كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 5 ومجلد 6. العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي

 

5

مجلد 5 العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي  

  =وحدَّث بَقّي بن محمد الفَقيه قال: ما كلمتُ أحداَ من المُلوك أكملَ عقلاً، ولا أبلغ لَفظاً، من الأمير محمد، دخلتُ عليه يوماً في مجلس خلافته فافتتح الكلامَ، فحَمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذَكر الخُلفاء خليفةً خليفَةَ، فحكى كلَّ واحد منهم بحِلْيته ونَعْته ووصفه، وذكر مآثرَه ومَناقبه، بأفْصح لسان، وأبْين بَيان، حتى انتهى إلى نَفسه فسَكت.
وخَرج الأميرُ محمد يوماً متنزهاً إلى الرُّصافة ومعه هاشمُ بن عبد العزيز، فكان بها صدَر نَهاره على لذَّته، فلما أمسى واختلط الظلامُ رجع مُنصرفاً إلى القَصر وبه اختلاط، فأخبَرني مَن سَمعه وهاشم يقول له: يا سيدي، يا بن الخلائف، ما أطيبَ الدُّنيا لولا. قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت. قال له: يا بن اللَّخناء، لَحنت في كلامك، وهل مَلكنا هذا المُلك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا المَوت ما مَلَكناه أبداً.
وكان الأميرُ محمد غَزَّاءً لأهل الشِّرك والخلاف، وربما أوْغل في بلاد العدو السِّتة الأشهر أو أكثر، يَحرق ويَنْسف، وله في العدو وَقيعة وادي سَليط، وهي من أمهات الوقائع، لم يُعرف مثلُها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عبّاس بنُ فرناس، وشعرُه يَكفينا من صِفتها:
ومُختلِف الأصْوات مُؤتلف الزحْف ... لَهُوم الفَلا عَبْل القنابل مُلتَفّ
إذا أومضت فيه الصَّوارمُ خِلتَها ... بُروقَاً تَراءَى في الجَهام وتَسْتَخْفي
كأنّ ذُرى الأعلام في سَيلانه ... قَراقير يَمٍّ قد عَجَزن عن القَذْف
وإن طَحنت أركانُه كان قُطبُها ... حِجَى مَلك نَجدٍ شمائلُه عَفِّ
سَمِى خِتام الأنبياءِ مُحمَّد ... إذا وُصف الأملاكُ جَل عن الوصْف
فمن أجْله يومَ الثُّلاثاء غُدوةً ... وقد نَقض الإصْباح عَقْد عُرى السَّجف
بَكى جبلاً وادي سَليط فأعولا ... على النَّفر العُبْدان والغصْبة الغُلف
دعاهم صريخ الحَيْن فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجُعلان للبَعْر في قُفّ
فما كان إلا أنْ رماهم ببَعضها ... فولوا على أعْقابِ مهْزومة كًشف
كأنّ مساعيرَ المَوالي عليهُم ... شواهينُ جادت للغَرانيقٍ بالنَسْف
بنَفسي تنانير الوغَى حينَ صُفِّفت ... إلى الجَبَلِ المَشْحون صفّا على صَفِّ
يقول ابنُ يليوسِ لموسى وقد وَنى ... أرى المَوت قُدّامي وتَحْتي ومِن خَلْفي
قتَلناهُم ألفاً وألْفاً ومثلَها ... وألفاً وألفاً بعد ألفٍ إلى ألف
سِوى مَن طواه النهرُ في مُستلجّه ... فأغْرق فيه أو تدأدأ من جُرْف
المنذر بن محمد

ثم ولي المنذرُ بن محمد، يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يومَ السبت في غَزاة له على بُبَشتر، لثلاثَ عشرةَ بقيت من صَفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو ابنُ ستٍّ وأربعين سنة. وكان أشدَّ الناس شَكيمة، وأمضاهم عزيمة. ولما ولي المُلك بَعث إِليه أهلُ طُليطلة بجبايتهمِ كاملةً فردّها عليهم، وقال: استعينوا بها في حَرْبكم فأنا سائر إِليكم إن شاء الله. ثم غزا إلى المارق المرتدّ عمر بن حَفْصون وهو بِحصْن قامره، فأحْدق به وبخَيله ورَجْله، فلم يجد الفاسقُ مَنفذاً ولا متنفساً، فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة، وأظهر الإتابة والإجابة، وأن يكون من مُستوطني قُرطبة بأهله وولده، وسأل إلحاق أولاده في الموالي. فأجابه الأمير إلى كل ما سأل، وكتب لهم الأمانات، وقُطعت لأولاده الثياب، وخُرزت لهم الخِفاف، ثم سأل مائةَ بغل يَحمل عليها ما لَه ومتاعه إلى قُرطبة، فأمر الأمير بها. وطُلبت البغال ومَضت إلى بُبَشْتَر، وعليها عشرة من العرفاء، وانحلّ العسكرُ عن الحِصن بعضَ الانحلال، وعكف القاضيِ وجماعة من الفقهاء على تمام الصُّلح فيما حَسبوا. فلما رأى الفاسق الفُرصةَ انتهزها ففسق ليلاً وخَرج، فلقي العُرفاء بالبغال فقَتلهم، وأخذَ البغال وعاد إلى سيرتِه الأولى. فعقد المُنذر على نفسه عقداً أن لا أعطاه صُلحاً ولا عهداً إلا أن يُلقي بيده ويَنزل على عهدِه وحُكمه، ثم غَزاه الغزاة التي تُوفي فيها، فأمر بالبُنيان والسّكنى عليه، وأن يُردَّ سوق قرطبة إِليه، فعاجله أجلُه عن ذلك.
عبد اللّه بن محمد
ثم تولّى عبدُ الله بن محمد، التقيّ النقيّ، العابد الزاهد، التالي لكتاب اللّه، والقائم بحدود الله، يومَ السبت لثلاثَ عشرةَ بقيَت مِن صفر سنة خمس وسبعين ومائتين. فبنى الساباط وخرج إلى الجامع، والتزم الصلاة إلى جانب المنبر، حتى أتاه أجلُه، رحمه اللّه، يومَ الثلاثاء لليلة بقيت من صَفر سنة ثلثمائة. وكانت له غزوات، منها غَزاة بَليّ التي أنست كُلّ غزاة تقدّمتها، في لك أن المُرتد ابن حَفْصون ألّب عليه كُور الأندلسَ حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها، ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حِصْنَ بَليّ، وخرج إليه الأمير عبدُ اللّه بن محمد في أربعةَ عشرَ ألفاً من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حَشمه ومواليه، فبَرز إليه الفاسق، وقد كرْدس كراديسه في سَفْح الجبل، وناهضه الأميرُ عبد الله بجُمهور عسكره، فلم يكن له فيهم إلا صَدْمة صادقة، أزالهم بها عن معسكرهم، فلم يقدروا أن يتراجعوا إِليه. ونظر الفاسقُ إلِى مُعسكر عبد الله الأمير، فإذا بمَدَد مُقبل مثل اللَّيل، في انحدارِ السيل، لا ينقطع، فجَبُنت نفسه، وعَطف إلى الحصن يظهر إخراج مَن بقي فيه، فثَلم ثلمة وخَرج منها في خمسة معه، وقد طار بهم جَناحُ الفرار. فلما انتهى ذلك إلى أهل عَسكره وَلّوّا مُدبرين، لا يلوي أحد على أحد، فعملت الرماحُ في أكتافهم، والسيوفُ في طلا أعناقهم، حتى أفْنوهم أو كادوا. وكان منهم جماعةٌ قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله، فقعد الأمير في المَظلة، وأمر بالتقاطهم، وأن لا يَمُر أحدٌ على أحد منهم إلا قَتله. فقُتل منهم ألف رجل صبراً بين يدي الأمير.
عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين
ثم ولي الملكَ القمرُ الأزهر، الأسدُ الغضنفر، الميمونُ النقيبة، المحمودُ الضريبة، سيدُ الخلفاء، وأنجبُ النجباء، عبدُ الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحةَ هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة، فقلت فيه:
بدا الهلالُ جديداً ... والمُلك غَضُ جديدُ
يا نِعْمة اللّه زِيدي ... ما كان فيه مَزيد

وهي عدة أبيات، فتولّى المُلكَ، والأرض جَمْرة تحتدم، ونارٌ تَضْطرم، وشِقاق ونفاق، فأخمد نيرانَها، وسًكن زلازلها، وافتتحها عَوْداً كما افتتحها بدءًا سميًّه عبدُ الرحمن بن معاوية، رحمه الله. وقد قلتُ وقيل في غَزواته كُلّها أشعار، قد جالت في الأمصار، وشُرِّدت في البلدان، حتى أتهمت أنجدت وأعرقت، ولولا أنٌ الناس مُكْتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذِكرها أو ذِكر بعضها. ولكننا سنذكر ما سبق إلينا من مَناقبه التي لم يتقدَّمه إليها متقدم، ولا أخْت لها ولا نظير، فمن ذلك أوّل غَزاة غَزاها، وهي الغزاة المعروفة بغَزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حِصْناً، كُلّ حصن منها قد نَكلت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف. وفيها أقول:
قد أوضحَ اللّه للإِسلام مِنهاجَا ... والناسُ قد دَخلوا في الدِّين أفواجَا
وقد تَزينت الدُّنيا لساكنها ... وكأنما ألْبست وَشْياً ودِيباجا
يا بنَ الخلائف إنّ المُزن لو عَلمت ... نَداك ما كان منها الماءُ ثجَاجا
والحربُ لو علمت بأساً تَصول به ... ما هًيجت من حُميّاك الذي اهتاجا
ماتَ النِّفَاق وأعطى الكُفْرُ ذِمّتَه ... وذلّت الخَيل إلجاماً وإسراجا
وأصبح النصرُ معقوداً بألْوية ... تَطْوي المراحلَ تَهْجِيراً وإِدْلاجا
أدخلتَ في قُبة الإسلام مارقةً ... أخرجتَهم من ديار الشِّرك إخراجا
بجَحْفل تَشْرَقُ الأرض الفضاءُ به ... كالبَحر يَقْذِف بالأمواج أمواجا
يقوده البدرُ يَسْرِي في كواكبه ... عَرمرماً كسواد اللّيل رجْراجا
تَرُوق فيه بُرِوق الموت لامعةً ... وتَسْمعون به للرَّعد أهْزَاجا
غادرتَ في عَقْوتي جَيَّان مَلْحمةً ... أبكيتَ منها بأرض الشرِّك أعلاجا
في نِصْف شهر تركتَ الأرضَ ساكنةً ... من بعدما كان فيها الجَوْرُ قدماجا
وُجِدتَ في الخبر المأثور مُنْصلتاً ... مِن الخلائف خَراجاً وولاجا
تُملأ بك الأرض عدلاً مثل ما مُلئت ... جَوْراً وتُوضِحُ للمَعروفِ مِنْهاجا
يا بَدْر َظُلمتها يا شَمْسَ صُبحتها ... يا ليْثَ حَوْمتها إنْ هائجٌ هاجا
إنّ الخلافةَ لن تَرْضىَ ولا رَضِيت ... حتى عَقدت لها في رَأسك التَّاجا
ولم يكن مثل هذه الغَزاة لملك من الملُوك في الجاهلية والإسلام. وله غَزاة مارشن، التي كانت أخت بَدر وحُنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتُها في مَغازيه كُلِّها من سنة إحدى وثلثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وأوقعناها في أسفل كتابنا لتكون جامعةً لمغازي أمير المؤمنين، وجعلتُها رجزاً لخفّة الرجز وسُهولة حفظه وروايته. ومن مَناقبه: أن الملوك لم تزل تَبني على أقدارها، وُيقضى عليها بآثارها، وأنّه بَنى في المُدة القليلة ما لم تَبن الخلفاءُ في المدة الطويلة. نعم، لم يبق في القَصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليّته بِنْية إلا له فيها أثر مُحدث، إما تزْييد أو تَجْديد ومن مناقبه: أنّه أوّد من سُمِّي أميرَ المؤمنين من خلفاء بنى أمية بالأندلس. ومن مَناقبه التي لا أخت لها ولا نَظير، ما اعْجز فيه مَن بعده، وقات فيه مَن قبله، الجودُ الذي لم يُعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له. وقد ذكرتُ ذلك في شعري الذي أقول فيه:
يا بن الخلائف والعُلا للمُعْتلِى ... والجودُ يُعْرف فضلُه للمفضل
نوَهت بالخُلفاء ِبل أخْملتهم ... حتى كأن نَبيلهم لم يَنبُل
أذْكرتَ بل أنْسيت ما ذكر الألى ... من فِعلهم فكأنه لم يُفعَل
وأتيتَ آخرَهم وشَأوُك فائتٌ ... للآخِرين ومُدْرِكٌ للأوّل
الآن سمَيَتِ الخلافةُ باسمها ... كالبَدْر يُقرَن بالسماك الأعْزل
تأبَى فَعالُك أن تُقر لآخِر ... منهمْ وجُودُك أن يكون لِأول
وهذه الأرجوزة التي ذكرَت جميع مغازيه، وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة

وهي:
سُبحان مَن لم تَحوه أقطارُ ... ولم تكنْ تُدركه الأبصارُ
ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ ... فما له نِذو لا شَبيهُ
سبحانَه مِن خالقِ قديرِ ... وعالمٍ بِخلْقه بَصير
وأوّلٌ ليس له ابتداءُ ... وآخِرٌ ليس له انتهاءُ
أوسَعنا إحسانُه وفضلُه ... وعَزَّ أن يكون شيء مثلُه
وجَلّ أن تُدْركَه العُيونُ ... أو يَحْوياه الوَهم والظُنونُ
لكنّه يُدرَك بالقَريحه ... والعَقل والأبنية الصَّحِيحه
وهذه مِن أثبتْ المَعارفْ ... في الأوْجه الغامضة اللَطائفْ
معرفة العَقْل من الِإنسانِ ... أثبتُ من مَعرفة العِيانِ
فالحمْدُ للّه على نَعْمائِه ... حمداًل جزيلاً وعلى آلائِه
وبعد حَمْد الله والتَّمجيدِ ... وبعد شُكر المُبدىء المُعيدِ
أقولُ في أيام خير الناسِ ... ومَن تحلَّى بالنَّدى وِالباس
ومَن أباد الكَفُرَ وَالنفاقَا ... وشرًّد الفِتْنة والشقاقَا
ونحنُ في حَنادسٍ كالليل ... وفتنة مثل غُثاء السيل
حتى تولّى عابدُ الرحمنِ ... ذاك الأغر من بني مروانِ
مُؤيدٌ حَكم في عُداته ... سيفاً يَسيل الموتُ من ظُباتِه
وصبح المُلك مع الهلال ... فأصبحَا يِديْن في الْجَمَال
واحتمل التَقوى على جَبِينِه ... والدين والدُّنيا على يمينِه
قد أشرقت بنُوره البلادُ ... وانقطع التشغيب والفسادُ
هذا على حينَ طغَى النفاقُ ... واستفحل النُكَّاثُ والمُرّاقُ
وضاقت الأرضُ على لسُكانها ... وأذْكت الحربُ لظَى نيرانِها
ونحنُ في عَشواء مُدلهمّهْ ... وظُلمة ما مثلُها من ظُلمهْ
تأخذُنا الصَّيحة كُل يوم ... فما تَلذُ مُقْلةٌ بنَوْم
وقد نُصلي العيدَ بالنواظِر ... مخافةً من العدوّ الثائِر
حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ ... طَبًق بين الأرْض والسماء
خليفة الله الذي اصطفاه ... على جَميع الخَلق واجْتباه
مِن مَعدن الوحي وبَيْت الحِكمه ... وخيْر مَنسوب إلى الأئمة
تَكِلُّ عن مَعروفه الجَنائبُ ... وتَسْتحى من جُوده السحائبُ
في وَجهه من نُوره برهانُ ... وكفُّه تَقبيلها قُرْبانُ
أحْيا الذي مات من المَكارِم ... من عَهد كَعْب وزَمان حاتِم
مكارم يَقصُرُ عنها الوَصْف ... وغرِّة يَحْسرًُ عنها الطَّرفُ
وشِيمة كالضابِ أو كالماء ... وَهِمَّة تَرِقَى إلى السماء
وانظر إلى الرفيع من بُنيانِه ... يُريك بِدْعاَ من عَظيم شَانِه
لو خايل البحرُ نَدَى يَديْهِ ... إذَا لَجَت عُفاتُه إلَيهِ
لغاض أو لكاد أن يَغِيضَا ... ولا استَحى من بعدُ أن يفِيضَا
مَن أسبغ النًّعمى وكانت مَحْقَا ... وفتْق الدنيا وكانت رَتقَا
هو الذي جَمّع شمْلَ الأمهْ ... وجاب عنها دامساتِ الظُلمَه
وجدَد المُلك الذي قد أخْلَقا ... حتى رَسَت أوتادُه واسْتَوسقَا
وجَمّع العُدّة والعَدِيدا ... وكَثَّفَ الأجْناد والحشودا
أول غزاة غزاها عبد الرحمن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد
ثم انتحَى جَيّان في غَزاته ... بعَسكر يَسْعر من حُماتِه
فاستنزل الوحشَ من الهضاب ... كأنما حطت من السّحاب
فأذعنت مُرّاقُها سراعَاَ ... وأقبلت حُصونها تَداعَىَ

لمَا رماها بسيوف العَزْم ... مَشْحوذة على دُروع الحَزْم
كادت لها أنفُسهم تجودُ ... وكادت الأرضُ بهم تَميدُ
لولا الإله زُلزلت زِلزالَها ... وأخْرجت من رَهْبة أثقالَها
فأنزل الناسَ إلى البسط ... وقَطَع البَيْن من الخَليط
وافتَتح الحُصونَ حِصناً حِصناً ... وأوْسع الناسَ جميعاً أمْنَا
ولم يَزل حتى انتحى جيانَا ... فلم يَدَع بأرْضها شَيطانَا
فأصبح الناسُ جميعاً أمّه ... قد عَقد الإلّ لهم والذَمّه
ثم انتحى من فَوره إلْبيرَهْ ... وهي بِكل آفةٍ مَشهورهْ
فداسَها بِخَيله ورَجْله ... حتى توَطّا خَدَّها بنَعْله
ولم يَدَع من جِنّها مَرِيدَا ... بها ولا من إنسها عَنيدَا
إلا كَسَاه الذُّلَّ والصّغارَا ... وعمَه وأهلَه دَمارَا
فما رأيتُ مثلَ ذاك العام ... ومثلَ صُنع اللّه للإسلام
فانصرفَ الأميرُ من غَزاته ... وقد شَفاه اللّهُ من عُداته
وقبلها ما خضعت وأذعنتْ ... إسْتِجة وطالما قد صَنعتْ
وبعدها مدينة الشِّئيل ... ما أذعنت للصارم الصَقيل
لما غَزاها قائدُ الأمير ... باليُمن في لِوائهِ المنْصورِ
فأسلمتْ ولم تكن بالمُسلمة ... وزال عنها أحمدُ بن مَسْلمهْ
وبعدها في آخرِ الشُّهورِ ... من ذلك العام الزَّكيّ النُّورِ
أرْجفت القِلاعُ والْحُصونُ ... كأنما ساوَرَها المَنونُ
وأقبلتْ رجالها وُفودَا ... تبْغِي لدَى إمامها السعودَا
وليس مِن ذِي عزَة وشدَه ... إلا توافَوْا عند باب السدَّه
قُلوبهمْ باخعةٌ بالطّاعَهْ ... قد أجْمعوا الدُّخولَ في الجَماعهْ
سنة إحدى وثلثمائة
ثم غَزا في عُقب عام قابِل ... فجال في شَذُونة والسّاحل
ولم يَدَعْ رَيَّةَ والجزيرة ... حتى كَوى أكلبَها الهريرَه
حتى أناخ في ذُرى قَرْمونَه ... بكَلْكل كمَدْرة الطاحُونه
على الذي خالَف فيها وانتزَى ... يعْزى إلى سوادة إذا اعتزَى
فسال أنْ يُمهله شُهورَا ... ثم يكون عبدَه المأمُورَا
فأسعف الأميرُ منه ما سألْ ... وعاد بالفَضْل عليه وقَفلْ
سنة اثنتين وثلثمائة
كان بها القُفول عند الجَيّه ... من غَزْو إحدى وثَلثماية
فلم يَكن يُدرَك في باقيها ... غَزْو ولا بَعْث يكون فيها
سنة ثلاث وثلثمائة
ثُمت أغزى في الثلاث عَمَّهْ ... وقد كَساه عَزْمَه وحَزْمهْ
فسار في جَيْش شديدِ الباس ... وقائدُ الجيْش أبو العبَّاس
حتى تَرقّى بذُرى بُبَشْتَرْ ... وجالَ في ساحاتها بالعَسْكرْ
فلِم يَدَع زَرْعاً ولا ثِمارا ... لهم ولا عِلقَاَ ولا عُقَارَا
وقطع الكُروم منها والشَجَرْ ... ولم يُبايع عِلْجها ولا ظَهَرْ
ثم انثنى من بعد ذاك قافلا ... وقد أباد الزَرع والمآكِلاَ
فأيقن الخِنزيرُ عِند ذاكا ... أنْ لا بقَاء يُرتَجى هُناكا
فكاتَب الإمامَ بالإجابَه ... والسمْع والطّاعة والإنابه
فأخْمد اللّهُ شِهابَ الفِتْنه ... وأصْبح الناسُ معاً في هُدْنه
وارتعت الشاةُ معاً والدِّيبُ ... إذا وَضعت أوزارَها الحُرُوبُ
سنة أربع وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاة أرْبع ... فأي صُنْع ربنا لم يَصْنَع
فيها ببَسْط المَلِك الأواهِ ... كِلْتا يَديهِ يا سَبيل اللّهِ

وذاك أنْ قَوَّد قائدَيْنِ ... بالنَّصر والتّأييد ظاهرَيْنِ
هذا إلى الثغر وما يَليهِ ... على عدوّ الشِّرك أو ذَويهِ
وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه ... وما مَضى جرى إلى بَلَنْسيَه
فكان مَن وَجّهه للساحلْ ... القرشيًّ القائد القنابلْ
وابن أبي عَبْدة نحو الشِّرْكِ ... في خَيْر ما تَعْبيةٍ وشِكِّ
فأقبلا بكُل فَتْح شامل ... وكُلّ ثُكل للعدوّ ثاكلِ
وبعد هذي الغَزْوة الغَرّاءَ ... كان افتتاحُ لَبْلة الحَمْراءِ
أغزَى بجُند نحوَها مَولاهُ ... في عُقْب هذا العام لا سِواهُ
بَدرًا فضمّ جانبيها ضَمَّة ... وغَمها حتى أجابت حُكمه
وأسْلمت صاحبَهما مَقهورَا ... حتى أتى بدرٌ به مَأسُورَا
سنة خمس وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاةُ خَمْس ... إلى السَّوَادِيّ عقيدِ النَّحْس
لما طَغى وجاوز الحُدودَا ... ونَقض الميثاقَ والعُهودَا
ونابذَ السُّلطانَ مِن شَقائِهِ ... ومِن تَعدِّيه وسُوء رائهِ
أغزى إليه القُرشيَّ القائدَا ... إذ صار عن قَصْد السبيل حائِدَا
ثُمَّت شدَّ أزرَه ببَدْرِ ... فكان كالشَّفع لهذا الوترِ
أحدَقها بالخيل والرجال ... مُشمِّراً وجدَّ في القتال
فنازل الحِصنَ العظيمَ الشانِ ... بالرّجْل والرُّماة والفُرسانِ
فلم يَزل بدرٌ بها محاصرَا ... كذا على قِتاله مُثابرَا
والكلبُ في تهوّرٍ قد انغمسْ ... وضُيِّق الحَلْق عليه والنَّفَسْ
فافترق الأصحابُ عن لوائِه ... وفَتحوا الأبوابَ دُون رائهِ
واقتحم العَسكرُ في المدينهْ ... وهُو بها كهَيْئة الظعينهُ
مستسلماً للذًّل والصّغار ... وملقياً يَديه للإسارِ
فنزَع الحاجبُ تاجَ مُلْكهِ ... وقادَه مُكَتَفا لهُلْكه
وكان في آخر هذا العام ... نَكْب أبي العبَّاس بالإسلام
غَزا وكان أنجدَ الأنجادِ ... وقائدا من أفحل القوادِ
فسار في غيْر رجال الحَرْبِ ... الضاربين عند وَقْت الضَّربِ
مُحارباً في غير ما مُحارب ... والحَشَمُ الجُمهور عند الحاجب
واجتمعت إليه أخلاطُ الكُوًرْ ... وغاب ذو التَّحصيل عنه والنَّظر
حتى إذا أوغل في العَدُو ... فكان بين البُعد والدُّنوَ
أسلمه أهلُ القُلوب القاسيهْ ... وأفْردوه للكِلاب العاوَيهْ
فاستشهد القائدُ في أبْرارِ ... قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي
في غَير تَأخير ولا فِرارِ ... إلاّ شديد الضرب للكُفارِ
سنة ست وثلثمائة
ثم أقاد الله من أعْدائه ... وأحْكم النصرَ لأِوْليائِه
في مَبدأ العام الذي مِن قابل ... أزْهق فيه الحقُّ نَفْس الباطل
فكان مِن رأيِ الإمام الماجدِ ... خَيْرِ مَولودٍ وخَيْر والدِ
أنِ احتمَى بالواحِد القهَارِ ... وفاضَ من غَيظ على اَلكُفارِ
فجمَّع الأجنادَ والحُشودَا ... ونَفرّ السيد والمَسودَا
وحَشر الأطرافَ والثُّغورَا ... ورَفض اللّذاتِ والحُبورَا
حتى إذا ما وَفت الجُنودُ ... واجتَمع الحُشّادُ والحُشودُ
قوَد بدراً أمَر تلك الطائفهْ ... وكانت النفسُ عليه خائفَهْ
فسار في كَتائب كالسَّيل ... وعَسكَرٍ مِثل سَوادِ الليل
حتى إذا حَلّ على مُطْنيّه ... وكان فيها أخبثُ البريهْ

ناصبَهم حرباً لها شرار ... كأنما أضرمَ فيها النارُ
وجدّ من بينهمُ القتالُ ... وأحْدقت حولَهم الرجالُ
فحاربُوا يومَهمُ وباتُوا ... وقد نَفت نومَهم الرماة
فهم طَوالَ الليل كالطلائح ... جراحُهم تَنْغل في الجوارح
ثم مَضوْا في حَرْبهم أيامَا ... حتى بدا الموتُ لهم زُؤاما
لما رأوْا سحائبَ المَنيّه ... تُمطرهم صَواعِق البَليه
تَغَلْغَل العُجم بأرض العُجم ... وانحشَدوا مِن تحت كلِّ نَجم
فأقبَل العِلْجُ لهم مُغِيثَا ... يومَ الخَمُيس مُسْرعاً حَثِيثَا
بين يديِه الرَّجلُ والفَوارسُ ... وحوله الصُّلبان والنَّواقس
وكان يَرجو أن يُزيل العَسْكرَا ... عن جانب الحِصْنِ الذي قد دُمَرا
فاعتاقَه بدرٌ بمن لَدَيهِ ... مُستبصراً في زحفِه إليْهِ
حتى التقت ميمنة بمَيْسرة ... واعتنّت الأرْواحُ عند الْحَنْجره
ففاز حِزْبُ اللّهِ بالعِلْجان ... وانهزمت بطانةُ الشيطانِ
فقُتِّلوا قتلاً ذَرِيعاً فاشيَا ... وأدبَر العِلْجُ ذَمِيماً خازيا
وانصَرفَ الناسُ إلى القُليعه ... فصبّحوا العَدوّ يومَ الجُمعة
ثم التَقى العِلْجان في الطّريق ... البنلوني مع الجلقي
فاعقدا على انتهاب الْعَسكرِ ... وأن يَموتا قبل ذَاك اْلمحْضر
وأقْسما بالْجبْت والطّاغوتِ ... لا يُهْزما دون لِقاء المَوْتِ
فأقبلوا بأَعظم الطّغيانِ ... قد جَلّلوا الْجبالَ بالفُرسانِ
حيَ تدَاعى الناسُ يوم السبتِ ... فكان وقتاً يا له من وَقْتِ
فأشرعت بَينهم الرماح ... وقد علا التَكبير والصياحُ
وفارقت أغمادَها السيوف ... وفَغرت أفواهَها الحُتوفُ
والتقت الرجالُ بالرجال ... وانغمسوا في غَمْرة القتال
في مَوْقفٍ زاغتْ به الأبصارُ ... وقَصرُت في طُوله الأعمارُ
وهبّ أهلُ الصَبر والبَصائِر ... فأوعقوا على العدوّ الكافِر
حتى بدت هزيمةُ البُشكنس ... كأنَه متضب بالوَرْسِ
فانقضت العِقبان والسَّلالقَهْ ... زَعْقاً على مُقدَّم الجلالقَهْ
عُقبان مَوْتِ تَخطِف الأرواحَا ... وتُشبع السيوفَ والرِّماحَا
فانهزم الخنزيرُ عند ذاكَا ... وانكشفتْ عورته هُناكَ
فقُتَلوا في بَطن كلِّ وادِي ... وجاءت الرؤوس في الأعْوادِ
وقَدّم القائدُ ألفَ راس ... مِن الجَلاليق ذَوي العماس
فتمّ صُنع اللّه للإسلام ... وعمّنا سرورُ ذاك العام
وخيرُ ما فيه من السُّرورِ ... موت ابن حَفْصون به الخنزيرِ
فاصل الفتحُ بفتح ثاني ... والنصرُ بالنَصر من الرحمنِ
وهذه الغَزاة تُدعى القاضِيَة ... وقد أتتهم بعد ذاك الدَاهِيهْ
سنة سبع وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاةُ بَلْده ... وهي التي أوْدَت بأهل الردَه
وبَدْؤُها أنَ الإمام المصطَفى ... أصدقَ أهل الأرض عدلاً ووَفَا
لما أتته مِيتةُ الْخِنْزِيرِ ... وأنه صار إلى السعيرِ
كاتَبه أولادُه بالطاعَهْ ... وبالدُخول مَدْخل الجَماعَهْ
وأن يُقِرَّهم على الولايَهْ ... على درور الخَرْج والجِبايَهْ
فاختارَ ذلك الإمامُ المُفْضِلُ ... ولم يزَل مِن رأيهِ التفضلُ
ثم لَوى الشيطانُ رأسَ جَعفرِ ... وصارَ منه نافخاً في المُنْخُر
فنقَضَ العُهودَ والميثاقَا ... واستعمل التشغيب والنَفاقَا

وضَم أهلَ النُكْث والخلافِ ... من غير ما كافٍ وغير وافي
فاعتاقَه الخليفة المَؤيّد ... وهو الذي يشقى به ويسعد
مَن عليه مِن عُيونِ اللّهِ ... حوافظٌ مِن كلَ أمرٍ داهِي
فجَنّد الجُنودَ والكَتائبَا ... وقَوَّد القُوّاد والمَقانِبَا
ثم غَزا في أكثر العديدِ ... مُسْتَصحَبَاً بالنَّصر والتأييدِ
حتى إذا مَر بحِصْن بَلْدهْ ... خَلَّف فيه قائداً في عِدَهْ
يَمنعهم مِن انتِشار خَيله ... وحارساً في يَومه ولَيلهمْ
ثم مَضى يستنزلُ الحُصونَا ... ويبعث الطلاّع والعُيونَا
حتى أتاه باشرٌ من بَلْدَهْ ... يعدو برأس رأسِها في صَعْدَهْ
فقدَم الخيْل إليها مُسرعَا ... واحتلّها مِن يومه تَسرُّعَا
فحفّها بالخيْل والرُّماةِ ... وجُملةِ الحُماة والكُماةِ
فاطّلع الرجْلُ على أنْقابها ... واقتحم الجُندُ على أبوابها
فأذعنتْ ولم تَكُن بمُذعِنهْ ... واستسلمت كافرةُ لمؤمِنَهْ
فقُدَمت كُفّارها للسّيفِ ... وقتَلوا بالحَق لا بالحَيفِ
وذاك مِن يُمن الإمام المُرْتَضىَ ... وخير مَن بَقِي وخير من مَضىَ
ثم انتحى من فوره بُبَشترَا ... فلم يدَعْ بها قضيبَاً أخضرَا
وحَطَّم النباتَ والزُروعَا ... وهَتك الرِّباع والربوعا
فإذا رأى الكلبُ الذي رآه ... مِن عَزْمه في قَطْع مُنْتَواهُ
ألَقى إليه باليَدين ضارِعَا ... وسال أنْ يُبْقَى عليه وادعا
وأنْ يكون عاملاً في طاعتِهْ ... على دُرورِ الخَرْج مِن جِبايتهْ
فوثق الإمامُ من رِهانهِ ... كَيلا يكونَ في عَمى من شانِه
وقبِل الإمامُ ذاك منهُ ... فضلاً وإحساناً وسار عنهُ
سنة ثمان وثلثمائة
ثمِ غزا الإمامُ دارَ الْحَرب ... فكان خطباً يا له من خَطب
فحُشدت إليه أعلامُ الكُورْ ... ومَن له في النَاس ذِكرٌ وخطر
إلى ذَوي الدَيوان والرياتِ ... وكُلِّ مَنسوب إلى الشَاماتِ
وكل مَن أخلص للرحمن ... بطاعةٍ فيً السر والإعلانِ
وكلَ مَن طاوع في الجهاد ... أو ضمه سَرْج على الجياد
فكان حشداً ياله من حشدِ ... من كُل حُرٍ عندنا وعَبدِ
فتحسبُ الناسَ جراداً مُنتشرْ ... كما يقول ربُّنا فيمن حُشر
ثم مَضى المُظَفَّر المنصورُ ... على جَبِينه الهُدى والنُورُ
أمامه جُند من الملائكهْ ... آخذة لربها وتاركهْ
حتى إذا فوَز في العَدوَ ... جَنبه الرحمنُ كُلَّ سَوَ
وأنزل الجزيةَ والدَواهِي ... على الذينِ أشركوا باللّهِ
فزُلزلت أقدامُهم بالرُّعب ... واستُنْفِروا من خوف نار الحَرْب
واقتحموا الشِّعابَ والمَكامنَاَ ... وأسْلموا الحُصونَ والمَدائنَاَ
فما بقِي من جَنَبات دُورِ ... مِن بَيعة لراهب أو دَيْرِ
إلا وقد صَيَرها هباءَ ... كالنَار إذ وافقت الأباءَ
وزَعزعت كتائبُ السلطانِ ... لكُل ما فيها من البنْيانِ
فكان مِن أول حِصْن زَعْزعُوا ... ومَن له منِ العدوَ أوْقعُوا
مَدينة معْرُوفة بوَخْشَمَهْ ... فغادروها فحمةً مُسخمهْ
ثم ارتقوا منها إلى حَواضر ... فغادروها مثلَ أمس الدابرِ
ثم مَضوْا والعلج يَحْتذيهمُ ... بجَيْشه يَخشى ويَقْتفيهمُ
حتى أتوا تواً لوادِي ديّ ... ففيه عفِّى الرُّشدُ سبُلَ الغيّ

لما الْتقوْا بمَجمع الجَوْزينِ ... واجتمعت كتائبُ العِلْجين
مِن أهل ألْيون وبَنبلونَهْ ... وأهل أرنيط وبَرْشلونَهْ
تضافر الكفُرُ مع الإلحادِ ... واجتمعوا مِن سائر البلادِ
فاضطربوا في سَفح طَوْد عالِي ... وصَففوا تعبيةَ القِتال
فبادرتْ إِليهمُ المُقدِّمهْ ... ساميةً في خَيلها المُسوَّمه
ورِدُها متصل برِدِّ ... يُمده بحر عظيمُ المَدِّ
فانهزم العِلجان في عِلاج ... ولَبسوا ثوباً من العَجاج
كلاهما يَنظُر حيناً خَلفَهُ ... فهو يَرى في كُلِّ وَجْهٍ حتْفهُ
والبِيض في إِثرِهم والسمْرُ ... والقَتْل ماضٍ فيهمُ والأسْرُ
فلم يكن للناس منْ بَراح ... وجاءت الرُّؤوس في الرِّماح
فأمر الأميرُ بالتَقْويض ... وأسرْع العَسكَرُ في النًّهوض
فصادفُوا الجُمهور لما هُزمُوا ... وعاينوا قُوّادَهم تُخرِّمُوا
فدخلوا حديقَةً للموتِ ... إذ طَمِعوا في حصْنها بالفَوْتِ
فيالَها حديقةً ويالَها ... وافتْ بها نفوسهم آجالَها
تحضنوا إذ عاينوا الأهْوالا ... لمَعقلٍ كان لهم عِقالا
وصَخرة كانت عليهم صَيْلمَا ... وانقلبوا منها إلى جَهنما
تساقطوا يستطعمون الماءَ ... فأخرجت أرواحُهم ظِماءَ
فكم لسيف الله من جَزُورِ ... في مَأدب الغِرْبان والنسورِ
وكم به قَتلى من القساوس ... تندب للصُّلبَان والنَّواقس
ثم ثَنى عنانَه الأميرُ ... وحولَه التهليلُ والتّكبيرُ
مُصمماً بحرْب دار الحرب ... قُدّامَه كتائبٌ من عُرْب
فداسَها وسامَها بالخَسْفِ ... والهتكِ والسفك لها والنَّسْفِ
فحرّقوا ومزقوا الحُصونا ... وأسْخنوا من أهلها العُيونَا
فانظُر عن اليمين واليسارِ ... فما تَرى إلا لهيبَ النارِ
وأصبحتْ ديارُهم بلاقعَا ... فما تَرى إلا دخاناً ساطعَا
ونُصر الإمامُ فيها المصطفى ... وقد شَفى من العدو واشتَفى
سنة تسع وثلثمائة
وبعدها كانت غَزاة طرشْ ... لسَما إليها جيشه لم يُنْهَشْ
وأحدقتْ بحِصْنها الأفَاعي ... وكُل صِل أسْود شُجاع
ثم بَنى حِصْناً عليهِا راتِبَا ... يَعتور القوّادُ فيهِ دائبَا
حتى أنابتْ عَنوةَ جِنانُها ... وغابَ عن يافوخها شَيطانُها
فأذعنتْ لسيد السادات ... وأكرم الأحياء والأمواتِ
خليفةِ الله على عِبادِه ... وخير مَنْ يَحكم في بلادِه
وكان موت بدرٍ بنِ أحمدِ ... بعد قُفول المَلكِ المُؤَيدِ
واستحجب الإمامُ خيْرَ حاجب ... وخيْرَ مَصحوب وخَير صاحبِ
مُوسى الأغَرّ من بني جُدَيرِ ... عَقيد كُل رأفةٍ وخَير
سنة عشر وثلثمائة
وبعدها غَزِاةُ عشرْ غَزْوَهْ ... بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ
غزا الإمامُ في ذوي السلطان ... يَؤُمّ أهلَ النُّكْث والطغيانِ
فاحتلّ حِصْن منتلوِن قاطعَا ... أسباب مَن أصبح فيه خالعَا
سارَ إليه وبَنى عليه ... حتى أتاهُ مُلْقِياً يَدَيْه
ثم انثنى عنه إلى شَذُونَهْ ... فعاصَها سهلاً من الْحُزونَهْ
وساقَها بالأهل والوِلدانِ ... إلى لُروم قُبّة الإيمانِ
ولم يَدَعْ صَعْبًا وَلا منيعاً ... إلا وقد أذلهَم جميعَا
ثم انثنَى بأطيبِ القفُول ... كما مَضىَ بأحسنِ الفضول
سنة إحدى عشرة وثلثمائة

وبعدها غزاة إحدَى عشَرَهْ ... كم نَبّهت من نائمٍ في سَكْرَهْ
غزا الإمامُ يَنتحي بُبَشْتَرا ... في عَسْكر أعظمْ بذاك عَسْكرا
فاحتلّ مِن بُبَشْتَر ذَراها ... وجال في شاطٍ وفي سواها
فخرّب العُمران من بُبَشْتَرِ ... وأذعنت شاطُ لربِّ العَسكرِ
فأدخل العدة والعديدَا ... فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدَا
ثم انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْم ... فداسها بالقَضْم بعد الخَضْم
ما كان في سواحل البُحورِ ... منها وفي الغاباتِ والوُعور
وأدخل الطاعةَ في مكانِ ... لم يدْر قط طاعةَ السلطانِ
ثم رَمى الثغرَ بخير قائدِ ... وذادهم عنه بخير ذائد
به قما اللّهُ ذوي الإشراكِ ... وأنقذ الثغرَ من الهلاكِ
وانتاش من مَهْواتها تُطِيلَهْ ... وقد جرت دماؤُها مَطلُولَهْ
وطَهر الثغرَ وما يَليهِ ... من شِيعةِ الكُفر ومن ذَويهِ
ثم انثنى بالفَتح والنجاح ... قد غيّر الفسادَ بالصلاح
سنة اثنتي عشرة وثلثمائة
وبعدها غَزاةُ ثِنْتَيْ عَشَرَهْ ... وكم بها من حَسْرَةٍ وعِبْرَهْ
غزا الإمامُ حولَه كتائبه ... كالبَدْر محفوفاً به كواكبُه
غزا وسيفُ النّصر في يَمينه ... وطالعُ السٌعدِ على جَبينه
وصاحبُ العَسكر والتدبير ... موسى الأغرُّ حاجب الأمير
فدمَّر الحُصونَ من تُدْمِير ... واستنزل الوحشَ من الصخورِ
فاجتمعتْ عليه كُلّ الأمهَ ... وبايعته أمراء الفتنة
حتى إذا أوعب من حصونها ... وجمَّل الحق على مُتونها
مَضى وسار في ظلال العَسكرِ ... تحت لواءِ الأسد الغَضَنْفَرِ
رجال تُدمير ومَن يليهمُ ... من كلّ صِنفٍ يعتزى إليهم
حتى إذا حَلَّ على تُطيله ... بكت على دمائها المَطلولَهْ
وعِظْم ما لاقت من العدو ... والحرب في الَّرواح والغدوِّ
فهمّ أن يديخ دار الحرب ... وأن تكَونَ رِدأهُ في الدَرْب
ثم استشار ذا النُّهى والحِجْرِ ... من صَحْبِه ومِن رجال الثغْر
فكُلهم أشار أن لا يُدْرِبا ... ولا يَجوز الجبل المُؤشبا
لأنه في عسكرٍ قد انخرمْ ... بندْبِ كلِّ العُرفاء والحشَمْ
وشَنعوا أنَ وراء الفَج ... خمسينَ ألفاَ من رجال العِلْج
فقال لا بُد من الدُخول ... وما إلى حاشاه مِن سبيل
وأن أديخ أرض بَنْبلونَهْ ... وساحة المدينة الملْعُونَهْ
وكان رأيا لم يكُن من صاحب ... ساعدَه عليه غيرُ الحاجبِ
فاستنصر الله وعبى ودَخلَ ... فكان فتحاً لم يكُن له مَثَلْ
لما مَضى وجاوز الدروبَا ... وادّرعٍ الهَيْجاء والحُروبَا
عبَّى له عِلْجٌ من الأعلاج ... كتائبا غَطت على الفِجاج
فاستنصرَ الإمامُ رب الناس ... ثم استعان بالندى والباس
وعاذ بالرَّغْبَةِ والدُّعاء ... واستنزل النصرَ مِن السماءِ
فقدَم القوَّادَ بالحُشود ... وأتْبع المُدود بالمدودِ
فانهزم العلجُ وكانت مَلْحَمَهْ ... جاوز فيها الساقةُ المُقدَمهْ
فقُتَلوا مَقتلة الفَناءِ ... فارتوت البِيضُ من الدَماءِ
ثم أمال نحوَ بَنْبلونهْ ... واقتحم العسكرُ في المَدينهْ
حتى إذا جاسوا خلالَ دُورها ... وأسرع الخرابُ في مَعْمورها
بكتْ على ما فاتَها النواظرُ ... إذ جَعلت تَدُقها الحَوافرُ
لفَقد من قَتّل من رجالها ... وذُلّ من أيْتم من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلفِ ... تَهمى عليه الدمعِ عينُ الأسْقفِ

وكم بها حَقّر من كنائِس ... بدَّلت الآذان بالنواقِس
يَبكي لها الناقوس والصَّليبُ ... كلاهما فَرض له النحيبُ
وانصرَفَ الإمامُ بالنجاح ... والنصرِ والتأييدِ والفلاح
ثم ثَنى الراياتِ في طريقِه ... إلى بَني ذي النون من تَوفيقِه
فأصبحُوا من بَسْطهم في قَبْض ... قد ألصقت خدودُهم بالأرض
حتى بدَوْا إليه بالبرهانِ ... من أكبر الأباء والوِلْدانِ
فالحمدُ للّه على تأييدِه ... حمداً كثيراً وعلى تسديدِه
سنة ثلاث عشرة وثلثمائة
ثم غزا بيُمنه أشُونا ... وقد أشادُوا حولها حُصونَا
وحَفَها بالخيل والرجال ... وقاتلوهم أبلغَ القِتال
حتى إذا ما عاينُوا الهلاكَا ... تبادروا بالطَوْع حينذاكَا
وأسلمُوا حِصْنَهمُ المنِيعَا ... وسَمحوا بخَرْجهم خُضوعَا
وقبلَهم في هذه الغَزاةِ ... قد هُدَمت معاقل العُصاةِ
وأحكم الإمامُ في تدبيرهِ ... على بني هابلَ في مَسيره
ومَن سواهم من ذوي العشيرَهْ ... وأمراء الفتنةِ المُغيرَة
إذ حُبسوا مراقباً عليهمُ ... حتى أتوا بكل ما لديهمُ
من البنينَ والعيال والحشمْ ... وكلّ من لاذ بهم من الخَدَمْ
فهَبطُوا من أجمَع البُلدانِ ... وأسكنُوا مدينةَ السلطانِ
فكانَ في آخِر هذا العام ... بعد خُضوع الكُفرِ للإسلام
مشاهدٌ من أعظم المَشاهِد ... على يَدَي عبد الحميد القائدِ
لما غَزا إلى بنى ذي النون ... فكان فتحاً لم يَكُن بالدُّونِ
إذ جاوزوا في الظلْم والطُّغيانِ ... بقَتْلهم لعامِل السُلطانِ
وحاولُوا الدُخولَ في الأذيّة ... حتى غزاهمْ أنجد البرِيّة
فعاقَهم عنْ كلَ ما رَجَوْهُ ... بنَقضه كُلّ الذي بنوه
وضَبْطه الحِصْن العظيمَ الشانِ ... أشنين بالرَّجْل وبالفُرسانِ
ثم مَضى الليثُ إليهم زحفاً ... يَختطِفُ الأرواحَ منهم خَطْفَا
فانهزموا هزِيمةً لن تُرْفَدَا ... وأسْلموا صِنوهمُ مُحَمَدَا
وغيرُه من أوْجُه الفُرسانِ ... مغرب في مأتم الغِربانِ
مُقطع الأوصال بالسنابكِ ... من بعد ما مُزق بالنَيازكِ
ثم لجوا إلى طِلاب الأمنِ ... وبَذْلهم ودائعاً من رَهْنِ
فقبضت رِهانُهم وأمَنوا ... وأنْغَضوا رؤوسَهم وأذْعنوا
ثم مَضى القائدُ بالتأييدِ ... والنصر من ذي العَرْش والتسدِيد
حتى أتى حِصْن بني عِمَارَهْ ... والحرْبُ بالتّدْبير والإدارَهْ
فافتتح الحِصْنَ وخلى صاحبَهْ ... وأمَن الناسَ جميعاً جانبَهْ
سنة أربع عشرة وثلثمائة
لم يَغْزُ فيها وغَزَتْ قُوادُه ... واعتورت ببُشْترا أجنادُهُ
فكلهم أبلَى وأغنَى واكتفَى ... وكُلُهم شَفَى الصُدورَ واشتفَى
ثم تلاهم بعدُ لَيثُ الغِيل ... عبدُ الحميدِ من بني بسيل
هو الذي قامَ مقامَ الضَّيغَم ... وجا في غَزاتِه بالصَيلم
برأس جالوتِ النّفاق والحسَدْ ... من جُمَع الخِنزيرُ فيه والأسدْ
فهاكه مع صحبه في عِدَّة ... مُصلَبين عند باب السُّدَّة
قد امتطى مطيّة لا تبرحُ ... صائمةً قائمةً لا ترْمحُ
مطية إن يَعْرُها انكسارُ ... يطِبّها النجّارُ لا البَيطار
كأنه من فَوقها أسْوارُ ... عيناه في كلتيهما مِسْمارُ

مباشراً للشمس والرياح ... على جوادٍ غير ذي جِماح
يقول للخاطر ِبالطَريقِ ... قولَ مُحبٍّ ناصح شفِيقِ
هذا مقام خادِمٍ الشيطانِ ... ومَن عَصى خليفةًَ الرحمن
فما رأينا واعظًا لا يَنْطقُ ... أصدَق منه في الذي لا يَصدق
فقُل لمن غُرّ بسُوء رائِه ... يَمُت إذا شاء بمثل دائِه
كم مارقٍ مَضىَ وكم مُنافقِ ... قد ارتقى في مِثل ذاك الحالِقِ
وعاد وهْوَ في العصا مُصلْب ... ورأسهُ في جِذْعه مُركَب
فكيف لا يعتبر المخالفُ ... بحال مَن تطلبه الخلائفُ
أما تراه في هَوان يرتعُ ... معتَبراً لمن يَرَى ويسمَعُ
سنة خمس عشرة وثلثمائة
فيها غَزا معتزما ببُشْترا ... فجال في ساحتها ودمرَا
ثم غزا طَلْجيرةً إليها ... وهي الشجَى من بين أخدعَيْهَا
وامتدّها بابن السليم راتبَا ... مشمَراً عن ساقه مُحاربَا
حتى رأى حَفْصٌ سبيلَ رُشدِه ... بعد بُلوغ غايةٍ من جُهدِه
فدان للإمام قصداً خاضعَا ... وأسلمَ الحِصنَ إليه طائعَا
سنة ست عشرة وثلثمائة
لم يَغْزُو فيها وانتحَى بُبَشْترا ... فرمَّها بما رَأى ودَبرا
واحتلّها بالعزّ والتَمكينِ ... ومَحْو آثارِ بني حَفْصونِ
وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ ... وطَهّر القبورَ من أجسادهمْ
حتى خَلا مَلْحودُ كل قَبْر ... من كل مُرتَدٍّ عظيم الكُفْرِ
عِصابةٌ من شيعةِ الشَيطانَ ... عدوّة لله والسلطانِ
فخُرّمت أجسادها تخرّما ... وأصليت أرواحهم جَهَنَمَا
ووجِّه الإمامُ في ذا العام ... عبدَ الحميد وهو كالضرغام
إلى ابن داودَ الذي تقلَّعا ... في جبلَيْ شَذُونة تمنعا
فحطّه منها إلى البسيط ... كطائر آذنَ بالسقوطِ
شم أتى به إلى الإمام ... إلى وفيِّ العهد والذَمام
سنة سبع عشرة وثلثمائة
وبعد سَبعَ عَشرةَ وفيها ... غزا بَطَلْيَوْس وما يليها
فلم يَزل يَسوِمها بالخَسْف ... ويَنْتحيها بسُيوِف الحَتْفِ
حتى إذا ما ضم جانبَيْهَا ... محاصراً ثم بنى عَلَيْها
خلى ابنَ إسحاق عليها راتبَا ... مُثابراً في حَرْبِه مُواظبَا
ومَر يَسْتقصي حصونَ الغَرْب ... وَيبتليها بوَبيل الحَرْبِ
حتى قضىَ منهنَ كلَّ حاجَهْ ... وافتُتحتْ أكْشونيَة وباجَهْ
وبعد فَتْح الغَرْب واستقصائِه ... وحَسْمِهِ الأدْواء من أعدائِهِ
لجّت بَطَلْيوسُ عَلى نِفاقِهَا ... وغرّها اللَّجاجُ من مُرٌاقِهَا
حتى إذا شافهت الحتوفَا ... وشامت الرماحَ والسُيوفا
دعا ابنُ مَروان إلى السلطان ... وجاءَه بالعَهْد والأمان
فصار في توْسعةِ الإمام ... وساكناً في قُبة الإسلام
سنة ثماني عشرة وثلثمائة
فيها غَزَا بعَزْمه طُلَيْطِله ... وامتنعوا بمَعْقل لا مِثلَ له
حتى بَنى جرنشكه بجَنبها ... حِصْناً منيعاً كافلاً بحَرْبها
وشدَها بابن سَليم قائدَا ... مجالداً لأهلها مُجاهدَا
فجاسَها في طُول ذاك العام ... بالخَسْف والنَّسف وضَرْب الهام
سنة تسع عشرة وثلثمائة
ثم أتى رِدْفاً له دُري ... في عسكرٍ قضاؤُه مقضي
فحاصروها عامَ تسعَ عَشرَهْ ... بكلٌ مَحبُوكٍ القُوى ذي مِره
ثم أتاهم بعد بالرجال ... فقاتلوهم أبلغَ القِتالِ
سنة عشرين وثلثمائة

حتى إذا ما سلفت شُهورُ ... من عام عِشْرين لها ثبورُ
ألقت يديها للإمام طائعَهْ ... واستسلمت قسراً إليه باخعه
فأذعنتْ وقبلها لم تُذْعن ... ولم تَقُد من نَفْسها وتُمْكنِ
ولم تَدِنْ لربِّها بدين ... سبعاً وسَبعين من السِّنين
ومُبتدى عشرين مات الحاجبْ ... مُوسى الذي كان الشهابَ الثاقبْ
وبَرز الإمامُ بالتأييد ... في عُدّة منه وفي عَديدِ
صَمْدا إلى المدينة اللعينه ... أتعسها الرحمنُ من مَدينه
مدينةُ الشِّقاق والنفاقِ ... وموئل الفساق والمُراقِ
حتى إذا ما كان منها بالأمم ... وقد ذَكا حَرّ الهَجير واحتدمْ
أتاه واليها وأشياخُ البَلدْ ... مستسلمين للإمام المعتمدْ
فوافقوا الرحبَ من الإمام ... وأنزِلوا في البِرِّ والإكرام
ووجّه الإمامُ في الظهيرةَ ... خيلاً لكي تدخل في الجَزِيرَه
جريدةٌ قائدُها دري ... يَلمع في متونها الماذيّ
فاقتحمُوا في وَعْرها وسَهلَها ... وذاك حينَ غفلةٍ من أهلهَا
ولم يكن للقوم من دفاع ... بَخيل دريّ ولا امتناعٍ
وقوّض الإمامُ عند ذلكا ... وقلبه صَبٌّ بما هنالكَا
حتى إذا ما حلَّ في المدينَهْ ... وأهلُها ذليلةٌ مَهينَهْ
أقمعها بالخيل والرجال ... من غير ما حرب ولا قِتال
وكان من أوّل شيء نظرَا ... فيه وما رَوى له ودبَّرَا
تهَدُّم لِبابها والسّورِ ... وكان ذاك أحسنَ التدبير
حتى إذا صيَّرها بَراحَا ... وعاينوا حريمها مُباحَاَ
أقَرّ بالتّشييدِ والتّأسيس ... في الجبل النَامي إلى عَمْروس
حتى استوى فيها بناء مُحكمُ ... فحَلّه عاملُه والحشمُ
فعند ذاك أسلمت واستسلمت ... مدينةُ الدّماء بعد ما عَتَبْ
سنة إحدى وعشرين وثلثمائة
فيها مَضى عبد الحميد مُلتئمْ ... في أهبة وعُدّة من الحَشَمْ
حتى أتى الحصنَ الذي تَقلَعَا ... يحيى بن ذي النون به وامتنعَا
فحطّه من هَضبات ولبِ ... من غير تعْنيت وغير حَرْبِ
إلا بترْغيب له في الطاعهْ ... وفي الدُخول مَدْخل الجماعَهْ
حتى أتى به الإمامَ راغبَا ... في الصفح عن ذُنوبه وتائبَا
فَصفح الإمامُ عن جنايتِهْ ... وقَبْل المبذولَ من إنابِتْه
وردِّه إلى الحُصون ثانيَا ... مُسجّلا له عليها وَاليَا
سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة
ثم غزا الإمامُ ذو المَجدينِ ... في مُبتدا عشرين واثنتين
في فَيلق مُجَمهر لُهام ... مُدَكْدِك الرُّؤوس والآكامَ
حافُ الرّبى لزَحْفَه تَجيشُ ... تجيشُ في حافاته الجيوشُ
كأنهم جِنُّ على سَعالي ... وكُلهم أمضىَ من الرِّئبال
فاقتحمُوا مُلوندة ورومَهْ ... ومِن حَواليها حصون حيمهْ
حتى أتاه المَارقُ التّجيبِي ... مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ
تخَصَّه الإمامُ بالترحيبِ ... والصَفح والغُفران للذُّنوبِ
ثم حَباه وكَساه ووَصَلْ ... بشاحج وصاهلٍ لا يُمْتَثلْ
كلاهُما من مَركب الخلائفِ ... في حِلْية تعْجِزُ وصفَ الواصفِ
وقال كُن منّا وأوطَن قُرْطبَه ... نُدنيك فيها من أجلِّ مَرْتبة
تكن وزيراً أعظمَ الناس خَطَرْ ... وقائداً تَجْبي لنا هذا الثّغَرْ

فقال إني ناقةٌ من عِلَّتي ... وقد تَرى تغيري وصفرتيِ
فإِن رأيتَ سيدي إمْهالِى ... حتى أرمّ من صَلاح حالي
ثم أوافيك على استعجال ... بالأهل والأولادِ والعِيال
وأوثق الإمامَ بالعهودِ ... وجَعل اللّه من الشهودِ
فقَبل الإِمامُ من أيمانه ... وردّه عفواً إلى مكانِه
ثم أتته ربةُ البَشاقِص ... تُدْلِى إليه بالوِداد الخالص
وأنها مُرْسلة من عنده ... وجَدّها متصلٌ بجَدّه
واكتفلتْ بكُلِّ بنبلونى ... وأطلقت أسرى بني ذي النّونِ
فأوعدَ الإمامُ في تَأمينهَا ... وتكّبَ العسكرَ عن حُصونهَا
ثم مَضى بالعزِّ والتَمكين ... وناصراً لأهل هذا الدّينِ
في جُملة الراياتِ والعساكرِ ... وفي رِجال الصّبر والبَصائرِ
إلى عِدَى اللّه من الجلالقِ ... وعابدِي المَخلوقِ دون الخالقِ
فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعَا ... وهَتكوا الربوع والرِّباعَا
وخَربوا الحُصونَ والمدائنَا ... وأنفروا من أهلها المَساكنَا
فليس في الدِّيار من ديارِ ... ولا بها من نافخٍ للنارِ
فغادروا عُمْرانَها خرابَا ... وبَدّلوا رُبوعها يَبابَا
وبالقِلاع أحْرقوا الحُصونَا ... وأسْخنوا من أهلها العُيونا
ثم ثَنى الإِمامُ من عِنانِه ... وقد شَفى الشَجيّ من أشجانِه
وأمّن القِفارَ من أنجاسها ... وطهَر البلادَ من أرجَاسِهَا
127 - /كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج
والطالبين والبرامكة
فرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة قال الفقيهَ أبو عمرَ أحمدُ بنُ محمد بنِ عبدِ ربّه رضي الله تعالى عنه: قد مضى قولُنا في أخبار الخُلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تَصرّفت به دولهم، ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجَّاج والطالبيين والبرامكة، وماسِحون على شيء من أخبار الدولة، إذ كان هؤلاء الذين جرّدنا لهم كتابَنا هذا قُطبَ المُلك الذي عليه مدار السياسة، ومعادنَ التَّدبير، ويَنابيعَ البلاغة، وجوامعَ البيان. هم راضوا الصِّعاب حتى لانت مقاردُها، وخَزموا الأنوف حتى سكنتْ شواردُها، ومارسوا الأمور، وجرّبوا اَلدُّهُور؟ فاحتملوا أعباءَها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرت قواعدُ الملك، وانتظمت قلائدُ الحكم، ونَفذت عزائم السلطان.
أخبار زياد
كانت سُميَّة أُمّ زياد قد وَهبها أبو الخَير بن عمرو الكِنْدي للحارث بن كَلَدة، وكان طبيباً يعالجه فولدت له على فِراشه نافعاً، ثم ولدتْ أبا بَكْرة، فأنكر لونَه. وقيل له: إن جاريتك بَغيّ. فَانْتِفِى من أبي بَكْرة ومن نافع، وَزَوْجهَا عُبيداً، عبداً لابنته. فولدتْ على فراشه زياداً. فلما كان يومُ الطائف نادَى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبدٍ نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله. فنزل أبو بكرة واسلم ولحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الحارث بن كلَدة لنافع: أنت ابني، فلا تَفعل كما فَعل هذا، يريد أبا بكرة. فلَحِق به، فهو ينتسب إلى الحارث بن كلَدة.
وكانت البَغايا في الجاهليّة لهن راياتٌ يُعرفن بها، ويِنَتْحَيْهَا الفِتْيان. وكان أكثرُ الناس يُكْرهون إماءَهم على البِغاء والخُروج إلى تلك الرايات، يبتغون بذلك عَرضَ الحياة الدنيا. فَنَهَى الله تَعَالَى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز: " ولا تُكرِهُوا فَتَياتِكم على البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًاً لِتَبْتَغوا عَرِضَ الحَياة الدُّنيا. ومَنْ يُكْرِهْهن " يريد في الجاهلية " فإنّ الله مِن بَعْد إكراههنّ غفُورٌ رَحِيم " يريد في الإسلام. فيقال: إن أبا سفيان خَرج يوما، وهو ثَمِل، إلى تلك الرايات، فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بَغِيّ؟ فقالت: ما عندي إلا سُمية. قال: هاتها على نَتن إبطيها، فوقع بها. فولدت له زياداً، على فراش عُبيد.

ووجه عاملٌ من عُمّال عمرَ بن الخطّاب زياداً إلى عمرَ بفَتح فَتحه الله على المسلمين. فأمره عمرُ أن يَخطب الناسَ به على المنبر. فاحسن في خطبته وجَوّد، وعند أصل المِنبر أبو سفيان بن حَرْب وعليّ بن أبي طالب. فقال أبو سفيان لعليِّ: أيُعجبك ما سمعتَ من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابنُ عمّك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفتُه في رَحم أمه سُميَّة. قال: فما يَمنعك أن تدعِيهِ؟ قال: أخشى هذا القاعدَ على المِنبر - يعني عُمَر بن الخطاب - أن يُفسد عليّ إهابي. فبهذا الخبر استلحق معاويةً زياداً وشَهد له الشُّهود بذلك. وهذا خلافٌ حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: الولدُ للفراش وللعاهر الحَجَر.
اَلْعَتَبَي عن أبيه قال: لما شَهِد الشهود لزياد قام في أَعْقَابهمْ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: هذا أمرٌ لم أشهد أولَه ولا عِلْم لي بآخره، وقد قال أميرُ المؤمنين ما بَلغكم، وشهد الشهودُ بما سَمعتم. فالحمدَ للّه الذي رفع منا ما وضع الناس، وحَفظ منّا ما ضَيّعوا. وأما عُبيد فإنما هو والدٌ مَبْرور، أو رَبِيب مَشْكور. ثم جلس. وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطّ أشدَّ عليَّ من قول الشاعر:
فكَّر ففي ذاك إن فَكَّرتَ مُعْتَبر ... هل نِلتَ مَكرُمةً إلا بِتَأْمِير
عاشتْ سُميَّة ما عاشت وما عَلِمتْ ... أنّ ابنَها من قريش في الجَماهير
سُبحان مَن مُلْك عباد بقُدرته ... لا يَدفع الناسُ أسبابَ المقادير
وكان زياد عاملاً لعليّ بن أبي طالب على فارس: فلما مات عليّ رضي الله عنه، وبايع الحسنُ معاويةَ عامَ الجماعة، بقي زيادٌ بفارس وقد مَلكها وضَبط قَلاعها، فاغتمّ به معاوية، فأرسل إلى المُغيرة بنُ شعبة. فلما دخل عليه قال: لكُل نبأ مُستقر، ولكُل سر مسَتودِع، وأنت موضعُ سري وغاية ثِقَتي. فقال: المغيرة: يا أمير المؤمنين، إنْ تستودعني سرك تستودعه نَاصِحاً شَفيقاً، ووَرِعا رفيقاً، فلا ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتُ زياداً واعتصامَه بأرض فارس ومُقامه بها، وهو داهية العرَب، ومعه الأحوالُ، وقد تحصّن بأرض فارس وقِلاعها يُدبّر الأمور، فما يُؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو أعاد جَذَعه. قال له المُغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم. فخرَج إليه. فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مُستقبلٌ الشمسَ. فقام إليه زياد ورحِّب به سرُّ بقدومه، وكان له صديقاً - وذلك أنّ زياداً كان أحدَ الشُهود الأربعة الذين شَهدوا على المُغيرة، وهو الذي تَلجج في شهادته عند عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه، فنجا المغيرة وجُلد الثلاثةُ من الشهود، وفيهم أبو بكرة أخو زياد، فحلف أن لا يكلمٍ زياداً أبداً - فلَما تَفاوضا في الحديث قال له المغيرة: أعلمتَ أنّ معاوية استخف الوجل حتى بعثتي إليك، ولا نَعلم أحداً يَمد يَده إلى هذا الأمر غيرَ الحسن، وقد بايع معاويةَ فخُذ لنفسك قبل التَوطين فيَستغني عنك معاوية. قال: أشر عليّ وارم الغرضَ الأقصى، فإنّ المُستشار مُؤتَمن. قال: أرى أن تَصل حبلَك بحَبْله وتسيرَ إلَيه وتعير الناسَ أذناً صماء، وعَينْاً عمياء. قال يا بن شُعبة، لقد قلتَ قولاً لا يكون غَرْسُه في غير منبته، ولا مَدَرة تغذية، ولا ماء يَسْقيه، قال زهير:
وهل يُنْبت التخطيء إلا وشيجُه ... وتُغْرس إلا في مَنابتها النخلُ
ثمِ قال: أرى ويقضي اللّه. وذكر عمر بن عبد العزيز زِيَاداً فقال: سَعي لأهل العِراق سَعْيَ الأم البرّة وجَمع لهم جَمْعَ الذَّرة. وقال غيره: تَشبَّه زيادٌ بعمرَ فأفرط، وتشبه الحجّاج بزياد فأَهلك الناس. وقالوا: الدُّهاة أربعة: معاوية للرويّة، وعمرو بن اَلْعاصّ للبَديهة، والمُغيرة للمعضلات، وزياد لكُل صَغيرة وكبيرة.
ولما قَدم زيادٌ العراق قال: مَن على حَرَسكم؟ قالوا: بَلَج. قال: إنما يُحترس من مثل بَلَج، فكيف يكون حَارِساً! أخذه الشاعر فقال:
وحارس من مثله يُحْترس

العَتَبَيْ قال: كان في مجلس زياد مكتوب: الشِّدة في غير عُنف، واللّين في غير ضَعف. المُحسن يُجازَى بإحسانه، وَالْمُسِيء يعاقَب بإساءته. الأعطيات في أيامها. لا احتجابَ عن طارق لَيْل ولا صاحب ثغر. وبَعث زيادٌ إلى رجال من بني تَميم ورجال من بني بَكْر، وقال: دُلّوني على صُلَحاء كل ناحية ومن يُطاع فيها. فدلوه، فضمّنهم الطريق وحَدّ لكُل رجل منهم حَدا. فكان يقول: لو ضاع حَبل بيني وبين خُراسان عرفتُ من أخذ به وكان زياد يقول: من سَقَى صبياً خمراً حددناه، ومن نَقب بيتاً نَقبناً عن قلبه، ومن نَبش قبراً دفّناه حيّاً. وكان يقول: اثنان لا تُقاتِلوا فيهما: الشتاء وبُطون الأودية. وأول من جُمعت له العراق زياد، ثم ابنُه عبيد الله بن زياد، لم تجتمع لقرشيّ قط غيرَهما. وعُبيد الله بن زياد أول من جُمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعُمان، وإنما كان البحران وعُمان إلى عُمال أهل الحجاز، وهو أول من عرف العُرفاء، ودعا النقباء، ونَكَبالمناكب، وحصل الدواوين، ومُشي بين يديه بالعَمد، ووَضع الكراسي، وعمل المَقصورة، ولَبس الزيادي، ورَبعَ الأرباع بالكوفة وخمسَ الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمُقاتلة والذرية من أهل البصرة وأهل الكوفة وبلغ بالمُقاتلة من أهل الكوفة ستّين ألفاً، ومقاتلة البصرة ثمانين ألفاً، والذرية مائة ألف وعشرين ألفاً. وضَبط زياد وابنهُ عُبيد الله العراقَ بأهل العراق.
قال عبدُ الملك بن مروان لعبَّاد بنِ زياد: أين كانت سيرةُ زياد من سيرة الحجاج؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ زياداً قَدِم العراقَ وهي جَمْرة تشتعل، فسَلَّ أحقادَهم، وداوَى أدواءهم، وضَبط أهلَ العراق بأهل العراق. وقَدمها الحجاجُ فكسر الخراج، وأفسد قلوبَ الناس، ولم يَضْبطهم بأهل الشام فضلاً عن أهل العراق، ولو رام منهم ما رامَه زياد لم يَفْجأك إلا على قَعود يُوجف به.
وقال نافعٌ لزِياد: استعملتَ أولادَ بَكْرة وتركت أولادي؟ قال: إني رأيتُ أولادك كُزْماً قصاراً، ورأيت أولاد أبي بكرة نُجباء طوالاً. ودخل عبد الله بن عامر على مُعاوية، فقال له: حتى متى تذهب بخراج العراق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول هذا لمن هو أبعدُ منِّي رَحماً! ثم خرج. فدخل على يزيد فاخبره وشكا إليه. فقال له: لعلك أغضبتَ زياداً؟ قال: قد فعلتُ. قال: فإنه لا يَرضى حتى تُرضي زياداً عنك. فانطلق ابنُ عامر، فاستأذن على زياد، فأذن له وألطفه. فقال ابنُ عامر: إن شئْت فصُلح بعتاب، وإن شئتَ فصُلح بغير عتاب. " قال زياد: بل صُلْحٌ بغيرِ عِتاب " فإنه أسلم للصَّدر. ثم راح زيادٌ إلى مُعاوية فأخبره، وأصبح ابنُ عامر غادياً على مُعاوية. فلما دخل عليه، قال: مرحباً بأبي عبد الرحمن، ها هنا، وأجلسه إلى جَنْبه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن:
لنا سياق ولكم سياق ... قد علمتْ ذلكمُ الرفاق
الحسن بنُ أبي الحسن قال: ثَقُل أبو بكرة فأرسل زياد إليه أنسَ بن مالك ليصالحَه ويُكلّمه، فانطلقتُ معه. فإذا هو مُول وجهَه إلى الجدار، فلما قَعد قال له: كيف تجدك أبا بكرة؟ فقال صالحا، كيف أنتَ أبا حَمْزة؟ فقال له أنس: اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك، فإنّ الحياة يكون فيها ما يكون، فأمّا عند فراق الدُّنيا فلَيستغفر الله أحدُ كما لصاحبه، فوالله ما علمتُ إنه لوَصول للرَحم؟ هذا عبدُ الرحمن ابنُك على الأبلة، وهذا داود على مدينة الرِّزْق، وهذا عبدُ الله على فارس كلها. والله ما اعلمه إلا مُجتهداً: قال: أقعدوني. فأقعدوه، فقالت: أخبرني ما قلتَ في أخر كلامك، فأعاد عليه القولَ. فقال: يا أنس، وأهلُ حَروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطئوا؟ والله لا أكلمه أبداً ولا يصلي عليّ. فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال، وقال له: إنه قَبيحٌ أن يموت مثْل أبي بكرة بالبَصرة، فلا تُصلّي عليه ولا تقوم على قَبره، فاركب دوابّك والحق بالكوفة. قال: ففعل، ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر، فصلّى عليه أنس بن مالك.

وقدم شريح على زياد من الكوفة فقضى بالبَصرة، وكان زياد يُجلسه إلى جَنبه ويقول له: إن حكمتُ بشيء ترى غيرَه أقربَ إلى الحق منه فأعْلمنيه. فكان زياد يَحكم فلا يَرُدّ شريحٌ عليه. فيقول زيادٌ لشريح: ما ترى؟ فيقول: هذا الحكم؟ حتى أتاه رجل من الأنصار، فقال: إ نّي قدمت البَصرة والخطط موجودة فأردت أن أختطّ لي، فقال لي بنو عَمي؟ وقد اختطّوا ونزلوا: أين تخرُج عنا؟ أقم مَعنا واختطّ عندنا، فوسّعوا لي، فاتخذت فيهم داراً وتزوّجت، ثمّ نزع الشيطان بيننا فقالوا لي: اخرُج عنا. فقال زياد: ليس ذلك لكم، مَنعتموه أن يَختط والخِطط موجودة، وفي أيديكم فضل فأعطيتموه، حتى إذا ضاقت الخُطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به، لا تخرج من منزلك. فقال شريح: يا مُستعير القدر ارددها. قال زياد: يا مستعير القدر أحبسْها ولا تَرْددها. فقال محمد بن سيرين: القضاء بما قال شُريح، وقولُ زياد حَسن. وقال زياد: ما غَلبني أميرُ المُؤمنين مُعاوية إلا في واحدة، طلبتُ رجلاً فلجأ إليه وتحرم به، فكتبتُ إليه: إن هذا فساد لعَملي، إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك فتحرّم بك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ بسياسة واحدة فيكونَ مَقامُنا مقامَ رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغِلْطة، وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس فيما بيننا.
ولما عَزل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياداً عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خِيانة؟ قال له: أعن عجز أم خِيانة؟ لا عَن واحدة منهما، ولكنّى كرهتُ أن أحمل على العامّة فضلَ عقلك. وكتب الحسنُ بن علي رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شِيعته، عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يَملكه، وكان عنوان كتابه: من الحَسن بن عليّ إلى زياد. فغضب زيادٌ إذ قَدّم نفسه عليه ولم يَنسبه إلى أبي سفيان، فكتب إِليه: من زياد بن أبي سُفيان إلى حسن: أما بعد، فإنكَ كتبتَ إليّ فاسق لا يأويه إلا الفُساق، وايم الله لأطلبنّه ولو بين جِلدك ولحمك، فإِن احبّ لحمٍ إلىّ أن آكلهُ لحمٌ أنتَ منه. فكتب الحسنُ إلى معاوية يشتكي زياداً، وادرج كتاب زياد في داخل كتابه. فلما قرأه معاوية أكثر التعجُّب من زياد، وكتب إِليه: أما بعد. فإنّ لك رأيين أحدهُما من أبي سفيان والآخر من سُمية، فأما الذي من أبى سفيان فحَزم وعَزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأيُ مثلها، وإنّ الحسن بن علي كتب إلىّ يذكر أنك عرضْت لرجل من أصحابه، وقد حجزناه عنك ونُظراءَه، فليس لك على واحد منهم سَبيل ولا عليه حكم. وعجبتُ منك حين كتبتَ إلى الحسن لا تَنْسُبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكلْته لا أم لك؟ فهو ابنُ فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن حين اخترتَ له! وكتب زياد إلى معاوية: إنّ عبدَ الله بن عبَّاسُ يُفسد الناسَ عليّ، فإن أذنتَ لي أن أتوعّده فعلتُ. فكتب إليه: إن أبا الفضل وأبا سُفيان كانا في الجاهلية في مِسْلاخ واحد، وذلك حِلْف لا يَحلُّه سوءُ رأيك. واستأذن زيادٌ معاويةَ في الحجّ، فأذِن له. وبَلغ ذلك أبا بكرة، فأقبل حتى دخل على زياد، وقد أجلسِ له بَنيه، فسلم عليهم ولم يُسلّم على زياد. ثم قال: يا بني أخي، إن أباكم رَكب أمراً عظيماً في الإسلام بادعائه إلى أبي سفيان، فوالله ما علمتُ سُميةَ بغتْ قط، وقد استأذن أميرَ المؤمنين في الحجّ وهو مارٌّ بالمدينة لا محالة، وبها أم حَبيبة بنت أبي سفيان زَوجُ النبيّ صلى الله عليه و سلم، ولا بُدّ له من الاستئذان عليها، فإِن أذنت له فَقَعد منها مَقْعد الأخ من أخته فقد انتهك من رسول الله صلى الله عليه و سلم حرمة عظيمة، وإن لم تأذن له فهو عارُ الأبد، ثم خرج. فقال له زياد: جَزاك الله خيراً من أخ، فما تَدع النصيحةَ على حال. وكتب إلى معاوية يَستقيله، فأقاله. وكتب زيادٌ إلى مُعاوية: إني قد أخذتُ العِراق بيميني وبقيتْ شمالي فارغة، وهو يعرّض له بالحجاز. فبلغ ذلك عبدَ الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: اللهم أكفِنا شماله. فعرضت له قرحة في شماله، فقَتلته. ولما بلغ عبدَ الله ابن عمر موتُ زياد قال: اذهب إليك ابنَ سُمية، لا يداً رفعت من حرام، ولا دنيا تملّيت.

قال زياد لعَجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على. الآداب. قال: فمن تُؤخِّر؟ قال: من لا يَعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يَلبسون كُسوة الشتاء في الصيف!، وكسوة الصيف في الشتاء. وقال زياد لحاجبه: ولّيتك حِجابتي وعَزَلْتك عن أربع: هذا المُنادي إلى الله في الصلاح والفلاح، لا تَعُوجنّه عنّى ولا سُلطان لك عليه؟ وطارق الليل، لا تَحْجبه فشرُّ ما جاء به ولو كان خيراً ما جاء في تلك الساعة؟ ورسول صاحب الثغر، فإنه إن أبطأ ساعةً أفسد عملَ سنة؟ وصاحب الطعام، فإنّ الطعام إذا أعيد تَسْخينه فَسد.
وقال عَجلان حاجبُ زياد: صار لي في يوم واحد مائةُ ألف دينار وألف سيف.
قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أعطىِ زيادٌ ألفَ رجل مائتى ألف دينار وسيفاً، فأعطاني كل رجل منهم نصفَ عطائه وسيفه.
أخبار الحجاجِ
دخل المُغيرة بن شُعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلِّل حين انفلتت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنتِ تتخللين من طَعام البارحة فإنك لقذرة، وإن كان من طَعام اليوم إنك لنَهمة، كنتِ فبِنْت. قالت: والله ما فَرحنا إذ كنّا ولا أَسِفنا إذ بِنّا، وما هو بشيء مما ظننتَ، ولكنّى استكت فأردت أن أتخلّل للسواك. فندم المغيرة على ما بَدر منه، فخرج أسفاً، فلقي يوسف بن أبي عَقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلتُ الساعةَ عن سيِّدة نساء ثَقيف، فتزوّجها فإنها تُنجب لك، فتزوّجها فولدتْ له الحجاج.
ومما رواه عبدُ الله بن مُسلم بن قُتيبة قال: إنّ الحجَّاج بن يوسف كان يُعلّم الصِّبيان بالطائف، واسمه كُليب، وأبوه يوسف معلّم أيضاً. وفي ذلك يقول مالك بن الرَّيب:
فماذا عسى الحجَّاجُ يَبلغ جُهده ... إذا نحن جاوزنا حفيرَ زيادٍ
فلولا بنو مَروان كان ابنُ يوسف ... كما كان عبداً من عَبيد إياد
زمانَ هو العَبد المُقرّ بذُلّة ... يروح صبيانَ القُرى ويُغادي
ثم لحق الحجاجُ بن يوسف برَوْح بن زِنباع، وزير عبد الملك بن مَروان، فكان في عديد شُرطته إلى أن شكا عبدُ الملك بن مروان ما رأى من انحلال عسكره، وأنّ الناسَ لا يَرحلون برَحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال رَوْح بن زنْباع: يا أمير المؤمنين، إنّ في شُرطتي رجلاً لو قلّده أميرُ المؤمنين أمر عَسكره لأرحلهم برَحيله وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجّاج بن يوسف. قال: فإِنّا قد قَلدناه ذلك. فكان لا يقدر أحدٌ أن يتخلّف عن الرّحيل والنزول إلا أعوانَ رَوْح بن زنباع. فوقف عليهم يوماً وقد رحل الناسُ وهم على طَعام يأكلون، فقال لهم: ما مَنعكم أن تَرْحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا بن اللّخناء، فكُلْ معنا. فقال: هيهات! ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجُلدوا بالسّياط، وطوفهم في العسكر. وأمر بفَساطيط رَوْح بن زنباع فأحرقت بالنار. فدخل روحُ بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكياً. فقال له: مالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الحجّاج بن يوسف الذي كان في عديد شُرطتي ضَرب عَبيدي وأحرق فَساطيطي. قال: عليّ به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: ما أنا فعلتُه يا أمير المؤمنين قال: ومَن فعله ؟قال: أنت والله فعلته، إنما يدي يدُك وسَوطي سوطُك، وما على أمير المؤمنين أن يُخْلف على رَوْح بن زنباع للفُسطاط فُسطاطين، وللغُلام غلامين، ولا يَكْسرني فيما قَدّمني له. فأخْلف لرَوْح بن زنْباع ما ذَهب له، وتقدّم الحجاجُ في منزلته. وكان ذلك أولَ ما عرف من كفايته.
قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار قال: وكان الحجّاج بن يوسف يَضع في كُل يوم ألف خِوان في رمضان، وفي سائر الأيام خَمسَمائة خوان، على كل خِوان عشرةَ أنفس وعشرة ألوان وسَمكة مَشويّة طريّة وأرزة بسكر، وكان يُحمل في مِحفّة ويُدار به على موائده يتفقّدها، فإِذا رأى أرزة ليس عليها سُكر وسعى الخباز ليجيء بسُكرها، فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سُكر، أمر به فضرُب مائتي سوط. فكانوا بعد ذلك لا يَمشون إلا متأبطي خرائط السكر. قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يَضع خمسمائة خِوان، فكان طعام الحجّاج لأهل الشام خاصّة، وطعام يُوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.

العُتبيّ قال: دخل على الحجّاج سُليك بن سُلَكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعِرْني سمعك، واغضُض عنّي بصرك، واكفُف عني غَربك، فإِن سمعتَ خطأ أو زللا فدونَك والعُقوبة. فقال: قُل، فقال: عَصى عاصٍ من عُرض العَشيرة فحُلّق على اسمي، وهُدمت داري، وحُرمت عطائي. قال: هيهات! أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يَجني عليك وقد ... تَعدِي الصحاحَ مباركُ الجُربِ
ولربّ مأخوذٍ بذنبِ عشيرةٍ ... ونَجا المُقارف صاحبُ الذنب
قال: أصلح الله الأمير، فإِني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال: " يأيّها العَزيزُ إنّ له أباً شيْخاً كَبيراً فخُذ أحَدنا مكانَه إِنَّا نَراك من المُحْسِنين. قال معاذ الله أن نأخُذ إلا مَنْ وجدْنا مَتاعَنا عِنده إنّا إذاً لظالمون " . فقال الحجاج: عليّ بزيد بن أبي مُسلم، فأتي به، فمثَل بين يديه، فقال: افكُك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابنِ له منزلَه، ومُر مُناديا ينادِ في الناس: صَدَق الله وكَذب الشاعر.
أُتي الحجاجُ بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دَير الجماجم، فقال لَحرْسى: قُل لها: يا عدوة اللّه، أين مالُ الله الذي جَعلته تحت ذَيلك؟ فقال: يا عدوة اللّه، أين مالُ الله الذي جعلته تحت استك؟ فقال له: كذبتَ، ما هكذا قلتُ، أرسلها فخلى عنها. الأصمعي قال: ماتت رُفقة عَطَشاً بالشجِي - والشَّجِي: رَبو من الأرض في بطنَ فلج - فَشَجِيَ به الوادي فسُمِّى شج - فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرَّعوا إذا نَزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم، فحفروا. فأمر الحجّاج رجلا، يقال له عضيدة يحفر البئر، فلما أنبطها حمل منها قِربتين إلى الحجاج بأواسط، فلما قدم بهما عليه. قال: يا عديدة، لقد تجاوزت مياهاً عذاباً، أخسف أم أشلت؟ لا واحدَ منهما، ولكنْ نَبَطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قَدره؟ قال: مرّت بنا رًفقة فيها خمسة وعشرون جملاً فَرويت الإبل وأهلها. قال: أو لِلإبل حَفرتها؟ إنما حفرتَها للناس! إن الإبل ضُمْر خُسْف، ما جُشّمت تجشّمتْ.
بعث عبدُ الملك بن مَروان الحجَّاج بن يوسف والياً على العراق وأَمره أن يَحْشر الناسَ إلى المهلَّب في حَرب الأزارقة. فلما أتى الكُوفة صَعِد المِنبَر مُتلثّماً متنكِّبا قوسَه، فجلس واضعاً إِبهامه على فيه. فنظر محمدُ بن عُمير بن عُطارد التميمي، فقال: لَعن الله هذا ولَعن مَن أرسله إلينا! أرسل غلاماً لا يستطيع أن يَنطق عِيَّاً! وأخذ حصاةً بيده لِيَحْصبه بها. فقال له جليسُه: لا تَعجل حتى ننظر ما يَصنع فقام الحجاج فكشف لِثامَه عن وجهه وقال:
أنا ابنُ جلاَ وطَلاَّع الثَنايا ... متى أضع العِمامةَ تَعْرفوني
صليبُ العُود مِن سَلَفْي نِزار ... كنَصل السيفِ وضّاح الجَبَين
أخو خَمْسين مجتمعٌ أشدِّي ... ونَجَّذني مداورة الشؤون
أما والله إني لأحملُ الشرَّ بثِقْله، وأحذوه بنَعله، وأجزيه بمثله؟ أما والله إني لأرى رؤسا قد أَينعت وحان قِطافها، وكأني أرى الدماء تبق العمائم واللِّحى لترقرق
هذا أوانً الشدِّ فاشتدّي زيمْ ... قد لفّها الليلُ بسواق حُطَمْ
ليس براعي إبلٍ ولا غَنم ... ولا بجزَار على ظَهر وَصَمْ

ألا إنّ أميرَ المؤمنين عبدَ الملك بن مروان كَبَّ كنانته فعجَم عيدانَها، فوجدني أصلبهاعوداً، . فوجّهني إليكم، فإنكم طالما سَعيتم في الضَّلالة، وسَننتم سُنن البَغي. أما والله لألحونَّكم لحوَ العصا، ولأعصَبنّكم عصْب السِّلمة، ولأقرعنَّكم، قَرْع المَرْوة، ولأضربنَّكم ضَرْب غَرائب الإبل. والله ما أخْلُق إلا فَريت، ولا أعد إلا وفّيت. إني واللّه لا أغمز تَغمازَ التّين، ولا يُقعقع لي بالشِّنان. إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما يقول، وفيم أنتم ونحو هذا. من وجدتُه بعد ثالثة من بعث المُهلَّب ضربت عنقه. ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين، فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى مَن بالكوفة من المسلمين. سلامٌ عليكم. فلم يقُل أحد شيئاً. فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نِهّية، والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمُنّ. اقرأ يا غلام كتابَ أمير المؤمنين. فلما بلغ قولَه: سلام عليكم لم يبقَ أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل، فأتاه عُمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إنّي شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوَى على الغَزْو منّي. قال: أجيزُوا ابنَه عنه، فإن الحدَثَُ أحبُّ إلينا من الشيخِ. فلما وَلّى الرجلً، قال له عنبسةُ بن سَعيد. أيها الأمير، هذا الذي رَكض عثمان برجله وهو مَقتول. فقال: رُدُّوا الشيخ، فردُّوه، فقال: أضربوا عُنقه. فقال فيه الشاعر.
تجهَّزْ فإمّا أن تزور ابنَ ضابىء ... عُمَيراً وإمّا أن تَزور المهلَّبَا
هما خُطَّتا خَسْفٍ نجاؤك منهما ... ركوبُك حَوْليا من الثَّلْج أَشهبا
ثم قال: دُلّوني على رجل أوليه الشُّرطة. فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ قال: أريده دائم العُبوس، طويلَ الجلوس؟ سمينَ الأمانة، أعجفَ الخِيانة، لا يَحْنق في الحق على حُرّ أو حُرة، يَهون عليه سؤال الأشراف في الشَفاعة. فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عُبيد التّميمي. فأرسل إليه فاستعمله: فقال له: لستُ أقبلها إلا أن تكفيَنِي عمالَك وولدَك وحاشيَتك. فقال الحجاج: يا غلام، نادِ: مَن طَلب إليه منهم حاجةَ فقد برئتْ الذمةُ منه. قال الشعبيُّ: فوالله ما رأيتُ قطُّ صاحب شرطة مثلَه، كان لا يَحبس إلا في دَيْن، وكان إذا أتي برجل نَقب على قوم وَضع مِنْقبته في بَطنه حتى تَخرج من ظهره، وكان إذا أُتي برِجل نَبّاش حَفر له قبراً ودَفنه فيه حيّاً، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شَهر سلاحاً قَطع يَده، فربما أقام أربعين يوماً لا يُؤتى إليه بأحد. فضمّ الحجاجُ إليه شرُطة البَصرة معِ شرُطة الكوفة.
ولما قَدِم عبد الملك بنُ مروان المدينة نزل دارَ مروان، فمرّ الحجّاجُ بخالد ابنِ يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجّاج سيف محلَّى، وهو يَخطِر مُتبختراً. في المسجد. فقال رجل من قُريش لخالد: من هذا التّختارة؟ فقال بخ بخ! هذا عمرُو بن العاص! فسمعه الحجاجُ فمال إليه، فقال: قلتَ: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرّني أن العاص وَلدني ولا ولدتُه، ولكن إن شئتَ أخبرتُك من أنا: أنا ابنُ الأشياخ من ثَقيف، والعقائل من قُريش، والذي ضَرب مائة بسيفه هذا كلهم يَشهدون على أبيك بالكفر وشُرب الخمر حتى أقرُّوا أنه خليفة. ثم ولّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص!

الأصمعي قال: بعث الحجاجُ إلى يحيى بن يَعْمرً، فقال له: أنت الذي تقول إنّ الحسنَ بن على ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربنّ عُنقك. فقالت له: فإن أتيت بالمخرِج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ: " وتلْك حُجتنا آتيناها إبراهيمَ على قَوْمه نرْفع درجاتٍ مَن نَشاء " إلى قوله " ومِن ذُرّيته داودَ وسُليمانَ وأيوبَ ويُوسفَ ومُوسى وهاَرون وكذلك نَجْزي المُحْسنين. وزَكريّا ويَحيى وعِيسى " فمن أقربُ: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابنه بنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأتُ هذه الآية قط، وولاّه قضاءَ بلد. فلم يزل بها قاضياً حتىِ مات. قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبدُ الملك بنُ مَروان سِنان قُريش وسيفَها رأياً وحزماً، وعابدَها قبل أن يُستخلفَ ورعاً وزُهداً، فجلس يوماً في خاصّته فقَبض على لِحيته فشمَّها مليا، ثم اجتر نَفسَه ونَفخ نفخةً أطالها، ثم نَظر وُجوه القوم فقال: ما أطول يومَ المسألة عن ابن أمِ الحجّاج وأدحضَ المحتجّ على العليم بما طَوته الحُجب. أما إنّ تَمليكي له قرَن بي لوعةً يَحشّها التّذكار. كيف وقد علمتُ فتعاميتُ، وسمعتُ فتصاممت، وحَمله الكرامُ الكاتبون. والله لكأني إلفُ ذي الضِّغن على نَفْسي، وقد نَعتِ الأيامُ بتصرّفها أنفساً حُق لها الوعيد بتصرّم الدُّول. وما أبقت الشًّبهة للباقي متعلَقاً، وما هو إلا الغِلّ الكامن من النَّفس بحَوْبائها، والغَيْظ المُندمل. اللهم أنت لي أوسع، غيرَ مُنتصر ولا مُعتذر. يا كاتب، هاتِ الدواةَ والقِرْطاس. فقعد كاتبُه بين يديه وأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مَروان إلى الحجَّاج بن يوسف: أما بعد. فقد أصبحتُ بأمرك بَرِماً، يُقعدني الإشفاقُ، ويُقيمني الرجاء وإذا عجزتُ في دار السعة وتوسًّط الملك وحين المَهل واجتماع الفكر، أن ألتمسالعُذرَ في أمرك، فأنا لعمرُ اللهّ، في دار الجَزاء، وعَدَم السلطان، واشتغال الحامّة، والرُّكون إلى الذِّلة من نفسي، والتوقّع لما طُويت عليْة الصحفُ، أعجز. وقد كنتُ أشركتُك فيما طوقني الله عزَ وجل حملَه، ولاثَ بحَقْويّ من أمانته في هذا الخلق المَرْعيّ، فدُللتُ منك على الحزم والجِدّ في إماتة بِدعَة وإنعاش سُنّة، فقعدتَ عن تلك ونهضتَ بما عاندَها، حتى صِرْت حُجة الغائب والشاهدِ القائم، وعُذّر اللاعنِ. فلعن الله أبا عَقيل وما نَجل، فالأم والد وأخبث نَسل. فَلعمري ما ظَلمكم الزِّمان ولا قَعدت بكم المراتب. لقد ألْبسْتكم مَلبسكم، وأقعدتكم على رَوابي خططكم، وأحلّتكم أعلى مَنَعتكم، فمن حافر وناقل وماتِح للقُلُب المُقْعَدة في الفيافي المتفيهقة، ما تقدَّم فيكم الإسلام ولقد تأخّرتم، وما الطائف منّا ببعيد يُجهل أهلهُ. ثم قمتَ بنفسك وطمحتَ بهمَتك. وسرّك انتضاءُ سَيفك، فاستخرجك أميرُ المؤمنين من أعوان رَوْح ابن زِنباع وشُرطته، وأنت على معاونته يومئذ مَحسود، فهفا أميرُ المؤمنين، والله يُصبح بالتوبة والغفران زلّته وكأني بك وكأنَ ما لو لم يكن لكان خيراً مما كان. كل ذلك مِن تجاسرك وتَحاملك على المُخالفة لرأي أمير المؤمنين. فصدعْتَ صفاتَنا، وهَتكت حُجبنا، وبَسطت يديك تحقِن بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة، والأرحام الواشجة، في أوعية ثَقيف. فاستغفر الله لذَنْب ما له عُذر. فلئن استقال أميرُ المؤمنين فيك الرأيَ فقلد جالت البصيرةُ في ثَقيف بصالح النبيّ صلى الله عليه و سلم، إذ ائتمنه على الصدقات، وكان عبدَه فهرب بها عنه، وما هو إلا اختبار الثّقة والتلطًّف لمواضع الكفاية، فقعد به الرجاءُ كما قَعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له. فكأنّ هذا أَلبس أميرَ المؤمنين ثوبَ العزاء، ونهض بعُذره إلى استنشاق نَسيم الرّوْح. فاعتزِلْ عمل أمير المُؤمنين، واظعن عنه باللَّعنة اللازمة، والعُقوبة الناهكة إن شاء اللّه، إذ استحكم لأمير المُؤمنين ما يُحاول من رَأيه والسلام.

ودعا عبدُ الملك مولى يقال له نُباتة، له لسان وفَضْل رأي، فناوله الكتابَ، ثم قال له: يا نُباتة، العَجلَ ثم العجلَ حتى تأتَي العراق، فضَع هذا الكتاب في يد الحجاج وترقّب ما يكون منه، فإن اجبَل عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقْلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهَدِّن الناسَ حتى يأتيهم أمري، بما تَصفني به في حين انقلاعك، من حُبِّي لهم السلامة. وإن هَشَّ للجواب ولم تَكْتنفه أربة الحَيرة، فخُذ منه ما يُجيب به وأفْرِزه على عمله، ثم اعجَل عليّ بجوابه. قال نُباتة: فخرجتُ قاصداً إلى العراق، فضمّتني الصّحارى والفيافي، واحتواني القُرّ، وأخذ مِنّي السفرُ حتى وصلتُ. فلما وردتُه أدخلت عليه في يوم ما يَحْضُره فيه المَلأ، وعليّ شحوبُ مُضْنَى، وقد توسّط خدمَه من نواحي، وتدثّر بِمطْرَف خَزّ أدكن، ولاثَ به الناسُ من بني قائمٍ وقاعد. فلما نظر إليَّ، وكان لي عارفاً، قعد، ثم تبسّم تبسّم الوَجِل، ثم قال: أهلاً بك يا نُباتة، أهلا بمولى أمير المُؤمنين، لقد أثرّ فيك سفرُك، وأعرف أميرَ المؤمنين بك ضنيناً، فليتَ شعرِي، ما دَهِمَك أو دَهِمَني عنده. قال: فسلّمتُ وقعدتً. فسأل: ما حالُ أميرِ المُؤمنين وخوَله؟ فلما هَدأ أخرجت له الكتاب فناولتُه إياه. فأخذه منّي مُسرعاً ويدُه تُرْعَد، ثم نظر في وُجوه الناس فما شعرتُ إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كُلُّ من يُطيف به من خَدمه تَلْقاه جانباً لا يسمعون منّا الصوت. ففكّ الكتابَ فقرأه، وجعلَ يتثاءب وُيردد تثاؤبه ويسير العرقُ على جَبينه وصُدْغيه على شدّة البرد من تحت قَلَنْسوته، من شدّة الفَرق، وعلى رأسه عِمامةُ خزّ خضراء، وجعل يَشخص إليّ ببصر ساعةً كالمتوهِّم، ثم يعود إلى قراءة الكتابَ، ويُلاحظني النظرِ كالمُتفهم، إلا أنه واجم، ثم يعاود الكتابَ، وإنّي لأقول: ما أراه يُثبت حروفه من شدّة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته. ثم مالت يدُه حتى وقع الكتابُ على الفراش، ورَجع إليه ذهنُه، فمسح العرق عن جَبينه، ثم قال متمثّلا:
وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارَها ... ألفيتَ كُلّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ
ثم قال: قَبُح والله منّا الحسنُ يا نُباتة، وتَواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن.
وما هذا إلا سانح فكْرة نَمَّقها مُرصِد يَكْلَب بقِصَّتنا، مع حُسن رأي أمير المؤمنين فينا. يا غلام. فتبادر الغِلمان الصَّيحةَ، فملئ علينا منهم المجلس حتى دَفأتني منهم الأنفاس. قال: الدّواةَ والقرطاس، . فأتي بالدواة والقرطاس، فكتب بيده: وما رَفع القلم إلا مُستمدّاً حتى سَطَّر مثل خدِّ الفرس. فلما فَرغِ قال لي: يا نُباتة، هل علمتَ ما جئت به فنُسمعك ما كتبنا؟ فقلت: لا. قال: إذا حَسْبك منَّا مثلُه. ثم ناولني الجوابَ وأمر لي بجائزة فأجزل، وجَرد لي كِساء، ودَعا لي بطَعام فأكَلتُ، ثم قال نَكِلك إلى ما أمرت به من عَجلة أو تَوانٍ، وإنّي لأحب مُقارنتك والأنس برُؤيتك. فقلتُ: كان معي قُفْلٌ مفتاحُه عندك، وفمتاح قُفلك عندي، فأُحدثت لك العافية بأمرين: فأقفلتَ المَكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك، وما أحب أن أزيدك بياناً، وحسبُك من استعجالي القيام. ثمٍ نهضتُ، وقام مُودِّعاً لي فالتزمني، وقال: بأبي أنت وأمي، رُبّ لَفظة مَسْموعة، ومحتقر نافعِ، فكُن كما أظُن. فخرجتُ مُستقبلاً وَجهي حتى وردتُ أميرَ المؤمنين، فوجدتُه مُنصرفاً من صلاة العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجَع يا نُباتة! قفلتُ: مَن خاف من وجه الصَّباح أدْلج، فسلّمت وانتبذتُ عنه. فتركني حتى سَكن جأشي ثم قال: مَهْيم؟ فدفعتُ إليه الكتاب، فقرأه مُتبسّماً، فلمّا مَضى فيه ضَحك حتى بدت له سِنٌّ سوداء، ثم استقصاه فانصرف إليّ، فقال: كيف رأيتَ إشفاقَه؟ قال: فقصصتُ عليه ما رأيتُ منه فقال: صلواتُ الله على الصادق الأمين " إنّ من البيان لسحراً " ثم قَذف الكتاب إليّ، فقال: اقرأ، فقرأتُه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وخليفة ربِّ العالمين؟ المُؤيَّد بالولاية، المَعصوم من خَطل القول، وزَلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذَوي أَمره، من عَبدٍ اكتنفته الذِّلة، ومَدَّ به الصَّغار إلى وَخيم المَرْتع، ووَبيل المكْرع، من جليلٍ فادح، ومُعتدٍ قادحٍ. والسلام عليك ورحمةُ اللّه، التي اتسعت فَوسعت، وكان بها إلى أهل التَّقوى عائدا فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجياً لعَطفك بعَطفه، أما بعد. كان الله لك بالدَّعة في دار الزَوال، والأمن في دار الزِّلزال. فإنه من عُنيت به فكرتُك يا أمير المؤمنين مَخْصوصاً فما هو إلا سَعيد يُوثر أو شَقيٌّ يُوتر، وقد حَجَبني عن نواظر السعد لسانُ مرصِد، ونافسٌ حَقِد، انتهز به الشيطانُ حين الفكرة، فافتتح به أبوابَ الوَساوس بما تَحْنق به الصُّدور. فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رَجيم إنما سلطانُه على الذين يتولّونه، واعتِصاماً بالتَّوكّل على من خَصَّه بماَ أجزل له من قَسْم الإيمان وصادق السنة. فقد أراد اللَعين أن يَفْتُق لأوليائه فَتْقاً نَبا عنه كيدُه، وكثر عليه تحسَّرْه، بَليِّة قَرع بها فكرَ أمير المؤمنين مُلبساً، وكادحاً ومُؤرشاً، ليُفل من عزمه الذي نَصبني له، ويُصيب ثأراً لم يَزل به موتوراً.
وذَكر قديمَ ما مُني به الأوائل وكيف لحقتُ بمثله منهم، وما كُنت أبلوه من خِسَّة أقدار ومُزاولة أعمال، إلى أن وصلتُ ذلك بالتشرُط لرَوح بن زِنباع.

وقد علم أمير المؤمنين، بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأنّ الذي عُيِّر به القوم من مَصانعهم من أشدِّ ما كان يُزاوله أهلُ القُدْمة الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتَعضوا من ذكر ما كان، وارْتفعوا بما يكون، وما جَهل أميرُ المؤمنين - وللبيان موقعُه غيرَ مُحتج ولا متعد - أنّ متابعةَ رَوح بن زِنباع طريقُ الوسيلة لمن أراد مَن فوقه، وأنّ رَوْحاً لم يُلْبسْني العزمَ الذي به رَفعني أميرُ المؤمنين عن خَوله، وقد ألصقتْني برَوْح بن زِنباع هِمَّةٌ لم تزل نواظرُها تَرْمي بي البعيدَ، وتُطالع الأعلام. وقد أخذتُ من أمير المؤمنين نصيباً اقْتسمه الإشفاقُ من سَخطته، والمُواظبة على مُوافقته، فما بقي لنا في مثله بعده إلا صُبابة إرث، به تَجول النفس، وتَطْرِف النواظر. ولقد سِرْتُ بعين أمير المؤمنين سيرَ المَثبِّط لمن يَتلوه المُتطاول لمن تقدّمه، غيرَ مبتٍّ مُوجِف، ولا مُتثاقل مُجْحِف، ففتُّ الطالبَ، ولحقت الهارب، حتى سادت السنة، وبادت البدعة، وخسئ الشيطان، وحُملت الأديان إلى الجادّة العُظمى. والطريقة المُثلى. فهأنذ يا أميرَ المؤمنين: نُصْبَ المسألة لمن رَامني، وقد عقدت الحَبْوة، وقَرنت الوَظِيفين لقائل مُحتَج، أو لائمٍ مُلْتجّ. وأميرُ المؤمنين وليُ المظلوم، ومَعْقل الخائف. وستُظهر له المِحنةً نبأ امرى، ولكُل نبأ مستقر. وما حَفَنت يا أميرَ المؤمنين في أوعية ثَقيف حتى رَوي الظمآن، وبَطِن الغَرثان، وغَصَت الأوعية، وانقدَت الأوكية في آل مَروان فأخذت فضلاً صار لها، لولاهم للقطتْه السابلة. ولقد كان ما أنكره أميرُ المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظُم الخطبُ فوق ما كان، وإنَّ أميرَ المؤمنين لرابعُ أربعة، أحدُهم ابنة شُعيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ رَمت بالظن غرضَ اليقين تفرُّساً في النجيّ المُصطفى بالرسالة، فحقَّ لها في الرجاء، وزالت شُبهة الشكّ بالاختبار، وقبلَها العزيزُ في يوسف، ثم الصدِّيق في الفاروق، رحمةُ الله عليهما، وأميرُ المؤمنين في الحجَّاج. وما حَسد الشيطانُ يا أمير المؤمنين خاملاً، ولا شَرق بغير شَجى. فكم غيظة يا أمير المؤمنين. للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلّت حيلتُه. ووَهن كيْدُه يوم كيْت وكيت، ولا أظنّ اذكرَ لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعتُ لأمير المؤمنين في صالحٍ، صلواتُ الله عليه، وفي ثَقيف مقالاً، هَجم بي الرجاءُ لعدله، عليه بالحُجَّة في ردّه بمُحكم التنزيل على لسان ابن عمه خاتَم النبيّين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن الله عز وجلّ، وحكاية عن الملأ من قُريش عند الاختيار والافتخار، وقد نَفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يَدَعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى. فقالوا: " لولا نزل هذا القُرآنُ على رجُل من القَرْيَتين عَظِيم " . فوقع اختيارهم، عند المُباهاة بنَفْخة الكُفر وكِثر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي وأبي مَسْعود الثَّقفي، فصارا فيا الإفْتخار بهما صِنْوين، ما أنكر اجتماعَهما من الأمة مُنكر في خبر القرآن، ومبلِّغ الوحي. وإن كان ليُقال للوليد في الأمة يومئذ رَيْحانة قُريش، وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرَّحمة الشاملة في القَسم السابق، فقال عزّ وجلّ: " أهم يَقسمون رَحْمة ربك نحن قَسَمْنا بينهم مَعيشَتَهم في الحَياة الدُّنيا " . وما قدَّمتْني يا أميرَ المؤمنين ثقيفُ في الاحْتجاج لها، وإنّ لها مقالاً رحباً، ومُعاندة قديمة، إلا أنّ هذا من أيسر ما يَحتجّ به العبدُ المُشفق على سيِّده المُغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عَزل أم أقرّ، وكلاهما عَدْل مُتَّبع. وصواب معتفد. والسلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمة اللّه.
قال نُباتة: فأتيتُ على الكتاب بمَحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبتُه سارقتُه النظَر على الهيبَة منه، فصادف لَحظي لَحظه، فقال: اقطعه، ولا تُعلمنَّ بما كان أحداً فلما مات. عبدُ الملك فشا عنّي الخبر بعد موته.

محمد بن المُنتشر بن الأجدع الهَمداني قال: دَفع إليَّ الحجاج رجلاً ذِمِّيا وأَمرني بالتَّشديد عليه والإستخراج منه، فلمِا انطلقتُ به، قال لي: يا محمد، إنّ لك لشَرَفاً ودِيناً، وإن لا أعطي على القَسر شيئاً فاستَأْذِني وارفُق بي. فقال: ففعلتُ، فأدى إليّ في أسبوع خَمسمائة ألف. فبلغ ذلك الحجَّاجَ فأَغضبه، فانتزعه منِ يدي ودَفعه إلى الذي كان يتولّى له العذاب، فدقّ يديه ورجليه، ولم يُعطهم شيئاً، قال محمد بن المنتشر: فإني لسائرٌ يوماً في السوق، إذا صائح بي يا محمد، فالتفتُّ، فإذا أنا به مُعرّضاً على حمار مَدقوقَ اليدين والرِّجلين. فخفت الحجاجِ إن أتيتُه وتذمَّمتُ منه، فملتُ إليه، فقال لي: إنك وَليتَ منّي ما ولي هؤلاء، فرفقتَ بي وأحسنتَ إليَّ، وإنهم صنعوا ما ترى، ولم أعطهم شيئاً ولي خُمسمائة ألف عند فلان فخُذها مكافأة لما أحسنتَ إليّ. فقلت: ما كنْتُ لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً. قال: فأمّا إذا نبت فاسْمع منِّي حديثاً أحدِّثك به حدَّثنيه بعض أهل دينك عن نبيِّك صلى الله عله وسلم أنه قال: " إذا رضي الله عن قوم أَنزل عليهم المطر في وَقته، وجعل المالَ في سُمحائهم، واستْعمل عليهم خِيارهم وإذا سَخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وَقته، وجعل المال في بُخلائهم، واسْتعمل عليهم شرارهم " . فانصرفتُ، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسولُ الحجَّاج. فسرتُ إليه، فألفيتُه جالساً على فراشه والسيفُ مُصَلت بيده. فقال لي: ادْنُ، فدنوْتُ شيئاً. ثم قال لي: ادن، فدنوتُ شيئاً. ثم قال لي الثالثة: ادْنُ، لا أبَالك! فقلتُ: ما بي إلى الدنوَ من حاجة، وفي يد الأمير ما أَرى. فضحك وأغمد سيفَه، وقال: اجْلس، ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له أيها الأمير، والله ما غششتُك منذ اسْتنْصحتَني، ولا كذبتُك منذ اسْتَخبرتني، ولا خُنتك منذ ائتمنتني، ثم حدَثته. فلما صرتُ إلى ذكر الرجل الذي المالُ عنده اعرض عنّي بوجهه، وأومأ إليَّ بيده، وقال: لا تُسَمِّه، ثم قال: إنَّ للخبيث نفساً وقد سمع الأحاديث.
ويقال: إن الحجَّاج كانَ إذا اسْتَغرب ضَحِكاً والَى بين الاسْتغفار، وكان إذا صَعد المِنبر تلفّع بمطْرَفه، ثم تكلَم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيّد في الكلام، فيُخرج يَده من مطْرَفه، ثم يَزجر الزَّجرة فيَقْرع بها أقصى مَن في المسجد.
صعد خالدُ بن عبد الله القَسريّ المِنبر في يوْم جمعة وهو إذ ذاك على مكة، فذكر الحجَّاجَ، فحَمِد طاعته وأثنى عليه خَيْراً. فلما كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشَتم الحجاج ونَشرْ عُيوبه وإظهار البراءة منه. فَصَعِد المِنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ إبليس كان مَلَكاً من الملائكة، وكان يظْهر منِ طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلاً، وكان الله قد عَلم من غِشّه وخُبثه ما خفِي على ملائكته، فلما أراد الله فضيحتَه أَمره بالسُّجود لآدم، فظهر لهم منه ما كان مُخفيه، فلعنوه. وإن الحجَّاج كان يُظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كُنَّا نرى له به فَضْلاً، وكأنَّ الله قد أطلعَ أميرَ المؤمنين من غِشه وخبثه على ما خفي عنَّا، فلما أراد الله فضيحتَه أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين فلعنه، فالْعنوه لَعنه الله، ثم نزل.
ولما أُتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحَرسيِّ: قل لها: يا عدوَّة اللّه، أين مال الله الذي جعلتِه تحت ذَيلك؟ فقال لها الحرسيُ: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلتِه تحت استك؟ قال الحجاج: كذبْت، ما هكذا قلت. أرْسِلْها. فخلي سبيلَها.

أبو عَوانة عن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل الحجاج إلي، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل الأميرُ إليّ حتى عَرف اسمي! قال لي: متى هبطتَ هذه الأرض؟ قلت: حين ساكنتُ أهلها. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قلتُ: أقرا منه ما إن اتّبعتُه كفاني قال: إني أريد أن أستعين بك على بعض عَملي. قلت: إن تستعن بي بكبيرِ أخرَق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن تَدَعْني فهو أحبُّ إليَّ، وإن تُقحمني أتقحم. قال: إن لم أجد غيرَك أقْحمتك، وإن وجدتُ غيرَك لم أقحمك. قلت: وأخرى أكرم الله الأمير، إني ما علمتُ الناس هابوا أميراً قط هيبَتهم لك، والله إني لأتعارّ من الليل فأَذكرك فما يَأتيني النومُ حتى أصبح، هذا ولستُ لك على عمل. فأعجبه ذلك، وقال: هيه، كيف قلتَ؟ فأعدتُ عليه الحديث. فقال: إنّي والله ما أعلم اليومَ رجلاً على وجه الأرض هو أجرأ على دمٍ منّي. قال: فقمتُ فعدلتُ عن الطريق عمداً كأنّي لا أبصر. فقال: اهدوا الشَيخ، أرشدوا الشيخ.
أبو بكر بن أبي شَيبة قالت: دخل عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى على الحجَّاج، فقال لجلسائه: إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يَسُب أميرَ المؤمنين عثمان فانْظروا إلى هذا. فقال عبدُ الرحمن: معاذَ الله أيها الأميرُ أن أكون أسب عثمان، إنه لَيحجِزُني عن ذلك آياتٌ في كتاب الله تعالى: " للفُقراء المُهاجرين الذين أخْرِجوا مِن دِيارهم وأموالهم يَبْتغون فَضلاً من الله ورِضْواناً ويَنْصرون الله ورسولَه أولئك هم الصادِقون " فكان عثمانُ منهم. ثم قال: " والَّذِينِ تَبوؤا الدارَ والإيمان مِن قَبْلهم يُحبُّون مَن هاجَرَ إليهم ولا يَجدُون في صُدُورهم حاجةَ مما أوتُوا ويُؤثِرون على أنفُسهم ولو كان بهم خَصَاصة " فكان أبي منهم. ثم قال: " والَّذِين جاءُوا مِن بَعْدِهمِ يَقولون ربنا اغْفِر لنا وَلإخْواننا الَّذين سَبَقُونا بالإيمان " فكنتُ أنا منهم. قال: صدقت.
أبو بكر بن أبي شَيبة عن أبي مُعاوية عن الأعمش قال: رأيتُ عبدَ الرحمن ابن أبي ليلى ضَربه الحجَّاج ووقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: ألعن الكاذبين: علي بن أبي طالب، وعبدَ الله بن الزبير، والمُختارَ بن أبي عُبيد. فقال: لعَنَ الله الكاذبين، ثم قال: فيُ علي بن أبي طالب، وعبدُ الله بن الزُّبير، والمُختار بن أبي عُبيد، بالرفع. فعرفتُ حين سَكت ثم ابتدأ فرفع أنه ليس يُريدهم.
قال الشَعبيُ: أتي بي الحجاجُ مُوثَقاً، فلما جئتُ باب القصر لَقِيني يزيدُ بن أبي مسلم كاتبُه، فقال: إنا للّه يا شَعبي لما بين دَفتيك مِن العلم، وليس اليومُ بيوم شفاعة. قلتُ له: فما المَخرج؟ قال: بُؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك وبالحَرَي أن تنجوَ. ثم لقيني محمدُ بن الحجّاج فقال لي مثلَ مَقالة يزيدَ. فلما دخلتُ على الحجاج قال لي: وأنعت يا شَعبيُ فيمن خَرج علينا وأكثر؟ قلتُ: أصلحَ الله الأمير، نَبا بنا

المنزل، وأجدب بنا الجَناب، واستحلَسَنا الخوفُ، واكتحلنا السَّهر، وضاق المسلك، وخَبَطتنا فتنةٌ لم نكنْ فيها بررة أتقياء، ولا فَجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برُّوا بخروجهم علينا ولا قووا، أطلقوا عنه. فاحتاج إلي في فَريضة بعد ذلك فأرسل إليَّ، فقال: ما تقول في أم وأخت وجَدّ؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن مسعود، وعليّ، وعثمان، وزَيد، وابنُ عباسِ. قال: فما قال فيها ابنُ عباس، إن كان لِمَنْقَباً؟ قلت: جعل الجَد أباً ولم يُعط الأخت شيئاً، وأعطى الأم الثلث. قال: فما قال فيها ابنُ مسعود؟ قلت: جَعلها من ستَة، فأعطى الجدَّ ثلاثة، وأعطى الأم اثنين، وأعطى الأختَ سهماً. قال: فما قال زَيد؟ قلت: جعلها من تِسعة، فأعطى الأمَّ ثلاثة، وأعطى الجد أربعة، وأعطى الأختَ اثنين، فجعل الجَدّ معها أخاً. قال: فما قال فيها أميرُ المؤمنين عثمان؟ قلتُ: جعلها ثلاثاً. قال: فما قال فيها أبو تُراب؟ قلتُ: جعلها من ستة، فأعطى الأختَ ثلاثة، وأعطى الأمّ اثنين، وأعطى الجدّ سهماً. قال: مُر القاضي فلْيُمضها على ما أمضاها أميرُ المؤمنين. فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجبُ فقال له: إن بالباب رُسلاً. فقال: إيذن لهم. قال: فدخلوا وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفُهم على عواتقهم، وكُتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سُليم يقال له شَبابة بن عاصم، فقال له: مِن أين؟ قال: من الشام. قال: كيف تركتَ أمير المؤمنين وكيف تركتَ حَشمه؟ فأخبره. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم. أصابتني فيما بَيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعتْ لي كيف كان وَقْع المطر وتَباشيره؟ قال: أصابتني سحابةٌ بحوارين فَوقع قَطر صغار وقَطْر كبار، فكانت الصغار لحْمة للكبار، ووقع نشيطاَ ومُتداركاً، وهو السّيح الذي سمعتَ به، فوادٍ سائل، ووادٍ نازح، وأرض مُقبلة، وأرض مُدبرة. وأصابتني سحابةٌ بَسرا ء فلَبّدت الدِّماث، وأسالت العَزَاز، وأدحضت التِّلاع، وصَدَعت عن الكمأة أماكنها. وأصابتني سحابةٌ بالقَرْيتين فقاءت الأرضُ بعد الرّي. وامْتلأت الأخاديد، وأفعمت الأودية، وجِئْتك في مثل وِجار الضَبُع. ثم قال: إيذَن، فدخل رجل من بن أسد. فقال: هل وراءَك من غيث؟ قال: لا، كثُر الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنّا أنه عام سَنة. قال: بئس المُخبر أنت. قال: أخبَرْتُك الذي كان ثم، قال: إيذَن. فَدَخَل رجل من أهل اليمامة. قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، سمعت الرُّوّاد يَدْعون إلى الماء وسمعتُ قائلاً يقول: هَلُمّ ظَعنَكم إلى محلّة تَطفأ فيها النيران، وتشكّى فيها النساء، وتنافسُ فيها المِعزى. وقال الشعبيّ: فلم يدر الحَجّاج ما قال. فقال له: تبا لك! إنما تُحدّث أهلَ الشام فأَفْهِمْهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناسُ، فكَثُر التمر والسمن والزُبد والّلبن، فلا تُوقَد نار يُختبر بها. وأما تشَكى النساء، فإن المرأة تظلّ ترُبِق بَهمْها، وتَمخَض لبنها، فتَبيت ولَها أنينٌ من عَضُدها. وأما تنافس المِعزى، فإنها ترى من أنواع التمر وأنواع الشجر ونَوْر النبات ما يُشبع بطونَها ولا يُشبع عيونها، فتبيتً وقد امتلأت أكراشُها، ولها من الكِظّة جِرة، فتبقى الجرّة حتى تَستنزل الدِّرّة. ثم قال: إيذن، فدخل رجلٌ من المَوالي كان من أشد الناس في ذلك الزمان. فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال. نعم، ولكني لا احسن أن أقول ما يقول هؤلاء. قال: فما تُحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحُلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلتُ عليك. فقال: لئن كنتَ أقصرَهم في المطر خُطبة، فإنك لأطولُهم بالسيف خُطوَة.

إبراهيم بن مَرزوق عن سعيد بن جُويرية قال: لما كان عامُ الجماعة كتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجّاج: انظر ابن عمر فاقْتد به وخُذ عنه، يعني في المناسك. قال: فلما كان عشيّة عرفة، سار الحَجّاج بين يدي عبد الله بن عُمر وسالمٍ ابنِه، فقال له سالم: إن أردتَ أن تُصيب السّنة اليوم فأوْجز الخُطبة وعَجِّل الصلاة. قال: فقَطَّب ونظر إلى عبد الله بن عُمر. فقال: صدق. فلما كان عند الزوال مَرَّ عبد الله بن عمر بسرادقه، وقال الرّواح: فما لَبث أنْ خَرج ورأسًه يَقْطُر كأنه قد اغتسل. فلما أفاض الناسُ، رأيتُ الدم يتحدّر من النَّجيبة التي عليها ابنُ عمر، فقال: أبا عبد الرحمن، عقرت النَّجيبة؟ قال: أنا عُقِرْت ليس النَّجيبة، وكان أصابه زُج رُمح بين إصبعين من قَدمه، فلما صرْنا بمكة دخل عليه الحجّاج عائداً؟ فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو علمتُ مَن أصابك لفعلتُ وفعلت. قال له: أنت أصبتني. قال: غفر الله لك. لم تقول هذا؟ قال: حملتَ السلاحَ في يوم لا يُحمل فيه السلاح؟.
أبو الحسن المدائني قال: أخبرني من دَخل المسجد، والحجّاج على المِنبر، وقد ملأ صوتُه المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليَشْكري حيث يقول:
رُبّ من أنضجتُ غيظا صدره ... قد تمنَّى ليَ موتاً لم يطع
ساء ما ظَنُوا وقد أبليتُهم ... عند غايات المدَى كيف أقع
كيف يَرجون سِقاطي بعدما ... شَمِل الرأسَ مَشيبٌ وصَلع
كتب الوليدُ إلى الحجّاج: أن صِفْ لي سيرتَك. فكتب إليه: إني أيقظت رأي، وأنمتُ هواي، فأدنيت السيّد المطاع في قومه، ووليتُ الحَرْبَ الحازمَ في أمره، وقلّدت الخِراج المُوفِّر لأمانته، وصرَفتُ السيفَ إلى النَطف المُسيء، فخاف المُريبُ صولةَ العِقاب، وتمسّك المُحسن بحظّه من الثواب. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قرأ الحجاجُ: في سورة هود " قال يا نُوح إنّه لَيس من أهْلك إنّه عَمَل غير صالح " فلم يَدُر كيف يقرأ: عمل بالضم والتنوين، أو عمل بالفتح فبعث حَرسيّا فقال: إيتني بقارئ. فأتي به، وقد ارتفع الحجّاج عن مجلسه، فحبسه ونَسيه حتى عَرض الحجاجُ حبسه بعد ستة أشهر، فلما انتهى إليه قال له: فيم حُبست؟ قال: في ابن نُوح، أصلح الله الأمير، فأمر بإطلاقه.

إبراهيم بن مرزوق قال: حدثني سعيد بن جُويرية قال: خَرجتْ خارجةٌ على الحَجّاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك أن يَخرج معه، فأبى. فكتب إليه يَشْتمه. فكتب أنسُ بن مالك إلى عَبد الملك بن مروان يشكوه، وأدرج كتابَ الحجّاج في جوف كتابه. قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المُهاجر: بعث إليّ عبدُ الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعثُ إليّ في مثلها. فدخلتُ عليه وهو أشدُّ ما كان حَنقاً وغَيظاً، فقال: يا إسماعيل، ما أشدَّ عليّ أن تقول الرعيّة: ضعُف أمير المؤمنين وضاق ذَرعه في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل له حَسنة، ولا يتجاوز له عن سَيّئة! فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ يذكر أن لحجّاج قد أ ضَرّ به وأساء جواره، وقد كتبتُ في ذلك كتابين: كتاباً إلى أنس بن مالك، والآخَر إلى الحجّاج، فاقبضْهما ثم أخرج على البريد، فإذا وردتَ العِراق فأبدأ بأنس بن مالك فادفعْ إليه كتابي، وقل له: أشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتيَ أمرٌ تكرهه إن شاء اللّه. ثم إيت الحِجَاجَ فادفع إليه كتابه، وقُل له: قد اغتررتَ بأمير المؤمنين غِرّة لا أظنك يُخطئك شرُها، ثم أفهم ما يتكلمُ به وما يكون منه، حتى تُفْهمني إياه إذا قَدِمت عليّ إن شاء الله قال إسماعيل: فقبضتُ الكتابين وخرجتُ على البريد حتى قَدِمتُ العراق، فبدأتً بأنس بنِ مالك في منزله، فدفعتُ إليه كتاب أمير المؤمنين وأبلغتُه رسالتِه، فدعا له وجزاه خيراً. فلما فرغ من قِراءة الكتاب قلتُ له: أبا حمزة، إن الحجاج عاملٌ ولو وُضع لك في جامعةٍ لَقَدر أن يَضرك ويَنفعك، فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك لا أخرجُ عن رأيك. ثم أتيتُ الحجاجَ، فلما رآني رحَّب وقال: والله لقد كنتً أحب أن أراك في بلدي هذا. قلت: وأنا والله قد كنتُ أحب أن أراك وأَقْدَم عليك بغير الذي أرسلتُ به إليك. قال: وما ذاك؟ قلت: فارقتُ الخليفةَ وهو أغضبُ الناس عليك. قال: ولم؟ قال: فدفعتُ إليه الكتاب. فجعل يقرؤه وجبينه يَعرق. فيمسحه بيمينه، ثم قال: أركبْ بنا إلى أَنس بن مالك. قلت له: لا تَفعل، فإني سأتلطّف به حتى يكون هو الذي يأتيك؟ وذلك للذي شرتُ عليه من مُصالحته. قال: فألقى إلي، كتابَ أمير المؤمنين فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف. أما بعد. فإنك عبدٌ طَمَت بك الأمور فطغَيتَ وعَلوت فيها حتى جُزت قدرك، وعَدوت طَوْرك، ويم الله يابن المُسْتفرمة بعَجَم زبيب الطائف، لأغمزنّك كبعض غَمزات اللُّيوث للثّعالب، ولأرْكضْنك رَكضة تدخل منها في وَجْعاء أمك. أذكر مكاسبَ آبائك بالطائف، إذ كانوا يَنْقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار والمَناهل بأيديهم، فقد نسيتَ ما كنتَ عليه أنت وآباؤك من الدَّناءة واللُّؤم والضراعة. وقد بلغ أميرَ المؤمنين استطالةٌ منك على أنس بن مالك خادِم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جُرْأةً منك على أمير المؤمنين وغِزة بمَعرفة غِيَره ونقَماته وسَطَواته على مَن خالف سبيلَه، وعَمد إلى غير مَحبّته، ونَزل عند سَخْطته. وأظنك أردتَ أن تُروزه بها لتعلم ما عنده من التَّغيير والتّنكير فيها. فإن سُوِّغتَها مضيتَ قُدُما، وإن بُغَضتَها ولّيت دُبراً، فعليك لعنةُ الله مِن عبد أخْفش العينين، أصكّ الرجلين، ممسوح الجاعرتين وايم الله لو أن أميرَ المؤمنين علم أنك اجترمت منه جُرماً، وانتهكت له عرْضاً فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك مَن يَسحبك ظهراً لِبطن حتى. يَنتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكمَ فيك ما احبّ. ولن يَخْفى على أمير المؤمنين نَبؤُك، ولكل نَبأ مُستقر ولسوف تعلمون.
قال إسماعيل: فانطلقتُ إلى أنس، فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج.

فلما دخلنا عليه قال: يَغفر الله لك أبا حمزة، عَجِلْت باللائمة وأغضبتَ علينا أميرَ المؤمنين، ثم أخذ بيده فأَجلسه معه على السرير. فقال أنس: إنك كنتَ تزعم أنّا الأشرار، والله سمّانا الأنصار. وقلتَ: إنّا من أبخل الناس، ونحن الذين قال الله فيهم: " ويُؤْثِرون على أنْفًسهمِ ولو كانَ بهم خَصَاصة " . وزعمتَ أنا أهلُ نِفاق والله تعالى يقول فينا: " والّذين تبوَّءوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم يُحبّون مَن هاجَر إليهم ولا يَجدُون في صُدورهمْ حاجةً مما أوتُوا " . فكان المَفْزع والمُشتكى في ذلك إلى الله وإلىَ أمير المؤمنين، فتولّى من ذلك ما ولاهّ الله، وعرف من حقِّنا ما جَهلتَ، وحَفظ منّا ما ضيعتَ، وسَيحكم في ذلك رب هو أرضى للمُرضي، وأسخطُ للمُسخط، وأقدرُ على المُغير، في يوم لا يشوب الحق عنده الباطلُ، ولا النورَ الظلمةُ، ولا الهدى الضلالةُ. والله لوِ أنّ اليهود أو النّصارى رأت مَن خدَم موسى بن عمران أو عيسى بن مريم يوماً واحداً لرأت له ما لم تَرَوا لي في خدمة رسول الله عَشرَ سنين. قال فاعتذر إليه الحجاحُ وترضاه حتى قَبل عُذره ورضي عنه، وكتب برضاه عنه وقبوله عُذرَه. ولم يزل الحجاحُ له مُعظماً هائباً له حتى أنسٌ رضي الله عنه. وكتب الحجاحُ إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد. أصلحَ الله أميرَ المؤمنين وأبقاه، وسهّل حظه وحاطه ولا أعدمنا إياه فإن إسماعيل بن أبي المُهاجر رسول أمير المؤمنين - أعزّ الله نَصره - قَدِم عليّ بكتاب أمير المُؤمنين - أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءَه - يذكر شتيمتي وتَوْبيخي بآبائي، وتَغييري بما كان قبلَ نزول النَعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمَته عليه وإحسانه إليه. ويذكر أميرُ المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالةً منّي علىِ أنس بن مالك خادِم رسول الله صلى الله عليه و سلم، جراءةً مني على أمير المؤمنين وغِرّة بمعرفةِ غِيره ونقَماته وسَطواته على مَن خالف سبيلَه، وعَمد إلى غير محبته، ونزل عند سَخْطته. وأميرُ المؤمنين، أصلحه الله، في قَرابته من محمد رسول الله - إمام الهدى وخاتَم الأنبياء أحق من أقال عَثْرتي وعَفا عن ذَنبي، فأمهلني ولم يُعجلني عند هَفوتي، للذي جُبل عليه من كريم طبائعه، وما قلّده الله من أمور عباده، فرِأيُ أمير المؤمنين، أصلحه الله في تَسْكِين رَوْعتي، وإفراج كربتي، فقد مُلئت رُعباً وفرقاً من سَطْوته وفُجاءةِ نقْمته وأميرُ المؤمنين - أقاله الله العثراتِ، وتجاوز له عن السيآت، وضاعفت له الحسنات، وأعلى له الدَّرجات. أحقّ من صَفح وعفا، وتَغَمّد وأبقى، ولم يُشمت بي عدوًّا مُكبّا، ولا حسودا مُضبّا، ولم يجرِّعني غُصصا. والذي وَصف أميرُ المؤمنين من صنيعه إليّ وتَنويهه بي بما أسند إليِّ من عمله وأوطأني من رِقاب رعيته، فصادقٌ فيه مجزيّ بالشكر عليه والتوسّلُ مني إليه بالولاية، والتقرّبُ له بالكفاية. وقد عاين إسماعيلُ بن أبي المُهاجر، رسولُ أمير المؤمنين وحاملُ كتابه، نزولي عند مسرّة أنس بن مالك، وخُضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقَه إياي، ودُخولَه علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أميرُ المؤمنين ويُنهيه إليه. فإن رأى أميرُ المؤمنين - طوّقني الله شُكره وأعانني على تأدية حقّه وبَلَّغني إلى ما فيه مُوافقة مَرْضاته ومدَ لي في أجله - أمر لي بكتاب مِن رضاه وسلامة صَدْره، يُؤمِّنني به من سَفك دَمي ويَرُدّ ما شَرَد من نومي ويَطمئن به قلبي، فقد وَرد عليّ أمرٌ جَليل خَطْبُه، عظيم أمرُه، شديد عليّ كربُه. أسأل الله أن لا يُسخط أميرَ المُؤمنين عَلَيّ، وأن يَبْتلِيَه في حَزمه وعَزمه، وسياسته وفِراسته ومواليه وحَشمه، وعُماله وصنائعه، بما يُحمَد به حُسنُ رأيه، وبُعْدُ هِمَّته؟ إنه وليّ أمير المؤمنين، والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
فحدّث إسماعيلُ أنه لما قرأ أميرُ المؤمنين الكتابَ قال: يا كاتب، أفرخ رُوع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه.

كان سليمانُ بن عبد الملك يكتب إلى الحجّاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كُتباً فلا يَنظر له فيها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف: سلامٌ على أهل الطاعة من عباد الله. . أما بعد. فإنك امرؤ مَهْتوك عنه حجابُ الحقّ، مولَع بما عليك لا لك، مُنصرف عن مَنافعك، تاركٌ لحظّك، مُستخفّ بحق الله وحق أوليائه. لا ما سلف إليك من خير يَعطفك، ولا ما عليك لا لك يصرِفك. في مُبهمة من أمرك مَغْمور مَنكوس مُعصوصر عن الحق اعصيصاراً، ولا تتَنكَّب عن قَبيح، ولا تَرعوي عن إساءة، ولا ترجو الله وقاراً، حتى دُعيت فاحشاً سبَّاباً. فقِسْ شِبرك بفَترك، واحذُ زمام نَعلك بحذو مثله. فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنّك دَوْسة تلين منها فرائصك، ولأجعلنّك شر يداً في الجبال، تلوذ بأطراف الشمال، ولأعَلقنّ الرًّومية الحمراء بثَدْييها. علم الله ذلك منّي وقضىَ لي به عليّ، فقِدْماً غرّتك العافية، وانْتحيتَ أعراضَ الرّجال، فإنك قَدَرْتَ فَبَذخْتَ، وظَفِرت فتعدَّيت. فرويدكَ حتى تنظر كيف يكون مصيرُك إن كانت بي وبك مُدة أتعلّق بها، وإن تكن الأخرى فأرجو أن تَؤول إلى مَذلة ذَليل، وخِزْية طويلة، ويُجعل مصيرُك في الآخرة شرَّ مَصير. والسلام.

فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سُليمان بن عبد الملك. سلامٌ على من اتّبع الهدى. أما بعد. فإنك كتبتَ إليّ تَذْكر أنّي امرؤ مَهْتوك عنّي حِجابُ الحق، مُولَع بما عليّ لا لي، مُنصرف عن منافعي، تاركٌ لحظّي، مُستخف بحقّ الله وحقّ وليّ الحق. وتذكر أنك ذو مُصاولة ولَعمري إنك لصبيٌّ حديث السنّ تُعذَر بقلّة عَقلك وحَداثة سنّك ويُرقَب فيك غيرُك، فأما كتابُك إليّ فلَعمري لقد ضَعُف فيك عقلك، واسْتُخِفّ به حلمُك، فلِله أبوك. أفلا انتصرت بقضاء الله دون قَضاءك، ورجاءِ الله دون رجائك، وأمتَّ غيظك، وأمنت عدوِّك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تُنَبّهه فيَلتمسَ من مُكايدتك ما تلتمس منِ مُكايدته، ولكنّك لم تَسْتشِفّ الأمور علماً، ولم تُرزق من أمرك حَزْماً. جمعتَ أموراً دلاك فيها الشيطانُ على أسوأ أمرك، فكان الجفاءُ مِن خليقتك، والْحُمق مِن طَبيعتك، وأقبل الشيطانُ بك وأدبر، وحدّثك أنك لن تكون كاملاً حتى تَتعاطى ما يَعيبك. فتَحذلقت حنجرتُك لقوله، واتّسعت جوانبُها لكذبه. وأما قولُك لو مَلّكك الله لعلّقت زينبَ بنت يوسف بثَدْييها، فأرجو أن يكرمها الله بهَوانك، وأن لا يُوَفَق ذلك لك إن كان ذلك مِن رأيك، مع أنّي أعرف أنك كتبتَ إليَ والشيطانُ بين كَتفَيك، فشرُّ مُمْل على شرِّ كاتب راض بالخَسف، بالحُمق أن لا يدلّك على هُدى، ولا يردّك إلا إلى رَدى. وتحلَّب فُوك للخلافة، فأنت شامخ البَصر، طامح النَّظر، تظنُّ أنك حين تَمْلكها لا تَنْقطِع عنك مُدتها. إنها للُقطة الله التي أسأل أن يُلهمك فيها الشكر، مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما. وإن نَفخ الشيطان في مُنخريك فهو أمر أراد الله نَزعه عنك وإخراجه إلى مَن هو أكمل به منك. ولعمري إنها لنصيحة، فإنْ تَقبلها فمثلُها قُبل، وإن تردّها عليّ اقتطعتُها دونك؟ وأنا الحجاج. قدم الحجاجُ على الوليد بن عبد الملك فدخل عليه، وعليه دِرْع وعمامة سوداء، وقوس عربيَّة وكِنانة، فبعثتْ إليه أمُّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان: مَن هذا الأعرابيّ المُستلئم في السلاح عندك وأنت في غِلالة. فبعث إليها: هذا الحجاج بن يوسف. فأعادت الرسولَ إليه تقول: والله لأن يَخلو بك مَلَكُ الموتِ أحبُّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج. فأخبره الوليدُ بذلك وهو يمازحه. فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مُفاكهة النساء بزُخرف القول، فإنما المرأة رَيحانة، ولست بقَهْرمانة، فلا تطْلعها على سرِّك، ومُكايدة عدوّك. فلما دخل الوليدُ عليها أخبرها بمقَالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مُستلئما، ففعل ذلك. وأتى الحجاج فَحجبته، فلم يزل قائماً، ثم قالت له: إيه يا حجاج، أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقَتْلك عبد الله بن الزًّبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرِار خَلقه ما ابتلاك برَمْي الكَعبة، وقَتْل ابن ذاتِ النِّطاقين، وأوَّل مولود وُلد في الإسلام. وأما نَهْيك أمير المؤمنين عن مُفاكهة النساء وبُلوغ أوطاره منهن، فإنْ كُنّ يَنْفرجن عن مِثلك، فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن يَنْفرجن عن مِثله فغيرُ قابل لقولك. أما والله لقد نَقَص. نساء أمير المؤمنين الطيّبَ عن غدائرهن فبِعنه في أَعطية أهل الشام حين كنتَ في أَضيق من القَرَن قد أَظلّتك رماحُهم، وأثخنك كِفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، فما نَجّاك الله من عد أمير المؤمنين إلا بحبّهم إياه. وللّه دَرّ القائل إذ نظر إليك، وسنان غَزالة بين كَتفيك:
أسَدٌ عليّ وفي الحُروب نعامةٌ ... رَبداءُ تَجْفِل من صفير الصافر
هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوَغى ... بل كان قَلبُك في مخالبِ طائر
صَدعت غزالةُ جمعَه بعساكر ... ترِكتْ كتائبَه كأمس الدابر
ثم قالت: اخرُج. فخرج مَذْموماً مدحوراً.

