمعها جميعاً، ورويتم في قتل الحمام مثلَ روايتكم في قتل الكلاب، ولم أركم رويتم أنّ الحمام مِسْخ، ولا أنَّ بعضَه من الجن وبعضه من الحِن، ولا أنَّ أمتين مسختا وكان أحدهما الحمام، وزعمتم أنَّ عمر إنَّما أمر بقتل الدِّيَكة حين كره الهِراش بها والقمار بها، فلعلَّ كلابَ المدينة في تلك الأيَّام كثُر فيها العَقُور وأكثر أهلُها من الهِراش بها والقمار فيها، وقد علمتم أنّ ولاة المدينة ربَّما دَمَروا على صاحب الحمام إذا خيف قِبَلَه القِمار وظنُّوا أنه الشَّرَف، وذكروا عنه الرَّمْيَ بالبُندق وخديعةَ أولادهم بالفراخ، فما بالكم لم تُخرِّجوا للكلابِ من التأويل والعذْر، مثلَ الذي خرَّجتم للحمام والديكة.
المسخ من الحيوان ورويتم في الجرَّيِّ والضِّباب أنهما كانتا أمَّتين مُسختا، وروى بعضهم في الإرْبيانة أنَّها كانت خيّاطة تسرِق السُّلوك، وأنَّها مُسِخت وترك عليها بعضُ خيوطها لتكون علامةً لها ودليلاً على جِنْس سرقتها، ورويتم في الفأرة أنَّها كانت طحّانة، وفي سُهيل أنّه كان عشّاراً باليمن وفي الحيَّة أنّها كانت في صورة جَمَل، وأنَّ اللّه تعالى عاقبها حتى لاطَها بالأرض، وقسم عقابَها على عشرة أقسام، حين احتملت دخولَ إِبليس في جوفها حتَّى وَسوَس إلى آدم مِنْ فِيها، وقلتم في الوَزَغة وفي الحكأة ما قلتم، وزعمتم أنّ الإبل خُلِقَت من أعنان الشياطين، وتأوّلتم في ذلك أقبحَ التأويل، وزعمتم أنَّ الكلابَ أمّةٌ من الجنّ مُسخت، والذئبُ أحقُّ بأن يكون شيطاناً من الكلب، لأنَّه وحشيٌّ وصاحبُ قِفار، وبه يُضرَب المثل في التعدِّي، والكلب ألوفٌ وصاحبُ ديار، وبه يُضرَبُ المثل، والذئب خَتُور غدّار، والكلب وفيٌّ مناصح، وقد أقام الناسُ في الدّىار الكلابَ مُقامَ السَّنانير للفأر، والذئب مضرَّةٌ كلُّه، والكلبُ منافعُه فاضلةٌ على مضارِّه، بل هي غالبة عليها وغامرةٌ لها، وهذه صفة جميعِ هذه الأشياء النافعة.
والناس لم يُطبِقوا على اتِّخاذها عبَثاً ولا جهْلاً، والقضاة والفقهاءُ والعُبَّاد والوُلاة والنُّسَّاك، الذين يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر، والمحتَسِبة وأصحاب التكلُّف والتسليم جميعاً، لم يطبقوا على ترك النَّكِير على ما يشاهدونه منها في دورِ مَنْ لا يعصيهم ولا يمتنِع عليهمْ إلاّ وقد عَلِموا أنَّه قدْ كان لقتلِ الكلابِ بأعيانها في ذلك الدَّهر، معنى، وإلاَّ فالنَّاسُ في جميع أقطارِ الأرض لا يُجمِعون على مسالمةِ أصحاب المعاصي، الذين قد خلعوا عُذُرَهم وأبرزوا صَفحتَهم، بل ما ترى خصماً يطعن على شاهدٍ عندَ قاض بأنَّ في داره كلباً، ولا تَرَى حَكَما يردُّ بذلك شهادة، بل لو كان اتِّخاذُ الكلاب مأموراً به، لَما كان إلاّ كذلك. ولو أنَّكم حملتم حكم جميع الهَداهد على حكم هدهد سليمان، وجميعَ الغربان على حكم غُراب نوح، وجميعَ الحمام على حكم حمامة السفينة، وجميعَ الذئاب على حكم ذئب أُهبان بن أوس، وجميعَ الحميرِ على حكم حمار عُزَير - لكان ذلك حكماً مردوداً.
أمور حدثت في دهر الأنبياء وقد نعرِض لخصائص الأمور أسبابٌ في دهر الأنبياءِ ونزول الوحي، لا يعرض مثلُها في غير زمانهم: قد كان جبريل عليه السلام يمشي في الأرض على صورة دِحيةَ الكَلبيّ، وكان إبليس يتراءى في السِّكك في صورة سُرَاقة المُدْلجِي، وظهر في صورة الشيخ النَّجْدي، ومثل هذا كثير.
ما يسمى شيطاناً وليس به فإنْ زعمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نظَرَ إلى رجلٍ يتبع حماماً طيَّاراً فقال: "شيطانٌ يتبع شَيطاناً"، فخبِّرونا عمن يتخذ الحمام من بين جميع سكان الآفاق ونازلةِ البُلدان من الحرميِّين والبصريِّين ومن بني هاشم إلى من دونَهم، أتزعمون أنَّهم شياطينُ على الحقيقة، وأنَّهم من نجل الشياطين؛ أو تزعمون أنَّهم كانوا إنساً فمُسِخوا بعدُ جِنّاً؛ أم يكون قوله لذلك الرجل شيطان، على مثل قوله "شَيَاطِينَ الجِنِّ وَالإنْس" وعلى قول عمر: لأنَزِعنَّ شيطانَه من نُعرتِه، وعلى قول منظور بن رواحة:

شياطينُ رأْسِي وانتَشَيْنَ من الخَمْرِ

 

فلما أتاني ما تقولُ تَـرَقَّـصَـتْ

وقد قال مَرَّةً أبو الوجيه العُكْلي: وكان ذلك حين ركبني شيطاني قيل له: وأيَّ الشياطينِ تعني? قال: الغضب.
والعرب تسمِّي كلَّ حيّةٍ شيطاناً، وأنشد الأصمعي:

تعمُّج شَيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قَفْرِ

 

تُلاعب مثنى حَضْرَميٍّ كأنَّـهُ

وقالت العرب: ما هو إلاّ شيطان الحَمَاطة، ويقولون: ما هو إلاّ شيطان يريدون القبح؛ وما هو إلاّ شيطان، يريدون الفِطنة وشدَّة العارضة.
وروي عن بعض الأعراب في وقعة كانت: واللّه ما قتلْنا إلاَّ شَيطَانَ بَرِصاً، لأنَّ الرجل الذي قاتلهم كان اسمه شيطان، وكان به برص.
وفي بني سعد بنو شيطان، قال طفيلٌ الغنوي:

وشيطان إذ يدعوهم ويُثَوِّب

وقال ابن مَيّادة:

تغنَّت شياطيني وجُنَّ جُنونُها

 

فلما أتاني ما تَقُول محاربٌ

وقال الراجز:

وكانَ في العين نُبوٌّ عنِّي

 

إنِّي وإن كنتُ حديثَ السِّنِّ

 

 

فإنَّ شيطاني كبيرُ الجِنَّ

وقال أبو النَّجم:

شَيطانُه أُنثى وشَيطانِي ذَكَرْ

 

إنِّي وكلَّ شاعرٍ من البَشَـرْ

وهذا كلُّه منهم على وجه المثل، وعلى قول منظور بن رَواحَة:

مسبُّ عُويفِ اللؤم حيَّ بني بَـدْرِ

 

أتاني وأهلي بالدِّماخ فـغَـمْـرَةٍ

شياطينُ رأسي وانتشَيْنَ من الخَمْر

 

فلما أتاني ما يقولُ تـرقَّـصـتْ

خرافة العذرى وقد رويتم عن عبد اللّه بن فايد بإسنادٍ له يرفعه قال: خرافة رجل من بَني عذرة استهوته الشياطين، فتحدَّث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً بحديث فقالت امرأةٌ من نسائِه: هذا من حديثِ خُرافة قال: لا وَخُرَافَة حقّ.
حديث عمر مع الذي استهوته الجن ورويتم أنَّ شريك بن خُباسة دخَلَ الجنَّةَ وخرجَ منها ومعه ورقةٌ من وَرَقِها، وأنَّ عمر سأل الرجل المفقود الذي استهوته الجنُّ فقال: ما كان طعامهم? قال: الفول والرِّمَّة، وسأل عن شرابهم فقال: الجدَف، وقال الأعشى:

لأعلمُ من أمسَى أعقَّ وأحْوَبـا

 

وإني ومَا كلّفتموني وربِّـكـم

وما ذنبه أنْ عَافت الماءَ مَشْرَبا

 

لكالثَّورِ والجِنيّ يضرِب ظَهْرهُ

من خنقته الجن، ثم عود إلى الحوار وزعَمتم أنَّ الجنَّ خنقت حرْبَ بن أمية، وخنقت مِرداسَ بن أبي عامر، وخنقت الغَريض المغنِّي، وأنَّها قتلت سعد بن عبادة، واستهوت عمرو بن عدي واستهوت عمارة بن الوليد، فأنتم أمْلياءُ بالخرافات أقوياءُ على ردِّ الصحيح وتصحيح السقيم، وردِّ تأويل الحديث المشهورِ إلى أهوائكم، وقد عارضْناكم وقابلناكم وقارضْناكم. وقالوا: في الحديث أنّ من اقتنى كلباً ليسَ بكلْب زرْعٍ ولا ضرْع ولا قَنص فقد أَثِم، فهاتوا شيئاً من جميع الحيوان يصلح للزرْع والضَّرْع والقنص، وبعد فهل اتخذوا كلبَ الضَّرْع إلاّ ليحرسَ الماشيةَ وأولادَها من السباع? وهل عند الكلبِ عند طروق الأسد والنمر والذئاب وجميع ما يقتات اللُّحمانَ من رؤساء السباع، إلاَّ صياحَه ونباحَه وإنذاره ودلالته، وأنْ يشغلَها بعضَ الشَّغْل، ويهجهج بها بعض الهجهجة، إلى أن يلحق بها من يحميها، ويتوافى إليها من يذود عنها، إذ ليس في هذا القياس أنّا متى وجدنا دهراً تكثُر فيه اللصوص ويفشو فيه السُّرَّاق، وتظهر فيه النُّقوب، ويشيع فيه التسلُّق، ممَّن إذا أفضى إلى منزلِ القوم لم يرضَ إلا بالحريبة ليس دونها شيء، أو يأتي على الأنفس، وهو لا يصل إلى ما يريدُ حتى يمرَّ على النساء مكشَّفات، ومَن عسى إذا أخذ المرأةَ أخذَ يدٍ ألاَّ يرضى أن يتوعَّد بذبح الأولاد وأن يُتَّقى بالمال، حتَّى يذبح، ومن عسى إن تمكّن شيئاً أو أمنَ قليلاً، أن يركب الحُرَم بالسَّوءَة العظمى وبالتي لا شَوَى لها، فهذا الحال أحقُّ بالحِراسة من تلك الأحوال.
وبعد فلِمَ صار نساءُ الحرمَين يتزاوَرْن ليلاً، ونساء المصرَين يتزاورن نهاراً، ونساء الحرمين لا يرين نهاراً، ونساء المصرَين لا يُريْنَ ليلاً؛ إلاَّ للمكابرات ولمكانِ كثرةِ من يستقفي ويتحوّب للنقب والتسلُّق، وإذا كان الأمر كذلك فأيُّ الأمورِ أحقُّ بالتحصين والحياطة، وأيُّهما أشبه بالتغرير والإضاعة: اتخاذ الكلاب التي لا تنام عند نوم من قد دأب نهاره، أو ترك اتخاذها? ويقَظة السُّرَّاق على قدر المسروقين.
وعلى أنّا لو حُلنا بين حَرس الأسواق وما تشتمل عليه من حرائب الناس، وبين اتِّخاذ الكلاب، لامتنعوا من ضَمان الحراسة، ولامتنع كلُّ محروس من إعطائهم تلك الأجرة، ولوجَد اللصوصُ ذلك من أعظم الغُنْم وأجود الفُرص، أو ما تعلمون أنَّ هذا الحريم، وهذه الحرمات وهذه العقائل من الأموال، أحقُّ بالمنْع والحِراسة والدَّفع عنها بكلِّ حيلة، منْ حفظ الغنم وحريمِ الراعي وحُرمة الأجيرِ? وبعد فإنَّ الذئابَ لا تجتمع على قطيعٍ واحد، والذي يُخاف من الذئب السَّلَّة والخطفة، والاستلابُ والاختلاس، والأموالُ التي في حوانيت التجار وفي منازل أهلِ اليسار يأتيها من العدد والعُدّة، ومن نُجب أصحاب النجدة، من يحتملها بحذافيرها، مع ثقل وزنها وعظم حجمها، ثمَّ يجالدون دون ذلك بسيوف الهند وبالأذرع الطوال، وهم من بين جميع الخليقة لَولاَ أنّهم قد أحسُّوا من أنفسهم الجراءَة وثباتَ العزيمة، بما ليس من غيرهم، لكانوا كغيرهم، ولولا أنَّ قلوبَهم أشدُّ من قلوب الأسْد لما خَرَجوا، على أنّ جميع الخلق يطالبونهم، وعلى أنّ السلطانَ لم يُوَلَّ إلاّ لمكانهم، والكلابَ لم تُتَّخَذْ إلا لِلإنْذَارِ بهم، وعلى أنَّهم إذا أُخذوا ماتوا كراماً.
ولعلَّ المدينةَ قد كانت في ذلك الدهر مأموناً عليها من أهل الفساد وكان أكثرُ كلابها عَقوراً، وأكثرُ فِتيانها من بين مُهارشٍ أو مقامرٍ، والكلبُ العَقورُ والكلْب الكَلِبُ أشدُّ مضرَّةً من الذئب المأمورِ بقتله.
وقد يعرض للكلاب الكلَب والجنون لأُمور: منها أن تأكلَ لحوم الناس، ومنها كالجنون الذي يعرِض لسائر الحيوان.
قتل العامة للوزغ وجُهَّالُ النَّاسِ اليوم يقتلون الوَزَغ، على أنَّ آباءَها وأمهاتها كانت تنفُخ على نار إبراهيم، وتنقُل إليها الحطب، فأحسَب أنَّ آباءها وأمَّهاتِها قد كنَّ يعرفن فصْل ما بين النبيِّ والمتنبِّي، وأنَّهن اعتقدْن عداوة إبراهيم، على تقصيرٍ في أصل النظر، أو عن معاندةٍ بعد الاستبانة حتَّى فعلنَ ذلك - كيف جاز لنا أن تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى? إلاَّ أن تدَّعوا أنَّ هذه التي نقتلها هي تلك الجاحدةُ للنبوَّة، والكافرةُ بالربوبيّة، وأنَّها لا تتناكح ولا تتوالد.
وقد يستقيم في بعض الأمرِ أن تقتلَ أكثر هذه الأجناس، إمَّا من طريق المحنة والتعبُّد وإمّا إذ كان اللّه عزّ وجلّ قد قضى على جماعتها الموتَ، أن يجريَ ذلك المجرى على أيدي الناس، كما أجرى موت جميع الناس على يد ملك واحد، وهو ملك الموت. وبعد فلعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذا القول إن كان قاله، على الحكاية لأقاويل قوم، ولعلَّ ذلك كان على معنًى كان يومئذٍ معلوماً فتَرَك النَّاسُ العِلَّة ورووا الخبر سالماً من العِلل، مجرَّداً غير مضمّن.
ولعلَّ مَن سمع هذا الحديث شهِد آخرَ الكلام ولم يشهد أوَّلَه، ولعلَّه عليه الصلاة والسلام قصَد بهذا الكلام إلى ناسٍ من أصحابه قد كان دار بينهم وبينه فيه شيء، وكلُّ ذلك ممكنٌ سائغٌ غير مستنكَر ولا مدفوع.
وقد رويتم في الفواسق ما قد رويتم في الحيَّة والحدأة والعقرب والفأرة والغراب، ورويتم في الكلب العَقور، وكيف يُقتلْنَ في الحِل والحرَم، فإنْ كنتم فُقهاءَ فقد علمتم أنَّ تسميةَ الغراب بالفِسق، والفأرة بالفُويسِقة؛ أنّ ذلك ليس من شكل تسمية الفاسق، ولا من شكل تسمية إبليس، وقد قالوا: ما فجرها إِلاَّ فاجر، ولم يجعلوا الفاجر اسماً له لا يفارقه، وقد يقال للفاسق من الرجال: خبيث، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا وهو على غير قوله عزّ وجلَّ "الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ"، وقد قال بعضُ الرُّجَّاز وذكر ذئباً:

إذْ أنَا بالغَائِطِ أَسْتَغِـيثُ

 

أما أتاكَ عَنِّيَ الـحَـدِيثُ

وصِحْتُ بِالْغَائِطِ يا خَبِيثُ

 

والذئبُ وَسْطَ غَنَمِي يَعِيثُ

وهذا الباب كثير، وليس هذا موضعه، وقد ذكرناه في كتاب الاسم والحكم.
وقد يشبه الاسمُ الاسمَ في صورةِ تقطيع الصوت، وفي الخطِّ في القرطاس، وإن اختلفت أماكنُه ودلائله، فإذا كان كذلك فإنَّما يعرف فضلُه بالمتكلِّمين به، وبالحالات والمقالات، وبالذين عُنُوا بالكلام، وهذه جملةٌ، وتفسيرها يطول.
القتل والقصاص وقالوا: قد أُمِرْنا بقتل الحيَّة والعقرب، والذئب والأسد، على معْنًى ينتظم معنَيْين: أحدهما الامتحان والتعبُّد بفكر القلب وعمل الجارحة، لا على وجه الانتقام والعقوبة، وأُمرنا بضرب الباغي بالسيف إذا كانت العَصَى لا تُغني فيه على جهة الدَّفْع وعلى جهة العقاب، ولم نُؤمَرْ بالقصد إلى قتله، وإنَّما الغاية في دفع بأسِه عنا، فإن أتى إلى ذلك المقدار عليه، كان كسارقٍ ماتَ من قطع يده، وقاذفٍ ماتَ عن جَلد ظهره، وقد أُمِرْنا بالقصد إلى قتل الحيَّات والعقارب وإن لم تعرض لنا في ذلك الوقت؛ لأنَّ جنسَها الجنسُ المتلف متَى همَّ بذلك، وليس لنا أن نضربَ الباغيَ بالسَّيف إلاَّ وهو مقبلٌ غيرُ مدبر، ولنا أن نقتل الحيَّة مقبِلةً ومدبرة، كما يُقتل الكافرُ مقبِلاً ومدبراً؛ إلاَّ أنَّ قتلَ الكافر يجمع الامتحان والعقوبة، وليس في قتل الحية إلاّ الامتحان، وقد كان يجوز أن تمتَحَن بحبسها والاحتيالِ لمنعها، دونَ قتلها، وإذا ولَّى الباغِي من غير أن يكون يريد الرجوع إلى فئة، فحكمه الأسر والحبس أبداً إلى أن يُؤْنَسَ منه النُّزوعُ، وسبيل الأحناشِ والسِّباع وذواتِ السموم من الهمَج والحشرات، القتلُ مقبلةً ومدبرة، وقد أبيح لنا قتلُ ضروبٍ من الحيوان عندما يبلُغ من جناياتها علينا الخدش، فضلاً من الجرح والقتل، كالبعوض والنمل، والبراغيث والقمل.
والبعيرُ قتلهُ فسادٌ، فإن صال على الناس كان قتلُه صلاحاً، والإنْسان قتله حرام، فإن خيفَ منه كان قتلُه حلالاً.