كان عُروة بن الزبير عاملاً على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصَل به أن الحجاجَ مُجْمعِ على مُطالبته بالأموال التي بيده وعَزْله عن عَمله، ففرّ إلى عبد الملك وعاد به تخوّفا من الحجاج، واستدفاعاً لضرَره وشرّه. فلما بلغ ذلك الحجاحَ كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد. فإنّ لواذ المُعترضين بك، وحُلول الجانحين إلى المُكث بساحتك، واستلانَتهم دَمِث أخلاقك، وسَعة عَفْوك، كالعارض المُبرق لا يَعْدم له شائماً، رجاء أن ينالَه مطرهُ وإذا أدنى الناس بالصّفح عن الجرائم كان ذلك تَمْرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال. والناس عبيد العصا، هم على الشدّة أشد اسْتباقاً منهم على اللِّين. ولنا قِبَل عُروة بن الزُّبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قَطْعٌ لطمع غيره، فَلْيبعث به أميرُ المؤمنين، إن رأى ذلك. والسلام.
فلما قرأ الكتابَ بعثَ إلى عُروة، ثم قال له: إنّ كتاب الحَجّاج قد وَرد فيك، وقد أبى إلا إشخاصَك إليه. ثم قال لرسول الحجَّاج: شأنَك به. فالْتفت إليه عروةُ مقبَلاً عليه، وقال: أما والله ما ذلَّ وخَزِي مَن ملكتموه، والله لئن كان الملك بجَواز الأمر، ونَفاذ النَهي، إن الحجاج لسُلطانٌ عليك يُنفّذ أموره دون أمورك، إنك لتُريد الأمرَ يَزِينك عاجله، ويَبقى لك أكرومةً آجلُه، فَيَجذِبُك عنه ويَلقاه دونك، ليتولّى من ذلك الحُكم فيه، فيحظَى بشرف عَفْو إن كان، أو بجُرم عقوبة إن كانت. وما حاربَك مَن حاربَك إلا على أمرٍ هذا بعضُه.
قال: فنظر في كتاب الحجاج مرّة، ورَفع بصرَه إلى عُروة تارة، ثم دعا بدواةٍ وقرطاس فكتب إليه: أما بعد. فإن أميرَ المؤمنين، رآك مع ثِقته بنَصيحتك خابطاً في السياسة خَبْط عَشْواء الليل. فإِن رأيك الذي يُسَوِّل لك أنَّ الناس عبيدُ العصا هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوُثوب عليك، وإذ أخرجت العامة بعُنف السياسة كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفُرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الدّاعي ولا هُداه، إذا رَجَوْا بذلك إدراك الثأر منك. وقد وَليَ العراق قَبلك ساسةٌ، وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقربُ من عَمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلحَ منك عليهم، وللشدَّة واللين أهلون، والإفراطُ في العفو أفضلُ من الإفراط في العقوبة. والسلام.
زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحَجّاج حُجاجاً، فلما انتهينا إلى البيداء وافينَا ليلةَ الهلال، هلال ذي الحجة، فقال لنا الحجاج: تَبصرّوا الهلال، فأما أنا ففي بَصري عاهة. فقال له نَوفل بن مُساحق: وَتدري لم ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قال: لكثرة نَظرك في الدفاتر.
الأصمعي قال: عُرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثةً وثلاثين ألفاً لم يجب على واحد منهم قَتل ولا صَلْب، ووُجد فيهم أعرابيٌ أخذ يَبول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أطلق. فأنشأ الأعرابيّ يقوِل:
إذا نحن جاوزنا مدينةَ واسط ... خرِينا وبُلْنا لا نَخاف عِقابَا
أبو داود المُصحفيّ، عن النَضر بن شُميل، قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا مَن قتل الحجاجُ صَبْراً. فوجدوهم مائةَ ألف وعشرين ألفًا.
وخطب الحجاجُ أهلَ العراق، فقال: يأهل العراق. بلغني أنكم تَروُون عن نبيِّكم أنه قال: مَن ملك عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عُنقه، حتى يفكّه العَدل أو يُوبقه الجَوْر. وايم اللهّ، إني لأحبُّ إليَّ أن احشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً من أن احشر معكم مُطلقاً.
ومرض الحجاجُ ففرح أهلُ العراق، وقالوا: مات الحجاجُ! مات الحجاج! فلما أفاق صَعد المِنبر وخَطب الناس، فقال يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضتُ فقلتم: مات الحجاج. أما والله إني لأحبُّ إليَّ أن أموت من ألاّ أموت، وهل أرجو الخيرَ كلٌه إلا بعد الموت، وما رأيتُ الله رَضي بالخُلود في الدنيا إلا لأبغض خَلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس. ولقد رأيتُ العبدَ الصالح سأل ربَّه، فقال: " رب هب لِي مُلكاً لا يَنْبَغي لأحَدِ مِن بَعْدِي " . ففعل، ثم اضمَحل ذلك فكأنه لم يكن.

وأراد الحجاجُ أن يَحج. فاسْتخلف محمداً ولده على أهل العراق، ثم خَطب فقال: يأهل العراق، إني أرد تُ الحجَّ وقد اسْتخلفتُ عليكم محمداً ولدي، وأوصيتُه فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى فيهم أن يُقبل من مُحسنهم، ويُتجاوز عن مُسيئهم. وإني أوصيتُه ألا يقبل من مُحسنكم، وألا يتجاوزَ عن مُسيئكم. ألا وإنكمِ قائلون بعدي مقالةً لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة. وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة. ثم نزل.
فلما كان غداةَ الجمعة مات محمدُ بن الحجاج، فلما كان بالعشيّ أتاه بريدٌ من اليمن بوفاه محمد أخيه. ففرح أهلُ العراق، وقالوا: انقطع ظهرُ الحجاج وهِيض جناحُه فخرج فصعد المنبرَ ثم خطب الناس، فقال: أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنتُ أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة. وايم الله، ليُوشكنّ الباقي مني ومنكم أن يَفنى، والجديدُ أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تُدال الأرض منّا كما أدلنا منها، فتأكل من لُحومنا وتشرب من دمائنا، كما قال الله تعالى: " ونُفِخ في الصور فإذا هُم من الأجْدَاثِ إلى رَبِّهم يَنْسِلون " . ثم تمثل بهذين البيتين:
عَزائي نبيُّ الله مِن كل مَيت ... وحَسبي ثوابُ الله من كل هالك
إذا ما لقيتُ الله عنِّي راضيا ... فإنَّ سُرورَ النًفس فيما هُنالك
ثم نزل وأَذن للناس فدخلوا عليه يُعزونه، ودخل فيهم الفرزدقُ فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيتَ محمداً ومحمداً؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جَزع الحجّاجُ ما من مُصيبة ... تكون لمَحزون أمضَّ وأَوْجعَا
مِن المصطفى والمُنتقى من ثِقاته ... جناحاه لما فارقاه وودّعا
جناحا عَتيق فارقاه كلاهُما ... ولو نزعا من غيره لتَضعضعَا
ولو أنَّ يومَيْ جُمعتيه تتابعا ... على شامخٍ صَعَب الذري لتصدَّعا
سَميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا
قال: أَحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلَّفنيِ الحجاجُ بيتاً سادسا لضَرب عنقي قبل أن آتيه به، وذلك أنه دخل ولم يهيئ شيئاً.
قولهم في الحجاج
الرِّياشيّ عن العتبي عن أبيه، قال: ما رأيت مثلَ الحجاج، كان زِيَّه زِي شاطراً. وكلامه كلامَ خارجيّ، وصولتُه صولةَ جبار. فسألته عن زيّه فقال: كان يُرجِّل شعرَه ويَخْضِب أطرافه. كثيرُ بن هشام عن جعفر بن بُرْقان: قال: سألتُ ميمون بن مهران فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يَذكر أنه خارجيّ؟ فقال: إنك لا تصلّي له إنما تصلّي لله، قد كُنا نصلّي خلف الحجَّاج وهو حَروري أزرقيّ. قال: فنظرِت إليه، فقال: أتدري ما الحرويُّ الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سمَّاك كافراً واستحلَّ دمك، وكان الحجاج كذلك.
أبو أمية عن أبي مُسهر قال: حدَّثنا هشامُ بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أُمة بمُنافقيها وجئْنا بالحجاج لفضلناهم.
وحلف رجل بطلاق امرأته إن الحجَّاج في النار. فأتى امرأتَه، فمنعْته نفسَها.
فسأل الحسنَ بن أبي الحسن البصري. فقال: لا عليك يابن أخي، فإنه إن لم يكن الحجاج في النار، فما يَضُرّك أن تكون مع امرأتك على زنى.
أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجُمحيّ عن عليّ بن زَيد، قال: لما مات الحجاجُ أتيتُ الحسنَ فأخبرتُه. فخرّ ساجداً. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن مَنصور، قال: قلتُ لإبراهيم: ما ترى في لَعْن الحجاجِ؟ قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " ألا لَعْنةُ الله على الظالمين " ، فأَشهدُ أنَّ الحجاج كان منهم.

وكيعٌ عن سُفيان عن محمد بن المُنكدر عن جابر بن عبدِ اللّه، قال: دخلت على الحجاج فما سلّمت عليه. وَكيع عن سُفيان قال: قال يزيد الرِّقاشيُّ عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك، ميمون بن مِهران قال: كان أنس وابن سِيرين لا يَبيعان ولا يَشتريان بهذه الدراهم الحجِّاجيّة. وقال عبدُ الملك بن مروان للحجَّاج: ليس من أحد إلا وهو يَعرف عيبَ نفسه، فصِف لي عيوبَك. قال: أعفني يا أميرَ المؤمنين. قال: لا بدَّ أن تقول. قال: أنا لَجوج حَسود حَقود. قال: ما في إبليس شرَّ من هذا، أبو بكر بن أبي شَيبة، قال: قيل لعبد الله بن عُمر: هذا الحجّاج قد وَلي الحرمَين. قال: إنْ كان خيراً شَكرنا، وإن كان شرًّا صَبرنا. ابن أبي شَيبة قال: قيلَ للحسن: ما تقول في قتال الحجاج؟ قال: إنَ الحجاج عُقوبة من الله فلا تَسْتقبلوا عُقوبة الله بالسيف. ابنُ فضيل قال: حدّثنا أبو نُعيم قال: أمر الحجاجُ بماهان أن يُصلب على بابه. فرأيتُه حين رُفعت خشبته يُسبَح ويهَلّل ويدبِّر ويَعقد بيده، حتى بلغ تسعاً وتسعين، وطعنه رجلٌ على تلك الحال، فلقد رأيتها بعد شهر في يده. قال: وكُنّا نرى عند خَشبته بالليل شَبيها بالسَراج. أبو داود المُصحفيّ عن النَّضر بن شَميل، قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا من قتل الحجاج صبراً. فوجدوهم مائة وعشرين ألفاً.
من زعم أن الحجاج كان كافراً
ميمون بن مِهران عن الأجلح، قال: قلتُ للشعبيّ: يزعم الناسُ أنّ الحجاجَ مُؤمن. قال: مؤمن بالجبّت والطاغوت كافر بالله. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش، قالَ: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن تَرْضون؟ قالوا: بمجاهد. فأتوه، فقالوا: إنّا قد اختلفنا في الحجاج. فقال: أجئتُم تسألوني عن الشيخ الكافر؟ محمد بن كَثير عن الأوزاعيّ، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاجِ بن يوسف يَنْقض عُرى الإسلام عروةً عروة. عطاءُ بن السائب، قال: كنتُ جالساً مع أبي البَخْتَريّ والحجاج يَخْطب، فقال: في خُطبته: إنَّ مَثَل عثمان عند الله كمثَل عيسى بن مريم، قال الله فيه: " إنِّي مُتوفِّيك ورَافعُك إليَّ ومطَهِّرك مِن الذين كَفروا وجاعِلُ الذين أتبَعوك فوقَ الذين كَفَروا إلى يوم القِيامة " . فقال أبو البَخْتَريّ: كفر وربَّ الكعبة.

ومما كفرت به العلماءُ الحجّاج قولُه، ورَأى الناسَ يطوفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِنبره: إنما يطوفون بأعواد ورِمَّة. الشيبانيُّ عن الهيثم عن ابن عيّاش قال: كُنا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتابٌ من الحجاج يُعظِّم فيه أمرَ الخلافة ويزعم أن السموات والأرض ما قامتا إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضلُ من الملائكة المُقرَّبين والأنبياء المُرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته وأسكنه جَنّته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رُسلاً إليه. فأعجب عبدُ الملك بذلك، وقال: لوددتُ أن عندي بعض الخوارج فأخاصمَه بهذا الكتاب، فانصرف عبدُ الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضِيفانه وحدَثهم الحديث، فقال له حُوار بن زيد الضّبي، وكان هارباً من الحجاج: توثَّق لي منه، ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان. فقال: هو آمنٌ على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حُوار فاخبره بذلك. فقال: بالغداة إن شاء اللّه. فلما أصبح اغتسل ولبس ثَوْبين ثم تحنّط وحَضر باب عبد الملك فدخل عبدُ الله فقال: هذا الرجل بالباب: فقال: أَدْخله يا غلام. فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ بيضٌ يُوجد عليه ريح الحَنوط، فقال: السلام عليكم، ثم جلس. فقال عبدُ الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به: فقال اقرأ، فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حُوار: أراه قد جَعلك في موضعٍ مَلكاً وفي موضع نبيّاً وفي موضع خليفة، فإن كنت مَلَكاً فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيّاً فمن بعثك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مَشورة من المسلمين أم ابتززتَ الناس أمورَهم بالسيف؟ فقال عبد الملك قد أمّناك ولا سبيلَ إليك، والله لا تُجاورني في بلد أبداً. فارحل حيثُ شئت. قال: فإني قد اخترتُ مصر، فلم يزل بها حتى مات عبدُ الملك. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالَقاني، قال: حدّثنا جريرُ عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجّاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدِكم في أهله أكرمُ عليه أم رسولُه إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: للّه عليَّ ألا أصلَي خلفك صلاة أبداً، ولئن وجدتُ قوماً يقاتلونك لقاتلتُك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قُتل.
قيل للحجّاج: كيف وجدتَ منزلك بالعراق؟ قال خيرُ منزل لو أدركتُ بها أربعة فتقرّبتُ إلى الله بدمائهم. قيل: ومَن هم؟ قال: مُقاتل بن مِسمع، ولي سِجِستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قَدِم البصرة بَسط الناسُ له أرديتَهم، فقال: لمثل هذا فَلْيعمل العاملون. وعُبيد الله بن ظَبيان، قام فخطب خُطبة أوجز فيها، فنادى الناسُ من أعراض المسجد: أكثر الله فينا من أمثالك. قال: لقد سألتم الله شَططا. ومَعْبَد بن زُرارة، كان ذات يوم جالساً على الطريق فمرَّت به امرأة، فقالت: يا عبد الله، أين الطرِيق إلى مكان كذا؟ فغَضب، وقال: ألمثلي يقال يا عَبد اللّه! وأبو سِماك الحنفيّ أَضلَ ناقتَه، فقال: لئن لم يَرُدها الله عليَّ لا صلّيت أبداً، فلما وجدها، قال: عَلِم الله أنَ يميني كانت بَرة. قال ناقل الحديث. ونسيِ الحجاجُ نفسه وهو خامس الأربعة، بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحاداً وأكفرُهم في كتابه إلى عبد الملك بن مروان: " إن خليفة الله في أرضه أكرمُ عليه من رسوله إليهم وكتابه إليه " ، وبلغه أنه عَطس يوماً فحمد الله وشَمَّته أصحابُه فردّ عليهم ودعا لهم، فكتب إليه: " بلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين، ومِن تَشْميت أصحابه له وردِّه عليهم، فياليتَني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً " .

وكان عبدُ الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرىَ الجَمَاجم أن يَعْرضهم على السيف، فمن أَقرّ منهم بالكَفر بخُروجه علينا فخلِّ سبيله، ومَن زعم أنه مُؤمن فاضرب عُنقه. ففعل. فلما عَرضهم أُتى بشيخ وشابّ، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر قال: بل كافر. فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكُفر. فقال له الشيخ: أعن نَفسي تُخادعني يا حجاج، والله لو كان شيء أعظَم من الكُفْر لرضيتُ به. فضحك الحجاج وخلّى سبيلهما. ثم قُدِّم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دِين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين. فقال: اضربُوا عُنقه. ثم قُدم آخر، فقال له: علىِ دِين من أنت؟ قال: على دين أَبيك الشيخ يوسف. فقال: أما والله لقد كان صوّاماً قوّاماً. خلِّ عنه يا غلام. فلما خلّى عنه انصر فَ إليه، فقال له: يا حجاج، سألتَ صاحبي: على دين مَن أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين، فأمرتَ به فقُتل؟ وسألَتني: على دين مَنِ أنت؟ فقلتُ: على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلتَ: أمَا والله لقد كان صوّاماً قواماً، فأمرتَ بتَخْلية سبيلي، والله لو لم يكن لأبيكَ من السيئات إلا أنّه وَلد مثلَك لكَفاه: فأمر به فقتل: ثم أتى بعِمْران بن عِصام العَنزي، فقال: عمران؟ قال: نعم. قال: ألم أُوفدك على أمير المؤمنين ولا يُوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوِّجك مارية بنت مِسمع سيدة قومها ولم تكن أهلاً لها؟ قال: بلى. قال: فما حَمَلك على الخروج علينا؟ قال: أخْرجني باذان. قال: فأين كنتَ من حُجة أهلك؟ قال: أَخرجنيِ باذان. فأمر رجلاً فكَشف العمامة عن رأسه، فإذا هو مَحلوق. قال: ومحلوق أيضاً! لا أقالني الله إن لم أَقتُلك. فأمر به فضُرب عنقه. قال: فسأل عبدُ الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام فقيل له: قَتله الحجَّاج. فقال: ولم؟ قال: بخُروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان يَنبغي له أن يَقْتله بعد قوله:
وبَعثتَ من ولد الأغرّ مُعتَّب ... صَقْراً يلوذ حمامُه بالعَوْسج
فإذا طبختَ بناره أنضجتَها ... وإذا طبختَ بغيرها لم تُنضج
وهو الهِزبر إذا أراد فريسةً ... لم يُنْجِها منه صريخُ الهَجْهج
ثم أتى بعامر الشَّعبيّ ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسَعيد بن جُبير. وكان الشَّعبيُّ ومُطَرِّف يَريان التَّورية، وكان سعيدُ بن جُبير لا يرى ذلك فما قُدِّم له الشعبيّ. قال: أكافرٌ أنت أم مُؤمن؟ قال: أَصلح الله الأمير، نَبا بنا المنزل، وأجْدب بنا الْجَناب، واستحلَسَنا الخوفُ، واكْتَحلنا السهر، وخَبَطتْنا فِتنة لم نكن فيها بَرَرَةً أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال الحجاج: صَدق واللهّ، ما برُّوا بخُروجهم علينا ولا قَوُوا، خَلِّيا عنه. ثم قُدِّم إليه مُطَرِّف ابن عبد اللّه، فقال له: أكافرٌ أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إنّ مَن شقَّ العصا، ونَكَث البَيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المُسلمين، لجدير بالكُفر. فقال: صدق، خلِّيا عنه. ثم أتى بسَعيد بن جُبير، فقال له: أنت سَعيد بن جُبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقيُّ بن كُسَير. قال: أمي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيتَ وشقيتْ أمك قال: الشقاء لأهل النار. قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنتُ به. قال: اضربوا عنقه.
موت الحجاج
مات الحجَّاج بن يوسف في آخر أيام الوليد بن عبد الملك، فتفجع عليه الوليد وولى مكانَه يزيدَ بن أبي مُسلم كاتب الحجاج، فكفَى وجاوز. فقال الوليد: مات الحجَّاج ووليتُ مكانَه يزيد بن أبي مُسلم، فكنت كمن سَقط منه درهم وأصاب ديناراً. وكان الوليدُ يقول: كان عبد الملك يقول: الحجاج جِلْدة ما بين عينيّ وأنفي. وأنا أقول: إنه جلدةً وَجهي كُلّه.
قال: ولما بلغ عمرَ بن عبد العزيز موتُ الحجاج خرج ساجداً. وكان يدعو الله أن يكون موتُه على فراشه ليكَونَ أشدَ لعذابه في الآخرة.
أبو بكر بن عيّاش قال: سُمع صياحُ الحجاج في قَبره، فأتوا إلى يزيدَ بن أبي مُسلم فأخبروه، فركب في أهل الشام فوَقف على قَبره فتسمّع، فقال: يرحمك الله يا أبا محمد، فما تَدع القراءةَ حتى مَيِّتاً.

الرياشيّ عن الأصمعيّ، قال: أقبل رجلٌ إلى يزيدَ بن أبي مسلم، فقال له: إ نّي كنت أرى الحجاج في المنام فكنت أقول له: أخبرني ما فعل الله بك؟ قال: قَتلني بكل قتيل قتلتُه قتلةً، وأنا مُنتظر ما ينتظره الموحِّدون. ثم قال: رأيتُه بعد الحول فقلت له: ما صَنع الله بك؟ فقال: يا عاضّ بَظر أمه، سألتني عن هذا عامَ أول فأخبرتك؟ فقال يزيدُ بن أبي مسلم: أشهدُ أنك رأيت أبا محمد حقاً. وقال الفرزدق يرثي الحجاجَ ليُرضي بذلك الوليدَ بن عبد الملك:
لِيَبْكِ على الحجّاج مَن كان باكياً ... على الدِّين مِن مستوحِش الليل خائف
وأرمَلةٌ لما أتاها نَعِيُّه ... فجادت له بالواكفات الذَوارف
وقالت لِعبْدَيها أنيخا فعجل ... فقد مات راعي ذَوْدنا بالتَنائف
فليت الأكُفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف ... يُقَطَّعنَ إذ يَحْثِين فوق السفائف
فما ذَرفت عينان بعد محمد ... على مِثله إلا نُفوسَ الخلائف
قال ابن عَيّاش: فلقيتُ الفرزدق في الكوفة، فقلت له: أخبرني عن قولك: " فليتَ الأكفَّ الدافنات ابن يوسف يقطعن " ما معناك في ذلك؟ فقال: وددتُ والله أنّ أرْجُلهم تُقطع مع أيديهم.
قال ابنُ عَيْاش: فلما هلك الوليد واستُخلف سليمانُ استعملَ يزيدَ بن المُهلَّب على العراق وأمره بقتل آل أبي عَقيل، فقتلهم فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن نَفَّر الحجاجَ آلُ مُعتِّب ... لَقُوا دَوْلة كان العدوُّ يُدالُها
لقدْ أصبح الأحياءُ منهم أذًلة ... وموتاهُمُ في النار كُلْحاً سِبالُها
وكانوا يرون الدائراتِ بغيْرهم ... فصارَ عليهم بالغداة انتقالُها
وكُنّا إذا قُلنا اتق الله شمَّرت ... به عزّة لا يُستطاع جِذالُها
أْلكني مَن كان بالصِّين أورمتْ ... به الهندَ ألواح عليها جلالُها
هَلُمَّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات عن أرض العراق خَبالُها
ألا تَشكُرون الله إذ فَكِّ عنكُم ... أَداهمَ بالمَهديّ صُمًّا قِفالُها
وشِيمتْ به عنكم سيوفٌ عليكًم ... صباحَ مَساء بالعذاب استلالُها
وإذ أنتُم مَن لم يَقُل أنا كافر ... تردّى نهاراً عَثرةً لا يُقالُها
قال ابن عَيَّاش: فقلت للفرزدق. ما أدري بأي قَوليك نَأخذ، أبمَدحك في الحجاج حياته، أم هَجْوِك له بعد موته؟ قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه، فإذا تخلّى عنه تخلّينا عنه.
ولما مات الحجاجُ دخل الناسُ على الوليد يعزونه ويُثْنون على الحجاج خيراً، وعنده عمرُ بن عبد العزيز، فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان الحجاجُ إلا رجلاً منا؟ فرضيها منه.
أخبار البرامكة
قال أبو عثمان عمرو بن بَحر الجاحظ: حدّثني سهلُ بن هارون، قال: والله إن كانوا سَجّعوا الطُب، وقرضوا القريض لعيالٌ على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى. ولو كان كلامٌ يُتصوَّر دُرا، أو يُحيله المنطق السريّ جوهراً، لكان كلامَهما والمُنتقى من لَفظهما. ولقد كان مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كُتبه فدمين عَيِيين، وجاهليين أًميين، ولقد عمرتُ معهم، وأدركتُ طبقة المُتكلمين في أيامهم، وهم يَرون أنَّ البلاغة لم تُسْتكمل إلا فيهم، ولم تكُن مقصورةً إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم مَحْض الأنام، ولُباب الكرام، ومِلح الأيام، عِتْقَ مَنظر، وجَوْدَة مَخبر، وجَزالة مَنطق، وسُهولة لفظ، ونَزاهة نفس، وأكتمال خِصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خِصالهم، كثيرَ أيام سواهم، مِن لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصُّور، وانبعاث أهل القبور، حاشى أنبياءِ الله المُكرّمين، وأهل وَحيه المُرسلين، لما باهتْ إلا بهم، ولا عَوّلت إلا عليهم. ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعْرَاقهم، وسَعة آفاقهم، ورَوْنق سِياقهم، ومَعْسول مَذاقهم، وبَهاء إشراقهم، ونَقاوة أعْراضِهم، وتَهذيب أغْراضهم، واكتمال الخير فيهم، في جَنب محاسن الرشيد كالنُّقطة في البحر، والخَرْدلة في المَهْمة القفر.

قال سهل بن هارون: إنّي لأحصِّل أرزاقَ العامة بين يدي يحيى بن خالد في في بناء خلابه داخل سُرادقه، وهو مع الرَّشيد بالرقة، وهو يَعقدها جُملاً بكفه، إذ غشيتْه سآمة، وأخذته سِنة فغلبته عيناه، فقال: ويْحَك يا سهل! طرق النومُ شَفْريّ، وحَلَّت السِّنة جَفْنيّ، فما ذاك؟ قلت ضيفٌ كريم، إنْ قَرَّبته رَوَّحك، وإن مَنعته عَنّتك. وإن طردته طَلبك، وإن أقصيته أَدركك، وإن غالبتَه غَلبك. قال: فنام أقلّ من فُواق بكيه أو نَزْع من رَكية، ثم انتبه مذعوراً فقال: يا سهل، لأمرٍ ما كان والله قد ذَهب مُلْكنا، ووَلّى عِزًّنا، وانقضت أيامُ دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأن مُنشداً أنشدني:
كأن لم يَكُن بين الْحَجونِ إلى الصفا ... أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر
فأجبتُه من غير رويَّة ولا إجالة فِكْرة:
بلى نحنُ كُنا أهلَها فأَبادنا ... صروفُ اللَّيالي والجدودُ العواثرُ
قال: فوالله ما زلتُ أعرفها منه وأراها ظاهرةً فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مَقعدي بين يديه أكتبُ توقيعات في أسافل كُتبه لطلاِّب الحاجات إليه، قد كلّفني إكمالَ معانيها وإقامة الوَزن فيها، إذ وجدتُ رجلاً سعى إليه حتى ارتمى مُكباً عليه، فرفع رأسَه، فقال: مهلاً، ويحك! ما اكتتم خير ولا استَتر شرِّ. قال: قَتل أميرُ المؤمنين جعفراً الساعة. قال: أوقد فعل !قال فما زاد على أن رَمى بالقلم من يده، وقال: هكذا تقومُ الساعة بغتة.
قال سهل بن هارون: فلو انكفأت السماءُ على الأرض ما زاد. فتبرأ مِنهم الحميم، واستبعد عن نسبهم القريب، وجَحد ولاءَهم المولى. ولقد اعتبرت لفقدهم الدُّنيا، فلا لسان يخطِر بذِكْرهم، ولا طَرْف ناظِر يُشير إليهم.
وضَم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضلَ ومحمداً وخالداً، بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالداً، أبناء جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيداً وخالداً ومعمراً، بني الفضل ابن يحيى؟ ويحيى وجعفراً وزيداً، بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفراً وعمر ومعمراً، بني خالد بن يحيى، ومن لَفّ لفهم أوهَجس بصَدره أمل فيهم.
وبعث إليّ الرشيدُ. فوالله لقد أعجلتُ عن النظر، فلبست ثياب أحزاني وأعظمُ رَغْبتي إلى الله الإراحة بالسيف و ألا يُعبثَ بي عبث جعفر. فلما دخلتُ عليه، ومثلت بين يديه، عَرف الذُّعر في تجرّض رِيقي وشُخوصي إلى السيف المَشهور ببَصري. فقال: إيه يا سهل، مَن غمط نعمتي، وتعدّى وصيتي، وأنب مُوافقتي، أعجلْته عُقوبتي. قال: فوالله ما وجدتُ جوابَها حتى قال لي: لِيُفْرِخ رَوْعُك، ويَسْكن جأشك، وتَطبْ نفسك، وتطمئنّ حواسك، فإن الحاجة إليك قَرّبت منك، وأبقت عليك، بما يَبْسط مُنقبضك، ويُطلق مَعْقولك، فما اقتُصر على الإشارة دون اللِّسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحُسام الباتر. وأشار إلى مَصرع جعفر، فقال: " مَنْ لم يؤدبه الجميلُ ففي عُقوبته صَلاحُه "

قال سهل: فوالله ما أعلمني أنّي عَييتُ بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ، فما عَولت في الشُّكر إلا على تَقبيل باطن يديه ورِجْليه. ثم قال: اذهب، فقد أحللتُك محلَّ يحيى، ووهبُتك، ما ضَمنته أفنيته وما حواه سُرادقه، فأقبض الدواوين واحْص حِباءه وحِباء جعفر لنأمرك بقَبضه إن شاء اللّه. قال سهل: فكنتُ كمن نُشر عن كفن واخرج من حَبس. وأحصيت حِباءهما فوجدتُه عشرين ألف دينار، ثم قَفل راجعاً إلى بغداد، وفرق البُرُد إلى الأمصار. بقَبض أموالهم وغَلاتهم. وأمر بِجيفة جعفر وجئتُه، ففُصلت على ثلاثة جُذوع، رأسُه في جِذع على رأس الجسر مُستقبِلَ الصرَّاة، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جِذع على آخر الجسر الثاني ما يلي باب بغداد. فلما دنونا من بغداد، طلع الجِسرُ الذي فيه وجهُ جعفر، واستقبلنا وجههُ واستقبلته الشمس، فوالله لخِلتها تطلع من بين حاجبيه. فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يَساره، فلما نظر إليه الرشيد، وكأنما قنى شعره، وطل بنُورة بَشره، اربدّ وجهه وأغضى بصره. فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عَظُم ذنب لم يَسعه عفوُ أمير المؤمنين. وقال الرشيد: مَن بَرِد غيرَ مائه يَصْدر بمثل دائه، ومن أراد فَهْم ذنبه يُوشك أن يقوم على مثل راحلته. عليّ بالنّضاحات، فنَضح عليه حتى احترق عن آخره وهو يقول: لئن ذهب أثرُك، لقد بقي خبرُك، ولئن حُط قدرك، لقد علا ذكرك.
قال سهل بن هارون: وأمر بضَمّ أموالهم، فوُجد من العشرين ألفَ ألفِ التي كانت مبلغ جِبايتهم اثنا عشرَ ألفَ ألفِ مكتوبٌ على بِدرها صُكوك مختومة بتفسيرها وفيما حَبوا بها، فما كان منها حباء على غَريبة أو استطراف مُلحة تصدّق بها يحيى أثبت ذلك في دِيوانها على تواريخ أيامها. فكان ديوانَ إنفاق واكتساب فائدة. وقَبض من سائر أموالهم ثلاثين ألفَ ألفٍ وسِتَّمائة ألفٍ وستةً وسبعين ألفاً، إلى سائر ضياعهم وغَلاتهم ودُورهم ورياشهم، والدَقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقلّه، ولا يَعرف أيسره، إلا مَن أحصى الأعمال وعَرف مُنتهى الآجال. وأبرزت حُرمه إلى دار الباتوقة بنت المهديّ، فوالله ما علمتُه عاش ولا عِشْنَ إلا من صدقات مَن لم يزل متصدِّقاً عليه، وما رأوا مثلَ موجدة الرشيد فيما يُعلم من ملك قبلَه على أحد مَلكه.

وكانت أمُ جعفر بن يحيى، وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحطبة، أرضعت الرشيدَ مع جعفر، لأنه كان رُبي في حجرها، وغُذي برَسْلها، لأنّ أمه ماتت عن مَهده. فكان الرشيدُ يُشاورها مُظهراً لإكرامها والتبرك برأيها، وكان آلَى وهي في كَفالتها ألاّ يَحْجبها ولا استشفعَتْه لأحد إلا شَفَعها، وآلت عليه أمُ جعفر ألاّ دخلت عليه إلا مَأذوناً لها، ولا شَفعت لأحد لغَرض دُنيا. قال سهل: فكم أسير فكَّت، ومُبْهم عنده فَتحت، ومُستغلق منه فَرَّجت. واحتجب الرشيدُ بعد قدومه. فطلبت الإذن عليه من دار الباتوقة ومَتَّت بوسائلها إليه، فلم يأْذن لها ولا أَمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خَرجت كاشفةً وجهها واضعةً لثامها مُحْتفيةً في مَشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد. فدخل عبدُ الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظِئْر أمير المؤمنين بالباب في حالة تَقْلب شماتةَ الحاسد إلى شَفقة أمَّ الواحدِ. فقال الرشيدُ: ويحك يا عبدَ الملك أوَ ساعية؟ قال: يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عَبد الملك، فرُب كَبد غَذتها، وكُربة فَرَّجتها، وعَوْرة سترتها. قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيدُ إليها داخلةً مُحتفية قام مُحتفياً حتى تلقاها بين عَمد المجلس، وأكبَّ على تَقبيل رأسها ومواضعِ ثَدْييها، . ثم أجلسها معه. فقالت: يا أمير المؤمنين، أَيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوْفاً لك الأعوان، ويَحردك عنا البهتان؟ وقد ربيّتك في حِجري، وأخذت برَضاعك الأمان من عدوي ودَهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسنى من رأفته بتَركة كُنيتهْا أخر ما كان أطمعني من برّه بها أولاً. قالت: ظِئْرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عَرفه به أميرُ المؤمنين من نَصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرضه للحَتف في شأن مُوسى أخيه. قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقَضاء حُم، وغَضب من الله نَفذ. قالت: يا أمير المؤمنين، يَمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب. قال: صدقتِ، فهذا مما لم يَمْحه اللّه. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل ابن هارون: فأَطرق الرشيد ملياً، ثم قال:
وإذا المَنيّة أنشبت أظفارَها ... ألفيتَ كل تميمة لا تَنفعُ
فقالت بغير روّية: ما أنا ليحيى بتَميمة يا أميرَ المؤمنين، وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول عزّ وجلّ: " والكاظمين الغَيْظ والعافينَ عن النّاس والله يُحبُّ المُحسنين " فأَطرق هارون مليّاً، ثم قال: يا أم الرشيد، أقول:
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تَكَد ... إليه بوَجْهٍ آخرَ الدَّهر تُقْبلُ
فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول:
ستَقطع في الدّنيا إذا ما قَطعتَني ... يَمينك، فانْظر أي كف تبدَّلُ؟

قال هارون: رضيتُ. قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. من ترك شيئاً للّه لم يُوجده الله فَقْدَه. فأكبّ هارون ملياً، ثم رَفع رأسه يقول: للّه الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ. قالت: يا أمير المؤمنين، " ويومئِذ يَفْرح المُؤمنون بنصر الله يَنْصُرِ مَن يَشاء وهو العَزيزُ الرَّحيم " . وأذكُر يا أمير المؤمنين، أليّتك: ما استشفعتُ إلا شفَعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليَّتَك أن لا شَفعت لمُقترف ذنباً. قال سهل بن هارون: فلما رأتْه صَرَّح بمَنعها ولاذ عن مَطلبها أخرجت حُقًّا من زَبَرْجدة خَضراء فوضعتْه بين يديه فقال الرشيد: ما هذا؟ ففَتحت عنه قفلاً من ذهب فأخرجت منه قَميصه وذؤابته وثَناياه، قد غَمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأَستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جَسدك وطَيَّب جوارحك ليحيى عبدِك. فأخذ هارون ذلك فلَثمه، ثم أستعبرَ وبكى بُكاء شديداً وبكى أهْل المجلس. ومرّ البشيرُ إلى يحيى وهو لا يَظن إلا أ نّ البكاء رحمةَ له ورجوعٌ عنه، فلما أفاقَ رَمى جميع ذلك في الحق. وقال لها: لحسناً ما حفظتِ الوديعة. فقالت: وأهل للمكافأة أنتَ يا أمير المؤمنين. فسكتَ وقَفل الحق ودَفعه إليها وقال: " إ نّ الله يأمركم أن تْؤدّوا الأماناتِ إلى أهلها " . قالت: والله يقول: " وإذا حَكمتم بين الناس أن تَحْكُموا بالعَدْل " . ويقول: " وأَوفُوا بعَهد الله إذا عاهدتُم " . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمتَ لي به أن لا تَحجبني ولا تَجبهني. قال: أ حب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه. قالت: أنصفتَ يا أمير المؤمنين. وقد فعلتُ غيرَ مُستقيلة لك ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمَّن لم يُسخطك. قال: يا أم الرشيد، أما لي عليك من الحق مثلُ الذي لهم؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين، أعزُّ عليّ وهم أحبُّ إليّ. قال: فتحكّمي في ثمنه بغيرهم؟ قالت: بلى، قد وَهبتكه، وجعلتُك في حِلّ منه، وقامت عنه. وبَقي مبهوتاً ما يُحير لفظة. قال سهل: وخرجتْ فلم تَعُد، ولا والله ما رأيتُ ها عَبرة ولا سمعتُ لها أنه.
قال سهل: وكان الأمين محمدُ بن زبيدة رضيعَ يحيى بن جعفر، فمتَّ إليه يحيى بنُ خالد بذلك، فوعد استيهاب أمه إياهم وتكلّمها لهم، ثم شَغله اللهوُ عنهم. فكتب إليه يحيى، ويقال إنها لسليمان الأعمى أخي مُسلم بن الوليد، وكان مُنقطعاً إلى البرامكة، يقول:
يا مَلاذي وعِصْمتي وَعِمَادي ... ومُجيري من الخُطوب الشدادِ
بكَ قام الرجاءُ في كلَّ قلب ... زاه فيه البلاءُ كل مَزاد
إنما أنت نِعمة أعْقبتها ... نِعَم نفعُها لكلِّ العِباد
وَعْدَ مولاك أتممنه فأبهى ال ... در ما زين حسنه بانعقاد
ما أظلت سحائب اليأس إلا ... كان في كَشْفها عليك اعتمادي
إن تراختْ يداك عنّي فُوَاقاً ... أكَلَتني الأيامُ أكلَ الجَراد
وبعث بها إلى الأمين محمد، فبعث بها الأمينُ إلى أمه زُبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لَذَته، وعندَ إقبال أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبّأت جواريها ومُغنياتها وأمرتهنَ بالقيام معها إذا قامت. فلما فَرغ الرشيدُ من قراءتها لم يَنقض حَبوته حتى وقَّع في أسفلها: عِظَم ذَنبك أمات خواطرَ العفو عنك، ورَمى بها إلى زُبيدة. فلما رأت توقيعَه علمت أنه لا يرجع عنه.

وقال بعض الهاشميِّين: أخبرني إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن العباس، قال: كنتُ أساير الرشيدَ يوماً والأمينُ عن يمينه والمأمون عن شماله، فأستْداني وقدَّمهما أمامه، فسايرتُه، فجعل يُحدَثني، ثم بدأ يُشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أَضمر عليه لهم، وأنهم اْستوحشوه من أنفسهم، وأنني عنده بالوضع الذي لا يَكْتمني شيئاً من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تَنْقلني من السعة إلى الضيق. فقال الرشيد: إلا أن تقول، فإني لا أتهمك في نَصيحة ولا أِّخافُك على رأي ولا مَشورة. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إني أرى نفاسَتك عليهم بما صاروا إليه من النَعمة والسِّعة، ولك أن تأمر وتَنهى، وهم عبيدٌ لك بإنباتك إياهم، فهل يَصنعون ذلك كُلَه إلا بك؟ قال - وكنتُ أحطِب في حبال البرامكة - فقال لي: فضياعُهم ليس لولدِي مثلُها وتَطيب نفسي بذلك لهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الملك لا يَحسد ولا يَحْقد، ولا يُنعم نِعمة ثم يُفسد نِعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى وجهه عني قال إسحاق فعلمت أنه سيوقع بهم ثم انصرفتُ فكتمت الخبرَ، فلم يسمع به أحدٌ. وتجنّبت لقاءَ يحيى والبرامكة خوفاً أن يُظن أنّي أُفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدَّ ما كان إكراماً لهم. وكان قتلُهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعْتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهِندي. فقال له؟ ماذا ترى في هذه العِلة؟ فقال منكة: داءٌ كبير، دواؤه يسير، والصبر أيسر. وكان مُتفنّناً. فقال له يحيى: ربما ثَقُل على السّمْع خَطْرة الحق به. وإذا كان ذلك كذلك كان الهجرُ له ألزمَ من المُفاوضة فيه. قال منكة: لكنني أَرى في الطالع أثراً والأمرُ فيه قريب، وأنت قسيم في المَعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمةً لا نتاج لها، ولكنّ الأخذَ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور مُنصرفة إلى العواقب، وما حُتم فلا بدّ أن يَقع، والمَنعة بمُسالمة الأيام نُهزة، فاقْصِد لما دعوتُك له من هذا الأمر المَوجود بالمِزاج. قال منكة: هي الصفواءُ مازجتْها مائيةُ البلغم، فحدَث لذلك ما يَحدث من اللهب عند مُماسّة رطوبة الماء من الأشْتغال. فخُذ ماء الرمان فدُف فيه إهْلِيلَجة سوداء تُنهضك مجلساً أو مجلسين، ويَسْكن ذلكَ التوقدّ إن شاء الله.
فلما كان من أمرهم ما كان تلطّف منكَة حتى دخل الحبس فوجد يحيى قاعداً على لبْد، والفضلُ بين يديه يَخْدمه، فاسْتعبر منكة باكياً، وقال: كنتُ ناديتُ لو أسرعتَ الإجابة. قال له يحيى: تراك كنتَ قد علمتَ من ذلك شيئاً جهلته؟ قال: كلا، ولكن كان الرجاء للسلامة بالبراءةَ من الذنب أغلبَ من الشّفق، وكان مُزايلة القَدْر الخَطير عنَّا أقلَّ ما تُنقَض به التُّهمَة، فقد كانت نِقْمة أرجو أن يكون أولها صَبراً وأخرها أجراً. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال منكة: ما أرى له دواء أنفعَ من الصبر، ولو كان يُفدى بملْك أو بمُفارقة عضو كان ذلك مما يَجب لك. قال يحيى: قد شكرتُ لك ما ذكرت فَإِن أمكنك تَعاهُدَنا فافْعل. قال منكة: لو أمكنني تخليفُ الرُّوح عندك ما بَخِلْتُ به، إذ كانت الأيام تَحْسن بسلامتك.

وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد: لأمير المؤمنين، وخليفة المهديين، وإمام المُسلمين، وخليفة ربّ العالمين. من عبْد أسلمتْه ذنوبُه، وأوْبقته عيوبه، وخَذله شقيقُه، ورَفضه صديقهُ، وما به الزمان، ونَزل به الحِدْثان، فعالج البُؤس بعد الدَّعة، وأفترش السُّخط بعد الرضا، وأكتحل بالسًّهاد بعد الهُجود؟ ساعته شهر، وليلته دهر؟ قد عاين الموتَ، وشارف الفَوْت، جزعاً لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفاً على ما فات من قُربك لا على شيء من المَواهب، لأن الأهل والمالَ إنما كانا لك وبك، وكان في يديَّ عارية، والعارية مردودة. وأما ما أصبت به من ولدي فبذَنبه، ولا أَخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجازت به فوق خدِّه. تفكر في أمري جعلني الله فداك ولْيَمل هواك بالعفو عن ذَنب إن كان فمِن مثِلي الزَّلل، ومِن مثلك الإقالة، وإنما اعتذر إليك بإقراري بما يجب به الإقرار حتى تَرضى، فإذا رضيت رجوتُ إن شاء الله أن يتبينّ لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعدَه ذنبٌ أن تَفْغره. مدَّ الله في عمرك، وجعل يومي قبل يومك. وكتب إليه بهذه الأبيات:
قل للخَليفة ذي الصَّني ... عة والعَطايا الفاشِيَة
وابنِ الخلائِف من قُري ... ش والمُلوك العالية
إنّ البَرامكة الّذي ... ن رمُوا لدَيْك بداهية
صفر الوجوه عليهم ... خلع المَذلة بادية
فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز ُنَخْل خاوية
عَمَّتهم لك سَخطة ... لم تبق منهم باقية
بعد الإمارة والوزا ... رة والأُمور الساميه
ومنازل كانت لهم ... فوق المَنازل عالِيه
أضحَوْا وجُلَّ مُناهم ... منك الرِّضا والعافيه
يا من يودُّ لي الرَّدى ... يَكْفيك منيَ ما بيه
يكفيك ما أبصرتَ من ... ذلِّي وذُل مَكانِيه
وبُكاء فاطمةَ الكئي ... بة والمَدامع جاريه
ومَقالها بتوجّعٍ ... يا سَوْأتي وشَقائيه
مَن لي وقد غَضب الزما ... نُ على جَميع رِجاليه
يا لهفَ نفسي لهفها ... ما للزّمانِ وماليه؟
يا عطفة المَلك الرِّضا ... عُودي علينا ثانيه
فلم يكن له جواب من الرشيد.
واعتلَّ يحيى في الحَبس، فلما أَشفى دعا برُقعة فكتب في عُنوانها: يُنفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدّم الخضمُ إلى مَوقف الفَصل، وأنت على الأثر، والله حَكم عَدْل، وستقدم فتعلِم. فلما ثَقُلَ قال للسجان: هذا عهدي توصله إلى أمير المؤمنين، فإنه وليّ نعمتي، وأحقُّ من نفّذ وصيّتي. فلما مات يحيى، أوصل السجانُ عهدَه إلى الرشيد. قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلتْ الرقعةُ إليه. فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أَدري لمن الرُّقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أَكْفيك؟ قال: كلا، إني أخافُ عادةَ الرّاحة أن تُقوِّي سلطان العجز، فيحكم بالغَفلة، ويقضي بالبلادة، ووقّع فيها: الحَكم الذي رضيتَ به في الآخرة لك هو أعدى الخُصوم عليك، وهو مَن لا يُنقض حُكمه، ولا يُردّ قضاؤه. قال: ثم رَمى بالصكّ إليّ، فلما رأيتُه علمت أنه ليحي، وأنّ الرشيدَ أراد أن يُؤثر الجوابَ عنه.
وقال دِعبل يَرثي بنيِ برمك:
ولما رأيتُ السيفَ جَلَل جعفرا ... ونادَى مُنادٍ للخليفة في يَحيى
بكيتُ على الدُّنيا وأيقنت ... أنما قُصارى الفتى يوماً مُفارقةُ الدنيا
وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك:
هَدَا الخالُون عن شَجوِي ونامُوا ... وعَيْنيَ لا يُلائمها المنامُ
وما سَهري بأنّي مستهام ... إذا سهر المُحِب المُستهام
ولكن الحوادثَ أرقتنيِ ... فبي أرقٌ إذا هَجع النِّيام
أصبت بسادةٍ كانوا عُيوناً ... بهم نُسقى إذا انقطع الغَمام
فقلتُ وفي الفؤاد ضرامُ نار ... وللعَبرات من عَينيِ انسجام

على المَعروف والدُّنيا جميعاً ... ودَوْلةِ آل بَرمك السلام
جَزعتُ عليك يا فضل بنَ يحيى ... ومَن يجزع عليك فلا يُلام
هَوَت بك أنجُم المَعروف فينا ... وعَزّ بفَقدك القومُ اللئام
وما ظَلم الإله أخاك لكنْ ... قضاء كان سبّبه اجترام
عِقابُ خليفة الرَّحمن فَخْر ... لمن بالسيف صَبّحه الحِمام
عَجبتُ لما دها فضلَ بنَ يحيى ... وما عَجَبِي وقد غَضِب الإمام
جَرى في اللّيل طائرُهم بنَحْس ... وصَبَّح جعفراً منه اصطلام
ولم أرَ قبل قَتلك يابن يَحيى ... حُساماً قَدّه السيفُ الحُسام
بُرين الحادثات له سِهامًا ... فغالتْه الحوادثُ والسِّهام
لِيَهْن الحاسدين بأنّ يحيى ... أسيرٌ لا يَضيم ويستضام
وأنّ الفضل بعد رِداء عزٍّ ... غَدا ورداؤُه ذالٌ ولام
فقُل للشامتين بهم جميعاً ... لكم أمثالُها عامٌ فَعام
أمينَ الله في الفَضل بن يحيى ... رَضيعِك والرَّضيعُ له ذِمام
أبا العبَّاس إنّ لكُل هَمًّ ... وإنْ طال انقراض وانصرام
أرى سَبب الرضا وله قَبول ... على الله الزيادةُ والتَّمام
وقد آليتُ فيه بصَوم شهر ... فإن تَمّ الرِّضا وَجب الصيام
وقد آليتُ مُعتزما بنَذْرٍ ... ولى فيما نذرتُ به اعتزامُ
بأنْ لا ذُقتُ بعدكُم مُداما ... ومَوتي أن يُفارقني المُدام
أألهو بعدكم واقرّ عَيناً ... عليَ اللَهوُ بعدكم حَرام
وكيف يَطيب لي عيش وفَضل ... أسيرٌ دونه البَلد الشآم
وجَعفرُ ثاوياً بالجسر أبلت ... محاسنَه السمائمُ والقَتام
أمُرُّ به فيَغْلبني بكائي ... ولكنّ البُكاء له اكتتام
أقول وقُمت مُنتصباً لديه ... إلى أن كاد يَفْضَحني القِيام
أمَا والله لولا خوفُ واشٍ ... وعينِ للخليفة لا تنام
لَثَمْنا رُكن جِذْعك واستَلمنا ... كما لَلناس بالحَجَر استلام
وقال بعض الشعراء يُغري هارون ببني برمك.
قل للخليفة في اكتفائه ... دُون الأنام بحُسن رائه
إمّا بدأتَ بجَعفرٍ ... فاسق البَرامك مِن إنائه
ما برْمكيٌّ بعده ... تَقِف الظُّنون على وَفائه
أنى وقَصْر البرمك ... يّ إلى انتكاثِ من شَقائه
فلقد رفعتَ لجعفرٍ ... ذِكْرين قَلاَ في جَزائه
فارفع ليَحيى مثلَه ... ما العُود إلا مِن لِحائه
وأخضِب بصَدْر مُهنَّد ... عُثنون يَحيىِ مِن دِمائه

إبراهيم بن المهديّ قال: قال لي جعفرُ بن يحي يوماً إنني استأذنتُ أميرَ المؤمنين في الحِجامة وأردتُ أن أخلو بنفسي وأفِرَّ من أشغال الناس وأتوحَّد، فهل أنت مُساعدي؟ قلتُ: جعلني الله فِداك، أنا أسعد بمُساعدتك وأنسُ بمُخالاتك: فقال: بَكِّر إلى بكور الغُراب. قال: فأتيتُ عند الفَجر الثاني: فوجد تُ الشَّمعة بين يديه وهو قاعدٌ ينتظرني للمِيعاد. قال: فصلّينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحِجامة، فأتى الحجَّام، فَحجمنا في ساعة واحدة. ثم قُدِّم إلينا الطعام، فَطعِمنا. فلما غَسلنا أيدينا خُلع علينا ثياب المنادمة وضمِّخنا بالخَلوق، وظَلِلنا بأسرَ يوم مَرّ بنا. ثم إنه تذكَّر حاجة فدعا الحاجب. فقال له: إذا جاء عبدُ الملك القَهْرمان فَأذن له، فنسي الحاجب، وجاء عبدُ الملك ابن صالح الهاشمي على جَلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذِن له الحاجب. فما راعنا إلا طَلعة عبدُ الملك بن صالح، فتغيّر لذلك وجهُ جعفر بن يحيى، وتَنغّصِ عليه ما كان فيه. فلما نَظر إليه عبدُ الملك على تلك الحالة دعا غلامَه، فدَفع إليه سيفه وسَواده وعِمامته، ثم جاء فوَقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صَنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلامُ فطَرح عليه ثيابَ المُنادمة، ودعا بطَعام فطَعم، ثم دعا بالشَّراب فشرب ثلاثاً، ثم قال: ليخفِّف عنّي فإنه شيء ما شربتُه قطُّ. فتهلَّل وجهُ جعفر فرحاً. وقد كان الرشيد حاور عبدَ الملك على المُنادمة فأَبى ذلك وتنزه عنه. ثم قال له جعفر بن يحيى: جَعلني الله فداك، قد تفضَّلت وتطوّلت وأسعدتَ، فهل من حاجة تَبْلغها مقدرتي، وتُحِيط بها نعمتي فأقضِيَها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إنَّ قلبَ أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرِّضا عنّي. قال: قد رَضي عنك أميرُ المؤمنين. ثم قال: وعليّ أربعةُ آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحبُّ إليَ من مالي. قال: وابني إبراهيم أحبُّ أن أ شُد ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زَوَّجه أميرُ المؤمنين ابنَتَه عائشة الغالِية. قال: وأحبُ أن تَخْفِق الألويةُ على رأسه بولاية. قال: قد ولاَه أميرُ المؤمنين مِصر. قال: فانصرَف عبدُ الملك ونحن نَعجب من إقدام جعفر على الرَّشيد من غير اسْتئذان. فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودَخل جعفر، فلم يَلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد ابن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النِّكاح وحُملت البِدَر إلى عبد الملك وكُتب سِجلّ إبراهيم على مِصر. وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفَه، نَزل ونزلنا بنزوله. فالتّفت إلينا، فقال: تعلَّقت قلوبُكم بأوَّل أمر عبد الملك فأحببتُم أن تعرفوا آخره، وإني لما دخلتُ على أمير المُؤْمنين ومَثلت بين يديه سألني عن أمْسي، فابتدأتُ أحدثه بالقِصَّة من أولها إلى آخرها، فجعل يقول: أحسنَ واللّه! أحسن والله ثم قال: فما أجبتُه، فجَعلت أخبره وهو يقول في كل شيء: أحسنت. وخرج إبراهيم والياً على مصر.
من أخبار الطالبيين
حدّث عبدُ العزيز بن عبد الله البَصريّ عن عثمان بن سَعيد بن سَعد المدَنيّ قال: لما وَلى الخلافةَ أبو العبَّاس السفّاح قَدِم عليه بنو الحَسن بن عليّ ابن أبي طالب، فأعطاهم الأموال وقَطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحَسن: احتكمْ عليّ، قال: يا أميرَ المؤمنين، بألف ألف دِرْهم، فإني لم أرها قَطُّ. فاْستَقْرضها أبو العبَّاس من ابن مُقَرِّن الصَّيرفيّ وأَمر له بها - قال عبدُ العزيز: لم يكن يومئذ بيتُ مال - ثم إ نّ أبا العباس أتى بجَوهر مَروان، فجعل يُقلِّبه وعبد الله بن الحَسن عنده، فَبَكى عبدُ الله. فقال له: ما يُبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مَروان وما رأت بناتُ عمك مثلَه قطّ. قال: فحبَاه به. ثم أمر بنَ مُقرِّن الصّيرفيّ أن يَصل إليه ويَبتاعه منه. فاشْتراه منه بثمانين ألف دينار. ثم حَضر خروجُ بني حسن فأرسل معهم رجلاً من ثِقاته، وقال له: قُم بإنزالهم ولا تَأن في إلطافهم. وكلما خلوتَ معهم فأَظْهر الميل إليهم والتحاملَ علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحقُّ بالأمر منّا، وأحْص لي ما يقولون وما يكون منهم في مَسيرهم ومَقْدَمهم.

ومما كان خَشَّن قلب أبي العبّاس حتى أساء بهم الظن، أنه لما بَنى مدينةَ الأنبار دخلَها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن، وهو يسير بينهما ويُريهما بُنيانه وِما أقام فيها من المَصانع والقُصور، فظهرت من عبد الله بن الحسن فَلْتة، فجَعل يتمثَل بهذه الأبيات:
ألم ترجَوْ شناً قد صار يَبْني ... قصوراً نَفْعُها لبني نُفَيْلَهْ
يُؤَمِّل أن يُعِمِّر عُمْر َنُوح ... وأَمرُ الله يَحْدث كلّ لَيله
قال: فتغيَر وجهُ أبي العبَّاس. فقال له أبو جعفر: أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة؟ قال: لا والله ما ذهبتُ هذا المذهب ولا أردتُه، ولا كانت إلا كلمة جرتْ على لساني، لم ألقِ لها بالاً. فأوحشتْ تلك الكلمة أبا العباس. فلما قَدِم المدينةَ عبد الله بن حسَن اجتمع إليه الفاطميون، فجعل يُفرَق فيهم الأموالَ التي بَعث بها أبو العباس، فعظُم بها سرورُهم. فقال لهم عبد الله بن الحسن: أفرحتم؟ قالوا: وما لنا لا نَفرح بما كان مَحجوباً عنَا بأيدي بني مَروان حتى أتى الله بقَرابتنا وبني عَمِّنا، فأصاروه إلينا. قال لهم: أفَرَضيتُم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قومٍ آخرين؟ فخرج الرجلُ الذي كان وكَّله أبو العباس بأخبارهم، فأخبره بما سمع من قولهم وقولِه؟ فأخبر أبو العبّاس أبا جعفر بذلك، فزادت الأمور شرّاً.
ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة، وكتب إلى عامله: أن أعط الناسَ في أيديهم ولا تَبعث إلى أحدٍ بعطائه، وتَفقّد بني هاشم ومَن تخلَف منهم ممّن حضر، وتحفّظ بمحمد وإبراهيم، ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحدٌ عن العطاء إلا محمد وإبراهيم، ابنا عبد الله بن الحسن، فإنهما لم يَحضرُا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبتدأ سنة تِسْع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويُخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبدُ اللهّ: إنه لا يَدري أين هما ولا أين توَجها، وإن غيبَتهما غيرُ معروفة. فلم يلبث أبو جعفر، وكان قد أذكى العُيون ووَضع الأرصاد، حتى جاءه كتابٌ من بعض ثقاته يُخبره أنّ رسولاً لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخُراسان يَسْتدعيهم إليهم. فأمر أبو جعفر برِسولهم، فأتي به وبكُتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطَوابعها، لم يَفتح منها كتاباً، وردّ إليه رسولَه، وكتب إليه: إني أتيت برسولك والكُتب التي معه، فرددتُها إليك بطوابعها كراهيةَ أن أطلع منها على ما يُغَيِّر لك قلبي، فلا تَدْعُ إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفُرقة بعد الاجتماع، وأظْهِر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيثُ تحب من الولاية والقرابة وتَعظيم الشرف. فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصَّل في كتابه، ويُعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد الْتئامه. ثم جاءه كتابُ ثقة من ثقاته يذكر أنَ الرسول بعينه خَرج بالكُتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المُهلبي، فإن أراده أميرُ المؤمنين فَلْيضع عليه رَصَده. فوضع عليه أبو جعفر رَصده. فأتي به إليه ومعه الكُتب، فحَبس الرسولَ وأمضى الكُتبَ إلى خُراسان مع رسول من عنده من أهل ثقاته. فقدمتْ عليه الجواباتُ بما كره، واسْتبان له الأمرُ. فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول:
أريد حياتَه ويُريد قتلي ... عذيرَك مِن خليلك من مُرادِ
أما بعد، فقد قرأتُ كُتبك وكُتب ابْنيك وأنفذتُها إلى خُراسان، وجاءتني جواباتُها بتَصديقها، وقد استقرّ عندي أنك مُغَيبٌ لابنيك تعرف مكانَهما، فاظْهِرهما إليّ، فإن لك في أن أعظم صِلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتْهما قرابتُهما، فتدارك الأمورَ قبل تفاقُمها.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
وكيف أريد ذاك وأنت منى ... وزَنْدُك حين تُقْدح من زِنادِي
وكيف أريد ذاك وأنت منِّي ... بمَنزلة النياط من الفُؤاد

وكتب إليه: إنه لا يدري أين توجها من بلاد اللّه، ولا يَدري أين صارا، وإنَّه لا يعرف الكُتب ولا يشك أنها مُفتعلة. فلما اخْتَلفت الأمور على أبي جعفر بَعث سَلْم بن. قُتيبة الباهليّ وبَعث معه بماله، وأمره بأمره، وقال له: إنّي إنما أدخلك بين جلدي وعظمي، فلا توطئني عَشْواء ولا تُخْف عني أمراً تَعلمه. فخرج سَلْم بن قُتيبة حتى قَدِم المدينةَ، وكان عبد الله يُبسط له في رُخام المنبر في الروضة، وكان مَجلسه فيه. فجَلس إليه وأظهر له المَحبة والمَيل إلى ناحيته، ثمِ قال له حين أنس إليه: إنَ نفراً من أهل خُراسان وهم فلان وفلان - وسمّى له رجالاً يعرفهم ممن كان يُكاتب ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرُهم - قد بَعثوا إليك معي مالاً، وكتبوا إليك كتاباً. فقَبل الكتاب والمال، وكان المالُ عشرةَ آلاف دينار، ثم أقام معه ما شاء الله حتى أزداد به أنساً وإليه استنامة، ثم قال له: إني قد بُعِثتُ بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد وإلى ولي عهده إبراهيم، وأمرتُ أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتَني إليهما وأدخلتَني عليهما أوصلتُ إليهما الكتابين والمال، ورحلتُ إلى القوم بما يُثلج صدورَهم، وتَقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإنْ كان أمرهما مظلماً، ولِم تكن تعرف مكانهما، لم نخاطر بدينهم وأموالهم ومُهجهم. فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تَفْسد عليه من حيث يرجو صلاحها إلا بإِيصاله إليهما وأظهارهما له أوْصله، فدفعَ الكتابين مع أربعين ألف درهم، ثم قال: هذا محمد وهذا إبراهيم. فقال لهم: إنَ من ورائي لم يَبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرَف إلى قوم إلا بجُملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخُطة ووجبت له هذه الدَّعوة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هنا من هو أقربُ من رسول الله رَحماً وأوجبُ حقّاً منه. قال: ومن هو؟ قال: أنت إلا أن يكون عندك ابنك محمد أثرٌ ليس عندك في نفسك. قال: فكذلك الأمرُ عندي. قال له: فإنَّ القومَ يَقتدون بك في جميع أمورهم ولا يُريدون أن يبذلوا دينَهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحُجة يرجون بها لمن قَتل منهم الشهادة، فإن أنت خلعتَ أبا جعفر وبايعتَ محمداً اقتَدَوْا بك، وإنْ أبيْتَ اقتَدَوا بك أيضاً في تَركك ذلك ثقةً بك لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَوْضعك الذي وَضعك الله فيه. قال: فإنّي أفعل. فبايَعَ محمداً وخلع أبا جعفر. وبايعه سَلْم من بعده، وأخذ كُتبَه وكتبَ إبراهيم ومحمد وخرج. فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسمُ، فأخبره حقيقة الأمر ويقينه. فلما دخل أبو جعفر المدينةَ أرسل إلى بني الحسن فجَمَعهم، وقال لسَلْم: إذا رأيتَ عبد الله عندي فقُم على رأسي وأشِرْ إليَ بالسلاح، ففعل. فلما رآه عبد الله سُقط في يده وتغيَّر وجهه. فقال له أبو جعفر: مالك أبا محمد، أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فاقِلْني وصلْتك رحم. فقال له أبو جعفر: هل علمتَ أنك تعرف موضع وَلَديك وأنه لا عُذر لك وقد باح السرُّ، فأظهرهما لي، ولك أن أصلَ رحمك ورَحمهما، وأن أعظم ولايتهما وأعطيَ كلّ واحد منهما ألف ألفِ درهم. فتراجعٍ عبد الله حتى انكفأ على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلاً، فأمر بِحبسهم جميعاً. وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعَبّأ على القتال، ولم يَشك أنَّ أهل المدينة سيُقاتلونه في بني حَسن، فعبّأ ميمنة وميسرة وقَلْباً وتهيأَ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مُعطياً يُعطون العطايا. فلم يتحرك عليه منهم أحد، ثم مَضى بهم إلى مكَة.

فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمدُ بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر: مِن عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله " إِنما جَزاءُ الذينَ يحاربُون الله ورسولَه ويَسْعَوْن في الأرض فَساداً أن يُقَتلوا أوْ يُصلّبُوا أو تُقطَّع أيدِيهم وأرْجُلُهم من خِلاف أو يُنْفَوا من الأرض ذلك لهم خِزْى في الدُّنيا ولهم في الآخرة عذاب عَظيم. إلا الذين تَابُوا مِن قبْل أنْ تَقْدِروا عليهم فاعلموا أنّ الله غَفُورٌ رَحيم " . ولك عليّ عهدُ الله وميثاقه وذمَّة الله وذمة نبيّه، إن أنتُما أتيتُما وتُبتما ورَجعتما من قبل أن أقدرَ عليكما وأن يقع بيني وبينكما سَفك الدماء، أن أؤمنكما وجميعَ ولدكما. ومن شايعكما وتَابَعكما على دِمائكم وأموالكم، وأوسعكم ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألفَ ألفِ درهم لكلِّ واحد منكما، وما سألتما من الحوائج، وأبوئكما من البلاد حيث شئتُما، وأطْلِق من الحبس جميعَ ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحداً منكما بذَنب سَلف منه أبداً. فلا تُشمت بنَا وبك عدوّنا من قريش، فإن أحببْتَ أن تتوثق من نفسك بما - عرضتُ عليك، فوَجَّه إليَّ مَن أحببْتَ ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق ما تأمن وتطمئن إليه إن شاء الله والسلام.
فأجابه محمدُ بن عبد اللهّ: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد " طَسِم. تلك آياتُ الكِتَاب المُبِين. نَتْلو عليكَ مِن نبأ مُوسى وفِرْعوْن بالحقِّ لقوم يُؤْمنون " إلى قوله " وما كانَوا يَحْذَرون " . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضتَه، فإنَّ الحقَّ معنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخَرجتم إليه بشِيعتنا، وحَظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا رحمه الله كان الإمام فكيف ورثتم ولايةَ ولده وقد علِمتُم أنه لم يطلب هذا الأمر أحدٌ بمثل نَسَبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظِّئار، ولا من أبناء الطُّلقاء، وأنه ليس يَمُتُّ أحدٌ بمثل ما نَمُتّ به من القرابة والسابقة والفضل وأنا بنو أم أبي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم، وأنّ الله اختارنا واخْتار لنا، فولدنا من النبيّين أفضلُهم، ومن الألف أوّلهم إسلاماً علي بن أبي طالب، ومن النّساء أفضلُهن خديجة بنت خُويلد، وأول مَن صلّى إلى القبلة منهن، ومن البنات فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة، ولدت الحَسن والحُسين سيدَي شباب أهل الجنة صلواتُ الله عليهما، وأنَ هاشماً وَلد عليا مرتين، وأنَّ عبد المطلب وَلد حسناً مرتين، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وأني من أوسط بني هاشم نَسباً وأشرفهم أباً وأمّاً لم تُعْرِق فيّ العجم ولم تُنازع فيّ أمهاتُ الأولاد. فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمهات في الجاهليّة والإسلام، حتى أختار لي في النار، فأَنا ابنُ أرفع الناس درجةً في الجنّة، وأهونهم عذاباً في النار، وأبي خيرُ أهل الجنة، وأبي خيرُ أهل النار، فأنا ابن خير الأخيار، وأبن خير الأشرار، فلك اللّهُ، إن دَخلتَ في طاعتي وأوجبتَ دَعْوتي، أن أؤمِّنك على نَفسك ومالك ودَمك وكلِّ أمرٍ أحدثتَه، إلا حداً من حُدود اللّه، أو حقَّ امرئ مُسلم أو مُعاهد، فقد علمتَ ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعَهد؟ لأنك لا تُعطي من العهد أكثرَ مما أعطيتَ رجالاً قبلي. فأيَ الأمانات تُعطيني: أمانَ ابن هبيرة، أو أمانَ عمك عبد الله بن عليّ، أو أمانَ أبي مُسلم. والسلام.

فكتب إليه أبو جعفر المنصور: من عبد الله أمير المُؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حَسن، أما بعد. فقد بلغني كتابُك، وفهمتُ كلامَك، فإذا جُل فخرك بقَرابة النِّساء، لتضل به الغوغاء. ولم يَجعل الله النساءَ كالعُمومة والآباء، ولا كالعَصبة الأولياء؟ لأن الله جعل العمَّ أباً وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى. ولو كان اختيارُ الله لهنّ علىِ قدر قَرابتهن لكانت آمنة أقربَهن رَحِماً، وأعظمَهن حقًا، وأولَ مَن يدخل الجنة غداً، ولكنّ اختيارَ الله لخَلقه على قدر عِلْمه الماضيِ لهم. فأما ما ذكرتَ من فاطمة جدَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإنَ الله لم يَرزق أحداً من وَلدها دينَ الإسلام ولو أنَّ أحداً من ولدها رُزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكُل خَيْر في الدُّنيا والآخر، ولكنّ الأمرَ لله يَختار لدِينه مَن يشاء. وقد قال جل ثناؤه: " إنكَ لا تَهْدِيِ مَن أحْبَبْتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَن يَشاء وهُو أعلمُ بالمُهتَدِين " . وقد بعثَ الله محمد صلى الله عليه وسلم وله عُمومة أربعة، فأنزل الله عليه: " وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقرَبين " . فَدعاهم فأنذرهم، فأجابه اثنان أحدُهما أبِي، وأبي عليه اثنان أحدُهما أبوك، فقطع الله ولايتَهما منه، ولم يَجعل بينهما إلا ولا ذمَة ولا مِيراثاً. وقد زعمتَ أنك ابنُ أخفِّ أهل النار عذاباً وابنُ خير الأشرار، وليس في الشرِّ خِيارٌ، ولا فَخرَ في النار، وسترد فتَعلم " وسَيعلم الذيِ ظَلمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنْقَلبون " . وأما ما فَخرتَ به من فاطمةَ أمّ عليّ، وأنّ هاشماً ولد عليَّا مرتين، وأنِّ عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وَلدك مرَّتين، فَخيرُ الأولين الآخِرين رسوِلُ الله صلى الله عليه وسلم، لم يَدله هاشمٌ إلا مرَّة واحدة، ولا عبدُ المطلب إلاَ مرة واحدة. وزعمت أنّك أوسطُ بني هاشم نَسَباً وأكرمُهم أباً وأمّاً، وأنك لم تَلِدْك العَجم، ولمِ تُعْرِق فيك أمَّهاتُ الأولاد، فقد رأيتُك فَخرتَ على بني هاشم طُرًّا، فانظُر أين أنت ويحك من الله غداً! فإنك قد تعدّيت طَوْرك، وفَخرت على مَن هو خيرٌ منك نفساً وأبا وأوّلاً وآخِراً: فَخرتَ على إبراهيم ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل خيار ولدِ أبيك خاصة وأهلُ الفَضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما وُلد منكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من عليّ بن الحُسين، وهو لأم ولد، وهو خَيرٌ من جَدِّك حَسن بن حسن. وما كان فيكم بعدَه مثلُ ابنه محمد بن عليّ، وجدته أم ولد، وهو خيرٌ من أبيك، ولا مثلُ ابنه جَعفر، وهو خيرٌ منك، وجدّته أم ولد. وأما قولُك: إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول: " ما كانَ محمداً أبَا أحَدِ مِن رِجالِكم ولكنْ رسولُ الله وخاتَم النبيّين " ولكنكم بنو ابنتِه وهي امرأة لا تُحرز ميراثَاً، ولا تَرث الوَلاء، ولا يَحل لها أن تَؤُم، فكيف توَرت بها إمامة، ولقد ظَلمها أبوك بكُل وجه، فأَخرجها نهاراً مرَّضها سِرّاً، ودَفنها ليلاً. فأبي الناس إلا تقديم الشيخين وتفضيلَهما.
ولقد كانت السُّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدَّ أبا الأم والخال والخالةَ لا يرثون.

وأما ما فَخرتَ به من عليِّ وسابقته. فقد حضرتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ، فأمر غيرَه بالصلاة. ثم أخذ الناسُ رجلاً بعد رجل فما أخذه، وكان في الستّة من أصحاب الشُّورى، فتركوه كُلهم: رفضه عبدُ الرحمن بن عوف، وقاتله طَلحة والزبير، وأبى سعدٌ بيعتَه وأغلق بابَه دونه، وبايع معاويةَ بعده. ثم طلبها بكلِّ وجه فقاتل عليها، ثم حَكّم الحَكَمين ورضي بهما وأعطاهما عهدَ الله وميثاقَه، فاجْتمعا على خَلْعه واخْتلفا في مُعاوية. ثم قال جدُّكَ الحسن فباعها بِخرَق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعتَه بيد مُعاوية، ودَفع الأموالَ إلى غير أهلها، وأخذَ مالاً من غير ولائه. فإن كان لكم فيها حقّ فقد بِعْتموه وأَخذتُم ثمنَه. ثم خرج عمُّك الحُسيَن على ابن مَرْجانة، فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه وأتوا برأْسِه إليه. ثم خرجتُم على بني أُمية فقتّلوكم وصَلّبكم على جُذوع النخل وأحرقوكم بالنِّيرانِ ونَفوكم من البُلدان، حتى قُتل يحيى بن زيد بأرض خُراسان، وقَتلوا رجالَكم وأسروا الصِّبْية والنِّساء وحَملوهم كالسَّبي المجلوب إلى الشام. حتى خرجنا عليهم فَطلبنا بثأرِكم، وأدْركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضَهم وديارَهم وأَموالَهم، وأردنا إشراككم في مُلكنا، فأبيتم إلا الخروجَ علينا. وظننتَ ما رأيتَ من ذكرنا أباكَ وتَفصيلنا إياه أنّا نُقدمه على العبَّاس وحمزة وجَعفر، وليس كما ظننْتَ ولكنّ هؤلاء سالمون مُسلّم منهم، مُجتمع بالفضل عليهم.
وابتُلى بالحرب أبوكَ، فكانت بنو أمية تَلعنه على المنابر كما تَلعن أهلَ الكفر في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكرنا فَضلة وعنَّفناهم وظَلِّمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أنَّ المكْرمة في الجاهلية سقايةُ الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعبَّاس من بين إخوته، وقد نازعَنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم نَزل نَليها في الجاهليّة والإسلام. فقد علمتَ أنه لم يَبْق أحد مِن بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غيرَ العبَّاس وحدَه، فكان وارثَه من بين إخوته. ثم طلب هذا الأمرَ غيرُ واحد من بني هاشم فلم يَنله إلا ولدُه، فالسقاية سقايتُنا، وميراث النبيِّ صلى الله عليه وسلم ميراثُنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فَضل ولا شَرف في الجاهليَّة والإسلام إلاَ والعبَّاس وارثه ومُورِّثه، والسلام.
فلما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحَسن بالمدينة بايعه أهلُ المدينة وأهل مكّة.
وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان، فاجتمع الناسُ إليه، فنَهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلّب، فسلّم إليه البَصرة بغير قتال. وأَرسل إبراهيمُ بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيْشاً، فأخذها بعد قتال شديد، وأرسلِ جيشاً إلى واسط فأَخذها. ثم إن أبا جَعفر المَنصور جَهَّز إليهم عيسى بنَ موسى، فَخرج إلى المدينة، فلقيه محمدُ بن عبد الله، فانهزم بأَصحابه وقُتل. ثم مضى عيسى بنُ موسى إلى البصرة فلقى إبراهيمَ بن الحسن، فقتله وبَعث برأْسه إلى أبي جعفر.
وقال رجل من أَهل مكّة: كُنَّا جلوساً مع عمرو بن عُبيد بالمَسجد، فأتناه رجلٌ بكتاب المَنصور على لسان مُحمد بن عبد الله بن الحَسن يَدعوه إلى بيعته، فقرَأه ثم وَضعه. فقال له الرسول: الجواب. فقال: ليس له جواب، قُل لصاحبك يَدعْنا نَجلس في الظلِّ ونَشرب من هذا الماء البارد حتى تأتيَنا آجالُنا.
مروان بن شجاع، مولى بني أميَّة، قال: كنتُ مع إسماعيل بن عليّ بفارس أؤدب ولَده، فلما لَقِيته المُبيِّضة وظفر بهم أتى منهم بأربعمائة أسير، فقال له أخوه عبدُ الصمد، وكان على شُرطته: أضرب أعناقهم. فقال ما تقول يا مروان؟ قلت: أصلح الله الأمير، إنه أوَل مَن سَنِّ قِتال أهل القِبْلة عليُ بن أبي طالب، فَرأى أن لا يُقتل أسير، ولا يُجهز على جريح، ولا يُتبع مولى. قال: خُذ بيعتَهم وخلّ سبيلَهم.
قيل لمحمد بن علي بن الحسين: ما أقَل ولدَ أبيك؟ قال: إني لأعجبُ كيف وُلدُت له! قيل له وكيف ذلك؟ قال: إنه كان يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يَتفرَّغ للنساء؟

ولما وَجَّه المَنصورُ عيسى بنَ موسى في مُحاربة بني عبد الله بن الحسن، قال: يا أبا موسى إذا صرتَ إلى المدينة فادْع محمدَ بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدُخول في الجماعة، فإن أجابك فاقْبل منه، وإن هَرب منك فلا تَتبعه، وإن أبي إلا الحربَ فناجزْه واسْتعن بالله عليه، فإذا ظفرتَ به فلا تُخيفنَّ أهلَ المدينة وعُمَهم بالعفو، فإنهم الأصلُ والعشيرة وذُرَية المهاجرين والأنصار، وجيران قَبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه وصيَّتي إياكَ، لا كما أوصىَ به يزيدُ بن فعاوية مُسلمَ بن أبي عُقبة حين وجه إلى المدينة وأمرَه أن يَقتل مَن ظَهر له إلى ثنية الوَداع، وأن يُبيحها ثلاثة أيام، ففَعل. فلما بلغ يزيدَ ما فعله تمثّل بقول ابن الزَبَعْري في يوم أحد حيث قال:
ليت أشياخِي ببَدرِ شَهِدُوا ... جَزَع الخَزْرج مِن وَقْع الأسَلْ
ثم اكتُب إلى أهل مكة بالعَفو عنهم والصفح، فإنهم آلُ الله وجيرانُه، وسُكّان حَرمه وأمْنه، ومَنبت القوم والعشيرة، وعظّم البيتَ والحَرم، لا تُلحِد فيه بظُلم، فإنه حَرم الله الذي بَعث منه نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم، وشرّف به آباءنا لتَشريف الله إيانا. فهذه وصيتي لا كما أوصى به الذي وجه الحجاجَ إلى مكّة فأمره أن يَضع المَجانيق على الكَعبة وأن يُلحد في الحرم بظُلم، ففعل ذلك. فلما بلغه الخبرُ تمثّل بقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يَجْهلنْ أحدٌ علينا ... فنجهَلَ فوِقَ جَهلاً لجاهلينا
لنا الدُّنيا ومن أضحى عليها ... ونَبْطِش حين نَبْطش قادِرينا
الرياشي قال: قال عيسى بنُ موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة حَرْب بني عبد الله بن الحسن، جعل يُوصيني ويكثر. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إلى كم توصيني؟
إنِّي أنا السيفُ الحُسام الهِنْدي ... أكلتُ جَفني وفَريت غِمْدي
فكُل ما تطلب منيعندي
وقال مُعاوية يومًا لجُلسائه: مَن أكرم الناس أباً وأمًا وجداً وجَدةً وعماً وعمَةً وخالاً وخالة؟ فقالوا: أميرُ المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن عليّ وقال: هذا، أبوه علي بن أبي طالب، وأمُّه فاطمة بنت محمد، وجدّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، و جدَته خديجة، وعمّه جعفر، وعمَّته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم بن محمد، وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم الرَّياشيّ عن الأصمعي قال: لما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فبايعه أهلُ المدينة وأهلُ مكّة، وخرج إبراهيمُ أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط، قال سُديف بن مَيمون في ذلك:
إنَ الحَمامة يوم الشَعب من حَضَن ... هاجت فؤادَ مُحبّ دائِم الحَزَنِ
إنا لنأمُل أن ترتد ألفتنا ... بعد التباعد والشَّحْناء والإحَن
وتَنْقضي دولةٌ أحكامُ قادتها ... فيها كأحكام قَوْم عابدِي وَثَنِ
فانهَض ببَيعتكم نَنهض بطاعتنا ... إنَّ الخلافةَ فيكم يا بَنىِ حَسن
لا عَزّركنُ نِزارٍ عند نائبة ... إنْ أسلموك ولا رُكنٌ لذي يَمنِ
ألست أكرمَهم يوماً إذا انتسبوا ... عُوداً وأنقاهم ثوباً من الدَرِن
وأعظمَ الناس عند الله منزلةً ... وأبعدَ الناس من عَجز ومن أفن
فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استُطير بها. فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سُديفاً فيدفنَه حياً، ففعل.
قال الرياشي: فذكر هذه الأبيات لأبي جعفر، شيخ من أهل بغداد. قال: هذا باطل، الأبيات لعبد الله بن مصعب، وإنما كان سببُ قتل سُديف أنه قال أبياتَاً مُبهمة، وكتب بها إلى أبي جعفر، وهي هذه:
أسرفت في قَتل الرعيّة ظالماً ... فاكفف يدَيك أضلَّها مَهديُها
فلتأتينّ رايةٌ حسنيه ... جرارة يقتادها حسنيها

فالتفت أبو جعفر، فقال لخازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكِّراً، حتى إذا لم يبق إلا أن تَضع رجلَك في الغَرز اثتني، ففعل. فقال له: إذا أتيت المدينة فادخل مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم فدَع سارية وثانية، فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدَم يُكثر التلفت، طويل كبير، فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب، واذكر شدّة الزمان عليهم ثلاثة أيام، ثم قُل له في الرابع: مَن يقول هذه الأبيات:
أسرفتَ في قتل الرعية ظالما
قال: ففعل. فقال له الشيخ: إن شئت نبّأتك مَن أَنت؟ أنت خازم ابن خُزيمة، بعثك إليَّ أميرُ المؤمنين لتعرف مَن قائل هذا الشعر، فقُل له: جُعلت فداك، والله ما قلتُه ولا قاله إلا سُديف بن ميمون، فإني أنا القائل وقد دَعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد اللّه:
دعَوني وقد شالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نارُ الحُباحب
أبا للّيث تغترُّون يَحْمي عرينَه ... وتَلْقون جهلاً أًسدَه بالثعاَلب
فلا نَفعتْني السنُّ إن لم يَؤُزّكم ... ولا أَحكَمْتني صادقاتُ التجارب
قال: وإذا الشيج إبراهيمُ بن هَرْمة. قال: فقدمتُ على المنصور فأَخبرته الخبر. فكتب إلى عبد الصمد بن عليّ، وكان سُديف في حَبسه، فأَخذه فدَفنه حياً.
قال الرياشيّ سمعتُ محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابنِ أبي حفصة: ما أغراك ببني عليّ؟ قال: ما أحدٌ أحبَّ إليّ منهم، ولكني لم أجد شيئاً أنفَع عند القوم منه. ولما دخل زيدُ بن عليّ على هشام بن عبد الملك قال له: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة. قال له: أمّا قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيبَ إلا اللّه، وأما قولك إني ابن أمة. فهذا إسماعيل ابنُ أمة، أخرج الله من صُلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وإسحاقُ ابن حُرّة، أخرج الله من صُلبه القِردة والخنازير وعَبدة الطاغوت، وخَرج من عنده، فقال: ما أحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذلّ، فقال له الحاجب: لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد. وقال زيد بن عليّ عند خُروجه من عند هشام بن عبد الملك:
شرَده الخوفُ وأزْرى به ... كذاك مَن يَكْره حَرّ الجلادْ
مُحْتفَى الرِّجلين يَشكو الوَجَى ... تَقرعه أطرافُ مَرْو حِدَاد
قد كان في الموت له راحةٌ ... والموتُ حَتْم في رِقاب العِباد
ثم خَرج بِخُراسان، فقُتل وصُلب. فيه يقول سُديف لأبي العبَّاس يُغريه ببني أمية حيث يقول:
واذكُروا مصرعَ الحُسين وزيداً ... وقتيلاً بجانب المِهراس
يريد إبراهيم الإمام، أخا أبي العبّاس.
باب من فضائل
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
عوانةُ بن الحَكم قال: حجّ محمدُ بن هشام، ونزلتْ رفقة، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه الناس، وهو يأمر وينهى، فقال محمدُ بن هشام لمن حولَه: تجدون الشيخَ عراقياً فاسقاً. فقال له بعضُ أصحابه: نَعم، وكُوفيا مُنافقاً. فقال محمد: عليّ به، فأتي بالشيخ. فقال له: أعراقيّ أنت؟ فقال له: نعم، عراقيّ. قال: وكوفيّ؟ قال: وكُوفي. قال، وتُرابيّ؟ قال: وترابيّ، من التراب خُلقت وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوي أبا تُراب؟ قال: وَمن أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابنَ عمّ رسوله الله صلى الله عليه وسلم و زَوج فاطمةَ ابنتِه، وأبا الحسن والحُسين؟ قال: نعم. قال: فما قولك فيه؟ قال: قد رأيتُ من يقول خيراً ويَحمد، ورأيت من يقول شرّاً ويذُم. قال: فأيهما أفضلُ عندك، أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن علياً جاء بوزن الجبال حسنات ما نَفعني، ولو أنه جاء بوزنها سيّئات ما ضرّني، وعثمان مثلُ ذلك. قال: فاشتم أبا تراب. قال: أو ما تَرضى مني بما رَضي به مَن هو خير منك ممن هو خيرُ منّي هو شرّ من عليّ؟ قال: وما ذاك؟ قال رضي اللهّ، وهو خير منك، مِن عيسى، وهو خير منّىِ، في النصارى، وهم شرّ من عليّ إذ قال: " إن تُعذَبهم فإنهم عبادُك وإن تَغْفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم " .

الرّياشيّ قال: أنتقص ابنٌ لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً فقال له أبوه: يا بُني: إنه والله ما بَنت الدنيا شيئاً إلا هَدمه الدِّين، وما بَنى الدينُ شيئاً فهَدمته الدنيا. أما ترى عليا وما يُظهر بعضُ الناس من بُغضه ولَعنه على المنابر، فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يَندبون به موتاهم من المَدح بين الناس، فكأنما يكشفون عن الجيَف.
قدم الوليدُ مكةَ، فجعل يطوفَ البيتَ، والفضلُ بن العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب يستقي من زَمزم وهو يقول:
يأيها السائلُ عن علي ... تسأل عن بَدرٍ لنا بَدْرِيّ
مُردَدٍ في المجد أبطحي ... سائلةٍ غُرّته مَضيّ
فلم يُنكر عليه أحد.
العُتبي قال: قيل يوماً لمَسلمة بن هلال العَبديّ: خَطب جعفر بن سليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسمع مثلُها قط، وما دَرينا أوجُهه كان أحسنَ أن كلامُه! قال: أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون، وبلسان النبوّة ينطقون.
وكتب عَوَّام، صاحب أبي نُواس، إلى بعض عُمّال ديار رَبيعة:
بحقّ النبي بحقِّ الوصيّ ... بحق الحُسين بحق الحَسَنْ
بحق التي ظلِمت حقَها ... ووالدُها خيرُ مَيّتٍ دُفِن
ترفَّق بأرزاقنا في الخِراج ... بتَرفيهها وبحَطّ المُؤن
قال: فاسقط عنه الخِراج طولَ ولايته.
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضيِ القضاة، فقال: إنّ أميرَ المؤمنين أمرني أن احضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه يَفْقَه ما يُاقل له ويُحسن الجواب، فسمُّوا من تَظنّونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين. فسمَّينا له عِدة، وذكر هو عِدة، حتى تمَّ العددُ الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبُكور في السَّحر، وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك. فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه، حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف. فلما نَظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين يَنتظرك، فأدخلنا. فأُمرنا بالصلاة، فأخذنا فيها، فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا، فدَخلنا. فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطّويلة وعمامته. فوقفنا وسلّمنا، فردّ السلام، وأمرنا بالجلوس. فلما استقرّ بنا المجلسُ تحدّر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك، وأما الخُفّ فما مِن خَلْعه علة، من قد عرفها منكم فقد عَرفها، ومن لم يَعْرِفها فسأعرّفه بها، ومدّ رجلَه. ثم قال انزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم. قال: فأمسكنا. فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين. فتعجّبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا. فلما استقرّ بنا المجلس قال: إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة، فمن كان به شيء من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه، لم يَفقه ما يقول: فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك، وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا أبا محمد، قل ولْيقل القومُ من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة، وهو مُطرق لا يتكلم. حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلّة. ثم لم يزل يَرد على كل واحد منّا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا. ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه، ودينه الذي يَدين الله به. قلنا: فليَفعل أمير المؤمنين وفقّه اللّه. فقال: إن أمير المؤمنين يَدين الله على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بالخلافة. قال إسحاق: قلت: يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة. فقال: يا إسحاق، اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سَل. قلت: من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول الله وأحقُّهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة. قال: صدقت. قال: فأخبرني عمَّن فضل صاحبَه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول اللّه، أَيَلحق به؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم، فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة. قلت: أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضولُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاضلَ أبداً. قال: يا إسحاق: فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك من فضائل عليّ ابن أبي طالب. فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليّ فقل إنه أفضل منه، لا واللّه، ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه. لا واللّه، ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه، لا واللّه، ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه. ثم قال: يا إسحاق، أي

الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه؟ قلت: الإخلاص بالشهادة. كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه؟ قلت: الإخلاص بالشهادة.
قال: أليس السَّبقَّ إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: أقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: " والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون " إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام، فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليّا أسلم وهو حَديث السنّ لا يجوز عليه الحُكم، وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من الله؟ قال: فأطرقت. فقال لي: يا إسحاق، لا تقل إلهاماً فتُقدّمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى. قلت: أجل، بل دعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. قال: يا إسحاق، فهل يخلو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تَكلَّف ذلك من نفسه؟ قال: فأطرقت: فقال: يا إسحاق، لا تَنسب رسول الله إلى التكلُّف، فإنّ الله يقول: " وما أنا من المُتَكلفِّين " . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر اللّه. قال: فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم؟ قلت أعوذ بالله! فقال: أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إنّ علياً أسلم صبيَاً لا يجوز عليه الحُكم، وقد كُلِّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حُكم الرسول صلى الله عليه وسلم أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى الله عزّ وجلَّ؟ قلت أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليّاً على هذا الخلق أبانَه بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أنّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته، لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه؟ قلت: لا أعلم، ولا أدري فَعل أو لم يفعل. قال يا إسحاق، رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه؟ قلتُ: لا. قال: فدَع ما قد وضعه الله عنّا وعنك. ثم قال: أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل اللهّ. قالت صدقت، فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجد لعليّ في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال؟ في أي الأوقات شئتَ؟ قلت: بدر. قال: لا أريد غيرها، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر، أخبرني كم قَتْلى بدر؟ قلت: نيّف وستون رجلاً من المشركين. قال: فكم قَتل عليٌ وحدَه؟ قلت: لا أدري. قال: ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين، والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين، كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَريشه، قال: يَصنع ماذا؟ قلت: يدبِّر. قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريِكاً أم افتقارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبِّر أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون معه شريكاً، أو أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم افتقَار إلى رأيه. قال: فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك؟ أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضلَ ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كل الجيش كان مجاهداً. قال صدقتَ، كل مجاهد، ولكنَ الضارب بالسيف المحاميَ عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الجالس أفضلُ من الجالس، أما قرأتَ في كتاب الله: " لا يَسْتوي القاعِدون من المُؤمِنين غَيْرُ أولى الضَرَر والمجاهدُون في سبيل الله بأمْوالِهم وأنُفسِهم فَضّل الله المُجاهدين بأموالهم وبأنْفُسهم علىِ القاعِدين درجَةَ وكلاَّ وَعَدَ الله الحُسْنَى. وفضَل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " .

قلت: وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال: فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر. قلت: أجل. قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أقرأ عليّ: " هَلْ أتىَ عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يَكُن شَيْئَاً مَذْكوراً " . فقرأت منها حتى بلغت: " يَشربون من كأسٍ كانَ مِزاجها كافوراً " إلى قوله: " ويُطْعِمون الطّعَام على حبه مِسْكيناً ويَتيماً وأسِيراً " . قال: على رِسْلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلتُ: في علي. قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إنما نُطْعِمك لوجه اللّه؟ قلت: أجل. قال: وهل سمعتَ الله وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً؟ قلت: لا. قال: صدقت؟ لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أن رجلاً قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا؟ ولا أدري إن كان رسولُ الله قاله أم لم يقُله، أكان عندك كافراً؟ قلت: أعوذ باللهّ. قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السُّوِرة من كتاب الله أم لا، أكان كافراً؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقاً. يا إسحاقَ، أتروي الحديث؟ قلت: نعمِ. قال؟ فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدَثني به. قال: حدَثته الحديث. فقال: يا إسحاق، إني كنتُ أكلمك وأنا أظنّك غيرَ معاند للحقِّ، فأما الآن فقد بان لي عنادُك، إنك تُوفق أنَّ هذا الحديث صحيح؟ قلت: نعم، رواهِ من لا يُمكنني ردُه. قال: أفرأيتَ أنَ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليّ، لا يخلو من إحدى ثلاثة: مِن أن تكون دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنده مَردودة عليه؟ أو أن يقول: إن الله عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه، أو أن يقول: إن الله عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول. فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول؟ فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق، لا تقل منها شيئاً، فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك، وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله. قلت لا أعلم، وإنَّ لأبي بكَر فضلاً. قال: أجل، لولا إنّ له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه، فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة؟ قلت: قول الله عزِّ وجل: " ثاني اثنين إذْ هُما في الْغَار إذْ يقُولُ لصاحبِه لا تَحْزَن إنَّ الله معَنا " ، فنَسبه إلى صحبته. قال: يا إِسحاق، أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك، إني وجدتُ الله تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً، وهو قوله: " فقال له صاحبُه وهو يُحاوِرُه أَكفَرْتَ بالّذي خَلَقَك مِن تًراب ثم من نُطْفة ثم سَوَّاك رَجُلاً. لكن هو الله رَبي ولا أشرْك برَبِّي أحَداً " . قلت: إن ذلك صاحب كان كافراً، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيّه مُؤمناً، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث، قلت: يا أمير المؤمنين، إن قَدْر الآية عظيم، إن الله يقول: " ثاني اثنين إذ هُما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تَحْزَن، إنَّ الله مَعَنا " . قال: يا إسحاق، تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الاستقصاءِ عليك، أَخبرني عن حُزن أبي بكر، أكان رِضى أم سُخطاً؟ قلت: إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه، وغمًا أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جَوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضىَ أم سُخط؟ قلت: بل رضىَ لله. قال: فكأن الله جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضىَ الله عز وجل وعن طاعته. قلت: أعوذ باللّه. قال: أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضى لله؟ قُلت: بلى. قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: " لا تحزن " نهياً له عن الحزن. قلت: أعوذ باللهّ. قال: يا إسحاق، إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ الله يردّك إلى الحق ويَعْدِل بك عن الباطل لكَثرة ما تَستعيذ به. وحدِّثني عن قول اللّه: " فأَنزَلَ الله سكينتَه عليه " ومَن عنى بذلك: رسولَ الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول اللّه. قال: صدقْت. قال: فحدِّثني عن قول الله عزِّ وجل: " ويَوم حُنَين إذ أَعجَبَتكم كَثرتُكم " إلى قوله: " ثم أنزلَ الله سَكِينَتَه على رسولِه وعلى المُؤمنين "

أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه، والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حَضره من بني هاشم.علم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه، والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حَضره من بني هاشم.
قال: فمن أفضلُ: من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم مَن انهزم عنه ولم يَره الله موضعاً لينزلَها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينةُ؟ قال: يا إسحاق، من أفضل: مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه، حتىِ تمَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فأمره رسولُ للّه بذلك. فبكى عليّ رضي الله عنه. فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفاً عليك، أَفتَسْلم يا رسول الله قال: نعم. قال: سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه. ثم أتى مضجَعه واضطجع، وتسجَّى بثَوبه. وجاء المشركون من قُريش فخفّوا به، لا يشكّون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه، وعليّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه، ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع، كما جَزع صاحبُه في الغار، ولم يَزل عليُّ صابراً مُحتسباً. فبعث الله ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح فلما أصبحِ قام، فنظر القومُ إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما عِلْمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا فلم يَزل عليّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه الله إليه. يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروِه. ففعلتُ. قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث، هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جَرى بينه وبين عليّ، وأنكر ولاء عليّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: من كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال مَن ولاه، وعاد من عاداه. وفي أي موضع قال هذا؟ أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي أيها الناس، فاعلموا ذلك أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون؟

فقلتُ: اللهم نعم. قال: يا إسحاق، أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحْكم؟ لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جَلّ ذكره قال في كتابه: " اتخَذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دُونِ الله " ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم. يا إسحاق، أتروي حديث: " أنت منّي بمَنزلة هارون من موسى " ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَحه وجَحده. قال: فمن أوثق عندك: مَن سمعتَ منه فصحّحه، أو مَن جحده؟ قلت: مَن صحَحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت: أعوذ باللهّ. قال: فقال قولاً لا معنى له، فلا يُوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله. قال: أفما تعلم أنّ هارون كان أخَاً موسى لأبيه وأمه؟ قلت: بلى. قال: فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه؟ قلت: لا. قال: أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ؟ قلت: بلى. قال: فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون، فما معنى قوله: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " ؟ قلت له: إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالاً له. قال: فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له؟ قال: فأطرقتُ. قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب اللّه بينّ. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عزَ وجلّ حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون: " اخلُفْني في قَوْمي وأصلِح ولا تَتَبع سَبيلَ المُفْسدين " . قلت: يا أمير المؤمنين، إِن موسى خَلّفَ هارون في قومه وهو حيّ، ومَضى إلى ربه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته. قال: كلا ليس كما قلت. اخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون، هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إِلى غزاته، هل خلّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان؟ فأنى يكون مثلَ ذلك؟ وله عندي تأويلِ آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه، ولا أعلم أحداً أحتج به، وأرجو أن يكون توفيقاً من الله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله: " واجْعَلِ لي وزيراً منِ أهلي هارون أخي أشدُد به أزرِي وأشركه في أمري كي نُسبّحك كثيراً ونَذْكُرك كثيراً إنك كنتَ بنا بصيراً " : فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى، وزيري منِ أهلي، وأخي أشد به أزري، وأشركه في أمري، كي نَسبح الله كثيراً، ونذكره كثيراً، فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له. قال: فطال المجلسُ وارتفع النهار. فقال يحيى ابن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد الله به بالخير، وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه. قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه اللّه. فقال: و الله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقبلوا القول من الناس " ما كنت لأقبل منكم القول. اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي، اللهم إني أدينك بالتقرّب إليك بحب عليّ وولايته.
وكتب المأمون إلى عبد الجبّار بن سعد المُساحقيّ عامله على المدينة: أن أخطُب الناس وأدعهم إلى بيعة الرِّضا علي بن موسى. فقام خطيباً فقال: يأيها الناس، هذا الأمر الذي كُنتم فيه تَرغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم تَرجون، هذا عليٌّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب:
ستةُ آباءِ همُ ما هُم ... مِن خَير مَن يشرب صَوْبَ الغَمام

وقال المأمون لعليّ بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خَلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته مَن هو أقربُ إليه من عليّ، أو من هو في قُعْدُده؟ وإن ذَهبتَ إِلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر بعدها للحسن والحُسين، وقد ابتزهما عليٌ حَقهما وهما حيّان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه. فلم يجد عليَّ بن موسى له جواباً.
باب من أخبار الدولة العباسية
رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظّهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العبّاس لم يحضُر؟ قالوا: ولد له مولود. فلما صلى عليّ الظهر، قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه، فقال له: شكرتَ الواهب وبُورك لك في الموهوب، فما سمّيتَه؟ قال: لا يجوز لي أن أُسميه حتى تُسميه أنت. فأمر به فأًخرج إليه فأخذه، فحنّكه ودَعا له وردَّه، وقال: خُذه إليك أبا الأملاك، وقد سميّتُه علياً وكَنّيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاويةُ قال لابن عباس: لك اسمُه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه.
وكان علي سيِّداً شريفاً عابداً زاهداً، وكان يصلّي في كُل يوم ألف ركعة، وضرُب مرَّتين، كلتاهما، ضَربه الوليد، فإحداهما، في تزوجيه لُبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك بن مروان فعضَّ تُفاحة ورَمى بها إليها، وكان أبخر، فدعت بسكّين. فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط عنها الأذى، فطلَّقها، فتزوَّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس، فضَربه الوليد، وقال: إنما تتزوج أمهاتِ أولاد الخُلفاء لتضع منهم. لأنّ مروان بن الحَكم إنما تزوَّج أُم خالد بن يزيد ليَضع منه. فقال عليّ بنُ عبد الله بن عباس: إنما أرادتْ الخُروج من هذه البلدة وأنا ابنُ عمها، فتزوجتُها لأكون لها مَحرماً. وأما ضربهُ إياه في المرة الثانية، فإن محمد بن يزيد قال: حدَّثني مَن رآه مَضروباً يُطاف به على بَعير ووجهُه مما يلي ذنَب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذّاب. قال: فأتيتُه فقلتُ: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكَذِب؟ قال: بلغهم أني أقول إن هذا الأمرَ سيكون في ولدي، والله ليكوننَّ فيهم حتى تملكَهم عبيدُهم الصغار العُيون، العِراض الوجوه، الذين كأنّ وجوههم المجانّ المُطرقة. وفي حديث آخر: إن عليّ بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه: أبو العباس وأبو جعفر، فشكا إليه ديناً لزمه، فقال له: كم دَينُك؟ قال: ثلاثون ألفاً، فأمر له بقضائه، فشكره عليه، وقال: وصلتَ رحماً، وأنا أريد أن تستوصي بابنيَّ هذين خيراً. قال: نعم. فلما تولّى، قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخَ قد أهْتَر وأَسنّ وخُولط، فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه عليّ بن عبد الله بن العباس، فقال: والله ليكوننِّ ذلك وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه.
قال محمد بن يَزيد: وحدِّثني جعفرُ بنُ عيسى بن جعفر الهاشميّ قال: حضَر عليُّ بن عبد الله مجلسَ عبد الملك بن مروان، وكان مُكرماً له، وقد أهديت له من خُراسان جارية وفَصّ خاتمَ وسيف. فقال: يا أبا محمد، إنّ حاضر الهدية شريكٌ فيها، فاختر من الثلاثة واحداً. فاختار الجارية، وكانت تسمَّى سُعدى. وهي من سَبي الصغْد من رهط عُجيف بن عَنْبسة، فأولدها سليمان بنَ عليّ، وصالح بن عليّ. وذكر جعفرُ بن عيسى أنه لما أولدها سليمان، أجتنبت فراشه، فمرض سليمانُ من جُدريّ خَرج عليه. فانصرف عليّ من مُصلاَّه فإذا بها على فراشه، فقال: مرحباً بك يا أم سليمان. فوقع عليها فأولدها صالحاً. فاجتنبت فراشَه، فسألها عن ذلك. فقالت: خِفتُ أن يموت سليمان في مَرضه، فينقطع النسبُ بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن إذ ولد تُ صالحاً فالبحرّي إن ذهب أحدهما بقي الآخر، وليس مِثلي وطيئة الرجال.

وزعم جعفرٌ أنه كانت في سليمان رُتّة وفي صالح مثلُها، وأنها موجودة في آل سليمان وصالح. وكان عليّ يقول: أكره أنْ أوصي إلى محمد ولدي، وكان سيدَ ولده وكبيرَهم، فأشينه بالوصيّة، فأَوصى إلى سليمان. فلما دُفن عليّ جاء محمد إلى سُعدى ليلاً، ولْكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما اصبح غداً عليه سليمان بالوصية، فقال: فقال: أخرجي لي وصيّة أبي. قالت: إن أباك أجلُّ من أن تُخرَج وصيّته ليلاً، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غداً عليه سليمان بالوصية، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصيّة أبيك. فقال: جزاك الله من ابنٍ وأخ خيراً، ما كنت لأثَرِّب على أبي بعد موته كما لم أثَرِّب عليه في حياته.

العُتبي عن أبيه عن جدّه قال: لما اشتكى معاويةُ شكاتَه التي هلك فيها أرسل إلى ناس من جلّة بني أمية، ولم يحضرها سفياني غيري وغير عثمان بن محمد، فقال: يا معشر بني أمية، إني لما خِفْتُ أن يسبقكم الموتُ إليَّ سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قَدَراً، ولكن لأبلغِ عُذْراً. إن الذي اخلِّف لكم من دنياي أمرٌ ستُشاركون فيه وتُغْلبون عليه، والذي أخَلف لكم من رأى أمر مقصور لكم نَفْعه إن فعلتموه، مَخوف عليكم ضرَره إن ضَيّعتموه. إن قريشاً شاركتكم في أنسابكم، وانفردتُم دونها بأفعالكم، فقدَّمكم ما تقدمتُم له، إذ أخَّر غيرَكم ما تأخروا عنه، ولقد جُهل بي فَحَلمْت، ونُقر لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم. إنّ دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول. فإذا كان ذلك كذلك، كان سببُه اختلافَكم فيما بينكم، واجتماعَ المختلفين عليكم، فيُدْبر الأمرُ بضد ما اقبل به. فلستُ أذكر جسيماً يُركب منكم، ولا قبيحاً يُنتهك فيكم، إلا والذي أمسك عن ذكره أكثُرُ وأعظم، ولا مُعوّل عليه عند ذلك أفضلُ من الصبر واحتساب الأجر. سيمادكم القومُ دولتَهم امتداد العِنانين في عُنق الجواد، حتى إذا بلغ الله بالإمر مَداه، وجاء الوقتُ المبلول بريق النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع الحِلْقة المطبوعة على مَلالة الشيء المَحبوب، كانت الدولةُ كالإناء المُكْفأ. فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتَّقه غيركم فيكم، فجعل العاقبةَ لكم، والعاقبةُ للمتقين. قال عمرو بن عُتبة: فدخلتُ عليه يوماً آخر فقال: يا عمرو، أوعيتَ كلامي؟ قلت: وعيتُ. قال: أعِد عليّ كلامي فقد كلمتُكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك. قال شبيبُ بن شَيبة الأهتميّ: حججت عامَ هلك هشامُ وولي الوليدُ بن يزيد، وذلك سنة خمس وعشرين ومائة، فبينما أنا مُريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبواب المسجد فَتى أسمرُ رقيقُ السمرة، موفر اللمة. خفيف اللحية، رَحب الجبهة، أقنى بينّ القَنَى، أعينُ كأنّ عينيه لسانان يَنطقان، يخلط أبهة الأملاك بزيِّ النُّساك، تَقبله القلوب، وتَتبعه العيون، يُعرف الشَرف في تواضعه، والعِتْق في صُورته، واللُّب في مِشيته. فما ملكتُ نفسي أن نهضتُ في أثره سائلاً عن خبره، وسَبقنيِ فتحرَّم بالطواف، فلما سبَّع قصد المقام فركع، وأنا أرعاه ببصري. ثم نَهض مُنصرِفاً، فكأن عيناً أصابته، فكبا كَبوة دَميت لها إصْبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوتُ منه متوجّعاً لما ناله مُتّصلاً به، أمسح رجله من عَفر التراب، فلا يَمتنع عليَ، ثم شققتُ حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، وما يُنكر ذلك ولا يَدْفعه، ثم نهض متوكئاً عليّ. وانقدتُ له أماشيه، حتى إذا أتى داراً بأعلى مكّة، ابتدره رجلان تكاد صدورهما تَنفرج من هَيبته، ففتحا له الباب. فدخل، واجتذبني فدخلتُ بدخوله، ثم خلّى يدي وأقبل على القِبْلة، فصلى ركعتين أوجز فيهما في تَمام، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم يَخْف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلُك بي، فمن تكون يرحمك اللهّ؟ قلت: شَبيب بن شيبة التميميّ. قال: الأهتميّ؟ قلتُ: نعم. قال: فرحّب وقَرّب، ووصف قومي بابين بيان، وأفصح لسان. فقلت له: أنا أجلك، أصلحك اللّه، عن المسألة، وأحب المعرفة. فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبدُ الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما أشبَهك بنَسبك، وأدلَك على مَنْصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبّتك ما لا أبلغه بوَصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا بني تميم، فإنّا قوم يُسعد الله بحُبنا من احبّه، ويُشقي ببُغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمانُ إلى قلب أحدكم حتى يُحبَّ الله ويُحب رسوله، ومهما ضَعُفنا عن جزائه قوِي الله على أدائه. فقلت له: أنت تُوصف بالقلم وأنا من حَمَلته، وأيامُ الموسم ضَيقة، وشُغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء احب أن أسأل عنها، أفتأذن لي فيها جُعلت فداك؟ قال: نحن من أكثر الناس مُستوحشون، وأرجو أن تكون للسرِّ موضعاً، وللأمانة واعياً، فإِن كنتَ كما رجوتُ فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والإيمان ما سكَن إليه، فتلا قولَ اللّه: " قُلْ أيّ شيءٍ أكْبرُ شهادةً قُل الله شهيد بَيْني وبَيْنكم " ثم قال: سَل عما بدا لك. قلت:

ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي، خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء، وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه، فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال، فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً، رحمةً منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك، فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها، تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها، فنسأل الله خيرَها، ونعوذ بالله من شرها، فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلباً بحقنا، فنُنصر ويُخذلون، كما نُصر بأولنا أولُهم، ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر، " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا، وإنما يَشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دَولتنا، ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا، فهم مواليهم، ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء، ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه، فتذهب النَّائرة، وتَخبو الفِتْنة، وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ؟ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو؟ قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر، وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد، وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم، ويَرُمّ به ما نَثْلم، ونستغفر الله مما لا نَعلم، وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك، ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال؟ ومع العدوّ التحرّز والإحتيال، والتذلّل والإغتيال؟ وربما أمَلَّ المُدِلّ، وأخلَّ المُسترسل، وتجانب المُتقرّب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا، وهي لوليّنا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدْح في الدين، أو هَتْك للمُلك، أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق؟ وأنصَح وإن باعدك النُّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه، فإنه مَحذول، ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه، فإِنه مَنصور، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصِلْ إذا قطعوك، ولا تَستخْفِ فيمقتوك، ولا تَنْقبض فيتحشَّموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضتُ لوداعه فودَّعته، ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً؟ قال: الله المقدِّر المُوقِّت، فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة، وعليه أخْلِفتْ، وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني، حتى عَرف منزلي، ثم أتاني بكُسوة من كُسوته، فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه، قال: وافترقنا.ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثَّقفي، خال الوليد. فتنفّس الصُّعداء، وقال: عن الصلاة خَلْفه تسألني أم كرهتَ أن يتأمَّر على آل الله مَن ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرضُ للّه تَعبّدَ به خلقَه، فأدَ ما فرَض الله تعالى عليك في كل وقت مع كُل أحد وعلى كل حال، فإن الذي نَدبك لحجّ بيته وحُضور جماعته وأعياده لم يُخبرك في كتابه بأنه لا يَقبل منك نُسكاً إلا مع أكمل المؤمنين إيماناً، رحمةً منه لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمْر عليك، فاسْمَح يُسمح لك. قال: ثم كرّرت في السؤال عليه فما احتجتُ أن أسأل عن أمر دين أحداً بعده. ثم قلت: يَزعم أهلُ العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شكِ فيها، تَطلع طُلوعَ الشمس وتَظهر ظهورَها، فنسأل الله خيرَها، ونعوذ بالله من شرها، فخِذ بحظّ لسانك ويدك منها إن أدركتَها. قلت: أو يتخلّف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قَوم يأبون إلا الوفاء لمن أصطنعهم، ونأبى إلا طلباً بحقنا، فنُنصر ويُخذلون، كما نُصر بأولنا أولُهم، ويُخذل بمُخالفتنا من خالف منهم. قال: فاسترجعتُ. فقال: سَهِّل عليك الأمر، " سُنة الله التي قد خَلَت من قبل ولن تَجد لسُنةِ الله تبديلاً " . وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صِلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم، وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبُكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال نحن قوم حُبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبُغِّض إلينا الغَدر وإن كان لنا، وإنما يَشد علينا منهم الأقل، فأما أنصار دَولتنا، ونُقباء شِيعتنا وأمراء جُيوشينا، فهم مواليهم، ومَوالي القوم من أنفسهم. فإذا وَضعت الحرب أوزارها صَفحنا بالمُحسن عن المسيء، ووَهبنا للرجل قومه ومَن اتصل بأسبابه، فتذهب النَّائرة، وتَخبو الفِتْنة، وتطمئنّ القلوب. قلت: ويقال: إنه يُبتلى بكم مَن أخلص لكم المَحبة. قال: قد رُوي أن البلاء أسرعُ إلى مُحبِّينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أُرد هذا. قال فمَهْ؟ قلت: تَعُقّون الولي وتحظون العدو؟ قال مَن يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يَسلم منا من الأعداء أقلّ وأَيسر، وإنما نحن بَشر وأكثرنا أذن، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، وربما استترت عنّا الأمور فنقع بما لا نُريد، وإن لنا لإحساناً يَأسو الله به ما نَكْلم، ويَرُمّ به ما نَثْلم، ونستغفر الله مما لا نَعلم، وما أنكرتُ من أن يكون الأمرُ على ما بلغك، ومع الوَليّ التعزُّز والإدلال والثِّقة والاسترسال؟ ومع العدوّ التحرّز والإحتيال، والتذلّل والإغتيال؟ وربما أمَلَّ المُدِلّ، وأخلَّ المُسترسل، وتجانب المُتقرّب، ومع المقة تكون الثقة؟ على أنّ العاقبةَ لنا على عدوّنا، وهي لوليّنا؟ وإنك لسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم. قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قَريب إن شاء الله تعالى. قلت: عَجّل الله ذلك. قال: آمين. قلتُ: ووهب لي السلامة منكم فإني من مُحبِّيكم. قال آمين، وتبسم. وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدْح في الدين، أو هَتْك للمُلك، أو تُهمة في حُرمة. ثم قال: احفظ عنّي ما أقول لك: أصدُق وإن ضرك الصدق؟ وأنصَح وإن باعدك النُّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أَحظيناه، فإنه مَحذول، ولا تَخذل ولينا وإن أبعدناه، فإِنه مَنصور، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصِلْ إذا قطعوك، ولا تَستخْفِ فيمقتوك، ولا تَنْقبض فيتحشَّموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرَّض للأموال. وأنا رائح من عَشيتي هذه، فهل من حاجة؟ فنهضتُ لوداعه فودَّعته، ثم قلت: أترقتُ لظهور الأمر وقتاً؟ قال: الله المقدِّر المُوقِّت، فإذا قامت النَّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العامَ وموتُ محمد بن عليّ مستهلَّ ذي القعدة، وعليه أخْلِفتْ، وما بلغْتكم حتى أنضيت. قلتُ: فهل أَوْصى؟ قال، نعم، إلى ابنه إبراهيم. قال: فلما خرجت فإذا مولى له يَتْبعني، حتى عَرف منزلي، ثم أتاني بكُسوة من كُسوته، فقال: يأمرك أبو جَعفر أن تصلَيَ في هذه، قال: وافترقنا.

قال: فوالله ما رأيتُه إلا وحرسيَّان قابضان عليّ يُدنياني منه في جَماعة من قومي لأُبايعه. فلما نَظر إليَّ أَثبتنَي، فقال: خلِّيا عمن صحَت مودتُه، وتقدَمت حُرمته، وأخدتْ قبل اليوم بيعتُه. قال: فأكبر الناسُ ذلك من قوله، ووجدتهُ، على أوّل عهده لي، ثم قال لي: أين كنتَ عنّي في أيام أخي أبي العبّاس. فذهبتُ أعتذر. قال: أَمسِك، فإنّ لكل شيء وقتاً لا يعدوه، ولن يَفوتك إن شاء الله حظُّ مودّتك وحق مُسابقتك، فاختر بين رِزْقٍ يَسعك أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيَّتك. قال: وأنا لها أحفظ، إنما نهيتُك أن تخطُب الأعمال، ولم أَنهك عن قَبولها. قلت: الرزقُ مع قرب أمير المؤمنين أحبُّ إليَّ. قال: ذلك لك، وهو أجمّ لقلبك، وأَودع لك، وأعفَى إن شاء الله ثم قال: هل زدتَ في عِيالك بعدي شيئاً، وكان قد سألني عنهم، فذكرتُهم له، فعجبتُ من حفظه، قلت: الفرسَ والخادم. قال: قد أَلحقنا عيالَك بعيالنا وخادمك بخادمنا وفرسك بخَيلنا، ولو وسعني لحملتُ إليك بيت المال، وقد ضممتُك إلى المهديّ، وأنا أُوصيه بك، فإنه أَفرغ لك مني.
قال لأحوص بن محمد الشاعر الأنصاريّ، من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الذي حَمت لَحمه الدَّبْر، يُشبِّب بامرأة يقال لها أم جعفر، فقال فيها:
أدورُ ولولا أن أرى أم جَعفر ... بأبياتكم ما دُرت حيث إِدُور
وكان لأم جعفر أخٌ يقال له أيمن، فأستعدَى عليه ابنَ حَزم الأنصاري، وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك، وهو أبو بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزم، فبعث ابنُ حزم إلى الأحوص، فأتاه. وكان ابنُ حزم يُبغضه، فقال: ما تقول فيما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنك تُشبّب بأخته ولد فضحتَه وشَهرت أخته بالشعر. فأنكَر ذلك. فقال لهما: قد اشتبه علي أمرُكما، ولكنني أدفع إلى كُل واحد منكما سَوطاً، ثم اجتِلدا، وكان الأحوص قصيراً نحيفاً، وكان أيمن طويلاً ضخماً جَلْداً. فغلب أيمنُ الأحوصَ، فضَربه حتى صَرعه وأثخنه. فقال أيمن:
لقد مَنع المعروفَ من أم جعفر ... أشمُ طويلُ السّاعدين غَيورُ
عَلاكَ بمَتن السَّوْط حتى أتْقيتَه ... بأصفرَ مِن ماء الصِّفاق يَفُور
قال: فلما رأى الأحوص تحامُلَ ابْنِ حزم عليه امتدح الوليدَ، ثم شَخص إليه إلى الشام، فدخل عليه فأنشده:
لا ترثين لَحزْميٍّ رأيتَ به ... ضُرًّا ولو ألقي الحَزميُّ في النار
الناخسين لمَروان بذي خُشُب ... المُدْخلين على عُثمان في الدار
قال له صدقتَ والله، لقد كُنّا غَفلنا عن حزم وآل حزم ثم دعا كاتبَه فقال: اكتُب عهد عثمان بن حيّان المُري على المدينة، وأعزِل ابن حزم، واكتُب بقبض أموال حَزم وآل حَزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان، ولا يأخذون لأمويّ عطاءً أبداً ففعل ذلك. فلم يزالوا في الحِرمان للعطاء مع ذَهاب الأموال والضِّياع حتى انقضت دولةً بنى أمية وجاءت دولة بني العبّاس. فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة قدم عليه أهل المدينة، فجلس لهم فأمر حاجبَه أن يتقدّم إلى كل رلّ منهم أن يَنتسب له إذا قام بين يديه، فلم يزالوا على ذلك يفعلون، حتى دخل عليه رجلٌ قَصير قَبيح الوجه، فلما مَثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنُ حزم الأنصاريّ الذي يقول فينا الأحوص:
لا تَرثينّ لحزميٍ رأيتَ به ... ضرًا ولو ألقي الحَزميُّ في النار
الناخسين لمروان بذي خُشب ... والمدخلين على عثمان في الدار

ثم قال: يا أمير المؤمنين، حُرمنا العطاء منذ سِنين، وقُبضت أموا لُنا وضياعُنا. فقال له المنصور: أعِد عليَّ البيتين. فأعادهما عليه. فقال: أما والله لئن كان ذلك ضَرَّكم في ذلك الحين ليَنفعنَّكم اليوم، ثم قال: عليَ بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخُوزيّ. فقال: اكتُب إلى عامل المدينة أن يَرُدّ جميع ما اقتطعه بنو أميَّة من ضِياع بني حَزم وأموالهم، ويَحسب لهم ما فاتَهم من عطائهم، وما استُغلَّ من غَلاّتهم من يومئذٍ إلِى اليوم، فيُخلف لهم جميعَ ذلك من ضِياع بني مَروان، ويَفْرض لكُل واحد منهم في شرَف العطاء - وكان شرفُ العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة - ثم قال: عليَّ الساعة بعشرة آلاف دَرهم تُدفع إلى هذا الفتى لنَفقته. فخرج الفتى من عنده بما لم يَخرج به أحد ممن دخل عليه.
ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم
أبو العباس السفاح
ولد أبو العبَّاس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب مُستهل رجب سنةَ أربع ومائة. وبُويع له بالكوفة يومَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من ربيعٍ الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وتُوُفِّي بالأنبار لثلاثَ عشرَةَ ليلةً خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. فكانت خلافتُه أربعَ سنين وثمانيةَ أشهر. وأمه رَيطة بنتُ عبيد الله بن عبد الله ابن عبد المَدان.
وكان أبيضَ طويلاً أقنَى الأنف حسنَ الوجه حسنَ اللّحية جعدَها. نقشُ خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤمن " . وصلى عليه عمُه عيسى بن عليّ. ورُزق من الولد اثنين: محمد، من أم ولد، ومات صغيراً، وابنة سمَّاها رَيطة، من أم ولد، تزوَّجها المهديُّ وأولدها عليّاً وعُبيد اللّه.
ووَزَر له أبو سَلمة حَفْص بن سليمان الخلال، وهو أول من لُقِّب بالوزارة.
فقتلهِ أبو العبّاس وأستوزر بعده خالَد بن بَرْمك إلى آخر أيَّامه، وكان حاجَبه أبو غسان صالحُ بن الهيثم، وقاضيَه يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ.
المنصور
وبُويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله ابن العبّاس في اليوم الذي تُوفِّي فيه أخوه لثلاثَ عشرةَ خلت من ذي الحجَّة سنةَ ستّ وثلاثين ومائة. وكان مولدُه بالشراة لسبعٍ خَلونَ من ذي الحجة سنةَ خمس وتسعين. وتُوفِّي بمكة قبل التَرْوية بيوم، لسبعٍ خَلَونَ من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسين ومائة وهو مُحْرم. ودُفن بالحَجون. وصلَّى عليه إبراهيمُ بن يحيى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بنِ العبِّاس. وكانت مُدَّة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانيةَ أيام. وكانت سِنّه ثلاثاً وستين سنة. وأمُّه أَمَة اسمها سَلامة. وجِنْسها بربرية.
وكان أسمرَ طُوالاً نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين يَخْضِب بالسواد. ونقش خاتمه " الله ثقة عبد الله وبه يؤِمن " . وتزوَج بنت منصور الحِمْيرية، وولدت له: محمداً، وهو المهديُّ، وجعفراً. وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرَّى إلا عن أمرها. وكان قد ابتاع جاريته أمَّ عليّ وجعلها قيِّماً في داره على أمِّ موسى وأولاده. فحظيت عند أمِّ موسى وسألته التسرِّي بها لمَا رأت من فضلها. فواقعها فأولدها عليّاً، وتوفي قبل استكمال سَنة؟ ثم فاطمة بنت محمد، من ولد طَلحة بن عُبيد اللّه، فولدت له سُليمان، وعيسى، ويعقوب. ورُزق من أمهات الأولاد: صالحاً والعالية وجعفراً والقاسمَ والعبَّاس وعبد العزيز.
ووُزر له ابنُ عطية الباهليّ، ثم أبو أيوب الموريانيّ، ثم الربيع، مولاه. وكان حاجبه عيسى بنُ روضة، مولاه، ثم أبو الخَصيب، مولاه. وكان قاضيَه عبدُ الله بن محمد بن صفوان، ثم شريك بن عبد اللّه، والحسن بن عمار، والحجَّاج بن أرطاة.
المهدي
ثم بُويع ابنُه أبو عبد الله محمد المهديُ بن عبد الله المَنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس صبيحة اليوم الذي تُوفي فيه أبوه لستٍّ خلَوِن من ذي الحجة سنةَ ثمان وخمسين ومائة. وكان مولدُه بالحميمة يومَ الخميس لثلاث عشرةَ ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وعشرين ومائة. وتُوفي بما سَبَذان في المُحرم سنة تسع وستين ومائة. وصلّى عليه ابنُه الرشيدُ - فكانت خلافته عشرَ سنين وخمسةً وأربعين يوماً. وكانت سنه إحدى وأربعين سنة وثمانيةَ أشهر ويومين.

وكان أسمرَ طويلاً معتدلَ الخلف، جعدَ الشعر، بعينه اليمنى نُكتة بياض، نقش خاتمه " الله ثقة محمد وبه يؤمن " وتزوَج رَيطة بنت السفاح، وأولدها علياً وعُبيد اللهّ. وأول جارية ابتاعها مَحْياة، فرُزق منها ولداً مات قبل استكمال سنة. وكان يبتاع الجواري باسمها وتُقَربهن إليه. وأول من حَظِي منهن عنده رحيم، ولدت له العباسة، ثم الخَيزران، فولدت له موسى وهارون والبانوقة؟ ثم حللة وحَسنة، وكانتا مغنيتين مُحسنتين. وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أمَ عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد اللهّ، وأعتق الخيزران في السنة وتزوَّجها. ووَزر له أبو عبد الله مُعاوية بن عبد الله الأشعري، ثم يعقوب بن داود السلمي، ثم الفيض بن أبي صالح. واستحجب سلامان الأبْرش. واستخلف علي القضاء محمد بن عبد الله بن عُلاثة، وعافيةَ بن يزيد، كانا يَقْضيان معاً في مسجد الرُصافة.
الهادي
ثم بويع ابنُه أبو محمد موسى الهادي بن المهديّ مستهل صفر سنة تسع وستين ومائة. وتُوفي ليلة الجمعة لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيعِ الأول سنة سبعين ومائة بعِيساباد. وصلّى عليه أخوه الرشيد. وكانت خلافتُه سنة وشهرين إلا أياماً. وكانت سنُّه ستاً وعشرينِ سنة.
وكان أبيضَ طويلاً جسيماً بشَفته العليا تقلُص. نقش خاتمه " الله ربي " . وتزوَّج أمةَ العزيز، فأولدها عيسى؟ ثم رحيم، فأولدها جعفراً؛ ثم سعوف، فأولدها العباس؟ واشترى جاريته حسنة بألف درهم، وكانت شاعرةً، فرُزق منها عدَة بنات، منهن أم عيسى، تزوَّجها المأمون. وكان له من أمهات الأولاد عبد الله وإسحاق وموسى، وكان أعمى.
ووَزر له الربيع بن يونس، ثم عمر بن بَزيع. واستحجب الفضلَ بن الربيع. وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيمَ، في الجانب الغربيّ، وسعيدَ بن عبد الرحمن الجُمحيّ، بالجانب الشرقي.
هارون الرشيد
ثم بُويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يومَ الجمعة لأربَع عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة وُلد عبد الله المأمون. ولم يكن في سائر الزمان ليلة وُلد فيها خليفة وتُوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان مولد الرشيد في المُحرم سنة ثمان وأربعين ومائة. وتُوفِّي في جُمادى الأولى سنةَ ثلاث وتسعين ومائة ودُفن بطوس. وصلَّى عليه ابنُه صالح. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستةَ عشر يوماً. وكانت سنُه ستًا وأربعين سنة وخمسة أشهر. ولما أفضتْ إليه الخلافةُ سلّم عليه عمُه سليمان المَنصور، والعبَّاس بن محمد عُم أبيه، وعبدُ الصمد ابن علي عمّ جده، فعبدُ الصمد عم العباس، والعبّاس عمُّ سليمان وسِليمان عم هارون.
وكان الرشيد أبيضَ جسيماً طويلاً جميَلاً. قد وَخطه الشيب. نقش خاتمه " لا إله إلا الله " ، وخاتم آخر " كن من الله على حذر " وتزوَج زُبيدة، واسمُها أمَة العزيز، وتُكنى أمَّ الواحد، وزُبيدة لقب لها. وهي ابنة جعفر بن المَنصوِر، أولدها محمداً الأمين؟ ثم مراجل، فأولدها عبد الله المأمون؟ وماردة، أولدها محمداً المعتصم؟ ونادر، ولدت له صالحاً؟ وشجا، ولدت له خديجة ولبابة؟ وسريرة، ولدت محمداً، وبَربرية، ولدت له أبا عيسى ثم القاسم، وهو المؤتمن؟ وسكينة، وحث، فولدت له إسحاق وأبا العبَّاس.
وَوزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقَتله، ثم الفضل بن الربيع. واستحجب بِشرَ بن ميمون، مولاه؟ ثم محمد بن خالد بن بَرمك. واستخلف على قَضاء الجانب الغربي نُوحَ بن دَرَّاج، وحفصَ بن غِياث.
الأمين
ثم بويع أبو عبد الله محمد الأمين في جُمادي الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة. وقُتل يومَ الأحد لخمس بقين من المُحرم سنة ثمانٍ وتسعين ومائة. وكان مَولده بالرُّصافة سنةَ إحدى وسَبعين ومائة في شوَّال. فكانت خلافته أربعَ سنين وستةَ أشهر وأياماً. صفا له الأمر في جُملتها سنتين وشهراً. وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سَنتين.
وكان طويلاً جسيماً جميلاً حسنَ الوجه بعيدَ ما بين المَنْكبين، أشقرَ سبطاً، صغير العَينين، به أثر جُدري. نقش خاتمه " محمد واثق بالله " . ورُزق من الولد موسى، من أم ولد تُدعى نَظم، ولَقبه الناطق بالحق، وضرَب اسمَه على الدراهم.
وذكر الصُّولي قال: حدّثني مَن قرأ على دِرهم:

كُل عز ومفخر ... فلمُوسى المُظفِّرِ
مَلك خُطَّ ذِكْرُه ... في الكَتاب المُسَطّرِ
وماتت نَظم فاشتد جزعه عليها، فدخلت زُبيدة معزِّيةً له، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ... ففي بَقائك ممَّن قد مَضى خَلف
عُوِّضت مُوسى فماتت كُال مَرزية ... ما بعد مُوسى على مَفقودةٍ أسف
وبايع لابنه مولى في حياته، ولأخيه عبد اللّه، وأمه أمّ ولد، ونَقَش اسمَه أيضاً على الدراهم.
وكان لجعفر بن موسى الهادي جاريةِّ اسمُها بَذْل، فطلبها الأمين منه، فأبى عليه، وكان شديدَ الوجد بها. فزاره الأمينُ يوماً فسُر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل، فانصرف وأخذ الجارية. فلما أصبح جعفر نَدم على ما جرى ولم يَدْر ما يصنع. فدخل على الأمين. فلما مَثل بين يديه قال له: أحسنت والله يا جعفر بدَفعك بذل إلينا وما أحسنّا. ووَقر زَورقه بعشرين ألفَ ألفِ درهم.
ووَزر للأمين الفضلُ بن الرَّبيع إلى آخر أيامه. وكان حاجبَه العباسُ بن الفضل بن الربيع، ثم عليُّ بن صالح صاحب المُصلّى، ثم السِّندي بن شاهك.
المأمون
ثم بُويع أبو العبِّاس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قَتل أخيه، يومَ الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان مولدُه بالياسرية في ليلة الجمعةَ لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وتُوفي بالبَذَنْدُون سنة ثماني عشرة ومائتين لثمانٍ خلون من رجب. ودُفنِ بطرسوس فكانت خلافتُه عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثةَ عشرَ يوماً وكانت سنُه ثمانياً وأربعين سنة وأربعةَ أشهر إلا أياماً.
وكان أبيضَ تعلوه شُقرة، أجنأ أعينَ طويلَ اللحية رقيقَها ضيقَ الجبين، بخدِّه خالٌ أسود، وكان قد وَخطه الشيب. نَقْش خاتمه " سَل الله يُعطك " .
وكان الرشيد حدَّ المؤمون. وذلك أنه دَخل على الرشيد وعنده مُغَنية تُغنيه فلَحنت، فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن، فتغيّر لونُ الجارية وفَطن الرشيد لذلك، فقال: اعْلمتها بما صنعت؟ قال: لا والله يا مولاي. قال: ولا أومأتَ إليها؟ قال: قد كان ذلك. فقال: كُن منّي بمرأى ومَسمع فإذا خرج إليك أمرى فانته إليه، ثم أخذ دواةً وقرطاساً وكتب إليه:
يا آخذ اللَّحن على ال ... قينة عند الطَربِ
تُريد أن تفهمها ... حدَّ لُغات العرب
أقسم بالله وما ... سَطَر أهلُ الكُتب
للكَلب خيرٌ أدباً ... مِن بعض أهل الأدب
إذا قرأتَ ما كتبتُ به إليك، فَأمُر مَن يضربك عشرين مَقرعة جياداً. فدعا المأمون البوابين ثم أمرهم ببَطحه وضَربه، فامتنعوا. فأقسم عليهم، فامتثلوا أمره. ورُزق من الولد محمداً الأصغر، وعُبيد اللّه، من أم عيسى بنت موسى الهادي. وتزوَّج بُوران بنت الحسن بن سَهل، بنى بها سنةَ عشر ومائتين، ووَهب لأبيها عشرةَ آلافِ ألفِ درهم، ولولده ألفَ ألفِ درهم. وكان له عدّة أولاد من بنين وبنات.
ووَزر له الفضلُ بن سهل ذو الرياستين، ثم الحسنُ بن سهل، ثم أحمد بن أبي خالد ثم أحمد بن الأحول، يوسف، ثمِ ثابت بن يحيى، ثم محمد بن يزداد. واستحجب عبدَ الحميد بن شَبيب، ثم محمداً وعلياً، ابني صالح مولى المنصور.
المعتصم باللّه
ثم بُويع أخوه أبو إسحاق المُعتصم بن الرشيد يومَ الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة. وتُوفي بسرَ من رأىِ يوم الخميس لاثنتي عشرةَ ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وصلّى عليه ابنُه هارون الواثق. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. وأمه أم ولد يقال لها ماردة.
وكان أبيضَ أصهبَ اللحية طويلها مَربوعاً مُشرب اللون حُمْرةً. نقش خاتمه " الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن " وكان شديدَ البأس، حَمل باباً من حديد فيه سبعُمائةٍ وِخمسون رطلاً وفوقه عِكام فيه مائتان وخمسون رطلاً، وخَطا خُطا كثيرة وكان يُسمَى ما بين إصبعي المُعتصم المِقطرة، لشدّته. وإنه أعتمد يوماً على غلام فدقَّه. وذكر الصُوليّ أنه كان يسمى المُثمّن، وذلك أنه الثامن من خلفائهم.

ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة. ووَلي الأمرَ في سنة ثماني عشرة ومائتين، وله ثماني وأربعون سنة. وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر. ورُزق من الولد الذَكور ثمانية، ومن الإناث ثمانياً. وغزا ثماني غزوات. خلَّف في بيت ماله ثمانية آلافِ دينار، ومن الوَرِق ثمانية آلاف ألف درهم.
ووَزر له الفضلُ بن مروان، ثم أحمد بن عمَّار، ثم محمد بن عبد الملك الزيات. واستحجب وَصيفاً مولاه، ثم محمد بن حمّاد بن دَنْفش.
الواثق
ثم بويع ابنه أبو جعفر هارون صبيحةَ اليوم الذي تُوفي فيه أبوه يومَ الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنةَ سبع وعشرين ومائتين. وكان مولدُه يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة ستّ وتسعين ومائة. وتُوفي بسُرَ مَن رأى يوم الأربعاء لستٍّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وصلّى عليه أخوه المتوكّل. فكانت خلافتُه خمسَ سنين وتسعةَ أشهر وثلاثةَ عشر يوماً. وكانت سنّه ستاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياماً.
وكان أبيضَ إلى الصُّفرة، حسنَ الوجه جسيماً في عينه اليمنى نُكتة بياض نقش خاتمه " محمد رسول الله " وخاتم آخر " الواثق بالله " . ورُزق من الولد محمداً المُهتدي، وأبا وأمه أم ولد يقال لها قُرب؟ وعبد الله، وأبا العبَّاس أحمد، وأبا إسحاق محمداً، وأبا إسحق إبراهيم.
ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات. وحاجبه إيتاخ، ثم وصيف مولاه، ثم ابن دَنفش. وقاضيه ابن أبي دُواد.
المتوكل
ثم بُويع أخوه أبو الفضل جعفر المتوكّل يومَ الأربعاء لستً بقين من ذي لحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكان مولده يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين. وقُتل ليلةَ الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ودُفن في القصر الجعفري. وصلى عليه ابنهُ المُنتصر ولمن عهده. فكانت مدةُ خلافته أربعَ عشرةَ سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وكانت سنّه أربعين إلا ثمانيةَ أيام.
وكان أسمرَ كبيرَ العينين نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين. نقَش خاتمه " على إلهي اتكالي " . وكان كثيرَ الولد.
وَزر له محمد بن عبد الملك الزيات، ثم محمد بن الفضل الجُرجانيّ، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. واستحجب وصيفاً التّركي، ثم محمد بن عاصم، ثم إبراهيم بن سهل. وكان خليفتَه على القضاء يحيى بن أكثم.
المنتصر
ثم بويع ابنُه أبو جعفر محمد المنتصر لأربع خلوان من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان مولدُه يومَ الخميس لستٍّ خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. فكانت خلافتُه ستة أشهر؟ وسنّه ستاً وعشرين سنة إلا ثلاثةَ أيام.
وكان قصيراً أَسمرَ ضخم الهامة عظيمَ البطن جَسيماً، على عينه اليمنى أثر. نقَش خاتمه " يؤتى الْحذِر من مأمنه " ، وعلى خاتم آخر " أنا من آل محمد. الله وليّ ومحمد " .
ورُزق من الولد عليا وعبدَ الوهاب وعبدَ الله وأحمدَ.
ووَزَر له أحمدُ بن الخصيب. وحاجبه وصيف، ثم بغا، ثم ابنُ المَرزبان، ثم أوتامش.
المستعين
ثم بويع المُستعين أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن المعتصم يوم الاثنين لأربع خَلون من شهر ربيع الآخر سنةَ ثمان وأربعين ومائتين. وخلع نفسه بموافقة المُعتزّ بوساطة أبي جعفر المَعروف باْبن الكردية، يومِ الجمعة لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين. وقُتل بالقادسية مع خَلعه نفسَه بتسعة أشهر. وأمه أم ولد يقال لها مخارق.
وكان مربوعاً أحمرَ الوجه أشقَر مُسْمِناً عريض المنكبين، ضخم الكراديس، خفيف العارضين، بوجهه أثر جُدري، ألثغ بالسين. نقش خاتمه " في الاعتبار غِنى عن الاختبار " .
وزر له أحمدُ بن الخَصيب، فنكبه، وقلّد مكانَه ابنَ يَزْداد؟ ثم شُجاع بن القاسم، كاتب أوتامش، وأوتامش هذا حاجبه. وكانت سنه إحدى وثلاثين سنة إلا ثمانية أيام.
المعتز

ثم وَلِى أبو عبد الله محمد المعتزّ بن المتوكّل يومَ الجمعة. لأربع خلون منِ المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكانت الفِتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنةَ. وقُتل عشيةَ يوم الجمعة لليلة خلتْ من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان مولده يومَ الخميس لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وكانت خلافتُه منذ بُويع له واجتمعت الكلمةُ عليه ثلاثَ سنين وستةَ أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، ومنذ بايعه أهل سُرِّ من رأى إلى أن قُتل أربعَ سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً. وقتله صالح بن وَصيف.
وكان أبيض شديدَ البياض، رَبْعة حسنَ الجسم، على خدِّه الأيسر خالٌ أسود الشعر. نقش خاتمه " الحمد للهّ رب كل شيء وخالق كل شيء " .
وزر له جعفر بن محمود الإسكافي، ثم عيسى بن فرخان شاه، ثم أحمد ابن إسرائيل الأنباري. وحاجبه سَماء بن صالح بن وصيف. وكانت سنه أربعاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً.
المهتدي
ثم بويع المهتدى أبو عبد الله محمد بن الواثق بسُرَّ من رأى يومَ الأربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وكان مولده يومَ الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة تِسع عشرة ومائتين: وقُتل بسرَ من رأى بسَهم لحقه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. فكانت خلافتُه أحدَ عشرِ شهراً وأربعةَ عشر يوماً. وكانت سنة سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأحدَ عشر يوماً وكان أبيضَ مُشرباً حُمرة، صغيرَ العينين، أقنى الأنف، في عارضيه شيب، و خَضب لما ولي الخلافة: نقش خاتمه " من تعدَى الحق ضاق مذهبه !.
وزَر له أيوب سليمان بن وَهب. وحاجبه باك باك.
المعتمد
ثم بويع أبو العبَّاس أحمد المعتمد بن المتوكل يومَ الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ستٍ وخمسين ومائتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين. فكانت خلافتُه ثلاثاً وعشرين سنة. وكانت سنه خمسين سنة وخمسةَ أشهر واثنين وعشرين يوماً. ومات أخوه وولىّ عهده طَلحة الموفّق في أيامه في صفر سنة ثمان سبعين ومائتين، وكان قد غَلب على الأمر لمَيل الناس إِليه. وكان المعتمد قد عَقد لولده جعفر ولقبه المُفوض، وبعدَه لأبي أحمد طلحة الموفّق، فاشتد أمرُ الموفَق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومَال الناس إِليه، واسمه الناصر لدين للَه، وكان يُدْعى له على المِنبر، في أيام المعتمد، وكان الموفّق حَبس ابنَه أبا العباس المعتضد، فلما حضرتْه الوفاةُ أطلقه للقيام بالأمر، وأجرى المُعتمد أمرَه على ما كان يَجري عليه أمر أبيه الموفق، وافرده بولاية العهد، وأمر بكَتْب الكُتب بخلع ابنه المفوض وأفرد المُعتضد بالعَهد وجَعله الخليفة بعده.
وكان المعتمد أسمر مربوعاً نحيفَ الجسم حسنَ العينين مدوَر الوجه، على وجه أثر جُدريّ. نقش خاتمة " السعيدُ من كفي بغيره " . ووَزر له عبيدُ الله يحيى ابن خاقان، ثم سليمان بن وهب، ثم الحسن بن مَخلد، ثم صاعد بن مخلد، ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حاجبه موسى بن بغا، ثم جعفر بن بغا، ثم بكتمر.
المعتضد
وبُويع المعتضد أبو العباس أحمد بن المُوفق في رجب سنة سبع وسبعين ومائتين.
- وكان مولده في جُمادى الآخرة سنةَ ثلاث وأربعين ومائتين. وتُوفى ببغداد ليلة الثلاثاء لسبع بقين من شهر - ربيع الأخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وصلى عليه أبو عمر القاضي. فكانت خلافته تسعَ سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام. وكانت سنّه خمساً وأربعين سنة وتسعةَ أشهر وأياماً: وأمه ضرِار.
وكان نحيفَ الجسم معتدلَ القامة طويلَ اللحية أسمر. نَقْش خاتمة الاضطرار يزيل الاختيار ووَزر له عُبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم ابنُه القاسم بن عُبيد اللّه. وحاجبه صالح الأمين.
المكتفي

ثم بُويع ابنُه أبو محمد علىّ بن المُعتضد يومَ الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وكان مولدُه في رَجب سنة أربع وستين ومائتين، وتُوفى ببغداد فدُفن عند قبر أبيه ليلةَ الأحد لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وكانت خلافتُه ستَّ سنين وستة أشهر وعشرين يوماً. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وأربعةَ أشهر وأياماً. وأمه جيجق، وقيل خاضع. وكان رَبْعة حسنَ الوجه أسودَ الشعر وافرَ اللحية عريضها، ولم يَشِب إلى أن مات. نقش خاتمه " بالله على بن أحمد يثق. وخلّف في بيت ماله ستة عشر ألفَ ألفِ دينار، ومن الوَرِق ثلاثين ألفَ ألفِ درهم.
ووَزر له القاسم بن عُبيد الله، ثم العباس بن الحسن ثم الحسن بن أيوب. وحاجبُه خَفيف السمَرْقَندىّ، ثم سَوسن مولاه.
المقتدر
ثم بُويع المقتدر، وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفّى فيه أخوه يومَ الأحد لثلاث عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وخُلع في خلافته دَفعتين، الأولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام بابن المُعتز وبطل الأمر من يومه. والدَفعة الثانية بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، خَلع نفسه وأشهد عليه وأجلس القاهرَ يومين وبعضَ اليوم الثالث. ووقع الخُلف بين العسكرين، وعاد المقتدرُ إلى حاله. وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة لاثنتين وثمانين ومائتين. وقُتل بالشَّماسية يوم الأربعاءِ لثلاثٍ بقين من شوَّال سنة عشرِين وثلثمائة. فكانت خلافتُه خمساً وعشرين سنة إلا خمسةَ عشرا يوماً. وكانت سنّه ثمانياً وثلاثين سنة وشهراً وعشرين يوماً.
وكان أبيضَ مَشرباً حُمرة حسنَ الخلق ضخم الجسم، بعيد ما بين المَنكبين، جعدَ الشعر، مدوَرَ الوجه، قد كَثُر الشيبُ في وجه. نقش خاتمه " الحمد للّه الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير " .
وَوَزر له العبَّاس بن الحسن، ثم علىّ بن محمد بن موسى بن الفُرات، ثم عبيد الله بن خاقان، ثم أبو الحسن علىّ بن عيسى بن داود بن الجراح ثم حامد بن العبّاس، ثم أحمد بن عبيد الله الخَصيبي، ثم محمد بن علىّ بن مُقلة، ثم سليمان بن الحسن بن مَخلد بن الجراح ثم عُبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عُبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم الفضل بن جَعفر ابنِ موسى بن الفرات. واستحجب سَوسنا، مولى المكتفي، ونصراً القشوريّ، وياقوتاً المعتضديّ، وإبراهيم ومحمداً، ابني رائق.
القاهر
ثم بويع أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلثمائة. وخُلع وسُمل يوم الأربعاء لخمس خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده لخمس خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين ومائتين، وكانت خلافتُه سنةً وستة أشهر وستة أيام. وعاش إلى أيام المطيع، وكانت سنه وكان رَبْعة أسمر اللون، معتدل القامة، أصهب الشعر. وَوَزر له أبو علىّ محمد بن مُقلة، ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللهّ، ثم أحمد بن عُبيد الله الخَصيبىّ. واْستحجب علىّ بن بليق، مولى يونس، ثم سلامة الطولوني.
الراضي
ثم بويع الراضي أبو العباس أحمد بن المُقتدر يومَ الأربعاء لستٍّ خلون من جُمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وكان مولده في رَجب سنةَ سبع وتسعين ومائتين. ومات ببغداد ليلةَ السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وثلثمائة. ودُفن بالرُصافة. وكانت خلافتهُ ستِّ سنين وعشرة أيام. وكانت سنّه إحدى وثلاثين سنة وثمانيةَ أشهر وأياماً. وأمه أمُّ ولد يقال لها ظَلوم. كان قصيرَ، نحيفَ الجسم، أسودَ الشعر، رقيق السُّمرة، في وجهه طول.
نقش خاتمه " رسول الله " . ووزر له أبو علّيِ محمد بن مُقله، ثم ابنُه أبو الحسين علي بن محمد ثم عبد الرحمن بن عيسى بَن داود بن الجرَّاح ثم محمد بن القاسم الكَرْخيّ، ثم سُليمان بن الحَسن بن محمد بن الجراح ثم الفَضل بن جعفر بن الفرات ثم أبو عبد الله أحمد بن محمد اليزيديّ. واستحجب محمدَ بن ياقوت، ثم ذكيّاً، مولاه.
المتقيَ

ثم بويع أخوه المُتقي أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر يومَ الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة. وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً إلا أياماً.
وكان أبيض تعلوه حُمرة، أصهَبَ شَعرِ اللحية، كثّ اللِّحية، بفكه الأدنى عِوَج. نقش خاتمه " محمد رسول الله " وزر له أحمد بن محمد بن ميمون، ثم اليزيدىّ، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم أبو إِسحاق محمد بن أحمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكَرخي، ثم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ، ثم عليِّ بن محمد بن مُقلة. واستحجب سلامة، مولى خُمارويه بن أحمد، ثم بدر الخرشني، ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المُفْلحيّ.
المستكفي
ثم بُويع أبو القاسم عبد الله بن عليّ المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة بالسِّنديّة عُقيب كسوف القمر. وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. فكانت خلافته سنة واحدة وسِتة أشهر وأياماً. وكان مولدُه مستهل سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكانت سنه سبعاً وأربعين سنة. وأمه أم ولد يقال لها غُصن.
وكان أبيضَ تعلوه حُمرة، ضخمَ الجسم، تام الطُول؟ خفيفَ العارضين، كبيرَ العينين، أشهلَ، جهوريّ الصوت. نقش خاتمه " محمد رسول الله " . وَزر له محمد بن عليّ السرَّ مَن رائي. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي، واستحجب أحمد بن خاقان.
المطيع
ثم بُويع المطيع أبو القاسم الفضل بن المقتدر لسبعِ بقين من شعبان سنه أربع وثلاثين وثلثمائة وخَلع نفسَه ببغداد لسبعَ عشرة ليلة خَلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلثمائة. وكان مولدُه في النصف من ذي القِعدة سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي في. فكانت خلافته تسعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد تُدعى مَشْعلة. وكانت سنة وكان شديدَ البياض أسودَ شعر الرأس واللحية. وَزر له عليّ بن محمد ابن مُقلة. والناظر في الأمورِ أبو جعفر الصيمريّ. كاتب أحمد بن بُويه. ثم استولى على اسم الوزارة. وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازيّ، ومات وقام مقامه أبو محمد الحسن بن محمد المُهلبي، وحاجبه عزْ الدولة بُحتيار ابن مُعز الدولة.
تم كتاب اليتيمة الثانية
كتاب الدرة الثانية في أيام العرب
ووقائعهم
فرش الكتاب
قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عَبد ربّه رضي الله عنه: قد مَضى قولُنا في أخبار زياد والحجَّاج والطالبين والبرامكة، ونحن قائلون بعَون الله وتَوفيقه في أيام العرب ووقائعهم فإنها مآثر الجاهليَّة، ومكارمُ الأخلاق السنيّة. قيل لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كُنّا نتناشد الشعر، ونتحدّث بأخبار جاهليّتنا. وقال بعضُهم: وددتُ أنّ لنا مع إسلامنا كرمَ أخلاق آبائنا في الجاهليَّة، ألا ترى أنّ عَنترة الفوارس جاهليّ لا دينَ له، والحسنَ بن هانئ إسلاميّ له دين، فمنع عنترةَ كرمُه ما لم يَمنع الحسنَ بن هانئ دينُه؟ فقال عنترة في ذلك:
وأغُضّ طَرْفي إن بَدت ليَ جارتي ... حتى يُوارِي جارتي مَأواها
وقال الحسنُ بن هانئ مع إسلامه:
كان الشبابُ مطيَّةَ الجَهل ... ومُحسِّنَ الضَّحكات والهَزْل
والباعِثي والناسُ قد رَقدوا ... حتى أتيتُ حليلةَ البَعْل
حروب قيس في الجاهلية
يوم مَنْعِجِ
لغَنيّ على عبس

قال أبو عبيدة مَعْمر بن المُثنّى: يوم مَنعج، يقال له يوم الرِّدْهة، وفيه قُتل شأس بن زُهير بن جَذيمة بن رَواحة العبسيّ بمنعج على الردْهة. وذلك أنّ شأس بن زُهير أقبل من عند النُعمان بن المُنذر، وكان قد حَباه بحباء جَزيل، وكان فيما حباه قطيفةٌ حَمراء ذات هُدب وطَيلسانٌ، وطِيبٌ. فورد مَنْعج، وهو ماء لغنيّ، فأناخ راحلتَه إلى جانب الرَّدْهة عليها خِباء لرِيَاح ابن الاسَل الغَنويّ، وجعل يَغتسلِ، وامرأةُ رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض. فانتزع له رياحٌ لسَهما فقتله ونحر ناقته فأكلها، وضمَّ متاعَه وغَيَّب أثره. وفُقد شأس بن زهير، حتى وجدوا القطيفةَ الحمراء بسوق عُكاظ قد سامتهاامرأةُ رياح بن الأسَل، فعلموا أنّ رياحاً صاحبُ ثأرهم. فغزت بنو عَبس غنياً قبل أن يطلبوا قَوَداً أوْدِيةً، مع الحصين بن زُهير بن جَذيمة والحُصين بن أسَيد بن جَذيمة. فلما بلغ ذلك غَنِياً قالوا لرِيَاح: أنجُ لعلّنا نُصَالح القومَ على شيء. فخرج رياحٌ رَدِيفاً لرجلِ من بني كلاب، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وِجْهة القوم. فمرّ صُرَدٌ على رُءوسهما فصَرصر. فقالا: ما هذا؟ فما راعهما إلا خيلُ بني عَبْس. فقال الكِلاَبي لرِياح: أنحدر من خَلفي وألتَمس نفقاً في الأرض فإنّي شاغلٌ القومَ عنك. فأنحدر رياحٌ عن عَجز الجَمل حتى أتى صَعْدة فاحتفر تحتها مثلَ مكان الأرنب ووَلَج فيه. ومَضى صاحبُه، فسألوه فحدّثهم، وقال: هذه غني جامعة وقد استمكنتُم منهم. فصدقوه وخلّوا سبيلَه. فلما ولّى رأوا مَركبَ الرجل خلفَه، فقالوا: مَن الذي كان خلفَك؟ فقال: لا أكذب، رياح بن الأسل، وهو في تلك الصَعَدات. فقال الحُصينان لمن معهما: قد أمكننا الله من ثأرنا ولا نُريد أن يَشرَكنا فيه أحد. فوقفوا عنهما، ومَضيا فجعلا يُرِيغان رياحَ بن الأسل بين الصَعَدات. فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي ترِيغانه. فابتدراه، فَرمى أحدَهما بسهم فأقصده، وطَعنه الآخر قبل أن يَرْميه فأخطأه، ومرَّت به الفرسُ، واستدبره رياحٌ بسهم فقَتله، ثم نجا حتى أتى قومَه، وانصرفوا خائبين مَوْتورين وفي ذلك يقول الكُميت بن زيد الأسديّ، وكانت له أمان من غَنيّ:
أنا ابنُ غَنيّ والداي كلاهما ... لأمَّين منهم في الفُروع وفي الأصل
هم استَودعوا زُهَراً بسَيْب بن ساِلم ... وهُم عَدلوا بين الحُصَينيين بالنبْل
وهم قَتلوا شأسَ المُلوك وأرغموا ... أباه زُهيراً بالمَذَلّة والثُكْل
يوم النفراوات
لبني عامر على بني عبس

فيه قُتل زُهير بنِ جَذيمة بن رَوَاحة العَبسيّ وكانت هوازن تُؤدي إليه إتَاوة، وهي الخراج. فأتته يوماً عجوز من بني نصر بن مُعاويةَ بسَمن في نِحْي واعتذرت إليه وشكتْ سنينَ تتابعت على الناس، فذاقه فلم يَرْض طعمَه، فدَعسها بقوس في يده عُطل في صدرها. فاستلقت على قَفاها مُنكشفة. فتألى خالدُ بن جعفر، وقال: والله لأجعلنّ ذراعي في عُنقه حتى يُقتلَ أو أقتل. وكان زهير عَدُوسا مِقداماً لا يُبالي ما أَقدم عليه. فاستقلّ، أي انفرد، من قومه بابنَيْه وبَنى أَخويه: أُسيدَ وزِنْباع، يَرعى الغيثَ في عُشَرَاوات له وشَوْل. فأتاه الحارث بن الشرَّيد، وكانت تُماضر بنت الشَرِيد تحت زُهير فلما عرف الحارث مكانَه أنذر بني عامر بن صَعصعة، رهطَ خالد بن جعفر. فركب منهم ستة فوارس، فيهم خالد بن جعفر، وصَخر بن الشريد، وحُنْدج ابنُ البَكاء، ومعاوية بن عُبادة بن عَقِيل، فارس الهَرار - ويقال لمُعاوية: الأَخيل: وهو جَدّ ليلى الأخْيليّة - وثلاثة فوارس من سائر بني عامر. فقال أسَيد لزُهير: أعلمتْني راعيةُ غَنمي أنها رأتْ على رأس الثنيّة أشباحاً ولا أَحسبُها إلاّ خيلَ بني عامر، فالحق بنا بقَومنا. فقال زهير: كُل أَزبّ نَفور. وكان أًسيد أشعرَ القفا، فذهبتْ مثلاً. فتحمَّل أًسيد بمن معه وبقي زُهير وابناه: ورقاء والحارث وصُحبتهم الفوارس. فتمرِّدت بزُهير فرسُه القَعساء، ولحقه خالد ومُعاوية الأخيل، فطعن مُعاوية القعساء، فقلبت زُهيراً، وخرَّ خالد فوقه، ورفع المِغْفر عن رأس زُهير، وقال: يا آل عامر، أَقبلوا جميعاً. فأقبل معاويةُ، فضرِب زهيراً على مَفْرق رأسه ضرِبةً بلغت الدِّماغ، وأقبل ورَقاء بن زُهير فضرب خالداً وعليه درعان فلم يُغن شيئاً، وأجهض ابنا زُهير القوم عن زهير واحتملاه وقد اثخنته الضَّربة، فمنعوه الماء. فقال: أَميِّتٌ أنا عَطشاً؟ اسقُوني الماء وإن كانت فيه نفسي. فسقَوْه فمات بعد ثلاثة أيام. فقال في ذلك وَرقاء ابن زُهير:
رأيتُ زهيراً تحت كَلْكل خالدٍ ... فأقبلتُ أَسعَى كالعَجول أُبادرُ
إلى بَطَليْن يَنْهضان كلاهما ... يردان نصل السيف والسيف نادر
فشُلَّت يميني يومَ أضربُ خالداً ... ويمنعه مني الحديد المظاهر
فيا ليت أنّي قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بُشِّرْتِ بي إذ وَلَدْتِني ... فماذا الذي ردت عليك البشائر
وقال خالدُ بن جعفر في قتله زُهيراً:
بل كيف تكْفُرني هوازنُ بعدما ... أعتقتهُم فتوالدوا أحرار
وقتلتُ رَبّهمُ زُهيراً بعدما ... جَدَع الأنُوف وأَكثر الأوتارا
وجعلتُ مَهر بناتِهم ودياتِهم ... عَقْل الملوك هَجائنا وبِكارا
يوم بطن عاقل
لذبيان على عامر
فيه قُتل خالد بن جَعفر ببطن عاقل. وذلك أن خالداً قَدم على الأسود بن المُنذر، أخي النُّعمان بن المُنذر، ومع خالد عُروة الرحَّال بن عُتبة بن جعفر. فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غَيظ بن مُرَّة بن عَوف بن سعد ابن ذُبيان عند الأسود بن المُنذر. قال: فدعا لهما الأسود بتَمر. فجيء به على نِطْع فجُعل بين أيديهم. فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث، ألا تَشكر يدي عندك أن قتلتُ عنك سيّدَ قومك زُهيراً وتركتك سيدَهم؟ قال: سأَجزيك شُكْر ذلك. فلما خرج الحارث قال الأسود لخالد ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب وأنت ضيفي فقال له خالد: إنما هو عَبد من عَبيدي لو وجدني نائماً ما أَيقظني. وانصرف خالدٌ إلى قُبَّته، فلامه عِروةُ الرحّال. ثم ناما وقد أشرجت عليهما القُبة، ومع الحارث تَبيع له من بني مُحارب يقال له خِرَاش. فلما هدأت العُيون أخرج الحارث ناقتَه، وقال لِخَراش: كُن لي بمَكان كذا، فإن طَلع كوكب الصُّبح ولم آتِك فانظُر أي البلاد أحب إليك فأعمِد لها. ثم انطلق الحارث حتى أتى قُبةَ خالد فهتك شرَجَها، ثم ولَجها، وقال لعُروة: أسكُت فلا بأس عليك.

وزعم أبو عُبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالداً وهو نائم فقتله، ونادى عُروة عند ذلك: واجِوَارَ المَلك! فأقبل إليه الناسُ، وسَمع الهُتافَ الأسودُ بن المُنذر، وعنده امرأة من بني عامر، يقال لها المُتجردة، فشقت جَيبَها وصرَخت. وفي ذلك يقولُ - عبد الله بن جَعدة:
شَقت عليكَ العامرية جَيْبَها ... أسفاً وما تَبْكِي عليكَ ضلا
يا حارِ، لو نَبهتَه لوجدتَه ... لا طائشاً رعِشاً ولا مِعْزالا
واغرورقت عيناي لما أخْبرت ... بالجَعفري وأسبلتْ إسبالا
فلنقتلنَ بخالدٍ سرواتِكم ... ولنجعلنْ للظالمين نَكالا
فإذا رأيتُم عارضاً متهللاً ... مِنّا فإنا لا نُحاول مالا
يوم رحرحان
لعامر على تميم
قال: وهرب الحارثُ بن ظالم ونَبَتْ به البلادُ، فلجأ إلى مَعبد بنِ زُرارة، وقد هَلك زرارةُ، فأجاره. فقالت بنو تميم لمَعبد: مالك آويتَ هذا المَشئوم الأنكد، وأغريت بنا الأسود؟ وخَذلوه غير بني دمَاوية، وبني عبد الله ابن دارم. وفي ذلك يقول لَقيطُ بن زُرارة:
فأمَا نَهشلٌ وبنو فُقَيْم ... فلم يَصبِر لنا منهم صَبُورُ
فإنْ تَعمِد طُهيةَ في أمور ... تجدْها ثَم ليس لها نَصير
ويَربوع بأسْفل ذي طُلوح ... وعمرو لا تَحل ولا تَسير
أسيد والهُجيم لها حُصاص ... وأقوامٌ من الجَعْراء عُور
وأسلمنا قبائلُ من تميم ... لها عددٌ إذا حُسبوا كَثير
وأما الآثمان: بنو عَديّ ... وَتيم إذا تُدبرت الأمور
فلا تَنعم بهم فِتيانَ حَرْب ... إذا ما الحيُ صبحهم نذير
إذا ذهبت رماحُهمِ بزَيْد ... فإن رِماحَ تَيْم لا تَضير
قال: وبلغ الأحوصَ بن جعفر بنِ كلاب مكانُ الحارث بن ظالم عند مَعبد، فغزى مَعبداً، فالتقَوْا برَحرحان. فانهزمت بنو تَميم وأسر مَعبد ابنُ زرارة، أسره عامرٌ والطفيل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لَقيطُ ابن زُرارة عليهم في فِدائه، فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقال: لا يا أبا نَهشل، أنت سيد الناس وأخوكَ معبد سيد مضر، فلا نقبل فيه إلا ديةَ مَلِك. فأبى أن يَزيدهم، وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحداً في ديته على مائتي بعير. فقال مَعبد للقِيط: لا تَدَعْني يا لقيط، فوالله لئن تركتَني لا تراني بعدها أبداً. قال: صبراً أبا القَعقاع، فأين وصاة أبينا ألا تُؤكلوا العربَ أنفسكم، ولا تَزيدوا بفدائكم على فِداء رجل منكم، فَتذْؤُب بكم ذُؤبان العرب. ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبداً الماءَ وضارّوه حتى مات هُزالا.
وقيل: أبَى معبد أن يَطعم شيئا أو يَشرب حتى مات هُزالا. ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل:
قضينا الجَوْن من عبس وكانت ... منية مَعبد فينا هُزالاَ
وقال جرير:
وليلةَ وادي رَحْرحان فَرَرْتُم ... فِراراً ولم تُلْووا زَفيفَ النعائِم
تركتم أبا القَعقاع في الغُل مُصْفَداً ... وأيَ أخ لم تسلموا
وقال:
وبرَحرحان غداةَ كُبِّل مَعبد ... نَكَحوا بناتِكم بغَير مُهورِ
يوم شعب جبلة
لعامر وعبس على ذبيان وتميم

قال أبو عُبيدة: يوم شِعب جَبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وَقْعة رَحرحان جمع لقيطُ بن زرارة لبني عامر وألب عليهم. وبين يوم رَحرحان ويوم جَبلة سنة كاملة. وكان يوم شِعْب جَبَلة قبلَ الإسلام بأربعين سنة، وهو عام وُلد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عَبس يومئذ في بني عامر حُلفاءَ لهم، فاْستعدى لَقيط بني ذُبيان، لعداوتهم لبني عَبس من أجل حَرب داحس، فأجابته غَطفان كلّها غيرَ بني بدر. وتجمّعت لهم تميم كلها غير بني سَعد، وخرجت معه بنو أَسد لحلْف كان بينهم وبين غَطفان، حتى أتى لقيط الجونَ الكَلْبيّ، وهو ملك هَجر، وكان يَجبى مَن بها من العَرب، فقال له: هل لك في قوم غارِّين قد مَلئوا الأرض نَعماً وشاء فترسلَ معي ابنيك، فما أَصبنا من مال وَسبْى فلهما، وما أصبنا من دم فَلِي؟ فأجابه الجَون إلى ذلك، وجعل له موعداً رأسَ الحَوْل. ثم أتى لقيطٌ النعمانَ بن المُنذر فاسنتجده وأطعمه في الغنائم، فأجابه. وكان لقيطٌ وجيهاً عند الملوك. فلما كان على قَرن الحَول من يوم رَحرحان انهلّت الجيوش إلى لَقيط، وأقبل سِنانُ بن أبي حارثة المُرّي في غَطفان، وهو والد هَرِم بن سِنان الجَواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجونُ ابنيه معاويةَ وعمراً، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسَّان ابن وَبَرة الكَلبيّ. فلما توا فَوْا خرجوا إلى بني عامر، وقد أُنذروا بهم وتَأهّبوا لهم. فقال الأحوصُ بن جعفر، وهو يومئذ رَحَا هوازن، لقيس بنُ زهير: ما ترى؟ فإنك تزعم أنه لم يَعْرض لك أمران إلا وجد تَ في أحدهما الفَرج. فقال قيسُ ابن زهير: الرأي أن نَرتحل بالعِيال والأموال حتى نَدْخل شِعْب جَبلة فنُقاتِل القوم دونها من وَجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشِّعب، وإنّ لقيطاً رجل فيه طَيش فسيقتحم عليك الجبَل، فأرى لك أن تأمر الإبل فلا تَرعى ولا تُسقى وتُعقل، ثم تَجعل الذّراري وراء ظُهورنا، وتأمر الرجالَ فتأخذُ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشِّعب حَلّت الرّجّالة عُقل الإبل، ثم لَزِمت أذنابَها، فإنها تنحدر عليهم وتحنّ إلى مرعاها وورْدها، ولا يَردّ وجوهَها شيء، وتخرج الفُرسان في إثر الرّجّالة الذين خلفَ الإبل فإنها تُحطّم ما لقيت وتُقبل عليهم الخيل، وقد حُطِّموا من عَل. قال الأحوص: نِعم ما رأيت، فأخذ برأيه. ومع بني عامر يومئذ بنو عَبس، وغنى في بني كِلاب، وباهلةُ في بني كعب، والأبناءُ أبناء صَعصعة. وكان رهط المُعَقَر البارقيّ يومئذ في بني نُمير بن عامر، وكانت قبائل بَجيلة كُلّها فيهم غير قَسْر. قال أبو عُبيدة: وأقبل لَقيط والملوك ومن مَعهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شِعْب جَبلة، فنزلوا على فَم الشِّعب. فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فَم الشِّعب حتى يَعْطشوا ويَخْرجوا، فوالله ليتساقطُنّ عليكم تساقطَ البَعَر من أست البعير. فأتوا حتى دخلوا الشِّعب عليهمِ، وقد عقلوا الإبل وعَطّشوها ثلاثة أخماس، وذلك اثنتا عشرةَ ليلة، ولم تَطْعم شيئاً. فلما دخلوا حلّوا عُقُلَها، فأقبلت تهوي. فسمع القومُ دَويها في الشِّعب، فظنوا أن الشِّعب قد هُدم عليهم، والرّجالة في إثرها آخذين بأذنابها، فدقّت كلَّ ما لقيتْ، وفيها بَعير أعور يتلوه غلام أعسر أخذٌ بذنبه وهو يرتجز ويقول: " أنا الغلامُ الأعسر الخيرُ فيِّ والشرّ والشرُّ في أَكثرْ " فانهزموا لا يُلوون على أحد. وقُتلَ لقيطُ بنُ زُرارة، وأسر حاجبُ بن زرارة، أسره ذو الرُّقَيْبة. وأسر سِنان بن حارثة المُري، أسره عُروة الرحال، فجزّ ناصيَته وأطلقه، فلم تَشِنْه. وأسر عمرو بن أبي عمرو بن عُدس، أسره قيس بن المُنتفق، فجزّ ناصيته ناصيته وخلاّه طَمعاً في المُكافأة، فلم يَفعل. وقُتل معاوية بن الجَوْن، ومُنقذ بن طَرِيف الأسدي، ومالك بن رِبْعيّ بن جَندل ابن نَهشل. فقال جرير:
كأنك لم تَشهدْ لَقِيطاً وحاجباً ... وعمرو بنَ عمرو إذ دَعا يا لَدَارم
ويومَ الصّفا كُنتم عَبيداً لعامر ... وبالحَزْن أصبحتم عَبيدَ اللَهازم
يعنى بالحَزن يومَ الوقيط. وقال جرير أيضاً في بني دارم:
ويومَ الشِّعب قد تَركوا لَقِيطاً ... كأنّ عليه حُلّةَ أرْجوانِ
وكبل حاجبٌ بشِمام حَوْلاً ... فحكَم ذا الرًّقيبة وهو عَانى

ِوقالت دخْتَنوس بنت لَقيط تَرثي لَقيطاً:
فَرَّت بنو أسد فِرا ... رَ الطيْر عن أربابها
عن خَير خِنْدف كلها ... مِن كهلها وشَبابها
وأتَمَها حسباً إذا ... نُصَّتْ إلى أحسابها
وقال المُعقَر البارقيّ:
أمِن آل شَعثاء الحُمول البَواكرُ ... مع الصُّبح أم زَالتْ قُبيلُ الأباعرُ
وحَلت سُليمى في هِضاب وأيكة ... فليس عليها يومَ ذلك قادر
وألقتْ عَصاها واستقرت بها النَوى ... كما قَرّ عيناً بالإياب المُسافر
وصبحها أملاكُها بكتَيبةٍ ... عليها إذا أمستْ من الله ناظر
مُعاويةُ بنُ الجَون ذُبيانُ حولَه ... وحسان في جَمع الرِّباب مُكاثر
وقد زَحفتْ دُودان تَبغي لثأرِها ... وجاشت تميم كالفُحول تُخاطر
وقد جَمَعوا جمعاً كأنَّ زُهاءه ... جراد هَفا في هَبْوة مُتطاير
فمرّوا بأطناب البُيوت فردّهم ... رجال بأطناب البيوت مَساعر
فباتوا لنا ضيفاً وبِتْنا بنِعْمة ... لنا مُسْمِعاتٌ بالدُّفوف وزامِر
فلم نَقْرهم شيئاً ولكنْ قِراهُم ... صَبوح لدينا مَطْلَع الشمس حازِر
وصَبَحهم عد الشَرُوق كتائب ... كأركان سَلْمى سيرُها مُتواتر
كأن نَعام الدَوَ باض عليهمُ ... وأعينهمُ تحت الحَبيك خَوازر
مِن الضاربين الهام يَمْشون مَقدماً ... إذا غُصّ بالرِّيق القليل الحَناجر
أضنّ سرَاةُ القوم أنْ لن يُقاتلوا ... إذا دُعيت بالسَّفْح عَبْسٌ وعامر
ضربنا حَبِيك البَيْض يا غَمر لجة ... فلم يَنج في الناجِين منهم مُفاخر
هوى زَهْدمٌ تحت العَجَاج لحاجب ... كما انقضّ بازٍ أقتمُ الرِّيش كاسر
يُفرّج عنّا كُلَّ ثَغرٍ نخافه ... مِسَحّ كسِرْحان القَصيمة ضَامر
وكُلُّ طَموح في العِنان كأنها ... إذا اغتمَست في الماء فَتْخاء كاسِر
لها ناهضٌ في الوَكْر قد مهدت له ... كما مَهَدت لِلبَعْل حَسناءُ عاقِرِ
تخاف نِساءً يَبْتَززن حِليلَها ... مُحرَّبةٌ قد أحْردتها الضرائر
استعار هذا البيت فألقت عصاها من المُعَقّر البارقيّ، إذ كان مثلاً في الناس، راشدُ بن عبد ربّه السُّلمى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبا سُفيان بن حرب عَلَى نَجران فولاّه الصلاةَ والحَرب، ووجّه راشدَ ابن عبد ربّه السُّلمى أميراً على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربّه:
صحا القلب عن سَلْمى وأقْصر شأْوه ... ورَدّت عليه تبتغيه تًماضرُ
وحَلّمه شَيْبُ القَذال عن الصِّبا ... وللشَّبيبُ عن بَعض الغَواية زاجر
فأقصر جهلي اليومَ وارتد باطلي ... عن اللهو لما أبيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعدَ صحْوه ... بمَعرض ذي الآجام عِيسٌ بَواكر
ولما دنتْ من جانب الغُوط أخصبت ... وَحلّت فلاقاها سُلَيم وعامر
وخبّرها الرُّكبان أنْ ليس بينها ... وبين قُرى بصرى ونَجران كافر
فألقت عَصاها واستقرَّت بها النِّوى ... كمَا قَر عيناً بالإياب المُسافر
فاستعار هذا البيت الأخير من المُعقّر البارقيّ، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثّلهم به.
يوم مقتل الحارث بن ظالم
بالخَربَة

قال أبو عُبيدة: لما قَتل الحارث بنُ ظالم خالدَ بن جعفر الكِلابيّ أتى صديقاً له من كِندة، فالتفَّ عليه، فطلبه الملك، فخَفَّى ذكره. ثم شَخص من عند الكِنْديّ، وأضمرته البِلاد حتى استجار بزياد، أحد بني عِجل بن لُجيم، فقام بنو ذُهل بن ثَعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعِجْل: أخْرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقَة لنا بالشهباء ودَوْسر - وهما كتيبتان للأسود بن المُنذر - ولا بمُحاربة الملك. فأبتْ ذلك عليهم عِجْل. فلما رأى ذلك الحارثُ ابنُ ظالم كَرِه أن يَقع منهم فِتْنة بسببه، فأرتحل من بني عِجْل إلى جَبلَي طيىء، فأَجاروه، فقال في ذلك:
لَعمري لقد حَلِّ بي اليومَ ناقَتي ... على ناصِر من طَيىّء غير خاذل
فأصبحتُ جاراً للمَجرَّةِ فيهم ... على باذخ يعلو يدَ المتطاول
إذا أَجأ لفت علِيَّ شِعابَها ... وَسَلْمى فأني أنتمُ مِن تَناولي
فمكث عندهم حِيناً ثم إنّ الأسود بن المُنذر لما أَعجزه أمره أرسل إلى جارات كُنّ للحارث بن ظالم، فاستاقهنّ وأموالهن. فبلغِ ذلك الحارثَ ابنَ ظالم، فخرج من الجَبلين، فاندسَّ في الناس حتى عَلمِ مكان جاراته ومَرعى إبلهن، فأتاهنّ فاستنقذهنّ، واستاق إبلَهن فألحقهنّ بقومهن، واندس في بلاد غَطفان، حتى أتى سِنانَ بن أبي حارثة المُري، وهو أبو هَرِم الذي كان يمدحه زُهير. وكان الأسود بن المنذر قد اْسترضع ابنه شَرَحْبيل عند سَلْمى امرأة سِنان، وهي من بني غَنم بن دُودان بن أسد، فكانت لاَ تأمن على ابن الملك أحداً، فاستعار الحارث بن ظالم سَرج سِنان، وهو في ناحية الشَّرَبَّة لا يعلم سِنَان ما يُريد، وأتى بالسّرْج امرأة سنان وقال لها: يقول بعلُك: ابعثي بابن الملك مع الحارث، فإني أريد أن أستأمن له الملكَ، وهذا سرجُه آية ذلك. قال: فزينته سَلْمى ودفعتْه إليه. فأتى بِه ناحيةً من الشرَبة فقَتله، وقال في ذلك:
أخصْيي حِمارٍ بات يَكْدِم نَجْمةً ... أتُؤكل جاراتي وجارُك سالمُ
علوتُ بذي الحيات مَفْرقَ رأسِه ... ولا يركب المَكْروهَ إلا الأكارم
فتكتُ به كما فتكتُ بخالد ... وكان سِلاحي تَجْتويه الجماجم
بَدأتُ بذاك وانثنيتُ بهذه ... وثالثة تَبيضّ منها المَقادم
قال: وَهَرب الحارث من فَوره ذلك، وهَرب سنان بن أبي حارثة. فلما بلغ الأسودَ قتلُ ابنه شرحبيل، غزا بنِي ذُبيان، فقتل وسَبى وأخذ الأموال، وأغار على بني دُودان، رَهْطِ سَلْمى التي كانِ شرحبيل في حِجرها، فقتلهم وسبَاهم، بسَط أرِيك. قال: فوجد بعد ذلك نَعلي شرحبيل في ناحِية الشَّربة عند بني مُحَارب بن خَصفة، فغزاهم الملك، ثم أسرهم، ثم أحْمَى الصَّفا، وقال: إني أحذيتكم نعالاً، فأمشاهم على ذلك الصفا، فتساقطت أقدامهم. ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفَزاري احتمل للأسود ديةَ ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورَهنه بها قوسَه فوفاه بها، فقال في ذلك:
ونحن رهنا القوسَ ثُمَّتَ فودِيت ... بألفٍ على ظَهر الفَزاري أقْرعاً
بعشر مِئين للملوك وفَى بها ... ليُحمَد سيار بن عمروٍ فأسرعا
وكان هذا قبل قَوس حاجب. وقال في ذلك أيضاً:
وهل وجد تُم حاملاً كحاملي ... إذ رَهن القوسَ بألفٍ كامل
بِدِية ابن المَلِك الحُلاحِل ... فافتكها مِن قَبل عام قابِل
سيار الموفى بها ذو النَائل وهرب الحارث فلحق بمَعبد بن زُرارة، فاستجار به فأجاره، وكان من سَببه وقعة رَحْرَحان التي تقدم ذكرها. ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش، لأنه يقال إن مُرة بن عَوف بن سعد بن ذبيان، إنما هو مُرة بن عَوف بن لؤي ابن غالب، فتوسَّل إليهم بهذه القَرابة، وقال في ذلك:
إذا فارقتُ ثَعلبة بنَ سَعْد ... وإخوتَهم نسبت إلى لُؤيّ
إلى نَسب كريم غير دَغْل ... وحيٍّ من أكارم كُلّ حَيّ
فإمْ يك منهمُ أصْلي فمنهم ... قَرابين الإله بني قُصي
فقالوا: هذه رَحم كَرْشَاء، إذ استغنيتُم عنها لنْ يَتِرَكم. قال: فشخص الحارث عنهم غَضبان، وقال في ذلك:
ألا لستم منّا ولا نحن منكُم ... بَرِئْنا إليكم من لُؤي بن غالب

غَدَوْنا على نَشْز الْحِجاز وأنتم ... بمنشعب البَطْحاء بين الأخاشب
وتوجّه الحارث بن ظالم إلى الشام فلحق بيزيدَ بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه. وكان ليزيد ناقة مُحماة، في عُنقها مُدية وزِناد وصُرَة مِلْح، وإنما كان يَمتحن بها رعيِّته لينظر مَن يجترئ عليه. فوَحِمت امرأة الحارث فاشتهت شَحماً في وَحَمها، فانطلق الحارثُ إلى ناقة الملك فانتحرها، وأتاها بشَحمها، وفُقدت الناقة، فأرسل الملكُ إلى الخِمْس التغلبي، وكان كاهناً، فسأله عن الناقة، فأخبره أنِّ الحارث صاحبها. فهَم الملك به، ثم تذمم من ذلك. وأوجس الحارثُ في نفسه شرّاً، فأتى الخِمْس التّغلبيّ فقَتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقَتله. قال: أيها الملك، إنك قد أجرتَني فلا تَغْدرنّ بي. فقال الملك: لا ضَير إن غدرتُ بك مرة لقد غدرتَ بي مراراً. وأمر ابنَ الخِمْس. فقَتله وأخذ ابنُ الخِمْس سيفَ الحارث فأتى به عُكاظ في الأشهر الحُرم، فأراه قيسَ بن زُهير العبسيّ، فضربه به قيسٌ فقَتله، وقال يرثي الحارثَ بن ظالم:
ومَا قصَرتْ من حاضنٍ سترَ بَيتها ... أبرّ وأوفَى منك حارِ بنَ ظاِلم
أعز وأحمَى عند جارٍ وذِمّة ... وأضرَبَ في كابٍ من النّقع قاتم
حرب داحس والغبراء
وهي من حُروب قيس قال أبو عُبيدة: حرب داحس والغبراء بين عَبس وذُبيان، ابني بَغيض بن رَيْث بن غَطفان. وكان السبب الذي هاجها أنّ قيسَ بن زُهير وحَمل بن بَدر تَراهنا على داحسِ والغَبراء، أيهما يكون له السَّبْق، وكان داحس فحلاً لقيس ابنُ زهير، والغبراء حِجْراً، لحَمَل بن بَدْر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، وجعلا مُنتهى الغاية مائة غَلْوة، والإضمار أربعين ليلة، ثم قادوهما إلى رأس المَيدان بعد أن أَضمروهما أربعين ليلة، وفي طَرف الغاية شِعاث كثيرة. فأكمن حَملُ بن بدر في تلك الشّعاب فِتْيانا على طريق الفَرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردّوا وجهه عن الغاية. قال: فأرسلوهما فأحضرا، فلما احضرا خَرجت الأنثى من الفحل. فقال حَمَل بن بدر: سبقتُك يا قيس. قال قيس: رُوَيدا يَعْدُوان الجَدَد إلى الوَعْث ترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أَوغلا في الجَدد وخرجا إلى الوَعْث بَرز داحس عن الغَبراء فقال قيس: جَرْي المُذْكيات غِلاء، فذَهبت مثلاً. فلما شارف داحس الغاية ودنا من الْفِتية، وَثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية. ففي ذلك يقول قيسُ بن زُهير:
وما لاقيت من حَمل بن بَدْر ... وإخوته على ذاتِ الإصادِ
هُمُ فَخروا عليّ بغير فَخْر ... وردّوا دون غايته جَوادي
ثارت الحرب بين عبس وذُبيان، ابني بَغيض، فبقيت أربعين سنة لم تُنتَج لهم ناقه ولا فَرس، لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنَه مالكاً إلى قيس بن زُهير يطلب منه حَق السبتى. فقال قيس: كلا، لأمطُلنك به، ثم أخذ الرُّمح فَطعنه به فدقّ صلبه، ورجعت فرسه عارية فاْجتمع الناسُ فاحتملوا دية مالك مائة عُشَراء. وزعموا أن الرَّبيع بن زياد العَبسيّ حَملها وحدَه، فقَبضها حُذيفة وسكن الناس. ثم إن مالك بن زهير نزل اللُّقاطة من أرض الشربّة، فأخبر حُذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عَنترة الفوارس:
فللّه عَينَا مَن رَأى مثلَ مالِكٍ ... عَقيرةَ قوم أن جَرَى فَرَسان
فليتهما لم يَجريا قَيْد غَلوة ... وليتهما لم يُرْسَلا لِرهان
فقالت بنو عَبس: مالك بن زُهير بمالك بن حُذيفة، ورُدّوا علينا مالَنا. فأبَى حذيفةُ أن يردّ شيئاً. وكان الربيعُ بن زياد مجاوراً لبني فَزارة، ولم يكن في العَرب مثلُه ومثلُ إخوته، وكان يقال لهم الكَمَلة، وكان مُشاحناً لقيس بن زهير من سَبب دِرْع لقيس غَلبه عليها الربيعُ بن زياد، فاطّرد قيسٌ لَبوناً لبني زياد فأتى بها مكةَ، فعاوض بها عبد الله بن جُدعان بسلاح، وفي ذلك يقول قيس ابن زُهير:
ألم يبلغك والأنباءُ تنْمِي ... بما لاقت لَبون بني زِياد
ومَحْبسها على القُرشيّ تُشْرى ... بأدراع وأسياف حِداد
وكنتُ إذا بُليت بخَصم سَوء ... دَلفتُ له بدَاهية نآد

ولما قُتل مالك بن زُهير قامت بنو فَزارة يسألون ويقولون: مَا فعل حِماركم؟ قالوا: صِدْناه. فقال الربيع: ما هذا الوَحْي؟ قالوا: قتلنا مالكَ بن زهير. قال بئسما فعلتم بقَومكم، قَبلتم الدِّية، ثم رَضيتم بها وغَدرتم. قالوَا: لولا أنك جارنا لقَتلناك، وكانت خُفرة الجار ثلاثاً. فقالوا له: بعد ثلاث ليال: اخرُج عنا. فخرج وأتبعوه فلم يَلحقوه، حتى لَحق بقومه. وأتاه قيسُ بن زهير فعاقده. وفي ذلك يقول الربيع:
فإنْ تكُ حَربُكم أمستْ عوَانا ... فإني لم أكُن ممَن جَناها
ولكنْ وُلْد سودة أرثوها ... وَحشُوا نارها لِمَن اصطلاها
فإنّي غيرُ خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بَلغت مداها
ثم نَهضت بنو عَبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان إلى بني فَزارة وذُبيان، ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بني فَزارة حُذيفة بن بَدر.
يوم المريقب
لبني عبس على فزارة
فالتقوا بذي المرَيْقِب: من أرض الشربة؟ فاقتتلوا، فكانت الشوكةُ في بني فَزارة، قُتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين، أحد بني عديّ بن فَزارة، وضَمضم أبو الحصين المُري، قتله عَنترة الفوارس، ونَفر كثير ممن لا يعرف أسماؤهم. فبلغ عنترةَ أنّ حُصينا وهَرِماً، ابني ضَمضم، يشتُمانه ويُواعدانه فقال في قصيدته التي أولها:
يا دار عَلبة بالجوَاء تَكلَمي ... وعِمِي صَباحاً دَار عَبلة واسلمي
ولقد خَشيتُ بأن أمَوتَ ولم تَدُر ... للحَرْب دائرةُ على ابنى ضَمْضم
الشاتِمَي عِرْضى ولم أشتمهما ... والناذِرين إذا لم ألْقَهما دَمي
إن يَفعلا فلقد تركت أباهما ... جَزَر السباع وكل نَسر قَشْعم
لما رآني قد نزلتُ أريده ... أبدى نواجذَه لغَير تَبسم
وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس:
فلتعلَمن إذا التقت فُرسانُنا ... يوم المُريقب أنَ ظنك أحمقُ
يوم ذي حسى
لذبيان على عبس
ثم إن ذُبيان تجمّعت لِمَا أصابت بنو عَبْس منهم يومَ المُريقب: فزارةُ، ابن ذُبيان، ومُرة بن عَوف بن سعد بن ذُبيان، وأحلافُهم، فنزلوا فتوافَوْا بذي حُسَا، وهو وادي الصفا من أرض الشَرّبة، وبينها وبين قَطن ثلاث ليال، وبينها وبين اليَعْمرية ليلة. فهربت بنو عَبر، وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذُبيان، واتبعوهم حتى لَحقوهم، فقالوا: التَفاني أو تُقيدونا. فأشار قيسُ ابن زُهير على الربيع بن زياد ألا يُناجزوهم وأن يُعطوهم رهائنَ من أبنائِهم حتى ينظروا في أمرهم. فتراضَوْا أن تكون رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو، أحدِ بني ثعلبة ابن سعد بن ذبيان. فدَفعوا إليه ثمانيةً من الصِّبيان وانصرفوا، وتكاف الناس. وكان رأيُ الربيع مُناجزَتهم. فصرفه قيس عن ذلك. فقال الربيع:
أقول ولم أملك لقَيْس نصيحةً ... أرى ما يَرى واللهُ بالغَيبِ أعلم
أَتُبقي على ذُبيان في قَتل مالك ... فقد حَشَ جاني الحَرب ناراً تَضرَّم
فمكثت رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو حتى حضرتْه الوفاة، فقال لابنه مالك ابن سُبيع: إن عندك مكرمةً لا تَبيد، لا ضَيْرَ إنْ أنت حفظتَ هؤلاء الأغَيلمة، فكأَنّي بك لو متَُّ أتاك خالُك حُذيفة بنُ بدر فعَصر لكَ عيْنيه وقال: هلك سيدُنا، ثم خَدعك عنهم حتى تَدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبداً، فإن خِفْتَ ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك شبيع أطاف حُذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه. فأتى بهم اليَعْمريّة، فجعل يُبرز كل يوم غُلاماً فينصبه غَرضاً، ويقول: نادِ أباك. فيُنادي أباه حتى يَقتله.
يوم اليعمرية
لعبس على ذبيان
فلما بلغ ذلك مِن فِعل حُذيفة بني عبس أَتوهم باليَعْمرية فلقُوهم - بالحَرَّة، حرَّة اليعمريّة - فقتلوا منهم اثني عشر رجلاً، منهم: مالكُ بن سُبيع الذي رَمَى بالغِلْمة إلى حُذيفة، وأخوه يزيدُ بن سُبيع، وعامر بن لَوذان، والحارث بن زَيد، وهرم بن ضَمضم، أخو حُصين. ويقال ليوم اليعمريّة يوم نفْر، لأنّ بينهما أقلَّ من نصف يوم.
يوم الهباءة
لعبس على ذبيان

ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جَنب جَفْر الهَباءة، واقتتلوا من بُكرة حتى أنتصف النهار، وحَجز الحرّ بينهم، وكان حُذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركضُ فقال قيس بن زهير: يا بني عبس، إن حذيفة غداً إذا احتدمت الوديقة مُستنقع في جَفْر الهَباءة، فعليكم بها. فخرجوا حتى وَقعوا على أثر صارف، فرس حُذيفة، والحَنْفاء، فرس حَمل بن بذر. فقال قيس بن زهير: هذا أثر الحَنْفاء وصارف، فَقَفَوْا أثَرهما حتى توافَوْا مع الظَّهيرة على الهَباءة. فَبصُر بهم حملُ بن بدر، فقال لهم: من أبغضُ الناس إليكم أن يقف على رؤوسكم؟ قالوا: قيسُ ابنُ زهير والربيعُ بن زياد، فقال: هذا قيسُ بن زهير قد أتاكم. فلم يَنقض كلامُه حتى وقف قيسٌ وأصحابُه على جَفْر الهَباءة، وقيس يقول: لبّيكم لَبَّيكم - يعني إجابة الصِّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يُقتلون - وفي الجفر حُذيفةُ وحَمَل، ابنا بدر، ومالك بن بَدْر، ووَرْقاءُ بن هِلال، من بنِي ثَعلبة بن سعد، وحَنَش بن وهْب. فوقف عليهم شدَّاد بن مُعاوية العَبْسيِّ؛ وهو فارس جَروة، وجروة فرسه، ولها يقول:
ومَنْ يكُ سائلاً عنّي فإنّي ... وجَروةَ كالشِّجا تحت الْوريد
أقوتها بقُوتي إنْ شَتَوْنا ... وألحقها رِدائي في الجَليد
فحال بينهم وبين خَيلهم. ثم توافت فرسان بني عَبس، فقال حَمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس. فقال: لَبيكم لَبَّيكم. فعَرف حُذيفة أنه لن يَدعهم، فأنتهر حملاً وقال: إياك والمأثورَ من الكلام. فَذهبت مثلاً. وقال لقيس: لئن قتلَتني لا تَصلح غطفانُ أبعدها. فقال قيس: أبعْدَها الله ولا أصلحها. وجاءه قِرْواش بمعْبلة، فقَصَم صُلبه. وأبتدره الحارث بن زُهير وعمرو بن الأصلع، فَضرباه بِسَيْفيهما حتى ذفّفَا عليه. وقَتل الربيعُ بن زياد حمَل بن بدر. فقال قيس ابن زهير يَرثيه:
تعَلّم أنّ خيرَ الناس مَيْت ... على جَفْر الهَباءة ما يَرِيم
ولولا ظُلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما طَلع النجوم
ولكن الفَتى حملَ بن بَدر ... بَغى والبَغْيُ مَرْتعه وَخيم
أضن الحلْم دلّ عليّ قَومي ... وقد يُستضعف الرجُل الحليم
ومارستُ الرجالَ ومارَسُوني ... فَمُعْوجٌ عليَّ ومُستقيم
ومثّلوا بحُذيفة بن بدر كما مَثل هو بالغِلْمة، فقَطعوا مَذاكيره وجعلوها في فيه، وجعلوا لسانه في استه. وفيه يقول قائلهم:
فإنّ قتيلاً بالهَباءة في استه ... صحيفتُه إنْ عاد للظُّلم ظالمُ
متى تَقرأوها تَهْدِكم عن ضلالكم ... وتُعرف إِذ ما فُضَّ عنها الخَواتم
وقال في ذلك عَقيل بن علَّفة المرِّي:
ويوقد عوفٌ للعشيرة نارَه ... فهلا على جَفْر الهَباءة أوْقدَا
فإنّ على جَفر الهَباءة هامة ... تُنادي بني بَدر وعاراً مُخلّدا
وإنّ أبا ورد حُذيفَةَ مُثْفَرٌ ... بأيْر على جَفر الهَباءة أسودا
وقال الربيع بن قَعْنب:
خَلُق المَخازي غيرَ أنّ بذي حُسا ... لبني فَزارة خِزْيةً لا تَخْلقُ
تِبْيانُ ذلك أنّ في استِ أبيهم ... شَنعاءَ من صُحف المَخازي تَبْرق
وقال عمرو بن الأسِلع:
إنّ السماء وإنّ الأرض شاهدة ... والله يَشهد والإنسانُ والبَلدُ
أنّي جَزيتُ بني بَدْر بسَعْيهم ... على الهَباءة قَتلاً ماله قَوَد
لمّا التقينا على أَرجاء جُمّتها ... والمَشرفيّة في أيماننا تَقِد
عَلوتُه بحُسام ثم قلتُ له ... خُذْها إليك فأنتَ السيّد الصِّمَد
فلما أصيب أهلُ الهَباءة واستعظمت غَطفان قَتل حُذيفة تجمّعوا، وعَرفت بنو عَبس أنْ ليس لهم مُقام بأرض غَطفان، فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حَنيفة، ثم رَحلوا عنهم فنزلوا ببني سَعد بن زيد مَناة.
يوم الفروق

ثم إنّ بني سَعد غدروا لجوارهم، فأتوا معاويةَ بن الجَوْن فاستجاشوه عليهم وأرادوا أكلَهم. فبلغ ذلك بني عَبس، ففروا ليلاً وقدموا ظُعُنهم، ووقف فرسانهم بمَوضع يقال له الفَرُوق. وأغارت بنو سَعد ومَن معهم من جُنود المَلِك على محلّتهم، فلم يجدوا إلا مَواقد النَيران، فاتبعوهم حتى أتوا الفَروق، فإذا بالخيل والفُرسان، وقد توارت الظعن، فانصرفوا عنهم. ومضى بنو عَبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم وكان بنو جَذِيمة من بني عَبس يُسَمون بني رَوَاحة، وبنو بَدر من فَزارة يُسمون بني سَوْدة. ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم، وكان أول مَن سعى في الحَمالة حَرْملة بن الأشعر بن صِرمة بن مُرَّة، فمات، فسعى فيها هاشمُ ابن حَرملة ابنُه، وله يقول الشاعر:
أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمله ... يوم الهَباتَينْ ويوم اليَعْمَله
ترى المُلوك حولَه مُرعْبله ... يَقْتل ذا الذّنب ومَن لا ذَنْبَ له
يوم قَطَن
فلما توافَوْا للصُلح وقفت بنو عَبس بقَطن، وأقبل حُصين بن ضَمْضم، فلقي تيحان. أحد بني مخزوم بن مالك. فقتله بأبيه ضَمضم، وكان عنترةُ بن شدّاد قتله بذي المُريقب. فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بَلَّ البحر صُوفة، وقد غدرتم بنا غيرَ مرّة، وتنَاهض القومُ عبس وذُبيان، فالتَقَوْا بقَطن، فقَتل يومئذ عمرو بن الأسلع عُيينةَ، ثم سَفرت السفراءُ بينهم، وأتى خارجةُ بن سِنان أبا تَيحان بابنه فدَفعه إليه، فقال: في هذا وفاء من ابنك. فأخذه فكان عنده أياماً. ثم حمل خارجةُ لأبي تيْحان مائةَ بعير قادها إليه واصطلحوا وتعاقدوا.
يوم غدير قَلْهى
قال أبو عُبيدة: فاصطلح الحيان إلاّ بني ثَعلبة بن سَعد بن ذُبيان، فإنهم أبَوْا ذلك، وقالوا: لا نَرضى حتى يُودوا قَتلانا أو يُهدَر دمُ مَن قَتلها. فخرجوا من قَطن حتى وَردوا غدير قلْهى فسَبقهم بنو عَبْس إلى الماء فمَنعوهم حتى كادوا يموتون عَطشَاً ودوابّهم، فاصلح بينهم عوف ومَعقل، ابنا سُبيع، من بني ثعلبة، وإياهما يَعني زُهير بقوله:
تداركتُما عَبْساً وذُبيان بعدما ... تفانَوْا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشَم
فورَدوا حَرباً واخرجوا عنه سَلْما.
تم حرب داحس والغبراء.
يوم الرّقم
لغطفان على بني عامر
غَزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غَطَفان بالرَّقَم - وهو ماء لبني مُرة - وعلى بني عامر عامر بن الطُّفيل - ويقال يزيد بن الصعق - فركب عُيينة بن حِصن في بني فَزارة، ويزيد بن سِنان في بني مُرَّة، ويقال الحارث بن عَوف، فانهزمت بنو عامر، وجعل يقاتل عامر بن الطُّفيل ويقول: " يَا نَفْسُ إلا تقْتلي تَموتي " فزعمت بنو غَطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذٍ أربعةً وثمانين رجلاً، فدَفعوهم إلى أهل بيت من أَشجع، كانت بنو عامر قد أصابُوا فيهم، فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحَكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم جِرِابُ بن كعب، حتى انتهوا إلى ماء يقال له المَرَوراة، فقطع العطشُ أعناقَهم فماتوا، وخنق نفسَه الحكمُ بن الطُّفيل تحت شجرة مخافَة المُثلة. وقال في ذلك عُروة بن الوَرْد:
عجبت لهمِ لمْ يَخْنقون نُفوسهم ... ومَقْتلهم تحت الوَغى كان أجدرَا
يوم النُّتَأة
لعبس علي بني عامر
خرجتْ بنو عامر تُريد أن تدرك بثأرها يوم الرِّقم، فجمعوا على بني عَبس بالنُتَأة وقد أنذروا بهم، فالتقوا، وعلى بني عامر عامرُ بن الطُّفيل، وعلى بني عَبس الربيعُ بن زياد، فاقتتلوا قتالاً شديداً. فانهزمت بنو عامر وقُتل منهم صَفوان بن مُرة، قتله الأحنفُ بن مالك، ونهشل بن عُبيدة بن جعفر، قَتله أبو زُعبة بن حارث: وعبدُ الله بن أَنس بن خالد. وطَعنِ ضبيعةُ بن الحارث عامرَ بن الطُّفيل فلم يَضرّه، ونجا عامر، وهُزمت بنو عامر هَزيمةَ قَبيحة. فقال خراشةُ بن عمرو العَبْسي:
وسارو على أَظمائهم وتَواعدُوا ... مِياهاً تحامتها تَميم وعامِرُ
كأنْ لم يكن بين الذُّنَاب وواسطٍ ... إلى المُنحنَى مِن ذي الأراكة حاضر
ألا أَبْلِغَا عنّي خَلِيلِيَ عامراً ... أتَنْسى سُعادَ اليومَ أم أنتَ ذاكِر

وصدتك أطرا فُ الرِّماحِ عن الهَوى ... ورُمتَ أموراً ليس فيها مَصادر
وغادرتَ هِزّانَ الرئيس ونَهشلاً ... فلله عينا عامرٍ مَن تُغادر
وأسلمتَ عبدَ الله لما عرفتَهم ... ونَجّاك وثّابُ الجَرَاميز ضَامر
قَذَفْتَهمُ في الموت ثم خَذلْتهم ... فلا وَالت نفس عليك تحاذر
وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطُّفيل هو الذي طَعن ضُبيعة بن الحارث، ثم نجا من طَعنته، وقال في ذلك:
فإن تَنجُ منها يا ضُبيع فإنّني ... وَجدِّك لم أعقِدْ عليك التَّمائمَا
يوم شُوَاحط
لبني محارب على بني عامر
غَزت سرّيةٌ من بني عامر بن صعصعة بلاَد غَطفَان، فأغارت على إبل لبني مُحارب بن خَصَفة، فأدركهم الطلبُ، فقتلوا من بني كلاب سَبعةً واْرتدّوا وإبلهم. فلما رجعوا من عندهم وَثب بنو كلاب على جَسْر، وهم من بني مُحارب، كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صَعصعة، فقالوا: نَقتلهم بقَتل بني محارب من قَتلوا منّا. فقام خِداش بن زُهير دونهم حتى مَنعهم من ذلك، وقال:
أيا راكباً إمّا عرِضتَ فبلّغنْ ... عَقِيلاً وابْلغ إن لقيتَ أبا بَكْر
فيا أخَوَينا من أبينا وأمنا ... إليكم إليكم لا سبيلَ إلى جَسْر
دعُوا جانبي إني سأترك جانباً ... لكم واسعاً بين اليَمامة والقَهرْ
أبى فارسُ الضَحياء عمرو بنُ عمرو ... أبي الذَّم واختار الوَفاء على الغَدْر
يوم حوّزة الأول
لسُلَيم على غطفان
قال أبو عُبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حَرْملة، أحد بني مُرة بن غطفان، كلام بعُكاظ، فقال معاوية: لوددتُ والله أني قد سمعتُ بظعائنَ يَنْدبنْك. فقال هاشم: والله لوددتُ أني قد تَربت الرَّطْبة - وهي جْمة معاوية، وكان الدهرَ تَنطِف ماءً ودُهنا وإن لم تُدْهن - فلما كان بعدُ تهيأ معاوية ليغزو هاشماً، فنهاه أخوه صخر. فقال، كأني بك إن غزوتهم علق بجمَتك حسك العُرْفط. قال: فأبى مُعاوية وغزاهم يوم حوزة، فرآهم هاشم بن حرملة قبل أن يراه مّعاوية، وكان هاشماً ناقهاً من مَرض أصابه، فقال لأخيه دُريد ابن حَرملة: إنّ هذا إن رآني لم آمَن أن يَشد عليّ وأنا حديثُ عهد بشَكِيَّة، فاستَطْرِدْ له دوني حتى تجعلَه بيني وبينك، ففعل. فحمل عليه معاويةُ وأردفه هاشم، فاختلفا طَعنتين، فأردى معاويةُ هاشماً عن فرسه الشمّاء، وأنفذ هاشم سِنانة من عانة معاوية. قال: وكَرّ عليه دُريد فظنّه قد أرْدى هاشماً، فضرب معاويةَ بالسيف فقتله، وشدَّ خِفافُ بن عُمير على مالك ابن حارث الفَزاريّ: قال: وعادت الشمّاء، فرس هاشم، حتى دخلت في جَيش بني سُليم، فأخذوها وظنّوها فرس الفَزاري الذي قَتله خفاف، ورجع الجيشُ حتى دنوا من صَخْر، أخي معاوية، فقالوا: أنْعم صَباحاً أبا حسان. فقال: حُييتم بذلك، ما صنع مُعاوية؟ قالوا: قُتل. قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قَتلنا صاحبَها. قال: إذاً قد أدركتم ثأركم، هذه فرسُ هاشم بن حرملة.
قال: فلما دخل رجب رَكِب صخرُ بن عمرو الشّماءِ صبيحةَ يوِم حَرام فأتى بني مُرة. فلما رأوه، قال لهم هاشم: هذا صخر فحيوه وقولوا له خيراً، وهاشم مريض من الطعنة التي طَعنه معاوية، فقال: مَن قَتل أخي؟ فسكتوا. فقال: لمن هذه الفرسُ التي تحتي؟ فسكتوا. فقال هاشم: هَلَم أبا حسان إلى مَن يُخبرك. قال: مَن قتل أخي؟ فقال هاشم: إذا أصبتَنِي أو دريداً فقد أصبتَ ثأرَك. قال: فهل كفَّنتموه؟ قال: نعم، في بُردين، أحدهما بخَمس وعشرين بَكْرة. قال: فأروني قبره. فأروه إياه. فلما رأى القبر جَزع عنده، ثم قال: كأنكم قد أنكرتُم ما رأيتُم من جَزعي، فوالله ما بِت منذ عَقَلتُ إلا واتراً أو موتوراً، أو طالباً أو مطلوباً، حتى قُتل معاوية فما ذقت طَعم نوم بعده.
يوم حوزة الثاني

قال: قم غَزاهم صَخر، فلما دنا منهم مضى على الشمّاء، وكانت غَرّاء مُحجّلة، فسوَّد غُرتها وتَحجيلها، فرأتْه بنتٌ لهاشم، فقالت لعمّها دُريد: أين الشمّاء؟ قال: هي في بني سُليم، قالت: ما أشبهها بهذه الفرس. فاستوى جالساً، فقال: هذه فرس بَهيم والشمّاء غَرّاء محجّلة، وعاد فاضطجع. فلم يَشعر حتى طَعنه صخر. قال: فثارُوا وتَناذروا، وولّى صَخر، وطلبته غَطفان عامّةَ يومها، وعارض دونه أبو شَجرة بن عبد العُزّى، وكانت أمه خَنساء أخت صَخر وصَخْر خاله، فرد الخَيل عنه حتى أراح فرسَه ونجا إلى قومه. فقال خُفاف بن ندبه لما قتل مُعاوية: قَتلني الله إن بَرحت مِن مَكاني حتى أثار به، فشدّ على مالك، سيّد بني جُمح، فقَتله، فقال في ذلك:
فإن تَكُ خَيلي قد أصيب صَميمُها ... فَعمْداً على عَيْنٍ على عَين تَيَمَّمْتُ مالكا
نَصبتُ له عَلْوَى وقد خام صُحبتي ... لأَبْنيَ مَجداً أو لأثأر هالكا
أقول له والرمحُ يَأْطر مَتنْه ... تَأَمَّل خُفافاً إنني أنا ذلكا
وقال صَخر يَرثي مُعاوية، وكان قال له قومه، أهجُ بني مُرة. فقال: ما بيننا أجل من القَذْع. وأنشأ يقول:
وعاذلةٍ هَبّت بليلٍ تَلُومني ... ألا لا تلُوميني كَفَى اللومُ مابيا
تقول أَلا تَهْجو فوارسَ هاشم ... وماليَ أنْ أهْجوهم ثُم مالِيا
أبى الذم أنّي قد أصابوا كَريمتيِ ... وأنْ لَيس إهداء الخَنا مِن شِمَاليا
إذا ما أمرؤ أَهدَى لِمَيْتٍ تحيةَ ... فَحَيّاك ربًّ الناس عَنِّي مُعاويا
وهَوَّن وَجدي أنني لم أقُل له ... كذبت ولم أبخلْ عليه بماليا
وذي إخوة قطّعت أقرانَ بَيْنهم ... كما تَركوني واحِداً لا أخَالِيا
وقال في قَتْل دريد:
ولقد دفعت إلى دُريد طَعنةً ... نَجْلاء تُوغَرِ مثل غَطّ المنخُر
ولقد قتلتُكمُ ثُناءَ ومَوْحداً ... وتركتُ مُرّة مِثل أمس الدَّابر
قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حَرملة فإنه خَرج مُنتجعاً، فلقيه عمرُو بن قيس الجشميّ فتَبِعه، وقال هذا قاتلُ مُعاوية، لا وَألتْ نفسي إن وَأل فلما نزل هاشمٌ كَمَن له عمرو بن قَيس بين الشَجر، حتى إذا دنا منه أرسل عليهِ مِعْبلة ففَلق قَحفه فقتله، وقال في ذلك:
لقد قتلتُ هاشمَ بن حَرْمله ... إذ المُلوك حوله مُغَرْبله
يقتل ذا الذَنب ومن لا ذنَب له
يوم ذات الأَثل
قال أبو عُبيدة: ثم غزا صخرُ بن عمرو بن الشَّريد بني أَسد بن خُزيمة واكتسحِ إبلهم فأتى الصريخُ بني أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قِتالاً شَديداً، فطعن ربيعةُ بن ثَور الأسديّ صخراً في جَنبه، وفات القَوم بالغَنيمة. وجرى صخرٌ من الطعنة، فكان مريضاً قريبا من الحَوْل حتى مَلّه أهلُه، فسمِع امرأة من جاراته تسأل سَلْمى امرأته: كيف بعلُكِ؟ قالت: لا حَيّ فيُرجى، ولا ميْت فيُنسىَ، لقد لقينا منه الأمرَّين. وكانت تُسأل أمه: كيف صخر؟ فتقول: أرجو له العافية إن شاء اللّه. فقلل في ذلك:
أرى أُمّ صخر لا تَملّ عِيادتي ... ومَلّت سُلَيمى مَضْجعي ومَكاني
فأيّ امرئ ساوَى بأمّ حَليلةً ... فلا عاش إلا في شَقَى وهَوانَ
وما كنتُ أخشِىَ أن أكونَ جِنازة عليكِ ... ومَن يَغترُّ بالحَدثان
لَعمري لقد نبّهتُ مَن كان نائماً ... وأسمعت مَن كانت له أذنان
أَهُمّ بأمر الحَزْم لو أسْتَطيعه ... وقد حِيل بين العَيْر والنّزوان
فلما طال عليه البلاءُ وقد نَتأت قِطْعة من جَنبه مثْلُ اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعْتها لرجونا أن تَبرأ. فقال: شَأنكم. فقطعوها فمات. فقالت الخَنساء أخته ترثيه
فما بالُ عَينِيَ ما بالُها ... لقد اخضل الدمع سِرْبالَها
أمِن فَقدِ صَخْر من آل الشَري ... د حَلّت به الأرضِ أثقالَها
فآليت أبكي على هالك ... وأسأل نائحةً ما لَها

هممتُ بنَفسيِ كُلَّ الهموم ... فأولَى لنَفسيَ أولى لها
سأحمل نفسي على آلة ... فإمَّا عليها وإما لها
وقالت ترثيه:
وقائلة والنَّعشُ قد فات خَطْوَها ... لِتُدركَه يا لهفَ نَفسي على صَخْرِ
ألا ثَكِلَت أمُّ الذين غَدَوا به ... إلى القبر ماذا يَحملون إلى القَبْرِ
يوم عَدْنِيَّة
وهو يوم مِلْحان
قال أبو عُبيدة: هذا اليوم قبل يوم ذات الأثْل، وذلك أن صخراً غَزا بقومه وترك الحيّ خِلْواً، فأغارت عليهم غطفان، فثارت إليهم غِلْمانهم ومَن كان تخلّف منهمِ، فقُتل من غَطفان نَفر وأنهزم الباقون، فقال في ذلك صَخر:
جزى الله خيراً قومَنا إذ دعاهُم ... بَعْدنِيةَ الحَيُّ الخُلوف المُصبِّح
وغلمانُنا كانوا أسود خَفِيَّة ... وحَقَّ علينا أن يُثابوا وُيمدحوا
هُم نَفَّروا أقرانَها بمُضَرَّس ... وسعْرٍ وَذوا الجَيش حتى تَزحزحوا
كأنهم إذ يُطردون عَشية ... بقُنّة مِلْحان نَعام مُروّح
يوم اللوى
لغطفان على هوازن
قال أبو عُبيدة: غزا عبدُ الله بن الصِّمة - واسم الصمَة معاوية الأصغر، من بني عزيّة بن جُشم بن مُعاوية بن بكر بن هوازن، وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاثُ كنى، فاسمه عبد الله وخالد ومَعبد، وكُنيته أبو فُرغان وأبو ذفافة وأبو وفاء، وهو أخو دُريد بن الصمة لأبيه وأمه - فأغار على عَطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها. فقال له أخوه دُريد: النجاة، فقد ظَفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى انتقع نقيعتي - والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الابل فيَصنع منها طَعاماً لأصحابه ويَقْسم ما أصاب على أصحابه - فأقام وعَصى أخاه، فتتبعته فَزازة فقاتلوه، وهو بمكان يقال له اللَوى، فقُتل عبد اللهّ، وارتُث دُريد فبقي في القَتلى. فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدُهما لصاحبه: إني أرى عينيه تَبِصّ، فأنزل فانظُر إلى سُبتَّه. فنزل فكشف ثوبَه فإذا هي تَرمْز، فطَعنه، فخرج دم كان قد أحتقن. قال دُريد: فأفقتُ عندها، فلما جاوزوني نهضتُ. قال: فما شعرِت إلا وأنا عند عُرقوبيَ جمل امرأة من هَوازن. فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك. قلت: لا، بل مَن أنت؟ ويلك! قالت: امرأة من هَوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دُريد ابن الصَمّة. قال: وكانت في قوم مُجتازين لا يشعرون بالوَقعة، فضمته وعالَجَته حتى أفاق. فقال دُريد يرثي عبد الله أخاه ويذكر عِصْيانه له وعِصْيان قومه بقوله:
أعاذِلَ إن الرزءَ في مِثل خالد ... ولا رُزْءَ فيما أهلك المرءُ عن يَدِ
وقُلت لعارض وأصحاب عارض ... ورَهْطِ بني السوداء والقوم شهَدى
علانيةً ظنُوا بألفي مُدَججِ ... سراتُهم في الفارسيّ المُسرَّد
أمرتُهم أمرِي بمُنقطع اللوى ... فلم يستبينوا الرُشد إلا ضحَى الغَد
فلما عَصَوْني كنتُ منهم وقد أرى ... غَوايتَهم وأنني غيرُ مُهْتدي
وما أنا إلا من غَزِيّة إن غَوَت ... غويتُ وإن تَرْشُد غَزيّة أرْشُد
فإن تُعقب الأيامُ والدهر تَعلموا ... بَني غالب أنا غِضاب لِمَعبد
تنادَوْا فقالوا أردَت الخيلُ فارساً ... فقلتُ أعبدُ الله ذلكم الردي
فإنْ يك عبدُ الله خلَّى مكانَه ... فما كان وقَافاً ولا طائشَ اليَد
ولا بَرِماً إذ ما الرياحُ تناوحتْ ... برَطْب العِضاه والضرّيع المُعضد
كميشُ الإزار خارجٌ نصف ساقه ... صبور على الضراءِ طلاع أنجُد
قليل التشكّي للمَصائب حافظٌ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غَد
وهوَن وَجْدي أنّني لم أَقُل لَه ... كَذَبْت ولم أبْخل بما مَلكتْ يدِي

أبو حاتم عن أبي عُبيدة قال: خَرج دريدُ بن الصِّمة في فوارسَ من بني جشَم، حتى إذا كانوا في وادٍ لبني كِنانة يقال له الأخْرم، وهم يُريدون الغارةَ على بني كنانة، إذ رُفع له رجل في ناحية الوادي معه ظَعينة، فلما نَظر إليه قال لفارس من أصحابه: صِحْ به: خَلِّ عن الظعينة وأنجُ بنفسك. فانتهى إليه الفارسُ وصاح به وألحّ عليه. فألقى زمامَ الناقة وقال للظَّعينة:
سِيرى على رِسْلك سَيْرَ الآمنِ ... سيرَ رَداحٍ ذَاتِ جأشٍ ساكِنِ
إنّ أنثنائي دون قِرْني شائني ... أَبلى بلائي وأخبُري وعايِني
ثم حَمل عليه فصرَعه وأخذ فرسَه فأعطَاه للظِّعينة. فبعث دُريد فارساً آخر لينظرَ ما صَنع صاحبُه. فلما انتهى إليه ورأى ما صَنع صاح به. فتصامم عنه كأن لم يَسمع. فظن أنه لم يَسمع، فغَشيه. فألقى زِمامَ الرَّاحلة إلى الظّعينة، ثم خَرج وهو يقول:
خَلِّ سبيلَ الحُرّة المنيعة ... إنك لاقٍ دونها رَبيعه
في كَفّه خَطِّيَّة مطيعه ... أَوْلا فخُدْها طعنةً سَريعه
والطَّعنُ منّي في الوغَى شريعه
ثم حَمل عليه فصرعه. فلما أبطأ على دُريد بعث فارساً لينظر ما صنعا. فلما انتهى إليهما وجدهما صريعَيْن، ونظر إليه يقود ظعينته ويجُر رُمْحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال للظَّعينة: أقصِدي قصدَ البيُوت، ثمِ أقبل عليه فقال:
ماذا تُريد من شَتيم عابس ... ألم تَر الفارس بعد الفارِس
أَرْداهما عاملُ رُمح يابس
ثم حَمل عليه فصرعه وانكسر رُمحه. وارتاب دُريد فظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقَتلوا الرجل. فلحق دريد ربيعةَ، وقد دَنا من الحيّ، ووجد أصحابَه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إنّ مِثْلك لا يُقتل، ولا أرى معك رُمحك والخيلُ ثائرةٌ بأصحابها، فدونَك هذا الرُّمحَ فإني مُنصرف إلى أصحابي ومُثبِّطهم عنك. فانصرف إلى أصحابه، فقال: إنّ فارس الظَّعينة قد حَماها وقَتل أصحابكم وأنتزع رُمحي، ولا مَطْمع لكم فيه. فانصرف القومُ. فقال دُريد في ذلك:
ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله ... حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتل
أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةّ ... ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل
مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه ... مثل الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيْقل
يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه ... مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل
وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه ... مثلَ البُغاث خَشِين وَقْع الأجْدل
يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه ... يا صاح مَن يَكُ مثلَه لا يجهل
وقال ابنُ مُكَدَم:
إن كان يَنفعكِ اليقينُ فسائلِي ... عنِّي الظعينةَ يومَ وادي الأخْرم
إذ هِي لأوَّل مَن أتاها نُهبة ... لولا طعانُ رَبيعة بنِ مُكَدَّم
إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خَلِّ الظعينَةَ طائعاً لا تَنْدَم
فصرفتُ راحلة الظَّعينة نحوَه ... عمداً ليعلَم بعضَ ما لم يَعلم
وهتكت بالرُّمح الطَّويل إهابه ... فَهَوى صريعاً لليَدين وللفَمَ
ومَنحت آخرَ بعدَه جَيَّاشةً ... نَجْلاء فاغرةً كشِدْقِ الأضجَم
ولقد شفعتُهما بآخَر ثالثٍ ... وأبى الفِرارَ عن العُداة تَكرُّمي
ثم لم يَلبث بنو كنانة أن أغاروا على بني جُشم، فقتلوا، وأسروا دريدَ بن الصِّمة، فأخفى نَسبه. فبينما هو عندهم مَحبوس إذ جاءت نِسوة يتهادَيْن إليه

فصاحت إحداهنّ فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جَرّ علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رُمحه يوم الظعينة، ثم ألقت عليه ثَوبها، وقالت: يا آل فراس، أنا جارةٌ له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو؟ فقال: أنا دُريد ابن الصَمة، فمَن صاحبي؟ قالوا: رَبيعة بن مُكدَم. قال: فما فَعل؟ قالوا: قتلتْه بنو سليم. قال: فما فعلتْ الظّعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته. فحَبسه القومُ وأتمروا أنفسهم، فقال بعضُهم: لا ينبغي لدُريد أن تُكفر نعمتُه على صاحبنا، وقال الآخرون: لا والله لا يَخرج من أيدينا إلا برضا المُخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل. وهي رَبطة بنت جِذْل الطِّعان، فقالت:
سنَجزى دُريداً عن ربيعة نِعمةً ... وكُل امرئ يجزى بما كان قَدَّمَا
فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه ... وإن كان شرًا كان شراً مُذَمما
سنَجزيه نُعمَى لم تكن بصَغيرةٍ ... بإهدائه الرُّمح الطَّويل المقوما
فلا تَكّفروه حَقّ نُعماه فيكُم ... ولا تركبوا تلك التي تَمْلأ الفَما
فإنْ كان حَياً لم يَضِق بثَوابه ... ذِراعاً غَنِياً كان أو كان مُعْدِما
ففُكّوا دُريداً من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسىَ إلى الشرّ سلَما
فلما أصبحوا أطلقوه. فكستْه وجَهَّزته ولحق بقومه. فلم يَزل كافا عن حَرب بني فراس حتى هلك.
يوم الصلعاء
لهوازن على غطفان
فلما كان في العام المُقبل غزاهم دُريد بن الصَمة بالصَّلعاء، فخرجت إليه. غطفان. فقال دُريد لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى خيلاً عليها رجال كأنهم الصَبيان، أسِنتها عند آذان خَيلها. قال: هذه فَزارة. ثم قالت: انظُر ما ترى؟ قال: أرى قوماً كأن عليهم ثياباً غُمست في الجادي. قال: هذه أشجع. ثم قال: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوماً يَهزّون رماحَهم سوداً يخدُون الأرضَ بأقدامهم. قال: هذه عَبْس، أتاكم الموت الزُّؤام، فاثبتُوا. فالتقوا بالصّلعاء، فكان الظَّفر لهوازن على غَطفان، وقَتل دُريدٌ ذُؤَابَ بن أسماء بن زيد بن قَارِب.
حرب قيس وكنانة
يوم الكديد
لسليم على كنانة
فيه قتل ربيعة بنُ مُكَدَّم فارسُ كنانة. وهو من بني فِراس بنِ غنْم بن مالك بن كِنانة، وهم أنجد العرب، كان الرجل منهم يُعدل بعشرة من غيرهم، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددتُ والله أنّ لي بجَميعكم، وأنتم مائةُ ألف، ثَلثَمائةٍ من بني فراس بن غنم. وكان ربيعة بن مُكَدَم يعقَر على قبره في الجاهليَّة، ولم يُعقر على قبر أحد غيره، ومر به حسانُ بن ثابت. وقتلته بنو سُليم يوم الكَدِيد. ولم يحضُر يوم الكَدِيد أحد من بني الشريد.
يوم برزة
لكنانة على سليم
قال أبو عُبيدة: لما قَتلت بنو سُليم ربيعَة بن مُكدم فارسَ كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله. ثم إن ذا التاج مالكَ بن خالد بن صَخر بن الشّريد - واسم الشريد عمرو، وكانت بنو سُليم قد توجوا مالكاً وأمَروه عليهم - غزا بني كنانة، فأغار على بني فِراس ببَرْزة، ورئيسُ بني فِراس عبدُ الله بن جِذْل. فدعا عبدُ الله إلى البِراز، فبرز إليه هندُ بن خالد بن صَخْر بن الشرًيد، فقال له عبدُ اللّه: مَن أنت؟ قال: أنا هِندُ بن خالد بن صَخر. فقال عبدُ الله: أخوك أسن منك، يُريد مالكَ بن خالد. فَرجع فأحضر أخاه، فبَرز له، فجعل عبدُ الله ابن جِذلَ يرتحز ويقول:
ادْنُ بني قِرْف القِمَعْ ... إنّي إذا الموتُ كَنَعْ
لا أستغيثُ بالجَزَعْ
ثم شَدّ على مالك بن خالد فقتله فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشد عليه عبد الله بن جِذل فقتله أيضاً. فشدّ عليه أخوهما عمرو بنُ خالد بن صَخْر بن الشَّريد، فتخالفا طَعْنتين، فجرح كُلُّ واحد منهما صاحبَه وتحاجزا. وكان عمرو قد نهى أخاه مالكاً عن غَزو بني فِراس، فعصاه وانصرف للغَزْو عنهم. فقال عبدُ الله بن جذل:
تجنبتُ هِنداً رغبةً عن قتاله ... إِلى مالكٍ أَعْشُو إلى ضَوْء مالِك
فأيقنت أنّي ثائرُ ابن مُكَدَّم ... غَداتئذ أو هالك في الهَوالك
فأنفذتُه بالرُّمح حينَ طَعنتُه ... مُعانقةً ليست بطَعْنة باتِك

وأثنى لكُرز في الغبار بطَعْنة ... عَلَتْ جِلْدَه منها بأحمَر عاتك
قتلنا سُليماً غَثَّها وسَمِينها ... فصبراً سُليماً قد صَبرنا لذلك
فإن تك نِسواني بَكَين فقد بَكت ... كما قد بَكَتْ أمٌّ لكُرز ومالك
وقال عبد الله بنْ جِذل أيضاً:
قَتلنا مالكاً فبَكَوْا عليه ... وهل يُغْني مِن الجَزع البُكاء؟
وكُرْزاً قد تَركناه صريعاً ... تَسيل علَى تَرائبه الدِّماء
فإنْ تَجزع لذاك بنو سُلَيمفقدوأبيهم غُلب العَزاء
فصبراً يا سُليم كما صَبرنا ... وما فِيكم لواحدنا كِفاء
فلا تَبْعد ربيعةُ من نَديم ... أخو الهُلاك إن ذُمّ الشِّتاء
وكم مِن غارة ورَعِيل خَيْل ... تَدَاركها وقد حَمِس اللِّقاء
يوم الفيفاء
لسليم على كنانة
قال أبو عُبيدة: ثم إنّ بني الشّريد حَرَّموا على أنفسهم النِّساء والدُّهن، حتى يُدركوا بثأرهم من بني كِنانة. فغزا عمرو بن خالد بن صَخر بنِ الشرّيد بقومه حتى أغار على بني فِراس، فقَتل منهم نَفراً: منهم عاصم بن المُعلَى، ونَضلة والمُعارِك، وعمرو بن مالك، وحِصْن، وشُريح، وسَبى سَبْيا فيهم ابنة مُكَدّم، أخت ربيعة بن مُكَدّم. فقال عبَّاس بن مِرْداس في ذلك يرُدّ على ابن جِذْل في كلمته التي قالها يومَ بَرْزة:
ألا أَبلغَا عَنّي ابن جِذْل ورهْطَه ... فكيف طَلبناكمُ بِكُرْزٍ ومالِك
غداةَ فَجَعْناكم بحِصن وبابنه ... وبابن المُعلَّى عاصمٍ والمعارك
ثمانية منهم ثَأرناهُم به ... جميعاً وما كانوا بَواءً بمالك
نُذيقكم، والموتُ يَبني سرُادقاً ... عليكم، شَبا حدِّ السّيوف البواتك
تَلُوح بأيدينا كما لاح بارق ... تلألأ في داجٍ من اللَّيل حالك
صَبحناكم العُوجَ العَناجيج بالضُّحى ... تَمُر بنا مَرِّ الرِّياح السواهك
إذا خرجت من هَبْوة بعد هَبْوة ... سَمت نحو ملتف من الموت شائكِ
وقال هندُ بن خالد بن صخر بن الشَريد:
قتلتُ بمالك عمراً وحِصْناً ... وخَلّيت القَتام على الخُدودِ
وكُرزاً قد أًبأتُ به شُريحاً ... على أَثر الفوارس بالكَديد
جَريناهم بما انتكهوا وزِدْنا ... عليه ما وَجدنا من مَزِيد
جَلَبنا من جَنوب الفَرْد جُرْداً ... كطَيْر الماء غَلّس للوُرود
قال: فلما ذكر هندُ بن خالد يوم الكَدِيد، وافتخر به ولم يشهده أحدٌ من بني الشريد، غضب من ذلك نُبيشة بن حَبيب، فأنشأ يقول:
تُبخل صُنْعَنا في كُل يوم ... كمَخْضوب البَنان ولا تَصِيد
وتأكل ما يَعاف الكلبُ منه ... وتَزعم أن والدَك الشريد
أبى لي أن أقِر الضيمَ قيس ... وصاحبُه المَزُور به الكَديد
حرب قيس وتميم
يوم السُّوبان
لبني عامر على بني تميم
قال أبو عُبيدة: أغارت بنو عامر علي بني تميم وضَبْة فاقتتلوا. ورئيس ضَبَة حسّان بن وَبرة، وهو أخو النعمان لأمه، فأسره يزيد الصعِق، وانهزمت تميم. فلما رأى ذلك عامرُ بن مالِكِ بن جَعفر حَسده، فشذ على ضرِارَ بن عمرو الضبي، وهو الردِيم. فقال لابنه أدْهم: أغْنِه عني. فشد عليه فطَعنه. فتحوّل عن سرَجه إلى جَنب أبدائه. ثم لَحقه، فقال لأحد بَنيه أغنه عني، فَفَعل مثل ذلك. ثم لَحقه، فقال لابن له آخر: أغنه عني، ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلا مُلاعب الأسنة، فسُمَى عامرٌ من يومئذ ملاعبَ الأسنة. فلما دنا منه قال له ضِرار: إني لأعلم ما تريد، أتُريد اللبن؟ قال: نعم. إنك لن تَصل إلي ومِن هؤلاء عينٌ تَطرف، كلهم بني. قال له عامر: فأحلني على غيرك. فدلّه على حُبيش بن الدُّلف وقال: عليك بذلك الفارس. فشدّ عليه فأسره. فلما رأى سوادَه وقِصَره جعل يتفكّر. وخاف ابن الدُلف أن يقتله، فقال: ألست تُريد اللبن؟ قال: بَلى. قال: فأنا لك به. وفادى حسان بن وَبرة نفسَه من يزيد بن الصّعق على عَصافيرالنعمان بذي لِيان، وذو ليان، عن يمين القَرْيتين.

يوم أقرن
لبني عبس على بني دارم
غزا عمرو بن عُدَس من دارم، وهو فارس بن مالك بن حَنظلة، فأغار على بني عَبْس وأخذ إبلا وشاء، ثم أقبل، حتى إذا كان أسفَل من ثَنية أقْرُن نزل فابتَنى بجارية من السبْي. ولحقه الطلب، فاقتتلوا. فقتَل أنسُ الفوارس بنُ زياد العَبْسي عَمراً، وانهزمت بنو مالك بن حَنظلة. وقتلت بنو عبس أيضاً حَنظلةَ بن عمرو - وقال بعضُهم: قُتل في غير هذا اليوم - وارتدوا ما كان في أيدي بني مالك. فنعى ذلك جريرٌ على بني دارم فقال:
هل تَذكُرون لَدَى ثنية أقْرُن ... أنسَ الفَوارس حين يَهْوي الأسلع
وكان عمرو أسلعَ، أي أبرص، وكان لسَمَاعة بن عمرو خال من بني عَبس، فزاره يوماً فقَتله بأبيه عمرو.
يوم المروت
لبني الغير على بني قشير
أغار بَحيِر بن سَلْمة بن قُشير على بني العَنبر بن عمرو بن تميم، فأتى الصريخُ بني عمرو بن تميم، فاتبعوه حتى لحقوه، وقد نزل المَرُّوت، وهو يَقسم المِرْباع ويُعطى مَن معه. فتلاَحق القومُ واقتتلوا. فطعَن قعْنبُ بن عتّاب الهيثَم بن عامر القُشيري فصرعه فأسره، وحَمل الكدَام، وهو يزيد بن أزهر المازني على بحير بن سَلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم نزل إليه فأسره. فأبصره قَعنب بن عتاب، فحمل عليه بالسيَّف فضربه فقتله. فانهزم بنو عامر وقُتل رجالهم. فقال يزيدُ بن الصَعِق يرثي بَحيرا:
أواردةٌ عليّ بني رِياح ... بفَخْرهُم وقد قتلوا بَحيرَا
فأجابته العَوْراء، من بني سَليط بن يَربوع:
قَعيدَك يا يزيدُ أبا قُبيس ... أَتُنذر كي تُلاقينا النّذورَا
وتُوضِع تُخبرالرُّكبان أنّا ... وُجدنا في مراس الحَرب خُورا
ألم تعلم قعيدَك يا يزيد ... بأنا نَقَمع الشَّيخَ الفَخُورا
ونفقأ ناظِرَيه ولا نُبالي ... ونَجعل فوق هامَتِه الذَّرورا
فأبلغ إن عَرضت بني كلاب ... بأنا نحن أَقعَصْنا بَحيرا
وضرَّجنا عُبيدة بالعَوالي ... فأَصبح مُوثَقاً فِينا أَسِيرا
أفخراً في الخلاء بغير فَخْرٍ ... وعند الحَرب خَواراً ضَجُورا
يوم دارة مأسل
لتميم على قيس
غزا عُتبة بن شُتَير بن خالد الكِلابيّ بني ضَبّة فاستاق نَعَمهم، وقَتل حُصيْن ابن ضِرار الضَّبي، أبا زَيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومَه وخرج ثائراً بابنِهِ حُصين، وزيد الفوارس، يومئذ حَدَث لم يُدرك، فأغار على بني عمرو بن كِلاب، فأفلت منه عُتبةُ بن شُتير بن خالد، وأسر أباه شُتير بن خالد، وكان شيخاً أعور. فأتى به قومه، فقال: إما أن ترُدّ ابني حُصينا. قال: فإني لا أَنشر الموتى. قال: وإما أن تدفع إليّ ابنك عُتبة أقتله به. قال: لا تَرضى بذلك بنو عامر أن يدفعوا فارسَهم شاباً مُقتبَلاً بشَيخ أعورَ هامة اليوم أو غد. قال: وإما أن أقتلك. قال: أمّا هذه فنعم. قال: فأمر ضِرارٌ ابنَه أدهم أن يَقتله، فلما قَدّمه ليضربَ عُنقه نادى شُتير: يا آل عامر، صَبْراً، بصبيّ. كأنه أنِف أن يُقتل بصبيّ. فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة:
وخيَرْنا شُتيراً في ثلاثٍ ... وما كان الثلاثُ له خيارَا
جعلتُ السيفَ بين اللِّيث منه ... وبين قِصاص لمَّته عِذَارا
وقال الفرزدق يَفخر بأيام ضبّة:
ومَغبوقة قبل القِيان كأنّها ... جَرادٌ إذا أجلى عن القَزع الفجر
عوابسُ ما تَنفكُّ تحت بطونها ... سَرابيلُ أبطال بنائُقها حُمْر
تَركْن ابنَ ذي الجَدَّين يَنْشِج مُسْندا ... وليس له إلا ألاءته قَبر
وهُنّ على خَذَي شتير بن خالد ... أثير عَجاج من سنَابكها كُدْر
إذا سُوّمت للبأس يَغْشى ظُهورَها ... أسودٌ عليها البِيض عادتها الهَصْر
يَهزّون أرماحاً طِوالا مُتونُها ... يهن الغِنى يومَ الكَريهة والفَقْر
أيام بكر على تميم
يوم الوقيط

قال فراسُ بن خِنْدف: تجمَّعت اللهازُم لتُغير على تَميم وهم غارُّون، فرأى لك ناشب الأعور بن بَشامة العَنبري، وهو أسير في بني سَعد بن مالك ابن ضُبيعة بن قيسِ بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رسولاً أرسله إلى بني العَنبر أوصيهم بصاحبكم خيراً، ليولوه مثلَ الذي تولوني من البر به والإحسان إليه. وكان حَنظلة بن الطُّفيل المَرثدي أسيراً في بني العَنبر. فقالوا له: على أن تُوصيه ونحن حضُور. قال نعم. فأتوه بغلام لهم. فقال: لقد أتيتموني بأحمقَ وما أراه مُبلِّغاً عني. قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمَق، وقل ما ئشت فإني مُبلَغه. فملأ الأعورُ كفه من الرمل، فقال: كم هذا الذي في كفِّي من الرمل؟ قال الغلام: شيء لا يُحصى كَثرة، ثم أومأ إلي الشمس، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشمس. قال: فاذهب إلى قومي فابلغهم عني التحيةَ وقُل لهم يُحسنوا إلى أسيرهم وُيكْرموه، فإني عند قوم مُحسنين إلي مُكرمين لي، وقل لهم يَقْروا جمل الأحمر، ويَرْكبوا ناقتي العَيْساء، بآية أكلت معهم حَيْساً، وَيرْعوا حاجتي في أبيني مالك. وأخبرهم أنِّ العوسج قد أَوْرق، وأنّ النِّساء قد اشتكت. ولْيعصوا هَمَّام بن بَشَامة، فإنه مَشْئوم مَحدود، وُيطيعوا هُذَيل بن الأخْنس، فإنه حازم مَيمون. قال: فأتاهم الرسول فأبلغهم. فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعورُ بعدنا، فواللهّ ما نعرف له ناقةً عَيْساء، ولا جملاً أحمر. فشخص الرسولُ، ثم ناداهم هُذيل: يا بني العنبر، قد بَين لكم صاحبُكم: أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يُخبركم أنه أتاكم عددٌ لا يُحصى؟ وأما الشمس التي أومأ إليها، فإنه يقول: إن ذلك أوضحُ من الشَّمس؟ وأما جَمله الأحمر، فإنه هو الصَمَّان يأمركم أن تُعْروه؟ وأما ناقتهُ العَيساء، فهي الدَّهناء يأمركم أن تَحْترزوا فيها، وأما أبْناء مالك، فإنه يأمركم أن تنذروا بني مالك بن حنظلة ابن مالك بن زَيد مناة ما حَذركم وأن تُمسكوا الحِلْف بينكم وبينهم، وأما العَوْسج الذي أورق، فيُخبركم أنّ القوم قد لَبسوا السلاح؛ وأما تشكيَ النساء، فيُخبركم بأنهن قد عَمِلنَ شِكاءً يغزون به. قال: وقوله بآية ما أكلت معكم حَيساً، يريد أحلاطاً من الناس قد غزوكم. فتحرَّزت عمرو فركبتَ الدَهناء، وَأنذروا بني مالك، فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو ولسنا متحوِّلين لِمَا قال صاحبُكم: قال فصبّحتِ اللهازمُ بني حنظلة، فوجدوا بني عمرو قد أجلت، وإنما أرادوهم على الوَقيط، وعلى الجَيش أبجر بِن جابر العِجْليّ. وشهدها ناسٌ مع تيم اللات، وشهدها الفِزْر بن الأسود بن شريد، من بني سِنان. فاقتَتلوا، فأسر ضِرارُ بن القَعقاع بن مَعبد بن زُرارة، وتَنازع في أسره بِشرُ بن العوراء، من تيم اللات، والفِزْر بن الأسود، فجزّا ناصيتَه وخَليّا سربه من تحت الليل. وأسر عمرو بن قيس، من بني ربيعة، عَثْجَلَ بن المأموم بن شَيبان بن عَلقمة، من بني زُرارة، ومَنَ عليه. وأسرت غَمامةُ بنت طوق بن عُبيد بن زُرارة، واشترك في أسِرها الحَطيم بن هلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خالد. ورَدُوها إلى أهلها. وعَير جريرٌ الخَطفي بني دارم بأسْر ضِرارِ وعَثْجل وغَمامة، فقال:
أغَمام لو شَهد الوقيطَ فوارسي ... ما قِيد يقتل عَثجل وضِرَارُ
وأسر حنظلةُ بن المأمون بن شيبان بن عَلقمة، أسره طَيْسلة بن زِياد، أحد بني ربيعة. وأسر جُويرية بن بَدر، من بني عبد الله بن دارم، فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتاً يَمدح فيها بني عِجل، وأنشأ يتغنّى بها رافعاً عقيرته:
وقائلةٍ ما غالَه أن يَزُورها ... وقد كنتُ عن تلك الزَيارة في شُغل
وقد أدركتْني والحوادثُ جَمةٌ ... مَخالبُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْل
سِراع إلى الدّاعَي بِطاء عن الخَنَا ... رزانٍ لدى النّادي مِن غير ما جَهْل
لعلهُم أن يمَطروني بنعمية ... كما طاب ماءُ المُزن في البلَد المَحْل
فقد يُنعش الله الفتى بعد عسرة ... وقد يَبتدي الحُسنَى سَراةُ بني عِجْل

فلما سَمعوه أطلقوه. وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو ابن ناشب، وأسر سنان بن عمرو، أخو بني سلامة بن كِندة، من بني دارم، وأسر حاضر بن ضَمرة، وأسر الهيثم بن صَعصعة، وهَرب عوفُ بن القَعقاع عن إخوته، وقُتل حكيم النّهشلي، وذلك أنه لم يَزل يُقَاتل وَهو يَرتجز ويقول:
كُل امرئ مُصبَّح في أهله ... والموتُ أدنى مِن شِراكَ نَعْلِهِ
وفيه يقول عَنترة الفوارس:
وغادَرْنا حكيماً في مَجال ... صَريعاً قد سَلَبناه الإزارَا
يوم النِّباج وثَيْتل
لتميم على بكر
الخُشنيّ قال: أخبرنا أبو غَسّان العَبْديّ - واسمه رفيع - عن أبي عُبيدة مَعمر بن المُثنى قال: غدا قيس بن عاصم في مُقاعس، وهو رئيس عليها - ومُقاعس هم: صُريم، ورَبيع، وعُبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زَيدَ مناة ابن تَميم - ومعه سَلاَمة بن ظرِب بن نَمِر الحَمّاني في الأجارب، وهم حِمّان، وربيعة. ومالك، والأعرج، بنو كعب بن سَعد بن زيد مناة بن تميم. فغَزوا بكر بن وائل. فوجدوا بني ذهل بن ثَعلبة بن عُكابة واللَّهازم - وهم قَيس وتيم اللتَ، ابنا ثَعلبة، وعِجْل بن لُجيم، وعَنَزة بن أسد بن ربيعة - بالنِّباج وثَيْتل، وبينهما رَوْحة. فتنازع قيسُ بن عاصم وسَلامة بن ظَرِب في الإغارة ثم اتفقا على أن يُغير قَيس على أهل النِّباج، ويُعير سلاَمة على أهل الثَيتل. قال: فبعث قيسُ بن عاصم سنانَ بنَ سُمَي، الأهتم شيِّفَةً له - والشَّيفة: الطَّليعة - فأتاه الخبرُ. فلما أصبح قيسُ سقى خَيله، ثم أطلق أَفواه الرَّوايا، وقال لقومه: قاتلوا فإن الموت بين أيديكم، والفلاةَ مِن ورائكم. فلما دنوا من القوم صُبحاً سمعوا ساقياً من بكر يقول لصاحبه: يا قيس، أَوْرد. فتفاءلوا به. فأغاروا على النِّباج قبل الصُبح، فقاتلوهم قتالاً شديداً. ثم إن بكر انهزمت وأَسر الأهتمُ حُمْرانَ بن بِشر بن عمرو بن مَرْثد، وأصابوا غنائم كثيرة. فقال قيس لأصحابه لا مُقام دون الثَّيتل، فالنجاء النجاء. فأبوا. ولم يُغِر سَلاَمة ولا أَصحابه بعد على من بثَيْتَل فأغار عليهم قيس بن عاصِم، فقاتلوه ثم انهزموا. فأصاب إبلاً كثيرة. فقال سلامة: إنكم أعرتُم على ما كان أمره إليّ. فتلاحَوْا في ذلك. ثم اتفقوا على أن سَلّموا إليه غنائم ثَيتل. ففي ذلك يقول ربيعة بن ظَرِيف:
فلا يُبعِدَنْك الله قيسَ بن عاصم ... فأنتَ لنا عِزٌّ عزيز وَمَوْئل
وأنت الذي حَرَّبْت بكر بنَ وائل ... وقد عَضَّلَتْ منها النِّباجُ وثَيتل
غداة دَعت يا آل شَيبان إذ رأت ... كراديس يَهْدِيهنّ وَرْد مُحجّل
وظَلّت عُقاب الموت تَهْفو عليهم ... وشُعثُ النواصي لجمهنّ تُصَلصل
فما منكُم أبناءَ بكر بن وائل ... لغارتِنا إلا رَكوبُ مُذلّل
وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قَيس بن عاصم أفواه المَزاد بقوله:
وفي يوم الكُلاب ويوم قَيْسٍ ... هَرَق على مُسلّحةَ المَزادَ
وقال قُرة بن قَيس بن عاصم:
أنا ابنُ الذي شَقَّ المَزاد وقد رَأى ... بثيتل أَحياء اللَهازم حُضَّرَا
وصَبَّحهم بالجيش قيسُ بن عاصم ... فلم يَجدُوا إلا الأسنة مَصدَرا
على الجُرد يَعَلُكْن الشكِيم عَوابساً ... إذا الماءُ من أعطافهنَ تَحذَرا
فلم يَرها الراءون إلا فُجاءةً ... يُثرنَ عَجاجاً بالسنابك أكْدرا
سَقاهم بها الذِّيفانَ قيسُ بن عاصم ... وكان إذا ما أوْردَ الأمرَ أصْدرا
وحُمران أدته إلينا رِماحُنا ... فنازَع غُلا مِن ذِرَاعيه أسمَرا
وجَشَامة الذُهلي قُدْناه عَنْوةً ... إلى الحيّ مَصْفود اليدَيْن مُفكِّرا
يوم زرود
لبني يربوع على بني تغلب

أغار خُزيمة بنِ طارق التغلبي على بني يَرْبوع، وهم يزَرود، فنَذِروا به فالتقَوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزِمت بنو تَغلب. وأسر خزٍيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبيّ، وهو فارس الشَيط، وكان يومئذٍ مُعتلاً في بني يربوع، وأسيدُ بن حِناءة السّليطي، فتنازعا فيه، فحَكما بينهما الحارث بن قُراد، وأم الحارث امرأة من بني سَعد بن ضَبّة، فحكم بناصية خزيمة لأنيف بن جَبله، على أنّ لأسيد على أنيف مائةً من الإبل. قال: ففدا خزيمةَ نفسَه بمائتي بعير وفَرِس. وقال أنيف:
أخذتُك قَسراً يا خُزَيمَ بنَ طارقٍ ... ولاقيت منِّي الموتَ يوم زَرُود
وعانقتُه والخيلُ تَدْمَى نُحُورُها ... فأنزلتُه بالقاع غيرَ حَميد
أيام يربوع على بكر
وهذه أيام كُلها لبني يربوع على بني بكر، من ذلك: يوم ذي طُلوح، وهو يوم أوْد، ويوم الحائِر، ويوم مَلْهَم، ويوم القُحْقُح، وهو يوم مالة، ويوم رأس عَين، ويوم طِخْفة. ويوم الغَبِيط، ويوم مُخطط، ويوم جَدُود، ويوم الْجِبايات ويوم زَرود الثاني.
يوم ذي طلوح
لبني يَربوع على بكر
كان عَمِيرة بن طارق بن خصينة بن أرِيم بن عبيد بن ثَعلبة تَزوَّج مُرية بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العِجْليّ، فَخَرج حتى ابتنى بها في بني عِجْل. فأتى أبجرُ أختَه مُرَيّة، امرأة عَميرة يزورها، فقال لها: إني لا أرجو أنْ آتيك ببنت النَطِف امرأة عَميرة التي في قومها. فقال له عَميرة: أترضى أن تُحاربني وتَسْبيني؟ فَندِم أبجر، وقال لعَميرة: ما كنتُ لأغزو قومك. ثم غزا أبجر والحَوْفزان مُتساندين. هذا فيمن تَبعه من بني شَيبان، وهذا فيمن تَبعه من بني اللَّهازم، وساروا بعَميرة. معهم، قد وكّل به أبجرُ أخاه حُرْفصة بن جابر. فقال له عمَيرة: لو رجعْتُ إلى أهلي فاحتملتُهم؟ فقال حُرْفصة: افعل. فكرّ عَميرة على ناقته، ثم نكل عن الجَيش، فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع فأنذرهم الجيش. فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طُلوح. فأوِّل ما كان فارس طَلع عليهم عَمِيرة، فنادى: يا أبجر، هَلُم. فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عَميرة. فكذّبه، فسَفر عن وجهه، فعرفه فأقبل إليه. والتقت الخيلُ بالخيل. فأسر الجيشُ إلا أقلِّهم، وأسر حَنظلةُ بن بشر بنِ عمرو بن عدس بن زَيد بن عبد الله ابن دارمَ. وكان في بني يَربوع الحوفزانَ بنِ شريك، وأخذه معه مُكَبّلا. واخذ ابن طارِق سَوادَةَ بن يزيد بن بجير بن غنْم، عم أبجر وأخذ ابن عَنَمة الضِّبي الشاعر، وكان مع بني شيبان، فافتكه مُتمم بن نوبرة. فقال ابن عَنَمة يَمدح مُتمَم بن نُوبرة:
جَزى الله ربَ الناس عنّي مُتمَماً ... بخَير جزاء ما أعف وأمْجدَا
أجيرتْ به آباؤنا وبنَاتُنا ... وشَاركَ في إطلاقنا وتَفرَّدا
أبا نَهْشل إني لكم غيرُ كافرٍ ... ولا جاعلٌ من دونك المالَ مُؤصدا
وأسر سُويد بن الحَوفزان، وأسر أسود وفَلْحس، وهما من بني سَعد بن هَمّام. فقال جرير في ذلك يذكر يوم ذي طُلوح:
ولمّا لَقِيتا خيلَ أبجرَ يَدّعي ... بدَعْوى لُجيم غير مِيل العوَاتِقِ
صبَرنا وكان الصبر منّا سَجِيّةً ... بأسيافنا تحت الظِّلال الخَوافق
فلما رَأوا أن لا هوادةَ عِنْدنا ... دَعَوْا بعد كَربٍ يا عَمِيرَ بن طارق
يوم الحائر
وهو يوم مَلْهَم. لبني يربوع على بكر

وذلك أن أبا مُليلِ عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حُميد وعَلْقمة أخاه، انطلقا يطلبان إبلاً لهما حتى وردا مَلهم، من أرض اليمامة. فخرج عليهما نَفر من بني يَشْكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل. فكان عندَهم ما شاء الله، ثم خلّوا سبيلَه وأخذوا عليه عهداً وميثاقاً أن لا يُخبر بأمر أخيه أحداً. فأتى قومَه فسألوه عن أمر أخيه فلم يخبرهم. فقال وَبَرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عَهد وميثاق. فخرجوا يَقُصّون أثرَه، ورئيسُهم شِهاب بن عبد القيس، حتى وردوا مَلْهم. فلما رآهم أهل مَلْهم تحصنوا. فحرقت بنو يَربوع بعضَ زرعهم وَعقروا بعضَ نَخلهم. فلما رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم، فهُزمت بنو يشكر، وقُتل عمرو بن صابر صَبْراً، ضَربوا عُنقه، وقَتل عُتَيبة بن الحارث بن شهاب مُثَلّم بن عبيد بن عمرو، رجلاً آخر منهم، وقتل مالكُ بن نويرة حُمرانَ بن عبد الله، وقال:
طَلبنا بيوم مثل يومك عَلْقمَا ... لَعمري لمَن يَسعى بها كان أَكرَما
قَتلنا بجَنْب اَلعِرْض عمرَو بن صابر ... وحُمْران أَقْصدناهما والمُثلَّما
فللّه عَيناً مَن رأى مثلَ خَيْلنا ... وما أدركت من خَيلهم يوم مَلهما
يوم القحقح
وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر
أغارت بنو أبي ربيعة بن ذُهل بن شَيبان على بني يربوع، ورئيسهم المَجَبَّةُ ابن أبي ربيعة بن ذُهل، فأخذوا إبلاً لعاصم بن قُرط، أحد بن عُبيد، وانطلقوا. فطلبهم بنو يربوع فناوشوهم، فكانت الدائرة على بني أبي ربيعة. وقَتل المِنْهالُ بن عِصْمة المَجَبّة بن أبن ربيعة. فقال في ذلك ابن نِمْران الرّياحيّ:
وإذا لقيتَ القومَ فاطعَن فيهم ... يومَ اللِّقاء كطَعنة المِنْهالِ
تَرك المَجَبَّةَ للضِّباع مُنكَّساً ... والقومُ بين سَوافلٍ وعَوالي
يوم رأس العين
لبني يربوع على بكر
أغارت طوائفُ من بني يربوع على بني أبي رَبيعة برأس العَيْن، فاطردوا النَعم. فاتبعهم مُعاوية بنِ فِراس في بني أبي ربيعة فأدركوهم، فقُتل معاويةُ ابن فِرَاس وفاتوا بالإبل. وقال سحُيم في ذلك:
أليس الأكرمون بنو رِياحٍ ... نَمَوْني منهمُ عَمِّي وخالي
همُ قَتلوا المَجَبَّة وابنَ تَيم ... تَنوح عليهما سُود اللَّيالي
وهُم قَتلوا عَميد بني فِراس ... برأس العَين في الحِجَج الخَوالي
وذاد يومَ طِخْفة عن حِماهم ... ذِيادَ غَرائبِ الإبل النَهال
يوم العظالي
لبني يربوع على بكر
قال أبو عُبيدة: وهو يوم أعشاش، ويوم الأفاقة، ويوم الإياد، ويوم مُليحة.

قال: وكانت بكر بن وائل تحت يدِ كسرى وفارس، وكانوا يُجيرونهم ويُجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عَين التَمر في ثلاثمائة فارس مُتساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحَزن، وكانوا يَشْتُون خُفافاً، فإذا انقَطع الشتاء انحدروا إلى الحَزْن. قال: فاحتمل بنو عُتيبَة وبنو عُبيد وبنو زُبيد، من بني سَليط، من أول الحيّ حتى أَسْهلوا ببطن مُليحة، فطَلعت بنو زُبيد في الحَزن حتى حَلّوا الحُدَيقة والأفاقة، وحلت بنو عُتيبة وبنو عُبيد بعَين بروضة الثّمَد. قال: وأقبل الجيشُ حتى نزلوا هَضْبة الخَصيّ، ثم بَعثوا رئيسَهم. فصادفوا غلاماً شاباً من بني عُبيد، يقال له: قُرط بن أَضبط، فعرفه بِسْطام، وقد كان عرف عامة غلمان بني ثَعلبة حين أسره عُتيبة - قال: وقال سَلِيط: بل هو المُطَوًح بن قِرواش - فقال له بسطام: أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحُديقة؟ قال: همٍ بنو زُبيد. قال: أفيهم أَسِيد بن حِنَاءة؟ قال: نعم، كم هُم؟ قال: خمسون بيتاً، قال: فأين بنو عتيبة وأين بنو أَزْنم؟ قال: نَزَلوا رَوْضة الثمَد. قال: فأين سائر الناس؟ قال: هم مُحتجزون بخُفاف. قال: فمن هُناك من بني عاصم؟ قال: الأحيمر، وقَعنب: ومَعْدان، ابنا عِصْمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم؟ قال: حُصَين ابن عبد اللهّ. فقال بِسطام لقومه: أَطيعوني تَقْبضوا على هذا الحيّ من بني زُبيد وتُصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يُغني عنا زُبيد، لا يَردون رِحْلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغَنيمتين. فقال له مفْروق: انتفخ سَحْرك يا أبا الصَهباء. وقال له هانئ: أَجُبْناً! فقال لهم: ويلكم، إن أَسيداً لم يُظِله بيت قطُّ شاتياً ولا قائِظاً، إنما بيته القفر، فإذا أحسَ بكم أحال على الشقراء فَركض حتى يُشرف على مليحة، فينادي: يا ليربوع، فتركب؟ فيلقاكم طَعن يُنسيكم الغنيمة، ولا يبصر أحدُكم مصرعَ صاحبه، وقد جَبّنْتُموني، وأنا أتابعكم، وقد أَخبرتُكم ما أنتم لاقون غداً. فقالوا: نَلتقط بني زُبيد ثم نَلتقط بني عُبيد وبني عُتيبة، كما تلتقط الكَمْأة، ونبعث فارسين فيكونان بطريقِ أَسيد فيحولان بينه وبين يَرْبوع، ففعلوا. فلما أحسّ بهم أَسيد رَكِب الشّقراء، ثم خرج نحو بني يَربوع. فابتدره الفارسان، فطعن أحدَهما، فألقى نفسه في شِق فأخطاه، ثم كَر راجعاً حتى أشرف على مُليحة، فنادى: يا صباحاه، ياليربوع، غُشِيتم. فتلاحقت الخَيلُ حتى توافوا بالعُظَالي، فاقتتلوِا، فكانت الدائرة على بنى بكر، قُتل منهم: مَفروق بن عمرو، فدُفن بثَنيّة يقال لها ثِنية مَفْروق، والمقاعس الشَيباني، وزُهير بن الحزوَر الشَيباني، وعمور بن الحَزَور الشيباني، والهَيْش بن المِقعاس، وعُمير بن الوَدّاك؟ والضريس. وأمّا بِسْطام، فألح عليه فارسان من بني يَربوع، وكان دارعاً على ذات النُّسوع، وكانتا إذا أَجدَت لم يتعلّق بها شيء من خيلهم، وإذا أَوعثت كادوا يَلْحقونها، فلما رأى ثِقل دِرْعة وَضعها بين يديه على القَربُوس وكَرِه أن يَرْمي بها، وخاف أن يُلحق في الوَعث، فلم يزل ديدَنُه وديدنُ طالبيه حتى حَمِيت الشمسُ وخاف اللِّحاق، فمرّ بو جار ضَبُع، فرمى الدِّرع فيه، فمدَّ بعضها بعضاً حتى غابت في الوِجار. فلمّا خفف عن الفرس نَشِطت ففاتت الطَّلب، وكان أخر مَن أتى قومَه، وكان قد رَجع إلى دِرعه لمَّا رجع عنه القومُ فأخذها. فقال العوَّام بن شَوْذب الشيباني في بِسْطام وأصحابه:
إنْ يك في يوم الغَبِيط مَلامَة ... فيومُ العُظالي كان أَخزَى وأَلْوما
أناخُوا يريدون الصَّباح فصَبَّحوا ... وكانوا على الغازين دَعْوة أَشْأَما
فررتُم ولم تُلووا على مُجْحِريكم ... لو الحارث الحَرّاب يدْعى لأَقْدَما
ولو أنّ بِسْطاماً أُطيع لأمره ... لأدّى إلى الأحياء بالحِنْو مَغْنما
ففرّ أبو الصهباء إذ حَمِى الوَغى ... وألقَى بأَبدان السِّلاح وسَلّما
وأَيقن أنَّ الخيلَ إنْ تَلْتبس به ... يَعُد غانماً أو يَملأ البيت مأتما
ولو أنها عُصفورة لحسبها ... مُسوَّمة تدعو عُبَيْداً وأَزْنَما

أبَى لك قَيد بالغِبِيط لقاءهم ... ويومُ العُظالي إن فخرِتَ مُكلَّما
فأفلتَ بسطام جَريضاً بنَفسه ... وغادَر في كَرْشاء لَدْناً مُقوَّما
وفاظ أسيراً هانئ وكأنّما ... مَفارِقُ مَفْروقِ تَغشَّين عَنْدَما
قال: ثم إن هانئاً فَدَى نفسَه وأَسرى قومِه، فقال العوًّام في ذلك:
إنِّ الفَتى هانئاً لاقَى يشكّته ... ولم يَخم عن قِتال القوم إذ نَزَلا
ثمت سارَع في الأَسْرى فَفكَّهُم ... حامِىَ الذّمار حقيق بالذي فَعلا
يوم الغبيط
لبني يربوع على بني بكر
قال أبو عُبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثَّعالب. والثعالب: أسماء قبائل اجتمعت فيه، ويقال له يوم صَحْراء فَلْج، وقال أبو عُبيدة: حدَّثني سَليط بن سَعْد وزَبَّان الصُّبيري وجَهْم بن حسان السَلِيطيّ، قالوا: غزا بِسْطام بن قَيس، ومَفْروق بن عَمرو، والحارث بن شَريك، وهو الحَوفْزان، بلادَ بني تميم - وهذا اليومُ قبلَ يوم العُظالي - فأغاروا على بني ثَعلبة بن يَرْبوع، وثعلبة بن سَعد بن ضبة، وثعلبة بن عديّ بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذُبيان. فلذلك قيل له يوم الثَّعالب، وكان هؤلاء جميعاً مُتجاورين بصَحراء فَلج، فاقتتلوا، فانهزمت الثعالبُ فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نَعمهم. ولم يَشهد عُتيبةُ بن الحارث بن شهاب هذه الوَقْعَة، لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حَنظلة، ثم امتَرُّوا على بني مالك، وهم بين صحراء فَلج وبين الغَبِيط، فاكتسحوا إبلَهم. فركبتْ عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث بن شِهاب ومعه فَرسان من بني يَربوع تَأثّفهُم - أي صاروا لهم مثل الأثافي للرَماد - وتألّف إليهم الأحيمر بن عَبد اللّه، والأسيد بن حِنَّاءةَ، وأبو مَرْحب، وجَزْء ابن سعد الرِّياحي، وهو رئيس بني يَربوع، وربيع والحلَيس وعُمارة، بنو عُتيبة ابن الحارث، ومَعْدان وعِصْمة، ابنا قعنب، ومالك بن نُويرة، والمِنْهال بن عِصْمة، أحد بني رِياح بن يَربوع، وهو الذي يقول فيه مُتمَم بن نويرة في شعره الذي يَرثي فيه مالكاً أخاه:
لقد غَيّب المنهالُ تحت لِوائه ... فتى غير مِبْطان العَشِيِّة أَرْوعَا
فأدركوهم بغَبيط المَدَرة، فقاتلوهم حتى هَزَموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم. وألحّ عُتيبة وأَسيد والأحيمر على بسطام. فلحقه عُتيبة، فقال: أَسْتَأَسِرْ لي يا أبا الصَهباء. فقال: ومَن، أنت؟ قال: أنا عُتيبة، وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. فأسره عُتيبة، ونادى القومُ بِجَادَا، أخا بسطام: كُرَّ على أخيك، وهم يرجون أنْ يأْسروه. فناداه بِسْطام: إن كَرَرت فأنا حَنيف وكان بِسْطام نَصْرانيَّاً، فلحق بِجَاد بقومه. فلم يزل بسطام عند عُتيبة حتى فادى نَفْسه.
قال أبو عُبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فَدى نَفسَه بِأربعمائة بَعير وثلاثين فرساً - ولم يكن عَرِبيُ عكاظي أعلى. فداءً منه - على أنْ جَزَ ناصيته وعاهده أنْ لا يَغْزو بني شِهاب أبداً. فقال عُتيبة بن الحارث بني شِهاب:
أبْلغ سَرِاة بني شَيْبان مالُكةً ... أَنَي أبأتُ بعبد الله بِسْطاما
قاظ الشَرَبَّة في قَيْد وسِلْسلة ... صوت الحديد يُغنِّيه إذا قاما
يوم مخطط
لبني يربوع على بكر
قال أبو عُبيدة غزا بِسْطام بن قيس والحَوْفزان، وهو الحارث، مُتساندين يقودان بكر بن وائل حتى وَردوا على بني يَرْبوع بالفِردَوْس، وهو بَطْن لإياد، وبينه وبين مُخطّط ليلة، وقد نذرتْ بهم ينو يَربوع، فالتقوا بالمُخطّط فاقتتلوا. فانهزمت بكرُ بن وائل وهَربَ الحَوفزان وبِسطام ففاتا رَكْضاً. وقُتل شريكُ ابن الحوفزان، قَتله شِهابُ بن الحارث أخو عُتيبة، وأسر الأحيمرُ بن عبد الله ابن الضُّريس الشَيباني. فقال في ذلك مالكُ بن نويرة، ولم يَشهد هذا اليوم:
إلا أكُن لاقيتُ يومَ مخطّط ... فقد خبَر الرُّكبان ما أَتودّدُ
بأفناء حَيّ مِن قبائل مالك ... وعَمرو بن يَربوع أقاموا فأَخْلدوا
فقال الرئيسُ الحَوفزان تَبَينوا ... بني الحِصْن قد شارفتُم ثم حَردوا

فما فَتِئوا حتى رَأَوْنا كأنّنا ... مع الصُبح آذي من البَحر مُزيد
بمَلْمومة شَهْباء يُبرق جالُها ... ترى الشمس فيها حين دَارتْ تَوَقد
فما برحوا حتَى عَلَتْهم كتائب ... إذا طُعنت فرسانُها لا تُعَرد
فأقررت عيني يومَ ظلُوا كأنهم ... ببَطْن الغَبيط خُشْبُ أَثْل مُسند
صَريعٌ عليه الطير ُيَحْجِل فوقَه ... وآخرُ مَكبُول اليَدين مُقَيد
وكان لهم في أَهْلهم ونسائهم ... مبيت ولم يَدْرُوا بما يحدث الغَد
وقد كان لابن الحَوفزان لو انتهى ... شَريكٌ وبِسطام عن الشر مَقْعد
يوم جدود
غزا الحوفزان، وهو الحارث بن شريك، فأغار على مَن بالقاعة من بني سَعد بن زَيد مناة، فأخذ نَعَماً كثيراً وسَبى فيهنّ الزَّرقاء، من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، وكانت خَرقاء، فلم يتَمالك أن وَقع بها. فلما انتهى إلى جَدود مَنعتهمّ بنو يربوع بن حَنظلة أن يَرِدُوا الماء، ورئيسُهم عُتيبة ابن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم. فلم يكن لبني بكر بهم يد، فصالحوهم على أن يُعطوا بني يربوع بعضَ غنائمهم، على أن يُخلوهم يَردوا الماء، فقَبِلوا ذلك وأجازوهم. فبلغ ذلك بني سَعد، فقال قيسُ بن عاصم في ذلك:
جَزَى الله يَرْبوعاً بأسوأ سَعْيها ... إذا ذُكرت في النّائبات أمورُها
ويوم حَدُود قد فَضَحتم أباكمُ ... وسالمتُم والخيلُ تَدْمى نُحورُها
فأجابه مالك:
سأسألُ مَن لاقى فوارسَ مُنْقذٍ ... رِقابَ إماء كيف كان نَكِيرُها
ولما أتى الصريخ بني سعد رَكب قيسُ بن عاصم في إثر القوم حتى أدْركهم بالأشْيمَينْ، فألحّ قيسٌ على الحَوْفزان، وقد حمل الزرقاء. وكان الحَوْفزان قد خرج في طَليعة، فلقيه قيس بنُ عاصم فسأله: مَن هو؟ فقال: لا تَكاتُم اليوم، أنا الحَوْفزان، فمن أنت؟ قال: أنا أبو عليّ، ومَضى. ورجع الحوفزان إلى أصحابه، فقال: لقيتُ رجلاً أزرق كأنّ لِحْيته ضرَيبة صُوف، فقال: أنا أبو عليّ. فقالت عجوز من السّبي: بِأَبي أبو عليّ، ومَن لنا بأبي عليّ؟ فقال لها: ومن أبو عليّ؟ قالت: قَيس بنُ عاصم. فقال لأصحابه: النَّجاء، وأردف الزَّرقاء خلفه وهو على فرسه الزبِد، وعَقد شَعرها إلى صَدره ونجا بها. وكانت فرسُ قيس إذا أوْعثت قَصرَّت وتَمطَّر عليها الزَّبد. فلما أجدَّت لحقت بحيث تكلّم الحوفزان. فقال قيس له: يا أبا حِمار، أنا خير لك من الفلاة والعَطَش. قالت له الحوفزان: ما شاءت الزَّبِد. فلما رأى قيس أنِّ فرسه لا تَلحقه نادي الزرقاء، فقال: مِيلي به يا جَعار. فلما سَمِعه الحوفزان دَفعها بِمرفقه وجَزَّ قُرونها بسيفه. فلما ألقاها عن عَجز فرسه. وخاف قيس ألاّ يَلحقَه، فنَجله بالرُّمح في خُرابة وَركه، فلم يُقْصِده وعرّج عنها. وردّ قيس الزرقاء إلى بنِي الرّبيعِ. فقال سَوَّار بن حَيّان اْلمِنقريّ:
ونحن حَفرنا الحَوفزانَ بطَعْنةٍ ... تَمجّ نَجيعاً من دم الجَوف أشكلاَ
يوم سفوان
قال أبو عُبيدة: التقت بنو مازن وبنو شَيبان على ماء يقال له سَفَوَان، فزعمت بنو شَيبان أنه لهم، وأرادوا أن يُجْلوا تميَماً عنه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظهرتْ عليهم بنو تَميم وذادوهم حتى وردوا المُحْدَث، وكانوا يَتواعدون بني مازن قبلَ ذلك، فقال في ذلك وَدَّاك المازنِيّ:
رُوَيْداً بني شَيْبان بعض وَعيدكم ... تُلاقوا غداً خَيْلي على سَفَوَانِ
تُلاقُوا جِياداً تَحِيد عن الوَغَى ... إذا الخيلُ جالت في القَنا المُتداني
عَليها الكمِاة الغُرُّ من آل مازنٍ ... ليوث طِعان كلَّ يوم طِعان
تُلاقُوهمُ فَتعْرِفوا كيف صَيْرُهم ... على ما جَنت فِيهم يدُ الحَدَثان
مَقاديم وصّالون في الرَّوْع خَطْوَهم ... بكُل رَقِيق الشَّفْرتين يَمانِي
إذا استُنجدوا لم يَسألوا مَن دعاهم ... لأية حَرْب أم لأيّ مَكان
يوم السلي

قال أبو عُبيدة: كان من حديث يوم السليّ أن بني مازن أغارت على بني يَشكُر فأصابوا منهم، وشدّ زاهرُ بن عبد الله بن مالك على تيْم بن ثَعلبة اليَشْكري فقتله، فقال في ذلك:
للّهِ تَيم أيُّ رُمح طِرَادِ ... لاقَى الحِمَامَ وأي نَصْل جِلادِ
ومِحَشّ حَرْب مُقدم متعرض ... للموت غَير مُعرد حَياد
وقال حاجب بنَ ذُبْيان المازني:
سَلي يَشْكُراً عني وأبناء وائل ... لَهازِمَها طُرَأ وجَمْعَ الأراقم
ألم تَعلمي أنّا إذا الحربُ شمرت ... سِمَامُ على أعدائنا في الحَلاَقِم
عتاةٌ قُراةٌ في الشِّتاء مَساعِرٌ ... حُماةُ كماةٌ كالليوث الضَراغم
بأيديهُم سُمْرٌ من الخَطّ لَدْنةٌ ... وبيضٌ تُجَلَى عن فِراخ الجَماجم
أولئك قوْمٌ إن فخرتُ بعزهم ... فخرتُ بعزّ في اللَهى والغَلاصم
هُمُ أنزلوا يومَ السلي عزيزَها ... بسُمْر العَوالِي والسُيوف الصَوارم
يوم نقا الحسن
وهو يوم السَّقيفة - لبني ضبة علي بني شيبان
قال أبو عُبيدة: غزا بسطامُ بن مَسعود بن قيس بن خالد، وقيسُ بن مسعود، وهو ذو الجدَين، وأخوه السليلُ بن قيس بن ضَبة بن أد ابن طابخة، فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتَفق فيها فَحْلُها قد فَقأ عينَه، وفي الإبل مالكُ بن المُنتفق. فركب فرساً له ونجا رَكْضاً، حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه. فركبتْ بنو ضبة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا. فقال عاصمُ بن خَليفة لرجل من فُرسان قومه: أيهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحبُ الفرس الأدهم - يعني بِسْطاماً - فعلا عاصمٌ عليه بالرمح، فعارضه، حتى إذا كان بحذائه رَمى بالقوس وجمعَ يَديه في رُمحه فطَعنه، فلم تخطئ صِماخَ أذنه، حتى خرج الرمحُ من الناحية الأخرى، وخَر على الألاءة - والألاءة: شجرة - فلما رأى ذلك بنو شَيبان خلُوا سبيل بن مَسعود، أخا بِسطام، في سِبعين من بني شَيبان. فقال ابنُ عَنَمة الضبي: وهو مجاور يومئذ في بني شَيبان، يرثي بسطاماً، وخاف أن يقتلوه، فقال:
لأمَ الأرْض ويلٌ ما أجنَتْ ... بحيثُ أضَرَ بالحَسَن السَّبيل
يقسِّم مالَه فينا ويَدْعو ... أبا الصَّهباء إذ جَنح الأصيل
كأنكِ لم تَرَيْه ولن نراه ... تَخب به عُذَافِرةٌ ذَمُول
حَقِيبة رَحْلها بَدنٌ وسَرْج ... تُعَارِضها مُرببة دَءُول
إلى مِيعادِ أرعنَ مُكفهر ... تُضمَر في جوانبه الخُيول
لكَ المِرْباع منها والصَّفَايا ... وحُكْمُك والنَشيطةُ والفُضول
لقد ضَمِنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يُوفِي ببسطام قَتِيل
فخر على الآلاءة لم يوسد ... كأن جَبينه سيفٌ صَقِيل
فإن تَجزع عليه بنو أبيه ... فقد فُجعوا وحل بهم جليل
بمِطْعام إذا الأشوالُ راحت ... إلى الحَجَرات ليس لها فَصيل
وقال شَمعلة بن الأخضر بن هُبيرة:
ويم شقائق الحَسَنَيْن لاقتْ ... بنو شَيبان آجالاً قِصارا
شَكَكْنا بالرِّماح وهُن زُور ... صِمَاخي كَبْشهم حتى استدارا
وأَوْجزناه أسمرَ ذا كُعوب ... يُشبّه طولُه مَسداً مُغَارا
وقال مُحرز بن المُكَعبر الضَّبي:
أطلقت من شَيبان سبعينَ راكباً ... فآبوا جميعاً كلّهم ليس يَشْكُر
إذا كنتَ في أَفْناء شَيبان مُنعِماً ... فجُزّ اللِّحى إنّ النّواصيَ تَكْفُر
فلا شُكرَهم أَبغِي إذا كنتُ مُنعِماً ... ولا وُدَّهم في آخر الدَّهر أُضْمِر
أيام بكر على تميم
يوم الزُّويرين

قال أبو عُبيدة: كانت بكر بن وائل تَنتجِع أرضَ تميم في الجاهليَّة تَرعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرُّجوع لم يَدعوا عورة يُصيبونها ولا شيئاً يَظفرون به إلا اكتسحوه. فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رَعْي أرضكم وما يأتون إليكِم. فَحُشدت تميم وحُشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلّف منهم إلاّ الحَوافزان ابن شريك في أناس من بني ذُهل بن شَيبان، وكان غازياً. فقدّمتْ بكرُ عليهم عَمراً الأصمّ أبا مَفْروق - قال: وهو عمرو بن قيس بن مَسعود، أبو عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان - فحسد سائرُ ربيعة الأصمّ على الرِّياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مَفْروق، إنا قد زَحفنا لتميم وزَحفوا لنا أكثرَ ما كنا وكانوا قطُّ. قالت: فما تريدون؟ قالوا: نُريد أن نجعل كُل حيّ على حَياله ونَجعل عليهم رجلاً منهم فَنعْرفَ غناء كل قبيلة، فإنه أشدُ لاجتهاد الناس. قال: والله إني لأبغض الخلافَ عليكم، ولكن يأتي مَفْروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مَفروق شاوره أبوه - وذلك أول يوم ذُكر فيه مَفروق بن عمرو - فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يَخْدعوك عن رأيك وحَسدوك على رِياستك، والله لئن لقيتَ القومَ فظفرتَ لا يزال الفضلُ لنا بذلك أبداً، ولئن ظُفِر بك لا تزال لنا رياسة نُعرف بها. فقال الأصم: يا قوم، قد استشرتُ مَفروقاً فرأيتُه مخالِفاً لكم، ولستُ مخالفاً رأيه وما أشار به. فأقبلتْ تميم بجمَلين مجللَين مقرونين مُقيَّدين وقالوا: لا نُولي حتى يُولّي هذان الجملان، وهما الرُّوَيْران. فأَخبرت بكر بقولهم الأصم. وأنا زُوَيركم، إن حَشُّوهما فحُشوني، وإن عقروهما فاعقِروني. قال: والتقى القومُ فاقتتلوا قتالاً شديداً. قال: وأَسرت بنو تميم حَرَّاث بن مالك، أخا مُرة بن هَمام، فركَض به رجل منهم وقد أردَفه، وأتبعه ابنُه قتادة بن حَرَّاث حتى لحق الفارسَ الذي أسر أباه، فطَعنه فأراده عن فرسه واستنقذ أباه. ثم استحرّ بين الفريقين القتالُ، فانهزمت بنو تميم، فقُتل مِنهم مَقتلة عظيمة، فممن قُتل قُتل منهم: أبو الرئيس النَّهشلي. وأخذت بكر الزّويرين، أخذتهما بنو سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة؟ فنحروا أحدَهما فأكلوه واقتحلوا الآخر، وكان نَجِيباً، فقال رجل من بني سَدوس:
يا سَلْم إن تَسْألي عنّا فلا كُشُفٌ ... عنا اللِّقاء ولسنا بالمَقارِيفِ
نحن الذين هَزَمْنا يوم صبَّحنا ... جيشَ الزُّوَيْرين في جَمع الأَحاليف
ظلُوا وظَلْنا نَكُرّ الخيلَ وَسْطَهمُ ... بالشِّيب منّا وبالمُرْد الغَطاريف
وقال الأغلب بن جُشَم العِجْليّ:
جاءوا بزويْرهم وجِئنا بالأصمَّ ... شَيخ لنا قد كان من عهد إرم
فكر بالسيف الرُّمح انحطم ... كهِمَّةَ اللَيث إذا ما الليثُ هَمّ
كانت تميمُ معشراً ذوي كَرَم ... مُخلِصة من الغَلاصم العظم
قد نَفخوا لو يَنفُخون في فَحَمْ ... وصَبروا لو صبروا على أمَمْ
إذ ركبتْ ضَبة أعجازَ النَّعم ... فلم تَدَع ساقاً لها ولا قَدَم
يوم الشَّيِّطين
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: لما ظَهر الإسلامُ، قبل أن يُسلم أهلُ نجد والعراق، سارت بكر بن وائل إلى السوِاد، وقالت: نغير على تميم بالشيطين، فإن في دِين ابن عبد المطلب إنه مَن قَتل نفساً قُتل بها. فنُغير هذا العام، ثم نُسلم عليها. فارتحلوا مِن لَعلع بالذّراري والأموال، فأتوا الشّيطين في أَربع، وبينهما مسيرةً ثمان أميال، فسَبقوا كُلّ خبر حتى صبَّحوهم وهم ولا يشعرون، ورئيسُهمٍ يومئذ بشرُ بن مَسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجَدّين، فقَتلوا بني تميم قتلاً ذريعاً وأخذوا أموالَهم. واستحرّ القتلُ في بني العَنبر وبني ضَبَّة وبني يَربوع، دون بني مالك بن حَنظلة.
قال أبو عُبيدة: حَدَّثنا أو الحَمناء العَنبريّ، قال: قُتل من بني تميم يوم الشَيطين ولعلع ستمُّائة رجل. قال: فوفد وفدُ بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل. فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال رُشيد بن رُمَيْض العنبريّ:
وما كان بين الشَّيِّطين ولَعْلع لِنسْوتنا ... إلا مراجِعُ أربُع

فجئْنا بجَمْع لم يرَ الناسُ مثلَه ... يكاد له ظَهْر الوريعة يَظْلَع
بِأَرعن دَهْم تُنْشَد البلقُ وَسْطَه ... له عارضٌ فيه الأسنةُ تَلمع
صَبحنا به سعداً وعَمراً ومالكاً ... فكان لهم يومٌ من الشرّ أشنع
فخلّوا لنا صَحْن العِراق فإنّه ... حَمِىً منهم لا يستطاع مُمنع
يوم صَعْفُوق
لبكر على تميم
أغارت بنو أبي ربيعة على بني سَليط بن يَرْبوع يوم صَعْفوق فأصابوا منهم أَسرى. فأتى طريفُ بن تميم العَنبري فروةَ بن مَسعود، وهو يومئذ سيدُ بني أبي ربيعة، ففدَى منهم أَسرى بني سَليط ورَهنهم ابنه. فأبطأ عليهم، فقَتلوا ابنَه، فقال:
لا تَأْمننّ سُلَيمى أنْ أُفارقَها ... صرمى الظعائن بعد اليوم صَعْفوق
أعطيت أعداءه طوعاً برُمته ... ثم انصرفتُ وظنّي غير مَوْثوقِ
يوم مبايض
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: كانت الفُرسان إذا كانت أيامُ عُكاظ في الشهر الحرام وأَمن بعضهم بعضاً تقنّعوا كيلا يُعرفوا، وكان طَريف بن تميم العَنْبري لا يتقنع كما يتَقنِّعون، فوافى عُكاظَ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريفُ قد قتل شَراحيل الشَيباني، أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذُهل بن شيبان. فقال حَصِيصه: أروني طريفاً. فأروه إياه. فجعل كُلّما مرّ به تأمَله ونَظر إليه ففَطِن طَريف، فقال: مالك تنظر إليِّ؟ فقال: أتوسّمك لأعرفك. فلله علي إن لَقِيتُك أن أقتلكَ أو تَقْتلني. فقال طريف في ذلك:
أَوَ كُلما وردتْ عُكاظَ قَبيلةٌ ... بَعثوا إلي عريفَهم يتوسَّم
فتوسموني إنّني أنا ذلكم ... شاكِي سلاحي في الحوادث مُعْلَم
تحتي الأغر وفوق جِلْدي نَثْرةٌ ... زَغف تَردُ السيفَ وهو مُثَلّم
حولي أُسَيِّدُ والهجيم ومازنٌ ... وإذا حللتُ فحولَ بيتيَ خَضَم
قال: فمضى لذلك ما شاء الله. ثم إنّ بني عائذة، حُلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان. وهم يزعمون أنهم من قريش، وأن عائذة ابنُ لُؤي بن غالب - خرج منهم رجلان يَصِيدان فعَرض لهما رجل من بني شَيبان فذَعر عليهما صيدَهما، فوثبا عليه فقتلاه. فثارت بنو مُرّة بن ذهل بن شَيبان يريدون قَتلهما. فأبت بنو أبي ربيعة عليهم ذلك. فقال هانئ بن مَسعود: يا بني أبي ربيعة، إن إخوتَكم قد أرادوا ظُلمكم، فانمازوا عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نَزلوا بمُبايض ماء، - ومُبايض: عَلَم من وراء الدهناء - فأَبق عبدٌ لرجل من بني أبي، ربيعة فسار إلى بلاد تَميم، فأخبرهم أنّ حيَاً جديداً من بني بكر بن وائل نُزول على مُبايض، وهم بنو أبي ربيعة، أو الحيّ الجديد المُنتقى من قومه. فقال طَريف العَنبريّ: هؤلاء ثأرى يا آل تَميم، إنما هم أَكَلة رأس. وأقبلَ في بني عمرو بن تميم، وأقبل معه أبو الجَدْعاء، أحد بني طُهيَّة، وجاءَه فَدكيُّ بن أَعْبد المِنْقري في جَمْع من بني سعد بن زيد مَناة، فنَذِرت بهم بنو أبي ربيعة، فانحاز بهم هانئ بن مَسعود، وهو رئيسهم، إلى عَلَم مُبايض، فأقاموا عليه. وشرَّقوا بالأموال والسرح، وصَبّحتهم بنو تميم. فقال لهم طَريف: أطيعوني وافرغُوا من هؤلاء الأكلب يَصْفُ لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حَنظلة، وفدكيّ رئيسُ سعد بن زيد مناة: أُنُقاتل أكْلباً أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي، وأبوا عليه. فقال هانئ لأصحابه: لا يُقاتل رجل منكم. ولحقت تميم بالنَّعم والبغال، فأغاروا عليها. فلمّا ملئوا أيديهم منِ الغَنيمة، قال هانئ بن مسعود لأصحابه: احمِلوا عليهم. فهزموهم وقتلوهم طَريفاً العَنبري، قتله حَمصيصَة الشَّيباني، وقال:
ولقد دعوتُ طريف دعوةَ جاهل ... سَفَهاً وأنت بعَلم قد تَعلُم
وأتيتُ حيَّاً في الحُروب محلَّهمَ ... والجيشُ باسم أبيهم يستقدم
فوجدتُ قوماً يَمنعون ذِمارهم ... بُسْلاً إذا هاب الفوارسُ أَقْدموا
وإذا دُعُوا أبني رَبيعة شَمَّروا ... بكتائب دون السَّماء تُلَمْلم

حَشَدوا عليك وعَجلوا بِقراهمُ ... وحَمَوْا ذِمار أبيهم أنْ يُشْتموا
سَلبوك دِرْعك والأغرّ كليهما ... وبنو أُسيّد أَسْلموك وخَضَّم
يوم فيحان
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: لما فَدى نفسه بسْطامُ بن قَيس من عُتيبة بن الحارث، إذ أُسر يوم الغَبيط، بأربعمائة بعير، قال: قال: لأدركنّ عَقْل إبلي. فأغار بفيحان فأخذ الربيعَ بن عُتَيبة وأستاق مالَه. فلمّا سار يومين شُغل عن الربيع بالشراب، وقد مال الربيع على قدِّه حتى لان، ثم خَلعه وانحلّ منه، ثم جال في مَتن ذات النُّسوع - فرس بِسطام - وهرب. فركبوا في إثره، فلمّا يَئسوا منه ناداه بِسطام يا ربيع، هُلمّ طليقاً، فأبَى. قال: وأبوه في نادِي قومه يُحدثهم، فجعل يقول في أثناء. حديثه: إيهاً يا ربيع، أنجُ يا ربيعَ، وكان معه رَئِيِّ. قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يَربوع، فإذا هو براع، فاستسقاه، وضربت الفرس برأسها فماتت، فسمى ذلك المكان إلى اليوم: هَبِير الفرس. فقال له أبوه عُتَيبة: أمّا إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالَك.
يوم ذي قار الأول
لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: فخرج عتَيبة في نحو خمسةَ عشر فارساً من بني يربوع، فكمن في حِمى ذي قار حتى مَرت إبل بني الحُصين بالفَداوّية، اسم ماء لهم، فصاحوا بمن فيها من الحامية والرِّعاء، ثم استاقوها. فأخلف للرِبيع ما ذهب له، وقال:
ألم تَرني أفأتُ على رَبيعٍ ... جِلاداً في مَباركها وخُورَا
وأني قد تركتُ بني حُصين ... بذي قارٍ يَرِمُّون الأمورا
يوم الحاجر
بكر على تميم
قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صُريم اليَشكريّ من اليمامة، فلقيه بنو أُسيِّد ابن عمرو بن تميم فأخذوه أسيراً، فجعلوا يَغْمسونه في الركيَّة ويقولون:
يأيها الماتحُ دَلْوى دُونكما
حتى قتلوِه. فغزاهم أخوه باعث بن صُريم يوم حاجر، فأخذ ثُمامة بنِ باعث ابن صُريم رجلاً من بني أسيِّد، كان وجيهاً فيهم، فقتله وقتل على بَطنه مائةَ منهم. فقال باعثُ بن صُريم:
سائلْ أسَيِّد هل ثأرتُ بوائل ... أم هل شَفيتُ النفسَ من بَلبالها
إذ أرسلوني ماتحاً لدِلائهم ... فملأتُها عَلَقاً إلى أَسْبالها
إنّ الذي سَمك السماء مكانَها ... والبدرَ ليلةَ نِصْفها وهِلالِها
آليت أنقُف منهُم ذا لحْية ... أبداً فَتَنْظُر عينُه في مالِها
وقال:
سائل أسيّد هل ثأرتُ بوائل ... أم هل أتيتهمُ بأمرٍ مُبْرَم
إذ أرسلوني ماتحاً لِدلائهم ... فملأتهنّ إلى العَراقي بالدمِ
يوم الشِّقِيق
لبكر على تميم
قال أبو عُبيدة: أغار أَبجر بن جابر العِجلْي على بني مالك بن حَنظلة، فسَبى سُلَيْمى بنت مِحْصَن، فولدت له أَبجرِ. ففي ذلك يقول أبو النَجم:
ولقد كررتُ على طُهية كَرَّةَ ... حتى طرقت نساءها بمَساء
حرب البسوس
وهي حرب بكر وتغلب، ابني وائلٍ
أبو المُنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تَجتمع مَعد كلها إلاّ على ثلاثة رَهط من رؤساء العرب، وهم: عامر وربيعة وكُليب.
فالأول: عامر بن الظَّرب بن عمرِو بن بكر بن يَشكر بن الحارث، وهو عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيلان، وهو النَاس بن مُضر. وعامر بن الظرب هو قائد معد يوم البَيداء، حين تَمَذْحجت مَذْحج، وسارت إلى تِهامه، وهي أول وَقْعة كانت بين تهامة واليمن.