طائفة من المسائل

والحديث عن مسخ الضَّبِّ والجِرِّيِّ، وعن مسخ الكلاب والحُكَأَةِ وأنَّ الحمامَ شيطان، من جنس المُزاح الذي كنَّا كتبنا به إلى بعض إخواننا ممَّن يدَّعي علمَ كلِّ شيء، فجعلنا هذه الخرافاتِ وهذه الفطنَ الصغارَ، من باب المسائل. فقلنا له: ما الشِّنِقْناقُ والشَّيْصَبانُ وتنكوير ودركاذاب ومَن قاتل امرأة ابنِ مقبل? ومن خانق الغَريض? ومن هاتف سعد? وخبِّرنا عن بني أُقيش وعن بني لبنى، ومَن زَوْجُها? وعن بني غَزْوان ومَن امرأته? وعن سملقة وزَوبعة، والميدعان، وعن النقار ذي الرقبة وعن آصف، ومن منهم أشار بأصفر سليم، وعن أطيقس اسم كلب أصحاب الكهف، وكيف صارت الكلابُ لا تنبح من سمَّاه? وأين بلغ كتَابُ شَرطهم? وكيف حدَّثوا عن ابن عباسٍ في الفأر والقرد والخنزير والفيل والأرنب والعنكبوت والجِرِّيِّ، أنَّهنَّ كلَّهنّ مِسخ؛ وكيف خُصَّت هذه بالمِسخ? وهل يحلُّ لنا أن نُصدِّق بهذا الحديث عن ابن عبَّاس? وكيف صارت الظباءُ ماشيةَ الجنّ? وكيف صارت الغِيلان تُغيِّر كلَّ شيء إلاَّ حوافرَها? ولم ماتت من ضربةٍ وعاشتْ من ضربتين? ولم صارت الأرانب والكِلاب والنَّعامُ مراكبَ الغيلان? ولم صارت الرواقيد مطايا السَّواحر? وبأي شيء زوَّج أهلُ السّعلاة ابن يربوع? وما فرق ما بينه وبين عبد اللّه بن هلال? وما فعلت الفتاة التي كانت سميت بصبر على يد حرمي وأبي منصور? ولم غضِب من ذلك المذهب? ولم مضى على وجهه شفشف? وما الفرق بين الغِيلان والسّعالي، وبين شيطان الخضراء وشيطان الحَماطة? ولم عُلق السمك المالح بأذنابه والطريّ بآذانه، وما بالُ الفراخِ تُحمَل بأجنحتها والفراريج بأرجلها? وما بال كلِّ شيء أصلُ لسانه ممّا يلي الحلق وطرفه ممَّا يلي الهواء، إلاَّ لسان الفيل? ولم قالت الهند: لولا أنَّ لسانه مقلوب لتكلَّم? ولم صار كلُّ ماضغٍ وآكلٍ يُحرِّك فكَّه الأسفل، إلا التمساح فإنه يحرِّك فكَّه الأعلى? ولم صار لأجفان الإنسان الأشفار، وليس ذلك للدواب إلاّ في الأجفان العالية? وما بالُ عين الجَرادة وعين الأفعى لا تدوران? وما بيضة العُقْر وما بيضة الديك? ولم امتنع بيض الأنوق? وهل يكون الأبلق العقوق? وما بال لسانِ سمكِ البحر عديماً? وما بال الغريقِ من الرِّجال يطفو على قفاه، ومن النساء على وجهه? ولم صار القتيل إذا قُتل يسقط على وجهه ثم يقلبه ذكَرُه؛ وأين تذهب شِقشِقة البعير وغُرمول الحمار والبغْل وكبِدُ الكوسج بالنهار، ودَمُ الميت? ولم انتصب خَلْق الإنسان من بين سائر الحيوان? وخبِّرني عن الضفادع، لم صارت تنقُّ بالليل وإذا أُوقدت النارُ أمسَكَت?.
وقالوا: قد عارضناكم بما يجري مجرى الفساد والخُرافة، لنردَّكم إلى الاحتجاج بالخبَر الصحيح المخرج للظاهر.
فإن أعجبتك هذه المسائلُ، واستطْرَفتَ هذا المذهب، فاقرأ رسالتي إلى أحمد ابن عبد الوهاب الكاتب، فهي مجموعةٌ هناك.

أصناف الكلاب

والكلاب أصنافُ لا يحيط بها إلاّ من أطالَ الكلام، وجملة ذلك أنّ ما كان منها للصيد فهي الضِّراء، وواحدها ضِروة، وهي الجوارح والكواسب، ونحن لا نعرفها إلاَّ السَّلُوقيّة؛ وهي من أحرار الكلاب وعتاقها، والخِلاسية هجنها ومقاريفها، وكلابُ الرعاءِ من زينيّها وكرديها فهي كرادتها.
وقد تَصيد الكلابُ غيرُ السَّلوقيّة، ولكنَّها تقصِّر عن السَّلوقيّة بعيداً، وسَلوق من أرض اليمن كان لها حديدٌ جيِّد الطبع، كريم العنصر حرُّ الجوهر، وقد قال النابغة:

وتوقِد بالصُّفَّاح نارَ الحُباحِبِ

 

تَقدُّ السَّلوقيَّ المضاعَفَ نَسْجُه

وقال الأصمعيّ: سمعتُ بعضَ الملوك وهو يركض خلفَ كلْبٍ وقد دنا خَطمه من عَجْب ذنب الظبي وهو يقول: إيه فدتكَ نفسي!! وأنشد لبعض الرجاز:

مفدَّيات وملعَّنات

قال صاحب الديك: فلمَّا صار الكلبُ عندهم يجمع خصالَ اللؤم والنَّذالة، والحرصِ والشَّره، والبَذاء والتسرُّع وأشباه ذلك، صاروا يشتقُّون من اسمه لمن هجَوه بهذه الخصال، وقال بشَّار:

لم يَبقَ قبلَك لامرئٍ ذَهبُهْ

 

واستَغْنِ بالوجَبات عن ذَهبٍ

والليثُ يبعثُ حَيْنَه كَلَبُـهْ

 

يرِدُ الحريص على متالفـه

ما اشتق من اسم الكلب

قال صاحب الكلب: لَما اشتقُّوا من اسمه للأشياء المحمودة أكثر؛ قال عامر بن الطفيل:

محمرَّةٍ عيناهُ كالكلْبِ

 

ومدجَّجٍ يسعَى بشِكَّتِه

ومن ولد ربيعة بن نزار كلب بن ربيعة، وكلاب بن ربيعة، ومكالب بن ربيعة، ومكلبة بنو ربيعة بن نزار، وفيهم من السباع أسَد، وضُبيعة، وذئب، وذؤيب، وهم خمسة عشر رجلاً؛ ثمانية من جميع السباع، ومن الثمانية أربعة مشتقَّة من اسم الكلب، ومن هذا الباب كليب بن يربوع، وكلاب بن ربيعة، وكلب بن وَبرة، ومنه بنو الكلبة، قال الشاعر:

بنو الكلبةِ الشمُّ الطوالُ الأشاجعِ

 

سَيكْفِيك من ابني نزارٍ لراغـبٍ

والكلبة لقب ميَّة بنت عِلاج بن شَحْمة العنبريّ، وبنوها بنو الكلبة الذين سمعتَ بهم - تزوَّجها خُزيمة بن النعمان من بني ضُبَيعة بن ربيعة بن نزار، فهي أمُّهم، وفيها يقول شُبَيل بن عَزْرة الضُّبَعي صاحب الغريب - وكان شِيعيّاً من الغالية، فصار خارجيًّا من الصُّفرية -:

خُزَيمةُ عبدٌ خاملُ الأصل أوكَسُ

 

بنو كـلـبةٍ هـرَّارة وأبُـوهُـمُ

وفي مَيَّة الكلبة يقول أبوها، وهو عِلاج بن شحمة:

فقد كان مِمَّا لا يُمَـلُّ مَـزَارُهـا

 

إنْ تكُ قد بـانـت بـمـيَّةَ غـربة

وما كان يُشكى في المحول جِوارُها

 

دعتْها رجالٌ من ضُـبَـيعة كَـلْـبةً

ومما اشتقَّ له من اسم الكلب من القُرى والبُلدان والناس وغير ذلك، قولهم في الوقْعة التي كانت بإرمِ الكلبة، ومن ذلك قولهم: حين نزلنا من السَّراة صرنا إلى نجد الكلبة.
وكان سبب خروج مالك بن فَهم بن غَنْم بن دَوس إلى أزد شنوءة من السراة أنّ بني أخته قتلوا كلبةً لجاره، وكانوا أعَدَّ منه فغضب ومضى، فسمِّي ذلك النجد الذي هَبط منه نَجْد الكَلْبة.
وبطَسُّوج بادُوريا نهر يقال له: نهر الكلبة ويقولون: كان ذلك عند طلوع كوكب الكلب، ومن ذلك قولهم: عبَّاد بن أنْف الكلب، ومن ذلك أبو عُمَرَ الكلبُ الجَرميّ النحوي، وكان رجلا من العِلية عالماً، عَروضيّاً نحويّا فرضيّاً، وعَلُّويه كلب المطبخ، وكان أشربَ الناس للنبيذ، وقد راهنوا بينه وبين محمَّد بن عليّ.
والكلب: كلب الماء، وكلب الرحى والضبة التي يقال لها الكلب، وكذلك الكُلْبة والكَلْبتان، والكُلاّب والكَلُّوب.
وقال راشد بن شِهابٍ في ذلك المعنى:

وأخضِب ما يبدو منَ استاهها بِدَمّ

 

أُمكِّن كُلاَّب القنا من ثغـورهـا

وقال:

إذا كلْبتا قَينٍ ومِقْرَاضُـهُ أَزَمْ

 

فسوفَ يرى الأقوامُ ديني ودينَكم

وقال الراجز:

له على العَيرِ إكافٌ وثَفَرْ

 

ما زالَ مذْ كَان غُلاماً يستتر

 

 

والكَلْبَتَانِ والعَلاةُ والوَتَـرْ

وقال أشهب بن رُميلة، وكان أوَّلَ من رمى بني مجاشع بأنَّهم قُيون:

وعَرَقُ القَينِ على الخَيلِ نَجَسْ

 

يا عجبَا هل يركبُ القَيْنُ الفَرَسْ

الكلبتان والعَلاةُ والـقَـبَـسْ

 

وإنَّـمـا أداتـه إذا جَـلَــسْ

وكان اسم المزنوق فَرَسِ عامر بن الطفيل: الكلب.
وقد زعمت العلماء أنَّ حرب أيَّام هَراميت إنَّما كان سببه كلب.
قال صاحب الديك: قد قيل للخوارج: كلاب النار، وللنوائح: كلاب النار.
وقد قال جَندلُ بن الراعي لأبيه في وقوفِه على جرير: ما لكَ تُطيل الوقوفَ على كلبِ بني كليب?! وقال زفر بن الحارث:

وأصابكمْ مِنَّا عذابٌ مُـرسَـلُ

 

يا كلبُ قد كَلِب الزَّمانُ عليكُـمُ

بمنَابِتِ الزَّيتونِ وابْنِي بَحْـدلُ

 

إنَّ السَّماوة لا سماوةَ فالحقـي

أرضٌ تذوبُ بها اللِّقاحُ وتُهزَلُ

 

وبأرض عكٍّ في السواحل إنَّها

وقال حُصين بن القعقاع يرثي عُتيبة بن الحارث:

بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بن شِهابِ

 

بكَرَ النّعيُّ بخيرِ خِنْدِفَ كلِّها

فشَفَى الغليلَ ورِيبةَ المرتابِ

 

قتلُوا ذُؤَاباً بعد مقتلِ سَبْـعةٍ

كَلِبٌ بِضرب جماجِم ورِقابِ

 

يوم الحليس بذي الفَقَارِ كَأَنَّه

وقال آخر:

وكلُّ جارٍ على جيرانه كَلِـبُ

 

للّه درُّ بني الحَدّاءِ مِـنْ نَـفَـرٍ

كما تَنَصَّبُ وسَطَ البِيعة الصُّلُبُ

 

إذا غَدوْا وعِصِيُّ الطَّلْح أرجُلُهم

وإذا كان العُود سريع العُلوق في كلِّ زمانٍ أوْ كلِّ أرض، أو في عامَّة ذلك قالوا: ما هو إلاَّ كلب.
وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم في وزرِ بن جابر حين خرجَ من عندِه واستأذنه إلى أهله: نعم إن لم تدركْه أمُّ كلْبة يعني الحمَّى.
وممَّا ذكروا به العضو من أعضاء الكلب والكلبة والخلق منهما أو الصفة الواحدة من صفاتهما، أو الفعل الواحد من أفعالهما، قال رؤبة:

لاقيت مَطْلاً كَنُعَاسِ الْكَلْبِ

يقول: مطلا مُقَرْمَطاً دائِماً، وقال الشاعر في ذلك:

كَعينِ الكلب في هُبًّى قِبَاعِ

 

يكون بها دليلَ القومِ نجـمٌ

قال: هذه أرضٌ ذات غبرة من الجدب لا يبصر القوم فيها النجم الذي يُهتَدى به إلاّ وهو كأنّه عين الكلب، لأنّ الكلب أبداً مُغمِضٌ غير مطبق الجفون ولا مفتوحها، والهُبّى: الظلمة واحدها هابٍ، والجمع هُبًّى مثل غازٍ وغُزًّى، والقِباع: التي قَبعت في القتام، واحدها قابع، كما يقبَع القنفذ وما أشبهه في جُحره، وأنشد لابن مقبل:

قُبُوعَ القَرنْبى أخلفته مجاعره

 

ولا أطرقُ الجاراتِ باللَّيل قابعاً

والقبوع: الاجتماع والتقبُّض، والقَرنْبى: دُوَيْبَّة أعظم من الخُنَفساء.

شعر في الهجاء له سبب بالكلب

وقال الآخر في صفة بعض ما يعرض له من العيوب:

أم بُلتَ حيثُ تناطَحَ البحرانِ

 

ما ضَرَّ تغلبَ وائلٍ أهجوتَها

كلبٌ عَوَى متهتِّم الأسْنـانِ

 

إنّ الأَراقم لا ينالُ قديمَـهـا

وقال الشاعر في منظور بن زَبَّان:

في الأُمَّهاتِ عِجَانُ الكَلْبِ مَنْظورُ

 

لبئس ما خَلَّفَ الآبـاءُ بـعـدَهُـمُ

ومن هذا الضرب قول الأعرابيّ:

لصغري فتًى من أهلها لا يَزينها

 

لقد شَانَ صغري والياهـا وزَيَّنَـا

يعذِّب فيها نفسَـه ويُهـينُـهـا

 

كلاب لعاب الكلب إن ساق هَجْمة

وقال عمرو بن معدِ يكرِب:

وجوهُ كِلابٍ هارشَتْ فازبأَرَّتِ

 

لحا اللّهُ جَرْماً كلَّما ذَرَّ شـارِقٌ

وقال أبو سفيان بن حرب:

ولم أجْعَل النَّعماءَ لابن شَـعـوب

 

ولو شئتُ نجَّتني كُميتٌ طِـمِـرَّة

لدنْ غدوةً حتّى دنَـتْ لِـغُـروبِ

 

وما زال مُهري مَزْجَرَ الكلبِ مِنهمُ

وقال عبد الرحمن بن زياد:

من الطرف حتى خاف بَصبصَةَ الكَلبِ

 

دعَتْه بمسـرُوق الـحـديث وظـالـعٍ

وقال شريح بن أوس:

وزادك أير الكَلْبِ شيَّطه الجمرُ

 

وعيَّرْتَنا تمْرَ العراقِ ونخْـلَـه

وقال آخر وهو يهجو قوماً:

كرادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ

 

فجاءا بخرشَاوَي شعيرٍ عَلَيْهمـا

وقال الحارث بن الوليد:

هَشُّوا وقالُوا: مَرحباً بالمقْبِـلِ

 

ذهب الذين إذا رأَوني مُقـبِـلاً

وَلْغُ الكلاب تهارَشَتْ في مَنْهَل

 

وبقيتُ في خَلْفٍ كأنَّ حديثَـهـم

وقال سَبْرة بن عمرو الفقعسيّ، حين ارتشى ضَمْرة النهشلي، ونفر عليه عباد بن أنف الكلب الصيداوِيّ فقال سبرة:

والحكْمُ مَسؤول به المتعـمَّـدُ

 

يا ضَمْرُ كيفَ حكمتَ أمُّك هابلٌ

أم هل سمعتَ بمثلها لا يُنشـدُ

 

أحفِظتَ عهداً أم رَعيت أمـانةً

تَغُور به الرفـاق وتُـنْـجِـد

 

شَنعاءَ فاقِرة تجلِّلُ نـهـشـلاً

فلك اللقاء وراكبٌ متـجـرِّد

 

إنَّ الرِّفاقَ أمال حكمك حبُّـهـا

كلبٌ يبصبِص للعِظال ويَطْرُدُ

 

فضح العشيرةَ واستمرَّ كـأنّـه

خَرْطُ القَتادِ تَهابُ شوكَتَها الـيدُ

 

لا شيءَ يعدِلُها ولكنْ دونَـهـا

غَلِمٌ يثورُ على البراثن أَعْـقَـدُ

 

جوْعانُ يلحَس أَسكَـتَـا زيفـيَّة

وقال مزرِّدُ بن ضرار:

تَهِرُّ عليها أمُّكمْ وتُكـالِـبُ

 

وإنَّ كناز اللَّحْمِ من بَكَرَاتِكمْ

لتَقرِيَه بالتْ عليه الثَّعالـبُ

 

وليتَ الذي ألقى فناؤك رحلَه

وهذان البيتان من باب الاشتقاق لا من باب الصفات وذِكْرِ الأعضاء، وقال:

يا أيرَ كلبٍ مُوثَقٍ بِبـابِ

 

يا سبْرُ يا عبدَ بني كِـلابِ

يا وَرَلاً رَقْرَقَ في سرابِ

 

أكان هـذا أوَّلَ الـثَّـوابِ

 

 

لا يَعْلِقَنْكمُ ظُفري ونابي

وقال الآخر:

حجارةُ خارئٍ يَرمي الكِلابَا

 

كأنّ بني طُهَيّةَ رهطَ سَلْمَى

وقال صاحب الكلب: ومما اشتقَّ من اسم الكلب في موضع النباهة، كليب بن ربيعة، هو كليب وائلٍ، ويقال إنّه قِيل في رجلين من بني ربيعة ما لم يُقَلْ في أحدٍ من العرب، حتَّى ضُرب بهما المثل، وهو قولهم: أعزُّ من كليبِ وائل، والآخر: لا حرَّ بوادِي عَوْف.
قالوا: وكانت ربيعة إذا انتجعت معه لم توقد ناراً ولم تحوِّضْ حوضاً، وكان يحمي الكلأ ولا يُتَكَلَّمُ عندَهُ إلاَّ خفضاً، ويجير الصيد ويقول: صيدُ أرضِ كذا وكذا في جواري لا يباح، وكان له جرو كلب قد كَتَعه فربما قذَف به في الروضة تعجبُه، فيحميها إلى منتهى عوائه، ويلْقيه بحريم الحوض فلا يرِدُه بعير حتَّى تصدُرَ إبله.

ما قيل من الشعر في كليب

وفي ذلك يقول معبَد بن شعبة التميمي:

وأنِّي سأُعطيه الذي كنتُ أمنـعُ

 

أظنَّ ضِرارٌ أنَّني سـأُطـيعـه

وقد كادَ غيظاً وجهُه يتبـضَّـع

 

إذِ اغرورقت عيناه واحمرّ وجهُه

ذراعاً إذا ما قُدِّمَتْ لك إصبـع

 

تقدَّم في الظلم المُبـيِّن عـامِـداً

يخلط أكلاءَ الـمِـياه ويَمـنَـعُ

 

كفعلِ كُليبٍ كنت أنـبـئت أنَّـه

أرانب ضاح والظباءَ فتـرتَـعُ

 

يُجير على أفناءِ بكـرِ بـن وائل

وقال دريد بن الصمة:

بحبلٍ كلبَه فيمـن يمـيحُ

 

لعمرُكَ ما كُليبٌ حين دلّى

وكلُّ عدوِّهم منهم مريح

 

بأعظَم من بني سفيان بَغْياً

وقال العبَّاس بن مرداس:

من العزِّ حتى طاح وهو قَتيلُها

 

كما كان يبغيها كليبٌ بظلـمِـه

وإذ يُمنَع الأكلاءَ منها حلولُهـا

 

على وائل إذْ يُنزِل الكلب مائحاً

وقال عباس أيضاً لكُليب بن عهمة الظفريّ:

والظلمُ أنكدُ وجْهُه ملعـونُ

 

أكُليبُ إنَّكَ كلَّ يوم ظـالـم

يومَ الغديرِ سَمِيُّكَ المطعونُ

 

تبغِي بقَومِك ما أرادَ بـوائل

في صَفْحتَيك سنانُه المسنونُ

 

وإخالُ أنَّك سوفَ تَلْقَى مثلَها

وقال النابغة الجعدي:

وأيسرَ ذنباً منك ضُرِّجَ بالـدَّمِ

 

كليبٌ لَعمري كان أكثرَ ناصِراً

كحاشيةِ البُرد اليماني المسهَّـم

 

رَمَى ضَرْع نابٍ فاستمر بطَعْنةٍ

وقال قَطِران العبشَميُّ، ويقال العبشي:

حِمَى وائلٍ حَتَّى احتداه جَهولُهـا

 

ألم تر جسَّاسَ بن مُـرَّة لـم يَرِدْ

جدَت وائلا حتَّى استخفَّت عقولها

 

أجرَّ كليباً إذ رمى النابَ طعـنةً

وللـدَّهـرِ والأيَّامِ والٍ يُدِيلـهـا

 

بأهون مما قلت إذ أنـت سـادِرٌ

وقال رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة:

بقتل كُليبٍ إذ طغى وتَخـيَّلا

 

نحن أَبَسْنَا تغلـبَ ابـنةَ وائلٍ

فأصبَحَ موطوءَ الحِمى متذلِّلا

 

أبأناه بالنَّابِ التي شقَّ ضَرعها

وقال رجل من بني سَدوس:

لها حولَ أطنابِ البيوتِ هَريرُ

 

وأنت كليبيٌّ لكلـيبٍ وكـلـبةٍ

وقال ابن مقبل العَجلاني:

وأَنْ أصـبـحـوا مـنـهـم شَـريدٌ وهــالـــكُ

 

بكـتْ أمُّ بـكـرٍ إذْ تـبـدَّدَ رهـــطُـــهـــا

لوَ أنَّ الـمـنـايا حـالُـهـا مـتـمـــاســـكُ

 

وإنَّ كـلا حـــيَّيكِ فـــيهـــم بـــقـــية

 

 

كلاب وكعب لا يبيتأخوهمذليلاً ولا تُعيِي عليه المسالكُ

وقال رجل من بني كلاب من الخوارج، لمعاوية بن أبي سفيان:

لو كان فيهم غلامٌ مثلُ جسَّاسِ

 

قد سِرتَ سَيْرَ كُليبٍ في عشيرتِه

كطرّة البرد أعيا فتقُها الآسـي

 

الطاعن الطعنة النجلاء عانِدُهـا

هون من تبالة على الحجاج  وقال أبو اليقظان في مثل هذا الاشتقاق: كان أوَّل عمل ولِيه الحجّاج بن يوسف تَبالة، فلما سار إليها وقرُب منها قال للدليل: أين هي، وعلى أيّ سمت هي? قال: تسترك عنها هذه الأكمة، قال: لا أُراني أميراً إلاَّ على موضعٍ تسترني منه أكمة، أهوِنْ بها عليّ? وكرَّ راجعاً، فقيل في المثل: أهْوَنُ مِنْ تَبَالَةَ عَلَى الحَجاج.
والعامة تقول: لهو أهونُ عَلَيَّ من الاعراب على عركوك.

الحجاج والمنجم حينما حضرته الوفاة

قال: ولمّا حضرت الحجاج الوفاةُ وقد وليَ قبل ذلك ما وليَ، وافتتح ما افتتح، وقتل من قتل، قال للمنجِّم: هل ترى ملكاً يموت? قال: نعم ولستَ به، أرى ملكاً يموتُ اسمه كُليب، وأنتَ اسمُك الحجَّاج قال: فأنا واللّه كليبٌ، أمِّي سمَّتْني به وأنا صبيّ، فمات، وكان استخْلَفَ على الخراج يزيد بن أبي مسلم، وعلى الحرب يزيد بن أبي كبشة.
ما كان العرب يسمون به أولادهم قال: والعرب إنَّما كانت تسمِّي بكلب، وحمار، وحجر، وجُعَل، وحنظلة، وقرد، على التفاؤل بذلك، وكان الرجل إذا وُلد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل، فإِن سمع إنساناً يقول حجراً، أو رأى حجراً سمَّى ابنَه به وتفاءل فيه الشدَّة والصلابة، والبقاء والصبر، وأنَّه يحطم ما لقى، وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً أو رأى ذئباً، تأوَّل فيه الفطنة والخِبَّ والمكرَ والكسب، وإن كان حماراً تأوَّل فيه طولَ العُمر والوقاحة والقوَّة والجَلَد، وإن كان كلباً تأوَّل فيه الحِراسة واليَقَظة وبُعْدَ الصوت، والكسبَ وغير ذلك.
ولذلك صوَّر عبيد اللّه بن زياد في دِهليزه كلباً وأسداً، وقال: كلب نابح، وكبش ناطح، وأسد كالح، فتطيَّر إلى ذلك فطارت عليه.
وقال آخر: لو كان الرجل منهم إنَّما كان يسمِّي ابنَه بحجر وجبل، وكلب، وحمار، وثور، وخنزير، وجُعَل، على هذا المعنى فهلاَّ سمَّى بِبِرْذون، وبغل، وعُقاب، وأشباه ذلك؛ وهذه الأسماء من لغتهم.
قال الأوّل: إنَّما لم يكن ذلك، لأنّه لا يكاد يرى بغلاً وبِرذوناً، ولعلَّه لا يكون رآهما قط، وإن كانت الأسماء عندهم عتيدة لأمورٍ لعلّهم يحتاجون إليها يوماً ما.
قالوا: فقد كان يسمع بفرس وبعير، كما كان يسمع بحمار وثور، وقد كان يستقيم أن يشتقَّ منهما اشتقاقات محمودة، بل كيف صار ذلك كذلك ونحن نجده يسمِّي بنجم ولا يسمِّي بكوكب إلاَّ أنَّ بعضَهم قد سمَّى بذلك عبداً له، وفيه يقول:

لا مُتّ إلاَّ هَرِماً يا كَوْكَبُ

 

كَوْكَبُ إنْ مُتُّ فَهْيَ مِيتَتي

ووجدناهم يسمون بجبل وسَنَد، وطَود، ولا يسمُّونَ بأُحُد ولا بثَبير وأجأ وسلمى ورَضوى، وصِنْدِد وحميم، وهو تلقاء عيونهم متى أطلَعوا رؤوسهم من خيامهم، ويمسونَ ببُرْج ولا يسمون بفَلَك، ويسمون بقَمر وشمس عَلَى جهة اللقب أو على جهة المديح، ولم يسمُّوا بأرض وسماء، وهواءٍ وماء، إلاَّ على ما وصفنا، وهذه الأصول في الزجر أبلغ، كما أنَّ جبلاً أبلغُ من حجر، وطوداً أجمع من صخر، وتركوا أسماءَ جبالهم المعروفة.
وقد سمّوا بأسد وليث وأُسامةَ وضِرغامة، وتركوا أن يسمُّوا بسبع وسبعة، وسبع هو الاسم الجامع لكلِّ ذي ناب ومخلب.
قال الأوّل: قد تسمَّوا أيضاً بأسماء الجبال، فتسمَّوْا بأبَان وسَلْمَى.
قال آخرون: إنَّما هذه أسماء ناسٍ سمَّوا بها هذه الجبال، وقد كانت لها أسماءٌ ترِكت لثقلها، أو لعلَّة من العلل؛ وإلاَّ فكيف سمَّوا بسلمى وتركوا أجأ ورَضوى. وقال بعضهم: قد كانوا ربَّما فعلوا ذلك على أن يتَّفق لواحدٍ وَلودٍ ولمعظَّمٍ جليل، أن يسمع أو يرى حماراً، فيسمِّي ابنه بذلك؛ وكذلك الكلب والذئب، ولن يتفق في ذلك الوقت أن يسمع بذِكر فرس ولا حِجْر أو هواء أو ماء؛ فإذا صار حمار، أو ثور، أو كلب اسمَ رجل معظَّم، تتابعت عليه العرب تَطِيرُ إليه، ثم يكثر ذلك في ولده خَاصَّةً بعده، وعلى ذلك سمَّت الرعية بنيها وبناتِها بأسماء رجال الملوك ونسائهم، وعلى ذلك صار كلُّ عليٍّ يكنى بأبي الحسن، وكل عُمَر يكنى بأبي حفص، وأشباه ذلك، فالأسماء ضروب، منها شيء أصليٌّ كالسَّمَاء والأرض والهواء والماء والنار، وأسماءٌ أخَرُ مشتقَّاتٌ منها على جهة الفأل، وعلى شكل اسم الأب، كالرجل يكون اسمه عمر فيسمى ابنَه عميراً، ويسمِّي عميرٌ ابنَه عِمران، ويسمِّي عمرانَ ابنَه مَعْمَراً، وربَّما كانت الأسماء بأسماء اللّه عزَّ وجلّ مثل ما سمى اللّه عز وجل أبا إبراهيم آزر، وسمَّى إبليس بفاسق، وربّما كانت الأسماء مأخوذةً من أمورٍ تحدثُ في الأسماء؛ مثل يوم العَرُوبة سمِّيت في الإسلام يوم الجمعة، واشتقَّ له ذلك من صلاة يوم الجمعة.
الألفاظ الجاهلية المهجورة وسنقول في المتروك من هذا الجنس ومن غيره، ثم نعودُ إلى موضعِنا الأوَّلِ إن شاء اللّه تعالى.
ترك النّاسُ مما كان مستعملاً في الجاهلية أموراً كثيرة، فمن ذلك تسميتُهم للخَراج إتاوة، وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السُّلطان: الحُملان والمَكْس، وقال جابر ابن حُنَيّ:

وفي كلِّ ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ

 

أفي كلِّ أسواقِ الـعِـراقِ إتـاوةٌ

وكما قال العبديُّ في الجارود:

صَرَارِيَّ نُعطِي الماكسِين مُكوسا

 

أيا ابن المعلَّى خِلتَنا أم حسبتَـنـا

وكما تركوا انْعَمْ صباحاً، وانْعَمْ ظلاماً، وصاروا يقولون: كيف أصبحتم? وكيف أمسيتم? وقال قيس بن زُهير بن جذيمة، ليزيد بن سنان بن أبي حارثة: انعَمْ ظَلاماً أبا ضَمْرة قال: نعمتَ فمن أنت? قال: قيس بن زهير.
وعلى ذلك قال امرؤ القيس:

وهَلْ يَعِمَنْ مَن كان في العُصُر الخَالِي

 

ألا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَـلُ الـبـالِـي

وعلى ذلك قال الأوَّل:

سَرَاة الجنِّ قلتُ عِمُوا ظَلاَما

 

أتوْا نَارِي فقلتُ مَنُونَ قالـوا

وكما تركوا أن يقولوا للملك أو السَّيِّد المطاع: أبيت اللعن، كما قيل:

مَهْلاً أبيتَ اللّعنَ لا تأكُلْ مَعَهْ

وقد زعموا أن حُذَيفةَ بنِ بدرٍ كان يُحيَّا بتحيَّة الملوك ويقال له: أبيت اللّعن، وتركوا ذلك في الإسلام من غير أن يكون كفراً.
وقد ترك العبْد أنْ يقول لسيده ربِّي، كما يقال ربُّ الدار، وربُّ البيت، وكذلك حاشية السيِّد والملِك تركوا أن يقولوا ربّنا، كما قال الحارث بن حلّزة:

شِي ومَن دُونَ مَا لدَيهِ الثّناءُ

 

ربُّنا وابننا وأفضَـلُ مَـنْ يم

وكما قال لبيد حين ذكر حُذَيفة بن بدر:

وربَّ مَعدٍّ بين خَبْت وعَرْعَرِ

 

وأهلكْنَ يوماً ربَّ كِنْدَةَ وابنَه

وكما عيّر زيدُ الخَيل حاتماً الطائيّ في خروجه من طيِّء ومن حرب الفساد، إلى بني بدر، حيث يقول:

بها حاتم طَبّاً ولا متـطـبِّـبـا

 

وفرَّ من الحَرْبِ العَوانِ ولم يكُنْ

أبُوّة حِصْنٍ فاستقالَ وأعتَـبَـا

 

وريب حصناً بعْدَ أن كان آبـياً

إذا ما تقضَّت حربُنا أنْ تطربا

 

أقِمْ في بني بدر ولا ما يهمـنـا

وقال عوف بن محلَّم، حين رأَى الملك: إنّه ربي وربِّ الكعبة، وزوجُه أمُّ أناس بنت عَوف، وكما تركوا أن يقولوا لقُوّام الملوك السَّدَنة وقالوا الحَجَبَة.
وقال أبو عُبيدة مَعْمر بن المثنَّى عن أبي عبد الرحمن يونس بن حبيب النحوي حين أنشدَه شعر الأسديّ:

تُهان لها الغلامة والغلامُ

 

ومركضة صريحي أبوها

قال: فقلت له: فتقول: للجارية غلامة? قال: لا، هذا من الكلام المتروك وأسماؤُه زالت مع زوال معانيها، كالمِربَاعِ والنَّشيطة وبقي الصَّفايا؛ فالمرباع: رُبع جميع الغنيمة الذي كان خالصاً للرئيس، وصار في الإسلام الخمس، على ما سنَّه اللّه تعالى، وأما النَّشيطة فإنَّه كان للرئيس أن ينشِط عند قِسمة المتاع العِلْقَ النفيسَ يراه إذا استحلاه، وبقي الصِفِيّ وكان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم من كل مَغْنم، وهو كالسيف اللَّهذَم والفرسِ العتيق، والدرع الحصينة، والشيء النادر.
وقال ابن عَنَمة الضبّي حليف بني شَيبان، في مرثيته بِسطام بن قيس:

وحُكْمُك والنَّشِيطَةُ والفُضولُ

 

لك المِرباعُ منها والصَّفـايا

والفُضول: فضول المقاسم، كالشيءِ إذا قسم وفضَلت فَضلةٌ استهلكت، كاللؤلؤة، والسيف، والدِّرْع، والبيضة، والجارية، وغير ذلك.
كلمات إسلامية محدثة وأسماءُ حدثت ولم تكن، وإنَّما اشتقَّت لهم من أسماءٍ متقدِّمة، على التشبيه، مثل قولهم لمن أدرَكَ الجاهليَّة والإسلام مُخَضرم كأبي رجاءٍ العُطارديِّ، بن سالمة، وشقيق بن سالمة؛ ومن الشعراء النابغة الجَعديُّ وابن مقبل، وأشباههم من الفقهاء والشعراء، ويدلُّ على أنَّ هذا الاسم أحدث في الإسلام، أنَّهم في الجاهليَّة لم يكونوا يعلمون أنَّ ناساً يسلمون وقد أدركوا الجاهليَّة، ولا كانوا يعلمون أنَّ الإسلام يكون.
ويقال إنَّ أوَّلَ من سمَّى الأرضَ التي لم تُحفَر قطُّ ولم تحرثْ إذا فعل بها ذلك مظلومة، النابغةُ حيث يقول:

والنؤيَ كالحَوضِ بالمظلومَةِ الجَلَدِ

 

إلاّ الأوراريَّ لأْياً مـا أبـيِّنُـهـا

ومنه قيل سقاءٌ مظلوم إذا أعجل عليه قبل إدراكه، وقال الحادرة:

فصفَا النِّطافُ له بُعيْدَ المَقْلَعِ

 