والثاني: ربيعة بن الحارث بن مُرة بن زهير بن جُشم بن بكر بن حُبَيب ابن كعب، وهو قائد معدّ يوم السُّلان، وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كُليب بن ربيعة، وهو الذي يُقال فيه: أعزّ من كليب وائل. وقاد معدَاً كلها يوم خَزار، ففصّ جُموع اليمن، وهَزمهم. فاجتمعت عليه معدّ كُلها، وجعلوا له قسمِ الملك، وتاجَه وتحيّته وطاعته. فغَبر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهوٌ شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عِزّة وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بَغيه أنه كان يَحمي مواقع السحاب، فلا يُرعى حِماه، ويُجير على الدَهر فلا تُحفر ذمّته، ويقول: وَحش أرض كذا في جواري فلا يُهاج، ولا تورد إبلُ أحدٍ مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: أعزُّ من كليب وائل. وكانت بنو جُشم وبنو شَيبان في دار واحدة بتِهامة، وكان كُليب بن وائل قد تزوّج جَليلة بنت مُرة بن ذُهل بن شَيبان، وأخوها جَسّاس ابن مُرة. وكانت البَسوس بنت مُنقذ التميميّة خالةَ جساس بن مُرة، وكانت نازلةً في بني شَيبان مجاورةً لجسّاس، وكانت لها ناقة يقال لها سَراب، ولها تقول العرب: أشأم من سَراب، وأشأم من البَسوس فمرّت إبل لكُليب بسَراب، ناقة البسوس، وهي مَعقولة بفناء بيتها في جوار جَسَّاس بن مُرة. فلمّا رأت سرابُ الإبلَ نازعت عِقالَها حتى قطعتْه، وتَبعت الإبل واختلطت بها حتى اْنتهت إلى كُليب، وهو على الحَوض معه قوسٌ وكنانة. فلمّا رآها أنكرها، فانتزع لها سهماً، فخَرم ضَرعها، فنفرت الناقة وهي تَرْغو. فلما رأتها البسوس قَذفت خِمارَها عن رأسها وصاحت: واذُلاّه! واجاراه! وخرجت.
فأحمست جسّاساً. فركب فرساً له مُعْرَوريةً، فأخذ آلته، وتَبعه عمرو ابن الحارث بن ذُهل بن شَيبان على فرسه ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحِمَى، فقال له: أيا أبا الماجدة، عمدتَ إلى ناقة جارتي فعقرتها. فقال له: أتُراك ما نِعي إن أذُبّ عن حِماي؟ فأحمسه الغضبُ، فطَعنه جسَّاس فقَصم صُلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع بَطنه، فوقع كُليب وهو يَفْحص برجله، وقال لجساس: أغِثْنى بشربة من ماء. فقال: هيهات، تجاوزت شبَيثَاً والأحَصّ. ففي ذلك يقول عمرو بن الأهْتم:
وإنّ كُليباً كان يَظلم قومَه ... فأدركه مثلُ الذي تَريانِ
فلما حَشاه الرمحَكفُّ اْبن عمّه ... تذكّر ظُلم الأهل أيّ أوان
وقال لجسّاسٍ أَغِثْني بشرَبة ... وإلا فخَبِّر مَن رأيتَ مكاني
فقال تجاوزتَ الأحصَّ وماءه ... وبَطن شُبيثٍ وهو غير دِفَان
وقال نابغة بني جَعدة:
أَبْلغ عِقالاً أنّ خُطة داحس ... بكَفَيك فاستأخر لها أو تَقَدّم
كليب لعمري كان أكثَر ناصرأً ... وأيسرَ ذَنباً منك ضُرِّج بالدَّم
رَمى ضَرْع ناب فاستمرّ بطَعْنة ... كحاشية البُرد اليَماني المُسهًم
وقال لجسّاسً أغثْني بشَرْبةٍ ... تَداركْ بها مَنَّا عليّ وأَنعِم
فقال تجاوزتَ الأحصّ وماءَه ... وبطن شُبيث وهو ذو مترسّم

فلما قُتل كُليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النِهى. وتشمّر المُهلهل أخو كليب، واسمه عُدِيّ بن ربيعة، وإنما قيل له المُهلهل لأنه أول مَن هَلهل الشعر، أي أرقّة، واستعد لحرب بكر، وترك النِّساء والغَزل، وحَرّم القِمار والشَراب، وجَمع إليه قومَه، فأرسل رجالاً منهم إلى بني شَيبان يُعذر إليهم فيما وَقع من الأمر. فأتوا مُرة بن ذهل بن شَيبان، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيماً بقَتلكم كُليباً بناب من الإبل، فقطعتمِ الرحم، وانتهكتمِ الحُرمة، وإنا كرهنا العَجلة عليكم دون الإعذار إليكم. ونحن نعرض عليكمِ خِلالاً أربع لكم فيها مَخرج، ولنا مَقنع. فقال مرة: وما هي؟ قال له: تُحْي لنا كليباً، أو تدفع إلينا جَساساً قاتلَه فنقتله به، أو همّاماً فإنه كُفء له، أو تُمكننا من نفسك فإنّ فيك وفاءَ منِ دمه؟ فقال: أما إحيائي كُلَيباً فهذا ما لا يكون؟ وأمّا جَسّاس فإنه غلام طَعن طعنةَ على عَجَل ثم ركب فرسَه فلا أدري أيّ البلاد أحتوى عليه؛ وأمّا همّام فإنه أبو عَشرة وأخو عَشرة وعَمّ عشرة كُلهم فُرسان قومهم، فلن يُسلموه لي فأدفعه إلَيكم يُقتل بجرَيرة غيره، وأما أنا فهل هو إلاّ أنْ تَجول الخيلُ جولةً غداً فأكونَ أوّلَ قتيل بينها، فما أتعجَّل من الموت؟ ولكن لكم عندي خَصْلتان: أما إحداهما، فهؤلاء بنيّ الباقون فعلِّقوا في عُنق أيّهم شِئتم نِسْعة فانطلقوا به إلى رِحالكم فأذبحوه ذَبْح الجَزور، وإلا فأَلف ناقة سوداء المُقَل أقيمِ لكم بها كفيلاً من بني وائل. فغضب القومُ وقالوا: لقد أسأتَ، تُرْذل لنا ولدك وتسومنا اللبنَ من دم كُليب. ووقعت الحربُ بينهم.
ولحقت جليلةُ زوجةُ بأبيها وقومها. ودعت تغلب النمرَ بن قاسط فانضمّت إلى بني كُليب وصاروا يداً معهم على بكر، ولحقت بهم غُفَيلة ابن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائلِ وكَرِهوا مُجامعة بني شَيبان ومُساعدتهم على قتال إخوتهم، وأعظموا قتلَ جسّاس كُليباً رئيسهم بناب من الإبل. فظَعنت لجيم عنهم، وكفّت يَشْكر عن نُصرتهم، وأنقبض الحارث بن عُباد في أهل بيته. وهو أبو بُجير وفارس النَّعامة. وقال المُهلهل يرثي كُليباً:
بِت ليلي بالأنْعَمين طويلاً ... أرقب النجم سهراً أن يزولا
كيف أهَدَأ ولا يزال قَتيلٌ ... من بني وائل ينسي قتيلا
غَنِيت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معد حلولا
فتساقَوْا كأساً أمرت عليهم ... بينهم بقتل العزيز الذليلا
فَصَبحْنا بني لُجيم بضَرب ... يترك الهم وقعه مفلولا
لم يُطيقوا أن يَنْزلوا ونزَلناً ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
انتضَوْا مَعْجِس القسي وأبْرق ... نا كما توعد الفحولا
قَتلوا ربَّهم كُلباً سَفاهاً ... ثم قالوا ما نخاف عويلا
كَذبوا والحرام والحِلِّ حتى ... نسلب الخدر بيضة المحجولا
ويموت الجَنين في عاطفِ الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
وقال أيضاً يَرثيه:
كُليبُ لا خيرَ في الدنيا ومَن فيها ... إذ أنت خليتها فيمن يخلبها
كُليب أيّ فتَى عزٍّ ومَكْرُمة ... تحت السّقائف إذ يعلوك سافيها
نَعى النُعاةُ كُليباً لي فقلتُ لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحَزم والعَزْمُ كانا من صَنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائدُ الخَيْل تَرْدَى في أعنَتها ... زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها
مِن خيل تَغْلبَ ما تلقي أسنَّتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
يُهَزْهِزُون من الخَطّيّ مُدْمَجة ... كمتاً أنابيبها زرقاً عواليها
تَرى الرِّماحَ بأيدينا فنُوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
ليت السماء على مَن تّحتها وقعتْ ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منِّا من يُصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
يوم النهِّي

قال أبو المُنذر: أخبرني خِرَاش أن أوَل وَقعة كانت بينهم بالنهي يوم النهِّى.
فالتقوا بماء يقال له النَهي كانت بنو شَيبان نازله عليه. ورئيسُ تَغلب المهلهل، ورئيس شَيبان الحارثُ بن مُرًة. فكانت الدائرةُ لبني تَغلب، وكان الشَّوكة في شَيبان، واستحرّ القتل فيهم، إلا أنه لم يُقتل في ذلك اليوم أحد من بني مَرَة.
يوم الذنَّائب
ثم التقوا بالذنائاب، وهي أعظم وَقعة كانت لهم، فظفرت بنو تَغلب وقُتلت بكر مقتلة عظيمة. وفيها قُتل شرَاحيل بن مرة بن هَمام بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان وهو جدّ الحَوْفزان، وهو جد مَعْن بن زائدة. والحَوْفزان هو الحارث ابن شريك بن عمروِ بن قيس بن شَراحيل، قتله عتاب بن سَعد بن زُهير بن جُشَم. وقُتل الحارث بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان، قتله كعب بن ذُهل بن ثعلبة. وقُتل من بني ذهل ثَعلبة: عمرو بنُ سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة. وقتل مِن بني تَيم الله. جميلُ بن مالك بن تَيم اللّه، وعبد الله بن مالك بن تَيم اللّه. وقُتل من بني قيس ابن ثعلبة: سعدُ بن ضُبيعة بن قيس، وتميم بن قيس بن ثعلبة، وهو أحد الخَرِفين. وكان شيخاً كبيراً فحُمل في هودج، فلَحِقه عمرو بن مالك بن الفَدَوْكس بن جُشم، وهو جدّ الأخطل، فقَتله. هؤلاء مَن أصيب من رؤساء بكر يوم الذنائب.
يوم واردات
ثم التقوا بواردات، وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمَينا. فظفرت بنو تغلب وأستحر القتلُ في بني بكر، فيومئذ قتل الشعثمان، شَعثم وعبد شمس، ابنا معاوية بن عامر بن ذُهل بن ثعلبة؟ وسيار بن الحارث بن سيار. وفيه قُتل همام ابن مرة بن ذُهل بن شَيبان، أخو جساس لأمه وأبيه، فمرْ به مُهلهل مقتولاً، فقال: والله ما قُتل بعد كُليب قَتيل أعز علي فقداً منك، وقتله ناشرة. وكان همَام رَباه وكَفله، كما كان ربى حُذيفةُ بن بَدْر قِرْواشاً، فقتله يومَ الهَباءة.
يوم عُنيزة
ثم التقوا بعُنيزة، فظَفِرت بنو تَغلب. ثم كانت بينهم مُعاودة ووقائع كثيرة، كُل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تَغلب على بني بكر. فمنها: يوم الحِنو، ويوم عُويْرضات، ويوم أنيق، ويوم ضَرِيّة، ويوم القُصيبات. هذه الأيام لتغلب على بكر. أُصيبت فيها بكر حتى ظنّوا أن ليس يَسْتقبلون أمرهم. وقال مُهلهل يصف هذه الأيّام ويَنعاها على بكر في قَصيدة طويلة أولها:
أليلَتنا بذي حُسُم أَنِيري ... إذا أنت انقضَيت فلا تَحُورِي
فإن يكُ بالذّنائب طال ليلي ... فقد أَبكي من اللّيل القَصير
وفيها يقول:
فلا نُبش المَقابِرُ عن كُليب ... لأُخْبر بالذّنائب أيّ زِير
كأنّا غدوةً وبني أَبينا ... بجَنب عُنَيزة رَحَيا مُدِير
وإنّي قد تركتُ بوارداتٍ ... بجُيراً في دَم مِثل العَبير
هتكتُ به بيوتَ بني عُبَاد ... وبعضُ القتل أَشْفى للصدور
على أنْ ليس عَدْلاً من كُليب ... إذا بَرزت مُخبَّأة الخُدورِ
ولولا الريح اسْمع مَن بحَجْر ... صَليلَ البِيض تُقرع بالذكور
وقال مهلهل لما أسرف في الدماء:
أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم ... حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ
آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ ... حتى أبهرج بكراً أينما وُجدوا
قال أبو حاتم: أُبهرج: أدعهم بهرجاً لا يُقتل بهم قتيل ولا تُؤخذ لهم دية.
قال: والبَهْرج من الدراهم، مِن هذا. وقال المُهلهل:
يا لبَكر انشروا لي كُلَيباً ... يا لبَكر أينَ الفِرارُ؟
تلك شيبان تقول لبكر ... صرِّح الشرُّ وبان السِّرار
وبنو عِجْل تقول لقَيس ... ولتَيْم اللات سِيرُوا فسارُوا
وقال:
قَتلوا كليباً ثم قالوا ارْبعوا ... كَذبوا وربّ الحِلِّ والإحرْام
حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ... ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ
وتقومَ ربَّاتُ الخُدور حواسراً ... يَمْسحن عُرْض ذَوائب الأيتام
حتى يَعضّ الشيخُ بعدَ حَمِيمه ... مما يرَى نَدماً على الإيهام
يوم قِضَة

ثم إنّ مُهلهلاً، أسرف في القتل ولم يُبال بأيّ قبيلة من قبائل بكر أوقع، وكان أكثرُ بكر قعدت عن نُصرة بني شَيبان لقَتْلهم كُليب بن وائل، فكان الحارث بن عُباد قد اعتزل تلك الحُروب. حتى قُتل ابنُه بُجير بن الحارث. ويقال إنه كان ابنَ أخيه، فلما بلغ الحارثَ قتلُه، قال: نِعْم القتيلُ قتيلٌ اصلح بين ابني وائل، وظنّ أنّ المُهلهل قد أدرك به ثأر كُليب وجعله كُفئاً له. فقيل له: إنما قتله بشِسْع نَعْل كُليب. وذلك أن المهلهل لما قَتل بُجيراً قال: بُؤ بشِسْع كُليب. فغضب الحارثُ بن عُباد، وكان له فرس يقال لها النَّعامة، فَركبها وتولَّى أمرَ بكر، فقَتل تَغلب حتى هَرب المُهلهل وتفرقت قبائل تغلب، فقال في ذلك الحارث بن عُباد:
قربا مَرْبط النًّعامة مِنّي ... لَقحتْ حربُ وائل عَن حِيالي
لم أكُن من جُناتها علم اللهُ ... وإنّي بحِرّها اليومَ صَالي
وكان أول يوم شهده الحارث بن عُباد يوم قِضَة، وهو يوم تَحْلاق اللِّمم، وفيه يقول طَرفة بن العَبْد:
سائلوا عنّا الذي يَعْرفنا ... ما لَقُوا في يوم تَحْلاق اللِّممْ
يوم تُبْدي البيضُ عن أسْؤُقها ... وتَلُفّ الخيْلُ أفواجَ النَّعم
وفيه أسر الحارثُ بن عباد المهلهلَ وهو لا يَعرفه، واسمه عديّ بن ربيعة، فقال له: دُلّني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له عديّ: عليك العهود بذلك إن دللتُك عليه؟ قال: فأنا عديّ. فجزَّ ناصِيَتَه وتَركه، وقال فيه:
لَهْف نفسي على عَدِيّ ولم أعْرِف عَدِيّاً إذا أمْكَنتْني اليدان.
وفيه قُتل عمرو وعامر التَغلبيان. قتلهما جَحدر بن ضُبيعة. طَعن أحدهما بسنان رُمحه والآخر بزُجّه. ثم إنَ المُهلهل فارق قومَه ونزل في بني جَنْب، وجَنب في مَذحِج، فخطبوا إليه ابنته فمنعهم. فأخبروه على تَزْويجها وساقوا إليه في صداقها جُلوداً من أدَم، فقال في ذلك:
أعزز على تَغْلب بما لَقِيتْ ... أختُ بني الأكرمين من جُشَم
أنكحها فقدُها الأراقمَ في ... جَنْب وكان الحِباء من أدم
لو بأبانَينْ جاء يَخْطبها ... زمَل ما أنفُ خاطب بدَم
الكلاب الأول
قال أبو عُبيدة: لما تَسافهت بكرُ بن وائل وغَلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامُها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سُفهاءنا قد غَلبوا على أمرنا فأكل القويُ الضعيفَ، ولا نَستطيع تغييرَ ذلك، فنرى أن نُملَك علينا ملكاً نُعطيه الشاةَ والبعير، فيأخذ للضّعيف من القوي، ويردُّ على المظلوم من الظالم، ولا يُمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، فتفسُد ذاتُ بيننا، ولكنّا نأتي تُبعَاً فنُملَكه علينا. فأتوه فذكروا له أمرهم، فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكِنديّ، فقَدِم فنزل عاقل، ثم غزَا ببكر بن وائل حتى أنتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللَّخميَين، وملوك الشام الغسانيين، وردّهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طُعن في نَيْطه، أي مات، فدُفن ببطن عاقل. واختلف أبناه شُرَحْبِيل وسَلَمة، في المُهلك، فتواعد الكُلاب. فأقبل شُرَحبيل في ضَبة والرباب كُلها، وبني يَربوع وبكر بن وائل. وأقبل سَلَمة في تَغلب والنمر وبَهراء، ومَن تَبعه مِن بني مالك بن حَنظلة، وعليهم سُفيان بن مُجاشع، وعلى تغلب السفَاح - إنما قيل له السفاح، لأنه سَفح أوعية قَومه - وقال لهم: أبدرُوا إلى ماء الكلاب، فسبقوا ونزلوا عليه. وإنما خرجتْ بكرُ بن وائل مع شُرحبيل لعداوتها لبني تغلب. فالتقوا على الكُلاب، واستحر القتلُ في بني يَربوع، وشد أبو حَنَش على شُرحبيل فقتله، وكان شرُحبيل قتل ابنه حَنَشاً، فأراد أبو حَنَش أن يأتي برأسه إلى سَلمة فخافه، فبعثه مع عَسيف له. فلما رآه سَلمة دَمعت عيناه، وقال له: أنت قتلتَه؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حَنش. فقال: إنما أدفع الثوابَ إلى قاتله. وهَرب أبو حَنش عنه. فقال سَلَمة:
ألا أبْلغ حَنَش رسولاً ... فما لك لا تجيء إلى الثوابِ
تعلم أن خير الناس مَيْتاً ... قَتِيلٌ بَين أحجار الكُلاب
تداعت حَوله جُشَمِ بن بَكر ... وأسلمه جَعاسيسُ الرباب
ومما يَدُل على أن بكراً كانت مع شرُحبيل قولُ الأخطل:

أبا غسان إنّك لم تُهني ... ولكن قد أهنتَ بني شِهاب
تَرقَّوا في النَخيل وأنسِئونا ... دِماءَ سرَاتكم يومُ الكُلاب
يوم الصفقة ويوم الكلاب الثاني
قال أبو عُبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العَلاء قال: كان يوم الكُلاب مُتصِلاً بيوم الصَفْقة، وكان من حديث الصَفقة أن كِسرى الملك، كان قد أوقع ببني تميم، فأخذ الأموالَ وسَبى الذَّراري بمدينة هَجر، وذلك أنّهم أغاروا على لَطيمة له فيها مِسك وعَنبر وجَوهر كثير، فسُمِّيت تلك الوَقعة يوم الصَّفقة، ثم إنّ بني تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحِجا منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وَهنتم، وتسامعتْ بما لقيتُم القبائل فلا تَأْمنون دَوران العرب. فجَمعوا سَبعة رؤساء منهم وشاوروهمِ في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفيّ الأسيِّديّ، والأُعيمر بن يَزيد بن مُرة المازنيّ، وقيس بن عاصم المِنْقريّ، وأُبير بن عِصْمة التَّيميّ، والنُّعمان ابن الحَسْحاس التَّيمي، وأُبَيْر بن عمرو السَّعدي، والزِّبْرقان بن بَدر السعديّ. فقالوا لهم: ماذا تَروْن؟ فقال أكثم بن صَيفيّ، وكان يُكنى أبا حَنش: إنّ الناس قد بلغهم ما قد لقينا، ونحن نخاف أن يطمعوا فينا، ثم مَسح بيده على قَلبه، وقال: إنّي قد نَيّفت على التِّسعين، وإنما قلبي بَضْعة من جِسْمي، وقد نَحل كما نحل جِسْمي، وإنّي أخاف أن لا يُدرك ذهني الرأيَ لكم، وأنتم قومٌ قد شاع في النّاس أمرُكم، وإنما كان قوامكم أسيفاً وَعَسيفاً - يُريد العَبد والأجير - وصِرْتم اليوم إنما تَرعى لكم بناتكم، فليعرض عليّ كُل رجل منكم رأيَه وما يَحْضُره، فإني متى أسمع الحَزم أعرفه. فقال كُل رجل منهم ما رأى، وأكثمُ ساكتٌ لا يتكلَم حتى قام النعمان بن الحَسْحاس، فقال: يا قوم، انظُروا ماءَ يجمعكم، ولا يعلم الناس بأيّ ماء أنتم حتى تَنفرج الحَلْقة عنكم وقد جَممتم، وصلُحت أحوالُكم، وانجبر كسيركم، وقَوِي ضعيفُكم. ولا أعلمِ ماءً يَجمعكم إلا قِدّة، فارتحلوا ونزلوا قِدَة. وهو موضع يُقال له الكُلاب. فلما سمِع أكثم ابن صيفيّ كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي. فارتحلُوا حتى نزلوا الكُلاَب. وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأَسفله مما يلي العراق. فنزلت سعدُ والرَّباب بأعلى الوادي، ونزلتْ حَنظلة بأسفله.

قال أبو عُبيدة: وكانوا لا يخافون أن يُغْزَوا يفي القَيْظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يَستطيع أحدٌ أن يَقطع تلك الصَّحاري لبُعْد مَسافتها، وليس بها ماء، ولشدّة حرّها. فأقاموا بقيّة القَيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى إذا تَهوّر القيظ - أي ذ هب - بَعث الله ذا العَينين، وهو من أهل مدينة هَجَر، فمرَّ بقِدّة وصَحرائها، فرأى ما بها من النَّعم، فانطلق حتى أَتىَ أهل هَجر، فقال لهم: هل لكم في جارية عَذْراء، ومُهرة شَوهاء، وَبكْرة حَمْراء، ليس دونها نَكبة؟ فقالوا: ومَن لنا بذلك؟ قال: تلكم تَميم ألقاء مطروحون بقِدّة. قالوا: إي واللّه. فمشى بعضُهم إلى بعض، وقالوا: أغتنمُوها من بني تَميم. فأَخرَجوا منهم أربعةَ أملاك، يقال لهم اليَزيديّون: يزيد بن هَوْبر، ويزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن اَلمأمور، ويَزيد بن المُخَرِّم، وكلهم حارثيّون؟ ومعهم عبد يغوث الحارثيّ. فكان كُل واحد منهم على أَلفين، والجماعة ثمانية آلاف. فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبرَ منه، ومن جيش كَسْرى يومَ ذي قَار ويوم شِعْب جَبلة. فمضَوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلةَ، قال جَزْء بن جَزْء الباهليّ لابنه: يا بني، كل لك في أُكْرومة لا يُصاب أبداً مثلُها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحيّ من تميم قد وَلجوا هناك مخافةً، وقد قصصتُ أثرَ الجيش يريدونهم، فأركب جَملي الأرْحبيّ وسِرْ سيراً رُويداً، عُقْبةً من الليل - يعني ساعة - ثم حل عنه حَبْليه وأَنْخِه وتوسَّد ذراعه، فإذا سمعته قد أَفاض بجرّته وبال فاستنقعتْ ثَفِناته في بَوْله فشُدّ عليه حَبْله، ثم ضَعْ السوط عليه فإنك لا تَسأل جملَك شيئاً من السَّير إلا أعطاك، حتى تصبح القوم ففعل ما أمره به. قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجَيش وأنا أنظُر إلى ابن ذُكاء - يعني الصّبح - فناديتُ: يا صَباحاه! فإنهم لَيَثِبون إليّ ليسألوني مَن أنت، إذ أقبل رجل منهم من بني شَقيق على مُهر قد كان في النَّعم، فنادى؛ يا صباحاه! قد أُتي على النَّعم. ثم كَر راجعاً نحو الجيش. فلقيه عبد يغوث الحارثيّ، وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس مَعدته، فسبق اللبنَ الدمَ، وكان قد أصطبح. فقال عبد يغوث: أطيعوني وامضُوا بالنعم وخلوا العَجائز من تميم ساقطةً أفواهُها. قالوا: أما دون أن نَنكح بناتِهم فلا. وقال ضمرة بن لَبيد الحِماسي ثم المَذْحجي الكاهن: انظُروا إذا سُقْتم النعم، فإن أتتكم الخيلُ عُصَباً، العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضُهم بعضاً حتى يردوا وُجوه النعم، فإن أمرهم شديد. وتقدمت سعد والرباب في أوائلٍ الخَيل، فالتقَوْا بالقوم فلم يَلتفتوا إليهم. واستقبلوا النعم ولم يَنتظر بعضُهم بعضاً. ورئيس الرباب النعمان بن الحَسْحاس، ورئيس بني سعد قَيسُ بن عاصم. وأجمع العُلماء أن قيس بن عاصم كان رئيسَ بني تميم. فالتقى القوم، فكان أولَ صريع النعمانُ بن الحسحاس. واقتتل القومُ بقية يومهم وثبَت بعضُهم لبعض حتى حَجز الليلُ بينهم. ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيسُ بن عاصم: يالَسعد، ونادى عبدُ يغوث: يالَسعد. قيسٌ يدعو سعدَ بنَ زيدَ مناة، وعبدُ يغوث يدعو سعدَ العشيرة. فلما سمع ذلك قيسٌ نادى: يالكعب فنادى عبدُ يغوث يالكعب. قيس يدعو كعبَ بن سعد، وعبدُ يغوث يدعو كعبَ بن مالك. فلما رأى ذلك قيس نادى: يالكعب مُقاعس. فلما سمعه وَعْلة بن عبد الله الجَرْمي، وكان صاحبَ لواء أهل اليمن، نادى: ياَلمُقاعس، تفاءل به، فطَرح اللواء، وكان أول من أنهزم. فحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم. ونادى قيسُ بني عاصم: يالَتميم، لا تقتلوا إلا فارساً، فإن الرّجالة لكم. ثم جعل يرتجز ويقول:
لما تولَّوا عُصَباً هواربَاً ... أقسمتُ أطعن إلاٌ راكباً
إنْي وجدتُ الطعن فيهم صائباً
وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يَتبعوا المُنهزمة ويقطعوا عُرقوبَ مَن لَحِقوا، ولا يَشتغلوا بقَتلهم عن اتَباعهم. فجزُوا دوابرَهم. فذلك قولُ وَعْلة:
فدى لكمُ أهلي وأُميَ ووالدي ... غداةَ كُلاب إذ تُجز الدَوابرُ

- وسنكتب هذه القصيدة على وَجهها - . وحَمى عبدُ يغوث أصحابه فلم يُوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظٌ به مَصاد بن ربيعة بن الحارث. فلما لحقَه مَصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره. وكان مَصاد قد أصابته طعنة في مَأْبِضه، وكان عِرْقُه يَهمي - أي يَسيل - فَعصبه، وكَتفه - يعني عبدَ يغوث - ثم أردفه خلفه فنزفه الدمُ، فمال عن فرسه مَقْلوباً. فلما رأى ذلك عبدُ يغوث قطع كِتافَه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أولَ النهار. ثم ظُفِر به بعد في آخره، ونادى مُنادٍ: قُتِل اليزيديّون. وشَدٌ قَبيصة بن ضرار الضَبي على ضمرة بن لَبيد الحِماسيّ الكاهن، فطَعنه فخر صريعاً. فقال له قَبيصةُ: ألا أخبرك تابعُك بمَصرعك اليوم؟ وأسر عبد يغوث، أسره عِصمة ابن أُبير التَّيمي.
قال أبو عُبيدة: انتهى عِصْمة بن أُبير إلى مَصَاد، وقد أمعنوا في الطلب، فوَجده صريعاً، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يَغوث أسيراً في يديه فعرف أنه هو الذي أجهز عليه، فاقتصّ أثرَه، فلما لحقه قال له: ويحك! إنّي رجل أُحب الِّلبن وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش. قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أُبير. قال عبد يغوث: أوَ عندك مَنَعة؟ قال: نعم. فألقى يدَه لا يده. فانطلق به عِصْمة حتى خَبأه عند الأهتم على أن جَعل له من فدائه جُعلا. فوَضعه الأهتم عند امرأته العَبْشمية. فأعجبها جمالُه وكمانُا خَلْقه. وكان عِصْمة الذي أسره غلاماً نحيفاً. فقالت لعبد يغوث: مَن أنت؟ قال: أنا سيد القوم. فضحكت وقالت: قَبَّحك الله سيّد قوم حينَ أسرك مثلُ هذا! ولذلك يقول عبد يغوث:
وتَضْحك مني شيخةٌ عَبْشميّة ... كأنْ لم تَريْ قَبْلي أسيراً يَمانيَا
فاجتمعت الرباب إلى الأهتم، فقالت: ثأرُنا عندك، وقد قُتل مَصاد والنُعمان، فأخرجه إلينا. فأبى الأهتم أن يُخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيين؟ الرباب وسعد، فِتْنة. حتِى أقبل قيسُ بن عاصم المِنْقري، فقال: أيؤتى قطع حِلف الرباب - مِن قِبَلنا؟ وضرب فمَه بقَوس فهَتمه، فَسُمَي الأهتم. فقال الأهتم: إنما دَفعه إليّ عِصْمة بن أبير ولا أدفعه إلاّ إلى مَن دَفعه إليّ، فليجئ فليأخذه، فأتوْا عِصْمة فقالوا: يا عصمة، قُتل سيدنا النعمان وفارسنا مَصاد، وثأرنا أسيرُك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تَسْتحييه. فقال: إني مُمْحل وقد أصبت الغِنى في نفسي، ولا تَطيب نفسي عن أسيري. فاشتراه بنو الحَسْحاس بمائة بعير - وقال رُؤبة بن العجَّاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النَّعم - فدفعه إليهم، فخَشُوا أن يهجوهم، فشدُّوا على لسانه نِسْعة. فقال: إنكم قاتلي ولابد، فَدعُوني أذُم أصحابي وأنوح على نفسي. فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تَهجوَنا. فعقد لهم ألا يفعل. فأطلقوا لسانَه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها:
أَلاَ لا تلوماني كَفى اللَّوم ما بِيا ... فما لكما في اللّوْم خيرٌ ولا ليَا
ألم تَعْلما أنّ الملامةَ نَفعها ... قليل وما لوْمِي أخِي مِن شِمَاليا
فيا راكباً إمَّا عَرضْتَ فبلَغنْ ... نَدامايَ من نَجْران أن لا تَلاقيا
أبا كَرب والأيْهمين كليهما ... وقيس بأعلى حَضرموتِ اليمانيا
جَزى الله قومي بالكُلاب مَلامة ... صَريحَهم والآخِرين المَواليا
ولو شئتُ بَحَّتنى من القوم نَهدة ... ترى خلفها الجُرد الجياد تَواليا
ولكنًني أحمِي ذِمارَ أبيكمِ ... وكاد الرِّماح يَخْتطفْن المُحاميا
أحقَّاً عبادَ الله أنْ لستُ سَامِعاً ... نَشيدَ الرِّعاء المُعزِبين المَتاليا
أقولُ وقد شَدُّوا لساني بنِسْعة ... أمَعشَر تَيْم أَطْلِقوا عَن لِسانيا
وتَضْحك منِّي شيخةٌ عبشمية ... كَأَنْ لم تَرَيْ قَبْلي أسيراً يمانياً
أمعشَر تَيْم قد مَلكتم فأَسْجِحوا ... فإنَّ أخاكم لم يكن من بَوائيا
وقد عَلمتْ عِرْسي مُليكةُ أنَّني ... أنا الليثُ مَعْدوَاً عليه وعاديا
وقد كنتُ نحّارَ الجَزور ومُعْمل اْلمط ... ي وأمضي حيث لا حي ماضيا

وأَعقِر للشَّرْب الكِرام مَطِيَّتي ... وأَصدَعِ بين القَيْنَتين رِدَائياً
وكُنتُ إذا ما الخَيل شَمَّصها القَنَا ... لَبِيقاً بتصْريفِ القَناة بَنانيا
وعاديةٍ سَوْم الجَرادِ وزعتها ... بِرُمْحي وقد أَنحَوْا إليَ العوالِيا
كأنِّيَ لم أرْكب جواداً ولم أقُلْ ... لِخَيْليَ كرّي قاتِليعن رِجالِيا
ولم أَسْبَأ الزِّقّ الرَّوِيّ ولم أقُلْ ... لأيْساَرِ صِدْقِ أَعْظِموا ضوْءَ نارِيا
قال أبو عُبيدة: فلِما ضُربِت عنقه قالت ابنةُ مَصاد: بؤ بمَصَاد. فقال بنو النعمان: يا لَكاع، نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمَصاد! فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغَناء كُله يوم الكُلاب من الرَّباب لتميم، ومن بني سَعد لِمُقاعس. وقال وَعْلة الجَرْميّ، وكان أول مُنهزم انهزم يوم الكُلاب، وكان بيده لِواء القَوم:
ومَنّ عليَ الله مَنَّاً شكرتُه ... غَدَاةَ الكُلاب إذ تُجز الدّوابر
ولمّا رأيتُ الخيلَ تَتْرَى أَثابجاً ... علمتُ بأن اليومَ أَحْمسُ فاجِر
نجوتُ نجاءً ليس فيه وَتيرَة ... كأني عُقابٌ عند تَيمن كاسر
خُدارية صَقْعاء لَبّد ريشَها ... بطَخْفة يوم ذو أَهاضيبَ ماطرُ
لها ناهض في الوَكْر قد مَهَدت له ... كما مَهدت للبَعْل حَسْناءُ عاقر
كأنا وقد حالت حذُنُة دوننا ... نَعامٌ تَلاه فارسٌ مُتواتر
فمَن يك يَرْجو في تَميم هوادة ... فليس لجَرْم في تميم أواصِر
ولما سمعتُ الخَيل تدعو مُقاعساً ... تَنازعني من ثُغرة النحر ناحِر
فإن أسْتطع لا تَبْتئس بي مُقاعس ... ولا تَرَني بيداؤُهمِ والمَحاضِر
ولا أكُ يا جَرَّارة مُضريةٍ ... إذا ما غدتْ قوت العِيال تُبادر
وقد قُلت للنهدي هل أنت مُرْدِفي ... وكيف رِدافُ الفَل أمُك عاثِر
يُذَكَرني بالآل بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونَهْد تَدَابُر
وقال محرز بن المُكعْبر الضبي، ولم يَشهدها، وكان مُجاوراً في بني بكر بن وائل لما بلغه الخبر:
فِدى لقومِيَ ما جمعت من نَشب ... إذ ساقت الحربُ أقواماً لأقوام
إذ حُدِّثت مَدْحجِ عنا وقد كُذبت ... أنْ لا يُذببعن أحسابنا حاَمي
دارت رحانا قليلاً ثم واجههم ... ضربٌ تَصدّع منه جِلْدة الهام
ظلّت ضباع مُجَيْراتٍ تجررهم ... وأَلْحُموهن منهم أيّ إلحام
حتى حُذُنة لم نَترك بها ضَبُعا ... إلا لها جزر من شِلْو مِقْدام
ظَلت تدوس بني كَعب بكَلْكَلها ... وَهمّ يومُ بني فَهْد بإظْلام
قال أبو عُبيدة: حدَّثني المُنتجع بن نَبهان قال: وَقف رُؤبة بن العجاج على التَّيم بمسجد الحروريَّة فقال: يا معشر تيم، إني سَمرت عند الأمير تلك الليلة فتذاكرنا يومَ الكُلاب فقال: يا معشرَ تَيم، إنّ الكُلاب ليس كما ذكرتم، فأعفُونا من قصيدَتيْ صاحبَيْنا - يعني عبد يغوث وَوعْلة الجَرميّ - ومن قصيدة ابنِ المُكعبر صاحبكم وهاتوِا غيرَ ذلك، فأنتم أكثر الناس كلاماً وهِجاء. قال رؤبة: فأنَشدناه في ذلك اليوم شعراً كثيراً. فجعل يقول: هذه إسلاميّة كُلّها،
يوم طِخَفَة

كانت الرِّدافة، رِدافة المَلِك، لعتّاب بن هَرْميّ بن رِياح، ثم كانت لقَيس بن عَتّاب، فسأل حاجب بن زُرَارة النُّعمان أن يجعلها للحارث بن قُرْط بن سفيان بن مُجاشع، فسأَلها النعمانُ بن يَربوع، وقال: أَعقبوِا إخوتكم في الرِّدافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وإنما سألها حاجبٌ حسداً لنا، وأَبَوْا عليه، فقال الحارث بن شِهاب، وهو عند النعمان: إنّ بنيِ يَربوع لا يُسلمون رِدافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشاً لم يمنعوه ولم يَمتنعوا، فبعث إليهم النعمانُ قابوسَ ابنَه، وحسَّانَ بن المنذر. فكان قابوس على الناس وكان حسان على المقدمة، وبَعث معهم الصَنائع والوَضائع - فالصنائع: مَن كان يأتيه من العرب، والوضائع: المُقيمون بالحِيرة - فالتقوا بطِخفة، فانهزم قابوسُ ومَن معه، وضَرب طارق بنُ عُميرة فرسَ قابوس فعقره، وأَخذه ليجزّ ناصيته. فقال قابوس: إنّ الملوك لا تُجز نواصيها، فجهّزه وأرسله إلى أبيه وأما حسان بن المُنذر، فأسره بشرُ بن عمرو الرياحيّ، ثم مَنّ عليه وأَرسله. فقال مالك بن نويرة:
ونحن عَقرنا مُهر قابوسَ بَعدما ... رَأْي القومُ منه الموتَ والخيل تُلْحَب
عليه دلاص ذاتُ نَسْج وسَيفُه ... جُراز من الْهندي أبيضُ مُقْضَب
طَلبْنا بها إنّا مَداريك قبلَها ... إذا طَلب الشِّأوَ البَعيد المُغَرّب
يوم فيف الريح
قال أبو عُبيدة: تجمّعت قبائل مَذْحج، وأكثرُها بنو الحارث بن كعب شعب، وقبائلُ من مُراد وجُعْفِيّ وزَبِيد وخَثْعم، وعليهم أنسُ بنُ مُدْركة، وعلى بني الحارثُ الحُصين. فأغاروا على بني عامر بن صَعْصعة بفَيف الرِّيح، وعلى بني عامر عامرُ بن مالك مُلاعب الأسِنَّة. قال: فاقتَتل القومُ، فكَثروهم. وارفضّت قبائلُ من بني عامر. وصَبرت بنو نُمير، فما شُبِّهوا إلا بالكِلاب المُتعاظلة حوْلَ اللّواء. وأقبلِ عامر بن الطًّفيلِ، وخَلفه دعيُّ بن جعفر. فقال: يا معشر الفِتيان، مَن ضرَب ضربة أو طعن طعنةَ فلْيُشهدني. فكان الفارس إذا ضَرب ضربة أو طَعن طعنة قال عند ذلك: أبا عليّ. فبينما هو كذلك إذ أتاه مُسْهِر بن يزيد الحارثي، فقال له مِن ورائه: عندك يا عامر، والرمح عند أذنه. فوَهَصه - أي طعنه - فأصابَ عَينَه. فوثب عامرٌ عن فَرسه ونجا على رِجْليه، وأخذ مُسْهِر رمحَ عامر. ففي ذلك يقول عامرُ بن الطُفيل بن مالك بن جَعفر:
لعَمري وما عَمْري على بهين ... لقد شان حُر الوَجْه طَعنةُ مُسْهِرِ
أعاذل لو كان البِداد لقُوتلوا ... ولكن نَزَوْنا للعديد المُجمهَر
ولو كان جمع مثلُنا لم يَبَزّنا ... ولكنن أَتتنا أُسْرة ذاتُ مَفْخر
أتونا ببَهراء ومَذْحج كُلها ... وأكْلُب طُرَّاً في جِنَان السَّنَوَّرِ
وقال مُسْهِر، وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل:
رَهصتُ بخرْص الرُّمح مُقلة عامر ... فأضحَى بخَيصاً في الفَوارس أَعْورَا
وغادر فينا رُمحَه وسِلاحَه ... وأَدْبر يَدْعو في الهَوالك جَعْفرا
وكُنّا إِذا قَيسيَّة دُهيت بنا ... جَرى دَمعُها مِن عَينها فتحدَرا
مخافةَ ما لاقتْ حليلةُ عامر ... من الشرِّ إذ سِرْبالها قد تَعفرا
وقال: وامتنّت بنو نُمير على بني كلاب بصَبرهم يوم فَيف الريح، فقال عامر:
تَمُنُّون بالنُّعمى ولولا مَكَرُنا ... بمُنعرجِ الفَيفا لكنتُم مواليَا
ونحن تداركْنا فوارسَ وَحْوحٍ ... عشيّة لاقينَ الحُصين اليَمانيا
وحوح، من بني نُمير، وكان عامر أستنقذهم وأُسر حَنظلة بن الطفيل يومئذ.
قال أبو عُبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلمه بمكة، وأَدرك مُسهِرُ بن يزيد الإسلام فأسلم.
يوم تِيَاس
كانت أفناء قبائل من بني سَعد بن زَيد مَناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بِتَياس، فقطع غيلانُ بن مالك بن عمرو بن تميم رِجْلَ الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فطلبوا القِصاص، فأقسم غيلان أن لا يَعْقِلَها ولا يُقَص بها حتى تُحشى عيناه تُراباً، وقال:

لا نَعْقِل الرٌجلَ ولاَ نِديها ... حتى تَروْا داهيةً تنسيها
فالتقوا فاقتتلوا، فجرحوا غيلان حتى ظَنوا أنهم قد قتلوه. ورئيسُ عمرو كعب بن عمرو، ولواؤه معِ ابنه ذُؤيب، وهو القائل لأبيه:
يا كعبُ إنّ أخاك مُنْحَمِق ... إن لم يكن بكَ مرّةً كعب
جانِيكَ مَن يَجني عليك وقد ... تُعْدِي الصحاحَ مَبارك الجُربِ
والحربُ قد تضطر صاحبَها ... نحو المَضيق ودونه الرحْبُ
يوم زرود الأول
غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زَرود خلفَ جبل من جبالها، فأَغاروا على نَعم كثير صادر عن الماء لبني عَبْس فاحتازوه. وأتى الصريخُ بني عَبس فركبوا. ولحق عُمارة بن زِيَاد العَبْسيّ الحَوْفزان فعَرفه، وكانت أُمًّ عُمارة قد أرضعتْ مُضَرَ بنَ شَريك، وهو أخو الحَوفزان. وقالِ عُمارة: يا بني شَريك، قد علمتُم ما بيننا وبينكم. قال الحوفزان، وهو الحارث بن شريك: صدقتَ يا عمارة، فانظُر كُل شيء هو لك فخذْه. فقال عُمارة: لقد علمتْ نساءُ بني بكر بن وائل أنّي لم أَملأ أيدي أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقةً عليهن من المَوت. فحمل عُمارة ليُعارض النَّعم ليردَّه، وحال الحوفزانُ بينه وبين النَّعم، فعَثرت بعُمارة فرسُه، فطَعنه الحوفزان. ولحَق به نَعامةُ بنُ عبد الله بن شَريك فطعنه أيضاً. وقال نَعامة: ما كرهتُ الرُّمح في كَفل رجل قط أشدّ من كَفل عُمارة. وأُسِر ابنا عُمارة: سِنان وشَدّاد. وكان في بني عَبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة مُجاورَيْن لهم، وكان لهما أخ أسير في بني يَشْكر، فأصابا رجلاً من بني مُرّة يقال له: مَعْدان بن مِحْرب، فذَهبا به فدَفناه تحت شجرة، فلمّا فقدتْه بنو شَيبان نادَوْا: يا ثارات مَعدان فعند ذلك قَتلوا ابني عُمارة. وهَرب الطائيّان بأسيرهما. فلما بَرأ عُمارة من جِراحه أتى طيّئاً فقال: ادفعوا إليّ هذا الكَلب الذي قُتِلنا به. فقال الطائيّ لأوس: أدفَع إلى بني عَبس صاحبَهم. فقال لهم أوس: أتأمرُونني أُنْ أُعطِيَ بني عَبْس قطرةً من دمي، وإن اْبني أسيرٌ في بني يَشكر؟ فوالله ما أرجو فَكاكَه إلا بهذا. فلما قَفل الحَوفزانُ من غَزْوه بَعث إلى بني يَشْكر في ابن أوْس. فبعثوا به إليه، فافتكّ به مَعْدان. وقال نَعامة بن شَريك:
استَنْزلت رماحُنا سِنَانَا ... وشيخَه بطَخْفة عِيَانا
ثم أخوه قد رَأى هَوانا ... لما فَقدْنا بيننا مَعْدانا
يوم غول الثاني
هو يوم كِنهل
قال أبو عُبيدة: أقبل ابنا هُجَيمة، وهما من بنى غَسّان، في جَيْش، فنَزلا في بني يَرْبوع فجاورا طارقَ بن عَوْف بن عاصم بن ثعلبة بن يَرْبوع، فنزلا معه على ماء يقال له كِنْهل، فأغار عليهما أناسٌ من ثَعلبة بن يَربوع، فاستاقوا نَعمَهما وأسروا مَن كان في النَعم، فركب قيسُ بن هُجيمة بخَيله حتى أدرك بني ثَعلبة، فكَر عليه عُتيبة بن الحارث. فقال له قَيس: هل لك يا عتيبة إلى البِرَاز؟ فقال: ما كنتُ لأسْألَه وادعه. فبارزه. قال عُتيبة: فما رأيتُ فارساً أملأ لعيني منه يومَ رأيتُه فَرَماني بقَوسه؟ فما رأيتُ شيئاً كان أكرهَ إليَ منه. فطَعنني. فأصاب قَرْبوس سَرْجي، حتى وجدت مَسّ السِنان في باطن فَخِذي، فتجنبتُ. قال: ثم أَرسل الرُّمح وقَبض بيدي، وهو يَرى أنْ قد أَثْبتني، وانصرف. فأتبعتهُ الفرس. فلما سَمع زَجلها رَجع جانحاً على قَرَبوس سَرْجه، وبدا لي فَرْج الدِّرع، ومَعي رمح مُعلَّب بالقِدّ والعَصَب كُنّا نَصطاد به الوَحش، فرميتُه بالقَوس وطعنتُه بالرمحٍ، فقتلتُه وانصرفت، فلحقتُ النَّعم. وأقبل الهِرْماس بن هُجيمة فوقف على أخيه قتيلاً ثم أتْبعني، وقال: هل لك في البِراز؟ فقلتُ لعلّ الرجعةَ لك خير. قال: أبعد قَيس؟ ثَم شدّ عليّ فضربني على البَيضة، فخَلَص السيفُ إلى رأسي. وضربتُه فقتلتُه. فقال سُحيم بن وثيل يعيّر طارداً بقتل جارَيْه:
لقد كنتَ جار ابْني هُجيمة قبلَها ... فلم تغْن شَيئاً غير قَتْل المُجاور
وقال جرير:
وساق ابني هجَيمة يومَ غَوْلٍ ... إلى أسْيافنا قَدَرُ الحِمام
يوم الجُبَّات

قال أبو عُبيدة: خَرج بنو ثَعلبة بن يِرْبوع فمرّوا بنَاسٍ من طوائف بني بَكْر بن وائل بالجُبَّات، خرجوا سِفاراً، فنزلوا وسرحوا إبلهم تَرْعى، وفيها نَفر منهم يَرْعونها، منهم سَوادة بن يَزيد بن بُجير العِجْليّ، ورجل من بني شَيبان، وكان مَحمُوماً، فمرَّت بنو ثَعلبة بن يَرْبوع بالإبل فأطْرَدوها، وأخذوا الرّجلين فسألوهما: مَن مَعكما؟ فقالا: معنا شيخُ بن يزيد بن بُجير العِجْليّ في عصابة من بني بَكْر بن وائل خَرجوا سِفاراً يُريدون البَحْرين. فقال الربيعُ ودُعْموص ابنا عُتيبة بن الحارث بن شِهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذِه الإبل ولم يَعلموا مَن أخذها، ارجعوا بنا حتى يَعلموا مَن أخذ إِبلهم وصاحَبيْهم ليعنِيَهم ذلك. فقال لهما عُميرة: ما وراءكما إلا شَيْخ ابن يَزيد قد أَخذتما أخاه وأَطْردتُما مالَه، دعاه. فأبَيا ورَجعا، فوقفا عليهم وأخبراهم وتسمَّيا لهم، فركب شيخُ بن يزيد فأتْبعهما وقد وَلّيا، فَلَحِق دُعموصاً فأسره. ومَضى ربيع حتى أتى عُميرة فأخبره أنّ أخاه قد قُتل. فرجع عُميرة على فرس يقال له الخنساء، حتى لَحِق القَوْم فافتكّ دُعْموصاً على أن يردَّ عليهم أخاهم وإبلهم. فردّها عليهم. فكفَر ابنا عُتيبة ولم يَشْكُرا عُميرة. فقال:
ألمن تَرَ دُعْموصاً يصُدّ بوَجهه ... إذا ما رآني مُقْبِلاً لم يُسَلِّم
ألم تَعْلما يا بني عُتَيبة مَقْدَمِي ... على ساقطٍ بين الأسنّة مُسْلم
فعارضتُ فيه القومَ حتى انتزعتُه ... جِهاراً ولم أنظُر له بالتلوُّم
يوم إرَاب
غزا الهُذيلِ بن هُبيرة بن حَسَّان التَّغلبيِّ فأغار على بني يَربوع بإراب، فقَتل فيهم قَتْيلاً ذَريعاً وأصاب نَعَماً كثيرة وسَبى سَبْياً كثيراً، فيهم زينب بنت حِمْير بن الحارث بن همَّام بن رِياح بن يَرْبوع وهي يومئذ عَقِيلة نساء بني تَميم. وكان الهُذيل يُسمَى مِجْدعا، وكان بنو تميم يُفزعون به أولادهم وسَبى أيضاً طابية بنت جَزْء بن سَعد الرِّياحي، ففَداها أبوها ورَكب عُتيبة بن الحارث في أسراهم ففكَّهم أجمعين.
يوم الشِّعْب
غزا قيسُ بن شَرْقَاء التَّغلبيّ، فأغار على بني يَرْبوع بالشِّعب فاقتتلوا، فانهزمت بنو يَربوع. فزَعم أبو هُدْبة أنها كانت اختطافا. فأُسر سُحيم لا ابن وثيل الرِّياحي، ففي ذلك يقول سُحيم:
أقول لهم بالشِّعْب إذ يأسرُونني ... ألم تَعْلموا أنِّي ابن فارس زَهْدَم
ففدا نَفسه، وأُسر يومئذ مُتمَم بن نُويرة. فوفد مالكُ بن نوبرة على قَيسَ ابن شرقاء في فِدائه، فقال:
هل أنت يا قيس بن شَرْقاء مُنْعِمٌ ... أو الجَهْد إن أَعطيْتهُ أنت قابله
فلما رأى وَسامته وحُسن شارته، قال: بل مُنعم. فأطلقه له.
يوم غول الأول
فيه قُتل طَريف بن شَراحيل وعمرو بن مَرثد المحلَّيّ. غزا طَريف بن تميمِ في بني العَنبر وطوائف من بني عمرو بن تَميم، فأغار على بني بَكْر بن وائل بغول فاقتتلوا. ثم إن بكراً انهزمتْ، فقُتل طَريف بن شرَاحيل، أحدُ بني أبي رَبيعة، وقُتل أيضاً عمرو بن مَرْثد المُحلَّميِّ وقتل المُحسَّر. فقال في ذلك رَبيعة بن طَريف:
يا راكباً بَلِّغن عني مغَلْغلة ... بني الخَصِيب وشرُّ المَنْطق الفَنَدُ
هَلا شراحيل إذ مالَ الحِزامُ به ... وسْطَ العَجَاج فلم يَغْضب له أحد
أو المُحسَّر أو عمرو تَحيفَهم ... منّا فوارسُ هَيْجا نَصْرُهم حَشَدُ
إنْ يَلحظوني بزُرْق من أسنَّتنا ... يُشْفَي بهنَ الشَّنا والعُجب والكَمد
وقد قَتلناكُم صَبراً ونَأْسرِكم ... وقد طَرَدْناكم لو يَنْفع الطَّرد
حتى استغاث بنا أدنىَ شَريدكم ... مِن بَعد ما مَسَّه الضرَّاء والنَّكد
وقال نَضلة السُلميّ في يوم غَوْل، وكان حقيراً دَميماً، وكان ذا نَجدة وبأس:
ألم تَسَل الفَوارِسَ يوم غَوْلٍ ... بنَضْلة وهو مَوْتور مُشيح
رأوْه فازْدَروه وهو حُرٌّ ... ويَنفع أهله الرجلُ القَبِيح
فشدّ عليهم بالسيَّف صَلْتاً ... كما عَضَ الشِّبا الفرس الجَموح

فأطْلق غُلّ صاحبه وأردَى ... قَتيلاً منهمُ ونَجا جَرِيح
ولم يخشُوا مَصَالته عليهم ... وتحتَ الرّغْوة اللبن الصَّريح
يوم الخَندَمَة
كان رجلٌ من مُشركي قريش يَحدُ حَرْبةً يومَ فَتْح مكّة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتُها لمحمَّد وأصحابه. قالت: والله ما أرى يقوم لمُحمد وأصحابه شيء. قال: والله إنِّي لأرجو أن أخدِمَك بعضَ نسائهم. وأنشأ يقول:
إن تُقْبِلوا اليومَ فما بي عِلّة ... هذا سلاحٌ كامل وألّه
وذو غِرَارين سريعُ السَّلّه
فلما لَقيهم خالدُ بن الوليد يوم الخَندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء. فلامتْه امرأته، فقال:
إنك لو شَهدتِ يوم الخنْدمه ... إذ فَر صَفوانٌ وفَرّ عِكْرمه
ولقِيتْنا بالسُّيوف المُسْلمه ... يَفْلقن كُلّ ساعد وجُمْجمه
ضَرْباً فلا تَسمع إلا غَمْغمه ... لم تَنْطِقي في اللوم أدنى كَلِمه
يوم اللّهَيْماء
قال أبو عُبيدة: كان سبب الحرّب التي كانت بين عمرو بن الحارث ابن تميمِ بن سَعد بن هُذيل، وبين بني عَبْد بن عَديّ بن الدِّيل بن بَكْر بن عَبْد مَناة، أن قيْس بن عامر بن عَريب، أخا بني عبد بن عَديّ، وأخاه سالماً، خَرجا يُريدان بني عمرو بن الحارث على فَرسين، يقال لإحداهما الَّلعَّاب والأخرى عَفزر. فباتا عند رجل من بني نُفاثة. فقال النُّفاثيّ لقَيس وأخيه: أطيعاني وارجعا، لا أعرفنّ رماحَكما تكْسر في قَتال نُعمان. قالا: إنَّ رماحنا لا تُكسر إلا في صُدور الرِّجال. قال: لا يَضرّكما، وسَتَحْمدان أَمري. فأصبحا غاديَينْ، فلما شارفا مَتْن الّلهيماء منِ نَعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أًديمة، أغارا على غنَم لجُندب بن أبي عُمَيس، وفيها جُندب، فتقدَّم إليه قَيس، فرماه جُندب في حَلَمة ثَدْيه، وبَعجه قيس بالسيف، فأصابت ظُبَةُ السَّيف وجه جُندب، وخَرَّ قَيس. ونَفرت الغنم نحو الدار وأَتْبعها. وحَمل سالمُ على جُندب بفَرسه عَفْزر، فضربَ جُندب خَطْمَ عَفزر بالسَّيْف فقَطعه، وضَربه سالمٌ، فاتقاه بيده، فقَطع أحدَ زَنْديه، فخر جُندب وذَفّف عليه سالم. وأدرك العشيُّ سالماً فخرج وترك سيفَه في المَعركة وثوبهُ بحِقْويه لم يَنْج إلا بجفْن سيفه ومِئْزره، فقال في ذلك حَمَّاد بن عامر:
لعمرُك ما ونىَ ابنُ أبي عُميس ... وما خانَ القتال وما أضاعَا
سَمَا بقرانِه حتّى إذا ما ... أتاه قِرْنه بَذَل المِصَاعا
فإنْ أكُ نائياً عنه فإنّي ... سرُرت بأنّه غُبِن البِيَاعا
وأفلتَ سالمٌ منها جَرِيضاً ... وقد كُلِم الذُّبابة والذَّراعا
ولو سَلمت له يُمنى يدَيْه ... لَعَمْرُ أبيك أَطْعَمَك السِّباعا
وقال حُذيفة بن أُنس:
ألا بَلِّغَا جِلّ السًواري وجابراً ... وَبلِّغ بني ذِي السِّهم عَنا ويَعْمُرا
كَشفتُ غِطاء الحَرْب لما رأيتُها ... تَميل على صِغوٍ من الَّليل أكْدرا
أخو الحَرْب إن عَضت به الحرب عضها ... وإن شَمَرت عن ساقَها الحَربُ شَمَّرا
ويمْشي إذا ما الموتُ كان أمامَه ... كذي الشِّبْل يَحْمي الأنْف أن يَتأخرا
نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدْقه ... ولم يَنْج إلا جَفنَ سيف ومِئْزرا
وطاب عن الَّلعّاب نفساً ورَبه ... وغادر قيسا في المكر وعفزرا
يوم خزَاز

قال أبو عُبيدة: فنازع عامر ومِسْمع ابنا عبد الملك، وخالدُ بن جَبلة، وإبراهيم بنِ محّمد بن نُوح العُطارديّ، وغسان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سَلْم الباهليّ، ونفر من وجوه أهل البَصْرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويَتنازعون في الرِّياسة يومَ خَزاز، فقال خالد بن جَبلة: كان الأحوص بن جَعفر الرئيس. وقال عامر ومِسْمع: كان الرئيسَ كليبُ بن وائل. وقال ابن نُوح: كان الرئيسَ زرارةُ بن عُدَس. وهذا في مجلس أبي عمرو بن العَلاء. فتحاكَموا إلى أبي عَمرو، فقال: ما شَهدها عامرُ بن صَعْصعة، ولا دارمُ بن مالك، ولا جُشَم بن بكر، اليومُ أقدمُ من ذلك، ولقد سألت عنه منذ ستّين سنة فما وجدتُ أحداً من القوم يعلم مَن رئيسُهم ومَن المَلِك، غَير أنَّ أهل اليمن كان الرجلُ منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعُمّال صَدقاتهم اليومِ، وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن المُلوك ملوك حْمير، وكانت نِزَار لم تَكْثُر بعد، فأوقدوا ناراً على خَزَاز ثلاثَ ليال، ودخَّنوا ثلاثةَ أيام. فقيل له: وما خزَز؟ قال: هو جَبل قريب من إمْر على يَسار الطريق، خلفه صَحْراء مَنْعِج، يُناوحه كُور وكُوير إذا قطعتَ بطنَ عاقل. ففي ذلك اليوم امتنعت نِزار من أهل اليمن أنْ يأكلوهم، ولولا قولُ عمرو بن كًلثوم ما عُرف ذلك اليوم، حيث يقول:
ونحنُ غَدَاةَ أوقد في خَزَارِ ... رَفَدْنا فوق رِفْد الرافدينَا
فكُنّا الأيْمنين إذا التقينا ... وكانَ الأيْسرِينِ بنو أبينا
فصالُوا صَولةً فيمن يَليهم ... وصُلْنا صولةَ فيمن يَلينا
فأبوا بالنِّهاب وبالسَّبايا ... وأبْنا بالمُلوك مصفدينا
قال أبو عمر بن العلاء: ولو كان جدّه كُليب وائل قائدَهم ورئيسَهم ما ادَّعى الرّفادة وتَرك الرياسة، وما رأيتُ أحداً عرَف هذا اليومَ ولا ذكره في شِعْره قبله ولا بعده.
يوم المِعَا
قال أبو عُبيدة: أغار المُنبطح الأسديُّ على بني عُبَاد بن ضُبَيعة، فأخذ نَعَما لبني الحارث بن عُبَاد، وهي ألفُ بعير، فمر ببني سَعد بن مالك بن ضُبيعة، وبني عِجْل بن لُجيم، فتَبعوه حتى انتزعوها منه، ورئيسُ بني سعد حُمران ابن عَبد عمرو، فأسر اقْتلُ بن حَسان العِجْلي المُنبطحَ الأسديَ، ففَداه قومه، ولا أدري كم كان فداؤه، واستنقذوا السَّبي. فقال حُجر بن خالد بن مَحمود في يوم المِعَا:
ومُنْبَطح الفواضِر قد أذقْنا ... بنَا عجةِ المِعَا حَرَّ الجلاد
تَنقذنا أَخاذيذاً فرُدّت ... على سَكن وجَمْع بني عُبَاد
سكن، ابن باعث بن الحارث بن عُباد. والأخاذيذ. مَن أخذ من النساء.
وقال حُمران بن عبد عمرو:
إنَّ الفوارس يوم ناعجة المِعَا ... نِعْمَ الفوارسُ مِن بني سَيّار
لم يُلْهم عَقْد الأصِرّة خَلْفهم ... وَحنِينُ مُنْهَلة الضُّروع عِشَار
لَحِقوا على قُبِّ الأياطل كالقَنا ... شُعْث تُعدّ لكُلِّ يوم عَوَار
حتى حَبَوْن أخا الغَواضِر ظَعْنةً ... وفَكَكن منه القِدَّ بعدَ إسَار
سالتْ عليه من الشِّعاب خوانِف ... وِرْد الغَطَاط تبلُجَ الأسْحار
يوم النِّسَار
قال أبو عُبيدة: تحالفت أسدٌ وطيء وغَطفان ولَحقت بهم ضَبّة وعديّ، فغَزَوْا بني عامر، فقتلوهم قَتْلاً شديداً، فغَضبتْ بنو تميم لقَتل بني عامر، فتجمعوا حتى لحقوا طيِّئاً وغَطَفان وحلَفاءهم من بني ضَبّة وعَدِيّ يوم الجفَار، فقُتلت تميمُ أشدَّ ممّا قُتلت عامر يومَ النِّسار. فقال في ذلك بِشرْ بن أبي خاَزم:
غضبتْ تميم أن تقتَّلَ عامرٌ ... يوم النِّسار فأعْتِبوا بالصَّيْلَم
يوم ذات الشُّقوق
فحلف ضمرة بنِ ضَمْرة النَّهشليّ فقال: الخَمر علي حرام حتى يكونَ له يوم يُكافئه. فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشُّقوق فقَتلهم، وقال في ذلك:
الآنَ ساغَ الشَّرابُ ولم أَكُن ... آتي التِّجارولا أَشُدّ تَكلُّمي
حتى صَبحْت على الشقوق بغارة ... كالتَّمر ينْثر في حَرِير الحُرَّم

وأبأتُ يوماً بالجفَار بمثله ... وأجرت نِصفاً مِن حَديث المَوْسم
ومشتْ نساء كَالظباءَ عواطلاً ... من بين عارفة السباء وأيِّم
ذَهب الرِّماح بزَوْجها فتَرَكْنَه ... في صَدْر معتدل القَناة مُقَوّم
يوم خَوّ
قال أبو عُبيدة: أغارت بنو أَسد على بني يَرْبوع فاكتَسحوا إبِلهم، فأتى الصريخُ الحيَّ، فلم يَتلاحقوا إلا مساءً بمَوضع يُقال له خَوّ. وكان ذُؤاب بن ربيعة الأشتر على فرس أنثى، وحصان عُتَيبة بن الحارث بن شِهاب على حِصان، فجعل الحصان يستنشق ريح الأُنثى في سواد الليل ويَتبعها، فلم يعلم عُتَيبة إلا وقد أقحم فرسَه على ذُؤاب بن رَبيعة الأشتر، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة اللّيل، وكان عُتيبة قد لَبس دِرْعه وغَفل عن جُربَّانها حتى أتى الصَّريخ فلم يشُده، ورآه ذُؤاب، فأقبل بالرُّمح إلى ثُغرة نَحره. فخرّ صريعاً قتيلاً. ولحق الربيعُ بن عُتيبة فشدِّ على ذُؤاب فأَسره وهو لا يَعلم أنه قاتلُ أبيه، فكان عنده أسيراً حتى فاداه أبوه ربيعةُ بإيل مَعلومة قاطَعَه عليها، وتواعدا سُوقَ عُكاظ في الأشهر الحُرم أن يأتيَ هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير. وأقبلَ أبو ذُؤاب بالإبل، وشغل الربيعُ بن عتيبة فلم يحضر سُوقَ عُكاظ. فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشُك أن ذُؤابا قد قَتلوه بأبيهم عُتيبة، فرثاه وقال:
أبْلغ قبائلَ جَعْفر مخْصوصة ... ما إن أحاول جَعفرَ بنَ كِلابِ
إنّ المودة والهوادة بيننا ... خَلَق كسَحْق الرَّيْطة المِنْجاب
ولقد علمتُ على التجلّد والأسى ... أنّ الرزّية كان يومَ ذُؤاب
إنْ يَقتلوك فَقد هتكتَ بيوتَهم ... بعُتيبة بن الحارث بن شِهَاب
بأحبّهم فقداً إلى أعدائه ... وأشدِّهم فقداً على الأصحاب
فلما بلغهم الشعرُ قتلوا ذُؤاب بن ربيعة. وقالت آمنةُ بنتُ عتيبة تَرثي أباها:
على مِثْل ابن مَيّة فانْعَيَاه ... بشَقّ نَواعِم البَشَر الجُيوبَا
وكان أبي عتيبة سَمهريّاً ... فلا تَلْقَاه يدَخر النَّصيبا
ضَرُوباً للكَمِيّ إذا اشمعلّت ... عَوانُ الحَرْب لا وَرعاً هَيُوبا
أيام الفجار
الفجار الأول
قال أبو عبيدة: أيّام الفِجار عدَّة وهذا أولها. وهو بين كِنَانة وهَوازن، وكان الذي هَاجَه أنّ بَدر بن مَعْشر، أحدَ بني غفار بن مُلَيْل بن ضمرِة بن بكر بن عَبد مَناة بن كِنانة. جُعل له مجلس بسوق عكاظ، وكان حَدَثاً مَنيعاً في نفسه، فقام في المجلس وقام على رأسه قائم، وأنشأ يقول:
نحن بنو مُدْرِكة بن خِنْدفْ ... مَن يَطْعنوا في عَيْنه لم يَطْوفْ
ومَن يكونوا قومَه يُغَطْرف ... كأنّهم لُجة بحر مسْدف
قال: ومدَّ رجلَه وقال: أنا أعزُّ العرب فمن زَعم أنه أعزُّ منّي فَلْيضربها. فضربها الأُحَيمر بن مازن، أحدُ بني دَهْمان بن نَصر بن مُعاوية، فأَنْدرها من الرُّكبة، وقال:
خُذْها إليك أيها المُخنْدف
وقال أبو عبيدة: إنما خَرصها خريصة يسبرة، وقال في ذلك:
نحن بنو دهْمان ذو التغِطْرُف ... بحر لبَحر زاخرِ لم يُنْزفِ
نَبنيْ على الأحياء بالمُعرَّفِ
قال أبو عُبيدة: فتجاور الحيّان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا، ورَأَوْا أنّ الخطبَ يسير.
الفجار الثاني
كان الفجار الثاني بين قُريش وهوازن، وكان الذي هاجه أنَّ فِتْيةً من قُريش قَعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صَعصعة، وضيئةٍ حُسَّانة بسُوق عُكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شبابٌ من بني كنانة وعليها بُرقع وهي في دِرْع فُضُل، فأعجبهم ما رأوا من هَيئتها، فسألوها أن تُسفر عن وجهها. فأبت عليهم. فأتي أحدُهم من خَلفها فشدَّ دُبُر دِرْعها بشوكة إلى ظهرها، وهي لا تدري، فلما قامت تقلّص الدرعُ عن دُبرها. فضحكوا وقالوا: مَنعتْنا النظَر إلى وجهها فقد رأينا دُبرها. فنادت المرأة: يا لعامر. فتحاور الناسُ، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حربُ بن أُمية وأَصلح بينهم.
الفجار الثالث

وهو بين كنانة وهوازن. وكان الذي هاجه أنَّ رجلاً من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نَصر بن مُعاوية، فأَعدم الكِنانيّ. فوافى النصريُّ بسُوق عُكاظ بقِرْد فأَوقفه في سوق عُكاظ، وقال: مَن يَبيعني مثلَ هذا بمالي على فلان؟ حتى أَكثر في ذلك. وإنما فعل ذلك النَّصريُّ تعييراً للكنانيّ ولقومه. فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القِرْد بسَيفه فقتله. فهتَف النصريُّ: يا لَهوازن، وهتَف الكنانيّ: يا لكنانة. فتهايج الناسُ حتى كاد أن يكونَ بينهم قتال، ثم رأوا الخطبَ يسيراً فتراجعوا، ولم يَفقم الشر بينهم.
قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فِجاراً لأنها كانت في الأشهر الحُرم، وهي الشُّهور التي يُحرِّمونها، ففجروا فيها، فلذلك سُمِّيت فِجاراً. وهذه يقال لها: أيام الفجار الأول.
الفجار الآخر
وهو بين قُريش وكِنانة كلها وبين هوازن، وإنما هاجها البرّاض بقتله عُروة الرَّجال بن عُتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعُرْوةَ البرّاض، لأنَّ عروة سيّد هوازن والبرّاض خليع من بني كِنانة، أرادوا أن يَقتلوا به سيّداً من قُريش. وهذه الحروب كانت قبل مَبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بستٍّ وعِشرين سنة، وقد شَهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ أربعَ عشرةَ سنة مع أعمامه. وقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: كنت أنْبُل على أعمامي يومَ الفِجار وأنا ابنُ أربعَ عشرةِ سنة - يعني أناولهم النَّبل - وكان سببُ هذه الحرب أنَّ النعمان بن المُنذر ملك الحِيره كان يَبعث بسُوق عُكاظ في كُل عام لطيمةً في جِوار رجل شريف مِن أشراف العرب يُجيرها له حتى تُباع هناك، ويَشتري له بثَمنها من أدَم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القِعدة، فيتسوَّقون إلى حُضور الحج ثم يَحُجّون. وكانت الأشهر الحرم أربعةَ أشهر: ذا القعدة وذا الحجّة والمُحرم ورجب. وعكاظ: بين نخلة والطائف، وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال. وكانت العربُ تَجتمع فيها للتجارة والتهيء للحجّ من أول ذي القعدة إلى وقت الحج، ويأمن بعضُها بعضاً. فجهّز النُعمان عِير اللطيمة، ثم قال: من يُجيرها؟ فقال البرَّاض ابن قيس النمريُ: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النّعمان: ما أريد إلا رجلاً يُجيرها على أهل نجد وتِهامة. - فقال عُروة الرحّال، وهو يومئذ رجلُ هوازن: أكَلْب خليع يُجيرها لك؟ أبيتَ اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقَيْصوم من أهل نَجد وتهامة. فقال البرّاض: أعلى بني كِنانة تُجيرها يا عُروة؟ قال: وعلى الناسِ كلِّهم. فدفعها النُّعمان إلى عُروة. فخرج بها وتبعه البَرّاضُ، وعُروة لا يَخشى منه شيئاً، لأنه كان بين ظَهراني قومه من غَطَفان إلى جانب فَدك إلى أرض يقال لها أُوارة. فنزل بها عروةُ فشرب من الخمر وغنّته قَيْنة ثم قام فنام. فجاء البرَاض فدخل عليه، فناشده عُروة، وقال: كانت مني زلّة، وكانت الفعلة مني ضلّة. فقتله وخَرج يرتجز ويقول:
قد كانتا الفَعلة مني ضَلّة
هلا على غيري جعلتَ الزلّة
فسوف أَعْلو بالحُسام القُلّة.
وقال:
وداهية يُهال الناس منها ... شددتُ لها بني بَكْر ضُلوعِي
هَتكتُ بها بيوتَ بني كلاَبِ ... وأَرضعتُ الموالي بالضُّروع
جمعتُ له يديَّ بنَصَل سَيفَ ... أفلّ فخرّ كالجذْع الصرَّيعِ

واستاق اللَطيمة إلى خَيبر. وأتبعه المُساور بن مالك الغَطَفانَي وأسد بن خيْثم الغَنوى حتى دخل خَيبر. فكان البرّاض أولَ مَن لَقِيهما، فقال لهما، مَن الرجلان؟ قالا: من غَطفان وغَنيّ. قال البرّاض: ما شأن غَطَفان وغنىّ بهذه البلدة؟ قال: ومَن أنت؟ قال: من أهل خَيبر. قالا: ألك عِلْم بالبرّاض؟ قال: دَخل علينا طريداً خليعاً فلم يُؤْوِه أحد بخَيبر ولا أَدخله بيتاً. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما به طاقةٌ إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا. فنزلاً وعَقلاً راحلتَيْهما. قال: فأيّكما أجرأ عليه، وأمضى مَقْدماً، وأحدّ سيفاً؟ قال الغَطفاني: أنا. قال البرَّاض: فانطلقْ أدلُّك عليه، ويحفظ صاحبُك راحلتيكما. ففَعل. فانطلق البرَّاض يَمشي بين يدي الغَطفانيّ حتى انتهى إلى خَربة في جانب خَيبر خارجة عن البيُوت. فقال البرَّاض: هو في هذه الخَرِبة وإليها يَأْوي، فأَنظرني حتى أنظرُ أثمَّ هو أم لا. فوقف له ودخل البرّاض، ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البَيت الأقصى خلفَ هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيفٌ فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هاتِ سَيفك أنظرُ إليه أصارم هو؟ فأعطاه إياه. فهزِّه البرّاض ثم ضَربه بن حتى قَتله، ووضع السيفَ خلفَ الباب، وأقبل على الغنويّ، فقال: ما وراءك؟ قال: لم أَرَ أجبنَ من صاحبك، تركته قائماً في الباب الذي فيه الرجل، والرجلُ نائم لا يتقدم إليه ولا يتأخَر عنه. قال الغنويّ: يا لَهْفاه، لو كان أحد ينظرُ راحلتَينا؟ قال البراض: هما علي إن ذهبت. فانطلق الغنويُّ والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنويّ بابَ الخَرِبة أخذ البرَّاض السيفَ من خلف الباب، ثم ضرَبه حتى قتله وأخذ سِلاحَيهما وراحلتيهما ثم انطلق. وِبلغ قريشاً خبرُ البرَّاض بسُوق العكاظ، فخَلصوا نَجِيَّاً. وأتبعتهم قَيس لمّا بلغهم أن البرَّاص قتل عُروة الرحَّال، وعلى قيس أبو بَراء عامر بن مالك. فأدركوهم، وقد دخلوا الحرم، ونادَوْهم: يا معشر قريش، إنَّا نُعاهد الله أن لا نُبطل دم عُروة الرحَّال أبداً، ونقتل به عظيماً منكم، وميعادنا وإيّاكم هذه الليالي من العام المُقبل. فقال حرب بنُ أُمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: إنّ موعدكم قابِل في هذا اليوم. فقال خِداشُ بن زُهير، في هذا اليوم، وهو يوم نَخلة:
يا شدَةً ما شدَدْنا غَيرَ كاذبةٍ ... على سَخِينةً لولا البيت والحَرمُ
لما رأَوْا خيلَنا تُزْجَى أوائلُها ... اسادُ غِيل حَمى أشبالِها الأجَم
واستُقبلوا بضِراب لا كِفاءَ له ... يُبْدِي من العُزل الأكفال ما كَتموا
ولَوا شلالاً وعُظمُ الخيل لاحقة ... كما تَخُب إلى أوطانها النَّعَم
ولَت بهم كل مِحْضارٍ مُلَمْلمةٌ ... كأنَّها لِقْوة يَحْتثها ضَرَم
وكانت العرب تسمي قريشاً سَخِينة، لأكلها السُّخن.
يوم شمطَة
وهي من الفِجار الآخر، ويوم نخلة منه أيضاً.
قال: فجمعت كنانة قُريشها وعبد منافها والأحابيشومَن لحق بهم من بني أسد بن خُزيمة. وسلَّحَ يومئذ عبد الله بن جُدعان مائة كَمِيّ بأداة كاملة سِوى من سُلّح من قومه. والأحابيشُ بنو الحارث بن عبد مَناة بن كِنانة: قال: وجمعت سليم وهوازن جموعَها وأحلافها غير كِلاب وبني كعب، فإنهما لم يشهدا يوماً الفِجار غيرَ يوم نَخلة، فاجتمعوا بشْمطة من عُكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قَرن الحَول، وعلى كل قَبيلة من قريش وكِنانة سيِّدها، وكذلك على قبائل قيس، غير أن أمر كِنانة كلها إلى حَرْبِ بن أمية، وعلى إحدى مُجنَّبَتها عبد الله بن جُدعان. وعلى الأخرى كريز بن ربيعة وحَرب بن أمية في القلب، وأمرُ هوازن كُلها إلى مسعود بن معتب الثّقفي. فتناهض الناس وزَحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة في أول النهار لكِنانة على هَوازن، حتى إذا كان آخرُ النهار تداعت هَوازن، وصابرت وانقشعت كنانة، فاستحرَّ القتلُ فيهم، فقُتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، وقيل ثمانون. ولم يُقتل من قُريش يومئذ أحدٌ يذكر. فكان يوم شَمطة لهوازن على كنانة.
يوم العَبْلاء

ثم جَمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في اليوم الثالث من أيام عُكاظ والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شَمطة، وكذلك على المُجَنَبتين، فكان هذا اليوم أيضاً لهَوازن على كنانة، وفي ذلك يقول خِداش بن زُهير:
ألم يَبْلغك ما لقيتْ قُريش ... وحيّ بني كنانة إذ أُبِيروا
دَهمناهم بأرعَن مُكفهرّ ... فظلّ لنا بِعَقْوتهم زَئِير
وفي هذا اليوم قتل العوَامِ بن خُويلد، والد الزُّبير بن العوَّام، قتله مُرَّة ابن مُعتِّب الثقفيّ، فقال رجل من ثقيف:
منَا الذي ترك العوَّام مُنْجدلاً ... تَنتابه الطيرُ لحماً بين أَحجارِ
يوم شَرَب
ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قَرن الحَوْل في الثالث من أيام عُكاظ فالتقوا بشَرب، ولم يكن بينهم يومٌ أعظم منه. والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا، وكذلك على المُجنّبتين. وحَمل ابنُ جُدْعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير، ممَّن لم تكن له حَمولة، فالتقوا. وقد كان لهوازن على كِنانة يومان مُتواليان: يوم شمطة ويوم العَبْلاء. فحميت قُريش وكنانة. وصابرت بنو مَخزوم وبنو بكر، فانهزمت هوازن وقُتلت قتلاً ذريعاً. وقال عبد الله بن الزُّبَعْرى يمدح بنى المًغيرة.
ألا للهّ قومٌ و ... لدتْ أُختُ بني سَهْم
هشامٌ وأبو عَبد ... مَنافٍ مِدْره الخَصْم
وذو الرُّمحين أشبال ... مِن القُوَّة والحَزم
فهذان يذُودان ... وذا مِنْ كَثَب يَرْمي
وأبو عبد مناف: قُصي؛ وهشام: ابن المُغيرة؛ وذو الرُّمحين: أبو ربيعة بن المُغيرة، قاتل يوم شرَب برُمحين؟ وأمهم رَيطة بنت سَعيد بن لسَهْم. فقال في ذلك جَذْل الطعان:
جاءت هوازنُ أرسالاً وإخوتها ... بنو سلَيم فهابوا المَوتَ وانصرفوا
فاستُقبلوا بضرِابٍ فَضَّ جَمْعَهم ... مثلَ الحريق فما عاجُوا ولا عَطَفوا
يوم الحرَيرة
قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك، ثم التقَوْا على رأس الحَوْل بالحُريرة وهي حَرَّة إلى جَنب عُكاظ. والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام، وكذلك على المُجنَّبتين، إلا أنّ أبا مُساحق بَلْعاء بن قَيس اليَعْمُري قد كان مات. فكان من بعده على بكر بن عبد مَناة بن كِنانة أخوه حُثامة بن قَيس. فكان يوم الحُريرة لَهوازن على كِنانة، وكان آخر الأيام الخَمسة التي تزاحفوا فيها. قال: فقُتل يومئذ أبو سفيان بن أُمية، أخو حَرْب بن أمية. وقُتل من كِنانة ثمانيةُ نَفر، قتلهم عثمانُ بن أُسيد بن مالك، صت بني عامر ابن صَعْصعة. وقُتل أبو كَنَف وابنا إياس وعمرو بن أيوب. فقال خِدَاشُ بن زهير:
إنّي مِن النَّفر المُحْمَر أَعْينهمِ ... أهل السوام وأهل الصَخر واللُّوبِ
الطاعِنين نُحورَ الخَيل مُقْبِلةَ ... بكل سَمْراء لم تُعْلب ومَعْلوب
وقد بلوتُم فأبلوكم بلاءَهم ... يوم الحُريرة ضرباً غير مَكذوب
لاقتْهمُ منهمُ اسادُ مَلْحمة ... ليسوا بزارعة عُوج العَراقيب
فالآن إن تُقْبلوا نأخذ نحورَكم ... كان تباهوا فإني غيرُ مَغلوب
وقال الحارث بن كَلَدة الثَّقفيّ:
تركتُ الفارسَ البَذّاخ منهم ... تَمُجّ عروقُه عَلقاً غبيطا
دعستُ لبانَه بالرُّمح حتى ... سمعتُ لِمَتْنه فيه أطيطا
لقد أرديتَ قومَك يا بنَ صَخْر ... وقد جَشًمتهم أمراً سَلِيطاً
وكم أسلمتُ منكم من كميِّ ... جريحاً قد سمعت له غَطِيطاً
مضت أيام الفجار الأخر، وهي خمسةُ أيام في أربعة سنين، أولها يوم نَخلة، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه؛ ثم يوم شَمطة، لهوازن على كنانة، وهو أعظم أيامهم؟ ثم يوم العَبْلاء؛ ثم يوم شَرب، وكان لكنانة على هوازن؛ ثم يوم الحُريرة، لهوازن على كنانة.
قال أبو عُبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يَذروا الفضلَ ويَتعاهدوا ويتواثقوا.
يوم عين أباغ
وبعده يوم ذي قار

قال أبو عُبيدة: كان ملكَ العرب المُنذر الأكبر بنُ ماء السماء، ثم مات. فملك ابنهُ عمرو بن المُنذر، وأُمّه هند وإليه يُنسب. ثم هلك فَمَلك أخوه قابوس. وأمه هِنْد أيضاً، فكان مُلكه أربعَ سنين. وذلك في مَملكة كِسْرى ابن هُرمز. ثم مات فملك بعده أخوه المُنذر بن المنذر بن ماء السماء، وذلك في مَملكة كِسرى بن هُرمز. فغزاه الحارث الغساني، وكان بالشامِ من تحت يد قَيصر، فالتقوا بعَينْ أَباغ، فقُتل المنذر. فطلب كسرى رجلاً يجعله مكانه. فأشار إليه عديّ بن زيد - وكان من تَراجمة كِسْرى - بالنّعان بن المنذر، وكان صديقاً له، فأَحبّ أنْ يَنفعه وهو أصغر بني المنذر بن ماء السماء، فولاّه كِسْرى على ما كان عليه أبوه. وأتاه عديّ بن زيد، فمكّنه النعمان. ثم سَعى بينهما فَحبسه حتى أتى على نَفسه، وهو القائل:
أبلغ النعمان عني مَالُكا ... أنّه قد طال حَبَسي وانتظاري
لو يغير الماء حَلْقي شَرِق ... كنتَ كالغصّان بالماء اعتصاري
وعِداتي شُمَّت أَعْجبهمِ ... أنّني غُيِّبت عنهم في إسارِي
لامرئ لم يَبْل مني سَقْطةَ ... إن أصابَتْه مُلِمّات العِثارِ
فلئن دَهْرٌ تولّى خَيرُه ... وجَرت بالنَّحس لي منه الجَواري
لَبِما مِنه قَضَينا حاجةً ... وحياةُ المَرء كالشيء المُعار
فلما قَتل النعمانُ عديّ بن زَيد العبَاديّ، وهو من بني امرئ القيس بن سَعد بن زيد مَناة بن تميم، سار ابنُه زيد بن عديّ إلى كسرى، فكان من تَراجمته. فكاد النعمانُ عند كِسرى حتى حمله عليه. فهرب النعمانُ حتى لحق ببني رَواحة من عَبْس، واستعمل كِسرى على العرب إياسَ بنَ قَبيصة الطائي. ثم إنّ النعمان تجوَّل حِيناً في أحياء العرب، ثم أشارت عليه امرأتُه المُتجرّدة أنْ يأتي كسرى ويعتذرَ إليه، ففعل. فَحبسه بساباط حتى هلك، ويقال: أوْطأه الفيلة. وكان النعمانُ إذا شَخِص إلى كسرى أودع حَلْقته، وهي ثمانمائة دِرْع وسلاحاً كثيراً، هانئ بنَ مسعود الشّيباني، وجعل عنده ابنته هندَ التي تُسمّى حُرَقة. فلما قُتل النعمان قالت فيه الشعراء. فقال فيه زُهير بن أبي سُلْمى المزنيّ:
ألم تَر للنُّعمان كان بنَجْوةٍ ... من الشرِّ لو أَنّ امرأَ كان باقيَا
فلم أرَ مَخذولاً له مثلُ مُلْكه ... أقلَّ صديقاً أو خليلا مُوافيا
خلا أنَّ حيا من رَوَاحة حافظوا ... وكانوا أُناساً يَتَّقون المَخازيا
فقال لهم خيراً وأَثنى عليهمُ ... ووَدّعهم تَوديع أنْ لا تَلاقيا
يوم ذي قار
قال أبو عُبيدة: يوم ذي قار هو يوم الحِنْو، ويوم قُراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذات العَجرم، ويوم بَطحاء ذي قار، وكُلّهن حَوْل ذي قار وقد ذكرتْهن الشعراء.

قال أبو عُبيدة: لم يكن هانئ بن مَسعود المُستودع حلقة النًّعمان، وإنما هو ابنُ ابنه، واسمه هانئ بن قَبيصة بن هانئ بن مَسعود، لأن وَقعة ذي قار كانت وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وخبّر أصحابَه بها، فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا. فكتب كسرى إلى إياس بنِ قَبيصة بأمره أن يَضُم ما كان للنُّعمان. فأَبى هانئ بن قَبيصة أن يُسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بَكْر بن وائل. وقَدِم عليه النَّعمانُ بن زُرْعة التَّغلبيّ، وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلّك على غِرَّة بكر؟ قالَ: بلى. قال أقِرَّها وأظْهر الإضراب عنها حتى يُجْليها القَيظ ويُدنيها منك، فإنهم لو قاظُوا تساقطوا بماء لهم، يقال له ذو قار، تساقطَ الفَراش في النار، فأقرَّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكرُ بن وائل حتى نزلوا الحِنْو حِنْو ذي قار، فأرسل إليهم كِسْرى النعمانَ بن زُرعة يُخيّرهم بين ثلاث خصال: إما أن يُسلموا الحَلْقة، وإما أن يُعرو الدِّيار. وإما أن يَأْذنوا بحَرب. فتنازعتْ بكرُ بينها. فهَمَّ هانئ بن قَبيصة برُكوب الفلاة، وأشار به على بَكْر، وقال: لا طاقَة لكم بجمُوع الملك. فلم تُرَ من هانئ سقطةٌ قبلها. وقال حِنظلةُ ابن ثَعلبة بن سيّار العِجْليّ: لا أرى غير القتال، فإنّا إن رَكبنا الفلاة مِتْنا عَطشا، وإن أعطينا بأيدينا تقتل مُقاتلتُنا وتُسبى ذرارينا. فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار، ولم يَشْهدها أحد من بني حَنيفة. ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قَبيصة، ويزيد بن مُسْهر الشَّيباني، وَحنظلة بن ثَعلبة العِجْتي - وقال مِسْمع بن عبد الملك العِجْلي بن لُجيم بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس وإنما غُزوا في ديارهم - فثار الناسُ إليهم من بيوتهم. وقال حَنظلة بن ثعلبة في هانئ بن قَبيصمة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتنا عامّة، وإنه لن يُوصل إليك حتى تفَنى أرواحنا، فأخْرج هذه الحلقة ففرِّقها في قومك، فإن تَظفر فستردّ عليك، وإن تَهْلِك فأهونُ مَفقود. فأمر بها فأُخرجت وفُرِّفت بينهم، وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أُبتَ إلى قومك سالماً.

قال أبو المُنذر: فعقد كِسْرى للنعمان بن زُرعة على تَغلب والنّمِر، وعقد لخالد بن يزيد البَهرانيّ على قُضاعة وإياد، وعَقد لإياس بن قَبيصة على جَميع العَرب، ومعه كَتيبتاه الشَّهباء والدَّوْسر، وعقد للهامَرْز التُّسْتَريّ، وكان على مسلّحة كِسرى بالسواد، على ألف من الأساورة. وكتب إلى قَيس بنِ مَسعود ابن قَيس بنِ خالد ذي الجَدّين، وكان عاملَه على الطَّف طفّ سَفَوان. وأمره أن يُوافيَ إياس بن قَبيصة، ففعل. وسار إياس بمَن معه من جُنده من طيىء، ومعه الهامَرْز والنّعمان بن زُرعة وخالد بن يَزيد وقَيْس بن مَسْعود، كُل واحد منهم على قومه. فلما دنا من بَكر انسل قيسٌ إلى قومه ليلاً، فأتى هانئاً فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع. قلما التقى الزَّحْفان وتقارب القومُ قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العِجْلي، فقال: يا معشر بكر، إنّ النّشّاب التي مع هؤلاء الأعاجم تُفرقكُم، فعاجلوا اللقاء وابدءوا بالشدَّة. وقال هانئ بن مَسعود: يا قوم، مَهلك مَعْذور، خير من مَنْجى مَغرور. إن الجَزع لا يردّ القَدر، وإن الصبر من أسباب الظّفر. المنيّة خير من الدنيّة، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجِدّ الجِد فما من الموت بُد. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقَطع وُضُن النِّساء فسقطْنَ إلى الأرض، وقال: ليقاتل كُل رجل منكم عن حَليلته، فسُمَي مُقَطّع الوُضُن. قال: وقَطع يومئذ سبعُمائة رجل من بني شَيبان أيديَ أَقْبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضَرب السُّيوف. وعلى ميمنتهم بكرُ ابن يزيد بن مُسهر الشّيباني، وعلى مَيْسرتهم حَنظَلة بن ثعلبة العِجْلي وهانئ بن قَبيصة. ويقال: ابنُ مَسعود في القَلب. فتجالد القومُ، وقَتل يزيدُ بن حارثة اليشكري الهَامَرز مُبارِزه، ثم قُتل يزيد بعد ذلك. ويقال إنَّ الحَوفزان بن شريك شد على الهامَرْز فقَتله. وقال بعضُهم: لم يُدرك الحَوفزان يوم ذي قار وإنما قتله يزيدُ بن حارثة. وضرب الله وُجوهي الفُرس فانهزموا، فأَتبعهم بكر حتى دخلوا السّواد في طلبهم يَقْتلونهم. وأُسر النّعمان بن زُرعة التّغلَبي، ونجا إياسُ بن قبيصة على فرسِه الحَمامة، فكان أولَ من انصرِف إلى كسرى بالهزيمة إياسُ بن قَبيصة، وكان كِسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتِفه. فلما أتاه ابن قَبيصة سأله عن الجيش. فقال: هَزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب بذلك كِسْرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس، وقال: إن أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر، فأردتُ أن آتيَه. فأذن له. ثم أَتى كِسْرى رجل من أهل الحِيرة وهو بالخَوَرْنق، فسأل: هل دَخل على الملك أحدٌ ؟ فقالوا: إياس، فظَنّ أنه حدّثه الخَبر، فدَخل عليه وأَخبره بهزيمة القوم وقَتْلهم. فأَمر به فنُزعت كَتِفاه.
قال أبو عُبيدة: لما كان يوم ذي قار كان في بَكْر أسرى من تَميم قريباً من مائتي أَسِير، أكثرهم من بني رِيَاح بن يَرْبوع. فقالوا: خَلُّوا عنّا نُقاتلْ معكم فإنما نَذُب عن أَنفسنا. قالوا: فإنا نخاف ألا تناصحونا. قالوا: فدعونا نُعلم حتى تروا مكاننا وغَناءنا فذلك قولُ جرير:
منّا فوارسُ ذي بهْدِي وذي نَجَب ... والمُعْلَمِون صباحاً يوم ذِي قار
قال أبو عُبيدة: سُئل عمرو بن العلاء، وتَنافر إليهِ عِجْليّ ويَشكري، فزعم العِجْليّ أنه لم يَشهد يومَ ذي قار غيرُ شيبانيّ وعِجْلي. وقال اليَشكريّ: بل شهدتْها قبائلُ بكر وحُلفاؤهم. فقال عمرو: قد فَصل بينكماَ التّغلَبيّ حيث يقول:
ولقد أمرتُ أخاك عمراً أَمْرةً ... فعصى وضَيعها بذات العُجْرُم
في غَمرة الموتِ التي لا تَشتَكي ... غمراتِها الأبطالُ غير تَغَمْغم
وكأنما أقدامهم وأكفُّهم ... سِرْب تَساقَط في خَليج مُفْعم
لمَّا سمعتُ دُعاء مُرَّة قد عَلا ... وابني رَبيعة في العَجاج الأَقتم
ومحلم يَمْشون تحت لوِائهم ... والموتُ تحت لواء آل مُحلِّم
لا يَصْدفون عن الوغى بوجوههم ... في كُل سابغةٍ كلون العِظْلم
ودَعَت بنو أُم الرِّقاع فأقبلوا ... عند الِّلقاء بحَل شاكٍ مُعْلم
وسمعتُ يَشْكر تدّعي بخُبَيِّب ... تحت العجَاجة وهي تَقْطُر بالدّم

يَمْشون في حَلق الحديد كما مَشت ... أُسْد العَرين بيوم نَحْس مُظْلم
والجَمع من ذُهل كأنّ زُهاءهمِ ... جُرد الجمال يَقودها ابنا قَشْعم
والخَيل من تحت العجاج عوابساً ... وعلى سنَابكها مناسج من دَم
وقال العُديل بن الفُرْخ العِجْليّ:
ما أَوقد الناس من نار لمَكْرُمة ... إلا اصطَلينا وكُنّا موقدي النّارِ
وما يَعدُّون من يوم سمعتُ بهِ ... للناس أفضلَ من يوم بذي قار
جِئْنا بأسلابهم والخيلُ عابسةٌ ... لما استلبنا لكِسرى كل إسوار
قال: وقالت عِجْل: لنا يوم ذي قار. فقبل لهم: فمن المستودع ومن المَطلوب؟ ومن نائب الملك ومن الرئيس؟ فهو إذا كان لهم كانت الرياسة لهانئ، وكان حَنظلة يُشير بالرأي. وقال شاعرهم:
إنْ كُنت ساقيةً يوماً ذوي كَرم ... فاسقي الفوارِسَ من ذُهلِ بنِ شَيبانَا
واسقي فوارسَ حامُوا عن ذِمارهم ... واعلي مفارقَهم منسْكاً ورَيْحانا
وقال أعشي بكر:
أمّا تميمٌ فقد ذاقتْ عداوتَنا ... وقيسَ عَيلان مَسَّ الخِزْيُ والأسَفُ
وجُند كِسْرى غداة الحِنْو صَبَّحهم ... منّا غَطاريف تُزجي الموتَ فانْصرفوا
لَقُوا مُلَمْلَمةَ شَهْبَاء يَقْدمها ... للموتِ لا عاجزٌ فيها ولا خَرِف
فَرْعٌ نَمَتْهُ فُروع غيرُ ناقصةٍ ... مُوفَّق حازمٌ في أمره أُنف
فيها فوارسُ محمود لقاؤهمُ ... مِثْل الَأسنَّة لا مِيل ولا كُشف
بِيضُ الوُجوهِ غداةَ الروع تَحْسَبهم ... جِنَّان عَبْس عليها البَيْض والزَّغَف
لما التقينا كَشَفْنا عن جَماجمنا ... لِيَعْلَموا أننا بَكْرٌ فينْصَرفوا
قالوا البقيَّةَ والهِنْديُ يحْصدهم ... ولا بقيَّةَ إلا السيف فانكَشفوا
لو أَنَ كلَّ معدِّ كان شارَكَنَا ... في يوْم ذي قار ما أَخطاهُمُ الشَّرَف
لما أَمالوا إلى النّشّاب أيديَهم ... مِلْنا بِبيض فَظل الهام يُخْتَطف
إذا عَطْفنا عليهم عَطْفَةً صَبَرتْ ... حتى تولَّت وكاد اليومُ يَنْتَصف
بطارق وبنو مُلْك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النَّطف
مِنْ كل مَرْجانة في البحر أحرَزها ... تيارُها ووقاها طينَها الصّدَف
كأنما الآلُ في حافاتِ جَمْعهم ... والبِيض بَرْق بدا في عارضٍ يَكِف
ما في الخُدود صدود عن سيُوفهم ... ولا عن الطَّعْنِ في الَّلبَّات مُنْحَرف
وقال الأعشىَ يلوم قَيسَ بن مسعود:
أقَيسَ بنَ مَسْعود بنِ قيس بنِ خالد ... وأنت أمرؤٌ تَرْجو شبابك وائلُ
أَطوْرَيْن في عام: غزَاة ورحلة ... ألا ليت قيْساً غَرَّفَتْه القوابل
لقد كان في شَيبان لو كنتَ راضياً ... قِبابٌ وحيٌّ حِلَّة وقَنابل
ورَجْراجة تُعْشي النواظرَ فَحْمةٌ ... وجُرْد على أكتافهنَّ الرَّواحل
رحلتَ و تَنْظُر وأنت عميدُهم ... فلا يَبْلغنَي عنك ما أنت فاعل
وعُرِّيت من أهل ومالٍ جمعتَه ... كما عُرِّيَتْ مما تُمِرُّ المَغازل
شَفى النفسَ قَتْلى لم تُوسَّد خُدُودُها ... وِساداً ولم تُعْضَض عليها الأنامل
بعيْنيكَ يومَ الحِنْو إذ صَبَّحْتُهمُ ... كتائبُ موتٍ لم تُعُقْها العواذل
ولما بلغ كسرى خبرُ قيس بن مَسعود إذ انسل إلى قومه، حَبسه حتى مات في حَبْسه. وفيه يقول الأعشى:
وعُرِّيت من أهل ومال جَمعتَه ... كما عُرِّيت مما تُمِرّ المغازلُ
وكتب لَقيطٌ الإياديّ إلى بني شَيبان في يوم ذي قار شعراً يقول في بَعضه:
قُوموا قياماً على أمشاط أرجلِكم ... ثم أفزعوا قد يَنالُ الأمنَ من فَزِعا

وقَلِّدوا أمرَكم للّه دَرُّكم ... رَحْبَ الذِّراع بأمر الحرب مُضطلعا
لا مُترَفاً إنْ رخاءُ العيش ساعدَه ... ولا إذا عَض مكروهٌ به خَشَعا
ما زال يَحْلُب هذا الدهرَ أشْطُرَه ... يكون مُتَبَعاً طوراً ومُتَبِعا
حتى اْستمرّت على شَزْر مَريرتُه ... لا مُسْتحكمَ الرأي لا قَحْماً ولا ضَرعا
وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زُرَارة:
قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طُرق ... شتى فصادفت منه اللينَ والفَظَعا
كُلاَّ بلوتُ فلا النعماءً تُبطرني ... ولا تَخشّعت من لأوائه جَزعا
لا يملأ الأمرُ صدري قبلَ موقعه ... ولا أضيق به ذرْعاً إذا وَقعا
كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر
قال الفتيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه، رحمه اللّه: قد مَضى قولُنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومَقاطعه ومَخارجه، إذ كان الشعر ديوانَ العرب خاصة والمنظومَ من كلامها، والمقيِّدَ لأيامها، والشاهد على أحكامها. حتى لقد بلغ من كَلَف العرب به وتَفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تَخيَّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القبَاطيّ المُدرجة، وعَلِّقتها بين أستار الكعبة. فمنه يقال: مذهَّبة امرئ القيس، ومُذَهَّبة زُهير. والمذَهبات سبع، وقد يقال لها المُعَلقات. قال بعضُ المحدثين يصف قصيدةً له ويُشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:
بَرْزة تُذكر في الحُس ... ن من الشعر المعلق
كل حَرْف نادرٍ من ... ها له وجهٌ معشق
المعلقات
لامرئ القَيس:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل.
ولزهير:
أمن أم أوفى دِمْنة لم تكلم
ولطَرَفة:
لِخَوْلة أطلالٌ ببرقة ثَهمد
ولعَنترة:
يا دارَ عَبلة بالجواء تكلمي
ولعمرو بن كُلْثوم
ألا هُبِّي بصحنك فاصْبحينا
وللَبيد:
عفَت الدِّيار محلها فمقامها
وللحارث بن حِلَّزة:
آذَنَتْنا ببَيْنها أسماء
اختلاف الناس في أشعر الشعراء
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذُكر عنه امرؤ القيس بن حُجْر: هو قائد الشعراء وصاحبُ لوائهم. وقال عمرُ بن الخطّاب للوَفد الذين قَدموا عليه من غَطفان: من الذي يقول:
حلفتُ فلم اتركْ لنَفْسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ
قالوا: نابغة بني ذُبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي ... على وَجَل تُطَنُّ بيَ الظُنونُ
فألفيت الأَمانةَ لم نَخنها ... كذلك كَان نُوح لا يَخون
قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعرُ شُعرائكم. وما أحسب عُمر ذهب إلا إلى أنه أشعرُ شُعراء غَطفان: ويَدُل على ذلك قوله: هو أشعرُ شُعرائكم.
وقد قال عمر لابن عَباس: أنشدني لأشعر الناس، الذي لا يُعاظِل بين القوافي ولا يَتَتَبَّع حُوشيّ الكلام. قال: مَن ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: زُهير بن أبي سُلْمى. فلم يَزل يُنشده من شعره حتى أصبح. وكان زُهير لا يَمدح إلا مُستحقّاً، كمدحه لِسنان بن أبي حارثة وهَرِم بن سِنان، وهو القائِل:
وانّ أشعر بيتِ أنتَ قائلُه ... بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صَدَقا
وكذلك أحسنُ القول ما صدّقه الفعل قالت بنو تَميمٍِ لسَلامة بن جَندَل: مجدْنا بشعرك قال: افعلوا حتى أقول. وقيل للبيد: مَن أشعر الشعراء؟ قال: صاحبُ القُروح - يريد امرأ القيس - قيل له: فبعده مَن؟ قال: ابن العِشْرين - يعني طَرفة - قيل له: فبعده من؟ قال: أنا.
وقيل للحُطيئة: من أشعَر الناس؟ قال: النابغة إذا رَهب، وزُهير إذا رَغب، وجَرير إذا غَضِب. وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرُهم واحدةً، يعني قصيدته:
لِخولة أطلالٌ بِبُرقة ثَهْمد
وفيها يقول: ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويَأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّدِ وانشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيتَ، فقال: هذا من كلام النُّبوة. وسمع عبد الله بن عمر رجلاً ينشد بيت الحُطيئة:

مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوء نارِه ... تَجدْ خَيْرَ نارٍ عندها خيرُ موقِدِ
فقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إعجاباً بَالبيت. يعني أنّ مثل هذا المَدح لا يَستحقّه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئل الأصمعيّ عن شعر النابغة، فقال: إنْ قلت ألينُ من الحرير صدقتَ، وإن قلتَ أشدّ من الحديد صدقت. وسُئل عن شعر الجَعديّ، فقال: مُطْرف بآلاف. وخِمار بواف. وسُئل حمَّاد الراوية عن شعر ابن أبي رَبيعة، فقال: ذلك الفسِتق المُقشرّ الذي لا يُشبع منه. وقالوا في عمرو بن الأهتم: كان شعره حللاً مًنَشرَة. وسُئل عمرو بن العلاء عن جَرير والفَرزدق، فقال: هما بازيان يَصيدان ما بين الفِيل والعَنْدبيل. وقال جرير: أنا مدينةُ الشعر والفَرزدقُ نَبْعته. وقال بلالُ بن جرير: قلت لأبي: يا أبت، إنك لم تَهْج قوماً قطُّ إلا وضعتَهم إلا بني لَجأ. قال: إنّي لم أجد شرفاً فأضعَه ولا بناء فأهدمه.
واختلف الناس في أَشعر نصف بَيت قالته العربُ. فقال بعضهم: قولُ أبي ذُؤيب الهُذلي:
والدهرُ ليس بمُعتب من يَجْزَع
وقال بعضهُم: قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ:
نوكّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي
وقال بعضهُم قول زُميل:
ومَن يَكُ رهناً للحوادث يَغلق
وهذا ما لا تُدرك غايته، ولا يُوقف على حده. والشعر لا يفوت به أحد، ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدعُ منه، وللّه دَرّ القائل: أشعر الناس مَن أبدع في شعره. إلا ترى مَروان بن أبي حَفصة، على موضعه من الشعر وبُعد صِيته فيه، ومَعرفته بغَثِّه وسَمِينه، انشدوه لامرئ القَيس فقال: هذا أشعرُ الناس.
وقد قالوا: إنَّ لحسَّان بن ثابت أفخِرَ بيت قالته العرب، وأحكمَ بيت قالته العرب. فأما أفخر بيت قالته العرب، فقوله:
وبيوم بَدْرٍ إذ يرد وجوهَهم ... جِبريل تحت لِوائنا ومحمدُ
وأما أحكم بيت قالته العرب، فقوله:
وإنَ امرأً أَمسى وأصبح سالماً ... من النَّاس إلا ما جَنى لسعيدُ
وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير:
والتَّغْلبيّ إذا تَنَحْنح للقِرَى ... حكَّ آسْتَه وتمثَّلَ الأمْثَالاَ
ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوتُ بني تَغلب ببيت لو طُعنوا في أستاههم بالرِّماحِ ما حكّوها.
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها ... وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ
ويقال: إنَّ أصدق بيت قالته العرب قولُ لَبيد:
ألاَ كُل شيءٍ ما خلا الله باطلُ ... وكُل نَعيم لا محالةَ زائلُ
وذُكر الشعر عند عبد الملك بن مَروان فقال: إذا أردتُم الشعر الجيِّد فعليكم بالزُّرق من بني قيس بن ثَعلبة، وهم رهط أعشى بَكْر، وبأصحاب النِّخل من يَثرب، يريد الأوس والخَزْرج، وأصحاب الشَّعف من هُذيل، والشَّعف: رءوس الجبال.
فضائل الشعر
ومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب، وجليل خَطْبهِ في قلوبهم، أنَّه لما بُعث النبيُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن المُعجِز نظمه، المُحكم تأليفه، وأعجب قريشاً ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سِحْر. وقالوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم: " شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون " . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه: إنَّ مِنِ البيان لَسِحْراً.
لقد خشيت أن تَكون ساحرَاً ... روايةً مَرّاً ومراً شاعرَاً
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ من الشعر لحِكْمة. وقال كعبُ الأحبار: إنّا نَجد قوماً في التوراة أناجيلُهم في صُدورهم، تَنطق ألسنتهم بالحِكْمة، وأظنّهم الشُّعراء. وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر، يُقدِّمها في حاجاته، يَستعطف بها قلبَ الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.

وقال الحجَّاج للمُساور بن هند: ما لك تقول الشعرَ وقد بلغتَ من العُمر ما بلغتَ؟ قال. أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضي لي به الحاجة، فإن كفيتَني ذلك تركتهُ. وقال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: روَهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا. وقالت عائشة: روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون منِ العِلم، فوجده عالماً بكل ما سأله عنه. ثم أستنشده الشعر، فقال: لم أَرْوِ منه شيئاً. فكتب معاويةُ إلى زياد: ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ، وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو، وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل.
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ ... يومَ لا يُقدر أم يوم قَدِرْ
يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبه ... ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِر
وقال المقداد بن الأسود: ما كنتُ أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشِعر ولا فَريضة من عائشة رضي الله عنها. وفي رواية الخُشَنِيّ عن أبي عاصمٍ عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مُليكة قال: قالت عائشة: رحم الله لَبيداً كان يقول:
قَضِّ اللُبانةَ لا أبالك وأذهبِ ... والحق بأسرتك الكِرام الغُيَّبِ
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلف كجِلْدِ الأجرب
فكيف لو أدرك زَماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألفَ بيت له، وإنه أقلُّ ما أروي لغيره.
وقال الشَعبيّ: ما أنا لشيء من العِلم أقلّ مني روايةً للشِّعر، ولو شئتُ أن أنشد شعراً شهراً لا أعيد بيتاً لفعلت. وسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي تُنشد شعر زُهير بن جَناب:
أرفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ ... يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى
يَجزيك أو يثني عليك فإنّ مَن ... أثنى عليك بما فعلتَ كمن جَزَى
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صدق يا عائشة، لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس.
يزيد بن عمرو بنِ مسلم الخُزاعي، عن أبيه عن جَدّه قال: دخلتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومُنشد يُنشده قول سُويد بن عامر المصطلق:
لا تأمنَن وإن أمسيتَ في حَرَمٍ ... إنَّ المَنايا بجَنْبي كُل إِنْسانِ
فاسلُك طريقَك تَمْشي غير مُخْتَشع ... حتى تلاقِي الذي مَنَّى لك الماني
فكل ذي صاحب يوماً مُفارقهُ ... وكُلّ زادٍ وإنّ أبقيته فاني
والخيرُ والشرُّ مَقْرونان في قَرَن ... بكُل ذلك يأتيك الجَدِيدان
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أَدرك هذا الإسلام لأسلم.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: جاء رجُل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك يا رسول اللّه؟ قال: نعم. فأنشده:
تركتُ القِيان وَعزْف القِيان ... وأدمنتُ تَصليةً وابتهالا
وكَرِّي المُشقَّر في حَوْمة ... وشَنِّي على المُشْركين القِتالا
فيا ربّ لا أغبننْ صفقتيَ ... فقد بِعْت مالي وأهلي بدالا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: رَبح البَيع، ربح البيع. قدم أبو ليلى النابغة الجَعديّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانشده شعرَه الذي يقول فيه:
بَلَغنا السماءَ مجدنا وسناؤنا ... وإِنا لَنرجو فوق ذلك مَظْهَرَا
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إلى الجنة إن شاء اللّه: فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حِلم إذا لم تَكُن له ... بوادرُ تَحْمِي صَفْوه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جَهل إن لم يكُن له ... حَلِيم إذا ما أورد الأمرُ اصدرَا
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يفْضض الله فاك. فعاش مائةً وثلاثين سنة لم تَنْغُض له ثنية.
سفيان الثّوري عن لَيث عن طاووس عن ابن عباس قال: إنها لكَلمة نبيّ.
يَعني قولَ طرفة:
ستُبدي لك الأيامً ما كنت جاهلاً ... وَيأتيك بالأحبار مَن لم تُزودِ
وسمع كعب قولَ الحُطيئة:

مَن يفعل الخير لا يَعْدَم جَوازيه ... لا يذْهبُ العُرف بين الله والناس
قال: إنه في التّوْراة حَرْفاً بحَرف: يقول اللّه تعالى: " مَن يفعل الخير يَجدْه عندي، لا يذهب الخيرُ بيني وبينَ عبدي " .
وقال عبد الله بن عبّاس: أنشدت النبيّ صلى الله عليه وسلم أبياتاً لأًمية بن أبي الصَّلت يذكر فيها حَملة العرش، وهي:
رَجُلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْل يَمينه ... والنّسرِ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ
والشمسُ تَطْلُع كُل آخر ليلةٍ ... فجراً ويُصبح لونُها يتوقد
تبدو فما تبدو لهم في وَقْتها ... إلا مُعذِّبة وإلا تُجْلَد
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم كالمُصدِّق له.
ومن حديث ابن أبي شَيْبة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردف الشريد، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: تَرْوي من شِعر أُمية بن أبي الصَّلت شيئاً؟ قلتُ: نعم. قالت: فأنشِدني. فأنشدته. فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه، حتى أنشدتُه مائة قافية. فقال: هذا رجل آمن لسانه وكَفر قلبُه.
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جُند يجنّده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُشركين، يدُل على ذلك قولُه لحَسان: شُنَ الغَطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام: وتَحفظْ ببَيْتي فيهم. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيَّاً لأسُلّنّك منهم سَلّ الشّعرة من العجين. ثم أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه، وقال: والله يا رسولَ الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلقه، أو على شَعَر لحَلقه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيد الله حسّاناً في هَجْوه برُوح القُدس. وقال ابن سيرين: بلغني أنّ دَوْساً إنما أسلمتْ فَرقاً من كعب بن مالك صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
قَضينا من تِهامة كُلّ نحب ... وخَيْبر ثم أَغْمدنا السيوفَا
نُخبِّرها ولو نَطقت لقالت ... قواضبُهنَّ دَوْساً أو ثَقِيفاً
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لقد شكر الله لك قولَك حيثُ تقول:
زعمتْ سَخينةُ أنْ ستغلب رَبَّها ... ولَيُغْلبنّ مُغالب الغَلاّبِ
ولو لم يكن من فضائل الشّعر إلا أنّه أعظمُ الوسائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رَواحة: أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله؟ قال: شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني. قال: فأَنْشِدني فأَنشده شعره الذي يقول فيه:
فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ ... فَفَوْتَ عيسى بإذْن الله والقَدَرِ
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وإياك ثَبَّت الله، وإياك ثَبت الله ومِن ذلك ما رواه ابنُ إسحاق صاحب المَغازي وابنُ هشام. قال ابن إسحاق: لما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفراء - قال ابنُ هشام: الاثيلِ - أمر عليَّاً فضرَب عنق النَضر بن الحارث بن كَلدة بن عَلْقمة بن عبد مناف، صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أُختُه قُتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكباً إنّ الأثيل مَظنّة ... من صُبحِ خامسة وأنت مُوفقُ
أَبْلِغ بها مَيْتاً بأنَّ تحيةً ... ما إن تزال بها النجائبُ تخفق
مني عليك وعَبرة مَسْفوحة ... جادت بواكِفها وأًخرى تَخنُق
هل يَسمعني النضرُ إن ناديتُه ... أم كيف يَسمع مَيت لا ينطق
أمحمد يا خيرَ ضِنْء كَريمة ... في قَومنها والفحلُ فحلٌ مُعرق
ما كان ضرك لو مَننت وربما ... مَنّ الفتى وهو المَغيظ المُحنق
فالنضر أقربُ من أَسرت قرابةً ... وأحقُّهم إن كان عِتْق يُعتق
ظَلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشه ... للهّ أرحام هناك تمزق
صبراً يُقاد إلى المنيّة مُتعباً ... رَسْفَ المُقيّد وهو عانٍ مُوثَق
قال ابن هشام: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، لمّا بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبلَ قتله ما قتلْتهُ.