ظَلم البِطاحَ له انهلالُ حَريصةٍ

وقال آخر:

لو ما تَزُورُنا إذا الشعْبُ أَلمّ

 

قالتْ له ميٌّ بأعلَى ذِي سَلَم

 

 

ألا بلَى يا ميّ واليومُ ظلَمْ

يقول ظلم حين وضعَ الشيءَ في غير موضعه، وقال الآخر:

أنا أبو زينب واليومُ ظلَمْ

وقال ابن مقبل:

هُرْتُ الشَّقَاشِق ظَلاَّمُونَ للجزُر

 

عادَ الأذلَّةُ في دارٍ وكان بـهـا

وقال آخر:

ظلَمْتُ وفي ظُلْمِي له عامداً أجْرُ

 

وصاحبِ صدقٍ لم تَنلنـي أذاتـه

وقال آخر:

وهم لجودهمُ في جُزْرِهم ظلمُ

 

لا يَظلِمون إذا ضِيفوا وِطابَهُمُ

وظلم الجزور: أن يعرقبوها، وكان في الحقِّ أن تنحر نحراً، وظلمهم الجزُر أيضاً أن ينحروها صِحاحاً سماناً لا علَّة بها.
قال: ومن ذلك قولهم: الحرب غَشوم؛ وإنَّما سمِّيت بهذا لأنَّها تنال غير الجاني.
قال: ومن ذلك قولهم: مَنْ أَشْبَهَ أباه فما ظَلَم، يقول: قد وضع الشبه في موضعه.
ومن المحدَثِ المشتقِّ، اسم منافق لمن رَاءَى بالإسلام واستسرَّ بالكفر أُخذ ذلك من النافقاء والقاصعاء والدامَّاءِ، ومثل المشرك والكافر، ومثل التيمُّم، قال اللّه تعالى: "فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً" أي تحرَّوْا ذلك وتوخَّوْه، وقال: "فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه" فكثُر هذا في الكلام حتَّى صار التيمُّم هو المسح نفسُه، وكذلك عادتهم وصنيعهم في الشيءِ إذا طالتْ صُحبتهم وملابستهم له، وكما سمَّوا رَجيع الإنسان الغائط، وإنَّما الغيطان البطون التي كانوا ينحدرون فيها إذا أرادوا قضاءَ الحاجة للستر.
ومنه العَذِرة، وإنَّما العذِرة الفناءُ، والأفنية هي العَذِرات، ولكن لما طال إلقاؤهم النَّجْو والزِّبل في أفنيتهم، سمِّيت تلك الأشياء التي رَموا بها، باسم المكان الذي رميت به، وفي الحديث: أَنْقُوا عَذِرَاتكم.
وقال ابن الرقَيَّات:

بِسِجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحَـاتِ

 

رَحِمَ اللّهُ أَعْظُماً دَفَـنُـوهـا

تَلُّ بالبخلِ طيِّبَ الـعَـذِرَاتِ

 

كان لا يحجُبُ الصديقَ ولا يع

ولكنَّهم لكثرةِ ما كانوا يُلقون نجوَهم في أفنيتهم سموها باسمها.
ومنه النّجو: وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد قضاءَ الحاجةِ تستَّر بنجوة. والنّجو: الارتفاع من الأرض، قالوا من ذلك: ذهب يَنْجُو، كما قالوا ذهب يتغوّط إذا ذهب إلى الغائط لذلك الأمر، ثمَّ اشتقوا منه فقالوا إذا غسل موضع النجو قد استنجى.
وقالوا: ذهب إلى المخرَج، وإلى المتوضَّأ، وإلى المذهب، وإلى الخَلاءِ، وإلى الحُشّ، وإنّما الحشّ القطعةُ من النَّخل وهي الحِشّان، وكانوا بالمدينة إذا أرادوا قضاءَ الحاجة دخلوا النخل؛ لأنَّ ذلك أستر، فسموا المتوضأ الحشّ، وإن كان بعيداً من النخل؛ كلّ ذلك هرباً من أن يقولوا ذهب لخَرْءِ، لأنَّ الاسم الخرءُ، وكل شيءٍ سواه من ورجيع وبراز وزِبل وغائط فكله كناية، ومن هذا الباب الملَّةُ، والمَلَّة موضع الخُبْزة، فسموا الخُبْزة باسم موضعها، وهذا عند الأصمعيِّ خطأ.
ومن هذا الشكل الراوية، والراوية هو الجمل نفسه، وهو حامل المزادة فسمِّيت المزادة باسم حامل المزادة، ولهذا المعنى سمَّوا حاملَ الشعر والحديث راوية.
ومنه قولهم: ساق إلى المرأة صَداقها، قالوا: وإنَّما كان يقال ذلك حين كانوا يدفعون في الصَّدَاق إبلاً، وتلك الإبل يقال لها النافجة، وقال شاعرهم:

ولا شادَ مالِي مُستَفاد النوافِجِ

 

وليس تِلادي من وِراثةِ والدي

وكانوا يقولون: تَهنِيك النافجة، قال: فإذا كانوا يدفَعون الصَّدَاقَ عيناً ووَرقاً فلا يقال ساق إليها الصَّداق.
ومن ذلك أنَّهم كانوا يضربون على العروس البناءَ، كالقبَّة والخَية والخيام، على قدر الإمكان، فيقال بني عليها، اشتقاقاً من البناءِ، ولا يقال ذلك اليومَ، والعروس إمَّا أن تكون مقيمةً في مكانها أَوْ تتحَوّل إلى مكان أقدم من بنائها.
قال: ومن ذلك قولهم في البَغيّ المكتسِبة بالفُجور: قَحْبة، وإنَّما القُحَاب السعال، وكانوا إذا أرادوا الكناية عن من زنَتْ وتكسَّبت بالزنى، قالوا قحبت أي سعلت، كناية، وقال الشاعر:

إنَّ السُّعَالَ هُوَ القُحَاب

وقال:

جاوبَ المبعِدُ منها فَخَضَفْ

 

وإذا ما قحَـبـت واحـدةٌ

وكذلك كان كنايتهم في انكشاف عورة الرجل، يقال: كشف علينا متاعَه وعَورته وشواره، والشّوار: المتاع، وكذلك الفرج وإنَّما يعنون الأَير والحِرَ والاسْت.

كلمات للنبي صلى الله عليه وسلم، لم يتقدمه فيهن أحد

وكلمات النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يتقدَّمْه فيهنَّ أحد: من ذلك قوله: إذاً لا ينتَطِح فيها عَنْزان، ومن ذلك قوله: ماتَ حتْف أنفه، ومن ذلك قوله: يا خيلَ اللّه اركَبي ومن ذلك قوله: كلُّ الصَّيدِ في جَوفِ الفَرا، وقوله: لا يُلسَعُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين.
شنشنة أعرفها من أخزم وقال عُمر رضي اللّه تعالى عنه: شِنْشِنَةٌ أعرِفها من أخزم، يعني شبه ابن العبَّاس بالعبَّاس، وأخزَم: فحل معروف بالكرم.
ما يكره من الكلام وأما الكلام الذي جاءَت به كرَاهيةٌ من طريق الروايات، فروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: لا يقولَنَّ أحدُكم خَبثت نَفسي ولكن ليقلْ لَقِسَت نفسي، كأنه كره أن يضيف المؤمنُ الطاهِرُ إلى نفسه الخُبث والفساد بوجهٍ من الوجوه.
وجاءَ عن عمر ومجاهد وغيرهما النهيُ عن قول القائل: استأثَر اللّهُ بفُلان، بل يقال مات فلان، ويقال استأثرَ اللّه بعلم الغيب واستأثر اللّه بكذا وكذا.
قال النَّخَعيّ: كانوا يكرهون أن يقال: قراءة عبد اللّه، وقراءة سالم، وقراءَة أُبَيّ، وقراءَة زيد، وكانوا يكرهون أَن يقولوا سنَّة أبي بكر وعمر، بل يقال سنَّة اللّه وسنَّة رسوله، ويقال فلان يقرأ بوجْه كذا، وفلان يقرأ بوجه كذا.
وكره مجاهد أن يقولوا مُسيجِد ومُصيحِف، للمسجد القليل الذَّرْع، والمصحف القليل الورق، ويقول: هم وإن لم يريدوا التصغير فإنَّه بذلك شبيه.
وجوه تصغير الكلام  وربَّما صغَّروا الشيءَ من طريق الشَّفَقة والرِّقَّة، كقول عمر: أخافُ على هذا العُريب، وليس التصغير بهم يريد، وقد يقول الرجل: إنَّما فلانٌ أخَيِّي وصُدَيِّقي؛ وليس التصغير له يريد، وذكر عمرُ ابنَ مسعود فقال: كُنَيْفٌ مُلئ علماً، وقال الحُباب بن المنذر يوم السَّقِيفة: أنا جُذَيْلها المحكك، وعُذَيقُها المرجَّب، وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة: الحُميراء، وكقولهم لأبي قابوسَ الملك: أبو قُبيس، وكقولهم: دبّت إليه دويْهِيَة الدهر، وذلك حين أرادوا لطافة المدخل ودقّة المسلك.
ويقال إنَّ كلَّ فُعيل في أسماء العرب فإنَّما هو على هذا المعنى، كقولهم المُعَيْدِيّ، وكنحو: سُليم، وضُمَير، وكليب، وعُقير، وجُعيل، وحُميد، وسُعيد، وجُبير؛ وكنحو عُبيد، وعُبيد اللّه، وعُبيد الرماح، وطريق التحقير والتصغير إنَّما هو كقولهم: نُجيل ونُذيل، قالوا: ورُبّ اسمٍ إذا صغَّرْتَه كان أملأَ للصَّدْر، مثل قولك أبو عبيد اللّه، هو أكبر في السماع من أبي عبد اللّه، وكعب بن جُعَيل، هو أفخم من كعب بن جعل، وربَّما كان التصغير خِلقة وبنية، لا يتغيَّر، كنحو الحُمَيّا والسُّكَيْتِ، وجُنَيدة، والقطيعا، والمريطاء، والسُّميراء، والمليساء - وليس هو كقولهم القُصَيْرى، وفي كبيدات السماءِ والثرّيا.
وقال عليٌّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه: دقَقت البابَ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا? فقلت: أنا، فقال: أنا كأنَّه كرِه قولي أنا.
وحدّثني أبو عليٍّ الأنصاري، وعبد الكَريم الغِفاريّ قالا: حدَّثنا عيسى بن حاضر قال: كان عمرو بن عُبيد يجلس في دَاره، وكان لا يَدَع بابَه مفتوحاً، فإذا قرعَه إنسان قامَ بنفسه حتَّى يفتحه له، فأتيتُ الباب يوماً فقرعتُه فقال: من هذا? فقلت: أنا، فقال: ما أعرف أحداً يسمَّى أنا، فلم أَقُلْ شيئاً وقمتُ خلفَ الباب، إذ جاءَ رجلٌ من أهل خراسان فقرَع الباب، فقال عمرو: مَن هذا? فقال: رجلٌ غريبٌ قدِم عليك، يلتمس العلم، فقام له ففتح له الباب، فلمَّا وجدْتُ فرجةً أردت أن ألجَ الباب، فدفَع البابَ في وجهي بعُنف، فأقمتُ عنده أيَّاماً ثم قلت في نفسي: واللّه إنِّي يومَ أتغضَّب على عمرو بن عُبيد، لَغَيرُ رشيدِ الرأي، فأتيتُ البابَ فقرعته عليه فقال: من هذا? فقلت: عيسى بن حاضر، فقام ففتح لي الباب.
وقال رجل عند الشَّعبيّ: أليس اللّه قال كذا وكذا قال: وما عَلَّمَك? وقال الربيع بن خُثَيم: اتَّقُوا تكذيب اللّه، ليتَّق أحدكم أن يقولَ قال اللّه في كتابه كذا وكذا، فيقول اللّه كذبتَ لم أقلْه.
وقال عمر بن الخطَّاب رضي اللّه عنه: لا يقل أحدُكم أهرِيقُ الماء ولكن يقول أبول.
وسأل عمرُ رجلاً عن شيءٍ، فقال: اللّه أعلم، فقال عمر: قد خَزينا إن كُنَّا لا نعلم أنَّ اللّه أعلم؛ إذا سُئِلَ أحَدُكم عن شيءٍ فإن كان يعلمه قاله، وإن كان لا يعلمه قال: لا علم لي بذلك.
وسمعَ عمر رجلاً يدعو ويقول؛ اللهمَّ اجعلْني من الأقلِّين قال: ما هذا الدعاءُ? قال: إنِّي سمعت اللّه عزّ وجلّ يقول: "وقليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورَ" وقال: "وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ"، قال عمر: عليك من الدعاءِ بما يُعرَف.
وكره عمر بن عبد العزيز قولَ الرجل لصاحبه: ضعْه تحت إبطِك، وقال: هلاَّ قلتَ تحت يدِك وتحت مَنكِبك وقال مَرَّة - وراثَ فرسٌ بحضْرة سليمان - فقال: ارفَعوا ذلك النَّثِيل، ولم يقل ذلك الرَّوث.
وقال الحجَّاج لأمِّ عبد الرحمن بن الأشعَث: عَمَدْتِ إلى مَالِ اللّه فوَضَعْته تحْتَ، كأنَّه كره أن يقول على عادة الناس: تحت استك، فتلجلج خوفاً من أن يقول قَذَعاً أو رَفَثاً، ثمّ قال: تحتَ ذيلِك.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يقولَنَّ أحدُكم لمملوكه عَبْدِي وأمَتي، ولكنْ يقول: فتَايَ وفتاتي، ولا يقول المملوكُ ربِّي ورَبَّتي، ولكن يقول سيِّدي وسيِّدتي.
وكره مُطرِّف بن عبد اللّه، قولَ القائل للكلب: اللّهُمَّ أخْزه.
وكره عِمران بن الحُصين، أن يقولَ الرَّجلُ لصاحبه: أنَعمَ اللّهُ بك عيناً؛ ولا أنعَمَ اللّهُ بك عيناً،  وقد كرهوا أشياءَ ممَّا جاءت في الروايات لا تُعرَف وجوهها، فرأيُ أصحابنا: لا يكرهونها، ولا نستطيع الردِّ عليهم، ولم نسمع لهم في ذلك أكثرَ من الكراهة، ولو كانوا يروون الأمورَ مع عللها وبرهاناتها خَفَّت المؤنة، ولكنّ أكثر الروايات مجرّدة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دونَ حكاية العلة، ودون الإخبار عن البرهان، وإن كانوا قد شاهدوا النوعين مشاهدةً واحدة، قال ابن مسعود وأبو هريرة: لا تسمُّوا العِنَب الكَرْم؛ فإنَّ الكَرمَ هو الرجلُ المسلم.
وقد رفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا قوله: لا تسُبُّوا الدَّهرَ فإنَّ الدهر هو اللّه فما أحسن ما فسَّر ذلك عبد الرحمن بن مهديّ قال: وجهُ هذا عندَنا، أنَّ القوم قالوا: "وَمَا يُهْلِكنَا إلاَّ الدَّهْرُ" فلما قال القوم ذلك، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ذلك اللّه، يعني أنَّ الذي أهلك القرونَ هو اللّه عزّ وجلَّ، فتوهم منه المتوهِّم أنَّه إنَّما أوقع الكلام على الدهر.
وقال يونس: وكما غلطوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان: قُلْ ومَعَك رُوح القُدُس فقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان: قُلْ ومَعَك جِبريل؛ لأنَّ روح القدس أيضاً من أسماءِ جبريل، ألا ترى أنّ موسى قال: ليتَ أنّ رُوحَ اللّه مع كلّ أحد، وهو يريد العصمة والتوفيق، والنصارى تقول للمتنبِّي: معه روح دكالا، ومعه روح سيفرت، وتقول اليهود: معه روح بَعلزَبول، يريدون شيطاناً، فإذا كان نبياً قالوا: روحه روح القدس، وروحه روح اللّه، وقال اللّه عزَّ وجلّ: "وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا"، يعني القرآن.
وسمع الحسن رجلاً يقول: طلع سُهيل وبَرُد الليل، فكره ذلك وقال: إنّ سهيلاً لم يأتِ بحرٍّ ولا ببردٍ قطُّ، ولهذا الكلام مجازٌ ومذهب، وقد كره الحسنُ كما ترى.
وكره مالك بن أنس أن يقولَ الرجُلُ للغيم والسحابة: ما أخلقها للمطر وهذا كلام مجازه قائم، وقد كرهه ابن أنس، كأنّهم من خوفهم عليهم العودَ في شيءٍ من أمر الجاهليّة، احتاطوا في أمورهم، فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلّق.
ورووا أنّ ابنَ عبَّاسٍ قال: لا تقولوا والذي خَاتَمه على فمي، فإِنَّما يختِم اللّه عزّ وجلّ على فم الكافر، وكره قولهم: قوس قُزَح، وقال: قزح شيطان، وإنَّما ذهبوا إلى التعرِيج والتلوين، كأنّه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية، وكان أحَبَّ أن يقال قوس اللّه، فيرفع من قدره، كما يقال بيت اللّه، وزُوَّار اللّه، وأرض اللّه، وسماء اللّه، وأسد اللّه.
وقالت عائشة رضي اللّه عنها: قولوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خاتَم النبيين، ولا تقولوا: لا نَبيَّ بعده فإلاّ تكنْ ذهبتْ إلى نزول المسيح فما أعرف له وجهاً إلاّ أن تكُون قالت لا تغيِّروا ما سمعتم، وقولوا كما قيل لكم، والفِظوا بمثله سواء.
وكره ابن عمر رضي اللّه عنهما قول القائل: أسلمت في كذا وكذا، وقال: ليس الإسلام إلاّ لِلّه عزّ وجلَّ، وهذا الكلام مجازُه عند الناس سهل، وقد كرهه ابنُ عمر، وهو أعلم بذلك.
وكره ابنُ عبَّاسٍ رضي اللّه عنهما قولَ القائل: أنا كسلان.
وقال عمر: لا تسمُّوا الطريق السِّكَّةَ.
وكره أبو العالية قول القائل: كنت في جِنازة، وقال: قل تبِعت جنازة، كأنّهُ ذهب إلى أنّه عنى أنّه كان في جوفها، وقال قل تبعت جنازة، والناس لا يريدون هذا، ومجاز هذا الكلام قائم، وقد كرهه أبو العالية، وهي عندي شبيهٌ بقول من كره أن يقول: أعطاني فلان نصف درهم، وقال: إذا قلت: كيف تكيل الدقيق? فليس جوابه أن تقول: القَفِيز بدُنَينير، ولكن يتناول القفيز ثم يكيل به الدقيق، ويقول: هكذا الكيلة وهذا من القول مسخوط .
وكره ابن عبَّاس قول القائل: الناس قد انصرفوا، يريد من الصلاة، قال بل قولوا: قد قَضَوُا الصلاة، وقد فرَغوا من الصلاة، وقد صلَّوْا؛ لقوله: "ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ"، قال: وكلام الناس: كان ذلك حين انصرفنا من الجنازة، وقد انصرفوا من السُّوق، وانصرف الخليفة، وصرف الخليفةُ الناسَ من الدار اليومَ بخير، وكنت في أوَّل المنصرفين، وقد كرهه ابن عبّاس، ولو أخبرونا بعلّتِه انتفعنا بذلك. وكره حَبيب بن أبي ثابت، أن يقال للحائض طامِث، وكره مجاهد قول القائل: دخل رمضان، وذهب رمضان، وقال: قولوا شهر رمضان، فلعلّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى.
قال أبو إسحاق: إنما أتى من قِبل قوله تعالى: "شَهْرُ رَمََضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقرْآنُ" فقد قال الناس يوم التَّروية، ويوم عَرَفة ولم يقولوا عرفة.
رأي النظَّام في طائفة من المفسرين وصور من تكلفهم.
كان أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسِّرين، وإن نصَبوا أنفسَهم للعامَّة، وأجابوا في كلِّ مسألة؛ فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس، وكلَّما كان المفسِّر أغربَ عندَهم كان أحبَّ إليهم، وليكن عندكم عِكْرِمةُ، والكلبيُّ، والسُّدّي، والضَّحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصمّ، في سبيل واحدة، فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم، وقد قالوا في قوله عزَّ وجلّ: "وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلّهِ": إنّ اللّه عزّ وجلَّ لم يعن بهذا الكلام مساجدَنا التي نصلِّي فيها، بل إنَّما عنَى الجبَاهَ وكل ما سجد الناس عليه: من يدٍ ورجلٍ، وَجَبْهَةٍ وأنفٍ وثَفِنَة، وقالوا في قوله تعالى: "أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ": إنَّه ليس يَعني الجمال والنُّوقَ، وإنَّما يَعني السحاب.
وإذَا سُئلوا عن قوله: "وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ" قالُوا: الطلح هو الموز.
وجعلوا الدليلَ على أنَّ شهر رمضانَ قد كان فرضاً على جميع الأمم وأنّ الناس غيَّروه، قولَهُ تعالى: "كُتبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ".
وقالوا في قوله تعالى: "رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً" قالوا: يعني أنّه حَشَرَهُ بِلاَ حجَّة.
وقالوا في قوله تعالى: "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ": الويل وادٍ في جهنم، ثم قَعَدُوا يصِفون ذلك الوادي، ومعنى الويل في كلام العرب معروف، وكيف كان في الجاهليَّة قبل الإسلام، وهو من أشهر كلامهم.
وسئلوا عن قوله تعالى: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" قالوا: الفَلَق: وادٍ في جهنم، ثمَّ قعدوا يصِفونه، وقال آخرون: الفلق: المِقْطَرة بلغة اليمن.
وقال آخرون في قوله تعالى: "عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً" قالوا: أخطأ من وصَلَ بعض هذه الكلمة ببعض، قالوا: وإنَّما هي: سَلْ سبيلاً إليها يا محمد، فإن كان كما قالوا فأين معنى تسمَّى، وعلى أيِّ شيءٍ وقع قوله تسمَّى فتسمَّى ماذا، وما ذلك الشيء? وقالوا في قوله تعالى: "وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا" قالوا الجلود كناية عن الفروج، كأنه كان لا يَرَى أنّ كلام الجِلد من أعجب العجب.
وقالوا في قوله تعالى: "كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعامَ": إِنّ هذا إنَّما كان كنايةً عن الغائط، كأنه لا يرى أنّ في الجوع وما ينال أهلَه من الذِّلَّة والعجزِ والفاقة، وأنّه ليس في الحاجة إلى الغذاءِ - ما يُكتَفَى بِه في الدِّلالة على أنّهما مخلوقان، حتّى يدَّعيَ على الكلام ويدّعي له شيئاً قد أغناه اللّه تعالى عنه.
وقالوا في قوله تعالى: "وَثيَابَكَ فَطَهِّر": إنّه إنما عنَى قلبه.
ومن أعجب التأويل قول اللِّحياني: الجبّار من الرجال يكون على وجوه: يكون جبّاراً في الضِّخَم والقوَّة، فتأوّل قوله تعالى: "إنّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ" قال: ويكون جبَّاراً على معنى قتّالاً، وتأوّل في ذلك: "وَإذَا بَطَشْتمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ"، وقولَه لموسى عليه السلام: : "إنْ تُرِيدُ إلاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً في الأَرْضِ" أي قتَّالاً بغيرحقّ، والجبارُ: المتكبِّر عن عبادة اللّه تعالى، وتأوَّل قوله عزَّ وجلَّ: "وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً"، وتأوّلَ في ذلكَ قول عيسى: "وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقيّاً" أي لم يجعلْني متكبِّراً عن عبادته، قال: الجبَّار: المسلَّط القاهر، وقال: وهو قوله: "وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ" أي مسلّط فتقهرهم على الإسلام، والجبَّار: اللّه.
وتأوَّل أيضاً الخوف على وجوهٍ، ولو وجدَه في ألفِ مكانٍ لقال: والخوفُ على ألف وجه، وكذلك الجبَّار، وهذا كلّه يرجِع إلى معنًى واحد؛ إلاّ أنّه لا يجوز أن يوصَف به إلاّ اللّه عزّ وجلَّ.
تكلف بعض القضاة في أحكامهم  وقال رجل لعُبيد اللّه بن الحسن القاضي: إنّ أبي أوصى بثُلث مالِه في الحصون، قال: اذهبْ فاشترِ به خيلاً، فقال الرجل: إنّه إنَّما ذَكَر الحصون قال: أما سمعتَ قول الأسْعَر الجُعْفِيّ:

أنّ الحصونَ الخيلُ لا مَدَرُ القُرَى

 

ولقد علمت على تجنُّبـيَ الـرَّدى

فينبغي في مثل هذا القياس على هذا التأويل، أنّه ما قيل للمدن والحصون حصون إلاّ على التشبيه بالخيل.
وخبَّرني النُّوشِروانيّ قال: قلت للحسن القاضي: أوصي جدِّي بثلث ماله لأولاده، وأنا من أولاده، قال: ليس لك شيء، قلت: ولم? قال: أو ما سمعت قول الشاعر:

بنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ

 

بنُونا بنو أبنائِنا وبنـاتُـنـا

قال: فشكوت ذلك إلى فلان فزادني شرًّا.
وقالوا في قوله: مَا سَاءَكَ ونَاءَك: ناءك، أبعدك، قالوا: وساءك أبرصك، قال: لقوله تعالى: "تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ"، وبئس التكلُّف.
وقال ابن قميئة:

على الأصل لا يَسطِيعُها المتكلِّفُ

 

وحمَّال أثقال إذا هي أعْرَضـت

وقال اللّه وهو يخبر عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ".
وليس يُؤْتَى القوم إلاَّ من الطمع، ومن شدَّةِ إعجابهم بالغريب من التأويل.
رأي في أبي حنيفة وسئل حَفص بن غِياث، عن فقه أبي حنيفة، فقال: أعلم الناس بما لم يكنْ، وأجهلُ الناس بما كان .
وقالوا في قوله تعالى: "ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم" قالوا: النعيم: الماءُ الحارُّ في الشتاء، والبارد في الصيف.
الصَّرورة ومن الأسماء المحدَثة التي قامت مقامَ الأسماء الجاهليَّة، قولهم في الإسلام لمنْ لم يحجّ: صَرورة.
وأنتَ إذا قرأتَ أشعارَ الجاهليَّة وجدتَهم قد وضعوا هذا الاسمَ على خلافِ هذا الموضع، قال ابن مَقرومٍ الضَّبّيّ:

عَبدَ الإله صَرُورةٍ مُتَبَـتِّـلِ

 

لو أنَّها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ رَاهبٍ

ولَهَمَّ من تامُورِه بـتـنَـزُّل

 

لدنا لبَهْجَتِها وحُسْنِ حَدِيثِـهـا

والصرورة عندهم إذا كانَ أرفعَ الناسِ في مراتب العبادة، وهو اليومَ اسمٌ للذي لم يَحجَّ إمّا لعجزٍ، وإمَّا لتضييعٍ، وإمَّا لإنكار، فهما مختلفان كما ترى.

ألفاظ القرآن الكريم

فإِذا كانت العرب يشتقُّون كلاماً من كلامهم وأسماءً من أسمائهم، واللغة عاريّة في أيديهم ممَّن خلقَهم ومكَّنهم وألهمهم وعلَّمهم، وكان ذلك منهم صواباً عند جميع الناس؛ فالذي أعارهمْ هذه النِّعمةَ أحقُّ بالاشتقاق وأوجبُ طاعةً، وكما أنَّ له أن يبتدئَ الأسماءَ؛ فكذلك له أن يبتدئها ممَّا أَحَبَّ،، قد سمَّى كتابَه المنزلَ قرآناً، وهذا الاسم لم يكنْ حتى كان، وجعل السجودَ للشمس كفراً، فلا يجوز أن يكون السجود لها كفراً إلاّ وترك ذلك السجود بعينه يكون إيماناً، والترك للشيء لا يكون إلاّ بالجارحة التي كان بها الشيء، وفي مقداره من الزمان، وتكون بدلاً منه وعَقِباً، فواحدةٌ أن يسمَّى السجود كفراً، وإذا كان كفراً كان جحوداً وإذا كان جحوداً كان شركاً، والسجود ليس بجَحْد، والجحد ليس بإشراك إلاَّ أن تصرفه إلى الوجه الذي يصير به إشراكاً.

ما اشتق من نباح الكلابِ وما قيل من الشعر فيه

وقال طُفيل الغَنَوِيّ:

ولم ترَ نَارًا تِمَّ حَولٍ مجـرَّمِ

 

عَوَازِبُ لَمْ تَسْمَعْ نُبُوحَ مقامةٍ

وإنَّما أُخذ ذلك للجميع من نباح الكلاب.
وذكروا أن الظَّبيَ إذا أسنَّ ونبتَتْ لقرونه شُعَبٌ نَبَح، وهو قول أبي دُؤاد:

ءِ نبَّاح من الشعب

 

وقُصرَى شَنِج الأَنْسَا

يعني من جهة الشعب؛ وأنشد بعضهم:

نُبَاحُ سَلُوقِ أَبصَرَتْ مَـا يُرِيبـهـا

 

وينبَحُ بينَ الشعبِ نـبـحـاً كـأنّـه

كما ابيضَّ عن حَمْضِ المراحم نِيبُها

 

وبَيَّضها الهُزْل المسـوِّدُ غَـيْرَهـا

لأن الظّبيَ إذا هزل ابيضّ، والبعير يَشِيب وجهَه من أكل الحَمْض، وكذلك قال ابن لَجَأ:

شابَتْ ولمَّا تَدْنُ من ذَكَائها

كما قال الآخر:

شَرِبن حتى نزح القَلِيبُ

 

أَكلْن حمضاً فالوُجُوه شِيبُ

وقد تصير النَّاقة الحمراء إذا أتمَّت حبشيّة، ولذلك قال الشاعر:

حمراء لا حَبَشيّة الإتمام

وما أشبه ذلك بقول العَبديّ:

كأنَّ عليها سُنْدُسَاً وسَدُوسا

 

وداويتُها حتَّى شتَتْ حَبَشِيَّةً

والدَّواء: اللبن، فلذلك تصير الفرس إذا ألقت شعرها وطرّت، تستديل هذا اللون.
وقال خالد بن الصقْعب النَّهديّ:

تَظَلُّ حمامُه مثلَ الخُصُـومِ

 

هَبَطْنَا بعدَ عهدِك بَطْن خَبْتٍ

به جَمْعَانِ من نَبَـطٍ ورُومِ

 

كأنَّ عرينَ أيكَتِـه تَـلاَقَـى

كَنَبْح الكَلْبِ في الأَنَس المقُيمِ

 

نُباحُ الهدْهدِ الحَوْلِـيِّ فـيه

ويقال إنَّ الهدهد ينبَحُ، وربَّما جعلوا الهُدْهُدَ، الذي ينبح، الحمامَ الذكر، قال الشاعر - وهو يصف الحمام الذَّكَرَ كيف يصنع فيها:

مثْلُ المَدَاكِ خَضَبْتَهُ بِجِسادِ

 

وإذا استترن أرَنَّ فيها هُدهُدٌ

وقال طُفيل في النُّبوح والمجاعات:

عن الزَّادِ ممَّا جَلّف الدهرُ مُحْثَلِ

 

وأشْعَث تَزْهَاه النُّبـوح مُـدَفَّـعٍ

وقال الجعديّ:

وَلا نُبْصِرُ الحيِّ إلاّ التماسَا

 

فلما دَنونا لصَوتِ النُّـبـاح

وقال ابن عبدل:

ورفعتُ صَوتاً ما به بَـحَـحُ

 

آليتُ إذ آلـيتُ مـجـتـهـداً

في الشعر إنْ سكَتَوا وإنْ نَبَحُوا

 

لا يُدْرِكُ الشعراءُ منـزلَـتـي

وقال عمرو بن كلثوم:

وشَدَّ بِنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِـينَـا

 

وَقَدْ هَرَّتْ كلابُ الحَيِّ مِنَّا

وقال بعض العلماءِ: كلاب الحيّ شعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونَهم، ويحمون أعراضَهم، وقال آخرون: إن كلابَ الحَيِّ كلُّ عقورٍ، وكلُّ ذي عُيون أربع.
وأما قوله:

رِماحَ بني مقيِّدةِ الحمِـارِ

 

لَعَمْرُكَ ما خَشِيتُ على أُبَيٍّ

رِمَاحَ الجنّ أو إيَّاكَ حارِ

 

ولكنِّي خَشِيت علـى أُبَـيٍّ

فالطَّواعين هي عند العرب رماح الجن، وفي الحديث: إنَّ الطاعونَ وخْز مِنَ الشيطان.
وقال أبو سلمى:

ومن سفيهٍ دائمِ النُّبـاحِ

 

لا بدَّ للسُّودَد من أرماحِ

 

 

ومن عَدِيدٍ يُتَّقَى بالرَّاحِ

وقال الأعشى:

هَرَّ كلبُ النَّاسِ فيها ونَبَحْ

 

مِثْل أيَّامٍ لَنَا نعْـرِفُـهَـا

كلّما كَلْبٌ من الناسِ نَبَحْ

 

رُزُنُ الأحْلاَمِ في مجلسِهمْ

وقال:

وأَغنى غَنَائي عنكُم أن أُؤنَّبا

 

سيَنبَحُ كلبي جاهداً مِن ورائكم

وقال أبو ذؤيب:

ولو نَبَحَتْنِي بالشَّكاةِ كلابُها

 

ولا هَرَّها كَلبِي ليبعد تعْرها

كلابها: شعراؤها، وهو قول بشر بن أبي خازم:

كذاتِ الضِّغْنِ تَمشي في الرِّفاقِ

 

وإنِّـي والـشَّـكــاةَ لآلِ لأمٍ

وقال أبو زُبَيْد:

وكفكفت عنكم أكلُبِي وَهي عُقّرُ

 

ألم تَرَني سكَّنْتُ لأياً كـلابَـهُـمْ

هجاء ضروب من الحيوان

قال صاحب الكلب: قد علمنا أنّكم تتبَّعتم على الكلب كلَّ شيءٍ هُجِي به، وجعلتم ذلك دليلاً على سقوط قدْره وعلى لؤم طبعه؛ وقد رأينا الشعراءَ قد هَجَوا الأصناف كلّها، فلَمْ يُفلت منهم إنسان ولا سبع، ولا بهيمةٌ ولا طائر ولا هَمَج ولا حشَرة، ولا رفيع من الناس ولا وضيع، إلاّ أن يَسلم بعضُ ذلك عليهم بالخمول، فكفاك بالخمول دِقَّةً ولُؤماً وقِلَّة ونَذالة، وقال أميَّة بن أبي عائذ لإياس بن سهم:

رِداؤُك فاصطَنْ حسنـه أو تـبـذَّلِ

 

فأبْلِغْ إياساً أَنَّ عِرضَ ابنِ أُختِـكـمْ

وكلُّ ابنِ أختٍ من نَدَى الخالِ مغتلِي

 

فإن تكُ ذا طَوْلٍ فإني ابنُ أُختـكـم

فمهما تكنْ أُنسَبْ إلـيك وأُشـكـل

 

فكنْ أسداً أو ثعلـبـاً أو شـبـيهَـه

وإنَّ ابنَ أختِ اللَّيثِ رِيبالُ أشـبُـلِ

 

فما ثعلبٌ إلاَّ ابـن أخـتِ ثُـعـالةٍ

إذا كانت الهيجا تَلـوذُ بـمـدخـلِ

 

ولن تجد الآسادَ أخـوالَ ثـعـلَـبٍ

فهذا من الثعلب، وقال مزرّد بن ضرار:

 

تهرُّ عليها أمُّكُمْ وتكالـب

 

وإنّ كناز اللَّحمِ من بَكَراتِكمْ

لتَقرِيَه بالتْ عليه الثعالـبُ

 

وليتَ الذي ألقى فناؤُك رحله

 








فقد وضع الثعلب كما ترى بهذا الموضع الذي كفاك به نذالة، قال ابن هرمة:

ولا ضَرَّت لفرقتها نِـزارَا

 

فما عادت بذي يَمَن رُؤوسـاً

وتَرْأَمُ من يُحِدُّ لها الشِّفَـارا

 

كعنْزِ السَّوءِ تنطَحُ من خلاها

وهذا قول الشاعر في العنز، وقال ابن أحمر:

كالعنْزِ تَعْطِف رَوقيها فترتَضِعُ

 

إنا وجدْنَا بني سهْمٍ وجامِلَـهـم

وقال الفرزدق:

ولا نابحاً إلا استقـرَّ عَـقُـورهـا

 

على حينَ لم أتركْ على الأرضِ حَيّة

كباحثةٍ عن مُدْيةٍ تـسـتـثـيرُهـا

 

وكان نُفَيع إذ هـجـانـي لأهْـلِـه

فهذا قولهم في العنز، ولا نعلم في الأرض أقلَّ شرّاً ولا أكثر خيراً من شاة.
وقال الخُرَيميُّ:

أرى جِوارَهمُ إحدى البـلـيَّات

 

يا لَلرجال لقومٍ قد مَلِـلـتُـهـم

عَقارِبٌ وُجِنَتْ وَجْناً بِـحَـيَّاتِ

 