من حديث زياد بن طارق الجشميّ قال: حدّثني أبو جَرْول الجُشمي، وكان رئيس قومه، قال: أَسَرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فبينما هو يُميز الرجال من النساء إذ وثبتُ فوقفتُ بين يديه وأنشدته:
امنُن علينا رسولَ الله في حُرَم ... فإنك المرءُ نرجوه ونَنتظر
امنُن على نِشوة قد كنتَ تَرْضعها ... يا أَرجح الناس حِلْماً حين يُخْتبر
إنّا لَنْشكر للنُّعمى إذا كُفِرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخر
فذكَّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه. فقال عليه الصلاةُ والسلام: أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو للّه ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو للّه ولرسوله. فردّت الأنصار ما كان في أيهديها من الذَّراري والأموال.
فإذا كان هذا مَقامِ الشعر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأي وسيلة تَبلغه أو تعْشره.
وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ، أحدَ بني كَعب، خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت خُزاعة في حِلْف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعَقْده، فلمّا انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها. فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدَاً ... حِلْفَ أَبينا وأَبيه الأتْلدَا
قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك الموكدا
وجعلوا لي في كَداء رَصداً ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذلّ وأقل عدداً ... هُم بيّتونا بالوتير هُجَّدا
وقَتّلونا رُكعّا وسُجّدا ... فانصرُ هَداك الله نَصْراً أَيِّدا
وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدا ... فيهِم رسولُ الله قد تجرّدا
إنْ سِيم خَسْفاً وجهُه تَربّدا ... في فَيْلق كالبَحر يَجْري مُزْبدا
قال ابن هشام: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، نُصرت يا عمرو بن مالك. ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب. وقال عمر بن الخطّاب: الشعر جَزل من كلام العرب، يُسكَّن به الغَيظ، وتُطفأ به الثائرة، ويتبلَّغ به القومُ في ناديهم، وُيعطى به السائل. وقال ابنِ عبّاس: الشعر عِلْم العرب وديوانها فتعلَّموه، وعليكم بشعر الحِجاز. فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز، وحَضَّ عليه، إذ لغتهم أَوسط اللّغات.
وقال معاويةُ لعبد الرحمن بن الحكم: يا بن أخي، إنك شُهرت بالشعر، فإياك والتشبيبَ بالنّساء، فإنك تغرّ الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها؛ والهجاء، فإنك لا تَعْدو أن تُعادي كريماً أَو تَستثير به لئيماً. ولكن افخر بمآثر قَومك، وقُل من الأمثال ما تُوَقّر به نفسك، وتؤدِّب به غيرك. وسُئل مالك ابن أنس: منِ أين شاطر عمرُ بن الخطاب عُمّاله؟ فقال أموال كثيرة ظهرت عليهم، وإنّ شاعراً كتب إليه يقول:
نَحجُّ إذا حَجُّوا ونَغْزو إذا غَزَوْا ... فأنيَّ لهم وَفْر وَلَسنا بذي وَفْر
إذا التاجرُ الهِنْدي جاء بفَارة ... من المسك راحت من مَفارقهم تَجْري
فدونك مالَ الله حيثُ وجدتَه ... سَيرضَون إن شاطرتهم منك بالشَّطْر
قال: فشاطرهم عُمر أموالهم.
وأنشد عمر بن الخطّاب قولَ زُهير:
فإن الحق مَقْطعه ثلاثٌ ... يَمين أو نَفارٌ أو جَلاءُ
فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحُقوق وتَفصيلها وإنما أراد: مَقطع الحقوق يَمين أو حكومة أو بيِّنة. وأُنشد عُمر قول عَبَدة بن الطَّبيب:
والعيشُ شح وإشفاقٌ وتَأميلُ
فقال: على هذا بُنيت الدنيا.
ولمّا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر أصحابُه، مستهم وباء المدينة فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلتُ عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تَجدك؟ ويا بِلال، كيف تَجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:
كُلّ امرئ مُصَبّح في أهله ... والموتُ أَدْنى من شرِاك نَعْلِهِ

وقالت: وكان بلال إذا أَقلعت عنه يَرفع عقيرته ويقول:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً ... بوادٍ وحَوْلي إذْخر وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ ... وهل يبدوَن لي شَامَة وطَفِيل
قالت عائشة: وكان عامر بن فُهيرة يقول:
وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه ... إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه
كالثَور يَحْمي جِلده برَوْقِه قالت عائشة: فجئتُ رسوله الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه. فقال: اللَّهم حبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة وأشد، وصَحّحها وبارك لنا في صاعها ومُدها، وأنقُل حماها فاجعلها بالجُحفة.
ومن حديث البَراء بن عازب، قال: لما كان يوم حُنين رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعبّاس وأبا سُفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهما آخذان بِلجام بغلته، وهو يقول:
أنا النبيّ لا كَذِب، ... أنا ابنُ عبد المُطّلبْ
ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة عن سُفيان بن عُيينة يَرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه لما دخل الغار نُكِبَ، فقال.
هل أنتِ إلا إصْبع دَمِيت، ... في سَبيل الله ما لقيت
فهذا من المَنثور الذي يُوافِق المنظوم، وإن لَم يتعمد به قائله المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوَزن، مثلُ قول عبد مملوك لمواليه: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا قد اكتوى. ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يُراد به الشعر. ولا يُسمَّى قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان موزوناً، شعراً، لأنه لا يراد به الشّعر. ومثلُه قي أي الكتاب: " ومِن اللَّيْل فَسَبّحه وإدْبَار النُّجوم " ومنه: " وجِفَان كالجَوَاب وقُدُور راسيات " ومثله " ويُخزْهم ويَنْصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مُؤمنين " ومنه: " فَذَلكَ الَّذي يَدُعِّ اليَتيم " . ولو تطلّبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يَحتمل الوزن كثيراً ولا يُسمّى شعراً. من ذلك قولُ القائل: مَن يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات. وهذا كثير.
مَن قال الشعر من الصحابة والتابعين
والعلماء المشهورين
كان شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم: حسّان بن ثابت، وكَعب بن مالك، وعبدَ الله بن رواحة. وقال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعراً، وعُمر شاعراً، وعليُّ أشعرَ الثلاثة. ومن قول عليّ كرّم الله وجهه بصِفين:
لمَن رايةٌ سَوداء يخْفِق ظلُّها ... إذا قِيل قَدِّمها حُضين تَقدَّما
يُقدِّمها في الصَّف حتى يزِيرها ... حِياضَ المَنايا تَقْطُر السّمّ والدَما
جَزى الله عنِّي والجَزاء بكَفِّه ... رَبيعة خيراً ما أَعف وأكَرما
وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَدِم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول الشعر. قيل له: وأنتَ أبا حمزة؟ قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفين:
شَبّت الحربُ فأعددتُ لها ... مُفْرع الحارِك مَحْبوك الثَّبَجْ
يَصِل الشدَّ بشِدٍّ فإذا ... وَنت الخيلُ عن الشدَ مَعَج
جُرْشُع أعظَمُه جُفْرَته ... فإذا أبتلّ من الماء خَرَج
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
فلو شَهدتْ جُمل مُقامي ومَشْهدي ... بصفِّين يوماً شاب منها الذوائب
عشيّةً جا أهلُ العِراق كأنهم ... سَحاب ربيع زعْزعتها الجَنائب
وجِئْناهُم نَرْدِي كأنّ صُفوفنا ... من البحر مدٌّ موجُه مُتراكب
إذا قلت قد ولَّوا سرِاعاً بدت لنا ... كتائبُ مِنهم وأرجحنّت كَتائب
فدارتْ رَحانا واستدارت رَحاهُم ... سراة النّهارِ ما تَوالى المناكب
وقالوا لنا إنا نَرى أنْ تبايعوا ... علياً فقُلنا بل نَرى أن نُضارب
من شعراء التابعين

عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مَسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد السَّبعة من فُقهاء المدينة، وله يقول سَعيد بن المُسيّب: أنت الفقيه الشاعر. فقال: لا بُد للمصدور أن يَنْفث. يعني أنه مَن كان في صَدره زُكام فلا بد من أن يَنفث زَكمة صدره. يريد أن كل من أختلج في صَدره شيء من شعر أو غيره، ظهر على لسانه.
وقال عُمر بن عبد العزيز: وَدِدْت لو أنّ لي مجلساً من عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة بن مَسعود بدينار. قال عبيد الله بن عَبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في إثْر السيآت، وأقبحَ السيآت في إثر الحَسنات، وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في إثر الحسنات، والسيآت في إثر السيآت.
ومن شعراء التابعين
عروة بن أذينة، وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَروي عنه مالك. وقال ابن شُبرمة: أن عُروة بن أذينة يَخرج في الثُّلث الأخير من الليلِ إلى سِكك البصرة فينادي: يأهل البصرة، " أَفأمِنْ أَهْلُ القُرَى أنْ لأْتِيَهم بَأْسُنا بَيَاتاً وهُم نائِمُون. أَوَ أَمِن أهْل القُرى أن يأتيَهم بأْسنا ضُحى وهُم يَلعَبونّ " . الصلاة الصلاة.
من شعراء الفقهاء المبرزين
عبد الله بن المًبارك صاحب الرقائق. وقال حِبان: خرجنا مع ابن المُبارك مُرابطين إلى الشام، فلما نَظر إلى ما فيه القومُ من التعبّد والغَزو والسرايا كل يَوم التفت إليّ وقال: إنّا للهّ وإنّا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وليال وأيام قطعناها في عِلْم الخليَّة والبَرِيّة، وتركناها هنا أبوابَ الجَنَّة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المَصِّيصة إذ لقي سَكرانَ قد رفع عَقيرته يتغنّى ويقول:
أذلني الهوى فأنا الذليلُ ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج برنامجاً من كُمه، فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت. شعر سمعتَه من سكران؟ قال: أما سمعتم المَثل: رُب جوهرة في مَزْبلة؟ قالوا: نعم. فهذه جَوْهرة في مَزبلة. وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعضُ ما يكره فكتب إليه:
أتاني عنك هذا اليومَ قولٌ ... فضِقْت به وضاق به جَوابي
أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي
فإن تك عاتباً تُعْتَب وإلا ... فما عودي إذاً بيَراع غاب
وقد فارقتُ أعظَم منك رُزءَاً ... وواريتُ الأحِبَّة في التُّراب
وقد عَزّوا علي إذ اسْلموني ... معاً فلبستُ بعدهُم ثِيابي
وقد ذكرنا شعر عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة وعُروة بن أُذينة في الباب الذي يتلو هذا الباب، وهو: قولهم في الغزل .
حدّث فرج بن سلام قال: حدِّثنا عبد الله بن الحَكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام قال: استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حَرب على نجران. فولاّه الصلاة والحرب. ووجّه راشدَ بن عبد ربِّه السلمي أميراً على القضاء والمظالم. فقال راشدُ بن عبد ربّه:
صحا القلبُ عن سَلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما بَعَتْه تُماضر
وحكّمه شيبُ القَذال عن الصبا ... وللشّيب عن بعض الغَواية زاجر
فاقصر جَهْلِي اليومَ وأرتد باطلي ... عن الَّلهو لما ابيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحْوه ... بمَعْرض ذي الاجام عيسٌ بواكر
ولما دنت من جانب الغُوط أخصبت ... وحلّت ولاقاها سُلَيم وعامر
وخبّرها الركبان أنْ ليس بَيْنها ... وبين قُرى بُصرى ونَجران كافر
فألقت عَصاها واستقرت بها النَّوى ... كما قَر عيناً بالإياب المُسافر
وكان عبد الله بن عمر يُحب ولده سالماً حبّاً مُفرطا، فلامه الناس في ذلك فقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجِلْدَةُ بين العَين والأنْف سالم
وقال: إنّ ابني سالما ليُحب الله حبّاً لو لم يخَفه ما عصاه.
وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إذا برز إلى القتال أنشد:
أيّ يومي من الموتِ أفر ... يومَ لا يُقدر أم يوم قُدر

يومَ لا يُقدر لا أرهبه ... ومِن المقدور لا يَنْجو الحَذِر
وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول:
يا حبذا السير بأرض الكُوفه ... أرضٍ سواءٍ سَهْلة مَعروفه
تعرفها جِمالنا المَعْلوفه وكان عبد الله بن عباس في طريقه من البصرة إلى مكة يحدو الإبل ويقول:
أُولى إلى أهلك يا ربَابُ ... أُولى فقد هان لك الإيابُ
وقال ابن عباس لما كفّ بصره
إن يأخذ الله من عينيّ نُورَهما ... ففي لساني وقَلبي منهما نُورُ
قلبي ذكيّ وعَقلي غير ذي دَخل ... وفي فَمي صَارمٌ كالسيف مَأثور
قولهم في الغزل
قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد، فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال:
وتبرد بَرد رداء العرو ... س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا
وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا
ثم قال: الله أكبر.
وقال العجاّج. دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه. فقلت له: إني إنما أقول:
طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما ... خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما
تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما ... وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما
فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه، وأنشد:
بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ
وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا ... إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول
هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ... لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول
ما إن تَدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغُول
ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت ... إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل
كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُها إلا الأباطيل
ولا يَغُرًنك ما منت وما وَعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل
ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وسلم. فكساه بُرداً، اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود في الغزل:
كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْم ... ولامَك أقوامٌ ولومُهمُ ظُلم
ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا ... عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم
فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي ... عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم
تجنّبت إتيان الحَبيب تأثّما ... ألا إن هِجران الحبيب هو الإثْم
ومن شعر عُروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها، وكان من أرقّ الناس تشبيبا:
قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به ... قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر
ألست تُبصر من حولي فقلتُ لها ... غطَّى هواك وما ألقَى على بَصري
ووقفتْ عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقوله:
إذا وجدتُ أُوار الحُبّ في كَبِدي ... غدوتُ نحو سِقاء الماء أَبتَرِدُ
هبني بردتُ ببرَد الماء ظاهرَه ... فَمن لنار على الأحشاء تَتّقد
والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبتْ عدوةُ الله عليها لعنة اللّه، بل لم يكن مُرائيا ولكنه كان مَصْدورا فنَفث.
وقدم عُروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجِهم فقضاها، ثم التفت إلى عُروة فقال له: ألست القائل:
لقد علمتُ وخيرُ القول أصدَقهُ ... بأنّ رزْقي وإن لم آتِ يَأْتيني
أسعى له فيُعنِّيني تَطَلُّبه ... ولو قعدت أتاني لا يُعَنّيني

قال: بلى. قال: فما أراك إلا قد سَعيت له. قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين، وخَرج عنه، فجعل وجهته إلى المدينة. وكَشف عنه هشام بن عبد الملك، فقيل له: قد توجّه إلى المدينة. فبعَث إليه بألف دينار. فلما قدم عليه بها الرسولُ، قال له أبلغ أميرَ المؤمنين السلام، وقل له: أنا كما قلت، قد سَعيت وعُنيت في طلبه، وقعدتُ عنه فأتاني لا يُعنِّيني.
ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيهاً ناسكاً شاعراً رقيقَ النسيب، مُعجب التَّشْبيب، حيث يقول:
زعموها سألتْ جارتَها ... وتعرّت ذات يوم تَبْتَرِدْ
أكما يَنْعتني تُبصرنني ... عَمْرَكن الله لمْ لا يقتصد
فتضاحَكْن وقد قُلن لها ... حَسَنَ في كُل عَين من تود
حسَداً حُمّلنه مِن شأنها ... وقديماً كان في الحُب الحَسد
وقال شريح القاضي، وكان من جملة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه عليِّ رحمه الله ومُعاوية، وكان تزوج امرأة من بني تميم تسمى زَينب. فنَقم عليها، فضربها ثم نَدِم، فقال:
رأيتُ رجالاً يضربون نساءَهم ... فشُلّت يميني يومِ أَضرب زَيْنبا
أأضربها في غير ذَنْب أتتْ به ... فما العدل منِّي ضرْب مَن ليس أَذْنبا
فزينبُ شْمس والنساء كواكب ... إذا برزت تُبْدِ منهن كوكبا
قولهم في المدح
قال شَراحيل بن مَعْن بن زائدة: حجّ الرشيد وزميلُه أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره: فبينما أنا أسايره إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وقَرّظه. فقال له الرشيد: ألم أَنْهك عن مثل هذا في شِعْرك يا أخا بني أسد؟ إذا أنت قلت فقل كما قال مَروان بن أبي حَفصة في أبي هذا، وأشار إليّ، يقول:
بنوِ مَطر يوم اللِّقاء كأنهم ... أُسود لها في غِيل خِفَّان أَشْبُلُ
همً يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهمُ بين السِّماكين منزل
بها ليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُن ... كأوِّلهم في الجاهليّة أول
هم القومُ إن قالوا أصابُواو إن دُعوا ... أجابُواو إنْ أَعطوا أَطابوا وأَجْزلوا
وما يَستطيع الفاعلون فَعالَهم ... وإنْ أَحسنوا في النائبات وأَجملوا
وقال عُتبة بن شمَّاس يَمدح عُمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
إنّ أولى بالحقّ في كل حَقٍّ ... ثُمّ أحرى بأن يكون حَقِيقَا
مَن أبوه عبدُ العزيز بنُ مَرْوا ... ن ومَن كان جَدُّه الفَاروقا
رَدّ أموالنَا علينا وكانت ... في ذُرَا شاهق تَفوت الأَنوقا
مَدحٍ عبّاس بن مِرْداس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكَساه حُلَّة. ومَدحه كَعب بن زهير كَساه بُردا اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألف درهم، وإن ذلك البُرد لعند الخلفاء إلى اليوم.
وقال ابنُ عبّاس: قال لي عُمر بن الخطّاب: أنشدني قول زُهير. فأنشدتُه قولَه في هَرِم بن سِنَان بن حارثة حيثُ يقول:
قومٌ أبوهم سِنان حين تَنْسبهم ... طابُوا وطابَ من الأفلاذ ما ولَدوا
لو كان يُعقد فوق الشّمس من كَرم ... قوم بأولهم أو مَجْدهم قَعدوا
جِنّ إذا فَزِعوا إنْس إذا أمنوا ... مُرَزَّءون بهاليل إذا احتَشدوا
مُحسَّدون على ما كان مِن نِعم ... لا يَنزع الله منهم مالَه حُسدوا
فقال له عمر: ما كان أحبَّ إليّ لو كان هذا الشِّعر في أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. انظُر إلى ضنانة عُمر بالشعر، كيف يرَ أحداً يَستحق مثل هذا المدح إلا أهلَ بيت محمد عليه الصلاة والسلام.
وأسمع رجل عبد الله بنِ عمر بيتَ الحُطيئة:
مَتى تَأْتِه تَعْشو إلى ضوْء ناره ... تَجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِد

فقال ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فلم ير أحداً يَستحق هذا المدح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن نُصيب بن رَبَاح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له، فقال: أعْلموا أميرَ المؤمنين أنِّي قلتُ شعراً، أوله الحمد للّه. فأعلموه. فأَذِن له فأُدخل عليه وهو يقول:
الحمدُ للّه أما بعدُ يا عُمر ... فقد أتتْنا بك الحاجاتُ والقَدرُ
فأَنت رأسُ قريش وابنُ سيِّدها ... والرأسُ فيه يكون السمع والبَصر
فأَمر له بحلْية سَيفه.
ومدَحه جرير بشعره الذي يقول فيه:
هذِي الأراملُ قد قَضِّيت حاجتَها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرمل الذكرِ
فأَمر له بثلثمائة دِرْهم. ومدحه دُكين الرَّاجز، فأَمر له بخَمس عشر ناقة. ومَدح نُصيب بن ربَاح عبد الله بن جعفر، فأَمر له بمال كثير وكُسوة ورَواحل.
فقيل له: تَفعل هذا بمثل هذا العَبدِ الأسود؟ فقال: أمَا والله لئن كان عبداً إنّ شعره لحُر، وان كان أسودَ إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالاً يفَنى، وثياباً تَبلى، ورواحل تَنضى، فأعطى مديحا يُروى، وثَناءه يَبقى.
ودخل ابن هَرِم بن سِنان على عمرَ بن الخطاب، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا ابنُ هرم بن سنان. قال: صاحب زهير؟ قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيُحسن. قال: كذلك كنا نعطيه فنُجزل. قال: ذهب ما أعطيتموه بَقي ما أعطاكم.
وكان طُريح الثًقفي ناسكاً شاعراً، فلما قال في أبي جعفر المَنصور قولَه:
أنت ابنُ مُسْلنِطح البِطاح ولم ... تَعْطِف عليك الحني والولُجُ
لو قلت للسيل دَعْ طريقَك والمو ... جُ عليه كالليل يَعتلج
لهمَّ أو كاد أو لكان له ... في سائر الأرض عنك مُنعرج
طُوبىَ لفرعَيْك من هُنا وهُنا ... طوبَى لأعراقك التي تَشج
قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله، فكيف يقول للسّيل: دع طريقك. فبلغ ذلك طريحاً، فقال: الله يعلم أني إنما أردت: يا رب لو قلت للسيل دع طريقك.
وقال الحطيئة لمّا حَبسه عمرُ بن الخطاب في هجائه للزّبرقان بنَ بدر أبياتاً يمدح فيها عُمر ويسَتعطفه. فلما قرأها عمرُ عَطف له، وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه. والأبيات:
ماذا تقول لأَفراح بذي مَرَخ ... زُغْبٍ الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ
ألقيت كاسبَهم في قَعر مُظلمة ... فاغفر عليك سلامُ الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحِبه ... ألقَى إليك مقاليد النًّهى البَشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكنْ لأنفسهم كانت بها الإثر
ودخل ابن دارَة على عديّ بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مدحتُك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حَسبه، فإنّي أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألفُ شاة وألفُ دِرْهم وثلاثة أَعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حَبيس في سبيل اللّه، فامدَحْني على حَسب ما أخبرتك. فقال:
تحِنّ قَلوصي في مَعدٍّ وإنما ... تُلاقيِ الربيعُ في ديار بني ثُعَلْ
وأبْقى الليالي مِن عَديّ بن حاتم ... حُساماً كنَصل السِّيف سُلَّ من الخِلَل
أبوك جواد لا يُشق غُباره ... وأنت جواد ليس يُعذِر بالعِلل
فإنْ تَفعلوا شرّاً فمثلكُم اتَّقى ... وإنْ تَفعلوا خيراً فمثلكُم فعل
قال عديّ: أمسك لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا.
قولهم في الهجاء
قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: " والشَعَراءُ يَتبِعُهم الغَاوون. آَلمْ تَرَ أَنّهم في كُلِّ وادٍ يَهيمون. وأَنّهم يَقُولون ما لا يفعلونْ. إلا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحات وذَكَرُوا الله كَثيراً وانتصروا مِن بَعد ما ظُلموا وسَيَعْلَم الذين ظَلَموا أيَّ مُنْقَلب يَنْقَلبون " فأرْخَص الله للشعراء بهذه الآية في هِجائهم لمن تعرّض لهم

يزيد بن عمرو بن تميم الخُزاعيّ عن أبيه عن جدّه: أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال. يا رسول اللّه، إن أبا سفيان يهجوك. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللّهم إنه هَجاني وإني لا أقول الشعر، فاهجُه عني. فقام إليه عبد الله بن رَواحة فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه. قال: أنت القائل:
قثبّت الله ما آتاك من حسن.
قال: نعم. قال: وإياك فثبت اللّه. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه. فقال: أنت القائل هممت ؟ قال: نعم. قال: لستَ له. ثم قام حسَّان بن ثابت فقال: يا رسول اللّه، إيذن لي فيه، وأخرج لسانه فضَرب به أَرْنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيَّل لي أني لو وضعتُه على حجر لفَلقه، أو على شَعر لحَلقه. فقال: أنت له، اذهب إلى أبي بكر يُخبرك بمثالب القوم ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يرد على أبي سفيان:
ألا أبلِغ أبا سفيان عَنِّي ... مغلغَلةً فقد برح الخَفاءُ
هجوت محمداً وأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجَزاء
أتهجوه ولست له بندٍّ ... فشركما لخير كما الفداء
أمن يهجو رسوله الله منكم ... ويطريه ويمدحه سواء
لنا في كُل يوم من مَعدٍّ ... سِباب أو قِتال أو هِجَاء
لساني صارمٌ لا عيبَ فيه ... وبَحْري لا تُكدِّره الدِّلاء
فإنّ أبي ووالدَه وعِرْضى ... لِعْرض محمد منكم وِقَاء
وقال رجل من أهل اليمن: دخلتُ الكوفة فأتيتُ المسجد فإذا بعَمار بن ياسر ورجل يُنشده هِجاء معاوية وعمرو بن العاص، وهو يقول: ألصق بالعجوزَيْن. قلت له: سبحان اللّه!. أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب. فجلست، فقال. أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجانا أهلُ مكة؟ قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت: لقد شكر الله لك بيتاً قلته، وهو:
زعمتْ سَخينة أنْ ستغلب ربَّها ... وليُغلبنّ مُغالب الغلاّب
وسألت هُذيل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُحل لها الزِّنا. فقال حسان في ذلك:
سالت هذيل رسولَ الله فاحشةً ... ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب
وقال عبد الملك بن مروان: ما هجاني أحدٌ بأوجع من بيت هُجي به ابن الزُّبَير وهو:
فإن تُصِبْك مِن الأيام جائحة ... لم نَبك منك على دُنيا ولا دين
وقيل لعَقيل بن علَّقة: ما لك لا تُطيل الهجاء؟ قال: يَكفيك من القِلاَدة ما أحاط بالعنق. وقال رجل من ثَقيف لمحمد بن مُناذر: ما بالُ هجائك أكثر من مَدْحك؟ قال: ذلك مما أغراني به قومُك واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعَفيف الفَرج كثيرُ الصَّدقة فَلِم تَسُب الناس؟ قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمُبتدئ ولكنني مُعتدٍ - يريد أنه يُسْرفِ في القِصاص. ومثله قوله الشاعر:
بني عمّنا لا تَنْطقوا الشعرَ بعدما ... دَفنتم بأفناء العُذَيب القَوافِيا
فَلَسنا كَمن قد كنتمُ تَظْلِمونه ... فيقبل ضَيماً أو يحكم قاضيا
ولكنّ حكم الصيف فيكم مُسلَط ... فنرضى إذا ما اصبح السيفُ راضيا
فإن قلتُم إنّا ظَلمنا فلم نكُن ... ظَلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
وكان عمر بن الخطّاب يقول: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
أبو الحسن المدائني قال: وفد جرير على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا جرير، قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتُك. قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خِزيتك، لقد عرفتُك، لَسِيماك سِيما أهل النار.
ابنُ الأعرابيّ قال: دَخل كُثيّر عَزّة على عبد الملك فانشده، وعنده رجل لا يعرفه. فقال عبدُ الملك للرجل: كيف تَرى هذا الشعر؟ قال. هذا شعر حِجازيّ، دعني أضغَمه لك ضَغْمه. قال كُثِّير: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضَغمتَ الذي يقول:

والتَغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى ... حكّ آستَه وتمثَّل الأمثالاَ
تلقاهُم حُلَماء عن أعدائهم ... وعلى الصَّديق تراهم جُهَّالا
حدّثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحَكم بمصر، قال: كان رجل له صديق يقال له حُصين، فَولى موضعاً يقال له السَّابَيْن، فطلب إليه حاجةً فاعتلّ عليه فيها، فكتب له:
لا أذهبْ إليك فإنّ وُدّكَ طالق ... مني وليس طلاقَ ذات البَيْنِ
فإذا ارْعويتَ فإنها تَطْليقة ... وتُقيم وُدَّك لي على ثِنْتين
وإذا أبيتَ شفعتُها بمثالها ... فيكون تَطليقان في حَيْضين
وإنِ الثلاث أتيك منِّيِ بَتَّةً ... لم تُغن عنك ولايةُ السابَين
لم أَرض أنْ أَهجو حُصيناً وحدَه ... حتى أسود وجهَ كل حُصين
طَلب دِعبلُ بن عليِّ حاجة إلى بعض الملوك فصَرّح بمَنعه. فكتب إليه:
أحسبتَ أرضَ الله ضيّقةً ... عنّي فأرضُ الله لم تَضِقِ
وحَسبْتني فَقْعاً بِقَرْقرةٍ ... فوطِئْتَني وَطْئاً على حَنَقِ
فإِذا سألتُك حاجةً أبدا ... فاضربْ بها قُفْلاً على غَلَق
وأعِدَّ لي غُلاًّ وجامعةً ... فاجمع يديّ بها إلى عُنقي
ثم ارم بي في قَعر مُظلمة ... إن عدتُ بعد اليوم في الحُمُق
ما أطوَلَ الدُّنيا وأوسَعها ... وأدلَّني بمَسالك الطُّرق
ومثل هذا قول أبي زُبيدة:
ليتكَ أَدّبتَني بواحدة ... تجعلها منكَ آخِرَ الأبدِ
تَحِلف ألا تَبرّني أبداً ... فإنّ فيها بَرْداً على كَبِديَ
إن كان رِزْقي إليك فارْم به ... في ناظرَيْ حية على رَصَدِ
وقال زياد: ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ من قول الشاعر:
فكِّر ففي ذاك إنْ فكَّرت مُعتَبر ... هل نِلتَ مكْرُمةً إلا بتَأْمير
عاشت سُميّة ما عاشَت وما عَلمت ... أَنّ ابنَها من قُريش في الجماهير
سُبْحان من مُلْك عَبّاد بقُدرته ... لا يَدْفع الخلقُ محتومَ المَقادير
وقال بِلاَل بن جَرير: سألتُ أبي: أيّ شيء أشدُّ عليك؟ قال: قولُ البَعِيث:
ألستَ كُليبياً إذا سِيم خُطّةً ... أقرَّ كإقرار الحَليلة للبَعْل
وكل كُليبيّ صحيفة وجهه ... أذلُّ لأقدام الرّجال من النَعل
وكان بلالُ بن جَرير شاعراً ابنَ شاعر ابنَ شاعر، لأن الخَطفي جدَّه كان شاعراً، وهو القائل:
ما زال عِصيانُنا للّه يُسْلمنا ... حتى دفعنا إلى يَحيى ودينارِ
إلى عُليجين لم تُقْطع ثِمارُهما قد طالما سَجداً للشمس والنّار ومن أخبث الهجاء قولُ جَميل:
أبوك حُباب شارق الضَّيف بُرْدَه ... وجدِّيَ يا شمّاخ فارسُ شَمَّرَا
بنو الصّالحين الصالحون ومَن يَكُن ... لآباء سَوْء يَلْقهم حيث سَيَّرَا
فإن تَغْضبوا من قِسمة الله فيكم ... فَللَهُ إذ لم يُرضِكم كان أبصرا
وقال كُثير في نُصيب، وكان أسودَ ويكني أبا الحَجناء:
رأيت أبا الحَجناء في الناس حائراً ... ولونُ أبي الحَجناء لونُ البهائِم
يراه على ما لاحَه من سَواده ... وإن كان مَظلوماً له وجهُ ظالم
وكان يقال لسعد بن أبي وقَّاص: المُستجاب؟ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سَعد. فقال رجل بالقادسيّة فيه:
ألم تَر أنّ الله أنزل نَصْره ... وسعدٌ بباب القادسيّة مُعْصِم
فأُبْنا وقد آمتّ نساء كثيرة ... ونسْوة سَعد ليس فيهنّ أيَم
فقال سَعد: اللهم اكفني يَده ولسانَه. فَخَرِس لسانُه، وضُربت يدُه فقُطعت.
وذُكر عند المُبرّد محمد بن يزيد النحويّ رجلٌ من الشعراء، فقال: لقد هجاني ببيتين أنضجَ بهما كَبدي. فاستنشدوه. فأَنشدهم هذين البيتين:
سألنا عن ثُمالةَ كُلّ حَيّ ... فكُلّ قد أجاب ومَن ثُماله
فقلتُ محمد بن يزيدَ منهم ... فقالوا الآن زِدْتهما جَهاله

ولم يَقل أحدٌ في القبيح أحسنَ من قول أبي نُوَاس:
وقائِلةٍ لها في وَجْه نُصْحٍ ... علامَ قتلتِ هذا المُستهامَا
فكان جوابُها في حُسن مَيْسِ ... أأجمع وجهَ هذا والحَراما
وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشَد له:
إذا سَعلتْ فتاةُ بَنى نُمير ... تلقَّمَ بابُ عِصْرِطها التُّرابا
تَرى بَرصاً بمَجمع إسكَتيها ... كعَنْفقَة الفَرزدق حين شَابا
وقوله أيضاً:
وتقول إذ نَزعوا الإزارَ عن استها ... هذي دواةُ مُعلِّم الكُتَّابِ
وقوله أيضاً:
أحين صِرْت سَماماً يا بني لجأ ... وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ
هيأتمُ عُمَرا يحمي دياركم ... كما يُهيَّأ لاست الخارئ الحَجر
وقال عليُّ بن الجهم يهجو محمدَ بن عبد الملك الزيَّات وزيرَ المتوكل:
أحسن من سبعين بيتاً سُدى ... جمعُك إياهنّ في بَيْتِ
ما أحوَج المُلك إلى دِيمَة ... تَغسل عنه وَضَر الزَّيت
وقالوا: أَهجى بيت قالْته العرب قولُ الطرمّاح بن حَكيم:
تميم بطُرْق اللؤمٍ أهدَى من القَطَا ... ولو سَلكتْ سُبْلَ المَكارم ضَلَّت
ولو أنّ بُرْغوثا على ظهر قَملة ... رأتْه تميمٌ يوم زحْفٍ لولّت
ولو أن عُصفوراً يمُد جناحَه ... لقامت تميمٌ تحتَه واستظلّتِ
وقال بعضُهم: قولُ جرير في بني تَغلب:
والتّغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى ... حكّ آستَه وتمثّل الأمثالاَ
ويقال: قولُه:
قومٌ إذا اْستَنْبح الأضيافُ كلبَهُم ... قالوا لأمهم بُولِي على النّار
ومن أخبثَ الهجاء قول زياد الأعجم:
قالوا الأشاقر تَهجوكم فقلتُ لهم ... ما كنتُ أحسبُهم كانوا ولا خُلِقُوا
وهم من الحَسب الذّاكي بمنزلةٍ ... كطُحلب الماء لا أصلٌ ولا وَرَق
لا يكثُرون وإن طالتْ حياتهم ... ولو يَبول عليهم ثَعلب غَرِقوا
وقوله أيضاً:
قَضى الله خلقَ الناس ثم خُلقُتُم ... بَقِيَّةَ خَلْق الله آخرَ آخِر
فلم تَسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تُدركوا إلا مَدَقّ الحَوافر
وقال فيهم:
قَبيلةٌ خَيرُها شرّها ... وأصدقُها الكاذب الآثم
وضيفهُمُ وَسْطَ أبياتِهم ... وان لم يكن صائماً ضائمُ
ونظير هذا قول الطِّرمَّاح:
وما خُلقتْ تَيْم وزَيد مَناتِها وضبَّةُ ... إلا بعد خَلق القَبائل
ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم:
لو حان ورد تَميم ثم قِيل لهم ... حوض الرَّسول عليه الأزْدُ لم تَرِدِ
أو أنزل الله وحياً أن يعذّبها ... إن لم تَعُد لِقتال الأزد لم تَعُد
وكُلّ لُؤْم أباد الله أثلته ... ولُؤم ضبّة لم يَنقُص ولم يَزِد
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خَلْقه خَفِيت عنه بنو أسد
قومٌ أقام بدار الذل أوّلُهم ... كما أقامت عليه جذْمةُ الوَتِد
ومثله قول المُساور بن هِنْد:
ما سرني أنّ قَوْمي من بني أسد ... وأنّ رَبيٍّ يُنْجيني من النارِ
وأنهم زَوّجوني من بناتِهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألفَ دينار
ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع:
بلاد نأَى عني الصديقُ وسبّني ... بها عنزيَّ ثم لم أَتكلّم
وقال عبيد:
يا أبا جعفر كتبتُك سَمْحاً ... فاستطال المِداد فالميم لامُ
لا تلمني على الهِجماء فلم يَه ... جك إلا المدادُ والأقلام
وقال سليمان بن أبي شَيخ: كان أبو سَعيد الرَّاني يُماري أهل الكوفة ويفضل أهلَ المديِنة، فهجاه رجل من أهل الكوفة وسّماه شرْشيراً. وقال: كلب في جهنم يُسمى شرْشيراً. فقال:
عندي مسائلُ لا شَرْشير يَعرفها ... إنْ سِيل عنها ولا أصحاب شَرْشير
وليس يَعرف هذا الدَين معرفةَ ... إلا حنيفية كُوفيةُ الدُّورَ

لا تسألنَّ مَدينيّا فتُكْفِرهْ ... إلا عن البَمّ والمَثْنى أو الزِّير
فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة: إنكم قد هُجيتم فرُدُّوا. فَرَد عليه رجل من أهل المدينة يقول:
لقد عجبت لغَاوٍ ساقَه قدر ... وكُل أمر إذا ما حُمّ مَقدورُ
قالوا المدينة أرضَ لا يكون بها ... إلاّ الغِناء وإلاِّ البمّ والزّير
لقد كذبتَ لعمر الله إنّ بها ... قَبرَ النبي وخير الناس مَقْبور
قال: فما انتَصر ولا انتُصر به، فليته لم يَقُل شيئاَ.
وقال: فساور الوراق في أهل القِياس:
كُنا من الدّين قبل اليوم في سَعِةٍ ... حتى بُلِينا بأصحاب المقاييس
قامُوا من السُوق إذ قلّت مكاسبُهم ... فاستعمَلوا الرأيَ بعد الجَهد والبوس
أمِّا العُرَيْب فأمَسوْا لا عطَاءَ لهم ... وفي المَوالي علاماتُ المفاليس
قال: فلقيه أبو حَنيفة، فقال له: هجوْتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم، فَكفَّ عنه وقال:
إذا ما الناسُ يوماً قايسُونا ... بمسألة من الفُتيا طريفَهْ
أتيناهم بمقْياس صَحيح ... بَديع من طِراز أبي حَنِيفة
إذا سَمع الفقيه بها وَعاها ... وأثبتَها بِحِبْرٍ في صَحيفه
ومن خبيث الهجاء قولُ الشاعر:
عَجِبْت لعبدانٍ هَجوْني سَفاهةً ... أَن اصطَبحوا من شائِهم وتَقيَّلُوا
بِجَاد وَرَيْسان وفِهْر وغالب ... وعَون وهِدْم وابن صِفْوة أَخيلُ
فأمّا الذي يُحصيهم فمُكَثِّر ... وأمّا الذي يطريهم فمُقلِّل
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن مَعن بن زائدة:
قال ابنُ مَعْنِ وجَلَى نَفسه ... على القَرابات مِن الأَهل
هَل في جَوارِي الحَيّ من وائل ... جاريةٌ واحدة مِثْلي
أُكْنَى أبا الفضل فيا مَن رأى ... جاريةً تُكنى أبا الفَضْل
قد نقطت في خدِّها نُقطةً ... مخافةَ العَين من الكُحل
مداراة الشعراء وتَقيتهم
أبو جعفر البَغداديّ قال: مَدح قومٌ من الشعراء بن سُليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس، فماطلهم بالجائزة، وكان الخليلُ بن أحمد صدَيقه، وكان وقتَ مَدْحهم إياه غائباً فلمّا قَدِمَ الخليلُ أَتَوْه فأخبروه، واستعانوا به عليه، فكتب إليه:
لا تَقبلنّ الشعر ثم تَعُقه ... وتَنام والشعراءُ غيرُ نيام
واعلم بأنهمُ إذا لم يُنصَفوا ... حَكموا لأنفسهم على الحُكّام
وجنايةُ الجاني عليهم تَنْقضي ... وعقابُهم باقٍ على الأيّام
فأجازهم وأحسن إليهم.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لمّا مدحه عبّاس بن مِرْداس: اقطعوا عنّي لسانَه. قالوا: بماذا يا رسولَ اللّه؟ فأمر له بحُلة قَطع بها لسانَه. ومَدح ربيعةُ الرقيّ يزيدَ بنَ حاتم، وهو والي مصر فتشاغل عنه ببعض الأمور، واستبطأه ربيعةُ فشخص من مصر، وقال:
أُراني ولا كُفران للّه راجعاً ... بخُفَّيْ حُنين من نَوال ابنِ حاتِم
فبلغ قولُه يزيدَ بن حاتم، فأرسل في طلبه وردّه. فلمّا دخل عليه قال له: أنت القائل:
أُراني ولا كفران للّه راجعاً ... بخُفيّ حُنين من نَوَال بن حاتم
قال: نعم. قال: هل قُلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعنّ بِخُفيِّ حُنين مملوءتين مالاً، فأمر بخَلْع خُفيه، وأن تُملا له مالاً. ثمّ قال: أَصْلح ما أفسدت من قولك. فقال فيه، لما عُزل من مصر ووُلّي مكانَه يزيدُ بن حاتم السُّلمي:
بَكى أهلُ مصر بالدموع السَّواجِم ... غداة غدا منها الأغر ابن حاتم
لشتّان ما بيت اليَزيدين في النّدى ... يزيد سليمٍ والأغرِّ ابن حاتم
فَهَمُّ الفَتى القَيْسيّ إنفاقُ مالِه ... وهَمُّ الفَتى العَبْسيّ جَمْعُ الدَّراهم
فلا يَحسب التَّمتامُ أنّي هجوته ... ولكنًني فضّلتُ أهل المَكارم

وأعلم أنّ تقيّةَ الشعراء من حِفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها. وقد وضعنا في هذا الكتاب باباً فيمن وضعه الهجاء، ومَن رفعه المدح.
وكان لزياد عامل على الأهوازِ يقال له: تَيم. فمدحه رجلٌ من الشعراء فلم يعطه شيئاً. فقال له الشاعر: أما إني لا أهجوك، ولكنّني سأقول فيك ما هو شرّ عليك من الهجاء فدخل على زياد فأسمعه شعراً مدحه فيه، وقال في بَعضه:
وكائن عند تَيْم مِن بُدُور ... إذا ما صُفِّدتْ تدعو زِياداً
دعَتْه كي يُجيب لها وشيكاً ... وقد مُلئت حناجرُها صِفاداً
فقال زياد: لبّيك يا بُدور. ثم أرسل فيه، فأَغرمه مائة ألف.
باب في رواة الشعر
قال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب.
وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده.
قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه:
طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا ... بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها
أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة، فدخلتُ المسجد الجامع، فتصفَحت الحَلَق، فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي، فجلستُ إليه، فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر، وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم، وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك، فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي، إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر، فإذا حَضر فأسْمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه، ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر، بل أنت أشعرُ منه حيث يقول:
رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا ... غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا
وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن، وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً، وهو:
إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع ... لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ
لخلَف الأحمر، وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية، يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ ... من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا
وقال حمّاد الراوية: أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك، فلبستُ أكفاني ومضيتُ. فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي، ثم قال لي: ما شِعر فيه أوتاد؟ قلت: من قائله أصلح اللّه الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقتُ حيناً أفكر فيه، حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول:
لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ... ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا
والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ... ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد
فإنّ تَجمَّع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت: هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات. فقال: صدقتَ، انصرفْ إذا شئتَ. فقمتُ، فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة، فصَحِبوني إلى الباب. فلما أردتُ أن اقبضها منهم، قالوا: لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك. فدخلوا معي، فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير.
الأصمعيّ قال: أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جِئنا نتحدّث إليك. قال: كذبتم يا خُبثاء، ولكنْ قُلتم: كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة، قال: فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو.
وقال الأصمعي: فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين.
وقال الشَّعبي: لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر، ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً.
وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً. وكذلك كان الأصمعي.

وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نَظري لجيِّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده؟ والذي أجده منه لا أريده.
وقيل لآخر: ما لك تَروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع. وقال الحسنُ بن هانئ: رويتُ أربعَةَ آلاف شعر، وقلت أربعَة آلاف شعر، فما رزَأت الشعراء شيئاً.
القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال: حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال: أخبرني الأصمعيِّ قال: تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر، بما كان في الهِمَّة دفيناً، أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً. فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم. فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة. فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي. وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة، غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة، وقلتُ في ذلك:
وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب ... وساع ما تَضِيق به المَعاني
تجاذبه المواهبُ عن إباء ... ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي
فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى ... عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان
وأيّ فتى أناف على سُموّ ... مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان
بغير توسُّع في الصَّدرماض ... على العَزمات كالعَضْب اليَماني
فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق، وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه، فقال: هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام. أنا صاحبُك، إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن، أو حَفِظ فأَتقن. فأَخذ بيدي، ثم قال: ادخل، إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب، فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى. قلت: بَشرك الله بالخير. قال: ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً، والفضلُ بن يحيى إلى جانبه، والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر، والخَدم فوق فَرشه وُقوف. فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي، ثم قال: سَلِّم. فسلّمت. فردّ، ثم قال: يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً. فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً، ثم أقدمتُ، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كَرمك، وبَهاء مجدك، مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدئ فأصيب، بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله؟ قال: فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار، وأسهلّ به المُفاتحة، وأجْدر به أن يكون محسناً. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة، وأرجو أن يكون مُمْتعاً. قال: أرجو. ثم قال: ادْنُ. فدنوتُ. فقال: أشاعرٌ أم راوية؟ قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذى جِدٍّ وهَزْل، بعد أن يكون محسناً. قال: والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك. ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً. قلت: أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين، فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه. قال: قد أنصف القارةَ مَن راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً؟ قلت: ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق، وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق، بأيديهم الأسورةُ، وفي أعناقهم الأطواق، تُسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته، قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح: أين رُماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة مَن راماها. والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً؟ قلت: هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي، وإن غابا عنك بالأشخاص. فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها، ثم قال: اسْمعني:
ارقني طارقُ هّم طَرَقا

فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه، تَهْدِرُ بها أشداقي، حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله.
قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه
قال: أعن حَيْرة أمِ عن عَمد؟ قلت: بل عن عمد، تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنتَ بارك الله فيك، مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ. فقال الفَضل: ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب؟ صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتْك من دارك، وأَزعجتك من قَرارك، وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت، فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد، ثم قهقه. ثم قال: لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره. فقال الفضل: لقد عُوقبتُ على غير ذنب، والحمد للّه. قال الرشيد: أخطأتَ في كلامك يرحمك اللّه، لو قلتَ: وأستغفر اللّه، قلتَ صواباً، وإنما يُحمد الله على النعم. ثم صَرف وجهه إليّ، وقال: ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت؟ أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك:
عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب، لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب، وقلّما يُعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم. وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق، وأعنتُك على التّوْق. ثم التفتَ إليّ الفضلِ، فقال: أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً، هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً، فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً. قال الرشيد: أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً. قال الرشيد: ولا أجعله وَعيداً. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها، إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي. فمررتُ في سنن الإنشاد، حتى إذا بلغتُ إلى قوله:
تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة ... قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها
فاستوى جالساً، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عَدي:
تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة
قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً؟ فقال جرير:
قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها
فما رجع الجواب حتى قال عديّ:
قَلم أصاب من الدَّواة مدادها
فقلت لجرير: ويحك! لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت، شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام. ثم قال الرشيد: مُرَّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها
قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت: ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه. قال: مُرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً ... عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها
قال الرشيد: لقد وصفه بحَزم وعزم، لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال.
قال: فماذا صَنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء اللّه. قال: أحسبك وَهمت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهِداية، فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله:
ولقد أراد الله إذ ولاّكها ... من أُمة إصلاحَها ورشادَها
ثمّ قال: والله ما قلت هذا عن سَمع، ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا. قال الأصمعيّ: وهو والله الصواب. ثم قال: مُرَّ في إنشادك. فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله:

وعلمتُ حتى لا أسائل واحداً ... عن حَرف واحدةٍ لكي أزدادَها
وقال: وكان من خَبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى واللّه، وعشر مِئين. قال عديّ: وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يُحسنِ عديّ أن يقول:
شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا
قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد:
لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ... ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم
ثمّ التفت إليَّ فقال: ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال:
أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت ... نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا
قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك، ثم قال: الحمد للّه على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان، وما كان هذا عليك، ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة، فإن وَقع عن عِرْفانك شيء، فلا ضيق عليك بذلك عِندي، فما ذا أراد بقوله:
مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة ... يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع
قلت: وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عُروقه، من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد، ثم في الذَراع منه. قال: أصبتَ. أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم، إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله؟ أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون؟ فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم. قال: قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب. فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها، ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويتَ للشّماخ شيئاً؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤِمنين. قال: يُعجبني منه قولُه:
إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له ... جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج
قلت: يا أمير المؤمنين، هي عَروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه؟ قلت: الرائيّة، وأنشدتُه أبياتاً منها. قال: أمسك، ثمّ قال: أستغفر الله ثلاثاً، أَرِحْ قليلاً واجلس، فقد أمتعتَ مُنشداً، ووجدناك مُحسناً في أدبك، مُعبراً عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكَلام هؤلاء، ومَن تقدّم من الشعراء، دِيباجُ الكلام الخُسْرواني، يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً. فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع، جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب، يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رَوْنق صَوَاب، وَعَته الأسماع، ولَذّ في القلوب، ولكن في الأقل منه. ثم قال: يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته، مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم، حيث قال:
أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ ... كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر
صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة ... كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر

أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها؟ ثم التفت إليّ، فقال: أجدُ ملالة، ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقِم معه مُسامراً له، ثم نَهض. فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه، ثم قُدّمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله. فقال له: ارفُق ويحك، حَسْبك قد عَقرتني. قال الفضل: لله دَرُّ العَجم، ما أحكم صَنعتهم، لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نَعلك ونعل آبائك. لا تزال تُعارضني في الشيء، ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك، ثم قال: يا غلام، عليّ بصالح الخادم. فقالت: يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء اللّه. قال الأصمعيّ: فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي:
يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه ... وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه
وقال أيضاً:
إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ... ومَن يقال له، والبيتُ لم يَمُتِ
باب مَن استعدى عليه من الشعراء
لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه:
دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها ... واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي
إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب، وأنشده البيتَ. فقال: ما أرى به بأساً. قال الزِّبرقان: والله يا أمير المؤمنين، ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه. فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال: انظُر إن كان هجاه. فقال: ما هَجاه، ولكن سَلح عليه. ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس، وقال: يا خَبيث! لأشغلّنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحَبس يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ ... زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ
ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة ... فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر
أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه ... أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر
ما آثروك بها إذ قدَّموك لها ... لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً.
ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل، استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أميرَ المؤمنين، إنّه هجانا. قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال:
إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة ... فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل
قال عمر: هذا رجل دعا، فإن كان مظلوماً استُجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا:
قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ... ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل
قال عمر: ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
ولا يَردون الماءَ إلا عشية ... إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل
قال: فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن. قَالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم ... خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل
قال عمر: سيِّد القوم خادمُهم، فما أرى بهذا بأساً.
ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري، وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل، فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه. فقال فيه عُقَيبة الأسديّ:
لا يَصرم الله اليمينَ التي لها ... بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ
قال: فاستعدى عليه مُعاوية وقال: إنّه هَجاني. قال: وما قال فيك؟ فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل ... وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ
قال معاوية: وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم.
قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ قال قال:

وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ... ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ
قال: إنما قال: ما أنا من حدَاث أمك، فلو قال: إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب.
والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين؟ قال قال :
مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ ... فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ
أكلتُم أرضَنا وجَردتموها ... فهل من قاَئم أو من حَصِيد
فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً ... يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ
أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا ... وليس لنا ولا لك مِن خُلود
ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا ... وتأميرَ الأرازل والعَبيد
قال: فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه؟ قال: أو خَيْر من ذلك؟ قال: وما هو؟ نجتمع أنا وأنت فنَرفع أيدينا إلى السماء ونَدعو عليه. فما زاد على أن أزرى به.
استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق، وزعموا أنه هَجاهم. فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه. فهرب منه وأنشده:
دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن ... لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا
وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا
فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا
نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها ... سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا
يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له ... لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا
ثم لحق بَسعيد بن العاص، وهو والي المدينة، فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه:
إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ... ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً
فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي ... فقد قُلنا لشاعركم وقَالا
ترى الغُر السوابق من قريش ... إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا
قِياماً يَنْظرون إلى سعيد ... كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا
ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية إلى كَعب بن جُعيل، فقال له: إنّ عبد الرحمن بن حَسَّان قد فضح عبدَ الرحمن بن أُم الحكم، فاهْج الأنصار. فقال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان؟ لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم، ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ. فدلّه على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار، وقال فيهم:
ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها ... والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ
قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم ... حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار
وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه ... كالجَحش بين حِمارة وحِمار
فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها ... وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار
وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ، فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حَسر العِمامة عن رأسه، وقال: يا معاوية، هل تَرى من لؤم؟ قال: ما أرى إلا كَرَماً. قال: فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم:
ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها ... واللؤمُ تحت عمائم الأنصار
قال: قد حكّمتك فيه. قال: والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه. ثم قال:
مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف ... لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ
أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة ... وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم
مالي ثأر دون قَطْع لِسَانه ... فدُونك مَن تُرضيه عنك الدَراهم
قال معاوية: قد وهبتُك لسانَه. وبلغ الأخطلَ. فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية. فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه. فوَهبه له.
ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم:
وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا ... فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي
ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر ... هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي

وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق ... كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج
وقال يزيد لأبيه: إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال: وما يقول فيها؟ قال: يقول:
هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ ... اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ
قال: صدق. قال: ويقول:
إذا ما نسبتها لم تَجِدْها ... في سَناء من المَكارم دونِ
قال: صدق أيضاً. قال: ويقول:
تجعل المسك واليَلَنْجو ... ج صِلاءً لها على الكانون
قال: وصدق. قال: فإنه يقول:
ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض ... راء تَمشي في مَرمر مَسْنون
قال: كذب. قال: وِيقول:
قُبّة من مَراجل ضربوها ... عند بَرْد الشتاء في قَيْطون
قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بُني، لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك؟ لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره، فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد، اضرب عن هذا صفحا، واطودونه كَشْحا.
ومن قول عبد الله بن قيس، المَعروف بالرُّقيات. يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية:
أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا ... أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا
تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ ... كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا
يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ... ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا
إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى ... سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا
وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم ... طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا
فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه ... يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا
فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة.
تحدَثت الرواة أن الحَجاج، رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي، وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج، فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال:
فِدَاك أبي ضاقت بي الأرضُ رُحْبُها ... وإن كنتُ قد طوّفتُ كُل مَكان
وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ... ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني
فقال له: لا عليك، فوالله إن قُلتَ إلا خيراً، إنما قلت هذا الشعرَ:
يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ... ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ
ولكن اخبرني عن قولك:
ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت ... وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات
في كم كنت؟ قال: والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل، معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له. والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف:
ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه ... خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات
مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً ... يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات
تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ ... به زينب في نسْوة خَفِرات
ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ ... وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات
دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً ... نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات
فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها ... حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات
أجل الذي فوق السَّموات عرشُه ... أوانسَ بالبَطْحاء مُعْتجرات
يُخَبِّئْن أطراف البَنان من التُقي ... ويخْرُجن وسطَ الليل مُخْتمرات
وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره. والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه:
يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة ... مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها
فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه، فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق. فقال له هشام: أوَ مَا يسُرك ما أخزاه اللّه؟ قال: ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ. فأمر بإطلاقه.
أي بيت تقوله العرب أشعر

قيل لأبي عمرو بن العلاء: أيّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي إذا سمعه سامعُه سَوّلت له نفسه أن يقول مثله، ولأن يخدَش أنفه بظفر كلْبٍ أهونَ عليه من أن يقول مثلَه.
وقيل للأصمعيّ: أيّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: الذي يُسابق لفظه معناه.
وقيل لخليل: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البَيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيتُ الذي لا يَحْجبه عن القلب شيء.
وأحسن من هذا كله قول زُهير:
وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائُله ... بيت يُقال إذا أَنشدتَه صَدَقا
أحسن ما يجتلب به الشعر
قالت الحكماء: لم يُستدع شارد الشعر بأَحسنَ من الماء الجاري، والمكان الخالي، والشرف العالي. وتأول بعضهم الحالي بالحاء. يريد الحالي بالنوَّار، يعني الرياض، وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسنَ بن هانئ، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤتى بالرّياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا؟ قال: أما إني أقوله على الكَنيف. قال: ولذلك توجد فيه الرائحة.
وقال عبد الملك بن مَروان لأرطاة بن سُهيّة: هل تقول الآن شعراً؟ قال: ما أَشرب ولا أَطرب ولا أضرب، فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه.
وقيل للحُطيئة: مَن أشعر الناس؟ فأخرج لساناً رقيقاً، كأنه لِسان حَيّة وقال: هذا إذا طَمِع.
وقيل لكُثير عَزّة: لمَ تركتَ الشعر؟ قال: ذهب الشَّباب فما أَعجب، وماتت عَزّة فما أطرب، ومات ابن أبي ليلى فما أرغب. يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا: أشعر الناس النابغة إذاَ هب، وزُهير إذا غضب، وجَرير إذا رَغب.
وقال عمرو بن هند لِعَبيد بن الأبرص، ولَقيه في يوم بُؤسه: أَنْشِدني من شعرك. قال: حال الجَريض دون القَريض.
وقد يَمتنع الشعر على قائله ولا يَسلس حتى يَبعثه خاطر يطربه، أو صوت حَمامة.
وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي عليّ الحِين وقَلْع ضِرْس عندي أهون من قول بيت شِعر. وقال الراجز:
إنما الشِّعر بناءٌ ... يبتنيه المُتنونَا
فإذا ما نسقوه ... كان غَثاً أو سمينا
رُبما وأتاك حِينا ... ثم يستصعب حِينا
واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكَرى، وأول النهار قبل الغداء، وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر. وأقوى ما يكون الشعر عندي على قَدر قُوة أسباب الرغبة أو الرهبة.
قيل للخُريمي: ما بال مدائحك لمحمد من مَنصور بن زياد أحسنُ من مَراثيك؟ قال: كُنا حينئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نَعمل على الوفاء، وبينهما بَوْن بعيد.
والدليل على صحة هذا المعنى وصِدْق هذا القياس، أنّ كُثيرَ عزّة والكُميت ابن زيد كانا شِيعيّين غاليين في التشيع، وكانت مدائحهما في بني أمية أشرفَ وأجود منها في بني هاشم، وما لذلك علّة إلا قوة أسباب الطمع.
وقيل لكُثير عزّة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أَطوف في الرّباع المُحيلة، والرِّياض المُعشبة، فإن نفرت عنك القوافي، وأعيت عليك المعاني، فروّح قلبك، وأجمّ ذهنك، وارتصد لقولك فراغَ بالك وسعة ذِهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يَمتنع عليك يومَك الأطول، وليلك الأجمع.
من رفعه المدح ووضْعه الهجاء
قال بلال بن جرير: سألتُ أبي جريراً فقلت له: إنك لم تَهجُ قوماً قط إلا وضعتَهم، غير بني لجأ؟ قال: يا بُني، إنّي لم أجد شرفاً فأضعه، ولا بناء فأهدمه.
وقد يكون الشيء مدحاً فيجعله الشَعر ذمّا، ويكون ذمَّا فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى:
ولولا خِلال سَنها الشِّعْر ما دَرى ... بُغاةُ النَّدَى من أين تُؤتى المَكارمُ
تُرى حكمة ما فيه وهو فُكاهة ... وَيقضي بما يقضي به وهْو ظالم
ألا تَرى إلى بني عبد المَدان الحارثيِّين كانوا يَفخرون بطُول أجسامهم وقديم شرفهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأسَ بالقَوم مِن طُول ومن غِلَظ ... جِسْم البِغال وأحلامُ الصَافير
فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تَركْتَنا ونحن نَسْتحي من ذكر أَجسامنا بعدَ أن كُنَّا نَفخر بها. فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:

وقد كُنا نقول إذا رَأينا ... لِذي جِسْم يُعدّ وذِي بَيانِ
كأنك أيها المُعطَى لِساناً ... وجِسْماً من بني عَبد المَدان
وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم: بنوِ أنف الناقة، يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة، وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيّاً، فجعل يجره. فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحُطيئة:
سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا
قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ ... ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا
فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم.
وكان بنو نمير أشرافَ قيس وذوائبهَا حتى قال جريرِ فيهم:
فغُضَّ الطَّرفَ إنك من نُمير ... فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا
فما بقي نُميريّ إلا طأطأ رأسه. وقال حَبيب الطَّائي: وقد كان المحلق بن حَنْتَم بن شدَّاد خاملاً لا يذكر، حتى طَرقه الأعشى في فِتْية وليس عنده إلا ناقة. فأتى أمه، فقال: إنّ فتية طَرقونا الليلة، فإنْ رأيتِ أن تأذني في نَحر الناقة؟ قالت: نعم يا بُني. فنَحرها واشترى لهم ببعض لحمها شراباً وشَوى لهم بعضَ لحمها. فأصبح الأعشى ومَن معه غادِين. فلم يَشْعر المحلّق حتى أتته القصيدةُ التي أولها:
أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المُؤرّقُ ... وما بِيَ من سُقْم وما بي مَعشَقُ
وفيها يقول:
لَعْمري لقد لاحتْ عيون كثيرة ... إلى ضَوء نار في يَفاع تَحرَّقُ
تُشَبّ لمَقْرورَيْن يَصْطليانها ... وبات على النار النَدىِ والمحلق
رَضِيعي لَبانٍ ثَدْىَ أمّ تقَاسما ... بأسْحمَ داجٍ عوْضُ لا نتَفرّق
ترى الجُود يَسْرِي سائلاً فوق وَجهه ... كما زان مَتْن الهُنْدوانيّ رَونق
فلما أتته القصيدةُ جَعلت الأشراف تخطب إليه، ويقول القاتل:
وبات على النّار النَّدى والمُحلَّق
وقوله تقاسما بأسحم داج . يقول: تحالقا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفُرس لئلا يفترقوا أبداً. والعرض: الدهر.
ما يعاب من الشعر وليس بعيب
قال الأصمعي: سمعتُ حمّاداً الراوية، وأَنشده رجل بيتَ حَسّان:
يُغْشَون حتى ما تَهِرّ كلابُهم ... لا يَسْألون عن السواد المُقبل
فقال: ما يُعرف هذا إلا في كلاب الحَانات. وأنشده آخر قولَ الشاعر:
لِمنْ مَنزل بين المَذانب والجِسْر
فقال: ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين.
ومما يُعاب من الشعر وليس بعيب قولُ الفرزدق:
أيابنةَ عبد الله وابنةَ مالك ... ويا بِنت ذي البُردين والفَرس الوَرْدِ
فقال مَن جهل المَعنى ولم يعرف الخبر: ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بُردين، وركوب فرس ورْد. وإنما معناه: ما قال أبو عُبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم برُدي مُحرِّق. وقاد لهم: ليقُم أعزّ العرب قَبيلةً فَليلْبِسْهما. فقال عامر بن أحيمر بن بَهدلة، فائترز بأحدهما وتَردّى بالآخر. فقال له النُّعمان: بم أنت أعزُ العرب قبيلةً؟ قال: العِزّ والعدد من العرب في مَعدّ، ثم في نِزار، ثم في مُضَر، ثم في خِنْدف، ثم في تَميم، ثم في سَعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بَهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فَلْينافرني، فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عَشيرتك فكيف أنت كما تَزعم، في نَفسك وأهل بَيتك؟ فقال: أنا أبو عشرة وعَم عشرة وخال عشرة، وأمّا أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وَضع قَدمَه في الأرض، وقال: مَن أزالها فله مائة من الإبل. فلَمْ يتعاطَ ذلك أحدٌ. فذهب بالبُردين. فسُمَّي: ذا البُردين، وفيه يقول الفرزدق:
فما تمِّ في سَعد ولا آل مالك ... غُلام إذا ما سِيل لم يَتبهدل
لهمْ وهَب النعمانُ بُردَي مُحَرِّق ... بمَجْد مَعَدّ والعديد المُحصّل
ومما يُعاب من الشعر وليس بعَيْب قولُ الأعشى في فرس النُّعمان، وكان يُسمَى اليحموم:
ويأمر لليَحموم كُلّ عشيَّة ... بقَت وتَعْليق فقد كاد يَسْنَقُ

فقالوا ما هذا مما يُمدح به أحد من السُّوقة فضلاً عن الملوك. إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كادَ يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عُبيدة: إن ملوك العرب بلغ من حَزمها ونَظرها في العواقب أنّ أحدهم لا يبيت إلا وفرسُه مَوقوف بسَرجه، ولجامه بين يديه، قريباً منه، مخافة عدو يفجؤه، أو حال تنقلب عليه: فكان للنعمان فرس يقال له اليَحموم، يتعاهده كُلّ عشية. وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأَفنية البيوت.
ومما عابوه، وليس بعَيب، قولُ زُهير:
قِفْ بالديار التي لم يَعْفُها القِدَم ... بلَى وغيَّرها الأرياح والدِّيمُ
فنَفى ثم حقّق في معنى واحد. فنَقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لأنه زعم أنَّ الديار لم يَعْفُها القِدَم. ثم إن انتبه من مَرْقده، فقال: بلى عفاها وغيْرها أيضاً الأرياح والدِّيم. وليس هذا معناه الذي ذهب إليه، وإنما معناه: أنَّ الديار لم تَعْفُ في عَيْنه، من طريق محبّته لها وشغفه بمن كان فيها.
وقال غيرُه في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو قولُه:
ألا ليتَ المنازل قد بَلينا ... فلا يَرْمِين عن شَزْر حَزِينَا
فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بَلِي ذِكْرُها، ولكنَها تتجدّد على طُول البلى بتجدّد ذكرها. وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى، فلخّصه وأوضحه، وشنَّفه وقرّطه، حيث يقول:
لمن دِمَنٌ تزداد طِيبَ نَسيم ... على طُول ما أقوت وحسْنَ رُسوم
تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنما ... لَبسْنَ على الإقواء ثوبَ نَعيم
وممَّا عِيب من الشّعر وليس بعَيب، ما يُروى عن مَروان بن الحَكم أنه قال لخالد بن يزيدَ بن معاوية، وقد أستنشده من شعره، فأَنشده:
فلو بقيتْ خلائفُ آل حَرْب ... ولم يُلْبِسْهمُ الدَّهرُ المَنونَا
لأصبح ماءُ أهل الأرض عَذْباً ... وأصبح لحمُ دُنياهم سمينا
فقال له مروان: منونا وسمينا، والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العَجْز. وهذا مما لا عَجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على مَن رآه عيباً؟ لأنَ الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كُلها، قديمها وحديثها. وقال عبَيد بن الأبرصِ:
وكُل ذي غيْبة يؤوب ... وغائبُ المَوت لا يؤوبً
مَن يسأل الناسَ يَحْرموه ... وسائلُ الله لا يَخِيب
ومثلُه من المُحدثين:
أجارةَ بيتينا أبوك غَيُور ... وميسور ما يُرجى لديك عَسيرُ
ومما عِيب من الشعر وليس بعيب، قولُ ذي الأمة:
رأيتُ الناسَ يَنْتجعون غَيْثاً ... فقلت لصَيْدح انتجعي بلالا
ولما أنشدوا هذا الشعر بلالَ بن أبي بُردة، قال: يا غلام مُرْ لصيدح بقَتٍّ من عَلف، فإنها هي انتجعَتْنا. وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه، لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى: " واسأل القَرْيةَ التي كُنّا فِيها والعِيَر التي أقْبَلنا فيها " . وإنما أراد أهلَ القرية وأهل العِير.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يَرتجز به من شعر:
إليك تَعدو قَلِقاً وَضينُها ... مخالِفاً دينَ النصارى دينُها
فجعل الدِّين للناقة، وإنما أراد صاحبَ الناقة. ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النُّوق وزيارتَها لمن تمدحه، ولكنّ مَن طلب تعنّتاً وَجده، أو تجنّياً على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريعُ الغواني بالحَسن بن هانئ حين لَقيه، فقال له: ما يَسلم لك بيتٌ عندي من سَقَط. قال: فأيّ بيت أسْقطت فيه؟ قال: أنشدني أيَّ بيتٍ شئتَ. فأنشدَه:
ذَكر الصِّبوحَ بسُحرِة فارتاحا ... وأمله ديكُ الصّباح صِياحَا
فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يُمِلّه ديك الصباح صِياحاً، وإنما يُبشره بالصَّبوح الذي ارتاح له. فقال له الحسن: فأنشدني أنت من قولك. فأنشده:
عاصىَ العَزاءَ فراح غَير مُفَنَدِ ... وأقام بين عَزيمة وتجلّدِ
قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت:
عاصى العزاء فراح غير مُفند
ثم قلت:
وأقام بين عزيمة وتجلّد

فجعلته رائحاً مُقيماً في مقام واحد، والرائح غير المُقيم. والبيتان جميعاً مؤتلفان. ولكنَ من طلب عيباً وجده. ومما عابه ابنُ قتيبة وليس بعيب، قول المُرقَش الأصغر:
صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكْرها ... إذا ذُكرت دارت به الأرضُ قائمَا
فقال له: كيفَ يَصحو مَن كانت هذه صِفته؟ والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدّم من سوء حاله، حال صَحْو عنده. ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشّر أهون من بعض.
وقال النبيّ صلى الله عيه وسلم في عمّه أبي طالب: إنه أخفُّ الناس عذاباً يوم القيامة، يُحذَى نعلين من نار يَغلي منها دماغُه. وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفًا عندما هو أشدّ منه، فزعم المُرقّش أنه عند نفسه صاحٍ، إذ تبدُل حاله أسهل مما كان فيه. وقد عاب الناسُ على الحَسن بن هانئ قَوله:
واخفَت أهلَ الشّرك حتى إنّه ... لتخافُك النُطفُ التي لم تخلقِ
فقالوا: كيف تَخافه النُطف التي لم تُخلق؟ ومجاز هذا قَريب، إذا لحظ أنّ كل من خاف شيئاً خافه بجوارحه وسَمْعه وبَصره ولحمه ودمه، والنُطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النُطف التي في أصلابها.
وقال الشاعر:
ألا تَرْثِي لمُكتئبٍ ... يُحبّك لحمُه ودمُه
وقال المكفوف:
أحبكمُ حبّاً على الله أجرُه ... تَضمّنه الأحشاءُ واللحمُ والدمُ
ولقى العتّابي منصوراً النَمريّ فسأله عن حاله. فقال: إني لَمدهوش، وذلك أني تركت امرأتي وقد عَسُر عليها ولادُها. فقال له العتّابي: ألا أدلّك على ما يُسهل عليها. قال: وما هو؟ قال: اكتب عَلى رَحمها هارون. قال: وما مَعناكَ في هذا؟ قال: ألستَ القائل فيه:
إنْ أخلف القَطر لم تُخلف مواهبُه ... أو ضاق أمر ذَكرناه فيتسعُ
فقال: أبا لخُلفاء تُعرّض، وفيهم تَقع، وإياهم تَعيب. فيقال: إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العَتّابي. فكتب إلى عبد الصمد عمّه يأمره بقتله. فكتب إليه عبدُ الصمد يشفع له. فوهبه إياه.
تقبيح الحسن وتحسين القبيح
سُئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس؟ قال الذي يُصوِّر الباطل في صورة الحق، والحقَّ في صورة الباطل، بلُطف معناه، ورقّة فِطْنته، فيُقَبِّح الحسنَ الذي لا أحسن منه، ويُحسن القبيح الذي لا أقبح منه.
فمن تحسين القبيح قولُ الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بَدْر:
الله أعلم ما تركتُ قِتالَهم ... حتى رَموا مُهري بأشقَرَ مُزْبِدِ
وعلمتُ أنّي إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يَضْرر عدوّي مَشهدي
فصرفتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ ... طمعاً لهم بعقاب يوم مُفْسِدِ
وهذا الذي سمعه صاحب الهند رُتْبيل، فقال: يا معشر العرب، حَسّنتم كل شيء فحَسُن حتى حَسّنتم الفرار. ومن تقبيح الحسن: قولُ بشّار العقيلي في سليمان بن عليّ، وكان وصل رجلاً وأحسن إليه:
يا سوأةً يُكثر الشيطانُ ما ذُكرت ... منها التعجبَ جاءت من سُليمانَا
لا تَعجبنَّ لخَيْرِ زلّ عن يده ... فالكَوكبُ النَّحس يَسقي الأرضَ أحيانا
وقال غيرُه في تَحسَين القَبيح:
يقولون لي إنّي بَخيل بنائلي ... ولَلْبخلُ خيرٌ من سؤال بَخيل
وقال المُتلمّس في تَقبيح الحسن:
وحَبْس المال خيرٌ من بُغاه ... وضَرْبٌ في البلاد بغَيْر زادِ
وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ... ولا يَبقَى الكثير مع الفَساد
وقال محمود الورَاق في تحسين القبيح:
يا عائبَ الفقر ألا تَزدجرْ ... عيبُ الغِنى أكبرُ لو تعتبرْ
مِن شرَف الفَقر ومِن فَضله ... على الغِنى إنْ صَحّ منك النَّظر
أنك تَعصي كي تَنال الغِنَى ... وليس تَعصي الله كي تفتقر
ومن تحسين القبيح، أنه قيل لجَذيمة الأبرش: ما هذا الوَضح الذي بك؟ قال: سيفُ الله جلاه. وقال اْبن حَبْناء، وكان به بَرص:
لا تحسبنّ بياضاً فيَّ مَنْقصةً ... إنّ اللَّهاميمَ في أقرابها بَلقُ
وقال محمود الورّاق يمدح الشَيب:
وعائب عابَني بشَيْبي ... لم يَعْدُ لمّا ألم وقتَه

فقلت للعائِبي بشيبي ... يا عائبَ الشَّيب لا بلغتَه
وقال آخر:
يقولون هل بعدَ الثلاثين مَلْعبُ ... فقلتُ وهل قبل الثلاثين مَلعبُ
لقد جلّ قدرُ الشَّيب إن كان كُلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
وقال أعرابيّ في عجوز:
أبى القلبُ إلا أمّ عمرو وحُبّها ... عجوزاً ومَنْ يُحبِب عجوزاً يفنَّدِ
كثَوْب يمانٍ قد تَقادم عهدُه ... ورُقْعته ماشِيتَ في العَين واليَدِ
قال بَشّار العُقبليّ في سوداء:
أشبهك المِسكُ وأشبهته ... قائمةً في لونه قاعدَه
لا شَكَّ إذ لونُكما واحد ... أنّكما من طِينة واحده
الاستعارة
لم تزل الاستعارة قديمةً تُستعمل في المَنظوم والمَنثور. وأحسن ما تكون أن يُستعار المنثور من المنظوم، والمَنظوم من المنثور. وهذه الاستعارة خفية لا يُؤبه بها، لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال. وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنَن الأول. وقلَّ ما يأتي لهم معنى لم يَسبق إليه أحد، إما في مَنظوم وإما في مَنثور؟ لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للآخر شيئاً. ألا ترى أنّ كعب بن زُهير، وهو في الرَّعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال ِفي شعره:
ما أرانا نقول إلا مُعاراً ... أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا
ولكن في قولهم إن الآخِر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يُحسنه ويَقرِّبه ويوضحه، فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى:
وكأْسٍ شربتُ على لذّة ... وأخرى تداويتُ منها بهَا
فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسّنه وقَرّبه إذ قال:
دعْ عنكَ لَوْمي فإنّ اللومَ إغراءُ ... وَداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ
وقال القُطاميّ:
والناسُ مَن يَلْقَ خيراً قائلون له ... ما يَشْتَهي ولأمّ المخطئ الهَبَلُ
أخذه من قول المُرقِّش:
ومَن يَلق خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ... ومن يَغْوَ لا يَعدَم على الغيّ لائِمَا
وقال قيس بن الخَطيم:
تَبدَّت لنا كالشَّمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
أخذه بعضً المُحدثين فقال:
فشبَّهتُها بدراً بدَا منه شِقُّه ... وقد سَترتْ خدا فأبدت لنا خَدا
وأَذْرت على الخَدّين دمعاً كأنه ... تنَاثُر درّ أو نَدى واقَع الوَرْدا
وأخذه آخر فقال:
يا قمرا للنِّصف من شَهره ... أبْدَى ضِياءً لثمانٍ بَقينْ
وأخذه بشّار فقال:
ضنت بخدّ وجَلَت عن خَد ... ثم انثنت كالنَّفَس المُرْتدِّ
فلم يُفسد الآخر قولَ الأول، ولم يكن الأولُ أولى بالمعنى من الآخر.
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي:
كأنّ التي يوم الوَداع تعرّضت ... هلال بدا مَحْقاً على أنه تِمُّ
وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.
دخل سهلُ بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال سهل: يدعو للمأمون: اللهم زِدْه من الخيرات، وابسُط له من البركات، حتى يكون كُل يوم من أيامه مُوفياً على أمسه، مقصّراً عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من رَوى من الشعر أفصحه، ومن الحديث أوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه القول؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحداً سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلي. سبقك أعشى همدان، حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني مَعدّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس
وأنت غداً تزيد الضعفَ خيراً ... كذاك تزيد سادةُ عبد شَمْس
وقد يكون مثلُ هذا وما أشبهه عن موافقة.
وقد سُئل الأصمعيّ عن الشاعريْنِ يَتّفقان في المعنى الواحد ولم يَسمع أحدُهما قول صاحبه. فقال: عُقول الرجال توافتْ على ألسنتها.
اختلاف الشعراء في المعنى الواحد
وقد تختلف الشعراء في الواحد، وكل واحدٍ منهم مُحسن في مذهبه، جارٍ في توجيهه، وإن كان بعضُه أحسنَ من بعض.
ألا ترى أن الشَماخ بن ضِرار يقول في ناقته:

إذا بلغتني وحملتِ رَحلي ... عَرابةَ فاشرَقي بدَم الوَتِين
وقال الحسن بن هانئ في ضِدّ هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمَين:
فإذا المطيُّ بنا بلغْن محمداً ... فظُهورهن على الرجال حَرامُ
وقال أيضاُ:
أقول لناقتي إذ أبلغتْني ... لقد صبحتِ مني باليَمين
فلم أجعلك للغِربان نُحْلاً ... ولا قلتُ اشرَقي بدَم الوتين
فقد عاب بعضُ الرواة قولَ الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني نذرت يا رسول الله إن نجْا بي الله عليها أن أنحرها قال: بئسما جَزيتيها. ولا نذْر لأحد في مِلْك غيره.
وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حُسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب.
قال الفرزدق:
بنو دارم قَومي ترى حُجزاتِهم ... عِتاقاً حواشيها رِقاقاً نِعالهُا
يَجُرون هُدَّابَ اليَماني كأَنهم ... سُيوفٌ جلاَ الأطباعُ عنها صِقالُها
وأول من سبق إلى هذا المعنى النابغة الذبياني في قوله:
رقاقُ النّعال طَيِّبٌ حُجزاتُهم ... يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ
وقال طَرَفة:
ثم راحوا عَبقُ المِسك بهم ... يُلْحِفُين الأرضَ هُدَّابَ الأزُرْ
وقال كُثير عَزِّة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية:
أشمّ من الغادِين في كُل حُلّة ... يَميسون في صِبْغ من العَصْب مُتْقِن
هم أزر حمر الحَواشي بُطونها ... بأَقدامهم في الحَضْرميّ المُلسَّن
وقال فيه أيضاً:
إذا حُلَل العَصْب اليَماني أجادَها ... أَكُفُّ أساتيذ على النَّسج دُرَّب
أتاهم بها الجابي فراحوا عليهمُ ... تمائمُ من فَضفاضهن المُكَعب
لها طُرُز تحت البَنائِق أدنيت ... إلى مُرهفات الحَضرمي المُعَقْرب
وقال آخر:
معي كُل فَضفاض القَمِيص كأنه ... إذا ما سرتْ فيه المُدَام فَنِيق
وخالفهم فيه صريع الغواني فقال:
لا يَعبق الطيب خدّيه ومَفرقَه ... ولا يُمَسِّح عينيه من الكُحُل
وقال دُريد بن الصِّمَّة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة ويصفه بتَشمير الثوب:
كَمِيش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بَعيد عن السوات طَلاّع أنجُدِ
مثل قول الحجاج:
أنا ابن جَلاَ وطَلاعِ الثنايا ... متَى أضع العمامَة تَعرفوني
وقد يُحمل معناهم في تشمير الثوب وسَحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يَستحسن بعضُهم ما يَستقبح بعض. والوجه الثاني، وهو أشبه، أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع، كما قال عمرو بن معد يكرب:
فيوماً تَرانا في الخزوز نجرّها ... ويوماً تَرانا في الحَديد عوابسَا
ويوماً تَرانا في الثَريد نَدسه ... ويوماً ترانا نكسر الكَعك يابسا
وقال أعشى بكر لعمر بن مَعد يكرب:
وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة ... شهباء يجتنب الكُماة نزالَها
كتب المقدَم غيرَ لابس جُنّة ... بالسيف تَضرب معلماً أبطالها
وقال مُسلم بن الوليد في يزيدَ بن مَزيد خلافَ هذا كُله، وهو:
تراه في الأمن في دِرع مُضاعَفة ... لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجل
ولما أنشده يزيدَ بن مزيد، قال له: ألا قلت كما قال الأعشى؟ وأنشده البيتين.
فقال: قولي أحسنُ من قوله، إنه وصفه بالخُرق، وأنا وصفتك بالحَزم.
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ: ما أحسنُ شيء مُدحت به؟ قال: قول الشاعر:
أسيلم ذا كُمْ لا خَفاً بِمكانه ... لعين تُرجِّي أو لأذن تَسمَّعُ
من النَّفر الشُّم الذين إذا اعتَزَوْا ... وهاب رجال حلْقَة الباب قَعْقَعوا
جلا الأذفُر الأحوى من المسك فَرْقَه ... وطيبُ الدِّهان رأسَه فهوِ أنزع
إذا النَفر السُّود اليمانون حاولوا ... له حَوْكَ بُرديه أدقّوا وأوْسعوا
فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول أبي قَيسِ بن الأسلت:

قد حَصَّت البيضة رأسي فما ... أطعَم نوْماً غير تَهْجاع
أَسْعى على جُلِّ بني مالكٍ ... كُل امرئ في شأنه ساعِي
وقال بعضُهم:
سألتُ المُحبين الذين تَحمّلوا ... تبَاريحَ هَذا الحُب في سالف الدَهرِ
فقالوا شفاءُ الحُب حب يُزيله ... لأخرى وطُولٌ للتَمادي على الهَجر
وقال الحَمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه؟ وهو قولُه:
زَعموا أنّ من تشاغل بالح ... بّ سَلا عن حَبيبِه وأفاقا
كَذبوا ما كذا بَلَونا ولكنْ ... لم يكُونوا فيما أرى عُشّاقا
كيف أسلو بلذة عنك والل ... ذات يُحدثْن لي إليك اشتياقا
كُلما رُمتُ سَلوةً تُذهب الحُرقةَ ... زادت قلبي عليكِ احتراقا
وقال كُثير عزّة:
أريد لأنسى ذكرَها فكأنما ... تَمثلُ لي ليلى بكُل سَبيل
وقال بعضُ الناس: إن كان يُحبها فلماذا يُحب أن يَنسى ذكرها؟ ألا قال كما قال مجنون بني عامر:
فلا خَفِّف الرحمنُ ما بي من الهَوى ... ولا قَطَع الرحمنُ عن حُبها قَلْبي
فما سَرَّني أنّي خَليُّ من الهَوى ... ولو أن لي ما بين شرَق إلى غَرب
وذهب أكثرهم إلى أنّ بُعْدَ العَهد يُسلي المُحب عن حَبيبه، وقالوا فيه:
إذ ما شئتَ أن تَسلو حبيباً ... فأكثر دونه عَدَد اللّيالِي
وقال العبّاس بن الأحنف:
إذا كنت لا يُسليك عمن تُحبه ... تَناء ولا يَشفيك طُولُ تلاقِي
فما أنتَ إلا مستعير حَشاشةً ... لمُهجة نَفس آذنتْ بِفراق
وقال كُثيّر عَزة:
فإن تَسْل عنكِ النفس أو تَدع الَهوى ... فباليأس تَسْلو عنك لا بالتجلّدِ
ومثله قولُ بشّار:
ومن حُبها أتمنّى أن يُلاقيَني ... من نحو بَلْدتها ناعٍ فيَنْعاها
كيما أقول فِراقٌ لا لِقاء له ... وتُضمر النفس يأسا ثم تَسلاها
وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها، حائرة في مجراها.
وقال عبدُ الله بن جُندب:
ألا يا عبادَ الله هذا أخوكُم ... قتيلاً فهل منكم له اليومَ واترُ
خذوا بدَمي إن مِتُّ كل خَريدة ... مريضةِ جَفْن العَين والطَّرفُ ساهر
وقال صَريع الغواني في ضد هذا:
أدِيرا عليِّ الراح لا تَشربَا قبلي ... ولا تَطْلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي
وقول عبد الله بن جُندب أحسَن في هذا المعنى، لأنه إنما أراد أن يَدُل على موضع ثأره واسم قاتله، ولم يُرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له.
وقد قال عبدُ الله بن عبّاس، ونَظر إلى رجل مُدنف عِشْقاً:
هذا قتيلً الحُبّ لا عَقْل ولا قَوَد
وقال الفرزدق، وأراد مذهب ابن جُندب فلم تُوانه رقّة الطَّبع، فخرج إلى أَجْف القول وأَقْبحه، فقال:
يا أخت ناجيةَ بنِ سامةَ إنني ... أَخشى عليكِ بَنيَّ إن طَلبوا دَمِي
لن يَتْركوك وقد قتلتِ أباهمُ ... ولو ارتقيت إلى السماء بسلم
وقال ابنُ أخت تأبط شرّاً يرثي خالَه، وقتلْته هُذيل:
شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ... ذَكَت الشِعرى فبرْد وظِل
ظاعِن بالحَزم حتى إذا ما ... حلَّ حَلَّ الحَزمُ حيث يحلّ
أخذ معنى البيت الأول أعرابيّ فسهّل معناه وحسّن ديباجته، فقال:
إذا نزل الشتاء فأنت شمسٌ ... وإن نزل المصيف فأنت ظِلُّ
وأَخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخَصيب:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكنْ يصير الجُود حيثُ يصيرُ
وقالوا في الخَيال فحيّوه بالسلام ورحّبوا به؛ فمن ذلك قولُ مروان ابن أبي حَفْصة:
طرقْتك زائرةً فحيِّ خيالَها
وقال آخر:
طَرق الخَيالُ فحيّه بسَلام
وعلى هذا بُنيت أشعارهم، وخالفهم جَرير فطَرد الخيال، فقال:
طرقْتك صائدة القُلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأولُ من طَرد الخيال طرفة فقال:
فقُل لخَيال الحنظلية يَنقلب ... إليها فإنِّي واصلٌ مَن وَصَلْ
وأعجبُ مِن هذا قولُ الرّاعي الذي هجا الخَيال فقال:

طافَ الخيالُ بأصحابي فقلتُ لهم ... أم شَذرة زارتْني أم الغُولُ
لا مرحباً بابنة الأقيال إذ طَرقت ... كأنّ مَحْجرها بالقار مَكْحول
وقد يختلف معنى الشاعر أيضاً في شعر واحد يقوله، ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره:
وإن تك قد ساءتك منّي خليفةٌ ... فسُلِّي ثِيابي مِن ثيابك تَنْسُل
توصف نفسَه بالصبر والجَلَد والقوة على التهالك، ثم أدركتْه الرقةُ والاشتياق فقال في البيت الذي بعده:
أغرّك منّي أنّ حُبّك قاتِلي ... وأنك مهما تأمري القلبَ يَفعَل
مُستدركاً قولَه في البيت الأول:
فسُلي ثيابي من ثيابك تَنْسُل
ولم يزلْ من تقدم من الشعراء وغيرهم مُجمعين على ذَم الغُراب والتشاؤم به، وكأن اسمَه مُشتق من الغُربة، فسمَّوه غراب البَيْن، وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوتْ من أهلها. وخالفهم أبو الشِّيص، فقال ما هو أحسن من هذا، وأصدقُ من ذلك كُله، وهو قولُه:
ما فَرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبلُ
والناس يَلْحَون غُرا ... ب البَيْن لما جَهِلوا
وما إذا صاح غُرا ... ب في الدِّيار احتملوا
وما على ظَهر غُرا ... ب البَينْ تُطْوى الرحل
وما غُراب البين إل ... لا ناقة أو جَمل
وقال آخر في هذا المعنى وذَكَر الإبل:
لهنّ الوَجى إذ كُن عَوْناً على النَوى ... ولا زال منها ظالعٌ وكَسِيرُ
وما الشّؤم في نَعْب الغُراب ونَعْقه ... وما الشؤْم إلا ناقة وبَعير
ومن قولنا في هذا المعنى:
نعب الغراب فقلتُ أكذبُ طائرٍ ... إن لم يُصدِّقه رُغاء بَعير
رِدُّ الجمال هو المُحقَق للنَّوى ... بل شَر أحلاس لهنّ وَكُور
وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء، مُنفردٌ في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تَشْبيهه، كقول جعفر بن جِدار، كاتب ابن طُولون:
كم بين بارِي وبين بَمّا ... وبين بَوْن إلى دِمَمّا
من رَشأ أبيض التّراقي ... أغيدَ ذي غُنَّة أحَمَّا
وطَفْلة رَخْصة المَدارِي ... لَيست تُحَلّى ولا تُسمى
إلا بسِلْك من اللآلى ... يُعْجِز من يُخرج المُعمَى
صُغرى وكُبرى إلى ثلاثِ ... مثل التّعاليل أو أتَمَّا
وكم ببَم وأرض بَمّ ... وكَم بِرَمّ وأرْض رَمّا
من طَفلة بَضَة لَعوب ... تلقاك بالحُسن مستتما
مُنهن رَيّا وكيف رَيّا ... ريا إذا لاقت المَشَما
لو شمها طائر بَدوٍّ ... لَخَرّ في التُرب أولَهَمّا
تَسحب ثوبين من خَلْوق ... قد أفنيا زعفران قُمّا
كأنما جلّيا عليها ... من طِيب ما باشرَا وشَما
فأَلفيا زعفران قُم ... فانغمسا فيه واستحمِّا
فهي نظير اسمها المُعلَّى ... يقوح لامِرْطها المُدَمَّا
هيهاتَ يا أختَ آل بَمِّ ... غَلطت في الاسم والمُسمَّى
لو كان هذا وقيل سَمَ ... ماتَ إذاً من يقول سَمّا
قد قلتُ إذ أقبلتْ تَهادى ... كطَلعة البَدْر أو أتمّا
تُومي بأسْروعة وتُخْفي ... بالبُرْد مثَل القِداح حُمّا
لو كنت ممن لكنت مِمّا ... لكنّني قد كَبرتُ عَمّا
عاتبني الدهرُ في عِذاري ... بأحرُف فارعويت لمّا
قُوّس ما كان مستقيماً ... وأبيضّ ما كان مُدّلهمّا
وكيف تَصبو الدُّمى إلى مَنِ ... كان أخاً ثم صار عَمّا
بي عنكِ يا أختَ أهل بَمَ ... شُغْل بما قد دنا مُهِمّا
فلستُ من وجهك المُفدَّى ... ولستُ من قَدّك المُحمّى
أذهلني عنك خوفُ يوم ... يحيا له كل من ألمَّا
ما كسَبتْه يداي وَهْنا ... خيراً وشرًّاً أصبت ثَما

تُحشر فيه الجنان زَفًّا ... وتُحشر النَار فيه زَمّا
تقول هذي لَطالبيها ... هَيتَ وهذي لهم هَلُمّا
نَفسيَ أولى بأنْ أذُمّا ... مِن أمرها كل ما استُذمّا
يا نفسُ كم تُخدعين عَمّا ... بلُبس داج وأكل لمّا
رعيت مِن ذي الحُطام مَرعى ... جمعتِ أكلاً له وذَمّا
وَيحك فاستيقظي ليومٍ ... يحيا له كم من أِرما
ألم تَرَيْ يُونس بن عَبْدال ... أعْلى غَدا صامتاً فصُما
في حُفرة ما يُحير حَرفاً ... قد دكّ من فوقها وطما
والمُزَنَيّ الذيَ إليه ... نَعشو إذا دَهرُنا ادلهما
أخفى فؤادي له عَزائي ... لكنْ زَفيري عليه نَمَا
كأنما خُوِّفا فخافا ... أو حذَرا كاساهما فصما
أقبل سَهْم من الرَّزايا ... فخَصَ أعلامنا وعَمَّا
دَكدك منّا ذُرَا جبال ... شامخة في السماء شما
وَحصَنا دون مَنْ عليها ... وزاد همًّا بنا وغما
قد قَرُب الموتُ يا بنَ أما ... فبادر المَوت يا بن أما
واعلم بأنَّ من عصاك جهلا ... مِن التُقى لم يُطعك هِمّا
هو الهُدى والرَّدى فإمَّا ... أتيت آتى الردى وإما
ها أنذا فَاعتبر بحالي ... في طَبق مُوصَد مُعَمَّى
قد أسكنتني الذُّنوب بيتاً ... يخاله الإلف مُستحما
فهل إلى توبة سبيلٌ ... تكون فيها الهموم هَمّا
فَنَشكر الله لا سواه ... لعل نعماه أن تَتِمّا
يا نفسً جِدّي ولا تَميلي ... فأفضل البِرّ ما استُتمّا
أو ابحثي عن فُل بن فُل ... تَرَيْه تحت التراب رِمّا
لبئس عَبْد يروح بَغْياَ ... مع المَساوي تراه دَوْما
في غَمرة العَيش لا يُبالي ... أحمده الجارُ أمْ أَذَمَّا
كم بين هذا وبين عبد ... يغدو خميصَ الحشى هضمّا
يقطع آناءه صلاةً ... ودهره بالصلاح صوْمَا
إنّ بهذا الكلام نُصحاً ... إن لم يوافِ القلوب صُمّا
يا رب لِي ألفُ ذَنب ... إن تعفُ يا رب فاعفُ جَمّا
فأبْرِد بعفوٍ غليلَ قَلب كأنّ فيه رسيسَ حُمَى وقال الغَزّال:
لَعَمْري ما ملّكتُ مِقْوَدَي الصِّبا ... فأمْطوَ للذّات في السَّهل والوَعْرِ
ولا أنا ممّن يُؤثِر اللهوَ قلبُه ... فأمسي في سُكر وأصبحِ في سكرِ
ولا قارع باب اليهوديّ مَوْهناً ... وقد هَجع النُّوامُ من شهوة الخمر
وأوْتَغه الشيطان حتى أصاره ... من الغَيّ في بحر أضلّ من البَحر
أغذّ السُّرى فيها إذا الشَّرْب أنكروا ... ورَهْني عند العِلْج ثوبي من الفُجر
كأنّي لم أسمع كتابَ محمد ... وما جَاء في التَنزيل فيه من الزّجر
كفانيَ من كُل الذي أعجبوا به ... قُلَيلة ماء تُستقى لي من النَّهر
ففيها شرَابي إن عَطشتُ وكُلّ ما ... يريد عيالي للعَجين وللقِدْر
بخُبْز وبَقل ليس لحماً وإنني ... عليه كثيرُ الحمد لله والشكر
فيا صاحبَ اللُحمان والخَمر هل تَرى ... بوجهي إذا عاينتَ وجهيَ من ضر
وبالله لو عمرت تِسعين حِجةً ... إلى مثلها ما اشتقتُ فيها إلى خَمْر
ولا طربتْ نفسي إلا مِزْهر ولا ... تَحَنَّن قلبي نحو عُود ولا زَمْر
وقد حدّثوني أن فيها مَرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمُرّ
أخي عُد ما قاسيتَه وتقلبت ... عليك به الدُّنيا من الخَير والشر
فهل لك في الدُنيا سِوَى الساعةِ التي ... تكون بها السَّراء أو حاضِر الضُّرّ

فما ساق منها لا يُحس ولا يُرى ... وما لم يكن منها عَمِي عن الفِكْر
فطوبَى لعبدٍ أخرج الله روحَه ... إليه من الدنيا على عَمل البِر
ولكنني حُدثْت أن نُفوسَهم ... هنالك في جاه جليل وفي قَدْر
وأجسادهم لا يأكل التربُ لحمَها ... هنالك لا تبلى إلى آخر الدهر
فَفرَّق الدهرُ شملاً كان ملتئماً ... منّا وجمع شملاً غيرَ ملتئم
ما زلتُ أرعى نُجومَ الليل طالعةً ... أرجو السلوَّ بها إذ غِبْتُ عن نَجمي
نَجْم من الحُسن ما يجرى به فَلَك ... كأنه الدرّ والياقوت في النَّظم
ذاك الذي حاز حُسناً لا نظير له ... كالبدر نوراً عَلا في مَنْزل النّعم
وقد تناظَرَ واليِرْجِيسُ في شَرَفٍ ... وقَارَن الزَّهرةَ البَيضاء في تَوَم
فذاك يُشبهه في حُسن صُورته ... وذا يَزيد بحظّ الشّعر والقَلم
أشكو إلى الله ما ألقى لفُرقته ... شِكْوى مُحبّ سَقيم حافظِ الذِّمم
لو كنت أشكو إلى صُمِّ الهضاب إذاً ... تَفطَّرتْ للذي أبديه من أَلم
يا غادراً لم يزَل بالغَدر مُرتدياً ... أين الوفاءُ ابِنْ لي غيرَ محْتشم
إن غاب جسمُك عن عَيني وعن نَظري ... فما يَغيب عن الأسرار والوَهم
إني سأبكيك ما ناحتْ مَطوقةٌ ... تبْكي أَلِيفاً على فَرْع من النَّشم
ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام
قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يُبَح للمتكلم، من قَصرْ الممدود، ومَدّ المقصور، وتَحريك الساكن، وتَسكين المتحرك، وصَرْف ما لا يَنصرف، وحَذف الكلمة ما لم تلتبس بأُخرى، كقولهم: فل من فلان، وحم من حمام .
قال الشاعر:
وجاءت حوادث مِن مِثلها ... يقال لِمثلك: ويهاً فُل
وقال مُسلم بن الوليد:
سَل الناسَ إني سائل الله وحْدَه ... وصائنُ وِجهي عن فُلان وعن فُل
وقال آخر:
دعاء حمامات تُجاوبها حَمُ
ومن المحذوف أيضاً قولُ الشاعر:
لها أشاريرُ مات لَحم تتَمِّره ... من الثَعالِي وَوَخْز من أرَانِيها
يريد من الثعالب. ومثله قول الشاعر:
ولضَفادِي جمَه نَقانِقُ
يريد الضفادع. ومن المحذوف قولُ كعب بن زُهير:
ويلُمّها خَلّةً لو أنها صَدقت ... في وَعدها أو لو أنَّ النُّصح مَقْبولُ
يريد ويل لأمها.
ومنه قولهم: لاه أبوك يريدون: للّه أبوك. وقال الشاعر:
لاه ابن عَمّك لا يخا ... ف المُبْديات من العَواقب
وكذلك الزيادة أيضاً إذا احتاجوا إليها في الشعر، فمن ذلك قول زُهير:
ثم استمرُّوا وقالوا إنّ موعدَكم ... ماء بشرقيّ سَلْمى فَيْدُ أورَكَكُ
قال الأصمعي: سألت بجنبات فَيد عن رَكك. فقيل: ماء هاهنا يُسمى ركّا. فعلمت أن زهيراً احتاج فضعَّف: ومنه قول القِطامىّ.
وقولُ المرء يَنْفُذ بعد حِين ... مواضعَ ليس يَنفذُها الإبارُ
ومثله قولهم: كَلكال، من كلكل. ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتَبّعه.
وأما قَصرهم المَمدود فجائز في أشعارهم، ومدِّ المقصور عندهم قَبيح. وقد يُستجاد في الشعر على قِبحه، مثلُ قوله حسّان بن ثابت:
قَفاؤُك أحسن من وجهه ... وأمك خيرٌ من المُنذرِ
وأنشد أبو عُبيدة:
يالك من تمْرٍ ومن شِيشاءِ ... يَنْشبَ في الحَلق وفي اللهاء
فمد اللَّهى، هو جمع لهاة: كما قالوا: قطاة وقطى، ونواة ونوى.
أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك، فمن ذلك قول لَبيد بن ربيعة:
تَرّاك أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها ... أو يَرْتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها
ومثله قولُ امرئ القيس:
فاليوم أشربْ غيرَ مُسْتحقب ... إثماً من الله ولا واغل
وِقال أمية بن أبي الصَّلت:
تأبى فما تَطلع لهم في وقتها ... إلا مُعذبة وإلا تُجْلدُ
ومن قولهم في تحريك الساكن:

اضْرِبَ عنك الهُمومَ طارقَها ... ضَرْبَك بالسَّوط قَوْنَس الفَرس
وأما صَرف مالا يَنصرف عندهم فكثير، والقَبيح عندهم ألا يُصرف المُنصرف، وقد يُستجاد في الشعر على قُبحه. قال عبِّاس بن مُرْداس:
وما كانَ بَدْر ولا حابس ... يفوق مِرداس في المَجمع
ومن قولهم في تَسكين المُتحرّك، وقد استشهد به سيبويه في كتابه:
عَجِب الناسُ وقالُوا ... شِعْرُ وضَاح اليَماني
إنما شِعْريَ قَنْدٌ ... قد خُلِطْ بجُلجلان
ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات.
باب ما أدرك على الشعراء
قال أبو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة: أدركتِ العلماءُ بالشعر على امرئ القيس قولَه:
أغرّك منّي أنّ حُبك قاتلي ... وانك مهما تأمُري القلبَ يفعل
وقالوا: إذا لم يَغُرّ هذا فما الذي يَغر؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله، حيث يقول:
وإنْ كُنتِ قد ساءتكِ مني خليقة ... فسُلّى ثِيابي من ثيابك تَنْسُل
لأنه ادَّعى في هذا البيت فضلاً للتجلد وقوة الصبر بقوله:
فسُلّى ثيابي من ثيابك تنسل
وزعم في البيت الثاني أنه لا تَحمُل فيه للصبر، ولا قُوة على التمالك، بقوله:
وإنك مهما تأمُري القلبَ يَفْعَل
وأقبح من هذا عِندي قولهُ:
فظَلّ العَذَارى يَرْتمين بلَحْمها ... وشَحْمٍ كهُدَّاب الدِّمَقْس المُفتَّل
ومما أدرك على زُهير قولُه في الضفادع:
يخرُجن من شَرَياتٍ ماؤها طَحِلٌ ... على الجُذُوع يَخَفْن الغَم والغَرقَا
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافَة الغَمّ والغرق، وإنما ذلك لأنهن يبتن في الشّطوط.
ومما أدرك على النابغة قولُه يصف الثِّور:
تَحِيد عن أسْتَن سودٍ أسافلُه ... مثل الإماء الغوادِي تَحْمل الحُزَمَا
قال الأصمعيّ: إنما تُوصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرَّواح لا بالغدو، لأنهن يجَئن بالحَطبِ إذا رُحن؟ قال الأخْنَس التِّغلبيّ:
تَظل بها رُبْدُ النَعام كأنها ... إماء يَرُحن. بالعَشيّ حَواطبُ
وأخذ عليه في وصف السيف قولُه:
يَقُدِّ السَّلوقيَّ المُضاعَفَ نَسجه ... وُيوقِد بالصُّفّاح نارَ الحُباحبِ
فزعم أنه يَقُد الدّرع المضاعفة والفارس والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القَبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قولِه:
ليستْ من السُّود أعقاباً إذا انصرفتْ ... ولا تَبيع بأعلى مكّة البُرمَا
وممّا أخذ عليه قولُه:
خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبَال مَتينةٍ ... تُمدُ بها أيدٍ إليك نَوَازعُ
فشَبه نفسه بالدَّلو، وشَبه النُّعمان بخَطاطيف حُجن، يريد خطاطيف مُعوجة تُمدّ بها الدلو. وكان الأصمعيّ يُكثر التعجب من قوله:
وعَيرتْني بنو ذُبيان خَشْيتَه ... وهل علي بأن أخشاكَ من عارِ
ومما أدبك على المُتلمّس قوله:
وقد أتناسى الهَمّ عند احتقاره ... بناجٍ عليه الصيعريّة مُكْدَم
والصيعرية: سِمة للنوق، فجعلها صفة للفَحْل. وسمعه طرفة وهو صبّي يُنشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل. فضحك الناس، وصارت مثلاً. وأخذ عليه أيضاً قولُه.
أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا ... تَزايلْنَ حتى لا يَمسّ دمٌ دمَا
وهذا من الكَذب المُحال.
ومما أدرك على طَرفة قوله:
أسد غِيل فإذا ما شرَبوا ... وَهَبوا كلّ أمُون وطِمِرّ
ثم راحوا عَبق المسك بهم ... يلْحِفون الأرضَ هدّاب الأزر
فذكر أنهم يُعطون إذا سَكروا، ولم يَشترط لهم ذلك إذا صَحَوْا، كما قال عنترة:
وإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ ... مالِي وعِرْضي وافر لم يُكَلم
وإذا صحوتْ فما أقصِّر عن ندى ... وكما عَلمتِ شمائِلي وتكرُّمي
ومما أدرك على عديّ بن زَيد قولُه في صفة الفَرس:
فَضافَ يُعرِّي جُلَّة عن سَراته ... يَبُدّ الجيادَ فارهاً مُتتابعَا
ولا يقال للفرس: فاره، وإنما يقال له: جواد وَعَتيق. ويقال للكَوْدن والبَغْل والحمار: فاره.

ومما أدرك عليه وصفهُ الخمر بالخُضرة، ولا نعلم أحداً وصفها بذلك، فقال:
المُشْرِفُ الهِنديّ يُسْقَى به ... أخضَر مَطْموثاً بماء الخَريصْ
ومما أدرك على أعشى بَكر قولُه:
وقد غَدوتُ إلى الحانوت يَتْبعني ... شاوٍ مِشَلّ شَلول شلشل شَوِلُ
وهذه الألفاظ الأربعة في معنى واحد. ومما أدرك علِى لَبيد قوله:
ومُقام ضيِّق فرْجتُه ... بمُقامي ولساني وجَدَلْ
لو يقوم الفِيل أو فيّالُه ... زلّ عن مِثل مُقامي وزَحَل
فظن أن الفَيال أقوى الناس، كما أن الفِيل أقوى البهائم.
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قولُه يصف المرأة:
لم تدر ما نَسْجُ اليَرندج قبلَها ... وَدِراسُ أعوصَ دَارِس مُتجَدّدِ
اليَرَندجِ: جلود سُود. فَظنّ أنه شيء يُنْسج. ودِراسِ أعوص، يريد أنها لم تُدارس الناس عَويص الكلام الذي يخفي أحياناً ويَتبين أحياناً.
وقد أتى ابنُ أحمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تُعرف في كلام العرب، منها: أنه سمّى الناعر ماموسةً، ولا يُعرف ذلك فقال:
كما تطايح عن مامُوسة الشَّرَرُ
وسَمَّى حُوار الناقة بابوساً، ولا يُعرف ذلك، فقال:
حَنّتْ قَلُوصي إلى بابُولسِها جَزعاً ... فما حَنِينُكِ أمْ مَا أنتِ والذّكَر
وفي بيت آخر يذكر فيه البَقرة:
وبَنسَ عنها فرْقَد خَصِرُ
أي تأخّر، ولا يُعرف التَبنّس. وقال.
وتقَنَع الحرباء أرْنَتَه
يريد ما لُفّ على الرأس. ولا تعرف الأرنة إلا في شعره.
ومما أدرك على نُصيب بن رَبَاح قولُه:
أَهيمُ بدَعْد ما حَييت فإن أمُت ... فواكبدي مَن ذا يَهيم بها بَعدِي
تلهّف على من يهيم بها بعده.
ومما أدرك على الرَّاعي قولهُ في المرأة:
تكسو المفارقَ واللّباتِ ذا أرَج ... من قُصْب مُعتَلف الكافور درَّاج
أراد المسك. فجعله من قُصْب. والقُصب: المِعَى. فجعل المِسك من قُصْب دابّة تعتلف الكافور فيتولَد عنه المسك. ومما أدرك على جَرير قولُه في بني الفَدَوْكس رهط الأخطل:
هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفة ... لو شِئتُ ساقكُم إليَّ قَطِبنَا
القطين، في هذا الموضع: العَبيد والإماء. وقيل له: أبا حَزْرة، ما وجدتَ في تميم شيئاً تفخر به عليهم حتى فخرتَ بالخلافة، لا والله ما صنعتَ في هجائهم شيئاً. ومما أدركَ على الفَرزدق قولُه:
وعَضّ زمان يابن مَروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسْحتا أو مُجَلَّفُ
وقد أكثر النحويّون الاحتيالَ لهذا البيت، ولم يأتوا فيه بشيء يُرضي. ومثلُ ذلك قولُه:
غداةَ أحلَّت لابن أَصْرَم طَعنةً ... حُصَينٌ عَبيطاتِ السَّدائفِ والخَمرُ
كان حُصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره. فقال " عبيطات السدائف. فنصب عبيطات السدائف ورفع الخمر هانما هي معطوفة عليها، وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وحلّت له الخمر.
ومما أدرك على الأخطلِ قولُه في عبد الملك بِن مَرْوان:
وقد جَعل الله الخِلافة منهمُ ... لأبيض لا عارِي الخِوَان ولا جَدْبِ
وهذا مما لا يُمدح به خليفة.
وأخذ عليه قولُه في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يُعرف بالقَين ولم يكن قَيناً، فقال فيه:
نِعْم المجير سماك من بني أسدٍ ... بالمَرْج إذ قَتلت جيرانَها مُضَرُ
قد كنتُ أحسبه قَيْناً وأنبؤه ... فالآن طيَر عن أثوابِه الشَرَرُ
وهذا مدْح كالهجاء.
ومما أدرك على ذي الرمة:
تُصْغي إذا شَدَّها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استَوى في غَرْزها تَثِبُ
وسَمعه أعرابيّ يُنشده فقالت: صُرع والله الرجل، ألا قلت كما قال عَمُّك الراعي:
وواضعة خدّها للزَما ... م فالخَدُّ منها له أصْعرُ
ولا تُعجل المرءَ قبل الرًّكو ... ب وهي برُكبته أبْصر
وهي إذا قام في غرْزها ... كمثل السفينة أو أوْقرُ
ومما أدرك عليه قولُه:
حتى إذا دَوّمت في الأرض راجعةً ... كِبْرٌ ولو شاء نَجَّى نَفْسه الهَربُ

قالوا: التَّدويم: إنما يكون في الجوّ، يقال: دَوّم الطائر في السماء، إذا حلّق واْستدار؟ ودوَم في الأرض، إذا استدار فيها.
وما أدرك على أبي الطَّمَحان القَيْنيّ قولُه:
لما تَحَمَّلت الحُمول حسبتُها ... دَوْماً بأثلة ناعماً مَكْمُوماً
الدوم: شَجر المُقل، وهو لا يُكَم وإنما يُكَم النخل.
ومما أخذ على العجّاج قوله:
كأنّ عَينيه من الغُؤور ... قَلتان أو حَوْجَلتا قارُورِ
صَيّرتا بالنَّضح والتِّصْيير ... صلاصلَ الزَّيت إلى الشّطورِ
الحوجلتان: القارورتان. جعل الزَجاجَ ينضح ويَرشح. ومما أدرك على رؤبة قوله:
كُنتم كمن أدخل في جُحرٍ يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقَى الأسودا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرّة.
وأخذ عليه في وصف الظَّليم قوله:
وكُلُّ زَجّاج سُخَامُ الخَمْل ... تَبْري له في زعلاتٍ خطْل
فجعل للظليم عدّة إناث، كما يكون للحَمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأُخذ عليه قولُه يصف الرَّامي:
لا يَلتوي من عاطس ولا نَغَق
إنما هو النَّغيق والنُّغاق، وإنما يصف الرامي. وأدرك عليه قولُ:
أقفرت الوعثاء والعثاعِث ... من أهلها والبُرَق البَرَارِثُ
إنما هي البراث: جمع بَرْث. وهي الأرض اللينة.
وأدرك عليه قولُه: يا ليتنا والدهر جري السُّمّةِ إنما يقال: ذهب السّهمي أي في الباطل وأخذ عليه قوله
أو فِضّة أو ذهبٌ كِبْريتُ
قال: سَمع بالكِبْريت أنه أحمر فظن أنه ذَهب.
مما يَستقبح من تشبيهه قولُه في النساء:
يَلْبسن من لين الثيابِ نِيما
والنِّيم: الفرو المُغشىَّ. وأخذ عليه قولُه في قوائم الفَرس:
يَردبن شتَّى وَبقَعْن وَفْقَا
وأنشده مُسلم بنِ قُتَيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجَحِّاف. جعلتَه مُقيداً.
قال له رؤبة: أدْنني من ذنب البعير.
ومما أُدرك على أبي نُخيلة الراجز قولهُ في وصف المرأة:
مُرَية لم تَلْبس المرقّقا ... ولم تذُق من البُقول الفُستُقا
فجعل الفُستق من البقول، وإنما هو شَجر.
ومما أُدرك على أبي النجم قولُه في وصف الفرس:
يَسبح أُخراه ويَطفو أوَّلهُ
قال الأصمعي: إذا كان كذلك فحِمار الكسَّاحِ أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قَبيح. وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السُّلمي:
مرّ كَلمع البَرق سام ناظرُه ... يَسْبَح أُولاه ويَطفُو آخرُه
فما يَمسّ الأرضَ منه حافرُه
وأخذ عليه في الوُرود قولُه:
جاءت تَسامى في الرَّعيل الأول ... والظِّل عن أَخفافها لم يَفْضل
فوصف أنها وردت في الهاجرة. وإنما خَير الورود غَلساً، والماء بارد. كما قال الآخر:
فوردت قبل الصباح الفاتِقِ
وكقول لبَيد بن ربيعة العامريّ:
إنّ من وِرْدي لتغْلِيس النَهل
وقال آخر:
فوردْنَ قبل تَبينُّ الألوان
وأنشد بشَّار الأعمى قوِلَ كُثيّر عزة:
ألا إنَّما ليلَى عصا خيْزُرانة ... إذا غَمزوها بالأكُفّ تَلِينُ
فقال: للّه أبو صخر! جعلها عصا خَيْزرانة. فوالله لو جعلها عصا زيْد لَهَجّنها بالعَصَا، ألا قال كما قلتُ:
وبيضاء المَحاجر من معَدٍّ ... كأن حديثَها قِطَع الجُمانِ
إذا قامتْ لحاجتها تَثَنَّت ... كأنّ عِظامَها من خَيزران
ودخل العتابيّ على الرشيد فأَنشده في وصف الفَرس:
كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادمةً أو قلماً مُحرّفَا
فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتدِ أحدٌ منهم إلى إصلاح البيت غير الرشيد، فإنه قال: قُل:
تخال أذْنيه إذا تَشَوَّفا
والراجز وإن كان لَحن فإنه أصاب التَّشبيه. حدّث أبو عبد الله بن محمد بن عُرْفَة بواسط، قال: حدّثني أحمد بن محمد أبن يحيى عن الزُّبير بن بكّار عن سُليمان بن عياش السَّمديّ عن السائب، راوية كُثير عَزة، قال: قال لي كُثير عَزة يوماً: قُم بنا ابنِ أبي عَتيق نتحدّث عنده. قال: فجئنا فوجدنا عنده ابنَ مُعاذ المُغنّي. فلما رأى كُثيّراَ قال لابن أبي عتيق: ألا أُغنيك بشعر كُثير عزة؟ قال: بلى فغنّاه:

أبائنة سُعدى نعم ستَبِين ... كما انبت من حَبل القَرين قرينُ
أأن زُمّ أجمال وفارق جِيرة ... وصاح غُراب البين أنت حَزين
كأنك لم تَسمع ولم تَر َقبلها ... تفرُّق أُلاف لهنّ حَنِين
فأخلفن مِيعادي وخُنّ أمانتي ... وليس لمن خانَ الأمانة دِينُ
فالتفت ابنُ أبي عَتيق إلى كُثيّر، فقال: أوللدِّين صحبتهن يا بن أبي جُمعة؟ ذلك والله أشبهُ بهنّ، وأدعى للقلوب إليهنّ؟ وإنما يُوصفن بالبُخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة. وذو الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حَبّذا الإدلال والغَنَجُ ... والتي في طَرفها دَعَجُ
وِالتي إن حدّثت كَذبت ... والتي في ثَغرها فَلج
خبروني هل على رجُل ... عاشِقٍ في قُبلة حَرَج
فقال كُثيّر: قُم بنا من عند هذا، ومَضى.
عُمارة بن عَقيل بن بِلال بن جَرير، قال: إنّي بباب المأمون إذ خرج عبد الله ابن أبي السِّمط، فقال لي: علمتُ أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشِّعر.
قلت له: وبِم علمتَ ذلك؟ قال: أسمعتُه الساعَة بيتاً لو شاطرني مُلكه عليه لكان قليلاً. فنظر إلي نَظراً شَزراً كاد يَصطلمني. قلت له: وما البيت؟ فأنشد:
أضحى إمامُ الهُدى المأمون مُشتغلاً ... بالدّين والناسُ بالدنيا مَشاغيلُ
قلت له: والله لقد حَلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه. ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ ألا قلت كما قالَ جَدّي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدُّنيا مُضِيع نصيبه ... ولا عَرَضُ الدُّنيا عن الدّين شاعلُ
فقال: الآن علمتُ أنني أخطأت.
الهيثم بن عَدِيّ قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتُ ببابك جماعةً من الشعراء لا أحسبُهم اجتمعوا بباب أحد من الخلفاء، فلو أذنتَ لهم حتى يُنشدوكَ؟ فأذن لهم فأَنشدوه وكان فيهم الفرزدق، وجرير، والأخطل، والأشهب بن رُميلة. وترك البَعِيث فلم يأذن له. فقال الرجل المُستأذن لهم: لو أذنتَ للبَعِيث يا أمير المؤمنين، إنه لشاعر. فقال: إنه ليس كهؤلاء إنما قال من الشعر يسيراً. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأَذِن له فلما مَثَل بين يديه، قال: يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء ومَن ببابك قد ظَنّوا أنك إنما أذنتَ لهم دوني لفَضل لهم عليّ. قال: أولستَ تعلم ذلك؟ قال: لا واللّه، ولا علّمه الله لي. قال: فأنشِدْني من شعرك. قال: أمَا والله حتى أنشدك من شعر كُل رجل منهم ما يَفضحه فأقبل على الفرزدق، فقال: قال هذا للشيخُ الأحمق لعبد بني كُليب:
بأيّ رِشاءٍ يا جريرُ وماتحٍ ... تدلّيت في حَوْمات تلك القَماقِم
فجعله يتدلّى عليه وعلى قومه من عَلُ، وإنما يأتيه من تحته لو كان يَعقلُ. وقد قال هذا، كَلبُ بني كُليب:
لَقومِيَ أحَمى للحقيقة منكُم ... وأضربُ للجَبَّار والنقعُ ساطع
وأوثقُ عند المُرْدفات عشيّة ... لَحَاقاً إذا ما جَرَّد السيفَ لامِع
فجعل نساءه لا يثقْنَ بلَحاقه إلا عشيَّة، وقد نُكحن وفُضحن. وقال هذا النصراني، ومدح رجلاً يسمى قَيناً فهجاه، ولم يشعر، فقال:
قد كُنت أحسبه قيناً وأُنبؤه ... فالآن طُيّر عن أثوابه الشَّررُ
وقال ابن رُميلة ودَفع أخاه إلى مالك بن رِبْعيّ بن سَلْميّ فقُتل، فقال:
مَدَدنا وكان ضَلَّة من حلومنا ... بَثَدْيٍ إلى أولاد ضَمرة أقْطَعا
فمن يرجو خيرَه وقد فعل بأخيه ما فَعل. فجعل الوليدُ يُعْجب من حفظه لمثالب القوم وقُوة قلبه، وقال له: قد كشفتَ عن مساوئ القوم، فأنشدني من شعرك. فأنشده فاستحسن قولَه ووصَله وأجزل له.
ومما عِيب على الحسن بن هانئ قولُه في بعض بني العبًاس:
كيف لا يدينك من أمل ... مَنْ رسولُ الله من نَفره
فقالوا: إنّ حَق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُضاف إليه ولا يُضاف هو إلى غيره. ولو اتسع فأجازه لكان له مجاز حسن. وذلك أن يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قُريش: منّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها، كما قال حسّان بن ثابت:

وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائمُ عِزٍّ لا تُرام ومَفْخَرُ
بَهاليلُ منهم جَعفرٌ وابنُ أمه ... عليّ ومنهم أحمدُ المتخير
فقال: منهم، كما قال هذا: من نفر.
ومما أُدرك عليه قولُه في البَعير:
أَخْنس في مثل الكِظَام مَخْطِمُه
والأخنس: القصير المَشافر، وهو عَيب له، وإنما تُوصف المَشافر بالسبوطة. ومما أُدرك على أبي ذُؤيب قوِلُه في وصف الدُّرّة:
فجاء بها ما شئت مِن لطميّة ... يدُور الفُرات فوقَها وَتمُوجُ
قالوا: والدُّرة لا تكون في الماء الفُرات، إنما تكون في الماء المالح.
واجتمع جريرُ بن الخَطَفي وعُمَر بن لَجَأ التَّيمي عند المُهاجر بن عبد الله والي اليمامة، فانشده عُمر بن لَجأ أرجوزَته التي يقول فيها:
تَصْطكُّ ألْحِيها على دِلائها ... تَلاَطُمُ الأزد على عَطائِها
حتى انتهى إلى قوله:
تُجَرّ بالأهونِ من إدْنائها ... جَرّ العَجوز الثنْيَ من خِفَائها
فقال جرير: ألا قلت:
جرّ الفتاة طَرَفَيْ رِدائها
فقال: والله ما أَردتُ إلا ضَعْف العجوز. وقد قلتَ أنت أعجبُ من هذا، وهو قولُك:
وأوثق عند المُرْدفات عَشيّةً ... لَحاقاً إذا ما جَرّد السَّيفَ لامعُ
والله لئن لم يُلْحقن إلا عشيّة ما لُحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشَّرُّ بينهما.
وقَدم عمرُ بن أبي ربيعة المدينةَ، فأقبل إليه الأحوصُ ونُصيب، فجعلوا يتحدثون. ثم سألهما عمرُ عن كُثيّر عَزّة، فقالوا: هو هاهنا قَريب. قال: فلو أرسلنا إليه؟ قالا: هو أشدّ بَأْوا من ذلك. قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوَه، فألفَوْه جالساً في خَيمة له. فوالله ما قام للقُرشيّ، ولا وَسّع له. فجعلوا يتحدّثون ساعة. فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال له: إنك لشاعر لولا أنك تُشبِّب بالمرأة، ثم تَدعها وتُشبِّب بنفسك. أَخبرني عن قولك:
ثم اسبَطَرت تَشتدِّ في أَثَري ... تسأل أهلَ الطَّوافِ عن عُمر
والله لو وصفتَ بهذا هِرّة أهلِك لكان كثيراً! ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:
أَدور ولولا أن أرى أم جَعْفر ... بأبياتِكم ما دُرتُ حيثُ أدورُ
وما كنتُ زَوّاراً ولكنّ ذا الهَوى ... وإن لم يَزر لا بُدّ أن سيزور
قال: فانكسرت نَخوةُ عمر بن أبي ربيعة ودخلت الأحوصَ زَهوةٌ ثم ألتفت إلى الأحوص، فقالت: أخبرني عن قولك:
فإنّ تَصِلي أصِلْك وإن تَبِينيبهَجْرك بعد وَصْلك، ما أبالِي أمَا والله لو كنتَ حُرَّاً لبالَيتَ ولو كُسر أنفُك. ألا قلت كما قال هذا الأسود، وأشار إلى نصيب:
بزينَب اْلمِم قبلَ أن يَرحل الرَّكْبُ ... وقُلْ إن تَملِّينا فما ملكِ القَلْبُ
قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيْباً زهوة. ثم التفت إلى نُصيب، فقال له: أخبرني عن قولك:
أهيم بدَعد ما حييتُ فإن أمت ... فواكبدِي مَن ذا يهيم بها بَعدِي
أهمّك ويحك مَن يفعل بها بعدك. فقال القوم: الله أكبر استوت الفِرَق قُوموا بنا من عند هذا.
ودخل كُثير عزة على سُكينة بنت الحُسين عليه السلام، فقالت له: يا بن أبي جُمعة، أخبرني عن قولك في عَزّة:
وما رَوْضة بالحزن طَيِّبة الثَّرى ... يَمُج النَدى جَثْجاثُها وعَرارُها
بأطيَبَ من أرْدَانِ عَزّة مَوْهِناً ... وقد أوقدت بالمندل الرَّطب نارُها
ويحك! وهل على الأرض زنجية مُنْتنة الإبطين، تُوقد بالمَندل الرطب نارها إلا طاب ريحُها. ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس:
ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيّبِ
سمر عبدُ الملك بنُ مَروان ذاتَ ليلة وعنده كُثيّر عَزّة، فقال له: أنشدني بعضَ ما قلتَ في عَزّة. فأنشده، حتى إذا أتى على هذا البيت:
هممتُ وهَمّت ثم هابتْ وَهِبْتُها ... حياءً ومِثْلي بالحَيَاء حَقِيقُ
قال له عبدُ الملك: أما والله لولا بيت أنشدتَنيه قبل هذا لحرمتُك جائزتك.
قال: لمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتُها معك في الهَيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوتَ به يا أمير المؤمنين؟ قال قولك:

دعُوني لا أريد بها سِواها ... دعُوني هائماً فيمن يَهيمُ
ومما أدرك على الحسن بن هانئ قولُه في وصفِ الأسد، حيث يقول:
كأنما عينُه إذا التفتت ... بارزةَ الجفن عينُ مَخْنُوقِ
وإنما يُوصف الأسد بغؤور العَينين، كما قال العجّاج:
كأن عَينيه من الغُؤور ... قَلتان أو حَوْجلتا قارورِ
وقال أبو زُبيد:
كأنّ عينيه نَقباوان في حَجَر
ومن قولنا في وصف الأسد ما هو أشبه به من هذا:
ولرُبّ خافقة الذَوائب قد غَدتْ ... مَعْقودةً بلوائه المَنْصور
يَرْمِي بها الآفاق كُل شَرَ نْبَث ... كفّاه غيرُ مُقلَّم الأظْفورِ
لَيثٌ تَطِير له القُلوبُ مخافةً ... مِن بين همهمة له وزَئير
وكأنما يُومي إليك بطَرفة ... عن جَمْرتين بجَلْمد مَنْقُور
باب من أخبار الشعراء
حَدّث دِعْبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشِّيص وأبو نُواس في مجلس، فقال لهم أبو نُواس: إنّ مجلسنا هذا قد شُهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده، فليأت كُل واحد منكم بأحسن ما قال، فَلْينشده. فأنشد أبو الشِّيص، فقال:
وَقف الهَوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخر عنه ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هَواكِ لذيذةً ... حُبّاً لذِكْرك فَلْيلمني اللُّوم
وأهنتِني فأهنت نفسيصاغراً ... ما مَن يهون عليك ممَن أُكْرِم
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبّهم ... إذ كان حَظِّي منك حظِّي منهمُ
قال: فجعل أبو نواس يعجب من حُسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عَجبُه. ثم أنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه:
فاقسم أنْسىَ الداعياتِ إلى الصِّبا ... وقد فاجأتْها العينُ والسِّترُ واقعُ
فغطّت بأيديها ثمارَ نُحورها ... كأيدي الأسرى أثقلتها الجَوَامع
قال دِعبل: فقال لي أبو نُواس: هاتِ أبا عليّ، وكأنّي بك قد جئتنا بأم القِلادة. فقلتُ: يا سيدي، ومن يُباهيك، بها غيري. فنشدته:
أين الشَّبابُ وأيَّة سَلَكا ... أَمْ أَين يُطلب ضلَّ أم هَلَكا
يا ليتَ شعري كيف صَبْرُكما ... يا صاحِبَيَّ إذا دَمِي سُفِكا
لا تطلُبا بظُلامتي أحداً ... قَلبي وطَرْفي لا دَمِي اشتركا
ثم سَألناه أن ينشد. فأنشد أبو نُواس:
لا تَبْك هِنداً ولا تَطْرب إلى دَعْدِ ... واشرب على الوَرْد من حَمراء كالوَرْدِ
كأساً إذا انحدرتْ في حَلْق شاربها ... وجدتَ حُمرتها في العيْن والخَدّ
فالخَمر ياقوتة والكأس لُؤلؤة ... في كَفّ جاريِة مَمشوقةَ القَدّ
تَسْقيك من عَينها خَمْراً ومن يَدها ... خَمراً فما لكَ من سُكْرَين من بُدّ
لي نَشْوتان وللندْمان واحدة ... شيء خُصصتُ به من بينهم وَحْدي
فقاموا كلهم فسجدوا له. فقال: أفعلتموها أعجميَّة، لا كلمتُكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً. ثم قال: تسعة أيام في هَجر الإخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعُقوبة على الهَفوة. ثم التفت إلينا فقال: أعلمتم أنّ حكيماً عَتب على حكيم فكتب المعتوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي، إنّ أيام العمر أقلُّ من أن تَحتمل الهجر، محمد بن الحسن المَدِينيّ، قال: أَخبرني الزبيرُ بن أبي بكرة، قال: دخلت على المُعتز بالله أمير المؤمنين فسَلمتُ عليه، فقال: يا أبا عبد اللّه، إني قد قلتُ في ليلتي هذه أبياتاً وقد أعيا عليّ إجازةُ بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني، وكان مَحموماً:
إنّي عرفتُ عِلاجَ القَلْب من وَجَع ... وما عرفتُ عِلاجَ الحُبّ والخُدَع
جَزعتُ للحبِّ والحمَى صَبرتُ لها ... إني لأعجبُ من صَبري ومن جزعي
مَن كان يَشغلُه عن حُبه وَجَعٌ ... فليس يَشغلني عن حُبكم وَجَعي
قال أبو عبد الله: فقلت:
وما أملُّ حَبيبي ليلةً أبداً ... مع الحَبيب ويا ليتَ الحبيبَ معِي
فأمر لي على البيت بألف دِينار.

اجتمع الحسنُ بن هانئ وصريعُ الغواني وأبو العتاهية في مجلس بالكوفة، فقيل لأبِي العتاهية: أنشدنا. فأنشد:
أسيَّدتي هاتي فديتُك ما جُرْمي ... فانزِلَ فيما تَشْتهين من الحُكْم
كفاكِ بحَقّ الله ما قد ظَلَمْتِني ... فهذَا مقامُ المُسْتجير من الظُّلم
وقيل لصريع الغواني: أنشدنا. فأنشأ يقول:
قد اطّلعتَ على سِرِّي وإعْلاني ... فاذهبْ لشانِكَ ليس الجَهْلُ من شَانِي
إنّ التي كُنتُ أنحو قَصْد شِرّتها ... أعطت رضاً وأطاعتْ بعد عِصْيانِ
ثم قيل للحسن بن هانئ: أنشدنا، فأنشد:
يا بنة الشَيخ اصْبَحينا ... ما الذي تَنتظرِينَا
قد جَرى في عُوده الما ... ءُ فأجْرِي الخمر فِينا
قيل: هذَا الهزل، فهاتِ الجدّ. فأنشأ:
لمِن طَلل عارِي المَحلّ دفينُ ... عفا عهدُه إلا روائمُ جُونُ
كما افترقت عند المَبيت حمائمٌ ... غَريباتُ مُمْسىً ما لهن وُكون
ديارُ التي أمّا جَنَى رَشَفاتها ... فحُلو وأما مسها فيَلين
وما أَنْصفت أما الشُّحوبفظاهرٌ ... بوَجهي وأمّا وجهها فَمَصُون
فقام صريعُ الغواني يجرّ ذيلَه وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلستُه أبداً.
هشام بن عبد الملك الخُزاعيّ قال: كُنا بالرقة مع هارون الرشيد فكتب إليه صاحبُ الخَبر بموت الكِسائي وإبراهيم المَوصلي والعبَّاس ابن الأحنف في وقت واحد. فقال لابنه المأمون: اخرج فصلّ عليهم. فخرج المأمون في وُجوه قُوّاده وأهل خاصّته، وقد صُفُّوا له. فقالوا له: مَن ترى أن يُقدَّم؟ قال: الذي يقول:
يا بَعِيدَ الدار عن وَطنه ... هائماً يَبْكي على شَجَنِهْ
كُلما جدّ البُكاء بِه ... زادتِ الأسقامُ في بَدنِه
قيل له: هذا، وأشاروا إلى العباس بن الأحنف. فقال: قَدّموه، فقُدِّم عليهم.
أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير، وهو مُقبل من عند هشام بن عبد الملك، فبات عندي إلى الصبح، فلمّا أَصْبح شَخص وخرجتُ معه أشيعه. فلما خرجنا عن أَطناب البيوت التفتَ إليّ فقال: أنشدني من قول مَجنون بني عامر قيس ابن المُلوّح، فأنشدتُه:
وأدنْيتِني حتى إذا ما سَبَيْتني ... بقَول يُحلّ العُصْمَ سَهلَ الأباطحَ
تجافيتِ عنِّي حين لا ليَ حيلة ... وغادرتِ ما غادرتِ بين الجَوانح
فقال: والله لولا أنه لا يَحسن لشيخ مثلي الصُّراخ لصرخت صرخة يسمعها هشامٌ على سريره. وهذا من أرق الشِّعر كُله وألطفه، لولا التضمين الذي فيه. والتضمين أن يكون البيت معلّقاً بالبيت الثاني لا يتم معناه إلا به. وإنما يُحمد البيت إذا كان قائماً بنفسه.
وقال العبّاسُ بن الأحنف نظير قول المجنون بلا تضمين، وهو قولُه:
أشكو الذين أذاقُوني مودَتهم ... حتى إذا أيقظوني بالهَوى رقدُوا
وقال الأصمعيّ: دخلتُ على هارون الرشيد، فوجدتُه منغمساً في الفراش فقال: ما أبطأ بك يا أصمعيّ؟ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما أكلتَ عليها؟ قلت: سِكباجة وطَباهَجة قال: رميتَها بحَجرها. أتشرب؟ فقلت: نعم، وقلت:
اسقنى حتى تراني مائِلاً ... وترى عُمرانَ ديني قد خَرِبْ
قال: يا مسرور، أي شيء معك؟ قال: ألف درهم. قال: ادفعها للأصمعيّ.
وكان يصحب عليَّ بن داود الهاشمي يَهوديّ ظَريف مؤنس أديب شاعر أريب، فلما أراد الحَج أراد أن يَستصحبه، فكتب إليه اليهودأي يقول:
إنّي أعوذ بداودٍ وحُفْرته ... من أن أحُج بكُره يا بن داوُدِ
نُبِّئتُ أنْ طريقَ الحَج مُصردة ... عن النَّبيذ وما عَيْشي بِتَصريدِ
والله ما فيَّ من أَجر فتَطلبَه ... فيما علمت ولا دِيني بمَحْمود
أما أبوك فذاك الجُود يعَرِفُه ... وأنت أشبهُ خَلق الله بالجُود
كأنّ ديباجَتَيْ خَدّيه من ذهب ... إذا تَعصّب في أثوابه السّود

حَدّث أبو إسحاق يحيى بن محمد الحَواريّ، قال: سمعتُ شيخاً من أهل البَصرة يقول: قال إبراهيم السَّويقي، مولى المَهالبة: تتابعتْ عليّ سنون ضيّقة، وألحِّ عليَّ العُسر وكثرةُ العِيال وقلّة ذات اليد، وكُنت مشتهراً بالشعر أقصد به الإخوان وأهلَ الأقدار وغيرَهم، حَتى جفاني كُل صديق، وملّني مَن كنت أقصده، فأضرّني ذلك جدّاً. فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفَقر وأضرّ بنا الجهد، وقد بقيتَ في بيتي كأنك زَمِن، هذا مع كَثرة الولد، فاخرُج عنّي واكفِني نفسك ودَعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مَرّة وأقعد بهم أخرى. وألَحّتْ عليّ في الخصومة، وقالت لي: يا مشؤوم، تعلمتَ صناعة لا تُجدي عليك شيئاً. فضجرتُ منها ومِن قولها وخرجتُ على وجهي في ذلك البرد والرِّيح، وليس عليَّ إلا فَرْو خَلَق ليس فوقه دِثار ولا تحته شِعار، وعلى عُنقي إزار، ثم جاءت ريحٌ شديدة فذهبت به عن بدني، وتفرّقت أجزاؤه عني، من بِلاه وكثرة رقاعه. وعلى عنقي طَيْلسان ليس عليّ منه إلا رسمه. فخرجت والله متحيَّراً لا أدري أين أقصد ولا حيث أذهب. فبينما أنا أجِيل الفكرة إذ اخذتني سماء بقطر متدارك. فدفعت إلى دارٍ على بابها روشن مطل ودكّان نظيف وليس عليه أحد، فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر. فقصدت قصدَ الدار. فاذا بجارية قاعدة قد لزمتْ باب الدار كالحافظة عليه، فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت لها: ويحك، لستُ بسائل، ولا أنا ممن تُتخوف ناحيته. فجلست على الدّكان. فلما سكنت نفسي سمعتُ نغمة رخيمة من وراء الباب تدلّ على نغمة امرأة. فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عِتاب. ثم سمعت نغمةً أخرى مثل ذلك، وهي تقول: فعلتِ وفعلتِ. والأخرى تقول: بل أنت فعلتِ وفعلتِ. إلى أن قالت إحداهما: أنا، جُعلت فداك إن كنتُ أسأتُ فاغفري واحفظي عنه أشعار ظريفة. فأنشدتْها تقول:
هبيني يا مُعذِّبتي أسأتُ ... وبالهِجْران قَبلكُم بدأت
فأين الفضلُ منكِ فَدَتْك نَفْسي ... عليّ إذا أسأتِ كما أسأت
فقالت: تها. ثم قالت: يا أبا إسحاق، ما لي أراك بهذه الهَيئة الرثّة والبزّة الخَلقة؟ فقلت: يا مولاتي، تعدَّى عليّ الدهرُ، ولم يُنصفني الزمان، وجفاني الإخوان، وكَسدت بضاعتي. فقالت: عَزّ عليّ ذلك. وأومأت إلى الأخرى، فضربت بيدها علىِ كمُها. فسلّت دملُجا من ساعدها، ثم ثَنَّت باليد الأخرى، فسلّت منها دملجاً آخر. فقالت: يا أبا إسحاق، خُذ هذا واقعد على الباب مكانَك وانتظر الجاريةَ تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سَكَن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا وخرجتا وقعدتُ مكاني. فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسةُ أثواب وصرّة فيها ألفُ دِرهم، وقالت لي: تقول مولاتي: أنفق هذه، فإن احتجتَ فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله. فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي قالت: هذا لِبَناتي، وكابرتني عليهما. فدخلت السّوقَ فبعتُهما بخمسين ديناراً، وأقبلتُ. فلما فتحت الباب صاحب امرأتي، وقالت: قد جئتَ أيضاً بشُؤمك! فطرحتُ الدنانيرَ والدراهم بين يديها والثياب، فقالت: من أين هذا؟ قلت: مِن الذي تشاءمت به وزعمتِ بضاعتي التي لا تُجدي. فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة.
نوادر من الشعر
وقال المأمون لمحمد بن الجَهم: أَنشدني بيتاً أوّله ذَمّ وآخره مَدْح أولك له كُورة فأنشده:
قَبحتْ مناظرُهم فحين خبرتُهم ... حَسُنت مناظرُهم لحسن المَخْبَر
أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوّه ... فطيبُ تُراب القَبر دلَّ على القبر
فولاه الدِّينور. وقال هارون الرشيد للمُفَضّل الضَّبِّي: أنشدنا بيتاً أوله أعرابي في شَملته، هَبَّ من نَومته، وآخره مَدنيّ رقيق، غُذِّي بماء العَقيق. قال المُفضل: هَوَّلتَ عليَّ يا أمير المؤمنين، فليت شعري، بأيّ مَهر تُفتضّ عَروس هذا الخدْر؟ قال هارون: هو بيتُ جَميل حيث يقول:
ألا أيها النّوام ويحكُم هُبُّوا ... أُسائلكم هل يَقتل الرجلَ الحبُّ

فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثمُ بن صَيفيّ في إصابة الرأي، وآخره بُقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء؟ قال له هارون: ما هو؟ قال: هو بيتُ الحسن بن هانئ حيث يقول:
دع عنكَ لَومي فإنّ اللومَ إغراء ... وداوني بالَّتي كانت هي الدواء
قال: صدقت. وقال الرَّبيع: خرجنا مع المنصور مُنصَرفنا من الحَجّ، فنزلنا الرَّضمة، ثم راح المنصور ورُحنا معه في يوم شديد الحَرّ، وقد قابلْته الشمس، وعليه جُبة وَشيْ. فالتفت إلينا، وقال: إنّي أقول بيتاً من الشعر، فمَن أجازه منكم فله جُبتي هذه قلنا: يقول أمير المؤمنين. فقال:
وهاجرة نصبت لها جَبيني ... يُقطِّع حرُّها ظَهرَ العِظَايه
فبَدره بشّار الأعمى فقال:
وقفتُ بها القلوصَ ففاض دَمعي ... على خَدِّي وأَسعد واعظَايه
فخرج له من الجُبة. فلقيته بعد ذلك، فقلت له: ما فعلتَ بالجُبة؟ قال: بعتُها بأربعة آلاف درهم. خرج رسول عائشة بنت المَهديّ، وكانت شاعرةً، إلى الشعراء وفيهم صرَيع الغواني، فقال: تُقرئكم سيدتي السلامَ وتقول لكم: من أجاز هذا البيتَ فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم:
أنيلي نَوَلاً وجُودي لنَا ... فقد بلغتْ نَفسيَ التَرْقوه
فقالِ صَريع:
وإني كالدلْو في حُبكم ... هَوِيتُ إذا انقطعتْ عَرْقوه
قال الحسن: صدقتَ. ثم أقبل إليه رجلٌ آخر، فقال: يا أبا سَعيد، ما تقول في الرجلِ يشك في الشَّخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلتَ أنا في مثل هذا. قال: الحسن، وما قلت؟ قال: قلت:
ولستَ بمأخوذ بقَول تقولُه ... إذا لم تُعِنْه عاقداتُ العزائِم
قال الحسن: صدقتَ. فأخذ المائة الدِّينار.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحَسن البَصريّ، وجرير يجلس إلى ابن سِيرين، لتباعد ما بين الرَّجلين، وكان موتُهما في عام واحد، وذلك سنة عشر ومائة. فبينما الفرزدق جالس عند الحَسن إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سَعيد: إنّا نكون في هذه البُعوث والسرَّ أيا فنُصيب المرأة من العدوّ وهي ذاتُ زَوْج، أفتحلّ لنا من غير أن يُطلّقها زوجُها؟ قالت الفرزدق: قد قلتُ أنا في مثل هذا في شعري. قال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلتُ:
وذات حَلِيل أَنكحْتها رماحُنا ... حَلالاً لمن يبني بها لم تُطلَقِ
واستعدت امرأةٌ على زَوجها عبّادَ بن منصور وزعمت أنه لا يُنفق عليها.
فقال لرؤبة: احكُم بينهما. فقال:
فطَلّق إذا ما كنتَ لستَ بمُنفقٍ ... فما الناسُ إلا مُنفِقٌ أو مطلق
وكان رجل يدَّعي الشعرَ ويستبرده قومُه، فقال لهم: إنما تَستبردونني من طريق الحَسد. قالوا: فبيننا وبينك بشّار العقيلي. فارتفعوا إليه. فقال له: أنشدني. فأنشده فلما فرغ، قال له بشّار: إني لأظنك من أهل بيت النُّبوة؟ قال له: وما ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول: وَما علّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي له فضحك القومُ وخَرجوا عنه. وقال أبو دُلف:
أنا أبو دُلف المُبدِي بقافية ... جوابُها يهلك الداهي من الغَيظِ
مَن زاد فيها له رَحْلي وراحلتي ... وخاتمي والمَدَى فيها إلى القَيظ
فأجابه ابنُ عبد ربّه.
قد زدتُ فيها وإن أَضحى أبو دُلف ... والنفسُ قد أَشرفت منه على الفَيظِ
سَمر الفرزدقُ والأخطلُ وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلةً، فبينما هم حوله إذ خفَق. فقالوا: نَعس أمير المؤمنين، وهمّوا بالقيام. فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعراً. فقال الأخطل:
رَماه الكَرى في رأسه فكأنّه ... صَرِيع تَروَّى بين أصحابه خَمْرا
فقال له: ويحك! سكران جعلتَني ثم قال جرير بن الخَطَفي:
رماه الكَرى في رأسه فكأنما ... يرى في سواد الليل قُنبرةً حَمْرا
فقال له: ويحك! أجعلتَني أَعمى. ثم قال الفرزدق بعد هذا:
رماه الكَرى في رأسه فكأنما ... أَمِيمُ جَلاميدٍ تَركْن به وَقرا
قال له: ويحك! جعلتني مَشْجوجاً. ثم أذن لهم فانقلبوا، فحيّاهم وأعطاهم.