ذئبٌ رضيع وخِنزير تُعارِضُها

مُصَرَّح السُّحتِ سمَّوه الأَمَانات

 

ما ظنُّكم بأناس خَيْرُ كسبـهـمُ

فهذا قولهم في العقارب والحيَّاتِ والضِّباع والخنازير.
وقال حماد عَجْردٍ في بَشَّار:

للقرد عن شَتْمي وفي ثوْبَانِ

 

قد كان في حُبِّي غزالةَ شاغِلٌ

لمجونها مع سِفْلة المُجّـانِ

 

أو في سميعةَ أُختِها وشِرادِها

شرّ البِغاءِ بأوكَسِ الأثمـانِ

 

أو بيت ضيق عرسه وركوبها

هذا قول حماد في القرد، وقال حمَّاد في بشَّار بن بُرد أيضاً:

بَريئاً لـسـوَّاق لِـقَـومٍ نـوائحِ

 

ولكنْ مَعاذَ اللّهِ لسـتُ بـقـاذِفٍ

ولكِنْ بأمرٍ بـيِّنٍ لـيَ واضـحِ

 

وما قلتُ في الأعمى لِجَهلٍ وأمّه

ولست عن القِرد ابن بَرْدٍ بصافِحِ

 

سأُعرِضُ صحفاً عن حُصينٍ لأمِّه

وقال الآخر:

أرى القردَ والخنْزيِرَ مُحتَبِيانِ

 

لما أتيت ابنَي يزيدَ بن خَثْعَـمٍ

وراءَ قَبِيحاتِ الوجوه بطـانِ

 

أمَامَ بيوتِ القومِ من آل خَثْعَم

وقال العتَّابي:

وإن تَلقَّاكَ بِخَـنْـزَوانِـه

 

اسْجدْ لقِرْد السَّوءِ في زَمَانِه

 

 

لا سيَّما ما دام في سلطانه

وقال أبو الشمقمق:

لا يَطمَع الخنزير في سَلْحِهِ

 

إن رِياحَ اللُّؤمِ من شـحِّـه

قد يَئِس الحدَّاد مِن فَتْـحِـهِ

 

كفّاه قُفل ضلّ مِفـتـاحـهُ

وقال خلف بن خليفة:

يَعُمُّ به القِرْدَ والقِـرْدَهْ

 

فسبحانَ من رِزقُه واسع

وهذا كثير، ولعمري لو جُمِع كلُّه لكان مثلَ هِجاء الناس للكلب، وكذلك لو جمع جميعُ ما مُدِح به الأسدُ فما دُونه، والأمثالُ السائرةُ التي وقعت في حَمد هذه الأشياء، لَمَا كانتْ كلُّها في مقدارِ مديح الكلب، فهذه حُجَّتُنَا في مَرتبةِ الكلب على جميع السباع والبهائِم. ولما قال معبدٌ في قتل الكلب، وتلا قول اللّه عزَّ وجلَّ: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلىَ الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكُهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فاقْصُصِ الْقَصَصَ"، قال أبو إسحاق: وإن كنتَ إنَّما جعلتَ الكلب شرّ الخلق بهذه العلَّة، فقد قال على نسق هذا الكلام: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قَلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُون بِهَا أُولئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ"، فالذي قال في الإبل والبقَر والغنَم أعظم، فَأَسْقِطْ من أقدارها بقدر معنى الكلام، وأدنى ذلك أن تُشرِك بين الجميع في الذمّ فإنَّك متى أنصفتَ في هذا الوجه، دعاك ذلك إلى أن تُنْصِفها في تتبُّع ما لها من الأشعار والأمثال والأخبار والآيات، كما تتبَّعت ما عليها.

الشرف والخمول في القبائل

وقال صاحب الكلب: سنضرب مثلاً بيننا يكون عَدلاً: إذا استوى القبِيلان في تقادم الميلاد ثم كان أحد الأبوين كثير الذرء والفُرسان والحكماءِ والأجواد والشعراء، وكثيرَ السادات في العشائر، وكثيرَ الرؤساء في الأرحَاء وكان الآخر قليل الذَّرء والعدد، ولم يكن فيهم خير كثيرٌ ولا شر كثير، خملوا أو دخلوا في غمار العرب، وغَرِقُوا في معظم الناس، وكانوا من المغمورين ومن المنسيِّينَ، فسَلموا من ضروب الهجاء ومن أكثرِ ذلك، وسلموا من أنْ يُضرَبَ بهم المثل في قِلَّةٍ ونذالة إذا لم يكن شرٌّ، وكان محلُّهم من القلوب محلّ من لا يَغْبِط الشعراءُ، ولا يحسدهم الأكفاءُ؛ وكانوا كما قال حُميد بن ثور:

وجاوزتُما الحيَّينِ نهْداً وَخَثْعَـمَـا

 

وقُولا إذا جَاوزتما أرْضَ عـامـرٍ

أَبَوْا أن يُرِيقوا في الهَزاهِز مِحْجما

 

نَزيعانِ من جَرْمِ بن رَبَّـانِ إنَّـهـم

وإذا تقادم الميلاد ولم يكن الذّرْءُ وكان فيهم خيرٌ كثيرٌ وشرٌّ كثيرٌ، ومثالِب ومناقب، ولم يَسلَموا من أن يُهجَوا ويُضْرَبَ بهم المثل، ولعلَّ أيضاً أن تتفق لهم أشعار تتصل بمحبة الرواة، وأمثال تسير على ألسنة العلماء، فيصيرُ حينئذٍ من لا خير فيه ولا شرَّ، أمْثلَ حالاً في العامَّة، ممَّن فيه الفضلُ الكثيرُ وبعضُ النقص، ولا سيَّما إذا جاوَروا من يأكُلهم وحالَفوا من لا ينصفهم، كما لقيت غَنِيّ أو باهلة.
ولو أنَّ عبْساً أقامت في بني عامر ضِعفَ ما أقامت؛ لذهب شَطْرُ شرفها؛ ولكنَّ قيسَ بن زُهير لمَّا رأى دلائل الشرِّ قال لأصحابه: الذلُّ في بني غَطفَان خير من العزِّ في بني عامر.
وقد يكون القوم حُلولاً مع بني أعمامهم، فإذا رأوا فضْلهم عليهم حَسدوهم وإن تركوا شيئاً من إنصافهم اشتدَّ ذلك عليهم وتعاظَمَهم، بأكثر من قدره، فَدَعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم، فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم، فوقَ الذي كانوا فيه من بني أعمامهم، حتى يدْعُوَهم ذلك إلى النَّدم على مفارقتهم، فلا يستطيعون الرُّجوع، حميةً واتقاء، ومخافَة أن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه، وإلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم، ومِن شدَّة الصَّولة عليهم.

بكل وادٍ بنو سعد

وقد خرج الأضبَط بن قُريع السَّعْدِيُّ من بني سعد، فجاوَزَ ناساً، فلما رأى مذْهَبهم وظُلمهم ونَهْكهم، قال: بكلِّ وادٍ بَنُو سعد، فأرسلها مثلاً.
وقد كان عبَّاس بن ريطة الرِّعلي سيِّد بني سُليم، وقد ناله ضيم في بعض الأمر، فأبى الضَّيم، فلما حاولَ مفارقتَهم إلى بني غَنْم عزَّ عَليْهِ فقال في كلمة له:

وأمُّ أخِيكم كزَّةُ الرِّحْم عاقِرُ

 

وأمُّكم تُزْجِي التؤام لبَعْلِهـا

وزعموا أنَّ أبا عمرو أنشد هذا الشعر، وخبَّر عن هذه القصّة في يومٍ من أيامه، فدمعت عينُه، فحلف شُبَيل بن عَزرة بالطلاق: إنَّه لَعَرَبيٌّ في الحقيقة لغِيَّةٍ أو لرِشْدة6 -! قبائل في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضعة  فمن القبائل المتقادمة الميلاد التي في شِطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضَعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان، ومثل فزارة ومرَّة وثعلبة، ومثل عبس وعبد اللّه بن غطفان، ثم غَنِيّ وباهلة، واليعسوب والطفاوة فالشرف والخطر في عَبس وذبيان، والمبتلى والملقَّى والمحروم والمظلوم، مثل باهلة وغنيّ، ممّا لقيت من صوائب سهام الشعراء، وحتَّى كأنَّهم آلة لمدارج الأقدام، ينكب فيها كلُّ ساعٍ، ويعثُر بها كلُّ ماش، وربّما ذكروا اليَعسوب والطفاوة، وهاربة البقعاء وأَشجَع الخنثى ببعض الذِّكر، وذلك مشهور في خصائص العلماء ولا يجوز ذلك صدورَهم، وجلُّ معظم البلاء لم يقع إلاَّ بغنيٍّ وباهلة، وهم أرفع من هؤلاء وأكثر فضولاً ومناقب، حتى صار من لاخير فيه ولا شرَّ عنده أحسنَ حالاً ممَّن فيه الخير الكثير وبعض الشرّ، وصار مثلهم كما قال الشاعر:

بِبُخْل أشْعثَ واستَثْبِتْ وكُنْ حكما

 

اضرب نَدَى طَلْحَةِ الطّلْحَات مبتدئا

ولا تعُدَّ لها لؤمـاً ولا كـرمـا

 

تخرج خُزاعة من لؤم ومِن كـرمٍ

وقد ظرف في شعره فظلم خُزاعةَ ظُلماً عبقريّاً.
وقال في مثل ذلك الأشعر الرَّقَبان الأسديّ:

بأنّك فيهم غنيٌّ مُـضِـرّ

 

بحسْبِك في القوْمِ أن يعْلموا

فلا أنت حُلْوٌ ولا أنت مُرّ

 

وأنت مليخ كلحْم الحُـوَارِ

وكما قال الشاعر في علباءَ بن حبيب حيث يقول:

لا حلـوٌ ولا مُـرُّ

 

أرى العِلباء كالْعِلْبَاءِ

دِ لا خيرٌ ولا شـرُّ

 

شُيَيْخٌ من بني الجارو

فهذا ونحوه من أشدِّ الهجاءِ.
والخمول اسمٌ لجميع أصناف النَّقْصِ كلِّها أو عامَّتها، ولكنَّه كالسَّرْو عند العلماء، وليس ينفعك العامَّةُ إذا ضرّتك الخاصَّة.
ومن هذا الضرب تميم بن مرّ، وثور وعُكل، وتيم ومزينة، ففي عُكل وتيم ومزَينة من الشرف والفضل، ما ليس في ثور، وقد سلِم ثور إلاَّ من الشيء اليسير، مما لا يرويه إلاَّ العلماء، ثم حلَّت البليَّةُ وركَدَ الشرُّ، والتحف الهجاء على عُكْل وتيم، وقد شعّثوا بين مزينة شيئاً، ولكنَّهم حبَّبهم إلى المسلمين قاطبةً ما تهيأ لهم من الإسلام، حين قلّ حظُّ تيم فيه، وقد نالوا من ضبَّة، مع ما في ضبَّة من الخصال الشريفة؛ لأنَّ الأبَ متى نقص ولَدُه في العدد عن ولد أخيه فقد ركبهم الآخَرون بكلِّ عظيمة، حتى يروا تسليمَ المرباع إليهم حظّاً، والسير تحت اللواء، والحمل على أموالهم في النوائب؛ حتَّى ربَّما كانوا كالعضاريط والعُسَفاء، والأتباع، وفي الأتباع والدخلاء، ثم لا يجدون من ذلك بدّاً؛ كأنهم متى امتنعوا خذَلوهم، فاستباحوهم، فرأوا أن النَّعمة أربحُ لهم.
وقد أعان غيلان على الأحنف بكلمة، فقال الأحنف: عبيدٌ في الجاهليَّة، أتباعٌ في الإسلام، فإن هربوا تفرّقوا فصاروا أشلاءً في البلاد، فصار حكمُهم حكم من درج، وحكمُ أبيهم كحكم من لم يُعقِب، وإذا هم حالفوا القرباء فذلك حيث لا يرفعون رؤوسهم من الذلّ والغرم.

الحِلْفُ عند العرب

والحِلْف ضربان: فأحدهما كانضمام عبس وضبَّة، وأسد وغطفان فإنَّ هؤلاءِ أقوياءُ لم يُنهكوا كما نُهِكت باهلة وغنيّ، لحاجةِ القوم إليهم، ولخشونة مسِّهم إن تذكّروا على حال؛ فقد لقِيت ضبَّةُ من سعدٍ، وعبسٌ من عامر، وأسدٌ من عيينة بن حصن ما لقُوا.
وقد رأيت مشقَّةَ ذلك على النابغة، وكيف كرِه خروج أسد من بني ذبيان.
وعيينةُ بن حصن وإن كان أسود من النابغة وأشرف، فإنَّ النابغةَ كان أحزم وأعقل.
وقد سلمت ثور وابتُليت عُكل وتيم، ولولا الربيع بن خُثَيم وسُفيان الثوري، لما علمت العامَّةُ أنَّ في العرب قبيلةً يقال لها ثور، ولَشَريفٌ واحدٌ ممَّن قَبَلت تيم أكثرُ من ثور وما ولد.
وكذلك بَلْعَنبر، قد ابتُليت وظلمت وبُخست، مع ما فيها من الفُرسان والشُّعراء، ومن الزُّهاد، ومن الفقهاء، ومن القضاة والوُلاة، ومن نوادر الرِّجال إسلاميِّين وجاهليِّين.
وقد سلمت كعب بن عمرو؛ فإنه لم ينلها من الهجاء إلاَّ الخمش والنُّتف. وربَّ قومٍ قد رضُوا بخُمولهم مع السلامة على العامَّة، فلا يشعرون حتَّى يصبَّ اللّه تعالى على قممِ رؤوسهم حجارةَ القذف، بأبياتٍ يسيِّرها شاعر، وسوطَ عذابٍ يسير به الراكبُ والمثل، كما قال الشاعر:

كما الظليمُ فَقْحَةُ البراجِمِ

 

إن مَنَافاً فَقْـحَةٌ لـدارِم

وقال الشاعر:

كما الحَبِطاتُ شرُّ بني تميمِ

 

وجَدْنَا الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المطَايَا

فما الميسم في جِلد البعير، بأعلق من بعض الشعر.

أثر الشعر في نباهة القبيلة

وإذا كان بيت واحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعَدد والفَعال، مثل نُمير، يصير أهلُه إلى ما صارت إليه نُمير وغير نمير، فما ظنُّكَ بالظُّلَيم وبمناف وبالحَبِطات، وقد بلغ مضرَّةُ جرير عليهم حيثُ قال:

فلا كعباً بلغتَ ولا كلابـا

 

فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمير

إلى أن قال شاعر آخر وهو يهجو قَوْماً آخَرين:

كما وضعَ الهِجاءُ بَنِي نُميْرِ

 

وسَوفَ يزيدُكم ضَعةً هِجَائِي

وحتّى قال أبو الرُّدَيْنيّ:

مَتى قَتَلَتْ نُميْر مَنْ هَجَاهَا

 

أَتُوعِدُنِي لِتَقْتُلَنِـي نُـمـيْرٌ

بكاء العرب من الهجاء وذكر بعض من بكى منهم لذلك ولأمر ما بكت العربُ بالدموع الغِزار من وقعِ الهجاءِ، وهذا من أوَّل كرمها، كما بكى مخارقُ بن شِهاب، وكما بكى عَلقمة بن عُلاثة، وكما بكى عبد اللّه بن جُدعان من بيتٍ لخداش بن زهير، وما زال يهجوه من غير أن يكون رآه، ولو كان رآه ورأى جماله وبهاءَه ونبله والذي يقع في النفوس من تفضيله ومحبته ومن إجلاله والرقة عليه أمسك، ألا ترى أن النَّبيت وغسَّان بن مالك بن عمرو بن تميم، ليس يعرفهم بالعجز والقلَّة إلاَّ دَغفل بن حنظلة، وإلاَّ النخَّار العُذريّ وإلا ابن الكيِّس النمريّ، وإلاَّ صُحار العبدي، وإلاَّ ابن شَرِيَّة وأبو السَّطَّاح وأشباههم ومن شابه طريقهم والاقتباس من مواريثهم، وقد سلموا على العامة وحصلوا نسب العرب فالرجل منهم عربي تميمي، فهو يعطي حقّ القوم في الجملة ولا يقتضي ما عليه وعلى رهطه في الخاصّة، والحرمان أسوأ حالاً في العامة من هذه القبائل الخاملة وهم أعدّ وأجلد.
ما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول وبليَّة أخرى: أنْ يكون القبيلُ متقادِم الميلاد، قليل الذلة قليل السيادة، وتهيَّأ أن يصير في ولدِ إخوتهم الشرف الكامل والعدد التامّ، فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكلِّ من رآهم أو سمع بهم، أضعافُ الذي هم عليه لو لم يكونوا ابتُلوا بشرف إخوتهم.
ومِنْ شؤم الإخوة أنّ شرفهم ضعةُ إخوتهم، ومن يُمن الأولاد أنّ شرفهم شرفُ من قَبْلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم: كعبد اللّه بن دارم وجرير بن دارم، فلو أنَّ الفُقَيم لم يناسب عبد اللّه بن دارم وكان جاراً، كان خيراً له.
ولقد ضعضعتْ قُريش - لما جاءتْ به من الخصال الشريفة التامّة؛ مِنْ أركان كنانة - سَنامَ الأرض وجبلها وعينَها التي تبصر بها، وأنفَها التي بها تعطس، فما ظنُّك بمن أبصر بني زيد بن عبد اللّه بن دارم، وبني نهشل بن دارم، وبني مجاشع بن دارم، ثمَّ رأى بني فقُيم بن جرير بن دارم? وكذلك كلُّ أخوَين إذا برَع أحدُهما وسبق وعلا الرِّجال؛ في الجود والإفضال، أو في الفُرُوسة أو في البيان، فإِن كان الآخر وسَطاً من الرجال، قصدُوا بحسن مآثره في الطبقة السفلى لتَبِين البراعةُ في أخيه، فصارت قرابته التي كانت مفخرةً هي التي بلغت به أسفَل السافلين، وكذلك عَنَزَة بن أسد في ربيعة، ولو كان سودد ربيعة مرَّةً في عَنَزَة ومرّة في ضُبَيعة أضْجَمَ، لكان خيراً لهم اليوم، ولودَّ كثير من هؤلاءِ القبائل التي سلمت على الشعراءِ أو على العوامِّ أن يكون فيهم شَطْرُ ما للعنَزيِّين من الشرف، ولو أنَّ الناس وازنوا بين خصال هذه القبائل خيرها وشرِّها لكانوا سَوَاءً.
 وقال صاحب الكلب: ذكرتَ عيوبَ الكلب فقلتَ: الكلب إذا كان في الدار مَحَق أُجُور أهل الدَّار حتى يأتيَ على أقصاها، لأنَّ الأجور إذ أُخِذ منها كلَّ يوم وزنَ قيراط، والقيراط مثل أحد، لم يلبث على ذلك أن يأتيَ على آخرها، وقلتَ: في الكلب أشدُّ الأذى على الجار والضيف والدخيل، يمنعه النَّومَ ليلاً والقائلَة نهاراً، وأن يسمَعَ الحديث، ثمّ الذي على سامع النُّباح من المؤنة من الصوت الشديد.
ولو لم يكن في الكلب ما يؤذي بشدَّة صوتِه إلاَّ بإدامة مجاوبة الكلاب لكان في ذلك ممّا ينغِّص العيش، ويمنع من الكلام والحديث.
شعر في النباح والاستنباح وقال أرطأة بن سُهَيّة في بعض افتخاره:

إذا أغدف السِّترَ البخيلُ المواكلُ

 

وإنِّي لَقَوَّام إلى الضّيف موهنـا

على ثقةٍ منِّي بما أنا فـاعـلُ

 

دعَا فأجابَتْـهُ كـلاب كَـثِـيرَةٌ

يدُ الضيف إلاَّ أنْ تُصانَ الحَلائِلُ

 

وما دونَ ضيفي من تلادٍ تحوزُه

وقال ابن هَرْمة:

وقلتْ له قُمْ في اليَفَاع فـجَـاوِبِ

 

ومستنبحٍ نبَّهتُ كلبـي لـصـوتِـهِ

بضرْبةِ مسنونِ الغِراريْن قاضِـبِ

 

فجاءَ خَفِيّ الصوتِ قد مسَّهُ الضّوى

وتلك التي ألقَى بـهـا كـلَّ آئبِ

 

فرحَّبت واستبشرت حتَّى بسطـتـهُ

وقال آخر:

دعِ الكلب يَنْبحْ إنَّما الكلبُ نابحُ

 

هجمنَا عليه وهو يَكْعمُ كلبَـهُ

وقال مزرِّد بن ضرار:

إذا ضاف ضيف من فَزارةَ راغبُ

 

نشأتُ غلاماً أَتَّقى الذمَّ بـالـقِـرى

أتى دون نَبْحِ الكلبِ والكلـب دائبُ

 

فإن آبَ سارٍ أسمَعَ الكلبَ صوتَـه

وقال بشَّار بنُ برْد:

وبالشرقين أَيَّامَ القِـبـابِ

 

سقَى اللّه القِباب بتلِّ عبدي

على فُرعان نائمَةَ الكلابِ

 

وأياماً لنا قَصُرَتْ وطالتْ

وقال رجل من بني عبد اللّه بن غَطفان:

على دَخن أكثرت بثَّ المعاتِبِ

 

إذا أنتَ لم تستَبْقِ وُدَّ صـحـابةٍ

لعدْوَة عِرِّيضٍ من الناس جانبِ

 

وإنِّي لأستبقي امرأ السَّوءِ عُدَّةً

إذا لم تجاوبْها كلابُ الأقـارِب

 

أخاف كلابَ الأبعدين ونبحهَـا

وقال أُحيحة بن الجُلاح:

بَّاتِ إذ زانهـا تـرائبُـهـا

 

ما أحْسَنَ الجِيدَ من مُليكةَ والل

نَّاسُ ونامَ الكلابُ صاحبُهـا

 

يا ليتني لـيلة إذَا هـجـع ال

وقلتَ: وفي الكلب قذارةٌ في نفسه، وإقذاره أهله لكثرة سُلاحه وبوله، على أنّهُ لا يرضى بالسُّلاح على السطوح، حتَّى يحفر ببراثنه وينقب بأظافره، وفي ذلك التخريب.
ولو لم يكن إلاّ أنّهُ يكون سبب الوكف، وفي الوكف من منع النَّوم ومن إفساد حُرِّ المتاع، ما لا يخفى مكانه، مع ما فيه من عضِّ الصبيان وتفزيع الوِلدان، وشقِّ الثياب، والتعرُّض للزوّار؛ ومع ما في خلقه أيضاً من الطبع المستدعي للصبيان إلى ضربه ورجْمه وتهييجه بالعبث، ويكون سبباً لعقْرهم والوثوبِ عليهم.
وقلت: وبئس الشيء هو في الدار، وفيها الحُرَم والأزواج، والسَّراريُّ والحظِيّات المعشوقات؛ وذلك أن ذَكَره أَيَرُّ ظاهر الحجم، وهو إما مُقْبَع وإمّا قائم، وليس معه ما يواريه، وربما أَشَظَّ وأنعَظ بحضرتهنَّ، ولعلّهنَّ يكنَّ مُغِيباتٍ أو محتاجاتٍ إلى ما يحتاج إليه النساءُ عند غيبة فحلهنّ، وإذا عجزَ عن أن يَعُمَّهن.
وفد قرحان وقد رمى ضابئُ بن الحارث البُرجُميُّ أمّ أناس من العرب، أنّ الكلب الذي كان يسمَّى قُرْحان، كان يأتي أمَّهم، حتَّى استعدَوا عليه، وحبسه في ذلك عثمان بنُ عفّان رضي اللّه تعالى عنه، ولولا أنّ المعنى الذي رماهم به كان مما يكون ويجوز ويُخافُ مثلُه، لَما بلغ منه عثمانُ ما بلغ، حتّى مات في حبسه، وفي ذلك يقول ضابئ ابن الحارث:

 

تَظَلُّ بها الوَجناءُ وهي حَسِيرُ

 

تجشَّم نَحوي وَفْدُ قُرحانَ شُقَّةً

 

حَباهم بتَاجِ الهرمزان أمـيرُ

 

فزوّدتُهم كلباً فراحوا كأنمـا

 

فإنَّ عقوقَ الوالداتِ كـبـيرُ

 

فأمَّكم لا تتركوها وكلبَـكـم

يبيت له فوقَ السرِيرِ هَرِيرُ

 

إذا عَثّنَتْ من آخر الليل دُخْنة

 








قصص تتعلق بالكلاب

وزعم اليقطريُّ أنّهُ أبصرَ رجلاً يكُومُ كلبةً من كِلاب الرعاء، ومرَّ بذلك الزُّبِّ العظيمِ في ثفرها - والثَّفرُ منها ومن السبع، كالحِرِ من المرأة والظَّبْية من الأتان والحِجر، والحياء من الناقة والشاة - فزعم أنّها لم تعقِد عليه، ولا ندري أمكّنته أم اغتصبَها نفسَها.
وأمّا النَّاس ففي مُلح أحاديثهم: أَنّ رجلاً أشرفَ على رجل وقد ناك كلبةً فعقَدت عليه، فبقي أسيراً مستخْزِياً يدور معها حيث دارت، قال: فصاح به الرجل: اضربْ جَنبَيها، فأطلقته، فرفَعَ رأسه إليه، فقال: أَخزاه اللّه أيُّ نيَّاكِ كلْباتٍ هو.
وخبّرني من لا أردُّ خبره، أنّه أشرفَ من سطحٍ له قصير الحائط، فإذا هو بسَوادٍ في ظلِّ القمر في أصل حائط، وإذا أنينُ كلبة، فرأى رأسَ إنسان يدخل في القمر، ثم يرجع إلى موضعه من ظِلّ القمر، فتأمَّل في ذلك فإِذا هو بحارس ينيك كلبة، قال: فرجمتُه وأعلمته أنِّي قد رأيتُه، فصبَّحني من الغد يقرَع الباب عليّ، فقلت له: ما حاجتك? وما جاء بك? فلقد ظننتُ أنّك ستركب البحر أو تمضي على وجهك إلى البراري، قال: جُعِلتُ فِداك، أسألك أن تستُر عليّ، ستَرَ اللّه عليك، وأنا أتوب على يديك قال: قلت ويلَك، فما اشتهيتَ مِن كلبة? قال: جُعلت فداك، كلُّ رجلٍ حارسٍ ليس له زوجةٌ ولا نجل، فهو ينيك إناثَ الكلاب إذْ كنَّ عِظامَ الأجسام، قال: فقلت: فما يخاف أن تعضَّه? قال: لو رَامَ ذلك منها غيرُ الحارس التي هي له وقد باتتْ معه فأدخلها في كِسائه في ليالي البرد والمطر، لما تركته، وعلى أنَّه إن أراد أن يوعبه كلَّه لم تستقرّ له، قال: ونسيتُ أنْ أسألَه: فهل تعقِد على أُيور النّاسِ كما تعقِد على أيور الكلاب? فلقيته بعدَ ثلاثين سنة، فقال: لا أدري لعلَّها لا تعقد عليه، لأنَّهُ لا يُدْخِلُهُ فيها إلى أصله، لعلّ ذلك أيضاً إنَّما هو شيءٌ يحدث بين الكلب والكلبة، فإِذا اختلفا لم يقع الالتحام، قال:فقلتُ: فَطَيِّبٌ هو? قال: قد نكْت عامَّة إنَاث الحيوانات فوجدتُهُنَّ كلَّهنَّ أطيَبَ من النساء، قلتُ: وكيف ذلك? قال: ما ذاك إلاّ لشدَّة الحرارة، قال: فطال الحديث حتى أَنِس فقلتُ له: فإذا دار الماء في صُلْبك وقرُبَ الفراغ? قال: فربَّما التزمتُ الكلبةَ وأهوَيت إلى تقبيلها، ثم قال: أمَا إنَّ الكلابَ أطيبُ شيءٍ أفواهاً، وأعذَبُ شيءٍ رِيقاً؛ ولكن لا يمكن أنْ أنيكها من قُدَّامٍ، ولو ذهبتُ أن أنيكها من خلف وثَنيتُ رأسَها إلى أنْ أقبِّلها، لم آمَنْ أنْ تظنَّ بي أني أريدُ غيرَ ذلك فتُكدِّم فمي ووجهي، قال فقلت: فإنِّي أسألُك بالذي يستُرُ عليك، هل نَزَعت عن هذا العمل مُنْذُ أعطيتَني صفقةَ يدِك بالتَّوبة? قال: ربَّما حنَنتُ إلى ذلك فَأَحتبسُ بعهدك.
قال: وقلتُ: وإنَّك لتحنُّ إليها? قال: واللّه إني لأَحِنُّ إليها، ولقد تَزَوَّجتُ بعدَك امرأتين، ولي منهما رجالٌ ونساء، ومن تعوّد شيئاً لم يكد يصبِرُ عنه قال: فقلت له: هل تَعرف اليومَ في الحُرّاس مَن ينيك الكلبات? قال: نعم، خذ محموَيه الأحمر، وخذ يشجب الحارس، وخذ قفا الشاة، وخذ فارساً الحَمّاميّ فإنّ فارساً كان حارساً وكان قيِّم حَمّام، وكان حَلَقيّاً، فزعم أنّه ناكَ الكلابَ خمسين سنة، وشاخ وهُزِلَ وقبُح وتشنَّج، حتّى كان لا يُنيكه أحد، قال: فلم يزَلْ يحتالُ لكلب عندَه حتى ناكه، قال: وكان معه بخير حتَّى قتله اللصوص، ثمَّ أشرفَ على فارِسٍ، هذا المحتسِبُ الأحدبُ، وهو ينيك كلبةً فرماه بحجر فدمَغَه، قال: فالكلاب كما ترى تُتَّهم بالنساءِ، وينيكها الرجال، وتنيك الرجال، وليس شيءٌ أحقّ بالنفي والإغراب والإطراد وبالقتل منها، ونحن من السباع العادِيَة الوحشيَّة في راحة، إلاّ في الفَرْط فإنّ لها عُراماً على بعض الماشية، وجنايةً على شرار العامَّة وكذلك البهائم، وما عسى أن يبلغ من وطْءِ بعير ونطح كبش، أو خمش سِنّورٍ أو رَمْح حمار، ولعلّ ذلك يكون في الدهر المرّةَ والمرّتين، ولعلَّ ذلك أيضاً لا ينال إلاَّ عبداً أو خادماً أو سائساً، وذلك محتَمل، فالكلاب مع هذه الآفات شركاءُ الناس في دورهم وأهاليهم. قال صاحب الكلب: إنْ كنتم إلى الأذى بالسُّلاح تذهبون، وإلى قَشرِ طِين السطوح بالبراثن تميلون، وإلى نتن السُّلاح وقذَر المأكول والمشروب تقصدون، فالسِّنَّورُ أكثر في ذلك، وقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنّه قال: هُنَّ مِنَ الطَّوَّافاتِ عليكم، فإِذا كان ذلك في السنانير مغتفراً، لانتفاعهم بها في أكل الفأر، فمنافع الكلاب أكثرُ، وهي بالاعتقاد أحقّ، وفي إطلاق ذلك في السنّور دليلٌ على أنّه في الكلاب أجْوَز.
وأمَّا ما ذكرتم من إنعاظه، فلعمري إنّه ما ينبغي للغَيورِ أن يُقيم الفرسَ ولا البِرذونَ والبغلَ والحمارَ والتَّيس في المواضع التي تراها النساءُ، والكلبُ في ذلك أحسنُ حالاً، وقد كرِه ناسٌ إدخال منازلهم الحمامَ والدِّيكةَ والدجاج والبطّ خاصة؛ لأنّ له عند السفاد قضيباً يظهر، وكذلك التيس من الظباءِ، فضلاً عن تُيوس الصفايا، فهذا المعنى الذي ذكرتمْ يجري في وجوهٍ كَثيرة وعلى أنّ للحمام خاصَّةً من الاستشارة، والكَسْم بالذئب، والتقبيل الذي ليس للناس مثلُه، ثمَّ التقبيل والتغزّل والتَّنفُّش، والابتهاج بما يكون منه بعدَ الفراغ، وركوب الأنثى للذكر وعدم إمكانها لغير ذكرها، ما يكونُ أهيجَ للنساء ممَّا ذكرتم، فلم أفردتم الكلب بالذِّكر دونَ هذه الأمورِ، التي إذا عاينت المرأة غُرمُولَ واحِدٍ منها، حقَرت بعلَها أو سيِّدَها، ولم يزل ظلُّ ذلك الغرمول يعارضها في النوم، وينبِّهها ساعةَ الغفلة، ويُحدِث لها التمنِّيَ لما لا تقدر عليه، والاحتقارَ لما تقدر عليه، وتركتم ذكر ما هو أجلُّ وأعظمُ إلى ما هو أخسُّ وأصغر? فإنْ كنتم تذهَبون في التشنيع عليه إلى ما يعقر من الصبيان عند العَبث والتعرُّض، والتَّحَكك والتهيِيج والتحريش، فلو أنّ الذي يأتي صبيانُكم إلى الكلب، من الإلحاح بأصنَاف العَبَث - والصِّبيانُ أقسى الخلْقِ وأقَلّهم رحمةً - أنْزَلُوهُ بالأحنف ابن قيس، وقيس بن عاصم، بل بحاجب بن زُرارة وحِصن بن حُذَيفة، لخَرَجُوا إلى أقبَحَ ممَّا يخرج إليه الكلب، ومَن ترك منهم الأخذَ فوق يدِ ابنه، فهو أحقُّ باللائِمة.
وبعد فما وجدْنَا كلباً وثبَ على صبيٍّ فعقَره مِنْ تلقاءِ نفسه، وإنّه ليتردَّد عليه وهو في المهد، وهو لحمٌ على وضَم، فلا يشَمُّه ولا يدنو منه، وهو أكثرُ خلقِ اللّه تعالى تشمُّماً واسترواحاً؛ وما في الأرضِ كلبٌ يلقى كلباً غريباً إلاَّ شمّ كلُّ واحدٍ منهما استَ صاحبِه، ولا في الأرضِ مَجوسيٌّ يَموت فيُحْزَن على موتِه ويحمل إلى الناوُوس إلاَّ بعد أن يُدنى منه كلبٌ يشَمُّه، فإنّه لا يخفى عليه في شمِّه عندَهم، أحيٌّ هو أم ميِّتٌ؛ للطافَةِ حِسِّه، وأنّه لا يأكل الأحياءَ، فأمَّا اليهود فإنّهم يتعرَّفون ذلك من الميّت، بأن يدهُنوا استَه، ولذلك قال الشاعر وهو يرمي ناساً بدين اليهودية:

بدُهنٍ وحَفُّوا حَوْلَـه بـقـرَام

 

إذا مات منهم ميِّتٌ مَسَحُوا اسْتَهُ

جنايات الديك

وقالوا: فإذا ذكرتم جناياتٍ الكلاب، فواحدٌ من جنايات الدِّيَكة أعظمُ من جنايات الكلاب؛ لأنّ عبد اللّه بن عثمان بن عفّان، ابنَ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إنَّما مات من نقْرِ ديكٍ في دار عثمان، نقر عينه فكان سبَبَ موته، فقتْلُ الديك لِعتْرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أعظمُ من كثيرٍ ممَّا تستعظمونَه من جنايات الكلاب.
وقد نقر ديكٌ عينَ ابن حَسَكة بن عَتَّاب، أو عين ابن أخته.
وقد نقر ديك عين ابن الريان بن أبي المسيح وهو في المهد فاعورّ، ثمَّ ضربته الحُمرة فمات، ووثبَ ديك فطعن بصِيصَتِه عين بنتٍ لثُمامة بن أشرس، قال ثمامة: فأتاني الصّريخ، فو اللّه ما وصلتُ إليها حتى كَمد وجههُا كلُّه واسوَدَّ الأنفُ والوَجْنتان وغارت العينان، وكان شأنُ هذا الديك - فيما زعم ثمامة - عجباً من العجب: ذكر أنَّ رجلاً ذكر أنَّ ديكاً عند بقَّالٍ لهم، يقاتل به الكلاب، قال: فأتيتُ البقَّال الذي عنده فسألتُه عن الديك، فزعم أنَّه قد وجَّه به إلى قتال الكلاب، وقد تراهنوا في ذلك، فلم أبرحْ حتَّى اشتَرَيْتُهُ؛ وكنتُ أصونُه وجعلته في مَكَنّة، فخرجت يوماً لبعض مصلحةٍ وأقبلت بنتي هذه لتنظر إليه، فكان هذا جزائِي منه. قال: وديكٌ آخر أقبل إلى رأس زيد بن علي، حتَّى وطئَ في ذؤابته ثمّ أقبَلَ ينقُرُ دِماغه وعينيه، فقال رجل من قريش، لمن حضر ذلك من الخدم:

طالما كان لا تَطَاهُ الدَّجاجُ

 

اطردُوا الديكَ عن ذؤابة زيد

نفع الكلب

والكلب إن كان كما يقول، فإنَّ له يداً تشجُّ وأخرى تأسُو، بل ما يدفَع اللّه بحراسته ويجلب من المنافع بصيده أكثرُ وأغمر، وهو الغامر لا المغمور، والفاضل لا المفضول، والديك يفقأ العُيونَ وينقُر الأدمغة ويقتل الأنفس، ويشُجُّ ولا يأسو؛ فشرُّه صِرف وخيره ممزوج، إلاّ أنْ يزعموا أنّه يحرس من الشيطان، فيكون هذا من القول الذي يحتاج إلى البرهان، ومن عارض منافع الكلاب وحراستَها أموالَ الناس من اللصوص، ومنعَ السِّباع من الماشية، وموضعَ نفع الكلب في المزارع - وذلك عيان ونفعه عامُّ وخطبه عظيم - بما يُدَّعَى من حراسة الدِّيكة للشيطان، لم يكايل ولم يُوازِن ولم يَعرف المقايسة، ولا وقَف قطُّ على معنَى المقابلة ودَلَّ بذلك على أنَّ مبلغَ رأيِه لا يجوز رأيَ النساء.