كان عمرُ بن أبي ربيعةَ القُرشيّ غَزلاً مُشبِّباً بالنساء الحَوَاجّ رقيقَ الغزل، وكان الأصمعي يقول في شعره: الفُستق المقشَّرَ الذي لا يُشبع منه. وكان جرير يَستبرده، ويقول: شِعر حِجازِيّ لو أَنجد في تَمُوز لوُجد البرد فيه. فلما أنشد:
فلما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذَوكَ النَّعل بالنَّعل
فقال: ما زال يَهْذي حتى قال الشعر.
وقالت العلماء: ما عُصي الله بشعر ما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة. ووُلد عمر بن أي ربيعة، يوم مات عُمر بن الخطاب فسُمي باسمه، فقالت العلماء. أي خَير رُفع، وأي شرّ وُضع. ثم إنه تاب في آخر أيامه وتَنسك ونذر لله أن يُعتق رقبة بكل بيت يقوله، وإنه حَجَ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ نَظر إلى فتى من نُمير يلاحظ جاريةً في الطواف، فلما رأى ذلك منه مِراراً أتاه، فقال له: يا فتى، أمَا رأيت ما تصنع؟ فقال له الفتى: يا أبا الخَطّاب، لا تَعجل عَليّ، فإنّ هذه ابنة عمّي، وقد سُمّيت لي ولستُ أقدر على صَداقها، ولا أظفر منها بأكثر مما ترى، وأنا فلان بن فلان، وهذه فلانة بنت فلان. فعرفهما عُمر، فقال له: أقعد يا بن أخي عند هذه الجارية حتى يأتيكَ رسولي. ثم ركب دابّته حتى أتى منزلَ عم الفتى، فقَرع الباب، فخرج إليه الرجل، فقال: ما جاء بك يا أبا الخطّاب في مثل هذه الساعة؟ قال: حاجة عَرضت قِبَلك في هذه الساعة. قال: هي مَقْضية. قال عمر: كائنة ما كانت؟ قال: نعم. قال: فإني قد زوَّجت ابنتك فلانة من ابنِ أخيك فلان. قبل: فإني قد أجزتُ ذلك. فنزل عُمر عن دابَّته، ثم أرسل غلاماً إلى داره، فأتاه بألف درهم، فساقها عن الفتى، ثم أرسل إلى الفتى فأتاه، فقال لأبي الجارية: أقسمتُ عليك إلا ما ابتني بها هذه الليلَة. قال له: نعم. فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر إلى داره مسروراً بما صنع، فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ، ووليدة له عند رأسه، فقالت له: يا سيدي، أرقت هذه الليلة أرقاً لا أدري ما دَهمك؟ فأنشأ يقول:
تقول وليدتِي لمّا رأتْنيِ ... طَربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حِيناً
أراك اليوم قد أحدثتَ شَوقاً ... وهاج لك الهَوى داءً دفينا
وكنتَ زعمْتَ وإن تَعزي ... مَشُوق حين يَلقي العاشِقينا
ثم ذكر يمينَه فاستغفر الله وأعتق رقبةً لكل بيت.
دعا الأعورُ بنُ بنان التِّغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتاً قد نجّد بالفُرش الشريفة والوِطاء العجيب، وله امرأة تُسمى بَرَة، في غاية الحسن والجمال، فقال له: أبا مالك، إنك رجلِ تدخل على الملوك في مجالسهم فهل ترى في بيتي عَيباً؟ فقال له ما أرى في بيتك عيباً غيرك. فقال له: إنما أعجب من نفسي أذ كنت أدخل مثلَك بيتي، اخرج عليك لعنة اللّه. فخرج الأخطل وهو يقول:
وكيف يُداويني الطبيبُ من الجَوَى ... وبَرّة عند الأعور بن بَنَانِ
ويُلصق بَطْناً مُنتن الريح مُجْرِزاً ... إلى بَطْن خَوْد دائِم الخَفقَان
باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء
قال الشاعر في خيّاط أعور يسمَّى عَمْراً:
خاط لي عَمرو قَباءْ ... ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعاً ... أمديحٌ أم هجاء
ومثله قولُ حبيب في مَرثية بني حُميد، حيث يقول:
لو خَر سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ... ما كان إلا على هاماتهم يَقَعُ
فلو هُجي بهذا رجل على أنه أنجس خَلق الله لجاز فيه، ولو مُدح به على مذهب قول الشاعر:
وإنا لتَستحلي المَنايا نُفوسُنا ... ونترك أخرى مُرةً ما تَذُوقها
وقول الآخر:
ونحن أناس ما نَرى القَتل سُبَّةً ... إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُولُ
يُقَرِّب حبّ المَوت آجالَنا لنا ... وتَكرهه آجالهمُ فتَطُول
وما مات منّا سيّد في فِراشه ... ولا طُلّ مِنّا حيثُ كان قَتِيل
تسيل على حَدِّ السيوف دماؤنا ... وليس على غَير السُّيوف تَسِيل
لجاز ذلك. ومثله لحَبيب:
انظر فحيثُ تَرى السُيوفَ لوامعاً ... أبداً ففَوْقَ رؤوسهم تتألّقُ
ما قالوه في تثنية الواحد

وجمع الاثنين والواحد وإفراد الجمع والاثنين
وقال الفرزدق في تثنية الواحد:
وعندي حُساماً سيفه وحمائلُه
وقال جرير:
لما تَذكَّرت بالدَّيْرين أرقني ... صوتُ الدَجاج وقَرْعٌ بالنَّواقيس
وإنما هو دَيْر الوليد، مَعروف بالشام، وأراد بالدجاج: الدَيكة.
وقال قَيس بن الخَطيم في الدِّرع:
مُضاعفة يَغشى الأناملَ رَيْعُها ... كأنّ قتيريْها عُيون الجَنادبِ
يريد: قَتيرها. وقال آخر:
وقال لبَوَّابَيْه لا تُدخِلنَّه ... وسُدَا خَصاصَ الباب عن كل مَنْظرِ
وقال أهِلُ التفسير في قول الله عزّ وجلّ: " ألْقِيَا في جَهَنَم كُلًّ كَفار عَنِيد " إنه إنما أراد واحداً فثنَّاه. وكذلك قولُ معاوية للجِلْواز الذي كان وكلّه برَوْح بن زِنْباع، لما اعتذر إليه رَوح واستعطفه: خلِّيا عنه.
قولهم في جمع الاثنين والواحد
قال الله تبارك وتعالى: " فإنْ كان له إخْوةٌ فلأمّه السُّدُس " . يريد أخوين فصاعدا. وقوله: " إنّ الذين يُنَادونَك مِنْ وَرَاء الحجُراتِ أكْثرُهم لا يعْقِلُون " وإنما ناداه رجلٌ من بني تَميم، وقوله: " وألْقَى الألْوَاحَ " وإنما هما لَوْحان.
وقال الشاعر:
لَوْ الرجاء لأمرٍ ليس يَعْلمه ... خَلْق سِوَاك لما ذَلَت لكم عُنُقِي
ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمُحدث.
وأمّا قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرنا.
وكذلك في إفراد الاثنين. فمن ذلك قول الله تعالى: " ثُم يُخرِجكُم طِفْلاً " وقوله: " فَأْتِياه فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العَاَلمِين " وقوله: " فما مِنكم مِنْ أحِدِ عَنهُ حَاجِزين " وقال جرير:
هَذي الأراملُ قد قَضَّيت حاجتَها ... فَمَن لحاجَةِ هذا الأرمل الذكَرِ
وقال آخر:
وكأنّ بالعينين حَبَّ قَرَنْفُل ... أو فُلفلٍ كحِلت به فانهلّتِ
وِلم يقل: فانهلّتا. وقال مُسلم بن الوليد:
ألا أنِف الكَواعبُ عَن وِصالي ... غداةَ بدَا لها شيبُ القَذال
وقال جرير:
وقُلنا للنِّساء به أقيمي
قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر
قال مالك بن أَسماء بن خارجة الفَزاريّ في شعره الذي أوله:
حَبَّذا ليلُنا بتلِّ بَوَناً
ومَررنا بنِسْوة عطراتٍ ... وسَماع وقَرقَف فنزلْنَا
ما لَهم لا يُبارك الله فيهم ... حين يُسألن مَنحنا ما فَعلنا
وقال آخر: وقد استشهد به سيبويه في كتابه.
فلا ديمة وَدقت وَدْقها ... ولا أرْضَ أَبقلَ إبقالهَا
فذكِّر الأرضَ. وقال نصيب:
أنّ السماحةَ والمُروءة ضمنا ... قَبرًا بمَرْو على الطَّريق الوَاضح
وقالت أعرابية:
قامتْ تُبكّيه على قَبرهِ ... مِن ليَ مِن بعدك يا عامر
تركْتَني في الدار وحشيةً ... قد ذَلّ مَن ليس له ناصر
وقال أبو نُواس:
كَمَن الشَّنآن فيه لَنا ... ككُمون النار في حِجرِهْ
وإنما ذكرتُ هذا البابَ في كتاب الشعر، لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه
باب ما غلط فيه على الشعراء
وأكثر مَا أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكنّ أصحاب اللغة لا يُنصفونهم، وربمَا غَلّطوا عليهم، وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها. فمن ذلك قولُ سيبويه، واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه:
مُعاوِي إننا بَشر فأسْجح ... فَلَسنَا بالجبال ولا الحَدِيدَا
كذا رواه سيبويه على النَّصب، وزعم أنّ إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس. وإنما قاله الشاعر على الخَفض، والشعر كله مخفوض، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحِيلة الضعيفة، وإنما الشعر:
مُعاوي إنّنا بَشر فأَسْجِحْ ... فلسنا بالجبال ولا الحَديدَ
أكلتُم أرضنا فَجَردْتُمُوها ... فهل من قَائمٍ أو من حَصِيد
أتطمع في الخُلود إذا هَلكنا ... وليس لنا ولا لك من خُلود
فهَبْنا أمةً هلكتْ ضَياعاً ... يزيدُ أميرُها وأبو يَزيد

ونظير هذا البيت، ما ذكره في كتابه أيضاً واحتج به في باب النون الخفيفة:
نَبتُّم نَباتَ الخَيْزرانيّ في الثَّرى ... حَديثاً متى ما يأتِك الخير يَنفعَا
وهذا البيت للنَّجاشيَّ. وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قَحطان على عدنان. في شعر كُله مخفوض، وهو:
أيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغن ... بني عامر عنّي يزيدَ بن صَعْصع
نَبتم نَبات الخَيزرانيّ في الثرى ... حديثاً متى ما يأتك الخيرُ يَنفع
ومثله: قولُ محمد بن يزيدَ النحويّ المعروف بالمُبرّد، في كتاب الروضة، وأدركَ.
على الحسن بن هانئ قولَه:
وما لِبَكْرِ بن وائل عُصْم ... إلا بحمَقائها وكاذِبها
فزعم أنه أراد بحَمقائها هَبنَّقة القَيسيّ. ولا يقال في الرجل حَمقاء. وإنما أراد دُغَة العِجليَّة، وعِجْل في بكر، وبها يُضرب المثل في الحُمق.
باب من مقاطع الشعر ومخارجه
اعلم بأنك متى ما نظرتَ بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمتَ أنّ لكل ذي فضل فضلَه. ولا ينفع المتقدمَ تقدُّمُه، ولا يضرّ المتأخرَ تأخره. فأمّا مَن أساء النظمِ ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل:
شرَ يومَيْها وأغواه لها ... ركبتْ عَنْز بِحِدْج جَملاً
شرّ يوميها نصب على المحلّ. وإنما معناه ركبت عنز جَملاً بحِدْج في شر يوميها. وكقول الفرزدق:
وما مثْله في النّاس إلا مُملَّكاً ... أبو أمه حيٌ أَبوه يقاربُه
معناه: ما مِثل هذا الممدوح في الناس إلا الخَليفة الذي هو خاله، فقال: أبو أُمه حيّ أبوه يقاربه. فبعد المَعنى القريب، ووعّر الطريق السهل، ولبَّس المعنى بتوعّر اللفظ وقُبح البِنية، حتى ما يكاد يُفهم. ومثل هذا، إلاّ أنه أقرب منه إلى الفهم، قولُ القائل:
بينما ظِل ظَلِيلٌ ناعم ... طلعتْ شمس عليه فاضمحلْ
يريد: حتى طلعت شمس عليه. . ومثلُه قولُ الآخر:
إنّ الكريم وأبيكَ يَعْتمل ... إن لم يَجد يوماً على مَن يَتَّكل
يريد: على من يتكل عليه. وللّه دَرّ الأعشى حيث قال في المخبأة:
لم تَمْش ميلاً ولم تَركب على جَملٍ ... ولم تَر الشمسَ إلا دونَها الكِلَلُ
وأبين منه قولُ النابغة:
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفتْ ... ولا تبيع بأعلى مكة البَرَمَا
وقد حذا على مثال قول النابغة بعضُ المُبرزين من أهل العصر، فقال:
ليست من الرمص أشفاراً إذا نَظرت ... ولا تَبيع بفَوق الصُخرة الرُّغُفا
فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثلُ قول النابغة، وأنشد البيت، وقال: ما الفرق بين أن تَبيع البَرَم أو تَبيع الرغُف، وبين أن تكون رمضاء العينين أو سوداء العَقِبين. وانظر إلى سُهولة معنى الحسن بن هانئ وعُذوبة ألفاظه في قوله:
حذَر امرئ ضربت يداه على العدا ... كالدَّهر فيه شراسةٌ وليانُ
وإلى خُشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:
شَرسْتَ بل لِنْت بل قابلتَ ذاك بذا ... فأنتَ لا شك فيك السهلُ والجبلُ
وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ ... والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ
وقال الأعشى:
إنّ محلاً وإن مُرتحلا ... وإنّ في السفْر إذ مَضىَ مَهَلاَ
وقال إبراهيم الشَيْبانيّ الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردةً حُوشيّة بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقُرنت مع إخواتها حَسُنت، كقول الحسن بن هانئ:
ذو حَصر أفلت من كَرّ القبَل
والكر: كلمة خسيسة، ولاسيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حَسُنت، وكذلك الكلمة الرقيقة العَذْبة ربما عقبُتْ ونفرت إذا لم تُوضع في موضعها، مثل قول الشاعر:
رأت رائحاً جَوْناً فقامت غَريرةً ... بمِسْحاتها جُنحَ الظلام تُبادِرُهْ
فأوقع الجافي الجلْفُ هذه اللفظَة غير موضعها، وبَخسها حقَّها حين جعلها في غير مكانها حقًّا، لأنّ المسَاحي لا تَصلح للفرائز.

واعلم أنه لا يَصلح لك شيء من المنثور والمنظوم إلا أن يُجري منه على عِرق، وأن يتمسّك منه بسبب، فأما إن كان غيرَ مُناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقَريحتك. فلا تُنض مطيَّتك في التماسه، ولا تُتعب نفسَك في ابتغائه، باستعارتك ألفاظَ الناسِ وكلامَهم، فأنّ ذلك غيرُ مُثمر لك ولا مُجدٍ عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجةَ لذهنك، ومَلتحمة بطبعك.
واعلم أنّ من كانَ مرجعُه اغتصابَ نظم من تقدمه، واستضاءتَه بكوكب مَن سبقه، وسَحْبَ ذيل حُلة غيره، ولم تكن معه أداة تُولِّد له من بناتِ ذهنه ونتائج فكره، الكلامَ الجَزْل، والمعنى الحَفْل، لم يكن من الصناعة في عِير ولا نفير، ولا وِرد ولا صَدَر، على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، وَدرْسَ رسائل المُتقدمين، هو على كل حال ما يَفْتق اللسان، ويُقوي البيان، ويُحد الذهن، ويَشحذ الطبع، إن كانت فيه بقيّة، وهناك خيية.
واعلم أنّ العلماء شبَهّت المعاني بالأرواحِ، والألفاظَ بالأجساد واللُّباب. فإِذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزلَ، وكساه لفظاً حسناً، وأعاره مَخرجاً سهلاً، ومَنحه دَلاًّ مُونقاً، كان في القلب أحلَى، وللصدر أملاً. ولكنه بقي عليه أن يُؤلفه مع شقائقه وقُرنائه، ويجتمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينَظمه في سِلْكه كالجوهر المنثور، الذي إذا تولى نظمه الناظمُ الحاذقُ، وتعاطى تأليفَه الجوهريُّ العالم، اظهر له بإحكام الصَّنعة، ولطيف الحِكمة، حُسناً هو فيه، وكشاه ومَنحه بهجة هي له. وكذلك كلما احلولى الكلامُ، وعذُب وراق، وسَهُلت مخارجه، كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع، وأشدَ اتصالاً بالقلوب، وأخفّ على الأفواه، لا سيما إذا كان المعنى البديعُ مترجَماً بلفظ مُونق شريف، لم يَسِمْه التكلفُ بِمِيسمه، ولم يُفسده التعقيدُ باستهلاكه، كقول ابن أبي كَريمة:
قَفاه وجهٌ والذي وجههُ ... مثلُ قَفاه يُشبه الشمسا
فهجّن المعنى بتعقيد مخارج الألفاظ. وأخذه الحسنُ بن هانئ فأوضحه وسهَّله حيث قال:
بأبي أنتَ مِن غزالٍ غَرير ... بزَّ حُسنَ الوُجوه حُسنُ قَفاكَا
وكلاهما أخذه من حسَّان بن ثابت حيث يقول:
قفَاؤك أحسنُ من وجهه ... وأمُّك خير من المُنذِرِ "
وقَد يأتي من الشعر في طريق المَدح ما الذمُ أولى به من المدح، ولكنه يُحمل على مَحْمَل ما قبله وما بعده، ومثله قولُ حبِيب:
لو خَرَّ سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ... ما كان إلا على هاماتِهم يَقَعُ
وهذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنَّحس، لأنك لو وصفت رجلاً بأنه أنحسُ الخَلق لم تَصِفه بأكثر من هذا. وليس للشجاعة فيه وجْه، لأنّ قوَلهم: لو خَر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه هذا رأس كل نَحس.
قولهم في رقة التشبيب
ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رِقةً، ويُؤدٌي عن الضمير إِبانة، مثل قول العباس بن الأحنف:
وليلة ما مثلها لَيلة ... صاحبُها بالنحس مَفْجوع
ليلةَ جِئناها على مَوعدٍ ... نَسْرِي وداعِي الشوقِ مَتْبوع
لما خَبت نيرانها وانكفأ الس ... امِر عنها وهو مصروع
قامت تَثَنَّى وهي مَرْعوبةٌ ... تَودّ أنّ الشملَ مَجْموع
حتى إذا ما حاولتْ خطوةً ... والصدرُ بالأرداف مَدْفوع
بَكى وِشَاحاها على مَتْنها ... وإنما أبكاهما الجُوع
فانتبه الهادُون مِن أهلها ... وصار للمَوْعود مَرْجوع
يا ذا الذي نم علينا لَقَدْ ... قُلتَ ومنك القولُ مَسْموع
لا تشغليني أبداً بعدها ... إلا ونَمامُك مَنْزوع
ما بال خَلْخَالك ذا خَرْسة ... لسانُ خَلخالك مَقْطوع
عاذِلتي في حُبها أَقْصري ... هذا لَعَمْري عنكِ مَوْضوع
وفي معناه لبشارِ بن بُرد:
سَيّدي لا تأت في قمر ... لحديثٍ وارقب الدّرُعا
وتوقَ الطِّيبَ ليلتنا ... إنه واش إذا سَطَعا
وله أيضاً:
يقولان لو غربت قلبك لا رعوَى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب

الأصمعي قال: سَمع كُثيّر عزة مُنْشداً يُنشد شعرَ جَميل بن معَمر، الذي يقول فيه:
ما أنتِ والوعدَ الذي تَعدِيننيِ ... إلاّ كَبرْقِ سَحابةٍ لم تُمْطِرِ
تُقضى الديونُ وليسَ يُقضىَ عاجلاً ... هذا الغريم ولستُ فيه بمعسِر
يا ليتَني ألقَى المنيةَ بغتةً ... إن كان يومُ لقائكم لم يُقدَر
يَهواك ما عشتُ الفؤادُ وإن أمت ... يَتْبع صَداي صداك بين الأقبُر
فقال كُثَيّر: هذا والله الشعرُ المَطبوع، ما قال أحد مثلَ قول جميل، وما كنتُ إلا راويةً لجميل، ولقد أبقى للشعراء مثالاً يحتذى عليه.
وسمع الفرزدق رجلاً ينشد شعر عُمر بن أبي رَبيعة الذي يقول فيه:
فقالتْ وأرْخَت جَانبَ السِّتر إنما ... مَعِي فتحدَّثْ غيرَ ذِي رِقْبة أهْلي
فقلتُ لها مالي بهم من تَرقُّب ... ولكنّ سري ليس يَحمله مِثْلي
حتى انتهى إلى قولِه:
فلما تَواقَفنا عرفتُ الذي بها ... كمِثل الذي بي حذوَك النَّعل بالنَعل
فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأتْه، وبكتْ على الطّلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلاً في شعره الذي يقول فيه:
خَلِيليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بكَى من حُبّ قاتله قَبْلي
فلم يصنع عمر مع جَميل شيئاً.
ومن قولنا في رقةّ النَسيب والشعر المَطبوع، الذي ليس بدون ما تقدّم ذِكْرُه:
صحا القلبُ إلا خَطْرَةً تبْعث الأسىَ ... لها زَفرةٌ موصولة بحَنينِ
بَلى رُبما حلَت عُرى عَزَماتِه ... سوالف آرام وأعْينُ عِين
لواقطُ حَبّات القُلوب إذا رَنَت ... ثِمارُ صُدور لاَ ثِمارُ غُصون
بُرُودٌ كأنوار الرَّبيع لِسنَها ... ثيابُ تَصاب في ثِياب مُجون
قَرَيْن أديمَ اللَّيل عن نور أوْجُهٍ ... تُجَن بها الألبابُ أيّ جنون
وجوهٌ جرى فيها النَّعيمُ فكلَلت ... بوَرْد خُدود يُجتَنى بعُيون
سألبس للأيام دِرعاً من العَزَا ... وإن لم يَكُن عند اللَقا بحَصِين
فكيف ولي قلبٌ إذا هَبّت الصَبا ... أهابَ بِشَوق في الضلوع دَفين
ويهتاجُ منه كُلّ ما كان ساكناً ... دُعاءُ حَمامٍ لم يَبِت بوكون
وإنّ ارتياحي من بُكاء حَمامةٍ ... كذِي شَجن داويتَه بشجون
كأن حَمامَ ألأيك حِين تَجاوبت ... حزينٌ بكَى من رَحمة لِحَزين
ومما عارضتُ به صريعَ الغواني في قوله:
أديرا عليّ الرَّاحَ لا تشرَبَا قَبليِ ... ولا تَطْلُبا من عند قاتِلتي ذَحْلي
فيا حَزني أنّي أموت صبابةَ ... ولكنْ على من يحلُ له قَتْلَي
فَدَيتُ التي صًدت وقالت لِترْبها ... دَعِيه، الثريا منه أقربُ من وَصْلي
فقلت على رويّه:
أتقتُلني ظُلماً وتَجْحدني قَتْلي ... وقد قام مِن عَيْنيك لي شاهدا عَدْل
أطُلاّبَ ذَحْلي ليس بي غيرُ شادنٍ ... بعَيْنيه سِحْر فاطلُبوا عنده ذَحْلي
أغار على قَلبي فلما أتيتُه ... أطالبه فيه أغار على عَقلِي
بِنَفسي التي ضَنّت برد سَلامها ... ولو سألتْ قَتليِ وَهبتُ لها قَتلي
إذا جئتُها صَدَّت حياءً بوَجهها ... فتهجُرني هَجراً ألذَ من الوَصْل
وإن حكمتْ جارتْ عليّ بحُكْمها ... ولكنّ ذاك الجَورَ أشهى من العَدْل
كتمتُ الهوى جَهدي فجرّده الأسى ... بماء البُكا هذا يَخُط وذا يُملي
وأحببتُ فيها العذْلَ حُبًّا لذِكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذْل
أقول لقَلبي كلما ضَامَه الأسىَ ... إذا ما أبيتَ العِزّ فاصبر على الذُّل
برأيكِ لا رَأيي تعرّضتُ للهَوى ... وأمرك لا أمري وفِعْلكِ لا فِعْلي

وجدتُ الهَوى نَصلاً من المَوت مُغْمَداً ... فجردتُه ثم اتكأتُ على النصْل
فإن كُنتُ مَقتولاً على غَير رِيبة ... فأنتِ التي عَرضت نفسيَ للقَتل
فمن نَظر إلى سُهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طَبعه، لمْ يَفْضُله شعرُ صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر:
كتمتُ الذي ألقى من الحُبّ عاذِلي ... فلم يَدْر ما بي فاسترحتُ من العَذْل
يقولي في هذا الشعر:
وأحببتُ فيها العذلَ حُباً لذكرها ... فلا شيَء أشهى في فؤادي من العَذْل
كتمتُ الهَوى جهدي فجرّده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يُمْلي
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت فاصبرْ على الذل
ومن قولنا في رِقّة النسيب وحُسن التشبيب:
كم سَوسنٍ لَطُف الحياءُ بلوْنه ... فأصاره وَرْداً على وَجناتِه
ومثله:
يا لؤلؤاً يَسْبِي العقولَ أنيقَاً ... وَرَشاً بتَقْطيع القلوب رَفيقَا
ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ بمثله ... دُرًّا يَعود من الحَياء عَقِيقا
ونظيرُ هذا من قولنا في رقة التشبيب وحُسن التشبيه البديع الذي لا نظير له، والغريب الذي لم يُسبق إليه:
حَوارء داعَبها الهوى في حُورِ ... حكمتْ لواحظُها على المَقْدورِ
نَظرتْ إليّ بمقلتَيْ أدْمانة ... وتلفّتت بسَوالف اليَعْفور
فكأنما غاض الأسى بجُفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ مَنْثور
ونظير هذا من قولنا:
أدعو إليك فلا دُعاءٌ يُسمَع ... يا مَن يَضرّ بناظرَيْه ويَنْفعُ
للوَرْد حِينٌ ليس يطلُعُ دونَه ... والوردُ عندك كُلَّ حين يَطْلُع
لم تَنصدع كَبِدي عليك لضَعْفها ... لكنّها ذابَتْ فما تَتَصدّع
مَن لي بأحورَ ما يبين لسانُه ... خَجلاً وسيفُ جُفونه ما يَقطَع
مَنع الكلامَ سوى إشارةِ مُقلةٍ ... فبها يُكلِّمني وعَنها يَسْمع
ومثله:
جَمال يفوت الوَهْمَ في غاية الفِكْر ... وطَرْفٌ إذا ما فاه يَنْطق بالسِّحرِ
ووجهٌ أعارَ البدرَ حُلة حاسدٍ ... فمنه الذي يَسْود في صَفحة البَدْر
وقال بشّار بن بُرْد:
وَيْح قلبي في حُبّها ممّا يُجنّ ... ضاق من كِتْمانه حتّى عَلنْ
لا تلم فيها وحسن حُبّها ... كل ما قَرتْ به العَيْن حَسَن
وله:
كأنها روضة مُنوَرةٌ ... تنفستْ في أواخر السَّحَرِ
ولبشّار، وهو أشعر بيت قاله المولدون في الغزل:
أنا والله أشتهي سِحْر عَيَني ... ك وأخشى مَصارع العُشَاقِ
وله:
حَوْراءُ إن نظرت إلي ... ك سَقَتْك بالعينين خَمْرا
وكأنّها بَرْد الشرَا ... بِ صفا ووافق منك فِطْرا
ولأبي نُواس:
وذات خَدّ مورّدْ ... قُوهيّة المُتجرّدْ
تأمّل العينُ منها ... محاسناً ليس تَنْفَد
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد
وكلما عدْت فيه ... يكون في العَوْد أحْمد
وله أيضاً:
ضَعيفة كَرّ الطَّرف تَحسب أنّها ... قريبةُ عهد في الإفاقة من سُقْم
قولهم في النحول
قال عمر بن أبي ربيعة القُرشيّ يصف نُحولَ جِسْمه وشُحوبَ لونه في شِعره الذي يقول فيه:
رأتْ رجلاً أيْما إذا الشمسُ عارضَتْ ... فَيَضْحَى وأيما بالعشي فَيَخْصَرُ
أخا سَفر جَوّابَ أرْض تقاذفتْ ... به فَلَواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ
قليلاً على ظَهر المَطِيّة شَخصُه ... خلاَ ما نَفَى عنه الرداء المُحبّر
وفي هذا الشعر يقول:
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئتْ ... مصابيحُ شُبّت بالعِشاء وأَنؤرُ
وغاب قمَير كنتُ أرجو غيوبَه ... ورَوَّح رُعْيان ونَوَم سُمَّر

وخُفِّض فيّ الصوتُ أقبلتُ مِشية ال ... حُبابِ ورُكْني خِيفَة القوم أزور
فحييتُ إذ فاجأتها فتلهّفتْ ... وكادت بمكتَوم التّحيّة تَجهر
وقالت وعضت بالبَنان فضحتَني ... وأنت امرؤ مَيْسورُ أمرك أعْسر
أريتَك إذ هُنّا عليك ألم تَخفْ ... رقيباً وحَولي من عدوّك حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ ... سَرتْ بك أم قد نام من كُنتَ تَحذر
فقلتُ لها بل قَادني الشوقُ والهوى ... إليك وما عين من الناس تَنظر
فيالك من ليلٍ تقاصَر طولُه ... وما كان ليلي قبل ذلك يَقْصُر
ويا لك من مَلهىً هُناك ومجلس ... لنا لم يُكدِّره علينا مُكدِّر
يَمج ذكيَّ المسك منها مُفلَّجٌ ... رقيقُ الحَواشي ذو غُروب مؤشر
يَرفّ إذا تَفترُّ عنه كأنه ... حصىَ بَرَد أو أُقْحوان مَنوّر
وتَرْنو بعَيْنيها إليَّ كما رَنا ... إلى رَبْرب وَسْط الخميلة جُؤْذُر
فلمّا تقضىّ الليلُ إلا أقله ... وكادت توالي نَجْمِه تَتغوّر
أشارت بأنّ الحَيّ قد حان منهمُ ... هُبوب ولكنْ موعدٌ لك عَزْور
فما راعني إلا مُنادٍ برحْلة ... وقد لاح مَفْتوق من الصُّبح أشقر
فلما رأتْ مَن قد تنوَّر منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشِرْ كيف تأمُر
فقلتُ أباديهم فإمَا أفوتُهم ... وإما يَنالُ السيفُ ثأراً فيثأر
فقالت أتحقيقاً لما قال كاشح ... علينا وتصديقاً لما كان يُؤثر
فإنْ كان ما لا بدَ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأسْتر
أقص على أخْتَيّ بدْء حَديثنا ... وماليَ من أنْ يَعلما مُتأخّر
لعلهما أن يَبْغِيا لك مَخْرجاً ... وأن يَرحُبا صدراً بما كُنتُ أحْصر
فقالت لأختيها أعِينا على فَتىً ... أتىَ زائراً والأمرُ للأمْرِ يُقْدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلي عليكِ اللومَ فالخَطْب أيْسر
يقوم فَيَمشي بيننا مُتنكِّراً ... فلا سِرنا يَفْشو ولا هو يُبصرَ
فكان مِجَنّي دون من كنتُ أتّقي ... ثلاثُ شخوص كاعبان ومُعْصر
فلمَّا أجزنا ساحةَ الحيِّ قُلْن لي ... ألم تَتَّقِ الأعداءَ والليلُ مُقْمِر
وقُلن أهذا دأبُك الدهرَ سادراً ... أما تَستحي أم تَرْعوي أم تُفكِّر
ويُروى أن يزيدَ بن معاوية لما أراد تَوجيه مُسلم بن عُقبة إلى المدينة اعترض الناسَ، فمرّ به رجل من أهل الشام معه تُرس قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسَنَ من مِجَنك هذا - يريد قولَ عمر ابن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون من كنتُ أتّقي ... ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصر
وقال أعرابيُّ في النحول "
ولو أنّ ما أبقيتِ مني مُعلَّقٌ ... بعود ثُمام ما تأوّد عودُها
وقال آخر:
إن تسألوني عن تباريح الهَوى ... فأنا الهَوى وأبو الهَوى وأخُوه
فانظُر إلى رجل أضرّ به الأسىَ ... لولا تقلّب طَرفه دَفَنوه
وقال مجنون بني عامي في النُّحول:
ألا إنما غادرتِ يا أم مالِكٍ ... صَدى أينما تذهب به الريحُ يَذْهبِ
وللحسن بن هانئ:
كما لا يَنقضي الأرَبُ ... كذا لا يَفْتر الطلَبُ
ولم يُبْق الهوى إلاّ ... أقلّي وهو مُحْتَسب
وِسوَى أنَّي إلى الحَيوا ... ن بالحركات أنتسب
وقال آخر، وهو خالدٌ الكاتب:
هذا مُحبّك نِضْو لا حراكَ به ... لم يَبْقَ من جِسْمه إلا توهّمه
ومن قولنا في هذا المعنى:
سبيلُ الحُبِّ أوَّله اغترار ... وآخِره هُمومٌ وادّكارُ
وتَلْقى العاشِقين لهم جسوم ... بَراها الشوق لو نُفِخوا لطارُوا
ومثلُه من قولنا:

لم يبقَ من جُثمانه ... إلا حُشاشةُ مُبْتئِسْ
قد رَقّ حتى ما يُرى ... بلِ ذاب حتى ما يُحسّ
وقال الحسنُ بن هانئ في هذا المعنى فأَرْبى على الأولين والآخرين:
يا من تَموَت عَمْداً ... فكان للعين أَمْلَى
وفي الشعوثة أرْبى ... فكان أشْهَى وأحلى
أردت أن تَزديك الْ ... عيُونُ هَيهاتَ كَلا
يا عاقد القَلْب منّيِ ... هلا تذكّرتَ حَلا
تركتَ منّي قليلاً ... مِن القليل أقلا
يَكاد لا يَتجزّا ... أقلّ في اللَّفْظ مِن لا
ولأبي العتاهية:
تلاعبتِ بي يا عُتْبَ ثم حَمَلْتِني ... على مَرْكَب بي المَنيّة والسُّقْم
ألا في سبيل الله جِسْمي وقوتي ... ألا مُسْعد حتى أنوح على جِسمي
وله:
ولم تبقِ منّي إلا القليلَ وما ... أحسبها تترك الذي بَقِيا
قولهم في التوديع
قال لسَعيد بن حُميد الكاتب، وكان على الخراج بالرقّة: ودّعت جاريةً لي تُسمّى شفيع، وأنا أضحك وهي تبكي، وأقول لها: إنما هي أيام قلائل. قال: إن كنت تقدر أن تُخلف مثل شفيع فنَعَمْ. فلما طال بي السفَرُ واتصلت بي الأيام كتبتُ إليها كتاباً وفي أسفله:
ودعتها والدمعُ يقطُر بَيننا ... وكذاك كُل مُلذَّع بفِراقِ
شُغلتْ بتَغييض الدّموع شِمالُها ... ويَمينها مشغولة بعناقِي
قال: فكتبتْ إليّ في طومار كبير ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره: يا كذاب - وسائر الكتاب أبيض. قال: فوجّهتُ الكتب إلى ذي الرياستين الفضل بن سَهل، وكتبْت إليها كتاباً على نحو ما كتبتْ، ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وفي آخره أقول:
فودعتها يوم التّفرق ضاحكاً ... إليها ولم أعلم بأنْ لا تلاقيَا
فلو كنتُ أدري أنه آخر اللقا ... بكيتُ وأبكيتُ الحبيبَ المُصافيا
قال: فكتبتْ إليّ كتاباً آخر ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم في أوله، وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك. فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل، فأشخصني إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع.
محمد بن يزيد الرَّبعيّ عن الزّبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المتوكل قال: إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش، فطال مُقامه بها، تمتّع بجارية رائعة الجمال، بارعة الكمال، فأَنسته ما كان فيه من رَونق الخلافة وتَدبيرها. وكان قبل ذلك مُتيَّماً بجارية خلّفها بالعراق، فسلا عنها. فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحُبور يَحلف لها أنه لا يُفارق البلدَ ما عاش، إذ قَدِم عليه كتابُ جاريته من العِراق، وفيه مكتوب:
كيف بَعدي لا ذُقْتمُ النومَ أنتمْ ... خَبِّروني مذ بِنْتُ عنكم وبِنْتُم
بمراض الجُفون من خُردِ الع ... ين ووَرْدِ الخُدود بعدي فُتِنتم
يَا أخلايِ إنّ قلبي وإن با ... ن من الشَّوق عندكم حيثُ كُنتم
فإذا ما أبَى الإله اجتماعاً ... فالمَنايا عليّ وَحْدي وعِشْتم
أخذَتْ هذا المعنى من قول حاتم:
إذا ما أتى يومٌ يُفرَق بيننا ... بمَوت فكُن أنتَ الذي تتأخَّرُ
فلم يباشر لذةً بعد كتابها، حتى رضي عنه المُتوكل وصَرفه إلى أحسن حالاته. الزُّبيريّ قال: حدّثني ابنُ رجاء الكاتب قالت: أخذ مني الخليفة المُعتز جاريةً كنتُ أحبها وتُحبّني، فشربا معاً في بعض اللَيالي، فسكر قبلَها وبقيتْ وحدها ولم تَبرح من المجلس هيبةً له، فذكرتْ ما كنّا فيه من أيامنا، فأخذت العُود فغنّت عليها صوتاً حزيناً من قلب قريح، وهي تقول:
لا كان يومُ الفِراق يوماً ... لم يُبقِ للمُقْلَتَيْن نَوْمَا
شَتّتَ مني ومنك شَملاً ... فسَر قوماً وساء قَوما
يا قوم مَن لي بوَجْد قَلب ... يسُومني في العذاب سَوْما
ما لامني الناسُ فيه إلا بكيتُ ... كيما أزاد لَوْما

فلما فرغت من صوتها، رفع المُعتز رأسه إليها والدمعُ يجري على خدّيها كالفَريد انقطع سِلكَه، فسألها عن الخبر وحَلف لها أن يُبلغها أملَها. فأعلمتهُ القصة. فردّها إليّ وأحسن إليها وألحقني في نُدمائه وخاصته.
وكان لأبي أحمد، صاحب حَرب المعتمد، جارية، فكتبتْ إليه وهو مُقيم على العلويّ بالبصرة، تقول:
لنا عبراتٌ بعدكم تَبعث الأسى ... وأنفاسُ حُزن جَمَّة وزَفِيرُ
ألا ليتَ شِعْري بعدنا هل بَكيتُمُ ... فأمّا بُكائي بعدكم فكَثير
قال أبو أحمد: فلم يكُن لي هَمّ غيرها حتى قفلتُ من غَزاتي.
وكتب مروان بن محمد، وهو مُنهزم نحو مصر، إلى جارية له خلّفها بالرَّمْلة:
وما زال يَدعوِني إلى الصد ما أرى ... فأنأى وَيَثْنيني الذي لكِ في صَدْري
وكان عزيزاً أنّ بيني وبينها ... حِجاباً فقد أمسيتُ منك على عَشر
وأنكاهما والله للقَلب فاعلَمي ... إذا ازددتُ مثلَيْها فصرتُ على شَهْر
وأعظم من هذينِ والله أنني ... أخافُ بألا نَلْتقي آخرَ الدهر
سأبكيك لا مُسْتَبْقياً فيْضَ عَبْرةٍ ... ولا طالِباً بالصَّبر عاقبةَ الصبر
الزبير بن بكار قال: رأيتُ رجلاً بالثّغر وعليه ذلّة واستكانة وخضوع، وكان يُكثر التنفّس، ويُخفي الشَّكوى، وحركاتُ الحُب لا تَخفى، فسألتُه وقد خلوتُ به، فقال وقد تحدّر دمعُه:
أنا في أمْرَيْ رَشادِ ... بين غَزْو وجِهادِ
بَدني يَغزو الأعادي ... والهَوى يَغزُو فؤادي
يا عليماً بالعِبادِ ... رُدّ إلْفي ورُقادِي
وقال أعرابي يصف البَينْ:
أدْمت أناملَها عضّا على البَينْ ... لما انثنت فرأتْني مَعَ العين
وردَّعتنيَ إيماء وما نَطقتَ ... إلا بسُبابة منها وعيَنين
وَجْدِي كوَجدك بل أضعافُه فإذا ... عني تواريتِ قابَ الرّمح واحيَني
وان سمعتِ بموتي فاطلُبي بدَمي ... هواكِ والبَيْن واستعدي على البَين
وقال الآخر،
مالتْ تودّعني والدمعُ يَغْلِبها ... كما يَميل نسيم الرِّيح بالغُصْنِ
ثم استمرّت وقالتْ وهي باكية ... يا ليتَ مَعْرفتي إياكَ لم تَكُن
وقال آخر:
أنينُ فاقِد إلْفٍ أنَّ في الغَلَس ... حتى تَضايَقَ منه مخرجُ النفس
فكُلما أنَّ مِن شَوْق أجالَ يداً ... على فُؤاد له بالبَينْ مخْتلَسِ
وقال آخر:
أمبتكر للبينْ أم أنتَ رائحُ ... وقلبُك مَلْهوفٌ ودمعُك سافحُ
أالآنَ تبكي والنَّوى مُطمئنة ... فكيف إذا بارحتَ مَنْ لا تُبارح
فإنّك لم تَبْرح ولا شطت النَّوى ... ولكنّ صَبْري عن فؤادِيَ نازح
وقال آخر:
إذا انفتحتْ قُيود البَينْ عَنّيِ ... وقِيل أتِيح للنّائي سراحُ
أبتْ حَلقَاتُه إلا انقفالاً ... ويأبَى الله والقدَر المُتَاح
ومن لي بالبَقَاء وكُلّ يومٍ ... لِسَهْم البَينْ في كَبِدي جِرَاح
وقالَ محمد بن أبي أُمية الكاتب:
يا غريباً يَبكي لكل غَريبِ ... لم يَذُق قَبْلها فِراقَ حَبِيبِ
عَزّه البينُ فاستراح إلى الدّم ... ع وفي الدّمع راحةٌ للقلوب
خَتلتْه حوادثُ الدَّهر حتَى ... أقصدتْه منها بسَهْم مُصيب
أيّ يوم أراك فيه كما كُن ... ت قريباً فأشْتكي مِن قَرِيب
وقال أبو الطيامير:
أقول له يومَ ودَّعتُه ... وكُل بعَبْرته مُبْلِسُ
لئن رجعتْ عنك أجسامُنا ... لقد سافرتْ معك الأنْفُس
وقال أبو العتاهية:
أبِيت مُسَهداً قلِقاً وِسَادِي ... أروِّح بالدُموع عن الفُؤادِ
فِراقُك كان آخرَ عَهْدِ نَوْمي ... وأوَّل عَهْد عَيْني بالسُّهاد
فلم أرَ مثلَ ما سُلِيَتْه نَفسي ... وما رجعتْ به من سُوء زادي
وقال محمد بن يزيد التُسْتريّ:

رَفعت جانباً إليكَ من الكِل ... لة قد قابلتْه طَرْفاً كَحِيلاَ
نظرتْ نَظرَةَ الصًبابة لا تم ... لك للبَيْن دَمْعها أن يَجُولا
ثم ولَّت وقد تَغيّر ذاك الصّب ... ح من خَدّها فعاد أصيلا
وقال يزيدُ بن عثمان:
دمعَة كاللُّؤلؤ الرّط ... ب على الخدّ الأسيل
وجُفون تنفث السح ... رمن الطَّرف الكَحِيل
إنَّما يفتضح العا ... شِقُ في يوم الرَّحيل
وقال عليُّ بن الجَهْم:
يا وحشتا للغريب في البَلد الن ... نازح ماذا بنَفْسه صَنَعا
فارقَ أحبابَه فما انتفعُوا ... بالعَيْش من بعده وما انتفَعا
يقولُ في نأيه وغُربته ... عَدْل مِن الله كلُّ ما صَنَعا
وقال آخر:
بانُو فأضْحى الجِسمُ من بعدهم ... ما تُبصر العينُ له فَيَّا
يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضَرك الفقدُ لنا شَيّا
بأيّ وَجْه أتلقّاهم ... إن وجَدوني بعدهم حَيَّا
وقال آخر:
أترحل عن حَبيبك ثم تَبْكي ... عليه فمَنْ دَعاك إلى الفِرَاقِ
وقال هُدْبة العذريّ:
ألا ليتَ الرِّياحَ مُسخَّرات ... بحاجتنا تُباكرُ أو تَؤُوبُ
فتُخْبِرَنا الشًمالُ إذا أتَتْنا ... وتُخبرَ أهلَنا عنّا الجَنُوب
عسىَ الكَرْبُ الذي أَمْسيتُ فيه ... يكون وراءه فَرَج قَرِيب
فيأمَن خائف ويُفَكّ غانٍ ... ويأتِي أهلَه النائي الغَريب
وقال آخر:
لا باركَ الله في الفِراق ولا ... بارَك في الهَجْر ما أمرَّهُمَا
لو ذُبِح الهَجْر والفِراق كماِ ... يُذْبح ظَبْي لمَا رَحِمْتُهما
شربت كأس الفراق مُترَعةً ... فَطار عن مُقلتيّ نومُهُما
يا سيّدي والذي أؤمّله ... ناشدتُك الله أن تَذُوقهما
وقال حبيب الطائي:
الموتُ عِنْدي والفِرا ... قُ كلاهما ما لا يُطَاقُ
يَتعاونان على النُّفو ... س فَذا الحِمام وذا السِّياق
لو لم يكُن هذا كذا ... ما قِيل موت أو فِراق
وقال آخر:
شتّان ما قُبْلةُ التَلاقِ ... وقُبلة ساعةَ الفِرَاقِ
هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحةُ العِنَاقِ
وقال سعيد بن حُميد:
موقفُ البَن مأتَمُ العاشِقينا ... لا تَرى العينُ فيه إلا حَزِينَا
إنّ في البين فَرحتين فأمّا ... فَرْحتي بالوَداع للظَّاعنينا
فاعتناق لمن أحبّ وتَقْبي ... ل وَلمْس بمحْضرَ الكاشِحينا
ثم لي فَرْحة إذا قَدِم الن ... ناس لتَسْليمهم على القادِمينا
وقال أعرابي:
ليلُ الشَّجِيِّ على الخَليّ قصيرُ ... وبَلا المُحِبّ على الحبيب يَسِيرُ
بانَ الذين أحبُّهم فتَحمَّلوا ... وفراقُ مَن تَهْوى عليك عَسِير
فلأبعثنْ نياحةً لفراقهم ... فيها تُلَطَّم أوجه وصُدور
ولألبسنّ مَدارعاً مُسْودَة ... لُبْس الثَّواكل إذ دهاك مَسِير
ولأذكرنّك بعد موتي خالياً ... في القَبْر عندي مُنْكَرٌ ونَكير
ولأطلبنّك في القِيامة جاهداً ... بين الخَلائق والعِبادُ نشور
فبِجَنّةٍ إن صرتَ صرتُ بجَنّة ... ولئن حواك سعيرُها فَسعِير
والمُستهامُ بكُل ذاك جديد ... والذَّنب يُغفر والإله شَكُور
ومن قولنا في البَينْ:
هَيّج البينُ دَواعِي سَقَمِيِ ... وكَسَا جسميَ ثَوْبَ الألَم
أيّها البَين أقلني مَرّةَ ... فإذا عُدْت فقد حَلَّ دَمِي
يا خَليّ الذرع نَمْ في غِبْطة ... إنّ مَن فارقتَه لم يَنَم
ولقد هاجَ لِقَلْبي سَقَماً ... ذِكْرُ مَن لو شاء داوَى سَقَمِي
ومن قولنا في المعنى:

ودّعْتني بزَفْرة واعتناقِ ... ثم نادتْ متى يكون التَّلاقِ
وتَصدَّت فأَشرقَ الصّبحُ منها ... بين تلك الجُيوب والأطْواق
يا سقيمَ الجُفون من غير سُقم ... بين عَينيك مَصْرعُ العُشّاق
إنّ يومَ الفِراق أفظع يوم ... ليتَني مِتّ قبل يوم الفِراق
ومن قولنا فيه:
فررت من اللِّقاء إلى الفِراق ... فحَسْبي ما لَقِيتُ وما ألاقِي
سَقاني البَيْنُ كأسَ الموت صِرْفاً ... وما ظَني أموتُ بكَفِّ ساقي
فيا بردَ اللِّقاء على فُؤادي ... أجِرْني اليومَ من حَرِّ الفِراق
وقال مجنون بني عامر:
وإني لمُفْنِ دمعِ عيني من البُكا ... حِذاراً لأمرٍ لم يكن وهو كائِن
وقالوَا غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراقُ حبيب لم يَبِنْ وهو بائن
وما كنتُ أخشى أن تكون مَنيّتي ... بكَفِّيَ إلاّ أنّ ما حان حائِن
وقال أبوِ هشام الباهليّ:
خَليلي غداً لا شكّ فيه مودّعِ ... فوالله ما أدرى غداً كيفَ أصْنَعُ
فواحزَني إنْ لم أودّعه غُدوة ... ويا أسفَاً إن كنتُ فيمن يُوَدَع
فإن لم أودِّعه غداً مِتُّ بعده ... سريعاً وإنْ ودّعتُ فالمَوْتُ أسرَع
أنا اليومَ أبكيه فكيف به غداً ... أنا في غدٍ والله أبكَى وأجزَع
لقد سخُنت عينيِ وجلَّت مُصيبتي ... غداةَ غدٍ إن كان ما أتوقّع
فيا يوم لا أدبرت هل لك مَحْبِسويا غدُ لا أقبلتَ هل لك مَدْفع
وقال بشّار بن بُرد:
نَبَت عيني عن التَغميض حتى ... كأنّ جفونَها عنها قِصارُ
أقول وليلتي تَزداد طُولاً ... أمَا للَيل بعدكم نَهار
وقال المُعتصم، لما دخل مصر وذكر جاريةً له:
غريب في قُرى مِصر ... يُقاسي الهم والسقما
لَلَيلٌ كان بالمَيْدَا ... نِ أقصرُ منه بالفَرَما
وقال آخر:
وَداعكِ مِثلُ وداع الرَّبيعِ ... وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ
عليك سلام فكَم من ندىَ ... ففدناه منك وكَم مِن كَرم
قولهم في الحمام
قال أبو الحسن الأخفش: قالت جَحْدر العُكْليّ، وكان لصًا:
وقِدْماً هاجَني فازددتُ شوقاً ... بكاءُ حمامتَيْن تجاوبانِ
تجاوبتَا بلَحَن أعجميٍّ ... على عُودين من غَرَب وبانِ
فكان البانُ أن بانت سُليمى ... وفي الغَرَب اغترابٌ غيرُ دانِي
وقال آخر:
وتفَرَّقوا بعد الجميع لأنه ... لا بُدّ أن يتفرّق الجيرانُ
لا تَصبِر الإبلُ الجلادُ تفرّقت ... بعد الجَميع ويَصبر الإنسَانُ
وقال آخر:
فهل ريبة في أن تَحِنّ نَجِيبة ... إلى إلْفها أو أنْ يَحن نَجِيبُ
وإذا رجّعت الإبلُ الحَنِينَ كان ذلك أحسَنَ صوت يَهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لصوت الحَمام. وقال عَوف بن مُحلم:
ألا يا حمامَ الأيك إلفك حاضر ... وغَصْنك مَيّاد ففِيم تنُوح
وكل مُطوَّقة عند العرب حمامة، كالدُّبسي والقُمري والوَرشان، وما أشبه ذلك، وجمعها حَمام، ويقال حمامة، للذكر والأثنى، كما يقال بطة، للذكر والأنثى. ولا يقال حَمام إلا في الجمع. والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتُغرّد وتسجع وتُقرقر وتَترنّم، وإنما لها أصوات سَجع لا تُفهم فيجعله الحزين بكاء ويجعله المسرور غناء. وقال حُميد بن ثَور:
وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامة ... دعت ساقَ حُرٍّ تَرْحةً وترنُّماً
مُطوقة خَطْباء تَسْجِع كُلّما ... دَنا الصَّيْفُ وانزِاحَ الربيعُ فأنْجمَا
تَغنَّت على غُصن عشاءً فلم تَدع ... لنائحةٍ في نوْحها مُتلوّما
فلم أرَ مِثْلي شاقَه صوتُ مِثْلها ... ولا عَربيا شاقَه صوتُ أعْجما
وقال مَجنون بني عامر في الحمام:
ألا يا حماماتِ اللَوى عُدْن عودةً ... فإنِّي إلى أصواتكنّ حَزينُ

فعُدْن فلما عدْن كِدْن يُمتْننيِ ... وكِدْتُ بأشجاني لهنّ أبِين
لم تَرَ عيْني مثلَهن بوَاكياً ... بكَينْ فَلَم تَذْرِف لهن عُيون
وقال حَبيب في هذا المعنى:
هُنّ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيافةً ... من حائهنّ فإنهن حِمامُ
وقال:
كما كاد يُنْسى عهد ظَمياء باللِّوى ... ولكنْ أَمَلَّتهُ عليّ الحَمائمُ
بَعثن الهَوى في قَلب مَن ليس هائماً ... فقل في فُؤادٍ رُعْنَه وهو هائِم
لها نَغَم ليست دُموعاً فإنْ علَتْ ... مَضَتْ حيث لا تَمضي الدموعُ السَّواحم
ومن قولنا في الحمام:
فكيف ولي قَلْب إذا هَبّت الصبا ... أهاب بشَوق في الضُّلوع مَكِين
ويهتاج منه كُلما كان ساكناً ... دُعاءُ حمامٍ لم تَبِت بوُكوَن
وكان ارتياحي من بُكاء حمامةٍ ... كذي شَجَن داويتَه بشجون
كأنّ حمامَ الأيك لمّا تجاوبتْ ... حزين بكَى من رَحمة لحزين
ومن قولنا في المعنى:
ونائحٍ في غُصون الأيك أرَّقني ... وما عنيت بشيء ظَلّ يَعْنِيه
مُطوَّقٍ بخِضابِ ما يُزايله ... حتى تُفارقَه إحدى تَراقِيه
قد بات يبكي بشجْوٍ ما دَريت به ... وبِت أبكي بشَجو ليس يَدريه
ومن قولنا فيه:
أناحتَ حماماتُ اللِّوىِ أم تغَنَّتِ ... فأبدتْ دواعِي قَلْبه ما أجنَّتِ
فديتُ التي كانت ولا شيءَ غيرُها ... مُنَى النَّفس لو يُقْضىَ لها ما تَمنّت
ومن قولنا:
لقد سجعت في جُنْح ليل حمامة ... فأيَّ أسىً هاجتْ على الهائم الصبِّ
لكِ الويلُ كم هَيَّجت شجواً بلاَ جَوًى ... وشَكْوى بلا شَكوى وكَرْباً بلا كَرْب
وأسكبتِ دمعاً من جُفونِ مُسَهِّدٍ ... وما رَقرقت منك المدامع بالسَّكب
وقال ذو الرُمة:
رأيتُ غُراباً ناعباً فوق بانة ... من القضب لم يَنْبت لها ورقٌ نَضْرُ
فقلت غرابِّ لاغتراب وبانةٌ ... لبَينْ النَّوى هذي العِيافة والزَّجر
قولهم في طيب الحديث
قال عديّ بن زَيد العِباديّ:
في سَماعٍ يأذَن الشيخُ له ... وحَديثٍ مثل ماذيّ مشَارْ
وقال القُطامي:
فهنّ يَنْبِذْن من قَولٍ يُصِبْن به ... مواقعَ الماء من ذي الغُلَّة الصادِي
وقال جِران العَود:
فَنِلْنا سِقاطاً من حديث كأنّه ... جَنَى النّحل أو أبكار كَرَمْ تقطف
وقال آخر:
وإنا ليَجري بيننا حين نَلْتقي ... حديث له وشيٌ كَوشي المَطارِف
وقال بشّار:
وكأنّ نَشر حديثها ... قِطَع الرِّياض كُسين زَهْرا
وله:
لئن عشقت أُذني كلاماً سمعتُه ... رخيماً فقلبي إذاً لا شكّ باللحظِ أعشق
وكيف تناسى مَنِ كأنّ كلامَه ... بأُذني ولو عرِّيتُ قُرْط مُعلق
وقال بَشّار أيضاً:
وبكر كَنُوَّارِ الرَّبيع حديثُها ... يَرُوق بوجهٍ واضحٍ وقوَام
وقال آخر:
كأنّما عَسَل رُجعَانُ منطقها ... إن كان رَجْع كلام يُشْبه العَسَلاَ
وقال آخر:
وحديثٍ كأنّه زهرَ الرّو ... ض وفيه الصَّفراءُ والحَمْراءُ
قولهم في الرياض
أنشد أحمدُ بن جِدار للمُعلَّى الطائيّ:
كأنّ عُيونَ الروض يَذْرِفن بالنَّدَى ... عُيون يُراسلنَ الدّموعَ على عَذْل
وقال البُحتريّ:
شَقائق يَحْملن النِّدى فكِأنه ... دُموعُ التَّصابِي في خُدود الخَرائِدِ
ومِن لُؤلؤ كالأقْحوان مُنضَدٍ ... على نُكَت مُصْفَرَّة كالفرائد
وقال أيضاً:
وقد نَبّه النيروزُ في غَلَس الدُّجَى ... أوائلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمس نُوَّمَا
يُفَتِّقها بَرْدُ الندى فكأنه ... يَنُثّ حديثاً كان قبلُ مكَتَّما

ومن شَجرٍ ردَ الربيعُ لِباسَه ... عليه كما نَشَّرْتَ وَشْياً منَمْنما
وقال أعشى بَكْر:
ما روضةٌ من رِياض الحَزْن مُعشِبة ... خَضْراءُ جاد عليها مُسْبِل هَطِلُ
يضاحك الشمسَ منها كوكب شَرق ... مؤزَّر بعمِيم النَّبتِ مُكتهل
يوماً بأطيبَ منها نَشر رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذ دَنَا الأصل
وأنشد ابنُ أبي طاهر لنفسه:
فتقت جُيوبَ الرَّوض منها ديمة ... حَلَّت عَزاليها صباً وقَبول
ولها عُيون كالعُيون نَواظر ... تَبْدُو فمنها أَمْرَه وكَحِيل
وقال الأخطل الصغير:
خَلَع الرَّبيعُ على الثَّرى من وَشْيه ... حُلَلاً يَظَلّ بها الثرى يَتَخيَّلُ
نَوْرٌ إذا مَرَت الصبا فيه الندى ... خِلْتَ الزَّبَرجد بالفَريد يُفصَل
فكأنها طَوْراً عُيون كُحَّل ... وكأنها طَوْراً عُيون هُملُ
وقال أبو نُواس:
يَوم تَقاصر واستتبِّ نَعِيمُه ... فِي ظِلّ مُلتفّ الحَدائق أخْضَرا
وإذا الرِّياح تَنسّمت في رَوضة ... نثرت به مِسْكاً عليه وعَنْبرا
وأنشد ابنُ مُسهر لابن أبي زُرعة الدِّمشقيّ يقول:
وقد لَبِستْ زُهْرُ الرِّياض حُليها ... وتجللت الأرضَ الفَضَاء الزخارفُ
لجين وعِقْبان ودُرّ وجَوْهر ... تُؤلّفه أيدي الرَّبيع اللَطائفُ
وأنشد البُحتريُّ لنفسه:
قَطَراتٌ من السَّحاب ورَوْض ... نَثَرت وردها عليها الخُدودُ
فكأنّ الحَوْذان والأقحوان ال ... غَضّ نَظْمان لُؤْلؤ وفَريد
وأنشد ابن جدار للمُعلَّى:
ترى للنَّدى فيه مجالاً كأنِّما ... نَثَرتَ عليه لؤلؤ فَتبدَّدا
وأنشد ابنُ الحارثيّ لنفسه:
وما رَوضة عُلْويةٌ أسديّة ... مُنَمنة زَهْراء ذاتُ ثَرىً جَعْدِ
سَقاها النَّدى في عقْب جنح من الدُّجىِ ... فنُوَّارها يهتزّ بالكَوكب السَّعد
بأحسنَ من حُرٍّ تَضمّن حاجةَ ... لحُرّ فأَوْفَى بالنّجاح مع الوَعْد
وأنشد محمد بن عَمَّار للحَسن بن وَهْب، يقول:
طلعتْ أوائلُ للرَّبيع فبشّرتْ ... نَوْرَ الرِّياض بجدَة وشَبابِ
وغدا السحابُ مكلِّلاً جَوَّ الثّرى ... أَذيالَ أَسْحم حالكِ الجلْباب
فترى السماء إذا أجَدّ رَبابُها ... فكأنما التحفَتْ جَناحَ غُراب
وترى الغُصون إذا الرِّياح تناوحتْ ... ملتفةً كتعانُق الأحباب
وقال حَبيب بن أوس الطائيّ:
الروض ما بين مَغْبوق ومُصْطبح ... من رِيق مكْتَفلات بالثّرى دُلُح
وُطْف إذا وكَفت في رَوْضة طَفِقَت ... عيونُ نوارها تَبكي من الفَرح
وأنشد البُحتري في دمشق:
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ ... مُستحسن وزَمانٍ يُشبه البَلَدا
يمسي السحابُ على أجبالها فِرقاً ... ويُصبح النَبتُ في صحرائها بَدَدا
فلستَ تُبصر إلا واكفاً خَضِلاً ... أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غِردا
كأنما القَيظَ ولّى بعدَ جَيئته ... أو الربيعُ دنا من بعد ما بَعُدا
أنشد ابن أبي طاهر لأشْجع:
بين الكنائس والأرواح مُطَردٌ ... للعين يَلْعب فيه الطّرفُ والبَصِرُ
في رُقعة من رقاع الأرض يَعْمرها ... قومٌ على أبوَيهم أجمعت مضر
وأنشد عليّ بن الحمم لعليّ بن الخليل:
ورَوضة في ظلال دَسْكرةٍ ... جداولُ الماء في جوانبها
تَسْتَنّ في رَوْضة مُنوَّرة ... يُغرِّد الطير في مَشاربها
كأنّ فيها الحُليّ والحُلل ال ... يَمْنة تُهدى إلى مَرازبها
وقال إبراهيم بن العبّاس الكاتب:
تأمّل سماء أطلتْ علي ... ك فيها مصابحهُا تزهر
وأرضاً تُقابلها كالعَرو ... س والموْجُ بينهما جَعْفر

ومَسْحب نَوْر الرَّبي ... ع أنفاسهُ المِسكُ والعَنبر
خِلالَ شقائِقه أصْفر ... وأضعافَ أصْفره أحمر
والماء مُطّرد بينه ... يُصفق باديه والمصدر
يُشارفه البرّ من جانب ... ومن جانب بحرُه الأخضر
مَجالُ وحُوش ومَرفا سَفين ... فيا عُرف لَهْوٍ ويا مَنظر
ويا حُسن دُنيَا ويا عِزّ مُل ... ك يسوسهما السائسُ الأكبر
وِقال ابن أبي عُيينة في بُستانه:
يُذكرني الفِرْدوس طوراً فأنثني ... وطَوراً يُواتيني إلى القَصْف والفَتْك
بغَرْس كأبكار العَذارَى وتُربة ... كأنَّ ثراها ماء وَرْد على مِسْك
كأنّ قصورَ الأرض ينظُرن حولَه ... إلى مَلِك أوفَى على مِنْبر المُلك
يُدِلّ عليها مُستطيلاً بحُسنه ... ويَضحك منها وهي مُطرقة تَبْكي
وقال فيه أيضاً:
يا جَنّة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثَمَنُ
ألفتها فاتخذَتُها وطناً ... لأنّ قلبي لأهلها وَطَنُ
زوّج حِيتانها الضباب بها ... هذا لذا كَنَّة وذا خَتَن
فانظر وفكِّر فيما تَمُر به ... إن الأريبَ المُفكّرُ الفَطن
من سُفنِ كالنَعام مقْبلةٍ ... ومِن نَعام كأنها سُفن
وقال الخليلَ بن أحمد:
يا صاحبَ القَصر نِعْم القَصْرُ والوادِي ... بمَنْزلٍ حاضر إن شئتَ أو بادِي
تَرْقى به السُفن والظّلمان واقفةٌ ... والنّون والضّبّ والمَلاح والحادِي
وقال إسماعيل بن إبراهيم الحَمْدُوني:
برَوْضة صنعت أيدي الربيع لها ... بُرُودَها وكَسَتْها وَشْيها عَدَنُ
عاجَت عليها مَطايا الغيث مسبلةَ ... لهنّ في ضَحِكاتٍ أدمُعٌ هُتُن
كأنما البَيْن يُبْكيها ويُضحكها ... وَصْلٌ حَباها به من بعده سَكَن
فولّدت صُفراً أثوابها خُضرا ... أحشاؤهُن لأحشاء الندى وَطن
من كل عَسجدةٍ في خِدْرها اكْتتمتْ ... عَذْراءُ في بَطنها الياقوتُ مُكْتَمِن
وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ:
أين إخوانُنا على السرّاء ... أين أهلُ القِباب والدَهناءِ
جاورونا والأرض مُلْبَسة نَو ... رَ الأقاحِي تُجاد بالأنواء
كُلَّ يوم بأقحوان جَديد ... تَضْحك الأرض من بُكاء السماء
ومن قولنا في هذا المعنى:
وَروضةٍ عقدتْ أيدي الرَّبيع بها ... نَورا بنَوْر وتَزْويجاً بتَزْويج
بمُلقِح مُن سَواريها ومُلقحة ... وناتج من غَواديها ومَنتوج
تَوشَحت بمُلاة غير مُلْحمة ... من نَورها ورداء غير مَنْسوج
فأَلبست حُلل المَوشي زَهرتَها ... وجَللتها بأَنماط الدَّيابيج
ومن قولنا:
ومَوْشيّةٍ يهدِي إليك نَسيمُها ... على مَفْرق الأرواح مِسكاً وَعنبراً
سَداوتُها من ناصع اللَّون أَبيض ... ولُحمتُها من ناقع اللَون أَصْفرا
تُلاحظ لَحظاً من عُيونٍ كأنَّها ... فصوص من الياقوت كُلَلن جوهرا
ومثلُه قولُنا:
وما رَوضة بالحَزن حاك لها النَّدى ... برُوداً من المَوشيّ حُمرَ الشَقائق
يُقيم الدُّجى أعناقَها وُيميلها ... شعاعُ الضَحى المُستَنّ في كُل شارق
إذا ضاحكْتها الشمسُ تَبكي بأعين ... مُكلَلة الأَجْفان صُفْر الحَمالق
حكَت أرضُها لونَ السماء وزانَها ... نُجومٌ كأمثال النُجوم الخَوافق
بأطيب نشراً من خَلائقه التي ... لها خضعت في الحُسن زُهرُ الخَلائق
كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر
فرش الكتاب
قال أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه:

قد مضى قولُنا في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أعاريضه وعِلله، وما يَحسن ويقبح من زِحافه، وما ينفكّ من الدوائر الخَمس من الشطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقُل، وَتلخيص جميع ذلك بمَنثور من الكلام يقرُب معناه من الفهم، ومنظوم من الشعر يسهل حفظُه على الرواة. فأكملتُ جميعَ هذه العُروضِ في هذا الكتاب الذي هو جزآن، فجزء للفرش، وجزء للمثال، مختصراً مبينّا مفسراً. فاختصرتُ للفرش أرجوزة، وجمعت فيها كل ما يدخل العروضَ ويجوز في حشو الشعر من الزحاف. وبيّنت الأسباب والأوتاد، والتعاقب والتراقب، والخروم، والزيادة على الأجزاء، وفك الدوائر في هذا الجزء. واختصرتُ المثالَ في الجزء الثاني في ثلاث وستين قطعة، على ثلاثة وستين ضرباً من ضروب العروض. وجعلت المقطعات رقيقة غَزِلة، ليسهل حفظها على ألسنة الرواة. وضمّنت في آخر كُل مقطَّعة منها بيتاً قديماً متصلاً بها وداخلاً في معناها، من الأبيات التي استشهد بها الخليل في عروضه، لتقوم به الحُجة لمن رَوى هذه المقطعات واحتج بها.
مختصر الفرش
اعلم أنّ أول ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتدئ به، معرفة الساكن والمتحرك، فإن الكلام كُلَّه لا يعدو أن يكون ساكناً أو متحركاً. واعلم أن كل أَلِف خفيفة، أو ألف ولام خفيفتين، لا يظهران على اللسان ويثبتان في الكتابة فإنهما يسقطان في العروض وفي تقطيع الشعر، نحو ألف: قال ابنك أو ألف ولام نحو: قال الرجل. وإنما يُعَدّ في العروض ما ظهر على اللسان.
واعلم أنّ كل حرف مشدّد فإنه يعُد في العروض حرفين، أولهما ساكن والثاني متحرك، نحو ميم محمد ولام سلاّم.
واعلم أن التنوين كله يعُد في العروض نوناً ساكنة، ليست من أصل الكَلمة.
باب الأسباب والأوتاد
اعلم أنّ مدار الشعر وفواصل العروض على ثمانية أجزاء، وهي: فاعلن فعولن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات.
وإنما ألفت هذه الأجزاء من الأسباب والأوتاد.
فالسبب سببان: خفيف وثقيل. فالسبب الخفيف حرفان: متحرك وساكن، مثل: من وعن، وما أشبههما. والسبب الثقيل، حرفان متحركان، مثل: بك ولك، وما أشبههما. والوتد وتدان: مفروق ومجموع. فالوتد المجموع ثلاثة أحرف: متحركان وساكن؟ مثل: على وإلى وما أشبههما. والوتد المفروق ثلاثة أحرف: ساكن بين متحركين، مثل أين وكيف، وما أشبههما.
وإنما قيل للسبب سبب؟ لأنه يضطرب فيثبت مرة ويسقط أخرى، وإنما قيل للوتد وتد، لأنه يثبت فلا يزول.
باب الزحاف
اعلم أنّ الزحاف زحافان، فزحاف يُسقط ثاني السبب الخفيف، وزحاف يُسكن ثاني السبب الثقيل، وربما أسقطه. ولا يَدخل الزحافُ في شيء من الأوتاد وإنما يدخل في الأسباب خاصة. وإنما يدخل من الجزء في ثاني الجزء ورابعه وخامسه وسابعه. فإذا أردت أن تعرف موضع الزحاف من الجزء فانظُر إلى جزء من الأجزاء الثمانية التي سُميّت لك. فإن رأيت الوتد في أول الجزء، فإنما يزحف خامسه وسابعه. وإن كان الوتد في آخر الجزء، فإنما يُزحف ثانيه ورابعه. وإن كان الوتد في وسط الجزء، فإنما يزحف ثانيه وسابعه.
وللزحاف الذي يدخل في ثاني الجزء ثلاثةُ أسماء: الخَبن، والإضمار، والوقص. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك. والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك. وللزحاف الذي يدخل في رابع الجزء اسم واحد: المطويّ، وهو ما ذهب رابعه الساكن.
وللخامس منها ثلاثة أسماء: القَبض، والعَصْب، والعَقل: فالمقبوض: ما ذهب خامسه الساكن. والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمعقول: ما ذهب خامسه المتحرك.
وللسابع اسم واحد: المكفوف، وهو ما ذهب سابعه الساكن.
باب الزحاف المزدوج
المخبول: هو ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان. والمخزول: هو ما سكن ثانيه وذهب رابعه الساكن. والمنقوص: هو ما سكن خامسه وذهب سابعه الساكن. والمشكول: هو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
علل الأعاريض والضروب

المحذوف: هو ما ذهب من آخر الجزء بسبب خفيف. والمقطوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره سبب. والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الجزء الذي في آخره وتد. والأبتر: ما حُذف ثم قُطع، فكان فاعل من فاعلاتن وفع من فعولن. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع. والأصلم ما ذهب من آخر الجزء وتد مفروق. والموقوف: ما سكن سابعه المتحرك. والمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء. والمشطور: ما ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزآن.
والزيادة على الأجزاء ثلاثة أشياء: المُذال: وهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن، مما يكون في آخره، وتد؟ والمُسبّغ: ما زاد على اعتداله حرف ساكن، مما يكون في آخره سبب؟ والمُرفَل: ما زاد على اعتداله حرفان: متحرك وساكن، مما يكون في آخره وتد: واعلم أن كل جزء من أجزاء العروض يكون مخالفاً لأجزاء حَشوه بزحاف أو سلامة، فهو المعتل. وما كان معتلاً فإنما هو أربعة أشياء: ابتداء، وفصل، وغاية، واعتماد. هذا قول الخليل. وأنا أقول: إن المعتل كله ثلاثة أشياء: ابتداء، وفصل، وغاية: وإن الاعتماد ليس علة، لأنه غير مخالف لأجزاء الحشو، إذ جاز فيه القبض والسلامة، ولذلك يجوز في أجزاء الحشو كلها، وإنما خالفها في الحسن والقبح، وليس اختلاف الحسن والقبح عِله. ونحن نجد الاعتماد الشعر كثيراً، من ذلك البيت الذي جاء به الخليل:
أقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم ... وإلا تُقيموا صاغرين الرؤوسا
ومنه قولُ امرئ القيس:
أعنَي على بَرق أَراه وَميض ... يضئ حَبِيا في شَماريخَ بِيض
وتَخرج منه لامعات كأنها ... أكفّ تَلَقَّى الفوزَ عند المفِيض
وإنما زعم الخليلُ أن المُعتلّ ما كان مخالفاً لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة، ولم يُقل بحُسن أو قُبح. ألا ترى أن القَبض في مفاعيلن في الطويل حَسن، والكَفّ فيه قبيح. والقبض في مفاعيلن في الهزج قبيح، والكف فيه حسن. والاعتماد في المتقارب على ضد ما هو في الطويل السالم فيه حسن، والقبض فيه قبيح.
فإذا اعتلّ أولُ البيت سُمي ابتداء، وإذا اعتلّ وسطه، وهو العروض، سُمي فصلاً، وإذا اعتل الطرف، وهو في القافية، سمي غاية. وإذا لم يعتل أوله ولا وسطه ولا آخره سُمي حشواً كُله: وما كان من الأنصاف مستوفياً لدائرته، وآخرُ جزء منه بمنزلة الحَشو من الآخر، فهو التام. وما كان من الأنصاف لم يذهب به الانتقاص بجزء من الأجزاء أجِمع، فهو وافٍ، وإذا ذهب به الانتقاص، فهو مجزوء. وما كان من الأنصاف مُقفى، فهو مُصرَّع: فإن كانت الكلمة كلها كذلك، فهو مشطور. فإذا لم يبق منه إلا جزآن فهو المَنهوك. وإذا اختلفت القوافي واختلطت وكانت حيزاً حيزا من كلمة واحدة هو المُخمَس. وإذ كانت أنصاف على قواف تجمعها قافية واحدة، ثم تعاد لمثل ذلك حتى تنقضي القصيدة، فهو المُسمَّط.
باب الخرم
اعلم أن الخَرم لا يدخل إلا في كل جزء أوله وَتد. وذلك ثلاثة أجزاء: فعولن، مفاعلتن، مفاعيلن. وهو سقوط حركة من أول الجزء. وإنما منعه أن يدخل في السَّبب، لأنك لو أسقطت من السبب حركة بقي ساكن. ولا يُبدأ بساكن، أبدا. ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت.
فإذا أدخل الخرم فعولن قيل له أثلم. فإذا دخل القبض مع الخرم قيل له أثرم.
فإذا دخل الخرم مفاعلتن قيل له أعصب. فإذا دخله العَصب مع الخرم قيل له أقصم. فإذا دخله القبض مع الخرم، قيل له أعقص. فإذا دخله العقل مع الحزم قيل له أجمّ.
فإذا دخل الخرم مفاعيلن قيل له أخرم. فإذا دخله الكفّ مع الخَرم قيل له أخرب. فإذا دخله القَبض مع الخرم قيل له أشتر. وكل ما لم يدخله الخرم فهو الموفور.
باب التعاقب والتراقب
اعلم أن التعاقب يدخل بين السببين المتقابلين في حشو الشعر حيثما كانا، ولا يكونان من جميع العروض إلا في أربعة أشطار: في المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث. وقد بينّا جميع ذلك في موضعه.
فما عاقبه ما قبله فهو صَدر. وما عاقبه ما بعده فهو عَجز. وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان. وما لم يُعاقبه ما قبله ولا ما بعده فهو بريء.=

6.

مجلد 6. العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي

  =والتراقب بين السببين المُتقابلين مع فاصلة واحدة. ولا يدخل التراقب من جميع العروض إلا في المضارع والمُقتضب. وقد فسّرناه هنالك. وقد نظمنا جميع ما ذكرناه من هذه الأبواب في أرجوزة ليسهل حفظُها على المتعلم، إذ كان حفظ المنظوم أسهلَ من حفظ المنثور، وذكرنا فيها كُل الدوائر الخمس، وما ينفكّ في كل دائرة من عدد الشُطور التي قالت عليها العرب، والتي لم تقل عليها، وموضع الزَحاف منها.
واعلم أن الدائرة الأولى مؤلّفة من أربعة أجزاء، سُباعيّين مع خُماسيين، وهي: فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن. والدائرة الثانية من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن. والدائرة الثالثة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن. والدائرة الرابعة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي: مستفعلن مفعولات مستفعلن. والدائرة الخامسة مؤلفة من أربعة أجزاء خماسية، وهي: فعولن فعولن فعولن فعولن.
واعلم أنّ كل دائرة من هذه الدوائر ينفكّ من رأس كل سَبب وكل وتد فيها شطر. وقد بينّا جميع ذلك في الدوائر وأسماء الشطور التي تنفكّ عنها.
أرجوزة العروض
بالله نبدا وبه التمامُ ... وباسمه يُفتتَح الكلامُ
يا طالبَ العِلْم هو المِنهاجِ ... قد كثُرت من دونه الفِجاج
وكُل عِلْم فله فُنونُ ... وكُل فَنّ فله عُيون
أولها جوامعُ البيَانِ ... وأصلها معرفةُ اللِّسان
فإنّ في المجَاز والتأويل ... ضلّت أساطيرُ ذوي العُقول
حتى إذا عَرَفتَ تلك الأبنية ... واحدَها وجَمعها والتَّثنية
طلبتَ ما شئتَ من العلوم ... ما بين مَنثور إلى مَنظوم
فَداوِ بالأعراب والعَروض ... داءك في الأمْلال والقَريض
كلاهما طِبّ لداء الشَعرِ ... واللّفظ من لَحن به وكَسْرِ
ما فَلْسف النَّيطس جالينوسُ ... وصاحبُ القانون بَطْليْموس
ولا الذي يَدْعونه بهرْمس ... وصاحب الأركند والإقليدس
فَلسفَة الخَليل في العَروض ... وفي صَحيح الشِّعر والمَريض
وقد نظرتُ فيه فاختصرتُ ... إلى نِظام منه قد أحْكمتُ
مُلَخّصٍ مُختصر بديع ... والبَعض قد يَكفي عن الجميع
اختصار الفرش
هذا اختصار الفَرش من مَقالي ... وبعدَه أقولُ في المِثال
أوله والله أستعينُ ... أن يُعرف التحريكُ والسكُونُ
من كُل ما يبدو على اللَسان ... لا كُل ما تَخُطه اليدانِ
ويَظهر التَّضعيفُ في الثقيلِ ... تَعُدُّه حَرفين في التَّفصيل
مُسكنَاً وبعدهُ مُحركاً ... كنون كُنّا وكراء سَركا
باب الأسباب والأوتاد
وبعد ذا الأسبابُ والأَوتادُ ... فإنها لقولنا عِمادُ
فالسببُ الخفيف إذ يعدّ ... محرّك وساكن لا يَعْدُو
والسببُ الثقيلُ في التبيينِ ... حركتان غير ذي تَنوينِ
والوتد المَفروق والمَجموعُ ... كلاهما في حَشوه مَمنوعُ
وإنما اعتلَّ من الأجزاء ... في الفصل والغائي والابتداءِ
فالوتد المَجموع منها فافهمنْ ... حركتان قبل حَرف قد سَكَنْ
والوتد المَفروق من هذينِ ... مُسكَنٌ بين مُحركينِ
فهذه الأوتاد والأسبابُ ... لها ثَبات ولها ذَهابُ
وإنما عَروض كُل قافيه ... جار على أجزائه الثَّمانية
وهاكَها بيّنة مصوَّره ... لكُل مَن عاينها مفسَّره
الفواصل
فاعلن، فعولن، مستفعلن، فاعلاتن، مفاعيلن، مفاعلتن، متفاعلن مفعولات.
هذي التي بها يقول المُنشد ... في كُل مَا يَرْجُز أو يُقَصِّد
كُل عروض يَعتزي إليها ... وإنما مَدارهُ عليها

منها خمُاسيّان في الهِجاءِ ... وغيرها مُسبَّع البِناءِ
يدخلُها النُقصان بالزّحافِ ... في الحشو والعروض والقوافي
وإنما تدخل في الأسبابِ ... لأنها تُعرف باضطرابِ
باب الزحاف في موضعين
فكُل جزءٍ زَال منه الثاني ... من كُل ما يبدو على اللَسانِ
وكان حرفاً شانُه السكون ... فإنه عندي اسمُه مخْبونُ
وإن وجدت الثاني المَنْقوصَا ... محركاً سميتَه المَوْقوصَا
وإن يكُن مُحرَّكاً فسكِّنا ... فذلك المُضمَر حقاً بَيّنَا
والرابع الساكن إذ يَزول ... فذلك المطويُ لا يَحُولُ
وإن يزل خامسُه المسكَّنُ ... فذلك المَقبوض فهو يحسنُ
وإن يكن هذا الذي يزولُ ... مُحركَّاً فإنه المعقولُ
وإن يكُن محرّكاً سكّنتَهُ ... فسمِّه المَعصوب إن سميته
وإن أزلت سابعَ الحُروفِ ... سميتَه إذ ذاك بالمَكْفوفِ
باب الزحاف الذي يكون في موضعين من الجزء
كُل زحاف كان في حَرفين ... حَلَّ من الجزء بمَوْضعين
فإنه يُجحِف بالا جزاءِ ... وهو يسمى أقبحَ الأسماءَ
فكُل ما سُكِّن منه الثاني ... وأسقط الرّابع في اللِّسانِ
فذلك المَخزول وهو يَقْبُح ... فحيثما كان فليس يَصلُحُ
وإن يَزُل رابعُه والثاني ... ذاك وذا في الجُزء ساكِنانِ
فإنه عندي اسمُه المَخبولُ ... يُقصِّر الجُزءَ الذي يطولُ
وكل جُزء في الكتاب يُدركُ ... يَسكُن منه الخامس المُحركُ
وأسقط السابع وهو يسكنُ ... فذلك المَنقوص ليس يَحْسُن
وسابع الجُزء وثانيه إذا ... كان يُعد ساكناً ذاك وذا
فأسقطا بأَقبح الزّحافِ ... سُمِّي مشكولاً بلا اختلاف
هذا الزّحاف لا سِواه فاسمَع ... يُطلق في الأجزاء ما لم يُمنع
باب العلل
والعِللُ التي تجوز أجمعُ ... وليس في الحَشو لهنّ موضعُ
ثلاثة تُدعى بالابتداءِ ... والفَصل والغَاية في الأجزاء
والاعتماد خارجٌ عن شَكلها ... وفِعْله مُخالف لفعلها
لأنهم قد تَركوا التزامَهْ ... وجاز فيه القَبضُ والسلامهْ
ومثلُ ذاك جائزٌ في الحَشْوِ ... فَنحو هذا غير ذاك النحوِ
وكُل مُعتلّ فغيرُ جائزِ ... في الحَشو والقَصِيد والأراجزِ
وإنما أجاَزه الخَليلُ ... مُجازفاً إذ خانه الدَّليلُ
وكُل حيّ من بني حَوّاءِ ... فغيرُ مَعْصوم من الخَطَاءِ
فأول البَيت إذا ما اعتلا ... سميته بالابتداء كُلاّ
وغاية الضَّرب تسمَى غايهْ ... وليس في الحَشو لها حِكايهْ
وكُل ما يَدخل في العَروض ... من عِلّة تَجوزُ في القَريض
فهي تُسمَى الفَصل عند ذاكَا ... وقلّ مَن يعرفه هُناكَا
باب الخرم
والخَرم في أوائل الأبياتِ ... يُعرف بالأسماء والصفاتِ
نُقصان حَرف من أوائل العَددْ ... في كُل ما شَطْر يُفكِّ من وَتدْ
خَمسة أشطار من الشُّطور ... يُحزم منها أول الصُّدورِ
منها الطِّويل أول الدوائرِ ... وأطْول البِناء عند الشاعر
يَدْخله الخَرم فيُدعَى أثلمَا ... فإنْ تلاه القَبْض سُمّي أثَرْمَا
والوافر الذي مَدار الثانِيهْ ... عليه قد تَعيه أذْن واعِيَهْ
يَدخله الخَرمُ في الابتداءِ ... في أول الجُزء من الأجزاءِ
وهو يسمى أعضباً فكُلما ... ضمّ إليه العَصبُ سمى أَقْصما
وإن يكن أعصب ثم يُعْقلُ ... فذلك الأجمّ ليس يُجهلُ

والهَزَج الذي هو السّوارُ ... عليه للثالثة المَدارُ
يدخله الخَرْم فيُدعى أخرمَا ... وهو قَبيح فاعلمنّ وافْهمَا
حتى إذا ما كف بعد الخَرم ... سميته أخْرب إذ تُسمي
والأشتر المُهجّن العَروضا ... ما كان منه آخرٌ مَقبوضَا
هذا وفي الرابعة المُضارعُ ... يَدخل فيه الخَرم لا يُدافَعُ
كمِثل ما يدخل في شطر الهَزجْ ... وهو يُسمّى باسمه بلا حَرجْ
ولا يجوز الخَرم فيه وحده ... إلا بقَبض أو بكَفٍّ بعدهُ
لعلة التَّراقب المَذكور ... خُصّ به من أجمع الشُطورِ
والمُتقارب الذي في الآخر ... تَحلو به خامسة الدَّوائر
يَدخله ما يدخُل الطويلاً ... من خَرمه وليس مُسْتحيلاً
هذا جميع الخَرم لا سواهُ ... وهو قبيح عند من سَمّاهُ
يدخل في أوائل الأشعارِ ... ما قيل في ذي الخمسة الأَشطارِ
لأنّ في أول كل شَطْرٍ ... حَركتين في اْبتداء الصَّدرِ
وإنما يَنفكّ في الأوتاد ... فلم يَضرها الخرمُ في التَّمادِي
لقوّة الأوتاد في أجزائها ... وأنها تَبرأ من أدْوائها
سالمةً من أجمع الزِّحافِ ... في كُل مَجْزوء وكل وافِي
والجُزء ما لم تر فيه خرْمَا ... فإنه المَوْفورُ قد يُسمّى
باب علل الأعاريض والضروب
والعِلل المسميات اللاتي ... تُعرف بالفُصول والغاياتِ
تَدْخل في الضرَّب وفي العَروض ... وليس في الحَشْو من القَريض
منها الذي يُعرف بالمَحْذوفِ ... وهو سُقوط السَّبب الخَفيف
في آخر الجُزء الذي في الضرب ... أو في العَروض غير قول الكذبِ
ومثله المَعروف بالمَقطَوف ... لولا سكون آخر الحروف
وكل جُزء في الضُّروب كائنِ ... اسقط منه آخر السَّواكنِ
وسكن الآخر من باقِيه ... ما يجيزون الزَحافَ فيه
فذلك المَقصورُ حين يُوصفُ ... وإن يكن آخرُه لا يُزْحف
من وَتد يكون حين لا سَببْ ... فذلك المَقطوع حين يَنْتسبْ
وكل ما يحذف ثم يُقطعُ ... فذلك الأبترُ وهو أشنعُ
وإن يَزُل من آخر الجُزء وَتدْ ... إن كان مَجموعاً فذلك الأحَدْ
أو كان مَفروقاً فذاك الأصْلم ... كلاهما للجُزء حَقّاً صَيْلمُ
وأن يسكَّن سابعُ الحُروفِ ... فإنه يُعرف بالمَوْقوفِ
وأن يكُن محرَّكاً فاذْهِبا ... فذلك المَكسوف حقّاً مُوجِبَاً
وبعده التَشعيث في الخَفيفِ ... في ضَربه السالم لا المَحْذوفِ
يُقطع منه الوَتد المُوسَّطُ ... وكُل شيء بعده لا يَسقُط
باب التعاقب والتراقب
وبعد ذا تَعاقب الجُزأينِ ... في السببين المُتقابلين
لا يسقطان جُملةً في الشِّعرِ ... فإنّ ذاك من أشدّ الكَسْرِ
ويثبتان أيّما ثَباتِ ... وذاك من سَلامة الأبياتِ
وأن يَنَل بعضهما إزالَهْ ... عاقَبه الآخر لا مَحالَهْ
فكُل ما عاقبه ما قَبلهُ ... سُمِّي صَدراً فافهمنِّ أصلَهُ
وكُل ما عاقَبه ما بعدَه ... فهو يُسمَّى عَجُزاً فعُدَّه
وإن يكُن هذا وذا مُعاقبَاً ... فهو يُسمى طَرفين واجبَاً
يَدخل في المَديد والخفيفِ ... والرَّمل المَجزوء والمَحْذوفِ
ويدخل المجتثَ أيضاً أجمعَه ... ولا يكون في سوى ذي الأربعَة
والجُزء إذ يخلو من التعاقُب ... فهو بَريء غَيرَ قَول الكاذب
وهكذا إن قِسْتَه التعاقبُ ... وليس مثلَ ذلك التَّراقبُ

لأنه لم يأت من جُزأينِ ... في السببين المُتجاورينِ
لكنّه جاء بجزء واحَدِ ... في أول الصَّدر من القَصائدِ
والسببان غير مَزْحوفينِ ... في جُزئه وغيرُ سالمينِ
إن زال هذا كان ذا مكَانَه ... فاسمَعْ مقالي وافهمنْ بيانَه
فهكذا التراقُب المَوصوفُ ... وكُله في شَطره مَعْروفُ
يدخُل أولَ المُضارع السبب ... وبعدَه يدخُل صدرَ المُقتضبْ
الزيادات على الأجزاء
ثم الزِّيادات على الأجزاء ... مَوجودة تُعرف بالأسماءِ
وإنما تَكون في الغاياتِ ... تُزاد في أواخر الأبياتِ
وكُلها في شَطره مَوجودُ ... منها المُرفل الذي يَزيدُ
حَرْفين في الجزء على اعْتدالِه ... مُحرَّكاً وساكناً في حالِه
وذاك فيما لا يَجوز الزَّحفُ ... فيه ولا يُعزى إليه الضعفُ
وفيه أيضاً يدخُلِ المُذالُ ... مُقَيَّداً في كُل ما يُقالُ
وهو الذي يَزيد حرفاَ ساكنَا ... على اعتدال جُزئه مُباينَا
ومثله المُسبغ من هذي العِللْ ... حَرْف تَزيده على شَطر الرَّمَلْ
باب نقصان الأجزاء
فإن رأيتَ الجُزء لم يَذهب معا ... بالانتقاص فهو وافٍ فاسمعا
وإن يكُن أَذهبه النقصان ... فافْهم ففي قولي لك البَيانُ
فذلك المَجزوء في النِّصفين ... إذا انتقصتَ منهما جُزأينِ
والبيتُ إن نقصتَ منه شطرَهُ ... فذلك المَشطور فافهم أَمرهُ
وإن نقصتَ منه بعد الشَطرِ ... جُزءاً صحيحاً من أخير الصَّدرِ
وكان ما يبقى على جُزأينِ ... فذلك المَنهوك غيرَ مَين
صفة الدوائر وصورهما
فاسمع فهذي صِفة الدوائرِ ... وَصْفَ عليم بالعَروض خابرٍ
دوائرٌ تعيا على ذِهْن الحَذِق ... خمس عليهن الخُطوط والحَلَقْ
فما لها من الخُطوط البائنهْ ... دلائل على الحُروف الساكنهْ
والحَلقات المُتَجوِّفاتِ ... علامة للمتحرَكات
والنُّقط التي على الخُطوطِ ... علامة تُعدّ للسُّقوط
والحَلق التي عليها يُنْقطُ ... تسكن أحياناً وحِيناً تَسقَطُ
والنُّقط التي بأجواف الحَلْق ... لمبتدأ السطور منها يُخترقْ
فانظُر تجد من تحتها أسماءها ... مكتوبة قد وُضعت إزاءَها
والنُّقطتان موضعَ التعاقب ... ومثل ذاك موضعَ التراقب
وهذه صُورةُ كُل واحدة ... مِنها ومَعنى فَسْرها على حِدَه
أولها دائرة الطويل ... وهي ثمانٍ لذوي التفضيل
مُقسَّم الشطر على أرباع ... بين خُماسيّ إلى سُباعِي
حُروفه عشرون بعد أربَعه ... قد بَيّنوا لكُل حرف موضعَه
تنفك منها خَمسة شُطورُ ... يَفصلها التفعيل والتَّقديرُ
منها الطويلُ والمَديد بعدهُ ... ثم البَسيط يُحكمون سَرْدَهُ
ثلاثةٌ قالت عليها العربُ ... واثنان صدّوا عنهما ونَكَبُوا
وهذه صُورتها كما تَرَى ... وذكرها مبيناً مفسَّرَا
الأولى دائرة المختلف
الطويل: مبني على فعولن مفاعيلن. ثماني مرات.
المديد: مبني على فاعلات فاعلن. ست مرات، بعد الحذف.
البسيط: مبني على مستفعلن فاعلن. ثماني مرات.
وهذه الثانية المخصوصة ... بْالسبب الثُقيل والمَنقوصة
أحزاؤها ثلاثة مسبعة ... قد كَرهوا أن يَجعلوها أَربعة
لأنها تَخرج عن مِقدارهم ... في جُملة المَوزون من أشعارهم
فهي على عِشرين بعد واحدِ ... من الحُروف ما بها من زائدِ
تنفك منها وافرٌ وكاملُ ... وثالثٌ قد حار فيه الجاهل

الثانية دائرة المؤلف
الوافر: مبني على مفاعلتن. ست مرات. فقطفوا ضربه وعروضه. الكامل: مبني على متفاعلن. ست مرات.
والدارة الثالثة التي حكتْ ... في قَدرها الثانيةَ التي مَضَتْ
في عِدة الأجزاء والحُروف ... وليس في الثَّقيل والخفيفِ
ينفكّ منها مِثلُ ما ينفك ... من تلك حقَاً ليس فيه شكُّ
ترفل من ديباجها في حُلل ... من هَزج أو رَجز أو رَمل
وهذه صورتُها مبينة ... بحَلْيها ووَشْيها مُزَيَّنه
الثالثة دائرة المجتلب
الهزج: مبني على مفاعيلن. بعد الحذف. أربع مرات.
الرجز: مبني على مستفعلن. ست مرات.
الرمل: مبني على فاعلاتن. ست مرات.
ورابع الدوائر المسرودة ... أَجزاؤها ثلاثة مَعْدودة
عَجيبة قد حار فيها الوَصْفُ ... عِشرون حرفاً عَدُّها وحَرْف
مثل التي تقدّمت من قَبلها ... وشَكْلها مُخالف لشَكْلها
بَدِيعة أحْكم في تَدْبيرها ... بالوَتِد المَفْروق في شُطورها
ينفكّ منها ستّة مَقُولة ... مِن بينها ثلاثةٌ مَجهولة
وكل هذه الستّة المَشْطورة ... مَعْروفة لأهلها مَخْبوِرة
أوّلها السَّريع ثم المُنسرحْ ... ثم الخَفيف بعده ثَم وَضحْ
وبعده مَضارع ومقتضب ... شَطران مَجزوآن في قول العَرب
وبعدها المُجتث أحلى شَطْر ... يُوجد مَجْزوءاً لأهل الشِّعرِ
الرابعة دائرة المشتبه
السريع: مبني على مستفعلن مستفعلن مفعولات. ست مرات.
المنسرح: مبني على مستفعلن مفعولات مستفعلن. ست مرات.
الخفيف: مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن. ست مرات.
المضارع: مبني على مفاعيلن فاعلاتن. ست مرات. فحذفوا منه جزأين فصار مربعا. المقتضب: مبني على مفعولات مستفعلن مستفعلن. ستَ مرات. فربعوه كما تقدم. المجتث: مبني على فاعلاتن فاعلاتن. ست مرات. فربعوه كما تقدم.
بعدها خامسة الدَّوائر ... للمُتقارب الذي في الآخرِ
ينفكّ منها شَطْرَه ... لم يأتِ في الأشعار منه الذّكرُ
مِن أَقصر الأجزاء والشُطورِ ... حُروفه عِشرْون في التَّقديرِ
مؤلَّف الشطر على فواصل ... مخمسات أَرْبع مَوائل
هذا الذي جَرّبه المُجرِّبُ ... من كُل ما قالت عليه العربُ
فكُل شيء لم تَقُل عليه ... فإننا لم نلتفت إليه
ولا نقول غيرَ ما قد قالوا ... لأنّه من قَولنا مُحالُ
وإنه لو جاز في الأبياتِ ... خلافها لجاز في اللغاتِ
وقد أَجاز ذلك الخَليلُ ... ولا أقول فيه ما يَقولُ
لأنه ناقَض في مَعناه ... والسيفُ قد يَنبو وفيه ماه
إذ جَعل القول القديم أصلَه ... ثم أجاز ذا وليس مثلَه
وقد يَزِلّ العاِلم النّحريرُ ... والحَبر قد يَخُونه التَّحبيرُ
وليس للخَليل مِن نَظير ... في كُل ما يأتي من الأمور
لكنّه فيه نَسيجُ وحدِهَ ... ما مثله مِن قبله وبَعدِه
فالحمدُ للّه على نعمائه ... حمداً كثيراً وعلى آلائه
يا مَلكاً ذلّت له المُلوكُ ... ليس له في مُلكه شَريكُ
ثبِّت لعبد الله حُسن نيَّته ... واعطفه بالفَضل على رعيّته
الخامسة دائرة المتفق
المتقارب: مبني على فعولن. ثماني مرات
إبتداء الأمثال
شطر الطويل
الطويل مُثَمّن، له عروض واحد مقبوض وثلاثة ضروب: ضرب سالم، وضرب مقبوض، وضرب مَحذوف معتمد.
العروض المقبوض والضرب السالم
ورَوْضة وَرْدِ حُفّ بالسَّوسن الغَضِّ ... تحلت بلَوْن السَّام والذَّهب المَحْض
رأيتُ بها بدراً على الأرض ماشياً ... ولم أر بدراً قطُّ يَمشي على الأرض

إلى مِثله فَلْتَصْبُ إن كنتَ صابياً ... فقد كان منه البَعضُ يَصْبو إلى البعض
وكُلْ وَرد خَدّيه ورُمّان صَدْره ... بمَصٍّ على مَصٍّ وعَضٍّ على عَضَ
وقُل للذي أَفْنى الفُؤِاد بِحُبّه ... على أنه يَجْزي المَحبّة بالبغْض
أبا مُنذر أفنيتَ فاستبق بعضنا ... حَنانيْك بعضُ الشّر أهون من بَعض
تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعيلن، فعول، مفاعيلن الضرب المقبوض
وحاملةٍ راحاً على راحةِ اليَدِ ... مُورَّدة تَسعَى بلون مُورَّدِ
متى ما ترى الإبريقَ للكأس راكعاً ... تُصَلِّ له من غير طُهر وتَسْجُدِ
على ياسَمين كاللّجين ونَرْجس ... كأقراط دُرّ في قَضيب زَبَرْجد
بتلك وهذِي فاله ليلَك كُلَّه ... وعنها فَسَلْ لا تسأل النَاسَ عن غَد
ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيك بالأخبارِ من لم تُزوِّد
تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن الضرب المحذوف المعتمد
أيقتُلني دائِي وأنتَ طبيبي ... قريب وهل مَن لا يرى بقَريبِ
لئن خنتَ عَهدي إنّني غيرُ خائِنٍ ... وأيّ مُحبٍّ خانَ عهدَ حَبيب
وساحبة فَضلَ الذّيول كأنها ... قَضِيب من الريحان فوقَ كَثِيب
إذا ما بدتْ من خِدْرها قال صاحبي ... أَطِعْني وخُذْ من وَصْلها بنَصيب
وما كُل ذي لُبٍّ بمؤُتيك نُصْحه ... وما كل مُؤْتٍ نُصْحه بلبيبِ
تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن فعولن، مفاعِيلن، فعول، فعولن يجوز في حَشو الطويل القبض والكَف. فالقَبض فيه حَسن: والكَف فيه قبيح. ويدخله الخَرم في الابتداء، فيقال له: أثلم. فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أثرم.
والخَرم: سقوط حركة من أول البيت، ولا يكون إلا في وتد. والقَبض: ما ذهب خامسه الساكن. والكفّ: ما ذهب سابعه الساكن. والاعتماد: سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية، اعتمد به فقبض. ولم تَجر فيه السلامة إلاّ على قبح. ولم يأت في الشعر إلاّ شاذّاً قليلاً. والاعتماد في المتقارب: سلامة الجزء الذي قبل القافية. والمحذوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف.
شطر المديد
هو مجزوء كله
له ثلاثة أعاريض وستة ضروب: فالعروض الأول منها مجزوء، وله ضرب مثله.
والعرض الثاني محذوف لازم الثاني، له ثلاثة ضروب لازمة الثاني: ضرب مقصور لازم الثاني، وضرب محذوف لازم الثاني، وضرب أبتر لازم الثاني. والعروض الثالث محذوف مخبون. له ضربان: ضرب مثله، وضرب أبتر لازم الثاني.
العروض المجزوء والضروب المجزوء
يا طويلِ الهَجْر لا تَنس وَصْلي ... واشتغالي بك عن كُل شُغل
يا هلالاً فوق جِيدِ غَزالٍ ... وقضيباً تحته دِعْصُ رَمْل
لا سلَتْ عاذلتي عنه نَفْسي ... أكثِري في حُبه أو أَقِلّي
شادِن يُزْهى بخَدٍّ وجِيدٍ ... مائس فاتن بحُسْن ودَل
ومتى مايَع منك كلاماً ... فتَكلَّم فيحجبك بعَقْل
تقطيعه
فعلاتن، فعلن، فعلاتن فعلاتن، فعلن، فعلاتن العروض المحذوف اللازم الثاني والضرب المقصور اللازم الثاني
يا وميضَ البَرق بين الغَمام ... لا عليها بلى عليك السلامْ
إنّ في الأحداج مَقْصورة ... وجهُها يَهْتك سِتْر الظَّلامْ
تَحسب الهَجر حلالاً لها ... وتَرى الوصلَ عليها حَرام
ما تأسِّيك لِدار خَلَتْ ... ولشعب شت بعْد التِئامْ
إنما ذكرُك ما قد مَضى ... ضلَّةٌ مِثل حديث المَنام
تقطيعه
فاعلاتن، فعلن، فاعلن فاعلاتن، فعلن، فاعلان الضرب المحذوف اللازم الثاني
عاتِب ظَلْتُ له عاتِبَاً ... رُبّ مَطْلوب غدَا طالِبا

مَن يتب عن حُب مَعْشوقه ... لستُ عن حُبِّي له تَائبَا
فالهوَى لي قَدَرٌ غالبٌ ... كيف أَعصي القدَر الغَالبا
سَاكِنَ القَصر ومَن حلّه ... أصبح القلبُ بكم ذاهِبا
اعلمُوا أنِّي لكم حافظٌ ... شاهداً ما عِشْتُ أو غائبا
تَقطيعه
فاعلالَن، فاعلن، فاعلن فاعلاتن، فاعلن، فاعلن الضرب الأبتر
أي تُفاح ورُمّانِ ... يُجتنى منِ خُوط رَيحانِ
أي ورد فوق خد بدا ... مستنيراً بين سُوسان
وَثَن يُعبد في رَوضة ... صِيغ من دُرّ ومَرْجان
مَن رأى الذَّلفَاء في خَلْوة ... لم يَر الحَدَّ على الزاني
إنّما الذَّلفاء يا قوتة ... أخرجت من كِيس دِهْقانِ
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلن، فاعلن فاعلاتن، فاعلن، فعلن العروض المجزوء المحذوف والمخبون ضربه
مِن مُحب شَفِّه سقمه ... وتلاشىَ لحمهُ ودَمُه
كاتب حَنّث صحيفته ... وبكَى مِن رحمة قَلَمُه
يَرفع الشكوَى إلى قَمر ... يَنْجلي عن وَجْهه ظُلمه
من لقَرْن الشمس جَبْهته ... وللَمع البَرق مبتسمه
خَلّ عَقلي يا مُسفِّهه ... إن عَقلي لستُ أَتّهمه
للفتى عَقل يَعيش به ... حيثُ تَهدي لساقَه قدُمه
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلن، فعلن فاعلاتن، فاعلن، فَعِلن الضرب الأبتر اللازم الثاني
زادني لَومُك إضرارا ... إنّ لي في الحُب أنصارا
طار قلبي مِن هَوى رَشإِ ... لو دَنا للقَلب ما طارا
خُذ بكفِّي لا أَمُتْ غَرَقاً ... إنّ بَحر الحُب قد فارا
أَنضجت نارُ الهَوى كَبدي ... ودُموعي تُطفئ النارا
رُبّ نارٍ بِتُّ أَرْمقها ... تَقْضِم الهِنْديّ والغَارا
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلن، فعلن فاعلاتن، فاعلن، فَعْلن يجوز في حشو المديد: الخَبن والكَف والشكل. فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن. والمكفوف: ما ذهب سابعه الساكن. والمشكول: ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان، وهو اجتماع الخَبن والكَف في فاعلاتن.
ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين، بين النون من فاعلاتن والألف من فاعلن لا يسقطان جميعاً، وقد يثبتان. فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه شيء فهو بريء. والمقصور: كما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من السبب. والأبتر: ما حذف ثم قطع.
شطر البسيط
البسيط له ثلاثة أعاريض وستة أضرب: فالعروض الأول مخبون تام، له ضربان: ضرب مثله، وضرب مقطوع لازم الثاني.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة أضرب: ضرب مذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع من الطي.
والعروض الثالث مقطوع ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
العروض المخبون والضرب المخبون
بين الأهلة بدر ماله فَلَكُ ... قلبي له سُلِّم والوجه مُشْتركُ
إذا بدا انتهبت عيني محاسِنه ... وَذَلّ قَلبي لعَينيه فينتهك
ابْتعت بالدّين والدُّنيا مودَّته ... فخانَني فَعلى مَن يرجع الدَّرَك
كفُّوا بني حارث أَلحاظَ رِيمكم ... فكلها لفؤادي كلِّه شرَك
يا حارِ لا أُرمين منكم بداهية ... لم يَلْقها سُوقة قَبْلي ولا مَلكُ
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فَعِلُن مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فَعِلُن الضرب المقطوع اللازم الثاني
يَا ليلة ليس في ظَلمائها نورُ ... إلا وُجوهاً تُضاهيها الدَّنانيرٌ
حُورٌ سَقَتْنيَ بكأس الموت أعينُها ... ماذا سَقَتْنيه تلك الأعينُ الحُور
إذا ابتسَمْن فُدرّ الثغَر مُنتظمِ ... وإنْ نَطَقن فدر اللفظ مَنْثور
خَلِّ الصِّبا عنك واحتِم بالنُّهى عملاً ... فإنّ خاتمةِ الأعمال تَكْفيرُ

والخَير والشرَّ مَقْرونان فيَ قرن ... فالخَبر مُتّبع والشر محذُور
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، فعلن، مستفعلن فَعْلن العروض المجزوء والضرب المذال
يا طالباً في الهَوى ما لا يُنالْ ... وسائلاً لم يعْفَ ذُلّ السّؤال
ولَت ليالي الصِّبا مَحمودةً ... لو أنها رَجعت تلك اللَّيالْ
وأعقبتها التي واصلتُها ... بالهَجر لمّا رأت شَيب القَذَال
لا تلتمس وُصلة من مُخلف ... ولا تَكُن طالباً ما لا يُنال
يا صاح قد أخلفت أسماءُ ما ... كانت تُمنَيك من حُسن الوِصال
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، مستفعلان الضرب المجزوء
ظالمتي في الهَوى لا تَظْلمي ... وتَصرمي حَبل مَن لم يَصْرِم
أهكذا باطلاً عاقِبْتني ... لا يَرْحم الله مَن لم يَرْحم
قتلتِ نفساً بلا نَفس وما ... ذَنْب بأعظمَ من سَفك الدَّم
لمِثل هذا بكَتْ عيني ولا ... للمنزل القَفْر وللأرْسم
ماذا وُقوفي على رَسمٍ عَفا ... مخْلولق دارسٍ مُسْتعجِم
قطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي
ما أقربَ اليأس من رَجائي ... وأبعَد الصبرَ من بُكائي
يا مُذكيَ النَّار في فؤادي ... أنت دَوَائي وأنت دائي
مَن لي بمُخلفة في وَعدها ... تَخلط لي اليأسَ بالرَّجاء
سألتها حاجةً فلم تَفُه ... فيها بنَعمٍ ولا بلاءَ
قلت استجيبي فلمّا لم تجب ... سالت دُموعي على ردائي
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن مستفعلن، فاعلن، فعولن العروض المقطوع الممنوع من الطي ضربه مثله
كآبة الذل في كتابي ... ونَخْوةُ العِزّ في جَوابي
قَتلتَ نفساً بغير نَفس ... فكيف تَنجُو من العذاب
خُلِقْت من بَهجة وطِيب ... إذ خلقِ الناسُ من تُراب
ولَّت حُميَّا الشَّباب عنّي ... فلهفَ نفسي على الشَباب
أصبحتُ والشَّيبُ قد عَلاَني ... يَدْعو حَثِيثاً إلى الخِضَابِ
تقطيعه
مستفعلن، فاعلن، فعولن مستفعلن، فاعلن، فعولن يجوز في حشو البسيط: الخَبن والطي والخبل. فالخبن: ما ذكرناه في المديد. والطي: ما ذهب رابعه الساكن. والمخبول: ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والطي في مستفعلن.
والخبن فيه حسن، والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح.
والمقطوع: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الوتد. والمذال: ما زاد على اعتداله حرف ساكن.
تمت الدائرة الأولى.
شطر الوافر
له عروضان وثلاثة ضروب فالعرض الأول مقطوف، له ضرب مثله. والعروض الثاني مجزوء ممنوع من العقل، له ضربان: ضرب سالم، وضرب معصوب.
العروض المقطوف الضرب المقطوف
تَجافى النومُ بعدك عن جُفوني ... ولكن ليسَ يجفوها الدموعُ
يطيب ليَ السُّهاد إذا افترقنا ... وأنت به يطيب لك الهجوعُ
يذكرني تبسمك الأقاحي ... ويَحكي لي تورّدك الرّبيع
يطير إليك من شوقٍ فُؤادي ... ولكن ليس تتركه الضُّلوع
كأنّ الشمسَ لما غِبْت غابت ... فليس لها على الدُّنيا طُلوع
فما لي عند لَذكّرك امتناع ... ودون لقائك الحِصْن المَنيع
إذا لم تَستطع شيئاً فدَعه ... وجاوزْه إلى ما تَستطيع
تقطيعه
مفاعلتن، مفاعْلتن، فعولن مفاعلْتن، مفاعلْتن، فعولن العروض المجزوء الممنوع من العقل
الضرب السالم
غزال زانه الحَور ... وساعد طَرْفه القَدَر
يُريكِ إذا بدا وجهاً ... حَكاه الشمس والقَمر
براه الله من نُور ... فلا جِنّ ولا بَشر
فَذَاك الهمُّ لا طَلل ... وقفتَ عليه تَعْتَبر

أهاج منزل أَقوى ... وغَيّر آيه الغِير
تقطيعه
مفاعلتن، مفاعلتن مفاعلتن، مفاعلتن الضرب المعصوب
وَبدْرٍ غير ممحوق ... من العقيان مخلوق
إذا أسقيت فَضْلته ... مَزَجتُ بريقه رِيقي
فيالك عاشقاً يسقي ... بقيَّة كأس مَعْشوق
بكيتُ لنَأْيه عَنّي ... ولا أَبكي بتشهيق
لمنزلة بها الأفلا ... ك أَمثال المَهاريق
تقطيعه
مفاعلتن، مفاعلتن مفاعلتن، مفاعيلن يجوز في حَشو الوافر: العَصب والعقل والنقص. فالعصب فيه حسن، والنقص فيه صالح، والعقل فيه قبيح.
ويدخله الخرم في الابتداء، فتستقط حركة من أول البيت، ويسمى أعصب.
فإذا دخله العصب مع الخرم، قيل له: أقصم. فإذا دخله النقص مع الخرم، قيل له: أعقص. فإذا دخله العقل مع الخرم، قيل له: أجم.
والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرك. والمنقوص: ما سكن خامسه المتحرك وذهب سابعه الساكن. والمقطوف: ما ذهب من آخره سبب خفيف وسكن آخر ما بقي. ولا يدخل القطف إلا في العروض والضرب من تام الوافر.
شطر الكامل
الكامل له ثلاثة أعاريض وتسعة ضروب. فالعروض الأول تام، له ثلاثة ضروب: ضرب تام مثله، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره، وضرب أحذ مضمر.
والعروض الثاني أحذ، له ضربان: ضرب مثله، وضرب مضمر.
والعروض الثالث مجزوء، له أربعة ضروب: ضرب مرفّل، وضرب مُذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع، إلا من سلامة الثاني وإضماره.
العروض التام الضرب التام
يا وَجْهَ مُعتذر ومُقلةَ ظالمٍ ... كمَ من دَم ظُلماً سفكت بلا دَم
أَوَجَدْتِ وصلي في الكِتاب مُحرما ... ووجدتِ قَتلي فيه غيرَ مُحرّم
كم جَنةٍ لكِ قد سكنتُ ظِلالَها ... مُتفكِّهاً في لَذة وَتنعّم
وشربتُ من خَمر العيون تعلّلا ... فإذا انتشيت أجود جُود المِرْزم
وإذا صحوَتُ فما أقصّرَ عن ندَى ... وكما علمتِ شمائلي وتَكرُّمي
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلاّ من الإضمار والسلامة
حَالَ الزمانُ فبدّل إلا مالا ... وكَسا المَشيبُ مَفارقاً وقَذالاَ
غنيتْ غواني الحَيّ عنك وربما ... طلعتْ عليك أكَلّة وحِجَالا
أَضَحى عليكَ حلالُهن مُحرماً ... ولقد يكون حرامُهن حَلالا
إنْ الكواعِبَ إنْ رأينك طاوياً ... وِصْلَ الشبابِ طَوين عنك وِصالا
وإذا دَعَونك عَمَّهن فإنه ... نسب يزيدكَ عندهن خَبالا
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلاتن الضرب الأحذ المضمر
يوم المُحب لِطوله شَهر ... والشهر يحسب أنه دهر
بأبي وأُمي غادة في خَدّها ... سِحْر وبين جُفونها سحْر
الشمسُ تَحسب أنها شَمس الضحى ... والبَدر يَحسب أنها البَدر
فسَل الهَوى عنها يُجيب إن نأتْ ... فسَل القِفار يُجيبك القَفر
لمَن الديارُ برامَتَيْن فعاقِلٌ ... دَرست وغَيّر أيها القَطر
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض الأحذ الثالث ضربه مثله
أمّا الخليطُ فشَدّ ما ذَهبوا ... بانُوا ولم يَقضُوا الذي يَجبُ
فالدارُ بعدهُم كوَشْم يَدٍ ... يا دارُ فيك وفيهمُ العَجَبُ
أين التي صِيغت محاسنُها ... من فِضّة شِيبت بها ذَهب
ولّى الشبابُ فقلت أندُبه ... لا مثلَ ما قالوا ولا نَدبوا
دِمَنٌ عَفت ومَحا معاَلمها ... هَطِلٌ أجَشُ وبارِح تَرِب
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، فعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن الضرب الأحذ المضمر
عينيّ كيفَ غَررتُما قلبي ... وأبحتُماه لوعةَ الحُبِّ

يا نظرةً أذكتْ على كَبدي ... ناراً قضيتُ بحرّها نَحْبي
خَلُّواً جَوى قلبي أَكابده ... حَسبي مُكابدةُ الجَوى حَسْبي
عَينيِ جنتْ من شُؤم نَظرتها ... ما لا دواءَ له على قَلْبي
جانيك مَن يَجني عليك وقد ... تُعدي الصحاحَ مبارك الجُرب
قطيعه
متفاعلن، متفاعلن، فعلن متفاعلن، متفاعلن، فعلن العروض المجزْوء والضرب المجزوء المرفل
هتك الحبابَ عن الضمائر ... طَرْف به تُبلَى السَّرائرْ
يَرنو فيمتحن القُلو ... بَ كأنه في القَلب ناظر
يا ساحراً ما كنتُ أع ... رف قَبله في الناس ساحر
أقصيتني من بعد ما ... أدنيتَني فالقلبُ طائر
وغررتَني وزعمتَ أن ... ك لابن بالصَيف تامِر
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلاتن الضرب المذال
يا مقلة الرّشأ الغَري ... ر وشُقّة القَمر المنيْر
ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلَّة والسُّتور
إلا وضعتُ يدِي على ... قَلبي مخافةَ أن يطير
هَبْني كبعض حمام مك ... ة واستمِع قولَ النَّذير
أَبُنيّ لا تَظْلم بمك ... ة لا الصَّغير ولا الكَبير
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلان الضرب المجزوء
قُل ما بدا لك وافعل ... واقطَعْ حِبالَك أَوْصل
هذا الربيعُ فَحيِّه ... وانزلْ بأكرم مَنزل
وصِل الذي هو واصلٌ ... فإذا كَرهت فبدِّل
وإذا نَبا بك منزلٌ ... أو مَسكن فتحوَّل
وإذا افتقرت فلا تَكُن ... مُتخشعاً وتَجمّل
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن، متفاعلن الضرب المقطوع الممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره
يا دَهرُ ماليَ أُصْفي ... وأنت غير مُواتِ
جَرّعَتني غُصصاً بها ... كدّرتَ صفو حياتي
أينَ الذَين تَسابقوا ... في المجد للغايات
قوم بهم رُوح الحيا ... ة ترد في الأموات
وإذا هُمُ ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن متفاعلن فعلاتن يجوز في الكامل من الزحاف: الإضمار والوَفص والخزل. فالإضمار فيه حسن، والوقص فيه صالح. والخزل فيه قبيح.
فالمضمر: ما سكن ثانيه المتحرك.
والموقوص: ما ذهب ثانيه المتحرك.
والمخزول: ما سكن ثانية المتحرك وذهب رابعه الساكن.
ويدخله من العلل القطع والحذ. فالمقطوع، ما تقدم ذكره. والأخذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع.
شطر الهزج
الهزج له عَروض: واحد مجزوء ممنوع من القبض. وضربان: ضرب سالم، وضرب محذوف.
العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله
أيا مَنْ لامَ في الحُبِّ ... ولم يَعلم جَوى قَلبِي
ملاِمُ الصّبّ يُغويه ... ولا أَغوى من القَلب
فأنيُ لمتَ في هند ... مُحِبّاً صادق الحُبِّ
وهند ما لها شِبه ... بشَرْق لا ولا غَرب
إلى هِنْد صَبا قَلْبي ... وهِنْد مثلُها يصبي
تقطيعه
مفاعيلن، مفاعيلن مفاعيلن، مفاعيلن الضرب المجزوء المحذوف
مَتى أشفي غليلِي ... بنَيل من بَخيل
غَزال ليس لي مِنه ... سِوى الحُزن الطويل
جميل الوجه أخلاني ... من الصَّبر الجَميل
قَد حَملت الضيَم فيه ... من حَسود وعَذول
وما ظَهري لباغي الضَّي ... م بالظَّهر الذِّلول
تقطيعه
مفاعيلن، مفاعيلن مفاعيلن، فعولن يجوز في الهَزج من الزحاف القبض والكف. فالكف فيه حسن. والقبض فيه قبيح. وقد فسرنا المقبوض والمكفوف في الطويل أيضاً.
ويدخله الخرم في الابتداء، فيكون أخرم. فإذا دخله الكف مع الخرم، قيل له: أخرب فإذا دخله القبض مع الخرم، قيل له: أشتر. والخرم كله قبيح.

شطر الرجز
الرجز له أربعة أعاريض وخمسة ضروب. فالعروض الأول تام، له ضربان: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ.
والعروض الثاني مجزوء، له ضرب مثله مجزوء.
والعروض الثالث مشطور، له ضرب مثله.
والعروض الرابع منهوك، له ضرب مثله.
العروض التام الضرب التام
لم أَدْر جِنِّيٌّ سَباني أم بَشرْ ... أم شَمس ظُهر أشرَقت لي أم قَمَرْ
أم ناظِر يهدي المَنايا طَرفُه ... حتى كأنّ الموتَ منه في النَّظر
يُحي قَتيلاً ما له من قاتِلِ ... إلاّ سِهام الطّرف رِيشت بالحَوَر
ما بال رَسم الوَصل أضحَى داثراً ... حتى لقد أذكرتَني ممّا دثر
دارٌ لسَلمى إذ سُليمى جارة ... قَفْراً تُرى آياتُها مِثل الزبر
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن الضرب المقطوع الممنوع من الطي
قَلب بلوعات الهَوى معمودُ ... حَيّ كَمَيْت حاضرٌ مَفْقودُ
ما ذقت طعم الموت في كأس الأسى ... حتى سَقَتْنيه الظباءُ الغِيدُ
من ذا يداوي القلبَ من داء الهوى ... إذ لا دواءٌ للهَوى مَوجود
أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلا قَضاءٌ ما له مَرْدود
القلبُ منها مُستريح سالمٌ ... والقَلب مني جاهد مجهودُ
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن مستفعل العروض المجزوء الضرب المجزوء
أعطيته ما سألا ... حكّمتُه لو عَدلا
وهبتُه رَوحي فما ... أدري به ما فَعلا
أسلمته في يده ... عَيَّشه أم قَتلا
قَلبي به في شُغل ... لا مَلَّ ذاك الشغلا
قَيّده الحُب كما ... قَيّد راع جَملاً
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن العروض المشطور الضرب المشطور
يأيها المَشغوف بالحبّ التَّعِبْ ... كم أنت في تَقْرِب ما لا يَقتربْ
دَعْ ودّ من لا يَرعوي إذا غَضب ... ومَن إذا عاتبته يوماً عَتب
إنك لا تَجني من الشوك العِنَب
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن العروضِ المنهوك الضرب المنهوك
بياضُ شَيْب قد نصَعْ ... رفعتُه فما ارتفع
إذا رأى البِيض انقمع ... مِن بين يأس وطَمَعْ
للّه أيام النَّخع ... يا ليتني فيها جَذع أخُبُّ فيها وأَضع
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن ويجوز في حشو الرجز: الخبن، والطي، والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح. وقد مضى تفسير الطي والخبن والخبلِ في البسيط. ويدخله من العلل: القطع، وقد ذكرناه. ويكون مجزوءاً. والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزِء، ومن آخر العجز جزء. ويأتي مشطوراً. والمشطور: ما ذهب شطوه. ويأتي منهوكاً. والمنهوك: ما ذهب من شطره جزآن وبقي على جزء.
شطر الرمل
الرمل له عروضان وستة ضروب. فالعروض الأول محذوف جائز فيه الخبن. له ثلاثة ضروب: ضرب متمم وضرب مقصور جائز فيه الخبن، وضرب محذوف مثل عروضه.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة ضروب: ضرب مسبغ، وضرب مجزوء مثل عروضه الجائز فيه الخبن، وضرب محذوف جائز فيه الخبن.
العروض المحذوف الجائز فيه الخبن الضرب المتمم
وأنَا في اللَّذات مَخلوع العِذارِ ... هائم في حب ظَبي ذي احْورارِ
صُفرة في حُمرة في خدّه ... جمعتْ روضة وَرْد وبَهار
بأبي طاقةُ آسٍ أقبلت ... تَتَثَنّى بين حِجْل وسِوار
قادني طَرفي وقَلبِي للهَوى ... كيف من طَرفي ومِن قلبي حِذارِي
لو بغير الماء حَلقي شَرقٌ ... كنتُ كالغَصّان بالماء اعتصارِي
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المقصور

يا مُدير الصُّدغ في الخدّ الأَسيلْ ... ومُجيل السِّحر بالطرف الكَحيلْ
هل لمحزون كَئيب قُبلة ... منكَ يَشفي بَردُها حَرَّ الغَليل
وقليل ذاك إلاّ أنه ... ليس مِن مثلك عندي بالقَليل
بأبي أحورُ غَنَى مَوهناً ... بغناءٍ قصَّر الليلَ الطويل
يا بني الصّيداء ردُّوا فَرسي ... إنما يفعل هذا بالذَّليل
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلان الضرب المحذوف
شادن يَسحب أذيال الطَّربْ ... يَتَثنّى بين لَهو ولعبْ
بِجَبين مفْرغٍ من فِضَّة ... فوق خدٍّ مُشرَب لونَ الذهب
كَتَب الدمعُ بخدّي عَهده ... للهوَى والشوقُ يُملي ما كَتب
ما لجهلي ما أراه ذاهباً ... وسوادُ الرأس منّي قد ذَهب
قالت الخنَساء لمّا جِئْتُها ... شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهب
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن العروض المجزوء الضرب المسبغ
يا هلالاً في تَجنّيهِ ... وقضيباً في تثنيه
والذي لست أسميه ... ولكنّي أكنِّيه
شادِن ما تقدر العينَ ... تَراه من تَلالِيه
كلما قابله شخص ... رأى صورته فيه
لان حتى لو مشى الذّ ... ر عيله كاد يدميه
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتان الضرب المجزوء
يا هلالاً قد تجلّى ... في ثِياب من حَريرْ
وأميراً بهواه ... قاهراً كُلّ أمير
ما لخدّيك استعارَاً ... حُمرة الوَرد النضير
ورُسوم الوَصل قد ألْ ... بستها ثوبَ دُثور
مُقفرات دارسات ... مثلَ آيات الزبور
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن الضرب المجزوء المحذوف الجائز فيه الخبن
يا قتيلاً من يده ... ميّتاً من كمَده
قدحتْ للشوق ناراً ... عينُه في كَبده
هائم يبكي عليه ... رحمةً ذو حسده
كل يوم هُو فيه ... مستعيذ من غَده
قلبُه عند الثريا ... بائن عن جَسده
تقطيعه
فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن، فعلن يجوز في الرمل من الزحاف: الخَبن والكَف والشكل. فالخبن فيه حسن. والكف فيه صالح. والشكل فيه قبيح. وقد فسرنا المكفوف والمخبون.
فأما المشكول: فهو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
ويدخله التعاقب في السيبين المتقابلين، على حسب ما يدخل في المديد.
ويدخله من العلل الحذف والقصر والإسباغ. وقد فسرنا المحذوف والمقصور.
وأما المسبغ: فهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن، مما يكون في آخره سبب خفيف، وذلك فاعلاتن يزاد عليها حرف ساكن فيكون فاعلاتان.
شطر السريع
السريع له أربعة أعاريض وسبعة أضرب: فالعَروض الأول مَكسوف مَطوي لازم الثاني، له ثلاثة ضروب: ضرب موقوف مطوي لازم الثاني، وضرب مكسوف مطوي لازم الثاني مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثاني مخبول مكسوف، له ضربان: ضرب مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثالث مشطور موقوف ممنوع من الطي، ضربه مثله.
والعروض الرابع مشطور مكسوف ممنوع من الطي، ضربه مثله.
العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوي اللازم الثاني
بكيت حتى لم أدعْ عَبرةً ... إذ حَملوا الهَودج فوق القَلوصْ
بُكاءَ يَعقوبَ على يُوسفٍ ... حتى شَفى غُلته بالقميص
لا تأسفِ الدهرَ على ما مَضى ... والقَ الذي ما دونه من مَحيص
قد يُدرك المبطئ من حَظه ... والخيرُ قد يَسبق جُهد الحَريص
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فاعلان الضرب المكسوف المطوي اللازم الثاني
للهّ دَرُ البَين ما يَفعلُ ... يَقتل مَن شاء ولا يُقْتلُ

بانُوا بمَن أهواه في ليلةٍ ... ردّ على آخرها الأوّل
يا طُولَ ليل المُبتلي بالهَوى ... وصبْحُه مِن ليله أطول
الدارُ قد ذكَرني رسمها ... ما كِدتُ عن تَذكاره أذْهل
هاج الهَوى رسم بذات الغَضى ... مُخْلولق مستعجم مُحْوِل
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فاعلن الضرب الأصلم السالم
قَلبي رهين بين أضلاعي ... من بين إيناسٍ وإطماع
من حيثُ ما يدعوه داعِي الهَوى ... أجابه لَبَّيْك مِن داعي
مَن لِسَقيم ماله عائدٌ ... وَميِّت ليس له ناعي
لما رأتْ عاذلتي ما رأتْ ... وكان لي من سَمعها واعِي
قالتْ ولم تَقْصد لقِيل الخَلني ... مَهْلاً لقد أبلغتَ أسماعِي
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المخبول المكسوف ضربه مثله
شَمس تجلّت تحت ثَوب ظُلَمْ ... سقيمةُ الطَّرف بغير سقَمْ
ضاقت عليّ الأرضُ مُذ صَرّمتْ ... حَبلي فما فيها مكانُ قَدم
شمس وأقمارٌ يطوف بها ... طَوْفَ النَّصارى حول بيت صَنَم
النشر مِسك والوُجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عَنم
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن الضرب الأصلم السالم
أنتَ بما في نفسه أعلمْ ... فاحكُم بما أحببتَ أن تَحْكُمْ
ألحاظُه في الحُب قد هتكت ... مَكْتومِه والحبّ لا يُكتم
يا مُقلة وحشيّة قَتلت ... نفساً بلا نَفس ولم تَظْلم
قالت تسلّيت فقلتُ لها ... ما بال قلبي هائم مغْرم
يأيهاي الزَاري على عمَر ... قد قلتَ فيه غير ما تَعلم
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، فعلن مستفعلن، مستفعلن، فعلن العروض المشطور الموقوت الممنوع من الطي ضربه مثله
خَلّيتُ قلبي في يدَيْ ذات الخالْ ... مصفدا مُقيّدا في الأغلالْ
قد قُلت للباكي رسومَ الأطلال ... يا صاح ما هاجَك من رَبعٍ خال
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مفعولان العروض المشطور المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
ويحى قتيلاً مالَه من عَقْل ... بشادنٍ يَهتزّ مثلَ النَّصل
مُكَحّل ما مَسّه من كُحل ... لا تَعذُلاني إنني في شُغل
يا صاحبَيْ رحلِي أقلا عَذْلي
تقطيعه
مستفعلن، مستفعلن، مفعولن ويجوز في السريع من الزحاف: الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حَسن. والطي صالح، والخبل فيه قبيح.
ويدخله من العلل: الكسف والوقف والصلم. فالمكسوف: ما ذهب سابعه المتحرك. والموقوف: ما سكن سابعه. والأصلم: ما ذهب من آخره وتد مفروق. والمشطور: ما ذهب شطره.
شطر المنسرح
المنسرح له ثلاثة أعاريض وثلاثة ضروب: فالعروض الأول ممنوع من الخبل، له ضرب مطوي.
والعروض الثاني منهوك موقوف ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
والعروض الثالث منهوك مكسوف ممنوع من الطي، له ضرب مثله.
العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوي
بَيْضاء مَضْمومة مُقرطقة ... يَنْقدّ عن نهَدها قَراطقُها
كأنما بات نعماً جَذِلا ... في جَنة الخُلد مَن يُعانقها
وأيّ شيء ألذّ مِن أمل ... نالتْه مَعْشوقة وعاشِقُها
دَعْني أمُت من هوى مَخدَّرةٍ ... تَعلق نفسي بها عَلائقها
مَن لم يَمُت غِبْطة يَمُت هَرَما ... الموتُ كأسٌ والمَرء ذائقها
تقطيعه
مستفعلن، مفعولات، مستفعلن مستفعلن، مفعولات، مفتعلن العروض المنهوك الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله
أقصرتُ بعض الإقصارْ ... عن شادن نائي الدارْ
صَبرني لما سارْ ... ولم أكُن بالصبار
وقالَ لِي باستعبار ... صبراً بني عبد الدَّار
تقطيعه

مستفعلن، فعولات العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
عاضَتْ بوصلٍ صَدا ... تُريد قتلي عَمْدَا
لمَا رأتني فَردا ... أبكي وألقَى جَهْدَا
قالت وأبدتْ دُرًّا ... وَيَلُم سَعْد سَعْدَا
تقطيعه
مستفعلن، مفعولن يجوز في المُنسرح من الزحاف. الخبن والطي والخبل. فالخبن فيه حسن. والطي فيه صالح. والخبل فيه قبيح.
ويدخله من العلل: الوقف والكسف. وقد فسرناهما في السريع.
والمنهوك: ما ذهب شطره، ثم ذهب منه شطر بعد الشطر.
شطر الخفيف
الخفيف له ثلاثة أعاريض وخمسة ضروب.
فالعروض الأول منه تام، له ضربان: ضرب يجوز فيه التشعيث، وضرب محذوف يجوز فيه الخبن.
والعروض الثاني جائز فيه الخبن، له ضرب مثله.
والعروض الثالث مجزوء، له ضربان: ضرب مثله مجزوء، وضرب مجزوء مقصور مخبون.
العروض التام الضرب التام الجائز فيه التشعيب
أنتِ دائي وفي يديكِ دوائِي ... يا شفائي من الجَوى وبَلائِي
إنّ قلبي يُحب من لا أُسمِّي ... في عَنَاء أعْظِم به من عَناءِ
كيفَ لا كَيف أنْ ألذّ بعَيش ... مات صَبري به وماتَ عَزائِي
أيها اللائمون ماذا عليكم ... أنْ تَعِيشوا وأنْ أموتَ بدائي
ليس مَن مات فاستراح بمَيْت ... إنّما المَيْت ميّت الأحياء
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن فاعلاتن، متفعلن، مفعولن الضرب المحذوف يجوز فيه الخبن
ذات دَلّ وشاحُها قَلِقُ ... من ضُمور وحِجْلها شَرِق
بَزّت الشمس نورَها وحَباها ... لَحْظَ عينيه شادن خَرِق
ذَهَب خَدّها يَذُوب حَياءً ... وسِوَى ذاك كُله وَرِق
إن أمُت مِيتَة المُحبّين وَجْداً ... وفؤادي من الهَوى حَرِق
فالمَنايا من بين غادٍ وسارٍ ... كلّ حَيٍّ بَرْهنها غَلِق
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن فاعلاتن، متفعلن، فعلن العروض المحذوف الجائز فيه الخبن ضربه مثله
يا غليلا كالنار في كَبدي ... واغتراب الفُؤاد عن جَسدِي
وجُفوناً تَذْري الدموعَ أسىً ... وتَبيع الرُّقاد بالسهد
ليتَ مَن شفّني هواه رأَى ... زَفراتِ الهَوى على كَبدي
غادة نازح محلّتها ... وَكَلَتْني بلَوْعة الكَمَد
ربّ خَرْق من دونها قذفٌ ... ما به غَير الجِنّ من أحد
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فعلن فاعلاتن، مستفعلن، فعلن العروض المجزوء والضرب المجزوء
ما لليلَى تبدَّلتْ ... بعدنا وُدَّ غَيْرنا
أرهقتنا ملامةً ... بعد إيضاح عُذْرنا
فسلوْنا عن ذِكرها ... وتسلّت عن ذِكْرنا
لم نَقل إذ تَحرّمت ... واستهلت بَهجْرنا
ليت شِعري ماذا ترى ... أمّ عَمرو في أمرنا
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن، مستفعلن
الضرب المجزوء المقصور المخبون
أشرقت لي بُدور ... في ظَلام تُنيرُ
طار قلبي بحُبّها ... مَن لقَلبِ يَطير
يا بُدوراً أنا بها الد ... هر عانٍ أسير
إنْ رضيتُم بأن أمُو ... ت فمَوتي حَقير
كُل خطب إن لم تَكو ... نوا غَضبتم يسير
تقطيعه
فاعلاتن، مستفعلن فاعلاتن، فعولن يجوز في الخفيف من الزحاف: الخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن و فاعلاتن لا يسقطان معاً، وقد يثبتان. وذلك أن وتد مستفع لن في الخفيف والمجتث كله مفروق في وسط الجزء. وقد بينا التعاقب في المديد.
ويدخله من العلل: التشعيث والحذف والقصر. وقد بينا المحذوف والمقصور.
وأما التشعيث، فهو دخول القطع في الوتد من فاعلاتن التي من الضرب الأول من الخفيف فيعود مفعولن.