العواء وما قيل من الشعر فيه

ويكون العُواء للكلب والذئبِ والفصيل، وقال النابغة:

لِكلبي في دياركمُ عُواءُ

 

ألم أكُ جارَكم فتركتموني

وقال الشاعر:

من الذئب يَعوِي والغرابِ المحجَّلِ

 

وإنِّي امرؤٌ لا تقشَعِـرُّ ذؤابـتـي

وقال الشاعر:

ليَسقُط عنهُ وهو بالثَّوب مُعْصمُ

 

ومستَنْبحٍ تَستَكشِط الرّيحُ ثَـوْبَـه

لينبَحَ كلـبٌ أو لـيفـزَعَ نُـوّمُ

 

عَوى في سوادِ الليل بعدَ اعتسافِه

له مع إتيان المُهبِّينَ مَطْـعَـمُ

 

فجاوبَهُ مستسمِعُ الصوتِ للقِرَى

يكلِّمهُ من حبِّهِ وَهـوَ أعـجَـمُ

 

يَكَادُ إذا ما أبصر الضيفَ مُقْبِلاً

وقال ذو الرُّمَّة:

عواءُ فصيل آخرَ الليلِ مُحثَلِ

 

به الذئب محزوناً كأنَّ عواءَه

وقال آخر:

يَعوِي به الذئْبُ وتَزقُو هامُه

 

ومنهلٍ طامـسة أعـلامُـه

وقال عَقيل بن عُلّفة يهجو زبَّان بن منظور:

ذئبٌ عَوى وهو مشدود على كُـورِ

 

لا باركَ اللّهُ فـي قـومٍ يسـودهـمُ

فوقَ الحصَى حولَ زبّان بنِ منظورِ

 

لم يبقَ من مـازنٍ إلاَّ شـرارُهُـم

وقال غَيلان بن سلمة:

الحبس فالأنواء فالعقـل

 

ومعرِّس حين العشاء بـه

ذئب الفلاةِ كأنّـه جِـذلُ

 

قد بثَّه وهنـاً وأرّقـنـي

ولكلِّ صاحِب قفرةٍ شكلُ

 

فتركته يعوِي بقَفـرتِـه

لَحِب يلوحُ كأنّه سَحْـل

 

بتَنُوفةٍ جرداءَ يجزعـهـا

وقال مغلّس بن لقيط:

على فعليات مُسْتَثَارٍ سخيمهـا

 

عوى منهُمُ ذئبٌ فطرَّب عـادياً

دماً هُلِستْ أحسادُها ولحومُها

 

إذا هُنَّ لم يلحَسْنَ من ذي قرابةٍ

وقال الأحيمِرُ السعديُّ:

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى

وصوَّتَ إنسان فكِدتُ أطيرُ وقال آخر:

وقد زَحَفَتْ للغور تالية النَّـجِـم

 

وعاوٍ عَوى واللّيْلُ مستحلس الندى

وذلك أنّ الرجلَ إذا كانَ باغياً أو زائراً، أو ممَّن يلتمِس القرَى، ولم ير بالليل نَاراً، عوى ونبح، لتجيبَه الكلاب، فيهتدي بذلك إلى موضع الناس.
وقال الشاعر:

إلينا وممساه من الأَرض نازح

 

ومُستَنبِحٍ أهلَ الثَّرى يَلمَس القِرى

وقال عمرو بن الأهتم:

وقد حانَ من سارِي الشِّتاءِ طروق

 

ومستنبحٍ بعـد الـهـدُوِّ دعـوتُـه

فهذا من عواء الفصيل والذئب والكلب.

ما قالوا في أنس الكلب وإلفه

وقال صاحب الكلب: وممّا قالوا في أنْس الكلب وإلفه، وحبِّه لأهله ولمن أحسَنَ إليه قول ابن الطّثريّة:

وارعَيْ بذاكِ أمـانةً وعُـهُـودا

 

يا أُمَّ عمرٍو أنجِزِي المـوعـودا

حتَّى تركتُ عُقُورَهُـنَّ رُقُـودا

 

ولقد طرقْت كلابَ أهلِكِ بالضُّحَى

متـوسِّـداتٍ أذرُعـاً وخـدودا

 

يضرِبْنَ بالأذنابِ مِن فرحٍ بـنـا

وقال الآخر:

لم يُنكِر الكلبُ أنِّي صاحب الدَّارِ

 

لو كُنْتُ أحمِلُ خمراً يومَ زرتُكـم

والعنبرُ الوَرْدُ أُذكيه على النـار

 

لكنْ أتيتُ ورِيحُ المِسكِ يفعمنـي

وكان يعرف ريح الزِّقِّ والقـار

 

فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني

وقال أبو الطّمَحان القينيّ في الإلف، وهو يمدح مالك بن حمار الشَمْخي:

لقيتُهـمُ وأتـركُ كـلَّ رَذْلِ

 

سأمدَحُ مالكاً في كلِّ رَكـب

عِظامٍ جِلَّةٍ سُـدُسٍ وبُـزْلِ

 

فما أنا والبكارَةُ من مخاضٍ

كأنِّي منهمُ ونسيتُ أهـلـي

 

وقد عرَفَتْ كلابُهمُ ثـيابـي

لها ما شئتَ مِن فرعٍ وأصلِ

 

نمَتْ بك من بني شَمْخٍ زِنَـادٌ

وقال الشاعر في أَنَس الكلاب وإلفها، يذكر رجلاً:

ولكنْ بتَلْقَامِ الثَّـرِيدِ رفـيقُ

 

عنيف بتَسْواقِ العِشارِ ورَعْيِها

له في ديارِ الغانيات طَرِيق

 

سَنِيد يظَلُّ الكلب يمضَغْ ثَوبَه

وقال الآخر:

وسَرت بأبيضَ كالهلال على الطَّوَى

 

بات الحويرثُ والكـلاب تَـشَـمُّـه

وقال ذو الرمة:

ومُدَّت نُسوج العنكبوت على رحلي

 

رأتني كلابُ الحي حتَّى ألِفنَـنـي

وقال حسَّان بن ثابت:

قبرِ ابْنِ ماريةَ الكريمِ المُفْضِلِ

 

أولاد جَفْنَةَ حولَ قبرِ أبـيهـمُ

شمُّ الأنُوفِ من الطَّرازِ الأَوَّلِ

 

بِيض الوجوهِ نقيَّةٌ حُجزاتُـهـمْ

لا يَسَألونَ عن السّوادِ المقبِـلِ

 

يُغشَوْنَ حتَّى ما تَهِزُّ كلابـهـم

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

رَحِيب المَبَاءةِ والمسْـرحِ

 

وبوَّأتِ بيتك في مَـعـلـمٍ

ونَبْحَ الكلاب لمستَـنْـبِـحِ

 

كفيتَ العُفاةَ طِلاَبَ القِـرَى

أخادِيدَ كالـلَّـقـم الأفـيَحِ

 

تَرَى دَعْس آثَارِ تلك المطيِّ

لكُنْتَ على الشرك الأوضَح

 

ولو كنْتَ في نـفـق زائغٍ

وفي مثل ذلك، وليس في ذكر إلف الكلاب، ولكِنَّه مما ينبغي أن يكون مجموعاً إلى هذه الأشعار، وبك إلى ذلك حاجة شديدة، قال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْت:

في ذُرَى مُشْرِفِ القُصورِ ذرَاكا

 

لا الغياباتُ مُنـتـواكَ ولـكـنْ

وقال البزَّار الحلِّيّ، في المعنى الأول:

مِنْ أسيف يبتغي الخيرَ وحُرّ

 

ألِفَ الناسَ فما ينبَـحُـهُـمْ

وقال عِمران بن عصام:

وغَيرهِمُ مِنَنٌ غَـامِـرَهْ

 

لِعَبْدِ العزِيزِ على قَـوْمِـه

ودارُك آهـلةٌ عـامـرهْ

 

فبابك ألـينُ أبـوابـهـم

من الأُمِّ بابنتهـا الـزَّائرهْ

 

وكلبُك آنس بالمعـتـفِـين

ن أندَى من اللَّيلةِ الماطرهْ

 

وكفُّك حين ترى السائلـي

بكلِّ مـحـبَّـرةٍ سـائرهْ

 

فمِنك العَطاءُ ومنَّا الثَّنَـاءُ

وقال هلال بن خثعم:

وإنِّي لَمشْنوءٌ إليّ اغتـيابُـهـا

 

إنِّي لَعَفٌّ عن زيارة جـارَتـي

زَؤوراً ولم تأنَسْ إليَّ كلابُهـا

 

إذا غابَ عنها بعلها لم أكنْ لهـا

ولا عالِم مِنْ أيِّ حوكٍ ثِيابُهـا

 

وما أنَا بالدَّارِي أَحاديثَ سِرِّهـا

ويَكفيك سوءَات الأمور اجتنابُها

 

وإنّ قِرَابَ البطنِ يكفيك ملـؤهُ

وقال حاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد اللّه، ويكنى أبا سَفَّانة، وكان أسره ثوب ابن شَحمة العنبريّ مُجير الطير:

وشَقَّ على الضَّيفِ الغريبِ عَقُورُها

 

إذا ما بخيلُ النَّاس هَـرَّتْ كـلابُـه

جَواد إذا ما النَّفسُ شَحَّ ضمـيرُهـا

 

فإنِّي جبانُ الكلب بـيتـي مـوطَّـأٌ

قليل على مَن يعتريها هَـريرُهـا

 

ولكن كلابي قـد أُقِـرَّت وعُـوِّدت

هجو الناس بهجو كلابهم

وقال صاحب الكلب: إنّ كثيراً من هجاءِ الكلب، ليس يراد به الكلب، وإنَّما يراد به هِجَاءُ رجلٍ، فيجعل الكلب وُصلةً في الكلام ليبلغ ما يريدُ من شتمه، وهذا أيضاً مما يرتفق الناسُ به من أسباب الكلاب، ولذلك قال االشاعر:

وحَفيف نافجةٍ وكلب مُوسَـدُ

 

مِن دونِ سَيبك لونُ ليل مظلـمٍ

ومُسِيفُ قومِك لائم لا يَحمَـدُ

 

وأخوكَ محتمل عليك ضغـينة

لا بلْ أحبُّهما إلـيك الأَسـودُ

 

والضّيفُ عِنْدَكَ مثلُ أسودَ سالخ

فهذا قول الشاعر، وقال الآخر:

جَبَانُ الكلبِ مَهْزولُ الفصيلِ

 

وما يكُ فيَّ مِن عيبٍ فإنِّـي

فهو لم يردْ مدحَ الكلب بالجبن، وإنَّما أراد نفسه حين قال:

وحفيف نافجة وكلب موسد

فإن كان الكلبُ إنما أسرَه أهلُه، فإنَّما اللوْم على من أسرَه، وإنما هذا الضَّرب كقوله:

قالوا لأُمِّهمُ بُولي على النَّارِ

 

قوم إذا استنبَحَ الأَضيافُ كلبهمُ

ومعلوم أنّ هذا لا يكون، ولكن حقَّر أمرهم وصغَّرهم.
وقال ابن هَرْمة:

نبحَتْ فَدَلَّتْهُ عليّ كلابي

 

وإذا تنوَّرَ طارِق مستنبِح

وقال ابن مهية:

حوافِرَها الدوابرَ والنُّـسـورا

 

جلَبنا الخيلَ من شُعَبَى تَشَكَّـى

وأهل الجوف أن قتلوا غرورا

 

فلما أنْ طَلَعن بعين جـعـدي

يُهارِشَ كلبُهم كلباً عَـقـورا

 

ولم يكُ كلبُهم ليفـيق حـتَّـى

ومعلوم أنَّ هذا لا يكون، إنما هو مثل، وقال أعرابيّ:

إلى أهله أو ذِمَّةً لا تُـخَـفَّـرُ

 

أخو ثقةٍ قَدْ يحسبُ المجدَ فُرصةً

كرِيهٌ إلى الكوماءِ والكلبُ أبصَرُ

 

حبيبٌ إلى كلبِ الكريمِ نبـاحُـه

وقال ابن هَرْمة:

شَحمٌ يَزِفُّ به الداعِي وتَرعِيبُ

 

وفرحة من كلابِ الحيِّ يتبَعُها

فهذا قول هؤلاءِ، وقال الآخر:

دَعِ الكلبَ يَنْبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ

 

هَجَمْنَا عليه وهو يَكعَمُ كلبَـه

وقال الآخر:

ونارُكَ كالعَذْراءِ مِنْ دُونها سِتْـرُ

 

وتَكْعَم كلبَ الحيِّ مِن خَشيةِ القِرى

وقال أعشى بني تغلب:

على الأطواء خَنَّقَتِ الكلابا

 

إذا احتلَّت معاوية بن عمرو

فالكلب مرَّةً مكعوم، ومرّة مخنوق، ومرّة مُوسَد ومحرَّش،ومرةً يجعله جباناً، ومرّةً وثّاباً، كما قال الراعي في الحطيئة:

على كلِّ ضيفٍ ضافَه فهو سالحُ

 

ألاَ قبَّحَ اللّـه الـحـطـيئةَ إنّـه

دَع الكلبَ ينبَحْ إنَّما الكلبُ نابـحُ

 

وقعنا إليه وهو يخنقُ كـلـبَـه

وقال أعشى بني تغلب:

ألا كلُّ عَبْسيٍّ على الزادِ نابحُ

 

بكَيْتَ على زادٍ خبيثٍ قرِيتَـه

وقال الفرزدق:

إذا ما أبَى أن ينبَحَ الكلبُ أوقدا

 

ولا تنزع الأضياف إلاّ إلى فتًى

وقال الآخر:

دَع الكلبَ ينبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ

وقال الآخر:

ألا كلُّ كلبٍ لا أبا لَكَ نابحُ

وقال الفرزدق:

إذا ما أبى أن ينبَحَ الكلبُ أوقَدَا

ومتى صار الكلب يأبى النباح? فهذَا على أنّهم يتشفّون بذكر الكلب، ويرتَفِقُونَ به، لا على أنّ هذا الأمرَ الذي ذكروه قد كانَ على الحقيقة: وقال الآخر، وهو جرير:

إذن لأَتاني من رَبيعة راكبُ

 

ولو كنت في نَجْرَانَ أو بِعَمَايةٍ

كضَبِّ العَرادِ خَطْوُه متقارِبُ

 

يُثير الكلابَ آخرَ اللَّيلِ وَطؤُه

ويَنْظُرُ من لُقَّاعةٍ وهو كاذب

 

فباتَ يُمنِّينَا الربيعَ وصَـوْبَـه

فذكر تقارُبَ خطوه، وإخفاءَ حركته، وأنَّه مع ذلك قد أثار الكلاب من آخر الليل، وذلك وقت نومها وراحتها، وهذا يدلُّ على تيقُّظها ودِقَّة حسِّها.
وفيما ذكروا مِن حالة الكلب لسبب القرى من البرد، والذي يلقى، وكيف الشأن في ذلك، قال أعشى باهلة:

وأَلجأ الحيَّ من تنفاحه الحُجَـرُ

 

وأجْحَرَ الكلبَ مُبْيَضُّ الصَّقِيعِ بِهِ

وقال الحطيئة:

بأثباجِ لا خُورٍ ولا قَفِـراتِ

 

إذا أجْحر الكلبَ الصَّقِيعُ اتَّقَيْنَه

وقال ابن هَرْمة:

 

ياف وَهْناً إذا تحـبَّـوْا لـديّا

 

وسل الجارَ والمعصِّب والأض

 

ب وراءَ الكُسُورِ نَبْحاً خَفِـيّا

 

كَيف يَلْقوْنَني إذا نبَحَ الـكـل

بِ فلم يَقرِ أصفرَ الحيّ ريّا

 

ومَشَى الحالبُ الْمُبِسُّ إلى النَّا

 

حادثٍ، بل وَرِثتُ ذاكَ عَليَّا

 

لم تَكُنْ خارجيَّةً من تـراثٍ

 








وقال الأعشى:

سِ في الصَّيْفِ رَقرقتَ فيه العبيرا

 

وتَـبـرُد بَـرْدَ رِداءِ الـعَـــرو

عُ نُباحاً بها الكـلـب إلا هـريرا

 

وتـسـخـن لـيلةَ لا يسـتَـطـي

وقال الهذلي:

يختصُّ بالنَّقَرى المُثرِينَ داعيها

 

وليلةٍ يَصطَلي بالفَرثِ جازِرُها

من الشِّتاءِ ولا تَسرِي أفاعيهـا

 

لا ينبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحـدةٍ

وقال الفرزدق:

كُسُورَ بَيوتِ الحيِّ نَكْباءُ حرْجَفُ

 

إذا احمرَّ آفاقُ السَّماءِ وهَتَّكَـت

يَزِفُّ وجاءَتْ خَلفَه وهي زُحَّفُ

 

وجَاءَ قريعُ الشَّولِ قبلَ إفَالِـهـا

لها تامكٌ من عاتق النَّيِّ أعرَفُ

 

وهتَّكَتِ الأطنـابَ كـلُّ ذِفـرَّةٍ

وكَفٍّ لحرِّ النار ما يتـحـرّفُ

 

وباشرَ راعيها الصَّلَى بلـبـانـه

ليربِض فِيها والصِّلا متكـنَّـفُ

 

وقاتلَ كلبُ الحيِّ عن نارِ أهلِـه

على سَرَوات النِّيبِ قُطْن مُندَّفُ

 

وأصبَحَ مبيَضُّ الصَّقيعِ كـأنّـه

=

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...