شطر المضارع
المُضارع له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضرب مجزوء ممنوع من القبض مثل عروضه، وهو:
أرى للصّبا وداعَا ... وما يذكر اجتماعَا
كأن لم يكن جديراً ... بِحفْظ الذي أَضاعا
ولم يُصبنا سُرورا ... ولم يلهنا سماعا
فجدّد وصالَ صَبّ ... متى تَعْصه أطاعا
إن تَدْن منه شِبْرا ... يقرِّبْك منه باعا
تقطيعه مفاعلين، فاعلاتن مفاعلين، فاعلاتن يجوز في حشو المضارع من الزحاف: القبض والكف في مفاعيلن، ولا يجتمعان فيه لعلّة التراقب: ولا يخلو من واحد منهما. وقد فسرنا التراقب مع التعاقب. وبدخله في فاعلاتن الكف. فأما القبض فُهو ممنوع منه وتد فاع لاتن في المضارع، لأنه مفروق وهو فاع. والنراقب في المضارع بين السببين من مفاعيلن في الياء والنون لا يثبتان معاً ولا يسقطان معاً، وهو في المقتضب بين الفاء والواو من مفعولات.
شطر المقتضب
المقتضب له عروض واحد مجزوء مطوي وضرب مثل عروضه، وهو:
يا مليحةَ الدَّعَج ... هل لديك من فرج
أم تُراك قاتلتِي ... بالدَّلال والغنَج
من لُحسن وَجهك من ... سُوء فِعْلك السمج
عاذليّ حَسْبكما ... قد غرقت في لُجج
هل عليّ وَيحُكما ... إن لهوتُ من حَرج
تقطيعه فاعلاتن، مفتعلن فاعلاتن، مفتعلن يدخل التراقب في أول البيت في السببين المتقابلين. على حسب ما ذكرناه في المضارع.
شطر المجتث
له عروض واحد مجزوء ضربه مثله
وشادن ذي دَلال ... مُعصب بالجمال
يَضَنّ أَنْ يَحتويهَ ... معي ظلامُ اللَّيالي
أو يَلتقي في منامي ... خياله مع خيالي
غُصنٌ نَما فوق دِعْص ... يَختال كل اختيال
البَطن منها خَمِيص ... والوَجه مثل الهلال
تقطيعه مستفع لن، فاعلاتن مستفع لن، فاعلاتن يجوز في المجتث: الزحاف والخبن والكف والشكل. فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفع لن وفاعلاتن على حسب ما يدخل الخفيف، وذلك لأن وتد مستفع لن في المجتث مفروق، كما هو في الخفيف مفروق، وذلك يقع.
شطر المتقارب
المتقارب له عروضان وخمسة أضرب. فالعروض الأول منها تام يجوز فيه الحذف والقصر. له أربعة ضروب: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقصور، وضرب محذوف معتمد، وضرب أبتر. والعروض الثاني مجزوء محذوف معتمد، له ضرب مثله معتمد.
العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام
حالَ عن العَهد لما أحالا ... وزال الأحبّة عنه فَزَالاَ
مَحلّ تَحُل عُراها السَّحاب ... وتَحكي الجَنوبُ عليه الشمالا
فيا صاح هذا مَقام المُحبّ ... وَربع الحَبيب فَحُطَّ الرِّحالا
سَل الرَّبع عن ساكنيه فإنّي ... خرست فما أستطيع السُّؤالا
ولاَ تُعْجلّني هَداك المليكُ ... فإنَّ لكُل مَقام مقالا
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن فعولن، فعولن الضرب المقصور
فُؤادي رَميْتَ وعَقْلي سَبَيْتَ ... ودَمْعي مَرَيتَ ونومي نَفَيتَ
يَصُد اصطباري إذا ما صَدَدت ... ويَنأى عَزائي إذا ما نأيت
عَزمت عليك بمجَرى الوِشاح ... وما تحت ذلك مما كنيت
وتُفّاح خَدٍّ ورُمَّان صَدْر ... ومَجناهما خير شيء جَنَيت
تجدّد وصلاً عفا رسمهُ ... فمثلُك لمّا بدا لي بَنَيتَ
على رَسْم دار قفار وَقَفْتَ ... ومِن ذكر عهد الحَبيب بَكَيْت
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن، فعولن، فعولن الضرب المحذوف المعتمد
أيا ويح نَفسي ووَيل أمها ... لِمَا لَقِيَتْ من جَوَى هَمِّها
فديتُ التي قتلتْ مُهجتي ... ولم تَتَّق الله في دَمِّها

أَغُضّ الجُفونَ إذا ما بَدَتْ ... وأكني إذا قيل لي سمِّها
أُداري العيون وأَخشى الرقيب ... وأَرْصُد غَفْلة قيّمّها
سبتْني بِجيد وَخَدِّ ونحر ... غَداةَ رَمَتْني بأسهمها
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن، فعل فعولن، فعولن، فعولن، فعل الضرب الأبتر
لاَ تبك لَيْلَى ولا مَيّه ... ولا تَندُبَنْ راكباً نِيّه
وبَكِّ الصّبا إذ طَوى ثَوْبه ... فلا أَحدٌ ناشِرٌ طيّه
ولا القَلب ناس لما قد مَضى ... ولا تاركٌ أبداً غَيّه
ودَع قول باكٍ على أرْسم ... فَليس الرُّسوم بمَبكيّه
خَلِيلي عُوجاً على رَسم دارٍ ... خَلَت من سُليمى ومن مَيّه
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن فعولن، فعولن، فعولن، فع العروض المجزوء المحذوف المعتمد ضربه مثله
أأُحرمْ منْك الرّضا ... وتذكر ما قد مَضى
وتَعرض عن هائم ... أبَى عنكَ أن يُعرضا
قَضىَ الله بالحُبّ لي ... فصبراً على ما قَضىِ
رميتَ فؤادي فمَا ... تركتَ بهِ مَنْهضاً
فقَوْسك شرِيانَة ... ونَبْلك جمر الغَضا
تقطيعه
فعولن، فعولن، فعل فعولن، فعولن، فعل يجوز في المتقارب من الزحاف: القبض. وهو فيه حسن. ويدخله الحزم في الابتداء، على حاسب ما يدخل الطويل.
وقد أكملنا في هذا الجزء مختصر المثال في ثلاث وستّين مُقطعة، وهي عدد ضرُوب العروض، والتزمنا فيها ذكر الزّحاف والعلل التي يقوم ذكرها في الجزء الأول الذي اختصرنا فيه فرش العروض، ليكون هذا الكتاب مكتفياً بنفسه، لمَن قد تأدّى إليه معرفةُ الأسباب والأوتاد ومواضعها من الأجزاء الثمانية التي ذكرناها في مختصر الفرش.
واحتجنا بعد هذا إلى اختلاف الأبيات التي استشهد بها الخليل في كتابه، لتكون حجة لمَن نظر في كتابنا هذا. فاجتلبنا جملة الأبيات السالمة والمعتلة، وما لكل شطر منها.
أبيات الطويل
العروض المقبوض
الضرب السالم
أبا مُنذر أفْنيت فاستَبْق بعضَنا ... حنانَيْك بعضُ الشرّ أهونُ من بَعض
ضرب مقبوض
ستُبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد
أثلم مكفوف
شاقَتْك أحداج سلَيمَى بعاقلٍ ... فعيناكَ للبَيْن يَجُودان بالدمع
أثرم
هاجك رَبْع دارِسٌ باللَوى ... لأسماء عفَى المُزنُ والقَطْرُ
محذوف معتمد
وما كُل ذي لُب بمُؤتيك نُصحَه ... وما كُل مؤتٍ نُصحه بلَبيب
أَقيموا بني النُّعمان عنا صُدورَكم ... وإلا تُقيموا صاغرين الرءوسا
أبيات المديد
عروض مجزوء
ضرب مجزوء
يا لبكر انشرُوا لي كُليباً ... يا لبكر أين أين الفِرارُ
ضرب مجزوء
مخبون صدر
ومتى مايَع منك كلاماً ... يتكلَم فيجبك بعَقْل
مكفوف عجز
لن يزال قومنا مخصبين ... صالحين ما اتَقَوا واستقامُوا
مشكول عجز
لمن الدّيارُ غَيّرهنّ ... كلّ جَوْنِ المُزْن داني الرَّبابِ
مشكول طرفاه
ليت شعري هل لنا ذاتَ يومٍ ... بجُنون فارع من تَلاق
العروض المحذوف اللازم الثاني
الضرب المقصور، اللازم الثاني
لا يضرن امرأً عيشُه ... كُل عيش صائر للزوال
الضرب المحذوف، وواللازم الثاني
واعلموا أني لكم حافظٌ ... شاهداً ما كنتُ أو غائبا
الضرب الأبتر، اللازم الثاني
إنما الذلفاء ياقوتة ... أُخرجت من كِيس دِهقان
العروض المحذوف المخبون
الضرب المحذوف المخبون
للفتى عقل يَعيش به ... حيث تَهدي ساقه قدمُه
الضرب الأبتر
ربَّ نارٍ بتُّ أَرمقها ... تَقضم الهنديَّ والغارا
أبيات البسيط
العروض المخبون
الضرب المخبون

يا حارِ لا أُرمَينْ منكم بداهيةٍ ... لم يَلْقها سوقةٌ قبلي ولا مَلِك
مخبون
لقد حلّت صُروفَها عَجب ... فأحدَثتْ عِبراً وأَعقبت دُوَلا
مطوي
ارتحلُوا غُدوةً وانطلقوا بكَراً ... في زُمَرٍ منهم تتبعها زُمَرُ
الضرب المقطوع
اللازم الثاني
قد أشهد الغارةَ الشَّعواء تَحملني ... جَرداء مَعْروقة اللحْيين سُرحوبُ
والخير والشرّ مَقْرونان في قَرن ... فالخيرُ مُتَّبع والشرُ مَحْذورُ
العروض المجزوء
الضرب المذال
إنّا ذَمَمْنا على مَا خَيّلت ... سَعْد بن زَيدٍ وعمراً من تميم
مخبون
قد جاءكم أنكم يوماً إذا ... فارقتم الموتَ سوف تُبعثون
مطوي
يا صاح قد أخلفَتْ أسماءُ مَا ... كانت تمنِّيك من حُسن الوِصال
الضرب المحذوف
ماذا وُقوفي على ربع خلا ... مُخْلولقٍ دارس معجم
مخبون
إنِّي لمُثْنٍ، عليها استمعوا ... فيها خصال تُعدُّ أربعُ
مطويِ
تَلقى الهَوى عن بني صادق ... نفسي فِداهُ وأُمَي وأبي
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
سِيروا معاً إنما ميعادُكم ... يومُ الثلاثاء ببطن الوادِي
قلت استجيبي فلمّا لم تُجب ... سالت دُموعي على ردائي
العروض المقطوع الممنوع من الطيِ
ما هَيَّج الشوقَ من أطلال ... أضحت قفاراً كوَحْي الواحِي
أبيات الوافر
العروض المقطوف
الضرب المقطوف
لنا غَنم نُسوِّقها غزار ... كأن قرون جلّتها العِصيّ
إذا لم تستطع شيئاً فدَعْه ... وجاوزْه إلى ما تَستطيعُ
معقول
منازل لفَرتنى قِفارُ ... كأنما رسومُها شُطورُ
أعصب
إذا نَزل الشتاء بدارِ قومٍ ... تجنَّب جارَ بيتهم الشِّتاءُ
أقصم
ما قالوا لنا سيِّداً ولكن ... تفاحش قولُهم فأتوا بهُجْرِ
وإنك خير مَن رَكب المَطايا ... وأكرمُهم أباً وأخاً وَنْفسَاً
العروض المجزوء الممنوع من العقل
ضربه مثله
لقد علمت ربيعة أن ... حَبلك واهن خَلَقُ
أهاجك منزلٌ أَقوَى ... وغَيْر آيه الغِيَرُ
الضرب المعصوب
عجبتُ لمعشر عدلوا ... بمُعتمر أبا عَمْرِو
أبيات الكامل
العروض التام الضرب التام
وإذا صحوتُ فما أقصر عن ندى ... وكما علمتِ شمائلي وتكرّمِي
المضمر
إنّي امرؤٌ من خير عَبس مَنصبي ... شَطْري وأَحمي سائِري بالمنصل
موقوص
يَذُب عن حَرِيمه بنَبله ... وسَيفه ورُمحه ويحْتمِي
مخزول
مَنزلة صمًّ صداها وعفا ... رسمها إن سُئِلت لم تُجِبِ
الضرب المقطوع
ممنوع إلا من الإضمار
وإذا دعونَك عَمهن فإنه ... نسب يَزيدك عندهنّ خَبالا
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ... ذُخراً يكون كصالح الأعمالِ
الضرب الأحذ المضمر
لمَن الديارُ برامَتين فعاقلٌ ... دَرست وغَيَّر آيها القَطْرُ
العروض الأحذ السالم
الضرب الأحذ المضمر
لمَن الديار عفا معالمها ... هَطْل أجشُّ وبارح تَربُ
الضرب الأحذ المضمر
ولأنت أشجعُ من أُسامة إذ ... دُعيت نَزال ولُجّ في الذعر
العروض المجزوء
الضرب المرفل
لقد سبقتم إل ... ى فَلِمْ نَزَعْتَ وأنت آخِر
المضمر
وغرتني وزعمت إن ... ك لابنٌ في الصَّيف تامر
موقوص
ذَهبُوا إلى أَجلٍ وك ... ل مؤجل حيّ كذاهب
الضرب المذال
جَدَث يكون مقامه ... أبداً بمُختلف الرّياح
مضمر
إذا اغتبطت أو ابتأسْ ... تُ حمدت ربّ العالمين
موقوص
كُتب الشقاءُ عليهما ... فهما له مُتيسرّ إن
مخزول
جاوبت إذ دعاك ... معالنا غير مخاف
الضرب المجزوء

وإذا افتقرت فلا تكُن ... متخشّعاً وتَجمَّلِ
مضمر
إذا الهوى كَرِه الهُدى ... وأَبَى التُقى فاعص الهَوى
موقوص
ولو أنها وزنت شمام ... بحِلْمه شالتْ لَه
مخزول
خطت مرارتها ... بحلاوةٍ كالعَسل
الضرب المقطوع الممنوع إلا من إضمار
وإذا هم ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحَسناتِ
مضمر
وأبو الحليس ورب مك ... ة فارغ مشغول
أبيات الهزج
العروض المجزوء الممنوع من القبض
ضربه مثله
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي
مكفوف
فهذان يَذودان ... وذا من كثب يرمي
مقبوض
فقالت لا تخف شيّاً ... فما عندك من باس
أثرم
أعادُوا ما استعاروه ... كذاك العيش عاريه
أخرب
ولو كان أبو بشر ... أميراً ما رَضِيناه
أبتر
وفي الذين ماتُوا ... وفيما جَمّعوا عِبْره
الضرب المحذوف
وما ظهري لباغي الض ... يم بالظَّهر الذّلول
مثله
قتلنا سيّد الخَزر ... ج سَعد بن عُباده
أبيات الرجز العروض التام
الضرب التام
دار لسلمى إذ سليمى جارةٌ ... قَفْر تَرى آياتها مثل الزُّبر
مخبون
وطالما وطالما سَقَى ... بكفِّ خالِدٍ وأطْعما
مطوى
فأرسل المهر على آثارهم ... وَهيّأ الرُّمحَ لطعنٍ فطَعَنْ
مخبول
ما ولدتْ والدة من وَلدٍ ... أكرمَ من عَبد مناف حَسبَا
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
القلب منها مُستريح سالمٌ ... والقلبُ مني جاهد مجهودُ
لا خَير فيمن كفَّ عنا شرّه ... إذ كان لا يُرجى ليوم خَيرُه
العروض المجزوء الضرب المجزوء
قد هاج قلبي منزل ... من أم عمروا مقفر
مخبول
مات الفَعَال كُلّه ... إذ مات عبد ربه
مطوى
هل يَستوي عندك مَن ... تَهوى ومَن لا تِمقُه
مخبول
لا متك بنت مَطر ... ما أنت وابنة مَطَر
العروض المشطور الضرب المشطور
ما هاج أحزاناً ... وشَجواً قد شجا
إنك لا تَجني من الشوك العِنب مخبون
قد تعلمون أنن ... ي ابنُ أختكم
مطوى
ما كان من ش ... يخك إلا عمله
مخبول
هلا سألت ... طللا وخِيمَاً
مطوى العروض المنهوك
يا ليتني فيها جَذع ... أخب فيها وأضع
مخبون
فارقت غي ... ر وامق
مخبول
يا صاح ... فيما غضبوا
أبيات الرمل
العروض المحذوف والجائز فيه الخبن
الضرب المتمم
مثل سَحق البُرد عَفَّى بعدك ال ... قطر مَغْناه وتأويبُ الشَّمال
مخبون صدر
وإذا رايةُ مجد رُفعت ... نَهض الصَّلتُ إليها فحَواها
مكفوف عجز
ليس كُلّ مَنْ أراد حاجةً ... ثم جَدّ في طِلابها قَضاها
مشكول عجز
فَدعُوا أبا سعيد عامراً ... وعليكمْ أخاهُ فاضرْبوه
مشكول طرفان
إنَ سعداً بطل مُمارسٌ ... صابر محتسب لما أصابه
الضرب المقصور
يا بَني الصَّيداء رُدوا فَرسي ... إنما يُفعل هذا بالذَّليل
أحمدتْ كِسْرى وأمسىَ قيصر ... مُغلَقاً من دونه بابُ الحديد
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
قالت الخَنساءُ لمّا جِئتُها ... شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهبْ
مخبون
كيف تَرجونَ سُقوطي بعدما ... لَفع الرأسَ مَشيبٌ وصَلَع
الضرب المشبع
يا خليليّ أَربعا فاست ... خبرا رَسْماً بعسفانِ
مخبون
واضحات فارسيَّا ... ت وأدم عربيّات
الضرب المجزوء
مُقْفرات دارسات ... مثل آيت الزَّبور
الضرِب المشبع
لانَ حتى لو مشى الذَ ... رّ عليه كادَ يُدْمِيهِ
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن

ما لِمَا قَرّت به العي ... نان من هذا ثمين
مخبون
قلبه عند الثريّا ... بائنٌ من جسده
أبيات السريع
قد يُدرك المُبطئ من حَظه ... والخيرُ قد يسبق جُهد الحَرِيص
العروض المكفوف
المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف اللازم الثاني
أَزْمانَ سَلْمى لا يَرى مثلَها ال ... راءون في شامٍ ولا في عِراقْ
مخبول
قالها وهو بها عارف ... ويحك أمثالُ طَريفٍ قلِيل
مخبون
أردْ مِن الأمور ما يَنبغي ... وما تُطيقه وما يَسْتقيم
الضرب المكسوف اللازم الثاني
لا تَكسع الشَّولَ بأغبارها ... إنك لا تَدري من النَّاتجُ
هاج الهوى رسم بذات الغَضى ... مُخلولق مُسْتعجم مُحْوِل
الضرب الأصلم السالم
قالت ولم تَقْصِد لِقيل الخَنَى ... مهلاً فقد أبْلغت أَسماعِي
الضرب المخبون المكسوف
النَّشر مسكٌ والوجوه دنا ... نير وأطرافُ الأكفّ عَنَمْ
يأيها الزاري على عَمرو ... قد قُلتَ فيه غير ما تَعلم
العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطي
يا صاح ما هاجك من رَبْع خَال ... يَنْضحن في حافاته بالأبْوال
مخبون
لا بد منه فاح ... ذرن وإن فتن
مشطور
يا صاحبي رحلي ... أقلاّ عذلي
مخبون الضرب المشطور المكسوف الممنوع من الطي
يا رب إن أخطأتُ أو نَسيت
وبلدةٍ بعي ... دة النياط
أبيات المنسرح العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوى
إنّ ابن زَيد ما زال مستعملا ... للخير يُهدي في مِصرْ العرْفا
من لم يَمُت عَبْطَةَ يَمت هَرماً ... الموت كأس والمَرء ذائقها
ومثله
إنَ سُمَيراً أَرى عَشيرَته ... قد حَدبوا دونه وقد أنِفوا
المطوى
منازلَ عفاهنّ بذي الأراك ... كُلّ وابل مسبل هَطِل
مخبون
في بَلَدٍ معروفة سمته ... قَطَّعه عابر على جَمل
مخبول
صبراً بني عبد الدار
العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي
ضربه مثله
ويل أم سعد سعدا
أبيات الخفيف
العروض التام
الضرب التام الجائِز فيه التشعيث
حَل أهلي بَطن الغُميس فبادُوا ... لَي وحلّت عُلوية بالسخال
ليس من مات فاستراح بمَيْت ... إنما الميتُ ميّت الأحياءِ
مخبون صدر
وفؤادي كعهده بسُليمى ... بهوى لم يَزل ولم يتغيَّر
مكفوف عجز
وأقلّ ما يظهر مِن هَواكا ... ونَحن نَسْتكثر حين يَبْدو
مشكول عجز
إنَّ قومي جَحاجحة كرم ... مُتقادم مَجْدهم أخيارُ
مشكول طرفان
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
إنْ قَدرنا يوماً على عامر ... نمْتَثل منه أو نَدعه لكم
مخبون
رُب خَرْق من دونها قذَف ... ما به غيرُ الجِنّ من أَحَد
العروض المجزوء
الضرب المجزوء
ليت شِعريَ ماذا تَرى ... أم عمرو في أمرنا
مثله
اسْلمي أُمّ خالد ... رُبّ ساعٍ لقاعد
الضرب المقصور المخبون كُل خطب إن لم تكونوا غَضبتمْ يسيرُ أبيات المضارع
العروض المجزوء الممنوع من القبض
وإن تدن منه شبراً ... يُقرِّبْك منه باعَا
مقبوض
دعاني إلى سُعادٍ ... دَواعي هَوى سعاد
أخرب
وقد رأيت مثل الرّجال ... فما أرى مثل زَيْد
أشتر
قلنا لهم وقالوا ... كُلٌّ له مَقال
أبيات المقتضب
العروض المجزوء المنطوي
الضرب المجزوء المنطوي
هل علي وَيحكما ... إنْ لهوتُ من حرج
مخبون
أعرضتْ فلاح لها ... عارضان كالبرد
أبيات المجثث
العروض المجزوء
البطن منها خَميصٌ ... والوجه مثل الهلال
الضرب المجزوء
ولو علقت بسلمى ... علمت أن ستموت

أولئك خير قومي ... إذ ذكر الخيار
أنت الذي ولدتك أس ... ماء بنت الحباب
أبيات المتقارب العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر الضرب التام
فأمّا تميم تميم بن مُرّ ... فألقاهُم القومُ روبى نِيامَا
ومثله
فلا تُعجلنّي هداك المليكُ ... فإنّ لكُل مَقام مَقالا
مقبوص
أفاد فجاد وساد وزاد ... وذاد وعاد وقاد وأَفْضل
أثلم
رَمينا قِصاصاً وكان التَّقاصّ ... حقّاً وعدلاً على المسلِمينا
أثرم
قلت سداداً لمن جاءني ... فأحسنتُ قولاً وأحسنتُ رأيا
مثل الأول
ولولا خِداش أخذت دوا ... ب سعد ولم أعطه ما عليها
الضرب المقصور
ويأوى إلى نسوة بائسات ... وشعتٍ مَراضيع مِثْل السَّعالِي
مثله
على رسم دارٍ قفار وقفتُ ... ومِنْ ذِكْر عَهْد الحَبيب بكيت
مثله مقصور الضرب المحذوف المعتمد
وأبني مِن الشِّعر شعراً عَوِيصاً ... يُنسيِّ الرواة الذي قد رَوَوْا
سبَتْني بخَدِّ وجِيد ونحر ... غَداةَ رمتْني بأسهمها
الضرب الأبتر
غير معتمد الاعتماد في المتقارب بإثبات النون في فعولن التي قبل القافية
خليليّ عُوجاً على رسم دار ... خَلَت من سُليمى ومن مَيّه
مثله
صفيّة قُومي ولا تَعجزي ... وبكّي النِّسَاءَ على حَمزِة
الضرب المحذوف
أمن دِمنة أقفرتْ ... لسليمى بذات الغَضَا
المجزوء المعتمد
ورُوحك النَّادِي وتعلم ما في غدا
علل القوافي
القافية حرف الرويّ الذي يُبني عليه الشعر، ولا بد من تكريره فيكون في كل بيت والحروف التي تلزم حرف الروي أربعة: التأسيس، والردف، والوصل، والخروج: فأما التأسيس، فألف يكون بينها وبين حرف الروي حرف متحرك بأيّ الحركات كان، وبعض العرب يسميه الدَّخيل، وذلك نحو قول الشاعر:
كِلِيني لهم يا أميمة ناصب
فالألف من ناصب تأسيس. والصاد، دخيل. والباء، روي. والياء المتولدة من كَسرة الباء، وصل. أما الردف، فإنه أحد حروف المد والّلين، وهي الياء والواو والألف. يدخل قبل حرف الرويّ. وحركة ما قبل الرِّدف بالفتح إذا كان الردف ألفا، وبالضم إذا كان واوا، وبالكسر إذا كان ياء. والأرداف ثلاثة: فردف يكون ألفا مفتوحا ما قبلها. وردف يكون واوا مضموماً ما قبلها، وردف يكون ياء مكسوراً ما قبلها.
وقد تجتمع الياء والواو في شعر واحد، لأن الضمة والكسرة أختان، كما قال الشاعر:
أجارةَ بيتنا أبوك غَيورُ ... ومَيْسور ما يُرجَى لديك عَسيرُ
فجاء بغيور مع عسير ولا يجوز مع الألف غيرها، كما قال الشاعر:
بان الخليطُ ولو طُووِعَت ما بانا
وجِنس ثالث من الرِّدف، وهو أن يكون الحرفُ مَفتوحاً، ويكون الرِّدف ياء أو واو، نحو قول الشاعر:
كُنت إذا ما جئته من غَيب ... يَشَم رأسي ويشَممّ جيبي
وأما الوصل. فهو إعراب القافية وإطلاقها. ولا تكون القافية مطلقةً، إلا بأربعة أحرف: ألف ساكنة مَفتوح ما قبلها من الرويّ، وياء ساكنة مكسور ما قبلها من الرويّ، وهاء متحركة أو ساكنة مكنيّة.
ولا يكون شيء من حُروف المُعجم وصلاً غير هذه الأحرف الأربعة: الألف والواو والياء والهاء المكنّية. وإنما جاز لهذه أن تكون وصلاً ولمَ يَجُز لغيرها من حروف المُعجم، لأنّ الألف والياء والواو حُروف إعراب ليست أصليّات، وإنما تتولّد مع الإعراب، وتشبّهت الهاء بهن لأنها زائدة مثلهن. ووجدوها تكون خَلفا منهن في قولهم: أَرقت الماء، وهرقت الماء، وأيا زيد، وهيازيد. ونحو قول الشاعر:
قد جمعت من مكن وأَمْكنه ... من هاهنا وهاهنا ومن هُنه
وهو يريد هنا، فجعل الهاء خلفا من الألف.
وأما الخروج فإنّ هاء الوصل إذا كانت متحرّكة بالفتح تبتْها ألف ساكنة وإذا كانت متحركة بالكسر تبعتها ياء ساكنة، وإذا كانت متحركة بالضم تبعتها واو ساكنة. فهذه الألف والياء والواو يقال لها الخروج. وإذا كانت هاء الوصل ساكنةً لم يكن لها خروج، نحو قول الشاعر:
ثارَ عَجَاج مستطيل قَسْطلُه

وأمّا الحَركات الَلوازم للقوافي فخمس، وهي: الرس والحَذْو والتَّوجيه والمجرى والنَّفاذ. فأما الرَّس، ففتحة الحرف الثاني قبل التأسيس.
وأما الحَذو، ففتحة الحرف الذي قبل الرِّدف أو ضَمته أو كسرته. وأما التَّوجيه، فهو ما وجه الشاعرُ عليه قافيتَه، من الفتح والضم والكسر، يكون مع الرويّ المُطلق أو المُقيّد، إذا لم يكن في القافية رِدف ولا تأسيس.
وأما المجرى: ففتحِ حَرف الرويّ المُطلق أو ضَمته أو كسرته.
وأما النفاذ، فإنه فتحة هاء الوصل أو كَسرتها أو ضَمتها. ولا تجوز الفتحة مع الكسرة، ولا الكسرة مع الضمة، ولكن تنفرد كل حركة منها على حالها وقد يَجتمع في القافية الواحدة الرَّس، والتأسيس، والدَخيل، والرويّ، والمَجرى، والوَصل، والنفاذ، والخُروج، كما قال الشاعر:
يُوشك من فَرّ من مَنيته ... في بَعض غراته يوافقها
فحركة الواو الرس، والألف تأسيس، والفاء دخيل، والقاف رَويِّ، وحركته المجرى، والهاء هاء الوصل، وحركتها النفاذ، والألف الخروج. ونحو قول الشاعر:
عَفَت الديارُ مَحلّها فمقامُها
فحركة القاف الحذو، والألف الردف، والميم الرويّ، وحركتها المجرى، والهاء وصل، وحرَكتها النفاذ، والألف الخروج. وكل هذه الحروف والحركات لازمة للقافية.
ما يجوز أن يكون تأسيساً وما لا يجوز أن يكون
إذا كانت ألف التأسيس في كلمة وكان حَرف الرويّ في كلمة أخرى منفصلةٍ عنها فليس بحرف تأسيس، لانفصاله من حرف الرويّ وتباعده منه، لأنّ بين حرف الرويّ والتأسيس حرفاً متحركاً. وليس كذلك الرِّدف، لأنّ الردف قريب من الرويّ ليس بينهما شيء، فهو يجوز أن يكون في كلمة ويكون الروي في كلمة أخرى منفصلة عنها، نحو قول الشاعر:
أتته الخلافةُ مُنقادةً ... إليه تُجرّر أذياَلها
فلم تكُ تصلحُ إلا لَه ... ولم يكُ يَصُلحُ إلاّ لها
فألف: إلا رِدف. واللام، حرف الروي، وهي في كلمة منفصلة من الردف، فجاز ذلك لقرب ما بين الردف والرويّ، ولم يَجز في التأسيس، لتباعده من الروي، نحو قول الشاعر:
فهن يعكفن به إذا حَجَا ... عَكْفَ النَّبيط يَلعبون الفَنْزَجَا
فلم يجعلها تأسيساً لتباعدها عن الروي، وانفصالها منه. ومثله قول الراجز:
وطالمَا وطالمَا وطالمَا ... غلبتُ عاداً وغلبتُ الأَعجما
فلم يجعل الألف تأسيساً. وقد يجوز أن تكون تأسيساً إذا كان حرف الرويّ مضمراً، كما قال زُهير:
ألا ليتَ شِعري هل يَرى الناسُ ما أَرى ... مِن الأمر أو يَبدو لهم ما بدَاليَا
فجعل ألف بداليا تأسيساً، وهي كملة منفصلة من القافية لما كانت القافية في مُضمر. وكذلك قولُ الشاعر:
وقد يَنْبُت المَرعَى على دِمَن الثَّرى ... وتَبقى حَزازات النُّفوس كما هِيَا
وأما غلامك وسلامك في قافية فلا تكون الألف إلا تأسيساً، لأن الكاف التي هي حرف الرويّ لا تَنفصل من الغلام.
ما يجوز أن يكون حرف روي وما لا يجوز أن يكون
اعلم أن حروف الوصل كُلَّها لا يجوز أن تكون رويّا، لأنها دخلت على القوافي بعد تمامها، فهي زوائد عليها، ولأنها تَسقط في بعض الكلام. فإذا كان ما قبل حرف الوصل ساكناً فهو حرف الرويّ، لأنه لا يكون ما قبل حرف الرويّ ساكناً، نحو قول الشاعر:
أصبحتِ الدُّنيا لأربابها ... مَلْهَى وأَصبحتُ لها مَلْهَى
كأنّني أُحرَم منها على ... قَدْر الذي نال أبي مِنْها
وإذا حُرّكت ياء الوصل أو واو الوصل جاز لها أن تكون رويّا، كَما قال زُهير:
ألا ليتَ شِعْري هل يَرى الناسُ ما أرَى ... مِن الأمر أو يَبدُو لهمْ ما بدَاليَا
وقال عبد الله بنُ قيس الرقيات:
إنّ الحوادثَ بالمَدينة قد ... شيبتني وقَرْعَن مَرْوتيهْ
وكذلك الهاء من طلحة وحمزة وما أشبههما لا تكون رويا أو وصلا لما قبلها. وجعلها أبو النَجم رويا فقال:
أقول إذ جِئْن مُدبجاتِ ... ما أقربَ الموتَ من الحَياةِ

وكذلك التاء نحو اقشعرت واستهلت، والكاف نحو: مالكا وفعالكا فقد يجوز أن تكون رويّا وقد يجوز أن تكون وصلا. وإنما جاز أن دون رويّا لأنها أقوى من حرف الوصل، وجاز أن تكون وصلاً لأنها دخلت على القوافي بعد تمامها. وقد جعلت الخَنساء التاء وصلاً ولزمت ما قبلها، فقالت:
أعينيّ هلاّ تبكيان أخاكما ... إذا الخَيلُ منِ طُول الوَجيف اقشعرتِ
فلزمت الراء في الشعر كله وجعلت التاء صلةَ. وقال آخر فجعل، التاء رويا
الحمدُ للّه الذي استقلّتِ ... بإذنه السماءُ واطمأنّتِ
وقال حَسان فجعل الكاف رويّا:
دعُوا فَلجات الشام قد حِيل بينها ... بطَعن كأفواه المَخاض الأواركِ
بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربّهم ... بأَسيافِهم حقّاً وأيدي المَلائك
ثم قال:
إذا سلكت بالرمل منَ بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريقُ هُنالِك
وهنالك كافها زائدة، تقول للرجل: هنالك، وللمرأة: هنالك. ، وقال غيره:
أبا خالدٍ يا خيرَ أهل زمانِكَا ... لقَد شَغلِ الأفواهَ حسنُ فَعالكَا
فجعل الكاف رويّا. وقد يجوز أن تكون وصلاَ ويُلزم ما قبلهَا.
وكذلك فعالكم وسلامكم الميم الآخرة حرف الرويّ، كما قال الشاعر:
بنو أُمية قومٌ من عَجيبهم ... أنّ المَنون عليهم والمَنون هُمُ
الميم، حرف الرويّ. وقد جعلها بعضُ الشعراء وصلاً مع الهاء والكاف التي قبلها، لأنهما حرفا إضمار كالهاء والكاف، ولحقت الاسم بعد تمامه كما لحقت الهاء والكاف، في نحو قوله:
زرْ والدَيْك وقِفْ على قَبريْهما ... فكأنني بكَ قد نُقلتَ إليهما
ومثلُه لأميّة بن أبي الصَلت:
لَبّيكُما لَبَّيكماها ... ها أنذا لَدَيْكما
وأما النّسبة مثلِ ياء قُرشيّ وثَقفيّ وما أشبه ذلك، إذا كانت خفيفةً فأنت فيها بالخيار، إن شئت جعلتها رويّا وإن شئتَ وصلاً، نحو قول الشاعر:
إنّي لمن أنكرني ابنُ اليَثربِي ... قتلتُ عِلبْاء وهِنْد الجملي
فجعل الياء الخفيفة روّيا، وإذا كانت النسبة مثقلة مثل قرشيّ وثَقفي لم تكن إلا رويّا. وإذا قال شعراً على حصاها ورماها لم تكن الهاء إلا حرف الرويّ.
ومن بني شعرا على اهتدى فجعل الدال روّيا جاز له أن يجعل مع ذلك أحمدا. وإن جعل الألف من اهتدى حرف الرويّ لم يجز معها أحمدا وجاز له معها بشرى وحُبلى وعَصا وأفعى، ومن ذلك قولُ الشاعر:
داينتُ أَروي والدُّيونُ تُقضىَ ... فمطلَتْ بَعَضاً وأدت بَعْضَا
فلزم الضاد من تقضى وجعل الياء وصلاً، فشبّهها بحرف المدّ الذي في القافية.
ومثله:
ولأنت تَفْري ما خَلقت وبع ... ض القوم يَخلُق ثم لا يَفْرِي
ومثله:
هجرتْك بعد تَواصل دَعْدُ ... وَبدا لدَعْد بَعض ما يَبْدُو
ويرمي، مع يقضي جائز إذا كانت الياء حرف الرويّ، لأنها من أصل الكلمة.
ومما لا يجوز أن يكون رويّا الحروف المضمرة كلها، لدخولها على القوافي بعد تمامها، مثل اضربا، واضربوا، واضربي، لأن ألف اضربا لحقت اضرب وواو اضرِبوا لحقت اضرب، وياء اضربي لحقت اضرب بعد تمامها: فلذلك كانت وصلاَ، لأنها زائدة مع هذا الفعل، في نحو قول الشاعر:
لا يُبعد الله جيراناً تركتهُم ... لم أدرِ بعد غداةِ البَيْن ما صنعوا
ومثله:
يا دار عَبلة بالجواء تكلّمي ... وعمِي صباحا دار عبلة واسلمي
فجعل الياء وصلا، وبعضهم جعلها روّياً على قُبح.
وأما ياء غلامي فهي أضعف من ياء اسلمي لأنها قد تُحذف في بعض المواضع تقول: هذا غلام، تريد غلامي. وقالوا. يا غلام أقبل: في النداء وواغلاماه، فحذفوا الياء، وبعضهم يجعلها روِّياً على ضعفها، كما قال:
إني امرؤ أحمِي ذمار إخْوتي ... إذا رأوا كريهةً يرمون بِي
ومثله:
إذا تغدّيت وطابتْ نَفْسي ... فليس في الحَيّ غلاَم مِثْلي
قال الأَخفش: وقد كان الخَليل يُجيز إخواني مع أصحابي. ويأبي عليه العلماءُ، ويحتجّ بقول الشاعر:
بازل عامَين حديثُ سنّى ... لمثل هذا ولدتْني أمِّي

وحرف الإضمار إذا كان ساكناً كان ضعيفاً. فإذا تحرَّك قَوِي وجاز أن يكون رويّاً، كقول زُهير:
ألا ليت شِعري هل يَرى الناسُ ما أَرى ... مِن الأَمر أو يَبْدو لهم ما بدَاليَا
وإنما جاز الكاف أن تكون رويّاً ولم يجز ذلك للهاء، وكلاهما حرف إضمار، لأن الكاف أقوى عندهم من الهاء وأثبت في الكلام. وإذا خاطبت المذكر والمؤنث لا تبدل صورتها كما تُبدل الهاء، في: غلامه وغلامها. وإذا قلت: مررت بغلامك، ورأيت غلامك، فالكاف في حال واحدة، والهاء مضطربة في قولك. رأيت غلامه، ومررت بغلامه. وإنما جاز فيها أن تكون وصلاً أيضاً كما تكون الهاء، لأنها تشبهت بالهاء إن كانت حرف إضمار كالهاء، ودخلت على الاسم كدخول الهاء، وكانت اسماً للحرف كما تكون الهاء، وإنما خالفتها بالشيء اليسير. وأما قولك: ارمه، واغزه، فلا تكون الهاء ها هنا روياً، لأنها لحقت الاسم بعد تمامه، ولأنها زوائد فيه، وإنما دخلت لتبيّن الحركة من اغزه والميم من ارمه. وقد تدخل للوقف أيضاً. وإذا كانت الهاء أصلية لم تكن إلاّ روّياً: مثل قول الشاعر:
قالت أبيلَىِ لي ولم أسَبَّهِ ... ما السنّ إلا غَفلة المُدلَّه
ومن بَنى شعراَ على حيّ جاز له فيه طيّ وميّ ، لأن الياء الأولى من حي ليست بردف، لأنها من حرف مثقل قد ذهب مجده ولينه.
قال سيبويه: إذا قال الشاعر: تعالى أو تعالوا، لم تكن الياء والواو إلا رويِّاً، لأنَّ ما قبلها انفتح. فلما صارت الحركة التي قبلها غيّر حركتهما ذهبت قوتهما في المدّ وأكثر لينهما.
وكذلك: اخشي واخشوا. وكل ياء أو واو انفتح ما قبلها. وكذلك قوله: رأيت قاضياً ورامياً، وأريد أن يغزو وتدعو، في قافيتين منِ قصيدة.
وأما الميم من غلامهم وسلامهم فقد تكون رويّاً وقد تكون وصلا، ويلزم ما قبلها، كما قال الشاعر:
يا قاتَل الله عُصبةً شَهِدوا ... خَيف مِنى لي ما كان أسرعهم
إنْ نزلوا لم يكُن لهم لَبثٌ ... أو رَحلوا أعجلوا مُودَعهم
لا غَفر الله للحجيج إذا ... كان حَبيبي إذا نأوْا معهم
فالعين، هنا حرف الرويّ، والهاء والميم صلة لحروف الإضمار كلها التي تقدّم ذكرها. ولا يَحسن أن يكون رويّاً إلا ما كان منها مُحرّكاً، لأنّ المتحرك أقوى من الساكن، وذلك مثل ياء الإضافة التي ذكرنا، أو ما كان منها حرفاً قويّاً مثل الكاف والميم والنون، فإنها تكون روّياً، ساكنةً كانت أو متحركة، وذلك مثل قول الشاعر:
قِفي لا يكُن هذا تعلّةَ وَصْلِنا ... لبَيْنٍ ولا ذا حَظَّنا من نَوالكِ
ثم قال:
أبرّ وأوفى ذمّةً بعُهدوه ... إذا وُوزنت شُمّ الذُّرى بالحَوارِكِ
وقال آخر:
قُل لمنِ يَملك الملو ... ك وإن كان قد مُلِك
قد شرَيناك مرّةً ... وبعَثْنا إليك بِك
وقال آخر في الميم:
رقَوْني وقالوا يا خُويلد لا ترعَ ... فقلت وأنكرتُ الوُجوه همُ همُ
ولآخر:
نَمت في الكِرام بني عامرٍ ... فُروعي وأصلي قُريش العَجَمْ
فهُمْ لي فَخر إذا عُدّدوا ... كما أنا في النّاس فَخْر لهم
وقال آخَر في النونِ:
طَرحتم من التَرحال أمراً فَعمَنا ... فلو قد رحلتُم صَبّح الموتُ بَعضَنا
وقال آخر:
فهل يَمنعنّي ارتيادِي البِلاَ ... د من حَذَر الموت أن يأتينْ
أليس أخو المَوت مُستوثقَاً ... عليّ وإنْ قلت قد أنسأن
وأما الهاء. فقد أجمعوا ألا تكون رويّاً لضعفها، إلا أن يكون ما قبلها ساكناً، كما قد ذكرنا. ومَن بَنى شعراً على اخشَوا جاز له معها: طغوا، وبغوا، وعصوا، فتكون الواو رويّاً لانفتاح ما قبلها وظهورها مع القبح، لأنها مع الضمة صلة، ولا تكون هذه إلا رويّاً.
عيوب القوافي
السناد، والإيطاء، والإقواء، والإكفاء، والإجازة، والتضمين، والإصراف.
السناد على ثلاثة أوجه: فالوجه الأول منها اختلاف الحرف الذي قبل الرِّدف بالفتح والكسر، نحو قول الشاعر:
ألمِ تَر أَنّ تَغْلب أهلُ عِزٍّ ... جِبالُ مَعاقِل ما يُرتَقينَا
شربنا من دِماء بني تَميم ... بأطراف القَنا حتى رَوِينَا

والوجه الثاني اختلافُ التوجيه في الروي المُقيّد، وهو اجتماع الفَتحة التي قبل الرويّ مع الكسرة والضمة، كهيئتها في الحَذْو، وذلك كقوله:
وقاتم الأعماق خاوي المُخترقْ
ثم قال:
ألَّف شتَى ليس بالراعي الحَمِقْ
ومثله:
تَميم بن مُرّ وأشياعُها ... وكِنْدة حَولي جميعاً صبُر
إذا رَكبوا الخيلَ واستلأموا ... تحرَّفت الأرضُ واليوم قُرّ
والوجه الثالث من السناد أن يُدخل حرف الرِّدف ثم يدعه، نحو قول الشاعر:
وبالطَّوف نالا خيرَ ما أصبحا به ... وما المرء إلاّ بالتقلّب والطَّوْفِ
فِراق حَبيب وانتهاء عن الهَوى ... فلا تَعذُليني قد بدا لك ما أخفِي
وأما القافية المُطلقة فليس اختلاف التوجيه فيه سناداً.
وأما الإقواء والإكفاء فهما عند بعض العلماء شيء واحد، وبعضهم يجعل الإقواء في العروض خاصة دون الضرب، ويجعلون الإكفاء والإيطاء في الضرب دون العروض.
فالإقواء عندهم أن تنقص قوة العروض، فيكون: مفعولن في الكامل، ويكون في الضرب متفاعلن فيزيد العجز على الصدر زيادة قبيحة. فيقال: أقوى في العروض، أي أذهب قوته، نحو قول الشاعر:
لما رأت ماء السلى مَشروبَا ... والفَرث يُعْصَر في الإناء أرَنت
ومثله:
أفبعد مَقتل مالك بن زُهير ... ترجو النساء عواقبَ الأطهارِ
والخليل يُسمى هذا المُقعَر. وزعم يونس أن الإكفاء عند العرب هو الإقواء. وبعضُهم يجعله تبديل القوافي، مثل أن يأتي بالعين مع الغين لشبههما في الهجاء، وبالدال مع الطاء، لتقارب مخرجيهما، ويحتج بقول الشاعر:
جارية من ضَبة بن أدّ ... كأنها في دِرْعها المنعط
والخليل يُسمى هذا الإجازة. وأبو عمرو يقول: الإقواء: اختلاف إعراب القوافي بالكسر، والضم، والفتح. وكذلك هو عند يونس وسيبويه.
والإجازة عند بعضهم اجتماع الفتح مع الضم أو الكسر في القافية. ولا تجوز الإجازة إلا فيما كان فيه لوصل هاء ساكنة، نحو قول الشاعر:
الحمدُ للّه الذي ... يَعْفو ويشتد انتقامُه
في كرْههم ورِضَاهمُ ... لا يستطيعون اهتضامه
ومثله:
فديت من أنصفني في الهَوى ... حتى إذا أحكمه ملَّه
أينما كنتُ ومَن ذا الذي ... قبلي صَفا العيشُ له كُلَه
والإكفاء: اختلاف القوافي بالكسر والضم، عند جميع العلماء بالشعر، إلا ما ذكر يونس. وأما المُضمن، فهو أن لا تكون القافية مُستغنيةً عن البيت الذي يليها، نحو قول الشاعر:
وهم وَردوا الجفار على تَميم ... وهم أصحابُ يوم عُكاظ إني
شهدتُ لهم مَواطن صالحاتٍ ... تُنبِّئهم بودّ الصَّدر مِني
وهذا قبيح، لأنَ البيت الأول متعلق بالبيت الثاني لا يستغني عنه، وهو كثير في الشعر. وأما الإيطاء، وهو أحسن ما يُعاب به الشعر، فهو تكرير القوافي. وكلما تباعد الإيطاء كان أحسن، وليس في المعرفة مع النكرة إيطاء.
وكان الخليل يزعم أن كل ما اتفق لفظُه من الأسماء والأفعال، وإن اختلف معناه فهو إيطاء، لأنّ الإيطاء عنده إنما هو تَرديد اللفظتين المُتفقتين من الجنس الواحد، إذا قلت للرجل تخاطبه: أنت تضرب، وفي الحكاية عن المرأة: هي تضرب، فهو إيطاء. وكذلك في قافية: أمر جلل، وأنت تريد تعظيمه، وهو في قافية أخرى جلل وأنت تريد تهوينه، فهو إيطاء. حتى إذا كان اسم مع فعل، اسم، وإن اتفقا في الظاهر فليس بإيطاء، مثل يزيد، وهو ويزيد، وهو فعل،
ما يجوز في القافية من حروف اللين
اعلم أنَّ القوافي التي تدخلها حروف المد، وهي حروف اللين، فهي كل قافية حُذف منها حرف ساكن وحركة، فتقوم المدة مقام ما حذف.
وهو من الطويل فعولن المحذوف، ومن المديد فاعلان المقصور، وفعلن الأبتر. ومن البسيط فعلن المقطوع، ومفعولن المقطوع.
فأما مستفعلان المذال، فاختلف فيه، فأجازه قوم بغير حرف مد، لأنه قد تم وزيد عليه حرف بعد تمامه. وألزمه قوم المد لالتقاء الساكنين، وقالوا: المدة بين الساكنين تقوم مقام الحركة. وإجازته بغير حرف مد أحسن لتمامه.
وأما الوافر فلا يلزم شيء منه حرف مد.

وأما الكامل فيدخل فيه حرف اللين في فعلاتن المقطوع، وفي متفاعلان المذال.
وأما الهزج فلا يلزمه حرف مد.
وأما الرجز فيلزم مفعولن منه المقطوع حرف المد.
وأما الرمل فيلزم فاعلان وحدها لالتقاء الساكنين.
وأما السريع فيلزم فاعلان الموقوف لالتقاء الساكنين. وكذلك مفعولان. وأما المنسرح فيلزم مفعولات، كما يلزم السريع.
وأما الخفيف فإنه يلزم فعولن المقصور، وإن كان قد نقص منه حرفان، ليس في المدة خلف من حرفين. ولكن لما نقص من الجزء حرف، وهو سين مستفعلن قام ما تخلف بالمدة مقام ما نقص من آخر الجزء، لأنه بعد المَدة.
وأما المضارع والمقتضب والمجتث فليس فيها حرف مد لتمام أواخرها.
وأما المتقارب فألزموا فعول المقصور حرف المد لالتقاء الساكنين.
قال سيبويه: وكل هذه القوافي قد يجوز أن تكون بغير حرف المد، لأنَ رويها تامّ صحيح على مثل حاله بحرف المَد، وقد جاء مثلُ ذلك لا أشعارهم، ولكنه شاذّ قليل، وأن يكون بحرف المد أحسن لكثرته ولزوم الشعراء إياه. ومما قيل بغير حرف مَدّ.
ولقد رحلتُ العِيس ثم زَجرتُها ... قُدُماً وقلتُ عليك خيرَ مَعدّ
وقال آخر:
إن تمنع النومَ النَساء يُمنعنْ
مقطّعات على تأليف حروف الهجاء
وضروب العَروض
الضرب الأول من
الطويل
السالم
وأزهرَ كالعَيّوق يَسعى بزَهراء ... لنا منهما داءٌ وبُرء مِنَ الدَّاءِ
ألا بأبي صُدْعٌ حكَى العين عِطْفهُ ... وشاربُ مِسْك قد حَكى عِطفة الراء
فما السحر ما يُعزَي إلى أرض بابلِ ... ولكن قثور اللَّحظ من طرف حَوّراء
وكَفِّ أدارتْ فذْهب اللَون أصفراَ ... بمُذْهبة في راحة الكَف صَفراء
الضرب الثاني من الطويل
مقبوض
معذِّبتي رِفقاً بقَلْبٍ مُعذًب ... وان كان يُرضيك العَذابُ فعذَبي
لَعمري لقد باعدْتِ غيرَ مُباعَدٍ ... كما أنني قَربتُ غير مُقرَّب
بنَفْسيَ بدر أخْمل البدرَ نُورُه ... وشمس متى تَطلع إلى الشمس تَغرب
لو أن امرأ القيس بن حُجْر بدتْ له ... لما قال: مُرا بي على أم جُندب
الضرب الثالث من الطويل
المحذوف المعتمد
محب طوى كَشْحاً على الزَّفراتِ ... وإنسانُ عَين خاضَ في غَمراتِ
فيا مَن بِعَيْنَيه سَقامي وصِحَّتيِ ... وفَيِ في عيديه مِيتتِي وحَياتي
بحُبك عاشرتُ الهُموم صَبابةَ ... كأني لها تِربٌ وهُن لِدَاتي
فخدي أرضٌ. للدُمُوع ومُقْلتي ... سماءٌ لها تَنهْلّ بالعَبَرات
الضرب الأول من
المديد
السالم
طلق اللهوَ فؤادي ثلاثاً ... لا ارتجاع لي بعد الثلاثِ
وبياضٌ في سَواد عِذاري ... بَدَل التشبيبَ لي بالمَراثي
غير أنّي لا أطيق اصطباراً ... وأُراني صابراً لا نتكائي
بإناث في صِفات ذُكور ... وذُكور في صفات إناث
الضرب الثاني من المديد
المقصور اللازم الثاني
صدعتْ قلبيَ صَدْع الزُجاج ... ماله من حِيلة أو عِلاجْ
مزجتْ رُوحيَ ألحاظُها ... بالهَوى فهو لروحي مِزاج
يا قَضيباً فوق دِعْص نَقاً ... وكثيباً تَحت تِمثال عاج
أنت نُوري في ظلام الدُجى ... وسِراجي عند فَقْد السَراج
الضرب الثالث من المديد
المحذوف اللازم الثاني
مستهام دَمعه سابحُ ... بين جنبيه هَوىً فادح
كُلما أم سَبيل الهُدى ... عافه السانِح والبَارح
حَل فيما بين أعدائه ... وهُو عَن أحبابه نازح
أيها القادِح نارَ الهَوى ... أصْلِها يأيها القادح
الضرب الرابع من المديد
المقطوع المحذوف
عادَ منها كُل مطْبوخ ... غير داذِيّ ومَفْضوخ
واعتقد مِن ود أهل الحِمى ... كُلَّ وُد غير مَشْدوخ

وانتشقْ رياك من مُلتقى ... ضارب بالمِسْكِ مَلطوخ
إنّ في العلم وآثاره ... ناسخاً من بعد مَنْسوخ
الضرب الخامس من المديد
المحذوف المخبون
يا مُجيل الرُّوح في جَسدي ... والذي يَفترّ عن بَرَدِ
وَفريد الحُسن واحدَه ... منتهاه منتهى العَدَد
خُذ بكَفِّي إنني غَرِق ... في بِحار جَمّة المَدد
ورياحُ الهَجْر قد هَدَمَت ... ما أقام الوَصْل من أوَدي
الضرب السادس من المديد
الأبتر
ذكرت من طِيزَناباذِ ... فَقُرى الكَرْخ ببغداد
قَهوة ليست بباذقة ... لا ولا بِتْع ولا داذي
مرة يهذي الحَليمُ بها ... بِأبي ذلك مِن هاذي
فهي أستاذُ الشّراب بنا ... والمَعاني دأب أستاذي
الضرب الأول من
البسيط
المخبون
نُور تولّد من شَمس ومن قَمرِ ... في طرفه قَدر أمضىَ من القَدرِ
أصْلَى فُؤادي بلا ذَنب جَوى حُرق ... لم يُبْق من مُهجتي شَيئاً ولم يَذَر
لا والرحيق المُصفَّى من مَراشفه ... وما بخدَّيه من وَرْد ومن طُرر
ما أنصفَ الحُبُّ قَلبي في حكومته ... ولا عَفا الشَوقُ عنّىِ عَفْوَ مُقتدر
الضرب الثاني من البسيط
المقطوع
خرجتُ أجتاز قفراً غير مُجتاز ... فصادني أشهل العَينين كالبَازِي
صَقرٌ على كفّه صَقْرٌ يؤلّفه ... ذا فوق بَغْلٍ وهذا فوق قُفّاز
كم موعِدٍ ليَ مِن ألحاظ مُقْلته ... لو انه مَوْعد يقْضىَ بإنجاز
أبْكي ويَضحك منّي طرفُه هُزواً ... نَفسي الفِداء لذاك الضاحك الهازي
الضرب الثالث من البسيط
المجزوء المذال
يا غُصنا مائساً بين الرِّياطْ ... مالي بعدك بالعيش اغتباط
يا مَن إذا ما بدا لي ماشياً ... وَددتُ أنّ له خدّي بِساط
تَترك عيناه مَن أبصره ... مُختلطاً عقله كُلّ اختلاط
قلتُ متى نَلتقي يا سيدي ... قال غداً نَلتقي عند الصراط
الضرب الرابع من البسيط
المجزوء السالم
يا ساحراً طرفُه إذ يَلحظ ... وفاتناً لفظُه إذ يَلفِظُ
يا غصنا يَنثني من لِينه ... وجهُك مِن كُل عين يحفظ
أيقظ طَرْفي إذ بدا مِن نعسة ... من طَرفه ناعسٌ مستيقظ
ظَبْي له وَجْنة من رِقّة ... تجرحها مُقلتي إذ تَلْحظ
الضرب الخامس من البسيط
المقطوع
يا من دَمِي دونه مسفوك ... وكل حُرٍّ له مَملوكُ
كأنه فِضِّة مَسْبوكة ... أو ذَهبٌ خالص مَسْبوك
ما أطيبَ العَيشَ إلا أنه ... عن عاجل كُلّه مَتْروك
والخَير مَسدودة أبوابُه ... ولا طَريق له مَسْلوك
العروض المجزوء المقطوع
ضربه مثله
إليك يا غُرة الهِلال ... وبِدعة الحسن والجَمال
مَددتُ كفِّاً بها انقباض ... فأين كَفِّي من الهلال
شكوتُ ما بي إليك وجداً ... فلم تَرِقّ ولم تُبال
أعاضك الله عن قَريب ... حالاً من السُّقم مثل حالي
العروض الأول من
الوافر
ضربه مثله
بنفسي مَن مَراشفه مُدام ... وِمَنْ لحَظات مُقلته سِهامُ
ومَن هو إن بدا والبدرُ تِمٌ ... خفِي من حسُنه البدر التمّام
أقُول له وقد أَبدى صُدودا ... فلا لفظٌ إليّ ولا ابتسام
تَكلَّم ليس يُوجعك الكَلام ... ولا يَمْحو محاسنُك السّلام
العروض الثاني من الوافر
مجزوء سالم ضربه مثله
سلبتَ الرُّوح من بَدني ... ورُعت القلبَ بالحَزَنِ
فلي بَدَن بلا رُوح ... وليِ رُوح بلا بَدن

قرنتَ مع الرَّدَى نَفسي ... فنفسي وهو في قَرن
فليتَ السِّحرَ من عَيْني ... ك لم أرَه ولم يَرَني
العروض الثالث من الوافر
المجزوء المعصوب
غزالٌ من بني العاص ... أحسَّ بصَوت قَنَّاص
فأتلع جيبه ذعرا ... وأشخص أيَّ إشخاص
أيا مَن أَخلصتْ نَفسي ... هواه كُل إخلاص
أطَاعك مِن صَميم القل ... ب عَفْواً كل مُعتاص
العروض الأول من
الكامل التام
ضربه مثله
في الكِلّة الصّفراء ريمٌ أبيضُ ... يَسْبي القلوبَ بمُقلتيه ويمرضُ
لمَا غدا بين الحمُول مُقوّضاً ... كاد الفؤاد عن الحَياة يُقوّض
صَد الكَرى عن جَفن عينك مُعرضاً ... لما رآه يَصد عنك ويُعْرِض
أدّيتُ من حُبِّي إليك فريضةً ... إن كان حُب الخَلْق مما يُفرض
الضرب الثاني
المقطوعِ
أومتْ إليك جُفونُها بودَاع ... خوْد بَدت لك مِنِ وراء قِنَاع
بَيضاء أنماها النَّعيم بصُفرة ... فكأَنها شَمس بغير شُعاع
أمّا الشباب فودّعت أيامه ... ووداعهنّ موكَل بوَداعِي
لله أيام الصَّبا لو أنها ... كَرَّت عليَّ بلذّة وسَماع
الضرب الثالث
الأحذ المضمر
أصغَى إليك بكأسه مُصغي ... صَلْت الجَبين مُعَقرب الصُّدغ
كأس تؤلّف بالمَحبة بَيننَا ... طَوْراً وتَنْزغ أيْما نَزغ
في رَوضة دَرجت بزهرتها الصبا ... والشمس في دَرج من الفَرغ
فاشرَب بكفّ أغنّ عَقرب صدغه ... للقَلب منك مُميتة الَّلدغ
الضرب الرابع
الأحذ الممنوع من الإضمار العروض الثاني
يا دمية نُصبت لمُعتكفِ ... بل ظَبية أوفت على شَرف
بل دُرَّة زَهراء ما سَكَنت ... بَحراً ولا اكتنفت ذَرَا صَدف
أسرفتِ في قَتْلي بلا ترةٍ ... وسَمعتِ قولَ الله في السرف
إنّي أتوبُ إليك مُعتَرفاً ... إن كنت تَقبل تَوْبَ مُعترف
الضرب الخامس
الأحذ المضمر
يا فِتْنة بُعثت على الخَلقِ ... ما بينها والموتِ من فَرْقِ
شَمسٌ بدتْ لك من مَغاربها ... يفترّه مبسمها عن البرْق
ما كنتُ أحسب قبل رُؤيتها ... للشَّمس مُطَّلعا سوى الشَرق
يا مَن يَضَنّ بفَضل نائله ... لوفي يَديْهِ مَفاتح الرزْق
الضرب السادس
المجزوء المرفل العروض الثالث - له أربعة ضروب
طَلعتْ له والليلُ دَامِس ... شَمْسٌ تجلّت في حَنادِسْ
تَختال في لِين المَجا ... سِد بين حارسة وحَارس
يا مَن ببَهجة وَجهه ... يستأسِر البطلُ المُمارس
لم يَبْق من قَبلي سِوى ... رَسْم تغيّر فهو دارس
الضرب السابع
المجزوء المذيل
دَعْ قَول واشية وواشي ... واجعلْهما كَلبَي هِراش
واشرب مُعتَّقة تَسل ... سل في العِظام وفي المشاش
الضرب الثامن
المجزوء الصحيح
ألْحاظ عيني تلتهي ... في رَوْض وَرْد يزدهي
رتعت بها وتنزّهَت ... فيها ألذّ تنزه
يا أيها الخَنِث الجُفو ... ن بنَخْوة وتكره
والمكتسي غنجا أما ... ترثي لأشعث أمره
الضرب التاسع
المجزوء المقطوع إلا من سلامة الثاني
أطفت شرَارةَ لَهوي ... ولوتْ بشدّة عَدْوِي
شعل علون مَفارقي ... ومضت ببهَجة سَرْوِي
لما سلكت عَروضَها ... ذهب الزحاف بحذوي
يا أيها الشادي صه ... ليست بساعة شدو
الهزج
له عروض واحد وضربان
ألا ياويح قلبي للش ... باب الغَضّ إذْ وَلى
جعلت الغَيّ سِرْبالي ... وكان الرُّشد بي أولى

بنَفْسي جائرٌ في الحُك ... م يُلْفَى جَوره عَدلا
وليس الشهد في فِيه ... بأحلَى عنده مِن لا
الضرب الثاني
المحذوف
هُنا تفنى قَوافي الشّع ... ر في هذا الروي
قوافٍ أُلبست حَلْياً ... من الحُسن البدي
تعالتْ عن جَرير بل ... زُهير بل عَدِيّ
/كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان
واختلاف الناس فيه
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر، وعلل القوافي، وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور، ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الغناء واختلاف الناس فيه، ومن كرهه ولأي وجه كرهه، ومن استحسنه ولأي وجه استحسن.
وكرهنا أن يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والأمثال، عطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.
قال أبو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد، فلا أدري ما صنعت فيه؟ فقال: لعلك تريد الغناء؟ قلت: أجل. قال: أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثير عزة حيث يقول:
وما مر من يوم علي كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلت
لاسترخت تكتك. قال: قلت: أتقول لي هذا؟ قال: إي والله، وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله.
فضل الصوت الحسن
قال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " : هو الصوت الحسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري، لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتهش له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات. ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب.
وقالت ليلى الأخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها، وأعجبه ما رأى من شبابه: إني والله ما حملته سهوا، ولا وضعته يتناً، ولا أرضعته غيلا ولا أنمته مئقاً. يعني لم أنومه مستوحشا باكياً. ما حملته سهوا. تعني في بقايا الحيض. ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا، إذا حملت في استقبال الحيض. وقولها ولا وضعته يتنا تعني منكسا. وقولها: ولا أرضعته غيلا تعني لبناً فاسداً.
وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحن إليه الروح. ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا. ألا ترى أن أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان فاستراحت لها أنفسهم. وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه. ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد، إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح، ما خلا السماع؛ فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة. فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض، والتجاوز عن الذنوب. وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرقق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله في ضميره.
وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاءً؛ كأنه يتذكر به نعيم الآخرة.
وقال أحمد بن أبي داود: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء. حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله.
وقال العتابي وذكر رجلا فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، والنحل على الغناء.
وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء، وأن أفراخها لا تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال الراجز:
والطير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصوت

وبعد: فهل خلق الله شيئاً أوقع بالقلوب، وأشد اختلاساً للعقول من الصوت الحسن، لا سيما إذا كان من وجه حسن، كما قال الشاعر:
رب سماع حسن ... سمعته من حسن
مقرب من فرح ... مبعد من حزن
لا فارقاني أبداً ... في صحة من بدني
وهل على الأرض رعديد مستطار الفؤاد يغني بقول جرير بن الخطفي:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا ثاب إليه روحه، وقوي قلبه. أم هل على الأرض بخيل قد تقفعت أطرافه لؤماً؟ ثم غني بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه؟ أم هل على الأرض غريب نازح الدار بعيد المحل يغني بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كل ما صنعا
إلا انقطعت كبده حنيناً إلى وطنه، وتشوقاً إلى سكنه.
اختلاف الناس في الغناء
اختلاف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق. فمن حجة من أجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحض عليه، وندب أصحابه إليه، وتجند به على المشركين. فقال لحسان: شن الغارة على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام.
وهو ديوان العرب، ومقيد أحكامهم، والشاهد على مكارمها. وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به.
قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار، وقد كف بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكلما قدم شيء من الطعام قال حسان لابنه: أطعام يد أم طعام يدين؟ فيقول له: طعام يد. حتى قدم الشواء. فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده. فلما رفع الطعام اندفعت قينةٌ لهم تغني بشعر حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد
جمال شعثاء قد هبطن من ال ... محبس بين الكثبان فالسند
قال: فجعل حسان يبكي، وجعل عبد الرحمن يومئ إلى القينة أن تردده. قال الأصمعي: فلا أدري ما الذي أعجب عبد الرحمن من بكاء أبيه.
وقالت عائشة، رضي الله عنها: علموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
وأردف النبي صلى الله عليه وسلم الشريد، فايتنشده من شعر أمية، فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه، استحساناً لها.
فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا: الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن. وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان. فإن كانت الألحان مكروهة، فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنه. وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر. وما الفرق بين أن ينشد الرجل:
أتعرف رسما كاطراد المذانب
مترسلاً، أم يرفع بها صوته مرتجلاً. وإنما جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدنانة. ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: ويعثتم معها من يغني؟ قالت: لا، قال: أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... نحييكم نحييكم
ولولا الحبة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم
واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس، ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع وهي تغني:
هل علي ويحكم ... إن لهوت من حرج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله. والذي لا ينكره أكثر الناس غناء النصب، وهو غناء الركبان.
حدث عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا علي. فأعدنا عليه. فقال: أنتما كحماري العبادي، وقيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا.

وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبا.
ومن حديث الحماني عن حماد بن زيد بن يسار قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقى له مصلي، فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يتغنى. فقلت: سبحان الله أبا إسحاق، أتفعل مثل هذا وأنت محرم؟ فقال: يا بن أخي، وهل تسمعني أقول هجرا؟ ومن حديث المفضل عن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى، قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك. فأسمعه كلمة له. قال: وإنك لقائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء. قال: وما بأس ذلك يا ابن أخي؟ قال: وحدث عبيد بن عمير الليثي أن داود النبي عليه السلام كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور، لتجتمع عليه الجن والإنس والطير، فيبكي ويبكي من حوله. وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم.
ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه ينفر القلوب، ويستفز العقول، ويستخف الحليم، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا " . وأخطأوا في التأويل. إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن، ويقولون إنها أفضل منه. وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا. وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
وقد حدث إبراهيم بن المنذر الحزامي أن ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير، ففرقه في ضعفاء أهلها، فقال سفيان بن عيينة: بلغني أن هذا السهمي قدم بمال كثير. قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى؟ قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء يغنيهم؟ قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول؟ فقال له فتى من تلاميذه: يقول:
أطوف بالبيت مع من يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل
قال: بارك الله عليه، ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا؟ قال:
وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل
قال: وأحسن أيضاً، أحسن الله إليه؛ ثم ماذا؟ قال:
عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل
قال: أمسك أمسك. أفسد آخراً ما أصلح أولاً.
ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسن الحسن من قوله وقبح القبيح.
وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها، كما كره بعضهم الملاذ ولبس العباء، وكره الحوارى وأكل الكشكار، وترك البر وأكل الشعير، لا على طريق التحريم، فإن ذلك وجه حسن ومذهب جميل. فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله. يقول الله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " .
وقد يكون الرجل أيضاً جاهلا بالغناء أو متجاهلاً به، فلا يأمر به ولا ينكره. قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ قال: نعم العون على طاعة الله! يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعم سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه. قال الحسن: والله يا بن أخي، ما ظننت أن عاقلا يفعل هذا بنفسه أبداً.
وإنما أنكر عليه الحسن تشويه وتعويج فمه، وإن كان أنكر الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق، وقد ذكرنا أنهم يكرهونه.
قال إسحاق بن عمارة: حدثني أبو المغلس عن أبي الحارث، قال: اختلف في الغناء عند محمد بن إبراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جريج وإلى عمرو ابن عبيد فأتياه فسألهما، فقال ابن جريج: لا بأس به، شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده، وعنده ابن سريج المغني، فكان إذا غنى لم يقل له: اسكت، وإذا سكت لم يقل له: غن، وإذا لحن رد عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " . فأيهما يكتب الغناء؟ الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما، لأنه لغو كحديث الناس فيما بينهم، من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم.

وقال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري، قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يأهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها. قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر، فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف المحصنة من جاراته، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا؟ من اختار شعراً جيداً ثم اختار له جرماً حسناً فردده عليه، فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب. فقال أبو يوسف: قطعتني، ولم يحر جواباً.
قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ قال: قلت: من أتبعه الله خزيته. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرم ويحلل! والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى:
سليمى أزمعت بينا ... فأين تظنها أينا
ولو سمعت مالكا يحرمه ويدي تناله لأحسنت أدبه. قال فتبسم الرشيد.
وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه، قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر حبا شديدا. فدخل عليه يوماً وبين يديه جارية في حجرها عود، فقال: ما هذا يا أبا جعفر؟. قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن؟ فإن أصاب ظنك فلك الجارية. قال: ما أراني إلا قد أخذتها، هذا ميزان رومي. فضحك ابن جعفر، وقال: صدقت. هذا ميزان يوزن به الكلام، والجارية لك. ثم قال: هاتي. فغنت:
أيا شوقا إلى البلد الأمين ... وحي بين زمزم والجحون
ثم قال: هل ترى بأساً؟ قال: لا. قال: فما أرى بهذا بأساً.
وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني:
لو بدلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله. قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في كل معنى يفسده إن شاء الله.
حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة، قال: حدثني الشرقي عن الأصمعي، قال. سمع عمر بن عبد العزيز راكباً يغني في سفره:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا في الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المدد
فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أنفر في السرية، وأقسم بالسوية، وأعدل في القضية.
قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد، وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، فسلمت عليه، فأوما إلى وأشار بالجلوس، فجلست. فلما سلم أخذ بيدي، وأشار إلى حلقي، وقال: كيف هو؟ قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني:
يا لقومي لحبلك المصروم ... يوم شطوا وأنت غير ملوم
أصبح الربع من أمامة قفراً ... غير مغنى معارف ورسوم
قلت: إذا شئت. قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله.
وحدث أبو عبد الله المروزي، بمكة في المسجد الحرام، قال: حدثنا حبان بن موسى وسويد، صاحبا ابن المبارك، قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه، فلما نظر القوم إلى ما فيه من النفير والغزو والسرايا في كل يوم التفت إلينا، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر، وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة. قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أرقة المصيصة إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني:
أذلني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
فأخرج رزنامجا من كمه، فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة؟

قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة، فما رئي مثله في العفاف والنبل. فبينما هو نائم ذات ليلة في علية له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه. فأشرف المخزومي عليه، فقال: يا هذا، شربت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه عليه.
قال: الأوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بني، إنك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالدين فإن الله يرفع به الخسيسة ويتم به النقيصة. فنفعني الله بقولها.
وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة، قال: حدثني الزبير بن بكار: قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله، قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان، وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود. فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود. فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده. قال: صدقتم. ثم قال للجارية: هاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلي التفاتاً أسلمته المحاجر
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما، يريد الزير. ثم قال: يا هذه، أرخي من بمك، وشدي من زيرك. فقال له بشر بن مروان: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما. قال: صدقت، ومن لم ينفعه يقينه.
وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنى رجل في المسجد الحرام، وهو مستلق على قفاه صوتا، ورجل من قريش يصلي في جواره، فسمعه خدام المسجد، فقالوا: يا عدو الله، أتغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة. فتجوز القرشي في صلاته، ثم سلم وأتبعه، فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله، إنما كان يقرأ. فقال: يا فساق، أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون أنه غنى! خلوا سبيله. فلما خلوه، قال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت وأجدت ما شهدت لك، اذهب راشدا.
وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب. وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام ويحييه جاره الكيال بالشراب ويغني على شرابه:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأخذه العسس ليلة فوقع في الحبس، وفقد أبو حنيفة صوته، واستوحش له. فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال؟ قالوا: أخذه العسس فهو الحبس. فلما أصبح أبو حنيفة وضع الطويلة على رأسه وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى، فاستأذن عليه. فأسرع في إذنه. وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك. فأقبل عليه عيسى بوجهه، وقال: أمر ما جاء بك يا أبا حنيفة؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير، جارٌ لي من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا، فوقع في حبسك. فأمر عيسى بإطلاق كل من أخذ في تلك الليلة إكراماً لأبي حنيفة. فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكراً له. فلما رآه أبو حنيفة، قال: أضعناك يا فتى؟ يعرض له بقصيدته. قال: لا والله، ولكنك بررت وحفظت.
الأصمعي قال: قدم عراقي بعدل من خمر العراق إلى المدينة فباعها كلها إلا السود. فشكا ذلك إلى الدارمي، وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي على أن احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك؟ قال: ما شئت، قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه، فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الأول، وقال: شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنين فغنى به، وكان الشعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبه الخمار الأسود. فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود، وباع التاجر جميع ما كان معه. فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه.
وحدث عبد الله بن مسلمة بن قتيبة ببغداد قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال: كان عروة بن أذينة يعد ثقةً ثبتاً في الحديث، روى عنه مالك ابن أنس، وكان شاعراً لبقاً في شعره غزلاً، وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين، فمن ذلك قوله، وغنى به الحجازيون:

يا ديار الحي بالأجمه ... لم يبين رسمها كلمه
وهو موضع صوته. ومنه قوله:
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة، فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح؟ وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
لا والله، ما قال هذا رجل صالح قط.
قال: وكان عبد الرحمن بن عبد الله الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة، وأنه مر يوماً بسلامة وهي تغني، فقام يستمع غناءها. فرآه مولاه فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فلم يزل به حتى دخل. فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك، فغنته فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك في أن أحولها إليك؟ فأبى ذلك عليه، فلم يزل به حتى أجابه. فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها. ولما شعرت للحظه إياها غنته:
رب رسولين لنا بلغا ... رسالة من قبل أن يبرحا
لم يعملا خفاً ولا حافراً ... ولا لساناً بالهوى مفصحا
حتى استقلا بجوابيهما ... بالطائر الميمون قد أنجحا
الطرف والطرف بعثناهما ... فقضيا حاجاً وما صرحا
قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك. فقالت له يوماً: إني والله أحبك. قال لها: وأنا والله أحبك. قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله. قالت فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوةً يوم القيامة، أما سمعت الله تعالى يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " . ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
وله فيها:
إن سلامة التي ... أفقدتني تجلدي
لو تراها وعودها ... حين يبدو وتبتدي
لجرير وللغري ... ض وللقرم معبد
خلتهم بين عودها ... والدساتين واليد
أخبار عبد الله بن جعفر
حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان، قال: حدثني نصر بن علي عن الأصمعي، قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء. فأقبل معاوية عاماً من ذلك حاجاً، فنزل المدينة، فمر ليلةً بدار عبد الله بن جعفر، فسمع عنده غناءً على أوتار، فوقف ساعة يستمع ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله. فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضاً، فإذا عبد الله قائم يصلي، فوقف ليستمع قراءته، فقال: الحمد لله، ثم نهض وهو يقول: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعد له طعاماً، ودعاه إلى منزله، وأحضر ابن صياد المغني، ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرك أوتارك وغن. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي ابن زيد، وكان معاوية يعجب به:
يا لبينى أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا
رب نار بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا
ولها ظبي يؤججها ... عاقد في الخصر زنارا
قال: فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام، وجعل يضرب برجله الأرض طرباً. فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان، فهل ترى به بأساً؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان.

قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه وبره ما كان يستحقه. فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة، زوجة معاوية، فسمعت ذات ليلة غناءً عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته في دار محرمك. فجاء معاوية فسمع شيئاً حركه وأطربه، وقال: والله إني لأسمع شيئاً تكاد الجبال تخر له، وما أظنه إلا من تلقين الجن، ثم انصرف. فما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي. فأنبه فاختةً، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي، ملوك بالنهار رهبان بالليل.
ثم إن معاوية أرق ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله، وأخبره بخروجي إليه فذهب فأخبره. فأقام كل من كان عنده، ثم جاء معاوية، فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه ثم قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه، حتى لم يبق إلا مجلس رجل. فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان، يا أمير المؤمنين. قال له معاوية: فإن أذني عليلة، فمره فليرجع إلى موضعه، وكان موضع بديح المغني. فأمره ابن جعفر، فرجع إلى موضعه. فقال له معاوية: داو أذني من علتها. فتناول العود ثم غنى:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدارج فالمتثلم
فحرك عبد الله بن جعفر رأسه. فقال معاوية: لم حركت رأسك يا بن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين، لو لقيت عندها لأبليت، ولئت سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خضب فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده، كانت متولية خضابه. فغناه بديح:
أليس عندك شكر للتي جعلت ... ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طرباً شديداً، وجعل يحرك رجله. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، سألتني عن تحريك رأسي، فأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك. فقال معاوية: كل كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني. فبعث إلى جعفر بعشرة آلاف دينار، ومائة ثوب من خاص ثيابه، وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.
وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي، قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذ سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا بصوت شجي رقيق لقينة تغني:
قل للكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج
فنزل عبد الله عن دابته ودخل على القوم بلا إذن. فلما رأوه قاموا إليه إجلالاً له ورفعوا مجلسه. ثم أقبل عليه صاحب المنزل، فقال: يا بن عم رسول الله، دخلت منزلنا بلا إذن وما كنت لهذا بخليق. فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك: قال: قينتك هذه سمعتها تقول:
قل للكرام ببابنا يلجوا
فولجنا، فإن كنا كراماً فقد أذن لنا، وإن كنا لئاماً خرجنا مذمومين. فضحك صاحب المنزل، وقال: صدقت جعلت فداك، ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه فجاءت، فقال لها: غني. فغنت. فطرب القوم وطرب عبد الله. فدعا بثياب وطيب، فكسا القوم وصاحب المنزل وطيبهم، ووهب له الجارية، وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.
أخبار ابن أبي عتيق
ذكر رجل من أهل المدينة أن ابن أبي تيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - دخل على عائشة أم المؤمنين، وهي عمته، فوضع رأسه في حجرها أو على ركبتها، ثم رفع عقيرته يتغنى:
ومقيد حجل جررت برجله ... بعد الهدوء له قوائم أربع
فاطرب زمان اللهو من زمن الصبا ... وانزع إذا قالوا أبي لك منزع
فليأتين عليك يوما مرة ... يبكى عليك مقنعاً لا تسمع
قالت له عائشة: يا بني، فتق ذلك اليوم.

حدث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط قال؛ حدثني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثير، قال: قال لي كثير يوماً: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه، فوجدنا عنده ابن معاذ المغني، فلما رأى كثيراً قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثير؟ فاندفع يغني بشعره حيث يقول:
أبائنة سعدى نعم ستبين ... كما انبت من حبل القرين قرين
أإن ذم أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين
فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير فقال: وللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة؟ ذاك والله أشبه بهن، وأدعى للقلوب إليهن؛ وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالأمانة والوفاء. وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حبذا الإدلال والغنج ... والتي في طرفها دعج
والتي إن حدثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج
فقال كثير: قم بنا من عند هذا، ثم نهض.
وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق: لو غنتك فلانة جاريتي صوتاً ما أدركتك ذكاتك. قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان. فأخذه بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله، ثم أمر الجارية فخرجت، وقال لها: هات، فغنت:
بهواك صيرني العذول نكالا ... وجد السبيل إلى المقال فقالا
ونهيت نومي عن جفوني فانتهى ... وأمرت ليلي أن يطول فطالا
قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمغتر.
أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدثه عن إقلاله وكثرة عياله، أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالساً بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغصني بانٍ، بيد كل جارية مروحة تروح بها عليه، مكتوب بالذهب على المروحة الأولى:
إنني أجلب الريا ... ح وبي يلعب الخجل
وحجاب إذا الحب ... يب ثنى الرأس للقبل
وغياث إذا الندي ... م تغنى أو ارتجل
وفي المروحة الأخرى:
أنا في الكف لطيفة ... مسكني قصر الخليفة
أنا لا أصلح إلا ... لظريف أو ظريفه
أو وصيف حسن القد ... شبيه بالوصيفه
قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هونتا الدنيا علي، وأنستاني سوء حالي، وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة، فإذا تذكرت امرأتي، وكنت لها محبا، تذكرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إلي بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني، ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سروراً بما ذكرت له، وغما بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين، وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك، فضلاً عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين؟ قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر، ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان، قال: فالجاريتان له. قال: فلما صارتا إلي زرت عبد الله بن جعفر فوجدته قد امتلأ فرحاً، وهو يشرب وبين يديه عس فيه عسل ممزوج بمسك وكافور. فقال: مهيم. قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة. فقال لي: زد. فأبيت عليه. فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين، فخذي في نعتهما، فإنهما كما فلكت صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت.
عهدي بها في الحي قد جردت ... زهراء مثل القمر الضامر
قد حجم الثدي على نحرها ... في مشرف ذي بهجة ناضر

لو أسند ميتاً إلى صدرها ... قام ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر
قال: فلما سمعت الأبيات طربت، ثم تناولت العس فشربت عللاً بعد نهل، ورفعت عقيرتي أغني:
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوماً يتنزهان في بعض نواحي مكة، فنزل أبو السائب ليبول وعليه طويلته، فانصرف دونها. فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثير:
أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضم محسود
فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه. فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها وقال: أتسبقني أنت إلى بر الشيطان؟ سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره فقال: اطلبوه. فجاؤوا به. فقال: أعد علي ما تغنيت به. فغنى واحتفل. وكان سليمان أغير الناس، فقال لأصحابه: وكأنها والله جرجرة الفحل في الشول. وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت. وأمر به فخصي.
وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة على الأحول بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حمت لحمه الدبر، فقال الأحوص: ألا أسمعك غناء؟ قال: تغن. فغناه:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام
بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر؟ قال: لجرير. ثم غناه:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معيناً
غيض من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: لمن هذا الشعر؟ فقال؟ لجرير ثم غناه:
أسرى لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئاً ألذ من الخيال الطارق
إن البلية من يمل حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الومق
فقال: لمن هذا الشعر؟ فقال: لجرير. فقال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري، وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره.
وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى أيام شبابها، حنين الجمل إلى عطنه.
وقال: الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري، وابن صياد. فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب. فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال:
شنت عقيلة عنك اليوم بالزاد ... وآثرت حاجة الساري على الغادي
قولا لمنزلها حييت من طلل ... وللعقيق ألا حييت من وادي
إذاً وهبت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ وابن صياد
وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة ورجل من قريش يسمع، فأخذه بعض القومة، فقالوا: يا عدو الله، أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم. وأتبعهم القرشي، فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله، إنما كان يقرأ. فأطلق سبيله. فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك، وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشد من الأعوان.
والصوت المنسوب إلى دارات معبد قول أعشى بكر:
هريرة ودعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم
ويروى أن معبداً دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان، وقد فتح خمس مدائن، فجعل يفخر بها عند جلسائه. فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات إنها لأكثر من خمس المدائن التي فتحت. والأصوات هي: الأول:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
والثاني:
هريرة ودعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم
والثالث:
ودع لبانة قبل أن ترتحلا ... واسبل فإن سبيله أن يسبلا
والرابع:
لعمري لئن شطت بعثمة دارها ... لقد كدت من وشك الفراق أليح
والخامس:
تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها
أصل الغناء ومعدنه

قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والقينات. وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات. وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم. وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشياً، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
وقيل إن أول من صنع العود لامك بن قابيل بن آدم، وبكى به على والده. ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب كتاب الموسيقى، وهو كتاب اللحون الثمانية.
وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما الجرادتان، ومن غنائهما:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
وإنما غنتا بهذا حين حبس عنهما المطر. وكانت العرب تسمي القينة الكرينة، والعود الكران. والمزهر أيضا هو العود، وهو البربط، وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس، وهو علم ابن سريج، والدلال، ونومة الضحى، وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه وهو أول صوت غنى به في الإسلام:
قد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب
أخبار المغنين
أولهم: طويس، وكان في أيام عثمان رضي الله عنه.
حدثنا جعفر بن محمد قال: لما ولي أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان قعد في بهوٍ له عظيم، واصطف له الناس، فجاءه طويس المغني، وقد خضب يديه غمساً واشتمل على دف له، وعليه ملاءة مصقولة، فسلم، ثم قال: بأبي وأمي يا أبان، الحمد لله الذي أرانيك أميراً على المدينة، إني نذرت لله فيك نذراً إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتاً. قال: فقال: يا طويس، ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيب، أبحني. قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين وغنى:
ما بال أهلك يا رباب ... خزراً كأنهم غضاب
قال: فصفق أبان بيديه ثم قام عن مجلسه، فاحتضنه وقبل بين عينيه، وقال: يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسن، أنا وأنت؟ قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب. انظر إلى حذقه ورقة أدبه، كيف لم يقل: أمك الطيبة إلى أبيك المبارك.
وعن ابن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج، وهو والي المدينة، وخرج الناس معه، وكان فيمن خرج بكر بن إسماعيل الأنصاري وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فلما انصرفا راجعين مرا بطويس المغني، فدعاهما إلى النزول عنده. فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن: أتنزل على هذا المخنث؟ فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. فاحتمل طويس الكلام على سعيد. فأتيا منزله، فإذا هو قد نظفه ونجده، فأتاهما بفاكهة الشام، فوضعها بين أيديهما، فقال له بكر بن إسماعيل: ما بقي منك يا طويس؟ قال: بقي كلي يا أبا عمرو. قال: أفلا تسمعنامن بقاياك؟ قال: نعم. ثم دخل خيمته فأخرج خريطة، وأخرج منها دف، ثم نقر وغنى:
يا خليلي نابني سهدي ... لم تنم عيني ولم تكد
كيف تلحوني على رجل ... مؤنس تلتذه كبدي
مثل ضوء البدر صورته ... ليس بالزميلة النكد
من بني آل المغيرة لا ... خامل نكس ولا جحد
نظرت عيني فلا نظرت ... بعده عيني إلى أحد
ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن، فقال: يا أبا عثمان، أتدري من قائل هذا الشعر؟ قال: لا. قال: قالته خوله بنت ثابت عمتك في عمارة بن الوليد بن المغيرة، ونهض. فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك. وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز فأرسل إليهما فسألهما فأخبراه، فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
الأصمعي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار، فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يتغنى:
أجد بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شاننا شانها
وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها
فقيل له: اسكت اسكت - لأن عمرة أم النعمان بن بشير - فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا، إنما قال:

وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها
وكان مع طويس بالمدينة ابن سريج والدلال ونومة الضحى، ومنه تعلموا. ثم نجم بعد هؤلاء سلم الخاسر، وكان في صحبة عبد الله بن جعفر. وعنه أخذ معبد الغناء.
ثم كان ابن أبي السمح الطائي، وكان يتيماً في حجر عبد الله بن جعفر، وأخذ الغناء عن معبد، وكان لا يضرب بعود، إنما يغني مرتجلاً. فإذا غنى لمعبد صوتاً حققه، ويقول: قال الشاعر فلان، ومططه معبد وخففته أنا. ومن غنائه.
نام صحبي ولم أنم ... لخيال بنا ألم
إن نام في القصر غادة ... كحلت مقلتي بدم
وكان معبد والغريض بمكة. ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. ولما قدمت سكينة بنت الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها:
عوجي علينا ربة الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي
قالت: والله ما لكما مثل إلا الجدي الحار والبارد، ولا يدرى أيهما أطيب.
قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختاناً لبعض أهله، فقال له بعض القوم: غن. فقال: هو ابن الزانية إن غنى. قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية، فغن. قال: أكذلك أبا عبدل؟ قال: نعم: قال: أنت أعلم. فغنى:
وما أنس م الأشياء لا أنس شادناً ... بمكة مكحولاً أسيلاً مدامعه
تشرب لون الرازقي بياضه ... وبالزعفران خالط المسك رادعه
فلوت الجن عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى:
أمن مكتومة الطلل ... يلوح كأنه خلل
لقد نزلوا قريباً من ... ك لو نفعوك إذ نزلوا
تحاولني لتقتلني ... وليس بعينها حول
ثم نجم ابن طنبورة، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء، ومن غنائه:
وفتيان على شرف جميعاً ... دلفت لهم بباطية تدور
كأني لم أصد فيهم بباز ... ولم أطعم بعرصتهم صقوري
فلا تشرب بلا لهوٍ فإني ... رأيت الخيل تشرب بالصفير
ويقال إنه حضر مجلساً لرجل من الأشراف إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة. فقيل له: غن، فغنى:
ويلي من الحية ويل ليه ... قد عشش الحية في بيتيه
فضحك صاحب المدينة ووصله.
ومنهم: حكم الوادي، وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغني بشعره، ومن غنائه:
خف من دار جيرتي ... باين داود أنسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم يقض لبسها
فمتى تخرج العرو ... س لقد طال حبسها
خرجت بين نسوةٍ ... أكرم الجنس جنسها
وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد مغن، يقال له الغزيل، ويكنى أبا كامل، وفيه يقول الوليد بن يزيد:
من مبلغ عني أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهامل
ومن غنائه:
أمدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوماً قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش
وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين، منهم إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، ومخارق، وطبقة أخرى دونهم؛ منهم: زلزل، وعمرو الغزال، وعلوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان إبراهيم أشدهم تصرفاً في الغناء. وابن جامع أحلاهم نغمة. فقال الرشيد يوماً لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي حيثما ذقته فهو طيب؟ قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال؟ قال: هو حسن الوجه يا أمير المؤمنين.
قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء؟ قال: ابن محرز. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن شئت أجملت وإن شئت فصلت. قلت: أجمل قال: كان يغني كل إنسان بما يشتهي، كأنه خلق من قلب كل إنسان.
وكان إبراهيم أول من وقع بالقضيب.
وحديث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن إذ خرج الآذن، فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام. قال: فانصرفنا. فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي؟ قال: فانصرفنا معه. قال: فدخلت دارا لم أر أشرف منها ولا أوسع، وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب. قال: فقعدنا، ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ، وقال:

اسقني بالكبير إني كبير ... إنما يشرب الصغير صغير
ثم قال:
اسقني قهوة بكوب كبير ... ودع الماء كله للحمير
ثم شرب به، وأمر به فملئ، وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير. ثم أمر بجوارٍ، فأحطن بالدار. فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير من أجمة يتجاوبن.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء، ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى. ثم واظب على السماع وسأل عني، فجرحني عنده بعض من حسدني، فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة. فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً، وأمسك عن ذكري. وجفاني كل من كان يصلني، لما ظهر من سوء رأيه. فأضر ذلك بي، حتى جاءني يوماً علوية فقال لي: أتأذن لي اليوم في ذكرك؟ فإني اليوم عنده. فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك: من أين هذا؟ فينفتح لك ما تريد، ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية. فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به، وهو:
يا مشرع الماء قد سدت مسالكه ... أما إليك سبيلٌ غير مسدود
لحائمٍ حار حتى لا حياة به ... مشرد عن طريق الماء مطرود
فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته؟ قال: إسحاق؟ قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول، فسرت إليه. فلما دخلت، قال: ادن، فدنوت. فرفع يديه مادهما، فاتكأت عليه، فاحتضنني بيديه، وأظهر من إكرامي وبري ما لو أظهره صديقٌ لي مواس لسرني.
قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضرت مسامرة الرشيد ليلةً عبثراً المغنى، وكان فصيحاً متأدباً، وكان مع ذلك يغني الشعر بصوت حسن. فتذاكروا رقة شعر المدنيين، فأنشد بعض جلسائه أبياتاً لابن الدمينة حيث يقول:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فأعجب الرشيد برقة الأبيات. فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين، إن هذا الشعر مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، حتى رق وصفا، فصار أصفى من الهوا؛ ولكن إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى، وأصلب وأقوى، لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين؟ قال: وذلك لك. فغنى لجرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهم وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
روحوا العشية روحة ًمذكورة ... إن حرن حرنا أو هدينا هدينا
فرموا بهن سواهماً عرض الفلا ... إن متن متنا أو حيين حيينا
قال: صدقت يا عبثر، وخلع عليه وأجازه.
وكان لإبراهيم الموصلي عبدٌ أسود يقال له زرياب، وكان مطبوعا على الغناء، علمه إبراهيم، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، فغناه بأبيات عنترة الفوارس، حيث يقول:
فإن تك أمي غرابيةً ... من أبناء حامٍ بها عبتني
فإني لطيفٌ ببيض الظبا ... وسمر العوالي إذا جئتني
ولولا فرارك يوم الوغى ... لقدتك في الحرب أو قدتني
فغضب زيادة الله، فأمر بصفع قفاه وإخراجه، وقال له: إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس، فكان عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم.
وكان في المدينة في الصدر الأول مغن يقال له: قند، وهو مولى سعد بن أبي وقاص. وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه، فضربه سعد، فحلفت عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه، فاسترضاه، فرضي عنه، وكلمته عائشة.
وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة يستعمل هذا سنةً وهذا سنة، وكانت في مروان شدة وغلظة، وفي سعد لين عريكة وحلم وصفح. فلقي مروان بن الحكم قنداً المغنى، وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة، فلما رآه قال:

قل لقند يشيع الأظعانا ... ربما سر عيننا وكفانا
قال له قند: لا إله إلا الله، ما أسمجك والياً ومعزولاً.
وروى ابن الكلي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وأضيقهم خلقاً، إذا قيل له عن يقول: أو لمثلي يقال هذا؟ علي عتق رقبة إت غنيت يومي هذا. فإن غنى وقيل له: أحسنت. قال: لمثلي يقال أحسنت؟ علي عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الأيان سال وادي العقيق، فجاء بالعجب، فلم يبق بالمدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني، وهو معتجر بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان فيمن خرج إلى العقيق، وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان، يمشيان بين يديه أمام دابته، فقال لهما: أنتما حران لوجه الله. إن تفعلا ما آمركما به، وإلا أقطعكما إربا إرباً، اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه، فخذا بضبعيه، فإن فعل ما آمره به، وإلا فاقذفا به في العقيق. قال: فمضيا والحسن يقفوهما. فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه. فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة. قال: لبيك وسعديك، وبأبي أنت وأمي. قال: اسمع مني ما أقول، واعلم أنك مأسور في أيديهما، هما حران أن لم تغن مائة صوت أن يطرحاك في العقيق، ولئن لم يفعلا ذلك لأقطعن أيديهما. فصاح ابن عائشة: يا ويلاه! واعظيم مصيبتاه! قال: دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، وأقبل يغني. فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه. فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة، وقالوا للحسن: صلى الله على روحك حيا وميتاً، فما اجتمع لأهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت. فقال له الحسن: إنما فعلت هذا بك يا بن عائشة لأخلاقك الشكسة. قال له ابن عائشة: والله ما مرت علي مصيبة أعظم منها. لقد بلغت أطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: ما أشد ما مر بك؟ قال: يوم العقيق.
وكان إبراهيم بن المهدي؛ وهو الذي يقال به ابن شكلة، داهياً عاقلاً عالماً بأيام الناس، شاعراً مفلقاً، وكان يصوغ فيجيد.
ويروى عن إبراهيم أنه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه، فظفر به المأمون فعفا عنه، وقال لما ظفر به المأمون:
ذهبت من الدنيا كما ذهبت مني ... هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني
فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً ... وإن أحتسبها أحتسبها على ضن
فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون غنى بهما بين يديه. فقال له المأمون: أحسنت والله يا أمير المؤمنين. فقام إبراهيم رهبةً من ذلك، وقال: قتلتني والله يا أمير المؤمنين، لا والله لا أجلس حتى تسميني باسمي. قال: اجلس بإبراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون، ينادمه ويسامره ويغنيه فحدثه يوما فقال: بينا أنا مع أبيك يوماً يا أمير المؤمنين بطريق مكة إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي وعطشت، وجعلت أطلب الرفقة، فأتيت إلى بئر فإذا حبشي نائم عندها، فقلت له: يا نائم، قم فاسقني. فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوتٌ ببالي، فترنمت به وهو:
كفناني إن مت في درع أروى ... واسقياني من بئر عروة مائي
فلما سمعني قام نشيطاً مسروراً وقال: والله هذه بئر عروة، وهذا قبره. فعجبت يا أمير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع. ثم قال: أسقيك على أن تغنيني؟ قلت: نعم. فلم أزل أغنيه وهو يجبذ الحبل، حتى سقاني وأروى دابتي، ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنيني؟ قلت: نم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا أغنيه حتى أشرفنا على العسكر فانصرف. وأتيت الرشيد فحدثته بذلك فضحك. ثم رجعنا من حجنا، فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد، فلما رآني قال: مغن والله! قيل له: أتقول هذا لأخي أمير المؤمنين؟ قال: إي لعمر الله، لقد غناني، وأهدى إلي أقطاً وتمراً. فأمرت له بصلة وكسوة، وأمر له الرشيد بكسوة أيضاً. فضحك المأمون، وقال: غنني الصوت، فغنيته، فافتتن به. فكان لا يقترح علي غيره.

وكان مخارق وعلوية قد حرفا القديم كله، وصيرا فيه نغماً فارسية، فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الأول الثقيل قالا: يحتاج غناؤك إلى قصار. واسم علوية علي بن عبد الله بن سيف بن يوسف، مولى لبني أمية.
وكان زلزل أضرب الناس بوتر، لم يكن قبله ولا بعده مثله. ولم يكن يغني، وإنما كان يضرب على إبراهيم وابن جامع وبرصوما.
ومن غنائه في المأمون:
ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميزة بين الضلالة والرشد
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
حدث سعيد بن محمد العجلي عن الأصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني، حنظلة بن الشرقي شاعراً مجيداً، وكان مع ذلك فاسقاً، وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك، فطلب الإذن عليه أياماً، فلم يصل، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين؟ فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب، وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك. قال: هات. فأعطاه هذين البيتين:
يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى ... محيا ابن مروان وينهل بارقه
يظل فتيت المسك في رونق الضحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه
قال: فغني بهما في وقت أريحية، فطرب لهما طرباً شديداً، وقال: لله در قائلهما، من هو؟ قال: أبو الطمحان القيني، وهو بالباب يا أمير المؤمنين. قال: ماأعرفه فقال له بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال: ليلة الدير. قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير. وشربت من خمره، وزنيت بها، وسرقت كساءها ومضيت. فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا. فأخذها أبو الطمحان وانسل بها وخيب المغني.
أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال: خرجت يوماً إلى المسجد الجامع ومعي قرطاسا لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء. فممرت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا ببابه المسدود، وكان من أحذق الناس بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: إلى المسجد الجامع لعلي أستفيد في حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعةً حتى خرج الغلمان فحملوني حملاً. فدخلت إلى دارٍ لا والله ما رأيت أحسن منها بناء، ولا أطرف فرشاً، ولا صباحة وجوه. فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى. فلما أبصرني قال لي: يا بغيض، متى تحتشم؟ اجلس، فجلست. فقال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي حملته لأستفيد فيه شيئاً وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس فمكثنا حيناً، ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا أحسن فأكلنا. وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس، وهما من أحذق الناس بالغناء، قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب، وقامت جارية تسقينا شراباً ما رأيت أحسن منه، في كأس لا أقدر على وصفها. فقلت: أعزك الله. ما أشبه هذا بقول إبرهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر:
حمراء صافية في جوف صافية ... يسعى بها نحونا خود من الحور
حسناء تحمل حسناوين في يدها ... صاف من الراح في صافي القوارير
وقد جلس المسدود وزنين ودبيس. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المسدود فغنى:
لما استقل بأرداف تجاذبه ... وأخضر فوق نظام الدر شاربه
وتم في الحسن والتأمت محاسنه ... ومازجت بدعا فيها غرائبه
وأشرق الورد في نسرين وجنته ... واهتز أعلاه وارتجت حقائبه
كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من رده ما قال حاجبه
ثم سكت فغنى زنين:
الحب حلو أمرته عواقبه ... وصاحب الحب صب القلب ذائبه
استودع الله من بالطرف ودعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرف وداعي الشوق يهتف بي ... ارفق بقلبك قد عزت مطالبه
ثم سكت وغنى دبيس:

وعاتبته دهراً فلما رأيته ... إذا ازداد ذلاً جانبي عز جانبه
عقدت له في الصدر مني مودةً ... وخليت عنه منهما لا أعاتبه
ثم سكت فغنى زنين:
بدر في الإنس حفته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضر شاربه
إن يعد الوعد يوماً فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوماً فهو كاذبه
عاطيته كدم الأوداج صافية ... فقام يشدو وقد مالت جوانبه
قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة. قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة؟ فقلت: يا سيدي، المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس، إذا ابتدأ المسدود بشيء تبعه الرجلان بمثل ما غنى. فكان مما غنى المسدود:
يا دير حنة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي
يعتاده كل محفو مفارقه ... من الدهان عليها سحق أمساح
ما يدلفون إلى ماء بآنيةٍ ... إلا اغترافاً من الغدران بالراح
ثم سكت فغنى زنين:
دع البساتين من آسٍ وتفاح ... واعدل هديت إلى ذات الأكيراح
واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلا نضو أشباح
وخمرة عتقت في دنها حقباً ... كأنها دمعة من جفن سياح
ثم سكت فغنى دبيس:
لا تحفلن بقول اللائم اللاحي ... واشرب على الورد من مشمولة الراح
كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها ... أغناك لألالؤها عن كل مصباح
ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه ... والليل ملتحفٌ في ثوب سياح
فقام يشدو وقد مالت سوالفه ... يا دير حنة من ذات الأكيراح
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
باحورار العين والدعج ... وابيضاض الثغر والفلج
وبتفاح الخدود وما ... ضم من مسك ومن أرج
كن رقيق القلب إنك من ... قتل من يهواك في حرج
ثم سكت وغنى زنين:
كسروي التيه معتدل ... هاشمي الدل والغنج
وله صدغان قد عطفا ... ببياض الخد كالسبج
وإذا ما افتر مبتسما ... أطلق الأسرى من المهج
ما لما بي منك من فرج ... لا ابتلاني الله بالفرج
ثم سكت وغنى دبيس:
يعمل الأجفان بالدعج ... عمل الصهباء بالمهج
بأبي ظبي كلفت به ... واضح الخدين والفلج
مر بي في زي خنث ... بين ذات الضال من أمج
قلت قلبي قد فتكت به ... قال ما في الدين من حرج
ثم سكت وغنى المسدود:
ما يبالي اليوم من صنعا ... من بقلبي يبدع البدعا
كنت ذا نسك وذا ورع ... فتركت النسك والورعا
كم زجرت القلب عنك فلم ... يصغ لي يوماً ولا نزعا
لا تدعني للهوى غرضاً ... إن ورد الموت قد شرعا
ثم سكت وغنى دبيس:
اسقني كأساً مصردة ... إن نجم الليل قد طلعا
قد شربت الحب شرب فتىً ... لم يدع في كأسه جرعا
ثم ابتدأ أيضاً دبيس فغنى:
يقولون في البستان للعين لذةٌ ... وفي الخمر والماء الذي غير آسن
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
فغضب المسدود لما قطع عليه دبيس وقال: عن على غير هذه القافية واللحن، ثم نرجع إلى حالنا الأولى. فقال أبو عكرمة: قد أصبت.
فابتدأ المسدود فغنى:
أدعوك من قلبي إذا لم أرك ... يا غاية الطرف إذا أبصرك
قضى لك الله فسبحان من ... أحلك القلب ومن قدرك
لست بناسيك على حالةٍ ... يا ليت ما تذكرني أذكرك
صيرني الله على ما أرى ... منك من الهجر كما صيرك
قال: فقال زنين: وأنا فلا بد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي، فقال: ما ترى؟ فقلت: أحسنت والله. فابتدأ يغني:
يا هائم القلب عاص من عذلك ... ما نلت ممن هويته أملك

دعاك داعي الهوى بخدعته ... حتى إذا ما أجبته خذلك
فاحتل لداء الهوى وسطوته ... إنك إن لم تداوه قتلك
ثم ابتدأ المسدود يغني:
شققت جيبي عليك شقاً ... وما لجيبي أردت شقا
أردت قلبي فصادفته ... يداي بالجيب قد توقى
مالك رقى أبيت عتقي ... لولاك ما كنت مسترقا
ثم سكت وغنى زنين:
قد ذبت شوقاً ومت عشقاً ... يا زفرات المحب رفقا
ثكلت نفسي وزرت رمسي ... إن كنت للهجر مستحقا
ثم سكت وغنى دبيس:
ظمئت شوقاً وبحر عشقي ... يفيض عذاباً ولست أسقى
أنا الذي صرت من غرامي ... على فراش السقام ملقى
فمن زفير ومن شهيق ... ومن دموع تجود سبقا
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
ماذا على نجل العيون لو أنهم ... أوموا إليك فسلموا أو عرجوا
أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا ... أن المحب إلى الأحبة يدلج
ثم سكت وغنى دبيس:
هيا فقد بدأ الصباح الأبلج ... قد ضم مشبهة الغزال الهودج
بانوا ولم أقض اللبانة منهم ... وكذا الكريم إذا تصابى يلهج
ثم سكت وغنى زنين:
السحر والغنج في عينيك والدعج ... والشمس والبدر في خديك والضرج
الدر ثغرك لولا أن ذا برد ... والحبر صدغك لولا أن ذا سبج
أنضجت قلبي ولو أن الورى لقيت ... قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا
ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى:
يا صاحب المقل المراضٍ ... انظر إلي بعين راض
إن تجفني متعمداً ... لتذيقني جرع الحياض
فلطالما أمكنتني ... منك المراشف عن تراض
ثم سكت وغنى زنين:
هائم مدنف من الإعراض ... لا سبيل له إلى الإغماض
موثق النوم مطلق الدمع ما يع ... رف ملجاً من الحتوف القواضي
ما برى جسمه سوى لحظاتٍ ... أمرضته من العيون المراض
ثم سكت وغنى دبيس:
كن ساخطاً واظهر بأنك راضي ... لا تبدين تكره الإعراض
وانظر إلي بمقلة غضبانةٍ ... إن كنت لم تنظر بمقلة راض
وارحم جفوناً ما تجف من البكا ... في ليلةٍ مسلوبة الإغماض
واحكم فديتك بين جسمي والهوى ... فالحكم منك على الجوارح ماض
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
يا ذا الذي حال عن العهد ... ومن براني منه بالصد
بسمرة الخال وما قد حوى ... من حمرةٍ في سالف الخد
ألا تعطف على عاشقٍ ... منفرد بالبث والوجد
ثم سكت وغنى زنين:
أظل بكتمان الهوى وكأنما ... ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد
فلا الدمع أطفى حرقة البين والبكا ... ولا أنا بالشكوى أنفس من جهدي
ثم سكت وغنى دبيس:
تهزأت بي لما خلوت من الوجد ... ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي
وعبت علي الشوق والوجد والبكا ... وأنت الذي أجريت دمعي على خدي
صددت بلا جرم إليك أتيته ... أكان عجيباً لو صددت عن الصد
ألا إنني عبدٌ لطرفك خاضع ... وطرفك مولىً لا يرق على عبد
ثم غنى المسدود:
أقمت ببلدةٍ ورحلت عنها ... كلانا عند صاحبه غريب
أقل الناس في الدنيا نصيبا ... محب قد نأى عنه الحبيب
ثم سكت وغنى زنين:
خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا للعيون الناظرات ذنوب
فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب
ثم سكت وغنى دبيس:
ذلت لوجهك أعين وقلوب ... بين المخافة والرجاء تذوب
يا واحد الحسن الذي لحظاته ... تدعو النفوس إلى الهوى فتجيب
من وجهه القمر المنير وقده ... غصن نضيرٌ مشرق وكثيب
ألناظريك على العيون رقيب ... أم هل لطرفك في القلوب نصيب

ثم ابتدأ المسدود فغنى:
قلق لم يزل وصبر يزول ... ورضى لم يطل وسخط يطول
لم تسل دمعتي علي من الرح ... مة حتى رأيت نفسي تسيل
جال في جسمي السقام فجسمي ... مدنف ليس فيه روح تجول
ينقضي للقتيل حول فينسى ... وأنا فيك كل يوم قتيل
ثم سكت وغنى زنين:
ويقنعني ممن أحب كتابه ... ويمنعنيه إنه لبخيل
كفى حزناً ألا أطيق وداعكم ... وقد حان مني يا ظلوم رحيل
ثم سكت وغنى دبيس:
ليس إلى تركك من حيلة ... ولا إلى الصبر لقلبي سبيل
فكيفما شئت فكن سيدي ... فإن وجدي بك وجدٌ طويل
إن كنت أزمعت على هجرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود، فقال له: عن صوتاً. فغنى:
ما حيلتي وفؤادي هائمٌ أبداً ... بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من حرق الهجران مصدوع
ما أرق العين إلا حب مبتدع ... ثوب الجمال على خديه مخلوع
قال أبو عكرمة: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي، ما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
من سمع صوتاً فوافقه معناه واستخفه الطرب
حكى إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه، قال: دخلت على هارون الرشيد، فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال، غنيته بأبياته التي يقول فيها:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
فارتاح وطرب وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه:
رشأ لولا محاسنه ... خلت الدنيا من الفتن
كل يوم يسترق له ... حسنه عبداً بلا ثمن
يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
سن للناس القرى فقروا ... فكأن البخل لم يكن
قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه، وأكب على إبراهيم يقبل رأسه. فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه، وما وطئتا من البساط. فأمر له بثلاثة آلاف درهم. فقال إبراهيم: يا سيدي، قد أجزيتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم. فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟! الرياشي عن الأصمعي، قال: قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب فيهم. فسلموا عليه وحادثوه ساعةً وخرجوا، وبقي أشعب. فقال له جرير: أراك قبيحاً وأراك لئيم الحسب، ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له: أصلحك الله، إنه لم يدخل عليك اليوم أحدٌ أنفع لك مني، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه:
يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
قال: فاستخف جريراً الطرب لغنائه بشعره حتى زحف إليه واعتنقه وقبل بين عينيه، وسأله عن حوائجه فقضاها له.
الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير، فأسرع فيه على إخوانه، فذهب. فسأل امرأته، وكانت موسرة، فمنعته وبخلت عليه. فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعاً. فلما كان ببعض الطريق نزل ماءً يقال له بلاكث. فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء؟ قال: يقال له بلاكث. فقال:
بينما نحن من بلاكث بالقا ... ع سراعاً والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا
قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ... ق وللحاديين كرا المطيا

فقال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين. قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع. فانصرف ودخل المصلى ليلاً. فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون، فقالوا له: زاد خير. فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره. فقالت له امرأته: زاد خير. فأنشدها الأبيات. قالت: كل ما أملك في سبيل الله إن لم أشاطرك مالي. فشاطرته مالها.
وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في صمد من الأرض، فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه. فإذا هو عبد أسود. فقلت له: أعد ما سمعت فقال: والله لو كان عندي قرى أقريكه ما فعلت، ولكن أجعله قراك. فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى. ثم ابتدأ فغنى:
وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذ ما انقضت أحدوثةٌ لو تعيدها
قال عمر: فحفظته منه. ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكره.
وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضرباً بعود، قال: قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلساً، فألفيته على سريره وبين يديه معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة وأبو كامل غزيل الدمشقي، فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي. فغنيته:
سرى همي وهم المرء يسري ... وغاب النجم إلا قيد فتر
لهم ما أزال له قرينا ... كأن القلب أودع حر جمر
على بكر أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكر
فقال: أعد يا صامة. ففعلت. فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ قلت: يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً. قال الوليد: وأي عيش يصلح بعد بكر. والله لقد حجر واسعاً. هذا والله العيش الذي نحن فيه يصلح على رغم أنفه.
وقد قيل إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر فقالت: ومن بكر هذا؟ فوصف لها. فقالت: هو ذاك الأسيد الذي كان يأتينا، لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت.
وعن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث قال: حججت مع الرشيد، فلما نزلت المدينة آخيت بها رجلاً كانت له مروءة ومعرفة وأدب، وكان يغني. فإني ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن علي، وظننت أمراً قد حدث ففزع فيه إلي. فأسرعت نحو الباب، فقلت: ما جاء بك؟ قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد ومجلس شراب قد التقى طرفاه، وشواء رشراش، وحديث ممتع وغناء مشبع، فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حميا الكأس مأخذها، ثم غنيت بقول نصيب:
بزينب ألم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
فكدت أطير طرباً. ثم وجدت في الطرب تنغيصاً إذ لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته. ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال، ثم أرجع إلى صاحبي. وضرب بغلته موليا. فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة.
وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة فسمع عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة؟ قال: سائب خائر، قال: فأكثر له العطاء.

وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم. فمن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والزنا. ففعل وأجلهم ثلاثاً. فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة وكان غائباً. فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. قالت: أو ما تدري ما حدث بعدك؟ وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. فلقيه فأخبره أنه إنما أقدمه حب التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والزنا. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. فقال: إنهم وفقوا ووفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها. وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذا أدعها فقال: إذا لا يدعك الناس، ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر بها ابن أبي عتيق. فتنقبت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه بها. فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت، فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها. فقال له: قل لها فلتغن. فغنت:
سددن خصاص البيت لما دخلنه ... بكل بنان واضح وجبين
فنزل عثمان عن سريره ثم جلس بين يديها، وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة ومنع غيرها. فقال له: قد أذنت لهم جميعاً.
وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا. وأنه خصي فلان فيهم، لواحد منهم كان يعرفه. فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن:
لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارساً خلقا
ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة، فلما كبر وسلم، ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه، فأما ثقيله فلا والله، ثم كبر.
وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة، فسمع مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه، فجاءوا به. فقال له: أعد ما تغنيت به. فأعاد واحتفل. فقال: لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه. ثم أمر به فخصي.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام، فأنشده إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجر إليكم سادراً رسني
فقام الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع إلى موضعه فجلس. فقال له إبراهيم: ما بالك؟ قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه.
ووقف رجل من الشعراء من المغنين فأنشده:
إني أتيت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئاً لديك سوى ... حي الحمول بجانب الرمل
قال له: انزل فك ما طلبت مر دحمان المغني بقوم وعليه رداء عدني يثربي. فقالوا له: بكم أخذت الرداء؟ فقال:
ما ضر جيراننا إذا انتجعوا
وحدث أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان يقال قديماً: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة فغنه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم، وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة. قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق. فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرك من طيبه ولا أريحيته. فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت أشمسٌ أم مصابيح راهب ... بدت لك تحت السجف أم أنت هائم
بعيدة مهوى القرط إما لنوفلً ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
قال: فحركت والله من طربه، وكان الذي أردت. ثم غنيته لابن أبي ربيعة القرشي أيضا:
ولولا أن تقول لنا قريش ... مقال الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذا التقينا قبليني ... وإن كنا بقارعة الطريق

فقال: أحسن والله. هكذا يطيب التلقي، لا بالخوف والتوقي. قال: فلما رأيته قد طرب للصوتين ولم يند لي بشيء. قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج وقول عمر بن أبي ربيعة، ويقال إنها لجميل:
ما زلت أمتحن الدساكر دونها ... حتى ولجت على خفي المولج
فوضعت كفي عند مقطع خصرها ... فتنفست نفساً ولم تتلهج
قالت وحق أخي وحرمة والدي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لن تحرج
فرشفت فاها آخذاً بقرونها ... رشف النزيف ببرد ماء الحشرج
فصاح الهاشمي: أواه! أحسبن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه.
وغنى ابن سريج رجلاً من بني هاشم بقول جرير:
بعثن الهوى ثم آرتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق
وما ذقت طعم العيش منذ نأيتم ... وما ساغ لي بين الجوانح ريق
قال: فخطب من ثوبه ذراعاً، وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان.
قال: وصحب شيخٌ من أهل المدينة شاباً في سفينة، ومعهم جارية تغني، فقال له: إن معنا جارية تغني ونحن نجلك، فإذا أذنت لنا فعلنا؟ قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحى وغنت الجارية:
حتى إذا الصبح بدا ضؤوه ... وغابت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفي كما ... ينساب من مكمنه الأرقم
فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه طربا ويقول: أنا الأرقم. فأخرجوه وقالوا: ما صنعت بنفسك؟ فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون.
وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبةً لرجل من الأشراف. فلما انقضى الطعام اندفعت جاريةً تغني:
إلى خالد حتى أنخنا بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب حتى أخذ نعليه فعلقهما في أذنيه، ثم جثى على ركبتيه، قال: اهدوني فإني بدنة.
كان رجل من الهاشميين يحب السماع، فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتاً كان كلفاً به، فغناه إياه. فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه، ثم قال للمغني: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي: قال: أصلحك الله، إنك تجد خلفا من ثوبك، وإني لا أجد خلفاً من ثوبي. قال: أنا أخلف لك. قال: فافعل ونفعل. قال: أخرجتنا من حد الطيب إلى حد السوم.
من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف
حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة قال: حدثني أبي، قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً، قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية، فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه، فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك فرابةٌ أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفاً؟ قالت: يا أمير المؤمنين، أما قرابة فلا، ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي، كنت أحب أن ينالهم شيء مما صرت إليه. فكتب إلى عامله بالمدينة في إشخاصهم وأن يعطى كل رجل منهم عشرة آلاف درهم، وأن يعجل بسراحهم إليه. ففعل عامل المدينة ذلك. فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم، فأذن لهم وأكرمهم وسألهم حوائجهم. فأما الإثنان فذكرا حوائجهما، فقضاها لهما. وأما الثالث فسأله عن حاجته، فقال: يا أمير المؤمنين، ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها. قال: ويحك؟ فسلني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وكرامة. قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنيني ثلاثة أصوات، أشرب عليها ثلاثة أرطال، فافعل. قال: فتغير وجه يزيد وقام من مجلسه، فدخل على الجارية فأعلمها. قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين، افعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت. فقعد يزيد على أحدها، وقعدت الجارية على الآخر وقعد الفتى على الثالث، ثم دعا بطعام فتغدوا جميعاً، ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت، ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت. ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني:
لا أستطيع سلوًا عن مودتها ... أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا

أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
فأمر فغنت. فشرب يزيد وشرب الفتى ثم شربت الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتكن قال: تأمرها تغني:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلغه هندا
ألا عرجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
قال: فغنت بهما وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية. ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، مرها تغني:
منا الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهر
والله ما أسلوكم أبداً ... ما لاح نجم أو بدا فجر
قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خر الفتى مغشياً عليه. فقال: يزيد للجارية: انظري ما حاله. فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت. فقال لها: ابكيه. قال: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي. قال لها: ابكيه، فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك. فبكته، وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه.
قال: وحدث أبو يوسف بالمدينة قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أبيه، أن عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان، فأقام عنده حيناً، فبينا هو ذات ليلة في سمره إذ تذاكروا الغناء. فقال عبد الملك: قبح الله الغناء، ما أوضعه للمروءة، وأجرحه للعرض، وأهدمه للشرف، وأذهبه للبهاء. وعبد الله ساكت، وإنما عرض لعبد الله، وأعانه عليه من حضر من أصحابه. فقال عبد الملك: ما لك أبا جعفر لا تتكلم؟ قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق. قال: أما إني نبئت أنك تغني؟ قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: أفٍ لك وتف. قال: لا أف ولا تف، فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: يأتيك الأعرابي الجافي الزور ويقذف المحصنات، فتأمر لها بألف دينار، وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي فأختار لها من الشعر أجوده، ومن الكلام أحسنه، ثم تردده علي بصوت حسن، فهل بذلك بأس؟ قال: لا بأس، ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع؟ قال: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منهما حتى غلبت عليهما، فوصفت ليزيد بن معاوية، فكتب إلي: إما أهديتها إلي وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به، فأبيت عليه. فبينا هي عندي على تلك الحال إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أن فتى من أهل المدينة يسمع غناءها، فعلقها وشغف بها، وأنه يجيء في كل ليلة مستتراً يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف. فراعيت مجيئه، فإذا الفتى قد أقبل مقنع الرأس، فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا. فلم أدع بها تلك الليلة وجعلت أتامل موضعه. فبات مكانه الذي هو فيه. فلما انشق الفجر اطلعت عليه فإذا هو في موضعه، فدعوت قيمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزينين هذه الجارية واعجلي بها إلي فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحركته. فانتبه مذعوراً، فقلت له: لا بأس عليك، خذ هذه الجارية فهي لك، وإن هممت ببيعها فردها إلي. فدهش وأخذه الخبل ولبط به. فدنوت من أذنه فقلت: ويحك! قد أظفرك الله ببغيتك، فقم فانطلق بها إلى منزلك. فإذا الفتى قد فارق الدنيا. فلم أر شيئاً قط أعجب منه.
قال عبد الملك: وأنا ما سمعت شيئاً قط أعجب من هذا، ولولا أنك عاينته ما صدقت به، فما صنعت بالجارية؟ قال: تركتها عندي وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكاناً من قلبي، وكرهت أن أوجه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد علي، فما زالت تلك حالها حتى ماتت.
ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال:
إني قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئاً لديك سوى ... حي الحمول بجانب الرمل
فقال له انزل فلك ما طلبت. فنزل. فأخرج عوده ثم غناه، بقول آمرىء القيس:
حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
فلبط بطريفة، فإذا هو في الأرض منجدل. فلما أفاق قام يمسح التراب عن وجهه. فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك؟ قال: ارتفع والله من رجلي شيء حار وهبط من رأسي شيء بارد فالتقيا وتصادما، فوقعت بينهما لا أدري ما كانت حالي.
أخبار عنان وغيرها من القيان

حدثت محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة: قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: كان هارون الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها، وقال لها: أنا والله أحبك. ثم أمسك عن شرائها. فجلس ليلةٍ معه سماره، فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا
قال: فطرب الرشيد لها طرباً شديداً وأعجب بالأبيات، وقال لجلسائه: هل منكم أحد يحيز هذه الأبيات بمثلهن، وله هذه البدرة؟ وبين يديه بدرة من دنانير. فقالوا فلم يصنعوا شيئاً. فقال خادم على رأسه: أنا بها لك يا أمير المؤمنين. قال: شأنك. فاحتمل البدرة ثم أتى الناطفي، فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له. فدخل وأخبرها الخبر. فقالت: ويحك! وما الأبيات؟ فأنشدها إياها. فقالت له: اكتب:
هيجت بالقول الذي قد قلته ... داء بقلبي ما يزال كميناً
قد أينعت ثمراته في حينها ... وسقين من ماء الهوى فروينا
كذب الذين تقولوا يا سيدي ... إن القلوب إذا هوين هوينا
فقالت له: دونك الأبيات، فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون. فقال له: ويحك! من قالها! قال: عنان، جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي. قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفاً، وباتت بقية تلك الليلة عنده.
وقال الأصمعي: ما رأيت الرشيد متبذلا قط إلا مرةً، كتبت إليه عنان، جارية الناطفي رقعة فيها:
كنت في ظل نعمة بهواكا ... آمناً منك لا أخاف جفاكا
فسعى بيننا الوشاة فأقرر ... ت عيون الوشاة بي فهناكا
ولعمري لغير ذا كان أولى ... بك في الحق يا جعلت فداكا
قال: فأخذ الرقعة بيده، وعنده أبو حفص الشطرنجي، فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعراً، وله عشرة آلاف درهم؟ فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان، فبدر أبو حفص فقال:
مجلس ينسب السرور إليه ... لمحب ريحانه ذكراكا
فقال: يا غلام، بدرة.
فقال جرير:
كلما دارت الزجاجة والكا ... س أعارته صبوةً فبكاكا
فقال: يا غلام، بدرة. قال الأصمعي: فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواكا
قال: أحسنت والله يا أصمعي، لها ولك بهذا البيت عشرون ألفاً.
وقال غير أني أشعركم حيث أقول:
قد تمنيت أن يغشيني الله نعاساً لعل عيني تراكا
قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين.
وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إلي خبر عنان وأنها ذكرت لهارون، وقيل له إنها أشعر الناس، خرجت متعرضاً لها، فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي، فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان؟ فقلت: ما بعد عنان مطلب. ومضينا حتى أتينا منزله، فعقل دابته ثم دخل، فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: لا والله، إني كسلانة. فحمل عليها بالسوط، ثم قال لي: ادخل، فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها، فطمعت بها فقلت:
هذي عنان أسبلت دمعها ... كالدر إذ ينسل من خيطه
ثم قلت لها: أجيزي. فقال:
فليت من يضربها ظالماً ... تجف يمناه على سوطه
فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها، فمن سببك أوذينا. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها.
فما زال يشكو الحب حتى حسبته ... تنفس في أحشائه أو تكلما
قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت:
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت:
بديع حسن بديع صدٍ ... جعلت خدي له ملاذا
فأطرقت ساعة ثم قالت:
فعاتبوه فعنفوه ... فأوعدوه فكان ماذا
وجلس أبو نواس إلى عنان فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن؟ قال: جيد. قالت: قطع هذا البيت:
أكلت الخردل الشامي في قصعة خباز
فلما ذهب يقطعه ضحكت به وأضحكت. فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الأحاديث، ثم عاد سائلاً لها، فقال: كيف علمك بالعروض؟ قالت: حسن يا حسن. فقال: قطعي هذا البيت:

حولوا عنا كنيستكم ... يا بني حمالة الحطب
فلما ذهبت تقطعه ضحك أبو نواس. فقالت له: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك.
حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغن يسمى سوسناً، عليه وسم جمال. قال: فبينما هو عنده إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته. فكانت إذ حضر سوسن تسوى عودها وتغني:
ما مررنا بالسوسن الغض إلا ... كان دمعي لمقلتي نديما
حبذا أنت والمسمى به أن ... ت وإن كنت منه أذكى نسيما
فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره. فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون. فدعا بها ودعا بالسيف والنطع، ثم قال: اصدقيني أمرك قال: يا أمير المؤمنين، ينفعني عندك الصدق؟ قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين، اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها، وأرسل إلى المغني فوهبها له، وقال: لا تقربنا.
قال أبو الحسن: كان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه، ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج. فشرب يوماً فسكر ورقد وانقلب أصحابه، إلا مغنياً أظهر التراقد، وبقيت معه مغنية للواثق. فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة ودفعها إليها:
إني رأيتك في المنام كأنني ... مترشف من ريق فيك البارد
وكأن كفك في يدي وكأنما ... بتنا جميعاً في فراش واحد
ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتي وتحت خدك ساعدي
فأجابته:
خيراً رأيت وكل ما أبصرته ... ستناله مني برغم الحاسد
وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتحل بين مراشفي ومجاسدي
فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد
فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة، رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها، وقال لهما: ما هذه؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلامٌ ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ، إلا أن العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوجها منه. فلما أشهد له وتم النكاح، أقامها الواثق بمحضر المغني إلى بيت من بعض البيوت، فوقع عليها ثم خرج إليه، فقال له: أردت أن تكشخني فيها وهي خادمي، فقد كشختك فيها وهي زوجتك.
قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية، دخل عليه مسلمة أخوه، قال: يا أمير المؤمنين، تركت الظهور للعامة والشهود للجمعة وأضعت أمر المسلمين واحتجبت مع هذه الأمة. فارعوى قليلاً وظهر للناس. فأوحت حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتاً يهون فيها على يزيد ما قال مسلمة فقال، وغنت بها حبابة:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد منع المحزون أن يتجلدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلما سمعها ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقت! صدقت! على مسلمة لعنة الله. ثم عاد إلى سيرته الأولى.
وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم ابن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفاً شديداً. فلما توفيت أكب عليها أياماً يترشفها ويتشممها حتى أنتنت، فقام عنها وأمر بجهازها، ثم خرج بين يدي نعشها، حتى إذا بلغ القبر نزل فيه، حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف، لصق إليه مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه. فلما أكثر عليه قال له: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قائلٌ ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
قال: وطعن في جنازتها، فدفناه إلى سبعة عشر يوماً.
وذكر المعتصم جاريةً كانت غلبت عليه وهو بمصر، ولم يكن خرج بها معه، فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية، فأقلقني الشوق إليها، فهات صوتاً يشبه ما ذكرت لك. فأطرق ملياً ثم غنى:
وددت من الشوق المبرح أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فما لنعيم لست فيه بشاشةٌ ... وما لسرور لست فيه سرور

وإن امرأ في بلدة نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور
فقال: والله ما عدوت ما في نفسي، وأمر له بجائزة، ورحل من ساعته. فلما بلغ الفرما قال:
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما
لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
وقال المأمون في قينة له:
لها في لحظها لحظات حتف ... تميت بها وتحيي من تريد
فإن غضبت رأيت الناس قتلى ... وإن ضحكت فأرواح تعود
وتسبي العالمين بمقلتيها ... كأن العالمين لها عبيد
وأنشد البحتري في قينة له:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وجل فعالها حسن جميل
فإن تغضب فأحسن ذات دل ... وإن رضيت فليس لها عديل
وقال ابن المعتز في قينة له:
سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين للشعر والدجا ... وشمسين من كأس ووجه حبيب
وقال هارون الرشيد في قينة له:
تبدي صدودا وتخفي تحته مقةً ... فالنفس راضيةٌ والطرف غضبان
يا من وضعت له خدي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان
وقال إبراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد، ولا تؤتى إلا من باب الطمع. وقال علي بن الجهم: قلت لقينة:
هل تعلمين وراء الحب منزلةً ... تدني إليك فإن الحب أقصاني
فقالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت:
اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه ... فلم يزل مدنياً من ليس بالداني
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة، فجلس عندها يوماً يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج قال لها: ناوليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب، وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود فلعلك تعود. وناولته عوداً من الأرض.
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إليها إذا نظر إليها. فطلبت منه أن يسلفها دراهم. فانقطع عنها وتجنب دارها، فعملت له دواء ولقيته به. فقال لها: ما هذا؟ قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك. قال: اشربيه أنت للطمع، فإن انقطع طعمك انقطع فزعي، وأنشأ يقول:
أنا والله أهواك ... ولكن ليس لي نفقة
فإما كنت تهويني ... فقد حلت لي الصدقه
وقعد أبو الحارث جميز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره، فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام. فلما طال ذلك به، قال: ما لي لا أسمع للطعام ذكراً؟ قالت: سبحان الله، أما تستحي، أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها: جعلت فداك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا.
وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة وكان أبو النواس يختلف إليها، فتظهر له أنها لا تحب غيره، وكان كلما جاءها وجد عندها فتىً يجلس عندها ويتحدث إليها، فقال فيها:
ومظهرةٍ لخلق الله ودا ... وتلقي بالتحية والسلام
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام
فيا من ليس يكفيها صديقٌ ... ولا خمسون ألفا كل عام
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على الطعام
وقال الشيباني: حضر أبو النواس مجلساً فيه قيان، فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم، ونحن على المجوسية.
وقال العتبي: حضرت قينة مجلساً فغنت فأجادت، فقام إليها شيخ من القوم فجلس بن يديها وقال: كل مملوك لي حر، وكل امرأة لي طالق، لو كانت الدنيا كلها صرارا في كمي لقطعتها لك، فأما إذ لم يكن، فجعل الله كل حسنة لي لك، وكل سيئة عليك علي. قالت: جزاك الله خيراً، فوالله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق، إن كان وهب لك شيئاً ولا حمل عنك ثقلاً، لأنه ما له حسنةٌ يهبها لك، ولا عليك سيئة يحملها عنك، فلأي شيء تحمدينه؟

حدث أحمد بن عمر المكي قال حدثني أبي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان بالمدينة قينة يقال لها بصبص، وكان الجعفري يتعشقها فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها فقد والله أيتمت ولدي وأرملت نسائي وأخرجت ضيعتي. فقاموا معه حتى إذا جاءوا إلى بابها دقه، فخرجت إليه فإذا هي أملح الناس دلا وشكلاً، فقال لها: يا جارية، أتغنين:
وكنت أحبكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام
فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية، هاتي عودي. والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره، فغنت:
تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقاً ثم قال لها: يا سيدتي أفتحسنين أن تغني:
وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما ... وإن ظلموا كنت الذي أتفضل؟
قالت: والله ما أعرف هذا ولكن غيره، فغنت:
فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله ... وأنزلكم منا بأكرم منزل
قال: فدفع الباب ودخل وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة.
خبر الذلفاء
قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الأحمر، مفروش باليباج الأخضر، في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع، وإذا بإزاء كل شق من البستان ميدان بنبت الربيع قد أزهر. وعلى رأسه وصائف، كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها. وقد غابت الشمس فنضرت الخضرة، وأضعفت في حسنها الزهرة، وغنت الأطيار فتجاوبت، وسفت الرياح على الأشجار فتمايلت، بأنهار فيه قد شققت، ومياه قد تدفقت. فقلت: السلام عليك يا أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكان مطرقاً، فرفع رأسه وقال: أبا زيد، في مثل هذا الحين يصاب أحد حيا؟ قلت: أصلح الله الأمير، أو قد قامت القيامة بعد. قال: نعم، على أهل المحبة سراً والمراسلة بينهم خفية. ثم أطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أعز الله الأمير، قهوة صفراء في زجاجة بيضاء، تناولها مقدودة هيفاء، مضمومة لفاء دعجاء. أشربها من كفها، وأمسح فمي بفمها. فأطرق سليمان ملياً لا يحير جواباً، تنحدر من عينه عبرات بلا شهيق. فلما رأى الوصائف ذلك تنحين عنه. ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، حللت في يوم فيه انقضاء أجلك، ومنتهى مدتك، وتصرم عمرك، والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك. قلت: نعم أصلح الله الأمير، كنت جالساً عند باب أخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد، عليها قميصٌ سكبٌ يتبين منه بياض بدنها، وتدوير سرتها، ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران، قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها، مضمومة بفرد ذؤابة تضرب إلى حقويها، وتسيل كالعثاكيل على منكبيها، وطرة قد أسبلت على متني جبينها، وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد قوسا على محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحراً، وأنف كأنه قصبة در، وفم كأنه جرح يقطر دما. وهي تقول: عباد الله، من لي بدواء ما لا يشتكى؟ وعلاج ما لا يسمى؟ طال الحجاب، وأبطأ الجواب، فالفؤاد؟ طائر، والقلب عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس، رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً، وماتوا تبلداً، ولو كان إلى الصبر حيلة، وإلى العزاء سبيل، لكان أمرا جميلاً، ثم أطرقت طويلاً، ثم رفعت رأسها. فقلت: أيتها الجارية، إنسية أنت أم جنية؟ سمائية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك. فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: اعذر أيتها المتكلم الأريب، فما أوحش الساعة بلا مساعد، والمقاساة لصبٍ معاند، ثم انصرفت. فوالله، أصلح الله الأمير، ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكراها، ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها. قال سليمان: أبا زيد، كاد الجهل أن يستفزني، والصبا أن يعاودني، والحلم أن يعزب عني؛ لحسن ما رأيت وشجو ما سمعت، تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان

شراؤها على أخير ألف ألف درهم. وهي عاشقة لمن باعها، والله إني من لا يموت إلا بحزنها، ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة، وفي توقع الموت نهية، قم أبا زيد فاكتم المفاوضة. يا غلام ثقله ببدرة. فأخذتها وانصرفت. قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط،، فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء، مونقة زهراء، ذات حدائق بهجة، تحتها أنواع الزهر الغض، من بين أصفر فاقع، واحمر ساطع، وأبيض ناصع، فهي كالثوب الحرمي. وحواشي البرد الأتحمي، يثير منها مر الرياح نسيما يربى على رائحة العنبر، وفتيت المسك الأذفر. وكان له مغن ونديم وسمير يقال له سنان، به يأنس وإليه يسكن. فأمر أن يضرب فسطاسه بالقرب منه. وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور، وأتم حبور، إلى أن انصرف مع الليل إلى فسطاسه. فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: قرانا، أصلحك الله. قال: وما قراكم؟ قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه، إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه. قالوا. غننا صوت كذا. قال: فرفع عقيره يتغنى بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما طلها السحر
تثنى على الخد منها من معصفرة ... والحلي بادٍ على لباتها خصر
في ليلةٍ لا يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
لم يحجب الصوت أحراسٌ ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها للمشي تنفطر
فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع، فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلى الذي وافق المعنى، من وقت الليل واستماعها الصوت إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها، فهملت عيناها وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت:
ألا رب صوت رائع من مشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد
يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معاً وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام، علي بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذره ولك عشر آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله. فخرج الرسول. فسبق رسول سليمان. فلما أتي به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذي نعمته، فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يضيع حظه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه، ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه، وأن الحصان إذا صهل استودقت له الفرس، وأن الجمل إذا هدر ضبعت له الناقة، وأن التيس إذا نب استحرمت له الشاة؟ إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك.

قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان، وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي، فالتفت فرأيتها. فوقفت فقالت: هل من حاجة؟ قلت: تزيدين في السماع، قالت: وأنت قائم؟ لو قعدت. فقعدت كالخجل. فقالت: علمك بالغناء؟ قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بغير نار، ما منعك من معرفته؟ فوالله أنه لسحوري وفطوري، قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا هذا، وهل له موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة؟ فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت: فيهن وفيهن، ولي بينهن قصة. قلت: وما هي؟ قالت: كنت أيامي شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة، وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة، وكان زوجي شاباً وضيئاً، وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره. فأضر ذلك بي، وكان قد علقته امرأة قصار تجاورني، فزاد ذلك في غمي. فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي. فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك؟ قلت: وابأبي أنت، إذاً تكونين أعظم الخلق منةً علي. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير، فإنه حسن الغناء، فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك، فإنه سيجامعك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع، فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة. فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي ثم تغنيت. فإذا غنيت صوتاً بت على زب، وإن غنيت صوتين بت على زبين، وإن غنيت ثلاثة فثلاثة.
فكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني، وقلت: يا هذه، ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة المشورة. قالت: حسبك بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء قالت: لذع في الفؤاد، وأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك؟ قالت: لا، أنا في فائت من العيش فلما نهضت لأقوم، قالت: على رسلك، لا تنصرف خائباً، ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها.
ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أبى الناس كل الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها:
خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيمته دهراً كأن به سحرا
دعى الهجر لا أسمع به منك إنما ... سألتك أمراً ليس يعري لكم ظهرا
فكتبت إليه: صدقت، جعلت فداك. ليس يعرى لنا ظهراً، ولكنه يملأ لنا بطناً.
وكان أبو بكر الكاتب، مفتتناً بقينة محمد بن حماد، فاهدى إليها قميصاً، فقال فيه بعض الكتاب:
أهدى إليها قميصاً ... ينيكها فيه غيره
فللسعادة حرها ... وللشقاوة أيره
حدث أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشأ وللأخرى جوذر، وكان يحب الغناء. وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجالس المتظرفين. فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به. فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي؟ قال له: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذاً، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر. فلما شربه المضحك تحركت عليه بطنه، وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه. فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض. فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت يقول غنياني:
رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل واد
فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ قالت إحداهما للأخرى: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

خرجت بها من بطن مكة بعدما ... أصات المنادي للصلاة فأعلما
فاندفعتا تغنيانه. فقال في نفسه: لم يفهما والله عني، أظنهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذاهب؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قال: يقول غنياني:
ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب
فغنتاه الصوت. فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء، فقال لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني:
خلي علي جوى الأشواق إذ ظعنا ... من بطن مكة والتسهيد والحزنا
قال: فغنتاه. فقال: إنا لله وإن إليه راجعون، وما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال لهما: أين الحش؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت يسأل أن نغنيه:
أوحش الحشان فالربع منها ... فمناها فالمنزل المعمور
فاندفعتا تغنيانه. فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف. قال: يا حبيبتي، أين الكنيف؟ قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل! ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني:
تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني وما اكتهلا
قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال لهما: كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو، فرفع ثيابه فسلح عليهما، وانتبه الهاشمي: فقال له: سبحان لله! أتسلح على وطائي! قال: والذي خرج من بطني أعز علي من وطائك، إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط، فأعلمتهما ما هو.
قولهم في العود
قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال: ليت شعري ما هو؟ فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو، محدودب الظهر، أرسح البطن، له أربعة أوتار، إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حراك أعطافه وهز رأسه.
مر إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا فقال له: لمن ترهف هذا السيف؟ وقال بعض الكتاب في العود:
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق القلم
ومن قولنا في هذا المعنى:
يا مجلساً أينعت منه أزاهره ... ينسيك أوله في الحسن آخره
لم يدر هل بات فيه ناعماً جذلا ... أو بات في جنة الفردوس سامره
والعود يخفق مثناه ومثلثه ... والصبح قد غردت فيه عصافره
وللحجارة أهزاج إذا نطقت ... أجابها من طيور البر ناقره
وحن من بينها الكثبان عن نغم ... تبدي عن الصب ما تخفي ضمائره
كأنما العود فيما بيننا ملك ... يمشي الهوينى وتتلوه عساكره
كأنه إذا تمطى وهي تتبعه ... كسرى بن هرمز تقفوه أساوره
ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ... ما كان يكسر بيت الشعر كاسره
صوت رشيق وضرب لو يراجعه ... سجع القريض إذا ضلت أساطره
لو كان زرياب حياً ثم أسمعه ... لمات من حسد إذ لا يناظره
وقال الحمدوني فيه:
وسجعت رجع عودٍ بين أربعة ... سر الضمائر فيما بينها علن
فولدت للندامى بين نغمتها ... وكفها فرحاً تفصيله حزن
فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ... ولا تحير في ألحانها لحن
تهدي إلى كل جزء من طبائعها ... بنانها نغماً أثمارها فتن
وترتعي العين منها روض وجنتها ... طوراً وتسرح في ألفاظها الأذن
وقال عكاشة بن الحصين:
من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرفت عنابا
وكأن يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا
ومن قولنا في العود:
يا رب صوتٍ يصوغه عصبٌ ... نيطت بساق من فوقها قدم
جوفاء مضمومة أصابعها ... في ساكنات تحريكها نغم
أربعة جزئت لأربعة ... أجزاؤها بالنفوس تلتحم

أصغرها في القلوب أكبرها ... يبعث منه الشفاء والسقم
إذا أرنت بغمز لافظها ... قلت حمام يجيبهن حم
لها لسان بكف ضاربها ... يعرب عنها وما لهن فم
قولهم في المبردين في الغناء
قال أبو نواس:
قل لزهير إذا شدا وحدا ... أقلل أو أكثر فأنت مهذار
سخنت من شد البرودة حتى ... صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج بارد حار
وقال أيضاً:
قد نضجنا ونحن في الجيش طرا ... أنضجتنا كواكب الجوزاء
فأصيبوا لنا حسينا ففيه ... عوض من جليد برد الشتاء
لو يغني وفوه ملآن خمراً ... لم يضره من برد ذاك الغناء
وله:
كأن أبا المغلس إذ يغني ... يحاكي عاطساً في عين شمس
يميل بشدقه طوراً وطوراً ... كأن بشدقه ضربان ضرس
وقال دعبل:
ومغن إن تغنى ... أورث الندمان هما
أحسن الأقوام حالاً ... فيه من كان أصما
وقال الحمدوني:
بينما نحن سالمون جميعاً ... إذ أتانا ابن سالم مختالا
فتغنى صوتاً فكان خطاء ... ثم ثنى أيضاً فكان محالا
سألنا خلعة على ما تغنى ... فخلعنا على قفاه النعالا
ولعباس الخياط:
رأيت يوماً سائباً يضرب ... فقمت من مجلسنا أهرب
لأنه ينبح من عوده ... عليك من أوتاره أكلب
كأنما تسمع في حلقه ... دجاجة يخنقها ثعلب
ما عجبني منه ولكنني ... من الذي يسمعه أعجب
وقال آخر:
ومغن يخرى على جلسائه ... ضرب الله شدقه بغنائه
وقال مؤمن في ربيع المغني وكان يتغنى وينقر في الدواة:
غناؤك يا ربيع أشد برداً ... إذا حمى الهجير من الصقيع
ونقرك في الدواة أشد منه ... فما يصبو إليه سوى رقيع
أغثنا في المصيف إذا تلظى ... ودعنا في الشتاء وفي الربيع
باب في الرقائق
قد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار وقلة التحصيل والنظر، مع لؤم الغرائز وضعف الهمم، فقل من يختار من الصنائع أرفعها، ويطلب من العلوم أنفعها، ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم، مؤنة التحفظ، وأخفها عندهم وأمهلها عليهم إسقاط المروءة.
وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها؟ قال: الارتكاس وقيل لعبد الله ابن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: هتك الحياء واتباع الهوى.
وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش؟ قال: ليقم من هنا من الأحداث. قال: فلما قاموا. قال: العيش كله إسقاط المروءة، وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة. ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع الناس من حسن الاختيار.
ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي، على علمه باللغة ومعرفته باللسان، وضع كتاباً سماه بالروضة وقصد فيه إلى أخبار المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانئ، وقلما يأتي له بيت ضعيف لرقة فطنته وسبوطة بنيته وعذوبة ألفاظه، فاستخرج له من البرد أبياتاً ما سمعناها ولا رويناها، ولا ندري من اين وقع عليها، وهي:
ألا لا تلمني في العقار جليسي ... ولا تلحني في شربها بعبوس
تعشقها قلبي فبغض عشقها ... إلي من الأشياء كل نفيس
وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي، فقال: ومن الموالي الحسن بن هانئ، وهو من أقدر الناس على الشعر، وأطبعهم فيه. ومن قوله:
فجاء بها صفراء بكراً يزفها ... إلي عروساً ذات دل معشق
فلما جلتها الكأس أبدت لناظري ... محاسن ليتٍ بالجمان مطوق
ومن قوله:
ساع بكاس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريك وشمل الليل مجتمع ... صبحا تولد بين الماء والعنب
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب

وجل أشعاره الخمريات بديعة لا نظير لها، فخطر به اكلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده، فما أحسبه لحقه هذا الاسم أعني المبرد، إلا لبرده. وقد تخير لأبي العتاهية أشعاراً تقتل من بردها، وشنفها وقرظها بكلامه، فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء المخير عند الخلفاء قوله:
يا قرة العين كيف أمسيت ... أعزز علينا بما تشكيت
وقوله:
آه من وجدي وكربي ... آه من لوعة حبي
ما أشد الحب يا سبحانك اللهم ربي
ونظير هذا من سوء الاختيار ما تخيره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث، فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء، وأصفى من رقة الهواء، وكل مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، وغنوا بقول الشاعر:
فلا أنسى حياتي ما ... عبدت الله لي ربا
وقلت لها أنيليني ... فقالت أفرق الدبا
ولو تعلم ما بي لم ... تهب دبًا ولا كلبا
وأقل ما كان يجب في هذا الشعر أن يضرب قائله خمسمائة سوط، وصانعه أربعمائة، والغنى به ثلثمائة، والمصغي إليه مائتين. ومثله:
كأنما الشمس إذا ما بدت ... تلك التي قلبي لها يضرب
تلك سليمى إذا ما بدت ... وما أنا في ودها أرغب
كأن في النفس لها ساحراً ... ذاك الذي علمه المذهب
يعني بالمذهب الجني. ومثله:
يا خليلي أنتما عللاني ... بين كرم ومزهرٍ وجنان
خبراني أين حلت مناي ... يا عباد الله لا تكتماني
إنما حلت بواد خصيب ... ينبت الورس مع الزعفران
أحلف بالله لو وجداني ... غرقا في البحر ما أنقذاني
ومثله:
أبصرت سلمى من منى ... يوماً فراجعت الصبا
يا درة البحر متى ... تشهد سوقاً تشتري
ومثله:
يا معشر الناس هذا ... أمرٌ وربي شديد
لا تعنفى يا فلانه ... فإنى لا أريد
ومثله:
أرقت فأمسيت لا أرقد ... وقد شفنى البيض والخود
فصرت لظبي بني هاشم ... كأني مكتحل أرمد
أقلب أمري لدى فكرتي ... وأهبط طوراً فما أصعد
وأصعد طوراً ولا علم لي ... على أنني قبلكم أرشد
ومثله:
ما أرجى من حبيبٍ ... ضن عني بالمداد
لو بكفيه سحاب ... ما ارتوت منه بلادي
أنا في واد ويمسى ... هو لي في غير واد
ليته إذ لم يجد لي ... بالهوى رد فؤادي
ومثله:
ما لسلمى تجنبت ... ما لها اليوم مالها
إن تكن قد تغضبت ... أصلح الله حالها
باب من رقائق الغناء
قال الزبير بن بكار: سألت إسحاق هل تغني من شعر الراعي شيئاً؟ قال: وأين أنت من قوله:
فلم أر مظلوماً على حال عزة ... أقل انتصاراً باللسان وباليد
سوى ناظرٍ ساجٍ بعين مريضة ... جرت عبرة منها ففاضت بإثمد
ومن شعر ابن الدمينة وهو عبيد الله بن عبد الله، والدمينة أمه، وهو من أرق شعراء المدينة بعد كثير عزة، وقيس بن الخطيم:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... له بهتة حتى يقال مريب
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا أن تيقنت أنه ... يمر بوادٍ أنت منه قريب
يكون أجاجاً قبلكم فإذا انتهى ... إليكم تلقى طيبكم فيطيب
أيا ساكني شرقي دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
ومن قول يزيد بن الطثرية، وغنى به ابن صياد المغني وغيره:
بنفسي من لو مر برد بنابه ... على كبدي كانت شفاءً أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
ومما يغنى به قول جرير:
أتذكر إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام

بنفسي من تجنبه عزيزٌ ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام
ومما غني به نومة الضحى:
يا موقد النار قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
وما أوحش الناس في عيني وأقبحهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
ومما يغني به معبد ذي الرمة. وهو من أرق شعر يغنى به قوله:
لئن كانت الدنيا علي كما أرى ... تباريح من ذكراك فالموت أروح
وأكثر ما كان يغني معبد بشعر الأحوص، ومن جيد ما غنى به له قوله:
كأني من تذكر أم حفص ... وحبل وصالها خلق رمام
صريع مدامة غلبت عليه ... تموت لها المفاصل والعظام
سلام الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
فإن يكن النكاح أحل شيئاً ... فإن نكاحها مطراً حرام
ومن شعر المتوكل بن عبد الله بن نهشل وكان كوفيا في عصر معاوية، وهو القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
قفي قبل التفرق يا أماما ... وردي قبل بينكم السلاما
ترجيها وقد شطت نواها ... ومنتك المنى عاماً فعاما
فلا وأبيك لا أنساك حتى ... تجاوب هامتي في القبر هاما
ومما يغنى به من شعر عدي بن الرقاع:
تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلمٌ أصاب من الدواة مدادها
ولقد أصبت من المعيشة لذةً ... ولقيت من شظف الخطوب شدادها
وعلمت حتى ما أسائل عالماً ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن
كتاب المرجانة الثانية
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى في قولنا فيالغناء واختلاف الناس فيه، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في النساء وصفاتهن وما يحمد ويذم من عشرتهن، إذ كان العيش كله مقصوراً على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة، والبلاء كله موكلاً بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس إلى كريم عشرتها، ولا تقر العين برؤيتها.
قال الأصمعي: حدثني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير قال: ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع أحدٌ نفسه بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء. ثم قال: لعن الله فلانة، ألفت بني فلان بيضا طوالاً فقلبتهم سوداً قصاراً.
وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: المرأة العاقلة تبني بيتها والسفيهة تهدمه.
وقال: الجمال كاذب والحسن مختلف، وإنما تستحق المدح المرأة الموافقة.
مكحول، عن عطية بن بشر، عن عكاف بن وداعة الهلالي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عكاف، ألك امرأة؟ قال: لا. قال: فأنت إذاً من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فانكح فإن من سنتنا النكاح.
وقالت عائشة: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بالنساء فإنهن عندكم عوان " يعني أسيرات.
قولهم في المناكح
خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظرب حكيم العرب ابنته عمرة، وهي أم عامر بن صعصعة فقال: يا صعصعة، إنك أتيتني تشتري مني كبدي، فارحم ولدي قبلتك أو رددتك. والحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب. وقد أنكحتك خشية أن لا أجد مثلك أفر من السر إلى العلانية. يا معشر عدوان، خرجت من بين أظهركم كريمتكم من غير رغبة ولا رهبة، أقسم لولا قسم الحظوظ على الجدود ما ترك الأول للآخر ما يعيش به.

العباس بن خالد السهمي قال: خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم إياس، فقال: نعم، أزوجها على أن أسمي بنيها وأزوج بناتها. فقال عمرو بن حجر: أما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا، وأما بناتنا فينكحهن أكفاؤهن من الملوك، ولكني أصدقها عقاراً في كندة وأمنحها حاجات قومها، لا ترد لأحد منهم حاجة. فقبل ذلك منه أبوها، وأنكحه إياها. فلما كان بناؤه بها خلت بها أمها فقالت: أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي فيه درجت، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخرا. أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا الطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعاليه، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً. فولدت له الحارث بن عمرو، جد امرئ القيس الشاعر.
الشيباني قال: حدثنا بعض أصحابنا أن زرارة بن عدس نظر إلى ابنه لقيط فقال: ما لي أراك مختالاً كأنك جئتني بابنة ذي الجدين، أو مائة من هجائن النعمان؟ فقال: والله لا يمس رأسي دهن حتى آتيك بهما، أو ابلي عذراً. فانطلق حتى أتى ذا الجدين، وهو قيس بن مسعود الشيباني، فوجده جالساً في نادي قومه شيبان، فخطب إليه بنته علانية، فقال له: هلا ناجيتني؟ قال: علمتي أني إن ناجيتك لم أخدعك، وإن عالنتك لم أفضحك، قال: ومن أنت؟ قال: لقيط بن زرارة. قال: لا جرم، ولا تبيتن فينا عزبا ولا محروما. فزوجه وساق عنه المهر، وينى بها من ليلته تلك. ثم خرج إلى النعمان فجاء بمائتين من هجائنه، وأقبل إلى أبيه، وقد وفى نذره. فبعث إليه قيس بن مسعود بابنته مع ولده بسطام بن قيس، فخرج لقيط يتلقاها في الطريق ومعه ابن عم له، يقال له قراد، فقال لقيط:
هاجت عليك ديار الحي أشجانا ... واستقبلوا من نوى الجيران قربانا
تامت فؤادك لم تقض التي وعدت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
فانظر قراد وهل في نظرة جزع ... عرض الشقائق هل بينت أظعانا
فيهن جارية نضح العبير بها ... تكسى ترائبها دراً ومرجانا
كيف اهتديت ولا نجم ولا علم ... وكنت عندي نؤوم الليل وسنانا
ولما رحل بها بسطام بن قيس قالت: مروا بي على أبي أودعه، فلما ودعته قال لها: يا بنية، كوني له أمةً يكن لك عبداً، وليكن أطيب طيبك الماء، ثم لا أذكرت ولا أيسرت، فإنك تلدين الأعداء وتقربين البعداء، إن زوجك فارس من فرسان مضر، فإذا كان ذلك فلا تخمشي وجهاً ولا تحلقي شعراً. فلما قتل لقيط تحملت إلى أهلها ثم مالت إلى مجلس عبد الله بن دارم، فقالت: نعم الأحماء كنتم يا بني دارم، وأنا أوصيكم بالقرائب خيراً، فلم أر مثل لقيط. ثم لحقت بقومها. فتزوجها ابن عم لها، فكانت لا تسلو عن ذكر لقيط فقال لها زوجها: أي يوم رأيت فيه لقيطاً أحسن في عينك؟ قالت: خرج يوماً يصطاد، فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني مختضباً بالدماء، فضمني ضمة، ولثمني لثمة، فليتني مت ثمة.فخرج زوجها ففعل مثل ذلك، ثم أتاها، فضمها ولثمها، ثم قال لها: من أحسن أنا أم لقيط عندك؟ قالت: مرعى ولا كالسعدان.

أبو الفضل: عن بعض رجاله قال: قدم قيس بن زهير بعدما قتل أهل الهباءة على النمر بن قاسط فقال: يا معشر النمر، نزعت إليكم غريباً حزيناً فانظروا لي امرأة أتزوجها، قد أذلها الفقر، وأدبها الغنى، لها حسب وجمال. فزوجوه على هيئة ما طلب.فقال: إني لا أقيم فيكم حتى أعلمكم أخلاقي: إني غيور فخور ضجور، ولكني لا أغار حتى أرى، ولا أفخر حتى أفعل، ولا آنف حتى أظلم. فأقام فيهم حتى ولد له غلام سماه خليفة، ثم بدا له أن يرتحل عنهم، فجمعهم ثم قال: يا معشر النمر، إن لكم علي حقاً، وأنا أريد أن أوصيكم فآمركم بخصال، وأنهاكما عن خصال: بالإبل، فإن بها تنال الفرصة، وسودوا من لا تعابون بسؤدده، وعليكم بالوفاء فإن به عيش الناس، وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل القسم، وإجارة الجائر على الدهر، وتنفيس المنازل. وأنهاكم عن الرهان، فإن بها ثكلت مالكا، وأنهاكم عن البغي فإنه صرع زهيراً، وعن السرف في الدماء فإن يوم الهباءة أورثني الذل، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، ولا تردوا الأكفاء عن النساء فتحوجوهن إلى البلاء، فإن لم تجدوا الأكفاء فخير أزواجهن القبور. واعلموا أني أصبحت ظالماً مظلوماً، ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكاً، وظلمت بقتلي من لا ذنب له.
كان الفاكه بن المغيرة المخزومي أحد فتيان قريش، وكان قد تزوج هند بنت عتبة، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا إذن، فقام يوماً في ذلك البيت، وهند معه، ثم خرج عنها وتركها نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت فلما وجد المرأة نائمة ًولى عنها. فاستقبله الفاكه بن المغيرة، فدخل على هند وأنبهها، وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيت أحداً قط. قال: الحقي بأبيك. وخاض الناس في أمرهم. فقال لها أبوها: يا بنية: أنبئيني شأنك، فإن كان الرجل صادقاً دسست عليه من يقتله فينقطع عنك العار، وإن كان كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن: قالت: والله يا أبت إنه لكاذب. فخرج عتبة، فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبين ما قلت، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. قال: ذلك لك. فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونسوة من بني مخزوم، وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف، فلما شارفوا بلاد الكاهن تغير وجه هند، وكسف بالها. فقال لها أبوها: أي بنية، ألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس خروجنا؟ قالت: يا أبت، والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، ولعله أن يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب. فقال لها أبوها: صدقت، ولكني سأخبره لك. فصفر بفرسه، فلما أدلى، عمد إلى حبة بر فأدخلها في إحليله، ثم أوكى عليها وسار. فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم. فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر قد خبأنا لك خبية، فما هي؟ قال: ثمرة في كمرة. قال: أريد أبين من هذا. قال: حبة بر في إحليل مهر. قال: صدقت فانتظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن، ويقول: قومي لشأنك، حتى إذا بلغ إلى هند مسح يده على رأسها، وقال: قومي غير رسحاء ولا زانية، وستلدين ملكاً سمى معاوية. فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها فنترت يده من يدها، وقالت: والله لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك. فتزوجها أبو سفيان فولدت معاوية.
وذكروا أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت لأبيها: يا أبت، إنك زوجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض فلا تزوجني من أحد حتى تعرض علي أمره، وتبين لي خصاله. فخطبها سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها وهو يقول:
أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضاً لك يا هند الهنود ومقنع
وما منهما إلا يعاش بفضله ... وما منهما إلا يضر وينفع
وما منهما إلا كريم مرزأ ... وما منهما إلا أغر سميدع
فدونك فاختاري فأنت بصيرةٌ ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع

قالت: يا أبت، والله ما أصنع بهذا شيئاً، ولكن فسر لي أمرهما وبين لي خصالهما، حتى أختار لنفسي أشدهما موافقة لي. فبدأ يذكر سهيل بن عمرو، فقال: أما أحدهما ففي سطةٍ من العشيرة وثروة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط عليك، تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه، في الحسب والحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعز عشيرته، شديد الغيرة، كثير الطيرة، لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله. فقالت: يا أبت، الأول سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتصنع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساءت عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه لي. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتغيره، ولا تصيبه بذعر فتضيره، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه. فزوجها من أبي سفيان. فولدت له معاوية، وقبله يزيد،فقال في ذلك سهيل بن عمرو:
نبئت هنداً تبر الله سعيها ... تأبت وقالت وصف أهوج مائق
وما هوجي يا هند إلا سجية ... أجر لها ذيلي بحسن الخلائق
ولو شئت خادعت الفتى عن قلوصه ... ولا طمت بالبطحاء في كل شارق
ولكنني أكرمت نفسي تكرماً ... ورافعت عنها الذم عند الخلائق
وإني إذا ما حرة ساء خلقها ... صبرت عليها صبر آخر عاشق
فإن هي قالت خل عنها تركتها ... وأقلل بترك من حبيبٍ مفارق
فإن سامحوني قلت أمري إليكم ... وإن أبعدوني كنت في رأس حالق
فلم تنكحي يا هند مثلي وإنني ... لمن لم تمقني فاعلمي غير وامق
فبلغ أبا سفيان، فقال: والله لو أعلم شيئاً يرضي أبا زيد سوى طلاق هند لفعلته. وألح سهيل في تنقص أبي سفيان. فقال أبو سفيان:
رأيت سهيلاً قد تفاوت شأوه ... وفرط في العلياء كل عنان
وأصبح يسمو للمعالي وإنه ... لذو جفنةٍ مغشية وقيان
وشربٍ كرام من لؤي بن غالب ... عراض المساعي عرضة الحدثان
ولكنه يوماً إذا الحرب شمرت ... وأبرز فيها وجه كل حصان
تطأطأ فيها ما استطاع بنفسه ... وقنع فيها رأسه ودعاني
فأكفيه ما لا يستطاع دفاعه ... وألقيت فيها كلكلي وجراني
قال: وتزوج سهيل بن عمر امرأةً فولدت له ولداً، فبينا هو سائر معه إذ نظر إلى رجل يركب ناقة ويقود شاة، فقال لأبيه: يا أبت، هذه ابنة هذه؟ يريد الشاة ابنة الناقة، فقال أبوه: يرحم الله هندا، يعني ما كان من فراستها فيه.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، لو تزوجت أم هانئ بنت أبي طالب؟ فقد جعل الله لها قرابةً فتكون صهراً أيضاً. فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله لهو أحب إلي من سمعي وبصري، ولكن حقه عظيم وأنا موتمةٌ، فإن قمت بحقه خفت أن أضيع أيتامي، وإن قمت بأمرهم قصرت عن حقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناها على ولد في صغره، وأرعاها على بعل في ذات يده. لو علمت أن مريم بنت عمران ركبت جملا لاستثنيتها.
ولما توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان عرض عليه عمر ابنته حفصة، فسكت عنه عثمان. وقد كان بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يزوجه ابنته الأخرى. فشكا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سكوت عثمان عنه، فقال له: سيزوج الله ابنتك خيراً من عثمان ويزوج عثمان خيراً من ابنتك. فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وتزوج عثمان ابنته.
ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن عبد العزى ذكرت ذلك لورقة بن نوفل. وهو ابن عمها، فقال: هو الفحل لا يقدع أنفه، تزوجيه.

زخطب عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت أبي بكر، وهي صغيرة، فأرسل إلى عائشة، فقالت له: الأمر إليك. فلما ذكرت ذلك عائشة لأم كلثوم قالت: لا حاجة لي فيه. فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم. إنه خشن العيش شديد على النساء، فأرسلت عائشة إلى المغيرة بن شعبة، فأخبرته، فقال لها: أنا أكفيك. فأتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني عنك أمر أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: بلغني أنك خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم. أفرغبت بها عني، أم رغبت بي عنها؟ قال: لا واحدة منهما، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف خليفة رسول الله في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك على خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها، كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك؟ فقال: كيف لي بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها، وأدلك على خير لك منها، أم كلثوم بنت علي، من فاطمة بنت رسول الله، تتعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان علي قد عزل بناته لولد جعفر بن أبي طالب. فلقيه عمر فقال: يا أبا الحسن، أنكحني ابنتك أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قد حسبتها لابن جعفر. قال: إنه والله ما على الأرض أحد يرضيك من حسن صحبتها بما أرضيك به، فأنكحني يا أبا الحسن. قال: قد أنكحتكها يا أمير المؤمنين. فأقبل عمر، فجلس على الروضة بين القبر والمنبر واجتمع إليه المهاجرون والأنصار. فقال: زفوني. قالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ قال: بأم كلثوم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " وقد تقدمت لي صحبة فأحببت أن يكون لي معها سبب. فولدت له أم كلثوم زيد بن عمر، ورقية بنت عمر. وزيد بن عمر هو الذي لطم سمرة بن جندب عند معاوية إذا تنقص علياً فيما يقال.
وخطب سليمان الفارسي إلى عمر ابنته، فوعده بها فشق ذلك على عبد الله بن عمر فلقي عمرو بن العاص فشكا ذلك إليه. فقال له: سأكفيكه. فلقي سلمان، فقال له: هنيئاً لك يا أبا عبد الله، هذا أمير المؤمنين يتواضع لله عز وجل في تزويجك ابنته. فغضب سلمان، وقال: لا والله لا تزوجت إليه أبداً.
وخرج بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه إلى قوم من بني ليث، يخطب إليهم لنفسه ولأخيه، فقال: أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فالمستعان الله. قالوا: نعم وكرامة. فزوجوهما.
قالت تماضر امرأة عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان: هل لك في ابنة عمٍ لي بكر، جميلة ممتلئة الخلق، أسيلة الخد، أصيلة الرأي، تتزوجها؟ قال: نعم. فذكرت له نائلة بنت الفرافصة الكلبية، فتزوجها وهي نصرانية فتحنفت وحملت إليه من بلاد كلب، فلما دخلت عليه قال لها: لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهل. قال: إني قد جزت الكهول، وأنا شيخ، قالت: أذهبت شبابك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير ما ذهبت فيه الأعمار. قال: أتقومين إلينا أم نقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك أرض السماوة وأريد أن أنثني إلى عرض البيت، وقامت إليه. فقال لها: انزعي ثيابك، فنزعتها. فقال: حلي مرطك. قالت: أنت وذاك.
قال أبو الحسن: فلم تزل نائلة عند عثمان حتى قتل، فلما دخل إليه وقته بيدها، فجذمت أناملها، فأرسل إليها معاوية بعد ذلك يخطبها، فأرسلت إليه: ما ترجو من امرأة جذماء. وقيل: إنها قالت لما قتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي، فدعت بفهر فهتمت فاها، وقالت: والله لا قعد أحدٌ مني مقعد عثمان أبداً.

وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي عند حسن بن حسن بن علي، فلما احتضر قال لبعض أهله: كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إذا سمع بموتي قد جاء يتهادى في إزار له مورد قد أسبله، فيقول: جئت أشهد ابن عمي، وليس يريد إلا النظر إلا فاطمة، فإذا جاء فلا يدخلن. قال: فوالله ما هو إلا أن غمضوه. فجاء عبد الله بن عمرو في تلك الصفة التي وصفها، فمنع ساعة، فقال بعض القوم: لا يدخل، وقال بعضهم: افتحوا له، فإن مثله لا يرد. ففتحوا له ودخل. فلما صرنا إلى القبر قامت عليه فاطمة تبكي، ثم اطلعت إلى القبر، فجعلت تصك وجهها بيديها حاسرة. قال: فدعا عبد الله بن عمرو وصيفاً له فقال: انطلق إلى هذه المرأة وقل لها: يقرئك ابن عمك السلام، ويقول لك: كفي عن وجهك، فإن لنا به حاجة. فلما بلغها الرسالة أرسلت يديها، فأدخلتهما في كميها حتى انصرف الناس. فتزوجها عبد الله بن عمرو بعد ذلك، فولدت له محمد بن عبد الله، وكان يسمى المذهب لجماله. وكانت ولدت من حسن بن حسن عبد الله بن حسن الذي حارب أبو جعفر ولديه إبراهيم ومحمداً، ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن، حتى قتلهما.
وعن مسلمة بن محارب قال: ما رأيت قرشيا قط كان أكمل ولا أجمل من محمد بن عبد الله بن عمرو الذي ولدته فاطمة بنت الحسين، وكانت له ابنة ولدها محمد، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، كانت أمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير، وأم عروة أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأم محمد فاطمة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم فاطمة بنت الحسين أم إسحاق بن طلحة بن عبد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان سودة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وعن الهيثم بن عدي الطائي قال: حدثنا مجالد عن الشعبي قال: لقيني شريح فقال: يا شعبي، عليك بنساء بني تميم، فإني رأيت لهن عقولا. قال: وما رأيت من عقولهن؟ قال: أقبلت من جنازة ظهرا، فمررت بدورهم، فإذا أنا بعجوز على باب دار، وإلى جنبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري، فعدلت فاستسقيت، وما بي عطش. فقالت: أي الشراب أحب إليك؟ فقلت: ما تيسر، قال: ويحك، يا جارية إيتيه بلبن، فإني أظن الرجل غريباً، قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة، قلت: فارغة هي أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة. قلت: زوجينيها. قالت: إن كنت لها كفواً، وهي لغة تميم. فمضيت إلى المنزل، فذهبت لأقيل. فامتنعت مني القائلة، فلما صليت الظهر أخذت بأيدي إخواني من القراء الأشراف: علقمة، والأسود، والمسيب، وموسى بن عرفطة، ومضيت أريد عمها. فاستقبل فقال: يا أبا أمية، حاجتك؟ قلت: زينب بنت أخيك، قال: ما بها رغبة عنك. فأنكحنيها. فلما صارت في حبالي ندمت، وقلت: أي شيء صنعت بنساء بني تميم؟ وذكرت غلظ قلوبهن، فقلت: أطلقها، ثم قلت: لا، ولكن أضمها إلي، فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك. فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين، فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها، فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها، فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت في عكر العصفر، فلما خلا البيت دنوت منها، فمددت يدي إلى ناصيتها فقالت: على رسلك أبا أمية كما أنت، ثم قالت: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، إني امرأةٌ غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأزدجر عنه. وقالت: إنه قد كان لك في قومك منكح،. وفي قومي مثل ذلك، ولكني إذا قضى الله أمراً كان، وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به: " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك. قال: فأخرجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله، احمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وسلم. وبعد، فإنك قد قلت كلاماً إن تثبتي عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا، ونحن جميع فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها وما رأيت من سيئة فاستريها؛ وقالت شيئاً لم أذكره: كيف محبتك لزيارة الأهل؟ قلت: ما أحب أن يملني أصهاري. قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن له، ومن تكرهه أمنعه؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء. قال: فبت يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولاً لا أرى إلا ما أحب. فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بعجوز تأمر وتنهى في الدار. فقلت: من هذه؟ قالوا: فلانة ختنتك، فسري عني ما كنت أجد، فلما جلست أقبلت العجوز، فقالت: السلام عليك أبا أمية. قلت: وعليك السلام، من أنت؟ قالت: أنا فلانة ختنتك، قلت: قربك الله، قالت: كيف رأيت زوجتك؟ قلت: خير زوجة، فقالت لي: أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ حالاً منها في حالين، إذا ولدت غلاماً أو حظيت عند زوجها، فإن ربك ريبٌ فعليك بالسوط، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة. قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، ورضت فأحسنت الرياضة. قالت: تحب أن يزورك أختامك؟ قلت: متى شاؤوا. قال: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية، فمكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة، وكنت لها ظالماً، أخذ المؤذن في الإقامة بعدما صليت ركعتي الفجر، وكنت إمام الحي، فإذا بعقرب تدب، فأخذت الإناء فأكفأته عليها، ثم قلت: يا زينب، لا تحركي الإناء حتى أتي. فلو شهدتني يا شعبي، وقد صليت ورجعت فإذا أنا بالعقرب قد ضربتها. فدعوت بالقسط والملح، فجعلت أمغث إصبعها و؟أقرأ عليها بالحمد والمعوذتين.
وكان لي جار من كندة يقرع امرأته ويضربها، فقلت في ذلك:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني حين أضرب زينبا
أأضربها في غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تبد منهن كوكبا

وقال أبو عبيدة: نكح الفرزدق أمةً له زنجية، فولدت له بنتاً فسماها مكية، وكان يكنى بها، ويقول: أنا أبو مكية. فكتبت النوار يوماً إلى الفرزدق تشكو مكية فكتب إليها:
كنتم زعمتم أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيت الله بل تظلمونها
فإن لا تعدوا أمها من نسائكم ... فإن أباها والد لن يشينها
وإن لها أعمام صدق وإخوةً ... وشيخاً إذا شئتم تأيم دونها
قالت النوار فإنا لا نشاء.
وقال الفرزدق في أمته الزنجية:
يا رب خود من بنات الزنج ... تنقل تنورا شديد الوهج
أعسن مثل القدح الخلنج ... يزداد طيباً بعد طول الهرج
وعن الهيثم بن عدي: عن ابن عياش قال: حدثنا سلمى الهذلي قال: كنت بسجستان مع طلحة الطلحات، فلم أر أحدا كان أسخى منه ولا أشرف نفساً، فكتب إلي عمي من البصرة: إني قد كبرت ومالي كثير، وأكره أن أوكله غيرك، فأقدم أزوجك ابنتي، وأصنع بك ما أنت أهله. قال: فخرجت على بغلة لي تركية، فأتيت البصرة في ثلاثين يوماً، ووافيته في صلاة العصر، فوجدته قاعداً على دكانه فسلمت عليه، فقال لي: من أنت؟ قلت له: ابن أخيك سلمى. قال: وأين ثقلك؟ قلت: تعجلت إليك حين أتاني كتابك وطرت نحوكم. قال: يا ابن أخي، أتدري ما قالت العرب؟ قلت: لا. قال: قالت العرب: شر الفتيان المفلس الطروب. قال: فقمت إلى بغلتي فأعدت سرجي عليها، فما قال لي شيئاً. ثم قال لي: إلى أين؟ قلت: إلى سجستان. قال: في كنف الله. قال: فخرجت فبت في الجسر، ثم ذكرت أم طلحة، فانصرفت أسأل عنها، وكان طلحة أبر الناس بها. فقلت: رسول طلحة، فقالت: ويحك! كيف ابني؟ قلت: على أحسن حال. قالت: فلله الحمد. وإذا بعجوز قد تحدرت، قالت: فما جاء بك؟ قلت: كيت وكيت. قالت: يا جارية. إيتيني بأربعة آلاف درهم، ثم قالت: إيت عمك فابتن بابنته، ولك عندنا ما تحب. قلت: لا أعود إليه أبداً. قالت: يا جارية إيتيني ببغلة ورحالة، ثم قالت: رواح بين هذه وبغلتك حتى تأتي سجستان. قلت: اكتبي بالوصاة بي والحالة التي استقبلتها. فكتبت بوجعها التي كانت فيه وبعافية الله إياها وبالوصاة بي، فلم تدع شيئاً، ثم دفعت حتى أتيت سجستان، فأتيت باب طلحة، وقلت للحاجب: رسول صفية بنت الحارث، وأنا عابس باسر. فدخل فخرج طلحة متوشحاً وخلفه وصيف يسعى بكرسي، فقمت بين يديه، فقال: ويلك! وكيف أمي؟ قلت: بأحسن حال. قال: انظر كيف تقول؟ قلت: هذا كتابها، قال: فعرف الشواهد والعلامات، قلت: اقرأ كتاب وصيتها. قال: ويحك، ألم تأتني بسلامتها؟ حسبك. فأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال لحاجبه: اكتبه في خاصة أهلي. قال: فوالله ما أتى علي الحول حتى أتم لي مائة ألف. قال ابن عياش: فقلت له: هل لقيت عمك بعد ذلك؟ قال: لا والله ولا ألقاه أبداً.

وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أخبرني موسى السلاماني، مولى الحضرمي، وكان أيسر تاجر بالبصرة، قال: بينا أنا جالس إذ دخل علي غلام لي، فقال: هذا رجل من أهل أمك يستأذن عليك. وكانت أمه مولاةً لعبد الرحمن بن عوف. فقلت: إيذن له، فدخل شاب حلو الوجه، يعرف في هيئته أنه قرشي، في طمرين، فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: في الرحب والقرب، ثم قلت: يا غلام، بره وأكرمه وألطفه، وادخله الحمام، واكسه قميصاً رقيقاً، ومبطناً قرهيا، ورداء عمريا، وحذونا له نعلين حضرميين، فلما نظر الشاب في عطفيه وأعجبته نفسه. قال: يا هذا، ابغني أشرف أيم بالبصرة أو أشرف بكر بها. قلت: يا بن أخي، معك مال؟ قال: أنا مال كما أنا. قلت: يا بن أخي، كف هن هذا. قال: انظر ما أقول لك. قلت: فإن أشرف أيم بالبصرة هند بنت أبي صفرة. وأشرف بكر بالبصرة الملاءة بنت زرارة بن أوفى الحرشي، قاضي البصرة. قال: اخطبها علي. قلت: يا هذا إن أباها قاضي البصرة. قال: انطلق بنا إليه. فانطلقنا إلى المسجد، فتقدم فجلس إلى القاضي، فقال له: من أنت يا بن أخي؟ قال له: عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مرحباً، ما حاجتك؟ قال: جئت خاطباً. قال: ومن ذكرت؟ قال: الملاءة ابنتك. قال: يا بن أخي، ما بنا عنك رغبة، ولكنها امرأة لا يفتات عليها أمرها، فاخطبها إلى نفسها. فقام إلي. فقلت: ما صنعت؟ قال: كذا وكذا. قلت: ارجع بنا ولا تخطبها. قال: اذهب بنا إليها، فدخلنا دار زرارة، فإذا دار فيها مقاصير. فأستأذنا على أمها، فلقيتنا بمثل كلام الشيخ، ثم قالت: ها هي تلك في تلك الحجرة. قلت له: لا تأتيها. قال: أليست بكرا؟ قلت: بلى. قال: ادخل بنا إليها، فأستأذنا، فأذنت لنا، فوجدناها جالسة وعليها ثوبٌ قوهي رقيق معصفر، تحته سراويل يرى منه بياض جسدها، ومرط قد جمعته على فخذيها، ومصحف على كرسي بين يديها، فأشرجت المصحف ثم نحته، فسلمنا، فردت، ثم رحبت بنا، ثم قالت: من أنت؟ قال: أنا عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد بها صوته، قالت: يا هذا، إنما يمد هذا الصوت للساسانيين. قال موسى: فدخل بعض في بعض. قالت: ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قالت: ومن ذكرت؟ قال: ذكرتك. قالت: مرحباً بك يا أخا أهل الحجاز، وما الذي بيدك؟ قال: لنا سهمان بخيبر أعطاناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومد بها صوته، وعين بمصر، وعين باليمامة، ومال باليمن قالت: يا هذا كل هذا عنا غائب، ولكن ما الذي يحصل بأيدينا منك. فإني أظنك تريد أن تجعلني كشاة عكرمة. أترري من عكرمة؟ قال لا، قالت: عكرمة بن ربعي، فإنه كان نشأ بالسواد ثم انتقل إلى البصرة، وقد تغدى باللبن، فقال لزوجته: اشتري لنا شاة نحلبها وتصنعين لنا من لبنها شراباً وكامخاً، ففعلت. وكانت عندهم الشاة إلى أن استحرمت. فقالت: يا جارية: خذي بأذن الشاة وانطلقي بها إلى التياس، فأنزي عليها، ففعلت، فقال التياس: آخذ منك على النزوة درهما. فانصرفت إلى سيدتها فأعلمتها، فقالت: إنما رأينا من يرحم ويعطي، وأما من يرحم ويأخذ فلم نره، ولكن يا أخا أهل المدينة. أردت أن تجعلني كشاة عكرمة. فلما خرجنا قلت له: ما كان أغناك عن هذا! قال: ما كنت أظن أن امرأة تجترئ على مثل هذا الكلام.
وعن الأصمعي قال: كان عقيل بن علفة المري غيوراً فخوراً، وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لبعض ولده، فقال: جنبني هجناء ولدك.
وكان إذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه، فخرج مرة فنزلوا ديراً من أديرة الشام يقال له دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعد وربما ... غلا عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه: أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحلمن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته: يا جرباء، أجيزي. فقالت:
كأن الكرى أسقاهم صرخديةً ... عقارا تمشت في المطا والقوائم

فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؛ ثم سل السيف ونهض إليها، فاستغاثت بأخيها عملس، فانتزعه بسهم فأصاب فخذه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغوا أدنى المياه منهم قالوا لهم: إنا أسقطنا جزوراً لنا فادركوه، وخذوا معكم الماء. ففعلوا، وإذا عقيل بارك وهو يقول:
إن بني زملوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم
ومن يكن درء به يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم
الشنشنة: الطبيعة، وأخزم: فحل كريم، وهذا مثل للعرب.
الشيباني عن عوانة قال: خطب عبد الملك بن مروان بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فأبت أن تتزوجه. وقالت: والله لا تزوجني أبا الذبان. فتزوجها يحيى بن الحكم. فقال عبد الملك: والله لقد تزوجت أفوه أشوه. فقال يحيى. أما إنها أحبت مني ما كرهت منك، وكان عبد الملك رديء الفم يدمى، فيقع عليه الذباب، فسمي أبا الذبان.
وعن العتبي قال: خطب قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، أربعة عشر رجلاً من أهل بدر فأبتهم، وتزوجت عقيل بن أبي طالب، وقالت: إن عقيلاً كان مع الأحبة يوم قتلوا، وإن هؤلاء كانوا عليهم. ولاحته يوما فقالت: يا عقيل، أين أخوالي؟ أين أعمامي؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة، قال لها: إذا دخلت النار فخذي على يسارك.
وكتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه ابنته، وبعث إليه بمال كثير وهدايا، فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا، وأن يقسمها بين جلسائه. فقال الحاجب: إنها أكبر من ظنك. قال سعيد: أنا اكبر منها، ثم وقع إلى زياد في أسفل كتابه: " كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى.
وقال رجل للحسن: إن لي بنية، فمن ترى أن أزوجها؟ قال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زوجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة. فقال عمر: وصلك الله يا أمير المؤمنين، فقد كفيت المسألة، وأجزلت في العطية.
قيل للحسن: فلان خطب إلينا فلانة، قال: أهو موسر من عقل ودين؟ قالوا: نعم، قال: فزوجوه.
وقال رجل لحيوة بن شريح: إني أريد أن أتزوج، فماذا ترى؟ قال: كم المهر؟ قال مائة. قال: فلا تفعل. تزوج بعشرة وأبق تسعين. فإن وافقتك ربحت التسعين وإن لم توافقك تزوجت عشراً، فلا بد في عشرة نسوة من واحدة توافقك.
وقال رجل: أردت النكاح فقلت: لأستشيرن أول من يطلع علي، ثم أعمل برأيه، فكان أول من طلع هبنقة القيسي، وتحته قصبة، فقلت له: أريد النكاح فما تشير علي؟ قال البكر لك والثيب عليك، وذات الولد لا تقربها، واحذر جوادي لا ينفحك.
وعن الأصمعي قال: أخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من أصحابه، وكان مقلا، فخطب إليه مكثر من مال، مقل من عقل، فشاور فيه رجلاً يقال له أبو يزيد. فقال: لا تفعل ولا تزوج إلا عاقلاً ديناً، فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلاً آخر يقال له أبو العلاء، فقال له: زوجه فإن ماله لها وحمقه على نفسه. فزوجه فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته، فقال:
ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذ أطعت أبا العلاء
وكانت هفوةً من غير ريح ... وكانت زلفة من غير ماء
الفضل بن محمد الضبي قال: أخبرني مسعر بن كدم عن معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد، وكان النساء يجلسن لخطابهن، قال: فجئت لأنظر إليها، وكان بيني وبينها رواق، فدعت بجفنة عظيمة من الثريد مكللة باللحم، فأتت على آخرها وألقت العظام نقية، ثم دعت بشنٍ عظيم مملوء لبنا، فشربته حتى أكفأته على وجهها، وقالت: يا جارية، ارفعي السجف، فإذا هي جالسة على جلد أسد وإذا امرأة جميلة، فقالت: يا عبد الله، أنا أسدة من بني أسد وعلي جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي، فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وإن أحببت أن تتأخر فتأخر. فقلت: أستخير الله في أمري وانظر. قال: فخرجت ولم أعد.
قال: وحدثنا بعض أصحابنا أن جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ذات ظرف وجمال مرت برجل من بني سعد، وكان شجاعاً فارساً، فلما رآها قال: طوبى لمن كانت له امرأة مثلك! ثم إنه أتبعها رسول يسألها: ألها زوج؟ ويذكره لها. فقالت للرسول: ما حرفته؟ فأبلغه الرسول قولها. فقال: ارجع إليها فقل لها:

وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل شارق
إذا عرضت لي الخيل يوماً رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي
وأصبر نفسي حين لا حر صابرٌ ... على ألم البيض الرقاق البوارق
فأنشدها الرسول ما قال. فقالت له: ارجع إليه وقل له: أنت أسد فاطلب لنفسك لبؤة، فلست من نسائك، وأنشدت هذه الأبيات:
إلا إنما أبغي جواداً بماله ... كريماً محياه قليل الصدائق
فتى همه مذ كان خودٌ كريمة ... يعانقها بالليل فوق النمارق
ويشربها صرفاً كميتاً مدامة ... نداماه فيها كل خرق موافق
يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوج رجل امرأة حديثة على امرأة له قديمة، فكانت جارية الحديثة تمر على باب القديمة فتقول:
وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزان فشلت
ثم تعود فتقول:
وما يستوي الثوبان ثوبٌ به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديدٌ
فمرت جارية القديمة على الحديثة فأنشدت:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل
وعن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني أحدٌ قط إلا غلام من بني الحارث بن كعب، وذلك أني خطبت امرأة من بني الحارث، وعندي شاب منهم، فأصغى إلي فقال: أيها الأمير، لا خير لك فيها. قلت. يا بن أخي، وما لها؟ قال: إني رأيت رجلاً يقبلها. قال: فبرئت منها. فبلغني أن الفتى تزوجها فأرسلت إليه فقلت: ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها؟ قال: نعم. رأيت أباها يقبلها.
أبو سعيد الشحام قال: صحبت ابن سيرين عشرين سنة، فقال لي يوماً: يا أبا سعيد، إن تزوجت فلا تتزوج امرأة تنظر في يدها ولكن تزوج امرأة تنظر في يدك.
صفات النساء وأخلاقهن
قال أبو عمرو بن العلاء: أعلم الناس بالنساء عبدة بن الطبيب حيث يقول:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليمٌ بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
وهذه الأبيات لعلقمة بن عبدة المعروف بالفحل، وأول القصيدة:
طحا بك قلب في الحسان طروب
وعن رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإني أخاف عليكم فتنة السراء، وهي النساء إذا تحلين بالذهب، ولبسن ريط الشام وعصب اليمن، فأتعبن الغني، وكلفن الفقير ما لا يطال.
وقال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية، ومن أرادها للولد فليتخذها فارسية، ومن أرادها للخدمة فليتخذها رومية.
وعن أبي الحسن المدائني قال: قال يزيد بن عمر بن هبيرة: اشتروا لي جارية شقاء مقاء رسحاء، بعيدة ما بين المنكبين، ممسوحة الفخذين.
قوله: شقاء: يريد كأنها شقة جبل. مقاء: طويلة. رسحاء: صغيرة العجيزة؛ وإنما أراد للولد، ويقال: إن الأرسح أفرس من العظيم العجيزة.
وقال عمر بن هبيرة لرجل: ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح فتكون فارساً.
وقال الأصمعي، وذكر النساء: بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن الأعجمية.
أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال: أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها، فقلت: يا بن أخي، أقصيرة النسب أم طويلته؟ فلم يفهم عني. فقلت: يا بن أخي، إني أعرف في العين إذا عرفت وأنكر فيها إذا أنكرت، وأعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر. أما إذا عرفت فتتحاوص، أما إذا أنكرت فتجحظ، وأما إذا تعرف ولم تنكر فتسجو، وقد رأيت عينك ساجية، فالقصيرة النسب التي إذا ذكرت أباها اكتفت به، والطويلة النسب التي لا تعرف حتى تطيل في نسبتها، فإياك أن تقع في قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم فتضع نفسك بهم.

وعن العتبي قال: كان عند الوليد بن عبد الملك أربع عقائل: لبابة بنت عبد الله بن عباس، وفاطمة بنت يزيد بن معاوية، وزينب بنت سعيد بن العاص، وأم جحش بنت عبد الرحمن بن الحارث، فكن يجتمعن على مائدته ويفترقن فيفخرن. فاجتمعن يوماً، فقالت لبابة: أما والله إنك لتسويني بهن، وإنك تعرف فضلي عليهن. وقالت بنت سعيد: ما كنت أرى أن للفخر علي مجازا، وأنا ابنة ذي العمامة إذ لا عمامة غيرها. وقالت بنت عبد الرحمن بن الحارث: ما أحب بأبي بدلاً، ولو شئت لقلت فصدقت وصدقت. وكانت بنت يزيد بن معاوية جارية حديثة السن فلم تتكلم. فتكلم عنها الوليد، فقال: نطق من احتاج إلى نفسه وسكت من اكتفى بغيره. أما والله لو شاءت لقالت: أنا ابنة قادتكم في الجاهلية، وخلفائكم في الإسلام. فظهر الحديث حتى تحدث به في مجلس ابن عباس، فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
الشيباني عن عوانة قال: ذكرت النساء عند الحجاج فقال: عندي أربع نسوة، هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء بن خارجة، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد، وأمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير بن عبد الله البجلي. فأما ليلتي عند هند بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان، يلعب ويلعبون. وأما ليلتي عند هند بنت أسماء، فليلة ملك بين الملوك، وأما ليلتي عند أم الجلاس فليلة أعرابي مع أعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند أمة الله بنت عبد الرحمن بن جرير، فليلة عالم بين العلماء والفقهاء.
وعن العتبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان بالمدينة مخنث يدل على النساء يقال له أبو الحر، وكان منقطعاً إلي، فدلني على غير ما امرأة أتزوجها، فلم أرض عن واحدة منهن، فاستقصرته يوماً فقال: والله يا مولاي لأدلنك على امرأة لم تر مثلها قط، فإن لم ترها كما وصف فاحلق لحيتي. فدلني على امرأة، فتزوجها. فلما زفت إلي وجدتها أكثر مما وصف. فلما كان في السحر إذا إنسانا يدق الباب، فقلت: من هذا؟ قال: أبو الحر، وهذا الحجام معه. فقلت: قد وفر الله لحيتك أبا الحر، الأمر كما قلت.
ابن بكير بن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه، أن مخنثا كان عند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعبد الله بن أبي أمية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبا عبد الله، إن فتح الله لكم الطائف غداً فأنا أدلك على بنت غيلان، إنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن عليكن هذا.
قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان، يريد: عكن البطن، فإنها إذا أقبلت أربع وإذا أدبرت ثمان.
وضرب البعث على رجل من أهل الكوفة فخرج إلى أذربيجان، فأفاد جارية وفرساً، وكان مملكا بابنة عمه، فكتب إليها ليغيرها:
ألا أبلغوا أم البنين بأننا ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد
بعيد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زينها العقد
فهذا لأيام العدو وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند
فلما ورد كتابه قرأته وقالت: يا غلام، هات الدواة. فكتبت إليه تجيبه:
ألا أقره منا السلام وقل له ... غنينا وأغنتنا غطارفة المرد
بحمد أمير المؤمنين أقرهم ... شباباً وأغزاكم خوالف في الجند
إذا شئت غناني غلامٌ مرجل ... ونازعته من ماء معتصر الورد
وإن شاء منهم ناشئٌ مد كفه ... إلى الكبد ملساء أو كفل نهد
فما كنتم تقضون من حاج أهلكم ... شهوداً قضيناها على النأي والبعد
فعجل علينا بالسراج فإنه ... منانا ولا ندعو لك الله بالرد
فلا قفل الجند الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعداً إلى بعد
فلما ورد كتابها لم يزد على أن ركب فرسه وأردف الجارية ولحق بها، فكان أول شيء بدأها به بعد السلام أن قال: بالله هل كنت فاعلة؟ قالت: الله أجل في قلبي وأعظم، وأنت في عيني أذل وأحقر من أن أعصى الله فيك، فكيف ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجارية وانصرف إلى بعثه.
وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: أي النساء أشهى إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيهن أبغض؟ قال: أبعدهن مما ترضى، قال: هذا النقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل.

وقال صعصعة لمعاوية: يا أمير المؤمنين، كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان. يريد غلبة امرأته فاخته بنت قرظة عليه؟ فقال معاوية: إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام.
وعن سفيان بن عيينة قال: شكا جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر بن الخطاب ما يلقى من النساء، فقال: لا عليك، فإن التي عندي ربما خرجت من عندها فتقول: إنما تريد أن تتضع لفتيات بني عدي. فسمع كلامهما ابن مسعود، فقال: لا عليكما، فإن إبراهيم الخليل شكل إلى ربه رداءة في خلق سارة فأوحى الله إليه: أن ألبسها لباسها ما لم تر في دينها وصماً. فقال عمر: إن بين جوانحك لعلماً.
وكتب إلى الحجاج إلى أيوب بن القرية: أن اخطب على عبد الملك بن الحجاج امرأة، جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، مواتية لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لولا عظم ثدييها. فكتب إليه: لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثدياها، فتدفئ الضجيع، وتروي الرضيع.
وقال أبو العباس السفاح أمير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد، إن الناس قد أكثروا في النساء، فأيهن أعجب إليك؟ قال: أعجبهن يا أمير المؤمنين التي ليست بالضرع الصغيرة، ولا الفانية الكبيرة. وحسبك من جمالها أن تكون فخمةً من بعيد، مليحة من قريب، أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، كانت في نعمة ثم أصابتها فاقة، فأترفها الغنى وأدبها الفقر.
ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في المسجد بالبصرة فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: على امرأة تدل على النساء فأتاها فقال لها: أبغني امرأة: قالت: صفها لي. قال: أريدها بكراً كثيب، أو ثيباً كبكر، حلوة من قريب، فخمة من بعيد. كانت في نعمة فأصابتها فاقة، فمعها أدب النعمة وذل الحاجة، فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة. قال: قد أصبتها لك قال: وأين هي؟ قال: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها.
وسئل أعرابي عن النساء، وكان ذا تجربة وعلم بهن، فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت، وأعظمهن إذا قعدت، وأصدقهن إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئاً جودت، التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.
وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء، فقال، خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين، درماء الكعبين، مملوءة الساقين، جماء الركبتين، لفاء الفخذين، مقرمدة الرفغين، ناعمة الأليتين، منيفة المأكمتين بداء الوركين، مهضومة الخصرين، ملساء المتنين، مشرفة، فعمة العضدين، فخمة الذراعين، رخصة الكفين، ناهدة الثديين حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجاء الحاجبين، لمياء الشفتين، بلجاء الجبين، شماء العرنين، شنباء الثغر، حالكة الشعر، غيداء العنق، عيناء العينين، مكسرة البطن، ناتئة الركب. فقال: ويحك! وأين توجد هذه؟ قال: تجدها في خالص العرب، أو في خالص الفرس.
وقال رجل لخاطب: أبغني امرأةً لا تؤنس جاراً، ولا توهن داراً، ولا تثقب ناراً. يريد لا تدخل على الجيران، ولا يدخل عليها الجيران، ولا تغري بينهم بالشر.
وفي نحو هذا يقول الشاعر:
من الأوانس مثل الشمس لم يرها ... في ساحة لا بعلٌ ولا جارٌ
وقال الأعشى:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جمل ... ولا ترى الشمس إلا دونها الكلل
وقال آخر: أبغني امرأة بيضاء، مديدة فرعاء، جعدة، تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة منكبيها، وحلمتي ثدييها، ورانفتي أليتيها.
وقال الشاعر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وإن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدةً وهجن غيورا
ولآخر:
إذا انبطحت فوق الأثافي رفعنها ... بثديين في نحر عريض وكعثب
ونظر عمران بن حطان إلى امرأته. وكانت من أجمل النساء، وكان من أقبح الرجال، فقال: إني وإياك في الجنة إن شاء الله. قالت له: كيف ذاك؟ قال: إني أعطيت مثلك فشكرت، وأعطيت مثلي فصبرت.
ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة، فقال: سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجهاً أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معاوية من أحسن الناس.

ونظر ابن أبي ذئب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالبيت، فقال لها: من أنت؟ فقالت:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبةً ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال لها: صان الله ذلك الوجه عن النار. فقيل له: أفتنتك يا عبد الله؟ قال: لا، ولكن الحسن مرحوم.
وقال يونس: أخبرني محمد بن إسحاق، قال: دخلت على عائشة بنت طلحة فوجدتها متكئة، ولو أن بختية نوخت خلفها ما ظهرت.
السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: إني لفي المسجد نصف النهار، إذ سمعت باب القصر يفتح، فإذا بمصعب بن الزبير ومعه جماعة. فقال: يا شعبي، اتبعني. فاتبعته. فأتى دار موسى بن طلحة، فدخل مقصورةً ثم دخل أخرى، ثم قال: يا شعبي، اتبعني، فاتبعته. فإذا امرأة جالسة، عليها من الحلى والجواهر ما لم أر مثله، وهي أحسن من الحلى الذي عليها. فقال: يا شعبي، هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت في ليلى لدن طر شاربي ... إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
وأحمل في ليلى لقوم ضغينةً ... وتحمل في ليلى علي الضغائن
هذه عائشة بنت طلحة. فقالت له: أما إذا جلوتني عليه فأحسن إليه. فقال: يا شعبي. رح العشية، فرحت. فقال: يا شعبي، ما ينبغي لمن جليت عليه عائشة بنت طلحة أن ينقص عن عشرة آلاف. فأمر لي بكسوة وقارورة غالية. فقيل للشعبي في ذلك اليوم: كيف الحال؟ قال: وكيف حال من صدر عن الأميرة ببدرة وكسوة، وقارورة غالية، ورؤية وجه عائشة بنت طلحة.
وكان عمرو بن حجر ملك كندة، وهو جد امرئ القيس، أراد أن يتزوج ابنة عوف من محلم الشيباني الذي يقال فيه: لا حر بوادي عوف؛ لإفراط عزه. وهي أم إياس، وكانت ذات جمال وكمال. فوجه إليها امرأة يقال لها عصام، - ذات عقل وبيان وأدب - لتنظر إليها، وتمتحن ما بلغه عنها. فدخلت على أمها أمامة بنت الحارث، فأعلمتها ما قدمت له. فأرسلت إلى ابنتها: أي بنية، هذه خالتك، أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عصام عليها، فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قط، بهجةً وحسناً وجمالاً. فإذا هي أكمل الناس عقلاً، وأفصحهم لساناً. فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع. فذهبت مثلا. ثم أقبلت إلى الحارث، فقال لها: ما وراءك يا عصام؟ فأرسلها مثلاً. قالت: صرح المخض عن الزبدة. فذهبت مثلاً. قال: أخبريني، قالت: أخبرك صدقاً وحقاً، رأيت جبهةً كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاه الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم، أو سودا بحمم، قد تقوسا على مثل عين العبهرة التي لم يرعها قانص ولم يذعرها قسورة، بينهما أنف كحد السيف المصقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شق فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غر، ذوات أشر، وأسنان تعد كالدر، وريق تنم إليك منه ريح الخمر، أم نشر الروض بالسحر، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يقلبه عقل وافر، وجواب حاضر، يلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد، يحلبان ريقاً كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدر تمثال دمية، يتصل به عضدان ممتلئان لحماًًمكتنزان شحماً، وذراعان ليس فيهما عظم يحس، ولا عرق يحبس، ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما لين عصبهما، تعقد إن شئت منها الأنامل، وتركب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حقان كأنهما رمانتان. من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة، كسي عكنا كالقراطيس المدرجة. تحيط تلك العكن بسرة كمدهن العاج المجلو، خلف ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر لولا رحمة الله لانخزل، تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص رمل، لبده سقوط الطل، يحمله فخذان لفاوان كأنهما نضيد الجمار، تحملهما ساقان خدلجتان كالبردى وشيا بشعر أسود، كأنه حلق الزرد، ويحمل ذلك قدمان كحد السنان تبارك الله في صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما، فأما سوى ذلك فتركت أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر. قال: فأرسل إلى أبيها يخطبها. فكان من أمرهما ما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب.
صفة المرأة السوء

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " . يريد الجارية الحسناء في المنبت السوء.
وفي حكمة داود: المرأة السوء مثل شرك الصياد. لا ينجو منها إلا من رضي الله عنه.
الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال عمر بن الخطاب النساء ثلاثة: هينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وثالثة غل قمل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.
وقيل لأعرابي عالم بالنساء: صف لنا شر النساء. قال: شرهن النحيفة الجسم، القليلة اللحم، الطويلة السقم، المحياض، الصفراء، المشؤومة العسراء، السليطة الذفراء، السريعة الوثبة، كأن لسانها حربة، تضحك من غير عجب، وتقول الكذب، وتدعو على زوجها بالحرب. أنف في السماء وآست في الماء.
وفي رواية محمد بن عبد السلام الخشني قال: إياك وكل امرأة مذكرة منكرة، حديدة العرقوب، بادية الظنبوب، منتفخة الوريد، كلاهما وعيد، وصوتها شديد؛ تدفن الحسنات، وتفشي السيئات؛ تعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان؛ ليس في قلبها له رأفة، ولا عليها منه مخافة إن دخل خرجت، وإن خرج دخلت، وإن ضحك بكت، وإن بكى ضحكت؛ وإن طلقها كان حريبته، وإن أمسكها كانت مصيبته، سعفاء ورهاء، كثيرة الدعاء، قليلة الإرعاء؛ تأكل لما، وتوسع ذما؛ صخوب غضوب، بذية دنية؛ ليس تطفأ نارها، ولا يهدأ إعصارها، ضيقة الباع، مهتوكة القناع؛ صبيها مهزول، وبيتها مزبول؛ إذا حدثت تشير بالأصابع، وتبكي في المجامع؛ باديةٌ من حجابها نباحة على بابها، تبكي وهي ظالمة، وتشهد وهي غائبة؛ قد ذل لسانها بالزور، وسال دمعها بالفجور.
نافرت امرأة فضالة زوجها إلى سلم بن قتيبة، وهو والي خراسان، فقالت: أبضغه والله لخلال فيه. قال: وما هي؟ قالت: هو والله قليل الغيرة، سريع الطيرة؛ شديد العتاب، كثير الحساب؛ قد أقبل بخره، وأدبر ذفره؛ وهجمت عيناه، واضطربت رجلاه؛ يفيق سريعاً، وينطق رجيعاً؛ يصبح جبسا، ويمسي رجسا، إن جاع جزع، وإن شبع جشع.
ومن صفة المرأة السوء يقال: امرأة سمعنة نظرنة. وهي التي إذا تسمعت أو تبصرت فلم تر شيئاً تظننت تظنناً.
قال أعرابي:
إن لنا لكنه ... سمعنه نظرنه
مفنة معنة ... كالذئب وسط العنه
إلا تره تظنه
وقال يزيد بنعمر بن هبيرة: لا تنكحن برشاء ولا عمشاء، ولا وقصاء، ولا لثغاء، فتجيئك بولد ألثغ. فوالله لولد أعمى أحب إلي من ولد ألثغ.
وقالوا: آخر عمر الرجل خير من أوله، يثوب حلمه، وتثقل حصاته، وتخمد شرارته، وتكمل تجارته. وآخر عمر المرأة شر من أوله، يذهب جمالها، ويذوب لسانها، ويعقم رحمها، ويسوء خلقها.
وعن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قال لك أحد: تزوجت نصفا، فاعلم أن شر النصفين ما بقي في يده وأنشد:
وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقال الحطيئة في امرأته:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
وقال في أمه:
تنحي فاجلسي مني بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانونا على المتحدثينا
حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسر الصالحينا
وقال زيد بن عمير في أمته:
أعاتبها حتى إذا قلت أقلعت ... أبى الله إلا خزيها فتعود
فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهي أبداً يزنى بها وتقود
ويقال إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فعلامة ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدة الطرف عنه، كأنها تنظر إلى إنسان غيره؛ وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه.
وقال آخر يصف امرأة لثغاء:
أول ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر
والسوأة السوآء في ذكر القمر
ولآخر في زوجته:
لقد كنت محتاجاً إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء باق معمر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلاً ... وعذبها فيه نكير ومنكر

وكان روح بن زنباع أثيراً عند عبد الملك، فقال له يوماً: أرأيت امرأتي العبسية؟ قال: نعم قال: فيم شبهتها؟ قال بمشجب بال، وقد أسيئت صنعته. قال: صدقت. وما وضعت يدي عليها قط إلا كأني أضعها على الشكاعي، وأنا أحب أن تقول ذلك لابنيها الوليد وسليمان. فقام إليه فزعاً، فقبل يده ورجله، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تعرضني لهما. قال: ما من ذلك بد، وبعث من يدعوهما. فاعتزل روح، وجلس ناحيةً من البيت كأنه حلس، وجاء الوليد وسليمان فقال لهما: أتدريان لم بعثت إليكما؟ إنما بعثت لتعرفا لهذا الشيخ حقه وحرمته. ثم سكت.
أبو الحسن المدائني: كان عند روح بن زنباع هند بنت النعمان بن بشير، وكان شديد الغيرة، فأشرفت يوماً تنظر إلى وفد من جذام، كانوا عنده، فزجرها. فقالت: والله لأبغض الحلال من جذام، فكيف تخافني على الحرام فيهم. وقالت له يوماً: عجباً منك كيف يسودك قومك؟ وفيك ثلاث خلال: أنت من جذام، وأنت جبان، وأنت غيور؟ فقال لها: أما جذام فإني في أرومتها، وحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه. وأما الجبن فإنما لي نفس واحدة، فأنا أحوطها، فلو كانت لي نفس أخرى جدت بها. وأما الغيرة فأمر لا أريد أن أشارك فيه، وحقيق بالغيرة من كانت عنده حمقاء مثلك مخافة أن تأتيه بولد من غيره فتقذف به في حجره. فقالت:
وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بعل
فإن أنجبت مهرا عريقاً فبالحري ... وإن يك إقراف فما أنجب الفحل
وعن الأصمعي قال: قال أبو موسى: جاءت امرأة إلى رجل تدله على امرأة يتزوجها فقال:
أقول لها لما أتتني تدلني ... على امرأة موصوفة بجمال
أصبت لها والله زوجاً كما اشتهت ... إن احتملت منه ثلاث خصال
فمنهن عجز لا ينادي وليده ... ورقة إسلام وقلة مال
صفة الحسن
عن أبي الحسن المدائني قال: الحسن أحمر، وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن، والتضمخ بالطيب، كما تضرب في بيضة الأدحى واللؤلؤة المكنونة. وقد شبه الله عز وجل بها في كتابه فقال: " كأنهن بيض مكنون " ، وقال: " كأنهم لؤلؤ مكنون " . وقال الشاعر:
كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد
وقال آخر:
مروزي الأديم تغمره الصف ... رة حيناً لا يستحق اصفرارا
وجرى من دم الطبيعة فيه ... لون ورد كسا البياض احمرارا
وقالت امرأة خالد بن صفوان له: لقد أصبحت جميلاً. فقال لها: وما رأيت من جمالي! وما في في رداء الحسن ولا عموده ولا برنسه؟ قالت: وكيف ذلك؟ قال: عمود الحسن الشطاط، ورداؤه البياض، وبرنسه سواد الشعر.
وقالوا: إن الوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمر. وإذا فرق يصفر. ومنه قولهم: ديباج الوجه. يريدون تلونه، من رقته.
وقال عدي بن زيد يصف لون الوجه:
حمرة خلط صفرة في بياضٍ ... مثل ما حاكٌ حائك ديباجاً
وقالوا: إن الجارية الحسناء تتلون بلون الشمس، فهي بالضحى بيضاء، وبالعشي صفراء. وقال الشاعر:
بيضاء ضحوتها وصفراء العشية كالعراره
وقال ذو الرمة:
بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب
ومن قولنا في هذا المعنى:
بيضاء يحمر خداها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق
ومن قولنا أيضاً:
يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقاً ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا
ومن قولنا:
عطابيل كالآرام أما وجوهها ... فدر ولكن الخدود عقيق
قولهم في الجارية
جميلة من بعيد، مليحة من قريب. فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة على بعد، فإذا دنت لم تكن كذلك. والمليحة التي كلما كررت فيها بصرك زادتك حسنا.
وقال بعضهم: السمينة الجميلة، من الجميل، وهو الشحم. والمليحة أيضاً من الملحة، وهو البياض. والصبيحة مثل ذلك، يشبهونها بالصبح في بياضه.
المنجبات من النساء
قالوا: أنجب النساء الفروك. وذلك أن الرجل يغلبها على الشبق لزهذها في الرجل.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: النجيبة التي تنزع بالولد إلى أكرم العرقين.

وقال عمر بن الخطاب: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم فانكحوا في النزائع.
وقالت العرب: بنات العم أصبر، والغرائب أنجب.
والعرب تقول: اغتربوا لا تضووا. أي انكحوا في الغرائب، فإن القرائب يضوين البنين.
وقالوا: إذا أرادت أن يصلب ولد المرأة فأغضبها ثم قع عليها، وكذلك الفزعة. وقال الشاعر:
ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل
حملت به في ليلة مزؤودةٍ ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
قالت أم تأبط شراً: والله ما حملته تضعا ولا وضعا، ولا وضعته يتنا ولا أرضعته غيلا، ولا أنمته مئقا. حملته وضعا وتضعاً وهي أن تحمله في مقبل الحيض. ووضعته يتناً، وضعته منكساً تخرج رجلاه قبل رأسه وأرضعته غيلاً، أرضعته لبنا فاسدا وذلك أن ترضعه وهي حامل، وأنمته مئقا، أي مغضبا مغتاظا.
ومن أمثال العرب قولهم: أنا مئق وأنت تئق فلا نتفق. المئق: المغضب المغتاظ. والتئق: الذي ر يحتمل شيئا.
من أخبار النساء
لما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، زوجة المختار ابن أبي عبيد، أنكر الناس ذلك عليه وأعظموه، لأنه أتى بما نهى رسول الله ( عنه في نساء المشركين، فقال عمر بن أبي ربيعة:
إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول
قتلت باطلاً على غير ذنب ... إن الله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
ولما خرجت الخوارج بالأهواز، أخذوا امرأة فهموا بقتلها، فقالت لهم: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ فأمسكوا عنها.
باب الطلاق
محمد بن الفار قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: توصلت بالملح وأدركت بالغريب.
وقال عمي للرشيد، في بعض حديثه: بلغني يا أمير المؤمنين أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة. قال: إنما يجوز ملك الرجل على أربع نسوة، فكيف طلق خمسا؟ قال: كان لرجل أربع نسوة فدخل عليهن يوما فوجدهن متلاحيات متنازعات، وكان شنظيرا. فقال: إلى متى هذا التنازع؟ ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك، يقول ذلك لامرأة منهن، اذهبي فأنت طالق. فقالت له صاحبتها: عجلت عليها الطلاق، ولو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقا. فقال لها: وأنت أيضا طالق. فقالت الثالثة: قبحك الله، فوالله لقد كانتا إليك محسنتين، وعليك مفضلتين. فقال: وأنت أيتها المعددة أياديهما طالق أيضا. فقالت له الرابعة، وكانت هلالية وفيها أناة شديدة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق. فقال لها: وأنت طالق أيضا. وكان ذلك بمسمع جارة له، فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه، فقالت: والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم، أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة. قال: وأنت أيضا أيتها المؤنبة المتكلفة طالق إن أجاز زوجك. فأجابه من داخل بيته: هيه، قد أجزت، قد أجزت.
ودخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة الثقفية، وهي تتخلل، حين انفتلت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام اليوم إنك لجشعة، وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لبشعة، كنت فبنت. فقالت: والله ما اغتبطنا إذا كنا ولا أسفنا إذ بنا، وما هو لشيء مما ذكرت، ولكني استكت فتخللت للسواك. فخرج المغيرة نادما على ما كان منه. فلقيه يوسف بن أبي عقيل، فقال له: إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف، فتزوجها فإنها ستنجب فتزوجها. فولدت له الحجاج.
وقال الحسن بن علي بن الحسن لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك. فقالت: قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه، فلن أضيعه إذ صار بيدي ساعة واحدة، وقد صرفته إليك. فأعجبه ذلك منها وأمسكها.
وقال أبو عبيدة: طلق رجل امرأته وقال في ذلك:
لقد طلقت أخت بني غلاب ... طلاقاً ما أظن له ارتدادا
ولم أك كالمعدل أو أويس ... إذا ما طلقا ندما فعادا
قال أبو عبيدة: وطلاق المعدل وأويس يضرب به المثل.
ونكح رجل امرأة من العرب، فلما اهتداها رأت ريع داره أحسن ريع، وشمل عياله أجمع شمل، فقالت: أما والله لئن بقيت لهم لأشتتن أمرهم، وقالت في ذلك:
أرى ناراً سأجعلها إرينا ... وأترك أهلها شتى عزينا

فلما انتهى ذلك إلى زوجها طلقها، وقال في ذلك:
ألا قالت هدي بني عدي ... أرى ناراً سأجعلها إرينا
فبيني قبل أن تلحي عصانا ... ويصبح أهلنا شتى عزينا
وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كوكب الجوزاء.
وقيل لأعرابي: هل لك في النكاح؟ قال: لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها.
وعن الزهري قال: قال أبو الدرداء لامرأته: إذا رأيتني غضبت ترضيني، وإن رأيتك غضبت ترضيتك، وإلا لم نصطحب. قال الزهري: وهكذا يكون الإخوان.
قال الأصمعي: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة، ائذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مراراً، فلم أسمعه يذكر أمامة، فقلت: يرحمك الله، ما أسمعك تذكر أمامة؟ قال: فوجم وجمة. فندمت على ما كان مني، ثم أنشأ يقول:
ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غل الوثاق
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا تشتهيه ... النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب من ... إلفين من غير اتفاق
وعن الشيباني قال: طلق أبو موسى امرأته وقال فيها:
تجهزي للطلاق وارتحلي ... فذا دواء المجانب الشرس
ما أنت بالحنة الولود ولا ... عندك نفعٌ يرجى لملتمس
لليلتي حين بنت طالقةً ... ألذ عندي من ليلة العرس
بت لديها بشر منزلة ... لا أنا في لذة ولا أنس
تلك على الخسف لا نظير لها ... وإنني ما يسوغ لي نفسي
أقبل منظور بن زبان بن سيار الفزاري إلى الزبير فقال: إنما زوجناك ولم نزوج عبد الله. قال: مالك؟ قال: إنها تشكوه. قال: يا عبد الله طلقها. قال عبد الله: هي طالق. قال منظور: أنا ابن قهدم. قال الزبير: أنا ابن صفية. أتريد أن يطلق المنذر أختها؟ قال: لا، تلك راضية بموضعها.
وتزوج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان خديجة بنت عروة بن الزبير، فذكر لها جماله، وكان يقال له المذهب من حسنه، وكان رجلاً مطلاقاً. فقالت: محمد هو الدنيا لا يدوم نعيمها. فلما طلقها خطبها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي فكتب إليها:
أعيذك بالرحمن من عيش شقوةٍ ... وأن تطعمي يوماً إلى غير مطمع
إذا ما ابن مظعون تحدر وسقه ... عليك فبوئي بعد ذلك أو دعي
فردته ولم تتزوجه.
وعن العتبي عن أبيه قال: أمهر الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر تسعين ألف دينار، فبلغ ذلك خالد بن يزيد بن معاوية، فأمهل عبد الملك، حتى إذا أطبق الليل دق عليه الباب، فأذن له عبد الملك. فدخل عليه. فقال له: ما هذا الطروق أبا يزيد؟ قال: أمرٌ والله لم ينتظر له الصبح، هل علمت أن أحدا كان بينه وبين من عادى ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير بن العوام؟ فإني تزوجت إليهم، فما في الأرض قبيلة من قريش أحب إليهم منهم، فكيف تركت الحجاج وهو سهم من سهامك يتزوج إلى بني هاشم؟ وقد علمت ما يقال فيهم في آخر الزمان. قال: وصلتك رحم. وكتب إلى الحجاج يأمره بطلاقها ولا يراجعه في ذلك. فطلقها. فأتاه الناس يعزونه، وفيهم عمرو بن عتبة. فجعل الحجاج يقع بخالد وينتقصه، ويقول: إنه صير الأمر إلى من هو أولى به منه، وإنه لم يكن لذلك أهلاً. فقال له عمرو بن عتبة: إن خالداً أدرك من قبله، وأتعب من بعده، وعلم علماً فسلم الأمر أهله، ولو طلب بقديم لم يغلب عليه، أو بحديث لم يسبق إليه. فلما سمعه الحجاج استحى، فقال: يا بن عتبة، إنا نسترضيكم بأن نعتب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم، وقد غلبتم على الحلم فوثقنا لكم به، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا فتعرضنا للذي تحبون.
من طلق امرأته ثم تبعتها نفسه
الهيثم بن عدي قال: كانت تحت العربان بن الهيثم بن الأسود بنت عم له، فطلقها، فتبعتها نفسه، فكتب إليها يعرض لها بالرجوع فكتبت إليه:
إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلاً ... إن الغزال الذي ضيعت مشغول
فكتب إليها:
من كان ذا شغل فالله يكلؤه ... وقد لهونا به والحبل موصول
وقد قضينا من استطرافه طرفا ... وفي الليالي وفي أيامها طول

وطلق الوليد بن يزيد امرأته سعدى. فلما تزوجت اشتد ذلك عليه وندم على ما كان منه. فدخل عليه أشعب، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالةً، ولك مني خمسة آلاف درهم. فقال: عجلها. فأمر له بها. فلما قبضها قال: هات رسالتك، فأنشدها:
أسعدى ما إليك لنا سبيلٌ ... ولا حتى القيامة من تلاق
بلى، ولعل دهراً أن يواتي ... بموت من خليلك أو فراق
فأتاها فاستأذن فدخل عليها. فقالت له: ما بدا لك من زيارتنا يا أشعب؟ فقال: يا سيدتي. أرسلني إليك الوليد برسالة، وأنشدها الشعر. فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث. فقال: يا سيدتي، إنه جعل لي خمسة آلاف درهم. قالت: والله لأعاقبنك أو لتبلغن إليه ما أقول لك. قال: سيدتي اجعلي لي شيئاً. قالت لك بساطي هذا. قال: قومي عنه. فقامت عنه وألقاه على ظهره. وقال: هاتي رسالتك، فقالت: أنشده:
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع
فلما بلغه وأنشده الشعر سقط في يده، وأخذته كظمة ثم سرى عنه، فقال: اختر واحدة ًمن ثلاث: إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى هذه السباع. فتحير أشعب وأطرق حيناً، ثم رفع رأسه فقال: يا سيدي، ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى. فتبسم وخلى سبيله.
وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أمره أبوه بطلاقها ثم دخل عليه فسمعه يتمثل:
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء تطلق
وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه: الفرزدق الشاعر. طلق النوار ثم ندم في طلاقها وقال:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمرٍ ليس لي فيه خيار
وكانت النوار بنت عبد الله قد خطبها رجل رضيته، وكان وليها غائباً، وكان الفرزدق وليها إلا أنه كان أبعد من الغائب، فجعلت أمرها إلى الفرزدق، وأشهدت له بالتفويض إليه. فلما توثق منها بالشهود أشهدهم أنه قد زوجها من نفسه، فأبت منه ونافرته إلى عبد الله بن الزبير، وهي بنت منظور بن زبان. فكان كلما أصلح حمزة من شأن الفرزدق نهاراً أفسدته المرأة ليلاً، حتى غلبت المرأة وقضى ابن الزبير على الفرزدق. فقال:
أما البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
وقال الفرزدق في مجلس ابن الزبير:
وما خاصم الأقوام من ذي خصومة ... كورهاء مشنوءٍ إليها خليلها
فدونكها يا بن الزبير فإنها ... ملعنة يوهي الحجارة قيلها
فقال ابن الزبير: إن هذا شاعر وسيهجوني، فإن شئت ضربت عنقه، وإن كرهت ذلك فاختاري نكاحه وقري. فقرت واختارت نكاحه، ومكثت عنده زماناً ثم طلقها وندم في طلاقها.
وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن راوية الفرزدق قال: قال لي الفرزدق يوماً: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار. فقلت له: إني أخاف أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه. قال: انهض بنا. فجئنا حتى وقفنا على الحسن،، فقال: كيف أصبحت أبا سعيد؟ قال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس؟ فقال: تعلمن أني طلقت النوار ثلاثاً. قال الحسن وأصحابه: قد سمعنا. فانطلقنا، فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في نفسي من النوار شيئاً. فقلت قد حذرتك، فقال:
ندمت ندامة الكسعى لما ... غدت مني مطلقةً نوار
و كانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت بها يميني ... لكان علي للقدر الخيار
وممن طلق امرأته وتبعتها نفسه قيس بن ذريح. وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم، فقال في ذلك:
فوا كبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع
تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع
كمغبون يعض على يديه ... تبين غبنه بعد البياع

وطلق رجل امرأته فقالت: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: ما لك عندنا ذنب غيره.
العتبي قال: جاء رجل بامرأة كأنها برج فضة إلى عبد الرحمن بن أم الحكم، وهو على الكوفة، فقال: إن امرأتي هذه شجتني. فقال لها: أنت فعلت به؟ قالت: نعم، غير متعمدة لذلك كنت أعالج طيباً، فوقع الفهر من يدي على رأسه، وليس عندي عقل، و لا تقوى يدي على القصاص. فقال عبد الرحمن للرجل: يا هذا، علام تحبسها وقد فعلت بك ما أرى؟ قال: أصدقتها أربعة آلاف درهم، ولا تطيب نفسي بفراقها. قال: فإن أعطيتها لك أتفارقها؟ قال: نعم. قال: فهي لك. قال: هي طالق إذا، فقال عبد الرحمن: احبسي علينا نفسك، ثم أنشأ يقول:
يا شيخ ويحك من دلاك بالغزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل
رضت الصعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد بنفسك نحو الجلة الذلل
مكر النساء وغدرهن
في حكمة داود عليه السلام. وجدت من الرجال واحداً في ألف، ولم أجد واحدة في النساء جميعا.
قال الهيثم بن عدي: غزا ابن هبولة الغساني الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي فلم يصبه في منزله، فأخذ ما وجد له وآستاق امرأته. فلما أصابها أعجبت به، فقالت له: انج، فوالله لكأني أنظر إليه يتبعك، فاغراً فاه كأنه بعير أكل مرار.
وبلغ الحارث، فأقبل يتبعه حتى لحقه، فقتله وأخذ ما كان معه وأخذ امرأته، فقال له: هل أصابك؟ قالت:نعم والله ما اشتملت النساء على مثله قط. فأمر بها فأوثقت بين فرسين، ثم استحضرهما حتى تقطعت. ثم قال:
كل أنثى وأن بدا لك منها ... آية الود حبها خيتعور
إن من غره النساء بود ... بعد هند لجاهلٌ مغرور
وقالت الحكماء: لا تثق بامرأة، ولا تغتر بمال وإن كثر. وقالوا: النساء حبائل الشيطان. وقال الشاعر:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... جزوعاً إذا بانت فسوف تبين
وخنها وإن كانت تفي لك إنها ... على مدد الأيام سوف تخون
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من طلابها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وإن أسلبت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين
وقالت الحكماء: لم تنه امرأة قط عن شيء إلا فعلته. وقال طفيل الغنوي:
إن النساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واقعٌ لا بد مفعول
وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أرسل عبد الله بن همام السلولي شاباً إلى امرأة ليخطبها عليه، فقالت له: فيما يمنعك أنت؟ فقال لها: ولي طمع فيك؟ قالت: ما عنك رغبة. فتزوجها ثم انصرف إلى ابن همام، فقال له: ما صنعت؟ فقال: والله ما تزوجتني إلا بعد شرط. فقال أو لهذا بعثتك؟ فقال ابن همام في ذلك:
رأت غلاماً علا شرب الطلاء به ... يعيا بإرقاص بردي الخلاخيل
مبطناً بدخيس اللحم تحسبه ... مما يصور في تلك التماثيل
أكفى من الكفء في عقد النكاح وما ... يعيا به حل هميان السراويل
تركتها والأيامى غير واحدة ... فاحبسه عن بيها يا حابس الفيل
وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: كان النساء يجلسن لخطابهن، فكانت امرأة من بني سلول تخطب، وكان عبد بن عاصم السلولي يخطبها، فإذا دخل عليها بقول له: فداك أبي وأمي، وتقبل عليه تحدثه، وكان شاب من بني سلول يخطبها. فإذا دخل عليها الشاب وعندها عبد الله بن هند قالت للشاب: قم إلى النار، وأقبلت بوجهها وحديثها على عبد الله، ثم إن الشاب تزوجها، فلما بلغ ذلك عبد الله بن هند قال:
أودى بحب سليمى فاتكٌ لقن ... كحية برزت من بين أحجار
إذا رأتني تفديني وتجعله ... في النار يا ليتني المجعول في النار
وله فيها:
ما تظن سليمى إن ألم بها ... مرجل الرأس ذو بردين مزاح
حلوٌ فكاهته خزٌ عمامته ... في كفه من رقى الشيطان مفتاح
السراري

تسرر الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر، فولدت له إسماعيل عليه السلام. وتسرر النبي عليه الصلاة والسلام مارية القبطية، فولدت له إبراهيم. ولما صارت إليه صفية بنت حيي كان أزواجه يعيرنها باليهودية، فشكت ذلك إليه. فقال لها: أما إنك لو شئت لقلت فصدقت وصدقت: أبي إسحاق، وجدي إبراهيم، وعمي إسماعيل، وأخي يوسف.
ودخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، فقال له: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة، ولا تصلح بها، لأنك بن أمة، فقال به: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيب إلا الله، وأما قولك إني ابن أمة، فإسماعيل ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، إسحاق ابن حرة أخرج الله من صلبه القردة والخنازير.
قال الأصمعي: وكان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة فقهاً وعلماً وورعاً. فرغب الناس في السراري.
وتزوج علي بن الحسين جارية له وأعتقها، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يؤنبه. فكتب إليه علي: إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به النقيصة، وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تزوج أمته وامرأة عبده. فقال عبد الملك: إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس.
وقال الشاعر:
لا تشتمن امرأ من أن تكون له ... أم من الروم، أو سوداء عجماء
فإنا أمهات القوم أوعيةٌ ... مستودعات وللأحساب آباء
وقال بعضهم: عجبت لمن لبس القصير كيف يلبس الطويل؟ ولمن أحفى شعره كيف أعفاه؟ وعجباً لمن عرف الإماء، كيف يقدم على الحرائر؟ وقالوا: الأمة تشترى بالعين وترد بالعيب، والحرة غل في عنق من صارت إليه.
الهجناء
العرب تسمي العجمي إذا أسلم: المفرج، وهو المسلماني. ومنه يقال: مسالمة السواد. والهجين، عندهم؛ الذي أبوه عربي وأمه أعجمية. والمذرع: الذي أمه عربية وأبوه أعجمي. وقال الفرزدق:
إذا باهلي أنجبت حنظليةٌ ... له ولداً منها فذاك المذرع
والعجمي: النصراني ونحوه، وإن كان فصيحاً. والأعجمي: الأخرس اللسان، وإن كان مسلماً. ومنه قيل: زياد الأعجم، وكان في لسانه لكنة. والفرس تسمى الهجين: واشن، والعبد: واش ونجاش. ومن تزوج أمة: نغاش، وهو الذي يكون العهد دونه، وسمي أيضاً: بوركان والعرب تسمي العبد الذي لا يخدم إلا ما دامت عليه عين مولاه: عبد العين. وكانت العرب في الجاهلية لا تورث الهجين.
وكانت الفرس تطرح الهجين ولا تعده، ولو وجدوا أمًا أمةً على رأس ثلاثين أمًّا ما أفلح عندهم، ولا كان آزاد مرد، ولو كان بيده مزاد. والآزاد عندهم: الحر، والمرد: الريحان.
وقال ابن الزبير لعبد الرحمن بن أم الحكم:
تبلغت لما أن أتيت بلادهم ... وفي أرضنا أنت الهمام القلمس
ألست ببغل أمه عربيةٌ ... أبوه حمار أدبر الظهر ينخس
وشبه المذرع بالبغل، إذا قيل له: من أبوك قال: أمي الفرس.
مما احتجت به الهجناء
أن النبي صلى الله عليه وسلم، زوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود وزوج خالدة بنت أبي لهب من عثمان بن أبي العاص الثقفي. وبذلك احتج عبد الله بن جعفر، إذ زوج ابنته زينب من الحجاج بن يوسف. فعيره الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن جعفر: سيف أبيك زوجه. والله ما فديت بها إلا خيط رقبتي.
وأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوج ضباعة من المقداد، وخالدة من عثمان بن أبي العاص، ففيه قدوة وأسوة.
وزوج أبو سفيان ابنته أم الحكم بالطائف في ثقيف: وقال لهذم الكاتب في عبد الله بن الأهتم، وسأله فحرمه:
وما بنو الأهتم إلا كالرخم ... لا شيء إلا أنهم لحم ودم
جاءت به حذلم ومن أرض العجم ... أهتم سلاح على ظهر القدم
مقابل في اللؤم من خال وعم وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء. وقالوا: لا تصلح لهم العرب.
زياد بن يحيى قال: حدثنا جبلة بن عبد الملك قال: سابق عبد الملك بين سليمان ومسلمة، فسبق سليمان مسلمة، فقال عبد الملك:
ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدرك

وما يستوي المرآن، هذا ابن حرة ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرك
وتضعف عضده ويقصر سوطه ... وتقصر رجلاه فلا يتحرك
وأدركنه خالاته فنزعنه ... ألا إن عرق السوء لا بد يدرك
ثم أقبل عبد الملك على مصقلة بن هبيرة الشيباني فقال: أتدري من يقول هذا؟ قال: لا أدري. قال: يقوله أخوك الشني. قال مسلمة: يا أمير المؤمنين. ما هكذا قال حاتم الطائي. قال عبد الملك: وماذا قال حاتم؟ فقال مسلمة: قال حاتم:
وما أنكحونا طائعين بناتهم ... ولكن خطبناهم بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السباء مذلةً ... ولا كلفت خبزاً ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخير نسائنا ... فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا
وكائن ترى فينا من ابن سبية ... إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
ويأخذ رايات الطعان بكفه ... فيوردها بيضا ويصدرها حمرا
أغر إذا غبر اللئام رأيته ... إذا سرى ليل الدجى قمراً بدراً
فقال عبد الملك كالمستحي:
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد، فكان الناس يرون أن ذلك لاستهانة بهم، ولم يكن لذلك، ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد، فلما ولى الناقص ظن الناس أنه الذي يذهب ملك بني أمية على يديه، وكانت أمه بنت يزدجرد بن كسرى، فلم يلبث إلا سبعة أشهر حتى مات، ووثب مكانه مروان بن محمد، وأمه كردية، فكانت الرواية عليه. ولم يكن لعبد الملك بن مروان ابن أسد رأياً، ولا أذكى عقلاً، ولا أشجع قلباً، ولا أسمح نفساً، ولا أسخى كفاً من مسلمة، وإنما تركوه لهذا المعنى.
وكان يحيى بن أبي حفصة، أخو مروان بن أبي حفصة يهودياً، أسلم على يد عثمان بن عفان فكثر ماله، فتزوج خولة بنت مقاتل بن قيس بن عاصم ونقدها خمسين ألفاً. وفيه يقول القلاخ:
رأيت مقاتل الطلبات ... حلى نحور بناته كمر الموالي
فلا تفخر بقيس إن قيساً ... خريتم فوق أعظمه البوالي
وله فيه:
نبتت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت الترب والحجر
لله در جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر
فقال مقاتل يرد عليها:
وما تركت خمسون ألفاً لقائل ... عليك فلا تحفل مقالة لائم
فإن قلتم زوجت مولىً، فقد مضت ... به سنة قبلي، وحب الدراهم
ويقال إن غيره قال ذلك.
باب في الأدعياء
أول دعي كان في الإسلام واشتهر: زياد بن عبيد، دعي معاوية. وكان من قصته أنه وجهه بعض عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العراق إلى عمر بفتح كان. فلما قدم وأخبر عمر بالفتح في أحسن بيان وأفصح لسان، قال له عمر: أتقدر على مثل هذا الكلام في جماعة الناس على المنبر؟ قال: نعم، وعلى أحسن منه، وأنا لك أهيب. فأمر عمر بالصلاة جامعةٌ، فاجتمع الناس. ثم قال لزياد: قم فاخطب، وقص على الناس ما فتح الله على إخوانهم المسلمين. ففعل وأحسن وجود. وعند أصل المنبر علي بن طالب، وأبو سفيان بن حرب. فقال أبو سفيان لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك! قال: فكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال: فما يمنعك أن تدعيه؟ قال: أخاف هذا الجالس على المنبر، يعني عمر، أن يفسد علي إهابي. فلما ولي معاوية استلحقه بهذا الحديث، وأقام له شهودا عليه. فلما شهد الشهود قام زياد على أعقابهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هذا أمر لم أشهد أوله ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما قد سمعتم، والحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب مشكور. ثم جلس.
فقال فيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عفٌ ... وترضى أن يقال أبوك زان

وأشهد أن قربك من زياد ... كقرب الفيل من ولد الأتان
وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشد علي من قول يزيد بن مفرغ الحميري:
فكرا ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير
سبحان من ملك عباد بقدرته ... لا يدفع الناس محتوم المقادير
وكان ولد سمية ثلاثا: زياداً وأبا بكرة ونافعا. فكان زياد ينسب في قريش، وأبو بكرة في العرب، ونافع في الموالي. فقال فيهم يزيد بن مفرغ:
إن زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالاً ثلاثةً خلقوا ... من رحم أنثى محالفي النسب
ذا قرشي، فيما يقول، وذا ... مولىً وهذا ابن عمه عربي
وقال بعض العراقيين في أبي مسهر الكاتب:
حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك بالمداد
وقال آخر في دعي:
لعينٌ يورث الأبناء لعناً ... ويلطخ كل ذي نسب صحيح
ولما طالت خصومة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ونصر بن حجاج عند معاوية في عبد الله بن حجاج، مولى خالد بن الوليد، أمر معاوية حاجبه أن يؤخر أمرهما حتى يحتفل مجلسه. فجلس معاوية وقد تلفع بمطرف خزٍ أخضر، وأمر بحجر فأدني منه، وألقى عليه طرف المطرف، ثم أذن لهما، وقد احتفل المجلس. فقال نصر بن حجاج: أخي وابن أبي، عهد إلي أنه منه. وقال عبد الرحمن: مولاي وابن عبد أبي وأمته، ولد على فراشه. قال معاوية: يا حرسي، خذ هذا الحجر - وكشف عنه - فادفعه إلى نصر بن حجاج. وقال: يا نصر، هذا مالك في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فقال نصر: أفلا أجريت هذا الحكم في زياد أمير المؤمنين؟ قال: ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في الأرض أحمى من الأدعياء، لتستحق بذلك العروبية. قال الشاعر:
دعي واحدٌ أجدى عليهم ... من آلفي عالم مثل ابن داب
ككلب السوء يحرس جانبيه ... وليس عدوه غير الكلاب
وقال الأصمعي: استمشى رجل من الأدعياء، فدخل عليه رجل من أصحابه فوجد عنده شيحاً وقيصوماً، فقال له: ما هذا؟ فقال، ورفع صوته: الطبيعة تتوق إليه. يريد أن طبيعته من طباع العرب. فقال فيه الشاعر:
يشم الشيح والقيصو ... م كي يستوجب النسبا
وليس ضميره في الصد ... ر إلا التين والعنبا
وعن إسماعيل بن أحمد قال: رأيت على أبي سعيد الشاعر المخزومي كردوانياً مصبوغاً بتوريد، فقلت: أبا سعيد، هذا خز؟ قال: لا. ولكنه دعي على دعي. وكان أبو سعيد دعياً في بني مخزوم. وفيه قال الشاعر:
لم يته قط على النا ... س شريف يا أبا سعيد
فته ما شئت إذ كن ... ت بلا أب ولا جد
وإذ حظك في النس ... بة بين الحر والعبد
وإذ قاذفك المفح ... ش في أمن من الحد
وعن أحمد بن عبد العزيز قال: نزلت في دار رجل من بني عبد القيس بالبحرين، فقال لي: بلغني أنك خاطب؟ قلت: نعم. قال: فأنا أزوجك. قلت له: إني مولى. قال: اسكت وأنا أفعل. فقال أبو بجير فيهم:
أمن قلةً صرتم إلى أن قبلتم ... دعاوة زراع وآخر تاجر
وأصهب رومي وأسود فاحم ... وأبيض جعد من سراة الأحامر
شكولهم شتى وكل نسيبكم ... لقد جئتم في الناس إحدى المناكر
متى قال إني منكم فمصدق ... وإن كان زنجياً غليظ المشافر
أكلهم وافى النساء جدوده ... وكلهم أوفى بصدق المعاذر
وكلكم قد كان في أولية ... له نسبة معروفة في العشائر
على علمكم أن سوف ينكح فيكم ... فجدعاً ورغماً للأنوف الصواغر
فهلا أبيتم عفةً وتكرما ... وهلا وجلتم من مقالة شاعر
تعيبون أمراً ظاهراً في بناتكم ... وفخركم قد جاز كل المفاخر

متى شاء منكم مفرج كان جده ... عمارة عبس خير تلك العمائر
وحصن بن بدر أو زرارة دارم ... وزبان زبان الرئيس ابن جابر
فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسياً ... لعل نجاراً من هلال بن عامر
وعل رجال الترك من آل مذحج ... وعل تميماً عصبة من يحابر
وعل رمال العجم من رمل عالج ... وعل البوادي بدلت بالحواضر
زعمتم بأن الهند أولاد خندق ... وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة ناسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكمٍ ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر
أأطمع في صهري دعيا مجاهراً ... ولم نر شراً من دعي مجاهر
ويشتم لؤماً عرضه وعشيره ... ويمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر
وقال زرارة بن ثروان، أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر:
قد اختلط الأسافل بالأعالي ... وماج الناس واختلط النجار
وصار العبد مثل أبي قبيس ... وسيق مع المعلهجة العشار
وإنك لن يضيرك بعد حول ... أطرف كان أمك أم حمار
وقال عقيل بن علفة:
وكنا بني غليظ رجالاً فأصبحت ... بنو مالك غيظاً وصرنا لمالك
لحا الله دهراً زعزع المال كله ... وسود أستاه الإماء الفوارك
وذكر جعفر بن سليمان بن علي يوماً ولده، وأنهم ليسوا كما يحب. فقال له ولده أحمد بن جعفر. عمدت إلى فاسقات المدينة ومكة وإماء الحجاز فأوعيت فيهم نطفك، ثم تريد أن ينجبن، ألا فعلت في ولدك ما فعل أبوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها؟ ودخل الأشعث بن قيس على علي بن أبي طالب، فوجد بين يديه صبية تدرج، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه زينب بنت أمير المؤمنين. قال: زوجنيها يا أمير المؤمنين. قال: اغرب، بفيك الكثكث، ولك الأثلب، أغرك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة؟ إنها لم تكن من الفواطم، ولا العواتك من سليم. فقال: قد زوجتم أخمل مني حسبا، وأوضع مني نسباً: المقداد بن عمرو، وإن شئت فالمقداد بن الأسود. قال علي: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهو أعلم بما فعل، ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك. وفي هذا المعنى قال الكميت بن زيد:
وما وجدت بنات بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا
وما حملوا الحمير على عتاق ... مطهمة فيلفوا مبغلينا
بني الأعمام أنكحنا الأيامى ... وبالآباء سمينا البنينا
أراد تزويج أبرهة الحبشي في كندة.
عن العتبي قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن خداش لخالد النجار.
اليوم من هاشم بخ وأنت غداً ... مولى وبعد غد حلف من العرب
إن صح هذا، فأنت الناس كلهم ... يا هاشمي ويا مولى ويا عربي
قال: وكان الهيثم بن عدي، فيما زعموا دعياً. فقال فيه الشاعر:
الهيثم بن عدي من تنقله ... في كل يوم له رحل على حسب
إذا اجتدى معشراً من فضل نسبتهم ... فلم ينيلوه عداهم إلى نسب
فما يزال له حلٌ ومرتحل ... إلى النصارى وأحياناً إلى العرب
إذا نسب عدياً في بني ثعل ... فقدم الدال فبل العين في النسب
وقال بشار العقيلي:
إن عمراً فاعرفوه ... عربي من زجاج
مظلم النسبة لا يع ... رف إلا بالسراج
وقال فيه:
ارفق بنسبة عمرو حين تنسبه ... فإنه عربي من قوارير
ما زال في كير حداد يردده ... حتى بدا عربياً مظلم النور
وقال أيضا في أدعياء:
هم قعدوا فانتقوا لهم حسباً ... يدخل بعد العشاء في العرب
حتى إذا ما الصباح لاح لهم ... بين ستوقهم من الذهب
والناس قد أصبحوا صيارفةً ... أعلم شيءٍ بزائف الحسب
وقال أبو نواس في أشجع بن عمرو:
قل لمن يدعي سليماً سفاهاً ... لست منها ولا قلامةً ظفر
إنما أنت من سليم كواوٍ ... ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

وقال فيه:
أيا متحيراً فيه ... لمن يتعجب العجب
لأسماء تعلمهن ... أشجع حين ينتسب
ولأحمد بن أبي الحارث الخراز في حبيب الطائي:
لو أنك إذ جعلت أباك أوساً ... جعلت الجد حارثة بن لام
وسميت التي ولدتك سعدى ... فكنت مقابلاً بين الكرام
وله فيه:
أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام
شعر فخذيك وساقي ... ك خزامى وثمام
وضلوع الصدر من ... جسمك نبع وبشام
وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام
لو تحركت كذا لان ... جفلت منك نعام
وظباء سانحاتٌ ... ويرابيع عظام
وحمام يتغنى ... حبذا ذاك الحمام
أنا ما ذنبي إن ك ... ذبني فيك الكرام
القفا يشهد إذ ما ... عرفت فيك الأنام
كذبوا ما أنت إلا ... عربي والسلام
وقال في المعلى الطائي:
معلى، لست من طي ... فإن قبلتك فارهنها
وابنك فارمٍ في أجأٍ ... فلا ترغب به عنها
كأن دماملاً جمعت ... فصور وجهه منها
ولآخر:
تعلمها وإخوته ... فكلهم بها درب
لقد ربوا عجوزهم ... ولو زينتها غضبوا
فيا لك عصبة إن ح ... دثوا عن أصلهم كذبوا
لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب
كما لم تخف سافرة ... وتخفى حين تنتقب
وقال خلف بن خليفة الأقطع في الأدعياء:
فقل للأكرمين بني نزار ... وعند كرائم العرب الشفاء
أآخر مرتين سبيتمونا ... وفي الإسلام ما كره السباء
إذا استحللتم هذا وهذا ... فليس لنا على ذاكم بقاء
فلا تأمن على حال دعياً ... فليس له على حالٍ وفاء
وكيف يفي لأبعد من أبيه ... ونسبته إذا اتصل الدعاء
الباه وما قيل فيه
ذكر عند مالك بن أنس الباه، فقال: هو نور وجهك، ومخ ساقك، فأقل منه أو أكثر.
وقال معاوية: ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه.
وقال الحجاج لابن شماخ العكلي: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظماء، وأرد فلا أشرب.
وقيل للمدائني: ما عندك يا أبا الجحاف؟ قال: يمتد ولا يشتد، ويرد ولا يشرب. وقيل لآخر: ما عندك لهن؟ قال: ما يقطع حجتها، ويشفي غلمتها.
وقال كسرى كنت أراني إذا كبرت أنهن لا يحببنني، فإذا أنا لا أحبهن. وأنشد الرياشي لأعرابي من بني أسد:
تمنيت لو عاد شرخ الشباب ... ومن ذا على الدهر يعطى المنى
وكنت مكيناً لدى الغانيات ... فلا شيء عندي لها ممكنا
فأما الحسان فيأبينني ... وأما القباح فآبى أنا
ودخل عيسى بن موسى على جارية، فلم يقدر على شيء، فقال:
النفس تطمع والأسباب عاجزةٌ ... والنفس تهلك بين اليأس والطمع
وخلا ثمامة بن أشرس بجارية له، فعجز، فقال: ويحك، ما أوسع حرك؟ فقالت:
أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويشتكي الضيق منه حين يلقاه
وقال آخر لجاريته:
ويعجبني منك عند الجماع ... حياة الكلام وموت النظر
وقال آخر:
شفاء الحب تقبيل ولمسٌ ... وسبح بالبطون على البطون
ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالذوائب والقرون
وقالت امرأة كوفية: دخلت على عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقيل هي مع زوجها في القيطون، فسمعت زفيراً ونخيراً لم يسمع قط مثله، ثم خرجت وجبينها يتفصد عرقاً، فقلت لها: ما ظننت أن حرة تفعل مثل هذا؟ فقالت: إن الخيل العتاق تشرب بالصفير.
وقيل لأعرابي: ما عندك للنساء؟ فأشار إلى متاعه، وقال:
وتراه بعد ثلاث عشرة قائماً ... نظر المؤذن شكَّ يوم سحاب
وقال الفرزدق:
أنا شيخٌ ولي امرأةٌ عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها بل اتسع القفيز
وقال الراجز:

لا يعقب التقبيل إلا زبي ... ولا يداوي من صميم الحب
إلا احتضان الركب الأزب ... ينزع منه الأير نزع الضب
روى زياد عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أن جدته عاتبت جده في قلة إتيانه إياها، فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قالت: وما قضاء عمر؟ قال: قضى أن الرجل إذا أتى امرأته عند كل طهر فقد أدى حقها. قالت: أفترك الناس كلهم قضاء عمر، وأقمت أنا وأنت عليه. فقال:
أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
تريدني أنيكها في كل يوم ... وذلك عند أمثالي عزيز
وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها: بل اتسع القفيز
وقال أعرابي حين كبر وعجز:
عجبت من أيري وكيف يصنع ... أدفعه بإصبعي ويرجع
يقوم بعد النشر ثم يصرع
ودخلت عزة صاحبة كثير على أم البنين، زوج عبد الملك بن مروان، فقالت لها: أخبريني عن قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما هذا الدين الذي طلبك به؟ قالت: وعدته بقبلة، فخرجت منها. قالت: وعدته بقبلة، فخرجت منها. قالت أنجزيها وعلي إثمها.
علي بن عبد العزيز قال: كان أبو البيداء رجلاً عنينا، وكان يتجلد ويقول لقومه: زوجوني امرأتين. فقالوا له: إن في واحدة كفاية. قال: أما لي فلا. فقالوا: نزوجك واحدة فإن كفتك وإلا نزوجك أخرى فزوجوه أعرابية فلما دخل بها أقام معها أسبوعاً، فلما كان في اليوم السابع أتوه فقالوا له: ما كان من أمرك في اليوم الأول؟ قال: عظيم جداً. فقالوا: ففي اليوم الثالث؟ قال: لا تسلوني. فاستجابت امرأته من وراء الستر فقالت:
كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في بيتٍ أنق
فيه غزالٌ حسن الدل خرق ... مارسه حتى إذا ارفض العرق
انكسر المفتاح وانسد الغلق
أهديت جاريةٌ إلى حماد عجرد، وهو جالس مع أصحابه على لذة، فتركهم وقام بها إلى مجلس له فافتضها، وكتب إليهم:
قد فتحت الحصن بعد امتناع ... بسنانٍ فاتحٍ للقلاع
ظفرت كفي بتفريق جمع ... جاءنا تفريقه باجتماع
وإذا شملي وشمل خليلي ... إنما يلتام بعد انصداع
آخر:
لم يوافق طباع هذا طباعي ... فأنا وهي دهرنا في صراع
وتحريت أن أنال رضاها ... فأبت غير جفوة وامتناع
فتفكرت لم بليت بهذا ... فإذا أن ذا لضعف المتاع
وقع بين رجل وامرأته شر، فجعل يحيل عليها بالجماع، فقالت: فعل الله بك،كلما وقع بيننا شيء جئتني بشفيع لا أقدر على رده.
وأقبل رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن لي امرأةً كلما غشيتها تقول: قتلتني قتلتني. قال: اقتلها وعلي اثمها.
وقال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي: زوجني امرأةً من كلب. ففعل وصارت عنده. فقال له هشام، ودخل عليه: لقد وجدنا في نساء كلب سعة. فقال له الأبرش: إن نساء كلب خلقن لرجال كلب.
وقالوا: من ناك لنفسه لم يضعف أبداً ولم ينقطع، ومن فعل ذلك لغيره فذاك الذي يصفي وينقطع. يعنون من فعل ذلك ليبلغ أقصى شهوة المرأة ويطلب الذكر عندها. وقال الشاعر:
من ناك للذكر أصفى قبل مدته ... لا يقطع النيك إلا كل منهوم
وقالوا: من قل جماعه فهو أصح بدناً وأطول عمراً، ويعتبرون ذلك بذكور الحيوان. وذلك أنه ليس في الحيوان أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصافير، وهي أكثر سفاداً. والله أعلم.
كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين
والممرورين والبخلاء والطفيليين

قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النساء والأدعياء، وما قيل في ذلك من الشعر، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين، فإن أخبارهم حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من كل طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة، أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها. فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع، ومرتعاً للنظر، وسكناً للروح، ولقاحاً للعقل، وسميراً في الوحدة، وأنيساً في الوحشة، وصاحباً في السفر، وأنيساً في الحضر.
قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوة أيام المهدي فأدخل عليه، فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد؟ ساعة بعثت وضعتموني في الحبس. فضحك منه المهدي، وخلى سبيله.
أدعى رجل النبوة بالبصرة. فأتي به سليمان بن علي مقيداً، فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة، فإني نبي مقيد. قال: ويحك، من بعثك؟ قال: أبهذا يخاطب الأنبياء يا ضعيف؟ والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم، الأنبياء خاصة، إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها. فضحك سليمان: فقال له: أنا أطلقك، وأمر جبريل فإن أطاعك آمنا بك وصدقناك. قال: صدق الله " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " . فضحك سليمان وسأل عنه، فشهد عنده أنه ممرور، فخلى سبيله.
قال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون أتي برجل أدعى النبوة، وأنه إبراهيم الخليل. فقال المأمون: ما سمعت أجرأ على الله من هذا. قلت: أكلمه؟ قال: شأنك به. فقلت له: يا هذا، إن إبراهيم كانت له براهين. قال: وما براهينه؟ قلت: أضرمت له نار وألقي فيها فصارت برداً وسلاماً، فنحن نضرم لك ناراً ونطرحك فيها، فإن كانت عليك برداً كما كانت على إبراهيم آمناً بك وصدقناك. قال: هات ما هو ألين علي من هذا. قال: براهين موسى. قال: وما كانت براهين موسى؟ قال: عصاه التي ألقاها، فصارت حية تسعى، تلقف ما يأفكون، وضرب بها البحر فانفلق، وبياض يده من غير سوء. قال: هذا أصعب. هات ما هو ألين من هذا. قلت: براهين عيسى. قال: وما براهين عيسى؟ قلت: كان يحيي الموتى، ويمشي على الماء، ويبرئ الأكمه والأبرص. فقال: في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى. قلت: لا بد من برهان. فقال ما معي شيء من هذا، قد قلت لجبريل: إنكم توجهونني إلى شياطين، فاعطوني حجة أذهب بها إليهم، وأحتج عليهم. فغضب وقال: بدأت أنت بالشر قبل كل شيء، أذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم، وقال: هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا هاج به مرار وأعلام ذلك فيه. قال: صدقت، دعه.
أدعى رجل النبوة في أيام المهدي، فأدخل عليه فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: ومتى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي الموضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا والله في شغل، ليس هذا من مسائل الأنبياء، إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي. وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال المهدي: هذا ما لا يجوز. إذ كان فيه فساد الدين. قال: واعجباً لك، تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبوتي، أنت والله ما قويت علي إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك. وعلى يمين المهدي شريك القاضي، قال: ما تقول في هذا النبي يا شريك؟ قال: شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني. قال: هات ما عندك؟ قال: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل. قال: رضيت. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر. قال: فإن الله يقول: " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم " فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء، وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم. فضحك المهدي وخلى سبيله.

قال خلف بن خليفة: أدعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري، وعارض القرآن. فأتى به خالد، فقال له: ما تقول؟ قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر " فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة. فمر به خلف بن خليفة الشاعر، وقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن عنك ألا تعود.
قال: وإني لقاعد في مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد، فإذا جماعة قد أحاطت برجل ادعى النبوة، فقدم إلى عبد الله فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: وما عليك؟ بعثت إلى الشيطان فضحك عبد الله بن خازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم.
وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر، فقلت له: من أنت؟ جعلت فداك، وما ذنبك؟ وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها. قال: جاء بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي، أنا نبي مرسل. قلت: جعلت فداك، معك دليل؟ قال: نعم، معي أكبر الأدلة، ادفعوا إلي امرأة أحبلها لكم، فتأتي بمولود يشهد بصدقي. قال ثمامة: فناولته الكأس وقلت له: اشرب صلى الله عليك.
محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل فأشرفت عليه، فإذا رجل له جهارة وبنية، قلت: ما قصة هذا؟ قالوا: ادعى النبوة. قلت: كذبتم عليه. مثل هذا لا يدعي الباطل. فرفع رأسه إلي فقال: وما علمك أنهم قالوا علي الباطل؟ قلت له: وأنت نبي؟ قال: نعم. قلت له: ما دليلك؟ قال: دليلي أنك ولد زنا. قلت: نبي يقذف المحصنات؟ قال: بهذا بعثت. قلت: أنا كافر بما بعثت به. قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة جاءت حتى صكت صلعته، قال: ما رماها إلا ابن الزانية؛ ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: ما أردتم بي خيراً حيث طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال.
ادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبئ وإلى دعواه. فركبنا متنكرين، ومعنا خادم حتى صرنا إليه، وكان مستتراً بمذهبه. فخرج آذنه وقال: من أنتما؟ فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا. فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره. فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك، أم ترى في المنام، أم ينفث في قلبك، أم تناجى، أم تكلم؟ قال: بل أناجي وأكلمك. قال: ومن يأتيك بذلك؟ قال: جبريل. قال: متى كان عندك؟ قال: قبل أن تأتيني بساعة. قال: فما أوحى إليك؟ قال: أوحى إلي أنه سيدخل علي رجلان فيجلس أحدهما على يميني والآخر عن يساري، فالذي عن يساري ألوط خلق الله. قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله. وأنك رسول الله، وخرجا يتضاحكان.
تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر ولقي ابن عياش، وكان مغرماً بالشراب، فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحل الخمر؟ قال: إذاً لا يقبل منه حتى يبرئ الأكمه والأبرص. وأتي به عامل الكوفة فاستتابه. فأبى أن يتوب ويرجع. فأتته أمه تبكي، فقال لها: تنحي، ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أم موسى. وأتاه أبوه يطلب إليه أن يرجع. فقال له: تنح يا آزر، فأمر به العامل فقتل وصلب.
وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي إذ جاءني صديق لي، فقال لي: إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة، فقم بنا إليه نكلمه، ونعرف ما عنده. فقمت معه: فصرنا إلى باب داره، فقرعنا الباب، وسألنا الدخول عليه. فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه إن كان على حق اتبعناه، وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه، ولم نؤذه. فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت على وجه الأرض، وإذا هو أصلع، فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله. قلت: دونك. قال: جعلت فداك، ما أنت؟ قال: نبي. قلت: ما دليلك؟ قال: أنت أعور عينك اليمنى، فاقلع عينك اليسرى حتى تصير أعمى، ثم أدعو الله فيرد عليك بصرك، فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل، قال: فاقلع أنت عينيك جميعاً، وخرجنا نضحك.

وأتى المأمون بإنسان متنبئ فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم، علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قربت علي ما في نفسي؟ قال له: في نفسك أني كذاب. قال: صدقت، وأمر به إلى الحبس. فأقام به أياماً، ثم أخرجه. فقال: أوحى إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس. فضحك المأمون وأطلقه.
وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحاً صاحب الفلك، وذكر أنه سيكون طوفان على يديه إلا من اتبعه، ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه، فأتى به الوالي، فاستتابه فلم يتب، فأمر به فصلب، واستتاب صاحبه فتاب. فناداه من الخشبة: يا فلان. أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة؟ فقال: يا نوح، قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري.
قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ، فقال: يا ثمامة ناظره. فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين. ثم التفت إلى المتنبئ، فقال له: ما شاهدك على النبوة؟ قال: تحضر لي ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك فتلد غلاماً ينطق في المهد ويخبرك أني نبي فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به؟ قال: وأنت يا أمير المؤمنين ما أهون عليك أن تتناول امرأتي على فراشك فضحك المأمون وأطلقه.
أخبار الممرورين والمجانين
قال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك، وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه، وكان راويةً للشعر بصيراً بجيده، فذكر عن عبد الله بن إدريس صاحب الحديث قال: أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار، فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا، والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان، وأخرج إليه طعاماً وطبقاً عليه رطب مشان وملبقات وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه، وقال: هذا من رحمة الله، وأشار إلى الطعام، كما أن أولئك من عذاب الله، وأشار إلى الصبيان. ثم جعل يأكل والصبيان يرجون الباب، وهو يقول: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " . قال ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له: يا عليان، ما لك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: إني كالمسن أشحذ ولا أقطع. وكان بصيراً بالشعر. فقلت: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قول جميل:
ألا أيها النوام ويحكم هبو ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب
قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع. ثم قال: ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له؟ قلت: وماذا؟ قال: مثل قول الشاعر:
ندمت على ما كان مني فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع
ثم قال أتستطيب قوله " فقدتني " بالله يا بن إدريس؟ قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم، شيب الله قرنك. وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة.
وحكى عنه عبد الله بن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص، وهو يخط بها في الرماد، فقلت له: ما تصنع هاهنا يا بن أبي مالك؟ قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك؟ قال: مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع؟ قال: أما سمعته يقول:
عشية ما لي حيلةٌ غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع

قلت: ما سمعته. فرفع رأسه إلي متضاحكاً، فقال: أما يقول الله عز وجل " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً " فأنت سمعته أو رأيته؟ هذا كلام من كلام العرب لا علم لك به. قلت: يا بن أبي مالك، متى تقوم القيامة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم سائل، غير أنه من مات فقد قامت قيامته. قلت له: فالمصلوب يعذب عذاب القبر؟ قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب، وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن الله لطفاً لا يدرك. قلت: ما تقول في النبيذ، حلال أم حرام؟ قال: حلال. قلت: أتشربه؟ قال إن شربته فقد شربه وكيع، وهو قدوة، قلت: أتقتري بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه، وأنا أسن منه؟ قال: إن قول وكيع ما اتفاق أهل البلد عليه أحب إلي من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك. قلت: فما تقول في الغناء؟ قال: قد غنى البراء بن عازب، وعبد الله بن رواحة، وسمع الغناء عبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن جعفر. قلت له: أيشٍ كان عبد الله بن جعفر؟ إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان.
وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط، وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة ولف عليها خرقة، لئلا يؤذي بها الناس، فكان إذا أحرده الصبيان التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس، وطاب اللقاء، فما ترى؟ فيقول: شأنك بهم، فيشد عليهم، ويقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها؟
فإذا أدرك منهم صبياً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته، فيتركه وينصرف ويقول: عورة المؤمن حمى، ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين. ثم يقول وينادي:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني ... خشاش كرأس الحية المتوقد
ثم يرجع إلى دكان الخياط، ويلقي العصا من يده ويقول:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد، وكانت له جارية تدعى خيزران، وكان بها كلفا، فمر يوماً بعليان، وقد أحاط به الناس، فقالوا له: هذا أبو سعيد صاحب خيزران، فناداه: أبا سعيد. قال: نعم. قال: أتحب خيزران؟ قال: نعم قال: وتحبك؟ قال: نعم. فأنشأ يقول:
نبئتها عشقت حشاً فقلت لهم ... ما يعشق الحش إلا كل كناس
فضحك الناس من أبي سعيد ومضى.
ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس فقال له: يا بن أبي الزرقاء، أسمنت برذونك وأهزلت دينك، أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخف. فوقف ابن أبي الزرقاء. فقيل له: هو صباح الموسوس، قال: ما هذا بموسوس.
وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا، فقلت: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها. وكان بهلول هذا يتشيع. فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما. فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم.
وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته، وشناعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه. فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال: أما هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك؟ قال: أبو الياقوت. قيل: فنقش خاتمك؟ قال: " وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد " . قيل: أي الطعام تشتهي؟ قال: خلنجبين.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي: يا أبا العمرين، فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما.
وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئاً على الأمانة؟ قال: قل. قال: والله ما بي غيره.
ودخل أبو عتاب على عمرو بن هداب وقد كف بصره والناس يعزونه فقال له: أبا زيد، لا يسوءك فقدهما فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك. ودخل على قوم يعود مريضاً لهم فبدأ يعزيهم. قالوا: إنه لم يمت. فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله، يموت إن شاء الله.
ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام، قال: لولا أنك أبي وأنك أسن مني لعرفت.
أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضري من أحمق الناس، فقيل له: ما رأيت من حمقه؟ فسكت. فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره؟ وأين ترابه الذي خرج منه؟ وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام؟

ودخل رجل من النوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته، فقال: أيكما الشعبي؟ فقال: هذه. فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان، هل يؤجر؟ قال: إن كان قال لك: يا أحمق، فإني أرجو له.
وسأل رجل آخر الشعبي فقال: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في الصلاة في أنفه فخرج عليها دم، أترى له أن يحتجم؟ قال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وقال له آخر: كيف كانت تسمى امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاح ما شهدناه.
العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشراً يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلاً عالماً ورعاً، فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الإثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة. فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية. فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، ونزعت فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة، اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام. فقال: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية وقسمت بالسوية، اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه. فيقول له: خلطت في تلك الست السنين، ولكن الله تعالى يقول: " خلطوا عملاً صالحاً آخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " . وعسى من الله موجبة. ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه. فيقول: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن، فأنت الوصي وولي النبي، بسطت العدل، وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء، فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة، اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس، ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي. فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة، وأنت الذي جعل الخلافة ملكاً، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستنصر بالظلمة، وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقض أحكامه، وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة، ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام. فقال له: يا قواد، أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحث المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمثلت بشعر الجاهلية:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل، اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر والياً بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام، فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله يا عمر خيراً عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألنت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق، بعد شقاق ونفاق. اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس، فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: بلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً.
ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء. وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق. وكان عيناوة جيد القفا، فربما مر به من يعبث فيصفعه، فحشا قفاه خراء، وقعد على قارعة. فإذا صفعه أحد قال: شم يدك يا فتى، فلم يصفعه أحد بعد ذلك.
ووعد رجل رجلاً من الحمقى أن يهدي له نعلاً حضرمية، فطال عليه انتظارها، فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إلي بعض إخواني نعلاً حضرمية.

وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة، فقفد عيناوة فتىً كانت أرضعته مجيبة، فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك؟ فوالله لقد زقت لي فرخاً فما زلت أرى الرعونة في طيرانه.
ومن المجانين هبنقة القيسي، وجرنفش السدوسي، واسم هنبقة يزيد بن ثروان، وكنيته أبو نافع، وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل. فسئل عن ذلك فقال: أما أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله! وشرد بعير له فجعل بعيرين لمن دل عليه، فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير؟ قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته.
وافترس الذئب له شاة، فقال لرجل: خلصها من الذئب وخذها، فإن فعلت فأنت والذئب واحد.
وسام رجل هبنقة بشاة، فقال: اشتريتها بستة، وهي خير من سبعة، وأعطيت فيها ثمانية وإن أردتها بتسعة وإلا فزن عشرة.
وكان باقل الذي يضرب به المثل في العي اشترى شاة بأحد عشر درهما، فسئل: بكم اشتريت الشاة؟ ففتح يديه جميعاً وأشار بأصابعه وأخرج لسانه، ليتم العدد أحد عشر.
ولما قرب الفرزدق رأس بغلته من الماء قال له الجرنفش: نح رأس بغلتك حلق الله شأفتك. قال: لماذا عافاك الله؟ قال له: لأنك كذوب الحجرة، زاني الكمرة فصاح الفرزدق. يا بني سدوس، فاجتمعوا إليه. فقال: سودوا الجرنفش عليكم، فما رأيت فيكم أعقل منه.
قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهنبقة أيهما أجن وأحمق. فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص، وجاء هنبقة بحجارة ثقال وترس، فبدأ الجرنفش، فقبض على حجر، ثم قال: دري عقاب، بلبن وأشخاب. ثم رفع صوته وقال: الترس فرمى الترس فأصابه، فانهزم هنبقة، فقيل له: لم انهزمت؟ فقال إنه قال: الترس. فرمى الترس فلم يخطئه، فلو أنه قال العين ورماها، أما كان يصيب عيني.
وتبع داود بن المعتمرة امرأة ظنها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك، فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير، فأما إذ صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان.
ووقع داود هذا بجارية فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيب أم بكر؟ فقالت له: سل المجرب.
قالت أم غزوان الرقاشي لابنها، وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان، لعلك تجد في هذا المصحف حماراً كان أبوك في الجاهلية فقده. فقال: يا أماه. بل أجد فيه وعداً حسناً ووعيداً شديداً.
ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرة كأنها مدهن عاج. فقال له: يا شيخ، دعني أجعل ذكري في سرتك. فقال له: يا بن أخي، وأين يكون آستك حينئذ؟
مجانين القصاص
قال أبو دحية القاص: ليس في خير ولا فيكم. فتبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني.
وقال في قصصه يوماً: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج. قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصاً ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه فقال: ما لكم كثر الله بكم القبور.
قال: ورأيت قاصاً يحدث الناس بقتل حمزة فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو ازدردتها ما مسها النار. ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
باب نوكى الأشراف
من النوكى المتقدمين: مالك بن زيد مناة بن تميم، دخل على امرأته ناجية مغضباً، فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت له: ضع شملتك. قال: جسدي أحفظ لها. قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما. فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه. فلما شم رائحة الطيب وثب عليها.
ومن النوكى عجل بن لجيم. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرساً في حلبة فجاء سابقاً، فقال لأبيه: كيف ترى أن أسميه يا أبت؟ قال: افقأ إحدى عينيه وسمه الأعور. قال الشاعر:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأي عباد الله أنوك من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل
ومن بني عجل دغة التي يضرب به المثل في الحمق. وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الأمثال.

ومن نوكى الأشراف: عبيد الله بن مروان، عم الوليد بن عبد الملك. بعث إلى الوليد قطيفة حمراء، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء حمراء، فكتب إليه قد وصلت القطيفة، وأنت والله يا عم أحمق أحمق.
ومنهم معاوية بن مروان وقف على باب طحان، فرأى حماراً يدور بالرحا في عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق الحمار؟ قال: ربما أدركتني سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به، فانبعث. قال: أفرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا - وحرك رأسه - فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير؟ وهو القائل، وضاع له بازي: اغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي.
وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان، فمر له بكفن. فقال: ما عندنا اليوم شيء ولكن عودوا إلينا إذا نبش.
وأقبل إليه رجل أحمق منه، فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوباً نكفن فيه ميتاً؟ قال: أخشى أنه ينجسه فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر.
ومن النوكى الأشراف: عيينة بن حصن، دخل على عثمان بغير إذن، وكانت عنده ابنته، فقال له عثمان: ألا استأذنت؟ قال: ما ظننت أن هنا من أحتاج أن أستأذن عليه. قال: ادن فتعش. فقال: أنا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه السفيه المطاع.
ومن حمقى قريش: أبان بن عثمان بن عفان. قال الشعبي: قدم أبان على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، زوجني ابنتك. قال: يا بن أخي هما اثنتان. إحداهما عند ابن عامر والأخرى عند أخيك عمرو. قال: كنت أظن أن لك ثالثة. قال: يا بن أخي، تخطب إلي ولا تدري لي بنت أم لا، رحم الله أباك.
ومر معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه، فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى آست صاحبها لا تفلح أبداً. ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب. وهو الذي يقول لأبي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دماً. قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن، فلو كنت خصياً ما زوجناك، وعلى الذي غرنا بك لعنة الله.
وكان أبو العاج والياً بواسط فأتاه صاحب شرطته بقوادة، فقال: ما هذه؟ قال: قوادة. قال: وما تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال والنساء قال: إنما جئتني بها لتعرفها بداري، خل عنها لعنك الله ولعنها.
وكان الربيع العامري والياً باليمامة، فأتي بكلب قد عقر كلباً فأفاده فقال فيه الشاعر:
شهدت بأن الله حقاً لقاؤه ... وأن الربيع العامري رقيع
أقاد لنا كلباً بكلب فلم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وقال عوانة: أستعمل معاوية رجلاً من كلب، فذكر يوماً المجوس وعنده النار.
فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي.
وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من بني عتاب بن أسيد، كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. وكان الآخر يضحي عن أبي بكر وعمر، ويقول: أخطأ السنة في ترك الأضحية، وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة، ويقول: غلطت رحمها الله في صومها أيام التشريق.
ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج. فلما رآه وقد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين، ولني نهر بوق. فقال له: ويلك أوليك نصفه. اكتبوا عهده علي بوق. قال: فولني أرمينية. قال: إذا يبطئ على أمير المؤمنين خبرك.
أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين
خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر. فقالوا له: بل في ستة أيام. فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها.
وخطب علي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح لقومه: " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " . فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون. فقال: من قاله فقد أحسن.
وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
وخطب والٍ باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي. وقد أهلك أمة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم، فسمي مقوم الناقة.

وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودعوه وهو يريد مكة حاجاً، فقال: لا تبكوا فإني أرجو أن أضحي عندكم.
ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه؟ فقال: إنما سكناها منذ ستة أشهر.
ودخل كردم السدوسي على رجل فدعاه إلى الغذاء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرز فأكثرت منه.
وقيل لأبي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام بن سليمان أبي المنذر؟ قال: لأنه لما مات سلام بن سليمان أبو المنذر مشى أبو علي في جنازته، فلما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته.
ومرض كردم فقال له عمه: أي شيء تشتهي؟ فقال: رأس كبشين قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش قال: لا يكون. فقال: لست أشتهي شيئاً.
وقال مسعدة بن طارق الذراع: إن لوقوف على حدود دار نقسمها إذ أقبل عيص، سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم. ونحن في خصومة لنصلح بينهم، فقال: خبروني عن هذه الدار، هل ضم بعضها إلى بعض أحد، فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازاً.
وأقبل كردم الذراع إلى قوم ليكسر لهم دوراً، فوجد داراً منها فيه زنقة. فقال: ليست هذه الدار لكم فقالوا: بلى والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال: فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار. فقال: عشرون في عشرين مائتان. قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا؛ إذ عشرون في عشرين مائتان.
وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها، فالتمسها في كتابه فلم يجدها. فقال: لم يمت هذا الرجل بعد، ولو مات لوجدت فريضته في كتابي.
وعزى قوماً فقال: آجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم. فقيل له في ذلك، فقال؛ مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم.
وكان أبو إدريس السمان يكتب: فلا أصحبك الله إلا بالعافية، ولا حيا وجهك إلا بالكرامة.
العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه، فرجع إليه مضروباً فقال: ما لك ويلك؟ قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني؟ قال: هن الحمار في حر أم الذي أرسلك. قال له: دعني من افترائه علي. أخبرني أنت كيف جعلت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر أمي؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أم من أرسلك؟ وقال أبو نواس: قلت لأحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: أيما أسن أنت أم أخوك؟ قال: إذا جاء رمضان استوينا.
قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غب مطر والأرض ندية والسماء مغيمة والريح شمال، وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة، وقد قعد على قارعة الطريق، وحجام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب، وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه، فقلت: يا شيخ، لم تحتجم في هذا البرد؟ قال: لهذا الصفار الذي بي.
وقيل لأبي عتاب: كيف برك بأمك؟ قال: والله ما قرعتها بسوط قط.
النوكى من نساء الأشراف
دغة العجلية، وجهيزة، وشولة، ودراعة، وسارية الليل، وريطة بنت كعب، وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً. وفيها يقال في المثل: " خرقاء وجدت صوفة " .
وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن المطلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول: أرق عيني ضراط القاضي.
فقال لي: يا أبا حفص، أتراها تعني قاضي مكة؟ وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: رب رمية من غير رام.
قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يفيق، والغائب حتى يرجع.
ومن أخبار أهل العي المشبهين بالمجانين: دخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد ليشتري طعاماً من طعامهم، فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته. قالت له: هلا قلبت طعامك يا أبا طالب؟ قال: وقد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، ألست قد قلبت الشعير، فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسداً.
قال الأصمعي: كان بين رجلين من النوكى عبد فقام أحدهما يضربه، فقال له شريكه: ما تصنع؟ قال: أنا أضرب نصيبي منه. قال: وأنا أضرب حصتي فيه، وقام فضربه. فكان من رأي العبد أن سلح عليهما، وقال: اقتسما هذه على قدر الحصص.

ومر بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي، فقال لها: ما هذا الميت منك؟ قالت: زوجي. قال: وما كان عمله؟ قالت: كان يحفر القبور، قال: أبعده الله، أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها.
وطلب رجل من النوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالاً ويؤخره به. فقال: هاتان حاجتان وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.
وكان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم، مع بله فيهم وعي شديد - فمن ذلك أن امرأة أبي رافع رأته في نومها بعد موته، فقال لها: أتعرفين فلاناً الصيرفي؟ قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر وسألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع، والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط. فأقبلت إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من آل أبي رافع كلهم مقبول القول، جائز الشهادة، فقصت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع. قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة، قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه. فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤديها، قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير، ونعم الصلح الشطر، فأد إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صلحاً على المائتي دينار التي ادعاها أبو رافع علي في نومها، وأنها قد أبرأتني منها وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى، فيدعي علي بغير هذه المائتين، فتجيء بفلان وفلان يشهدان علي لها. فلما سمعوا الوثيقة فطن القوم لأنفسهم، وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به.
ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير، أتي بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسيه في موضعه، فلما صار إلى بيته ذكره، فقال: يا غلام، ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد. قال: وأين يوجد، وقد دخل المسجد بعدك جماعة؟ قال: وبقي أحد يأخذ ما ليس له؟ وسرقت نعله مرة فلم يلبس نعلاً بعدها حتى مات، وقال: أكره أن أتخذ نعلاً فيجيء من يسرقها فيأثم. وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه، ولا أقبل شهادته.
قال الأصمعي: كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته، وله حمار يرعى حول الصومعة، فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى فرفع يديه إلى السماء، فقال: يا رب، لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري، وما كان يشق علي. فهم به نبي كان فيهم في ذلك الزمان، فأوحى الله إليه دعه، فإنا أثيب كل إنسان على قدر عقله.
هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها؟ قال: وما رأيت؟ قال: كنت أرى أن لي غنماً، فكنت أعطى بها ثمانية دراهم، فأبيت من البيع، ففتحت عيني فلم أر شيئاً، فأغلقتهما ومددت يدي، وقلت: هاتوا أربعة، فلم أعط شيئاً. فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها. قال: يمكن الذي ذكرت.
شعراء المجانين
منهم أبو ياسين الحاسب، وجعيفران، وجرتفش، وأبو حية النميري، وريسيموس، وصالح بن شيرزاذ الكاتب.
وكان أبو حية أجن الناس وأشعر الناس، وهو القائل:
ألا حي أطلال الرسوم البواليا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلةٌ ... تقاضاه أمر لا يمل التقاضيا
وهو القائل أيضاً:
فلأبعثن مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع
ترد المناهل لا تزال غريبةً ... في القوم بين تمتعٍ وسماع
وهو القائل أيضاً:
فأبدت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفٍ ومعصم
وأما جعيفران الموسوس الشاعر، وهو من مجانين الكوفة، فإنه لقي رجلاً فأعطاه درهماً وقال له: قل شعراً على الجيم. فقال:
عادني الهم فاعتلج ... كل هم إلى فرج
سل عنك الهموم بال ... كاس والراح تنفرج
وهو القائل:

ما جعفرٌ لأبيه ... ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدعيه
هذا يقول بنيي ... وذا يخاصم فيه
والأم تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك فأذن له، وحضر غداؤه، فتغدى معه، فلما كان من الغد استأذن فحجبه، ثم أتاه في الثالثة فحجبه. فنادى بأعلى صوته:
عليك إذنٌ فإنا قد تغدينا ... لسنا نعود وإن عدنا تعدينا
يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها ... داءً بقلبك ما صمنا وصلينا
العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن في حماقةً، ولكن إن طلبت الشعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئاً؟ قال: نعم، أقول أجود من قولك، وأنا الذي أقول:
لو أن جومل كلمتني بعدما ... نسيت نوائحي البكاء وأقبر
لحسبت ميت أعظمي سيجيبها ... أو أن باليها الرميم سينشر
قال له أبي: أما الشعر فحسن إلا أن اسم المرأة قبيح. قال: ألا إن اسم المرأة جمل، ولكنني ملحته بجومل. فقال له: إن هذا من الحماقة التي برئ إلينا منها.
قال العتبي: قال أبي: وأنشدني أبو وائل:
ما أوجع البين من غريب ... فكيف إن كان من حبيب
يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت
فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئاً. قلت: يا هذا، إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط وهو يشكل.
ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب، أخي الحسن بن وهب، دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاذ، بشعر يرثيها فيه، فأنشده:
لأم سليمان علينا مصيبةٌ ... مغلغلة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أم سالم ... فأمسى سراج البيت وسط المقابر
فقال سليمان: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي، ماتت أمي ورثيت بمثل هذا الشعر، ونقل اسمي من سليمان إلى سالم.
ومن قول صالح بن شيرزاذ هذا:
لا تعدلن دواء بالفساء فإن ... كان الضراط فذاك الآذريطوس
ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع، وحوله بنوه، فاستأذنه في الذنه في الإنشاد فاستعفى. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده شعراً، فلما انتهى فيه إلى قوله:
وكيف تنفى وأنت اليوم رأسهم ... وحولك الغر من أبنائك الصيد
قال له: ليتك، تركتنا رأساً برأس. وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت ومدحه ببيتين، فقال له: والله ما تركت قافيةً لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه:
هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع وحبر مدحةٌ في نصر
فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك.
وقال بعض العلماء: ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من المجانين مجانين أهل مكة في الشعر، فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
فزعموا أن هذه أسماء رجال منهم. قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، والزرارة الحجر زررت حول البيت، ومجاشع زمزم تجشعت بالماء، وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة. قلت له: فنهشل؟ قال: نهشل؟ وفكر فيه ساعة، ثم قال: قد أصبته، هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك النهشل.
قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا، فملنا إلى دير هزقل ننظر في المجانين، فإذا بالمجانين كلهم قد رأونا، ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه، وجلس ناحية عنهم، فقلنا: إن كان فهذا، فوقفنا به، فسلمنا عليه فلم يرد السلام، فقلنا له: ما تجد؟ فقال:
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي نفس تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس يفوقها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد

فقلت له: أحسنت والله. فأوما بيده إلى شيء ليرمينا به. وقال: أمثلي يقال له أحسنت. قال: فولينا عنه هاربين. فقال: أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت، وإن أسأت قلتم لي: أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا وقلنا له: قل، فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها وسارت بالدجى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين ينهمل
وودعت ببنان عقده عنم ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ما ذا حل بي وبها ... من نازل البين حل البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي نودعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم ... يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا
قال: فقلنا له: ماتوا. فصاح وقال: وأنا والله أموت، وتربع وتمدد، فمات فما برحنا حتى دفناه.
وقال محمد بن يزيد المبرد: دخلنا دير هزقل، فإذا بمجنون بيده حجر، وقد تفرق الناس عنه وهو يقول: يا معشر إخواني اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول:
وذي نفس صاعد ... يئن بلا عائد
يكر على جحفل ... ويضعف عن واحد
وأنشد أبو العباس لماني الموسوس:
له وجنات في بياض وحمرة ... فحافاتها بيض وأوساطها حمر
رقاق يجول الماء فيها كأنها ... زجاج أجيلت في جوانبها الخمر
وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود، ثم أقلعت سريعاً، فمر بي ماني الموسوس فقال:
لا تظن الذي جرى ... مطراً كان ممطراً
إنما ذاك كله ... دمع عيني تحدرا
وتوالت غيومها ... من همومي تفكرا
هكذا حال من يرى ... من حبيب تغيرا
وقف ماني الموسوس على أبي دلف فأنشده:
كرات عينك في العدا ... تغنيك عن سل السيوف
وقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة.
ولماني الموسوس:
من الظباء ظباء همها السحب ... ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب
أفدى الظباء اللواتي لا قرون لها ... وحليها الدر والياقوت والذهب
يا حسن ما سرقت عيني وما انتهب ... والعين تسرق أحياناً وتنتهب
فتلك من حسن عينيها وهبت لها ... قلبي لو قبلت مني الذي أهب
وما أريدهما إلا لرؤيتهما ... فإن تأبت فما لي فيهما أرب
إذا يدٌ سرقت فالحد يقطعها ... والحد في سرق العينين لا يجب
ومر علي بن الجهم بمبرسم، قد اجتمع الناس عليه، وتحلقوا حوله، فلما رآه المبرسم قصد نحوه، وأخذ بعنانه، ثم أنشأ يقول:
لا تحفلن بمعشر ال ... همج الذين أراهم
فوحق من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم
لو قيس موتاهم بهم ... كانوا هم موتاهم
ثم نظر حوله فرأى غلاماً جميل الهيئة حسن الوجه، فشق ثيابه وقال:
هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم
قال أبو البختري الشاعر: كان يبلغني أن ببغداد مجنوناً يكنى أبا فحمة، له بديهة حسنة، فتعرضت له، فأتيح لي لقاؤه في بعض سكك بغداد، فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة؟ فأشنأ يقول:
أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرضاً لموارد التلف
وأراك نحوي غير ملتفت ... متحرفاً عن غير منحرف
يا من أطال بهجره كلفي ... أسفي عليك أشد من كلفي
قال أبو البختري: فأخرجت له قبضة نرجس كانت في كمي، فحييته بها، فجعل يشمها ملياً، ثم أنشأ يقول:
لما تزوجت الجنوب بهاطل ... جون هتون زبرج دلاح
أضحى يلقحها بوسمي الصبا ... فاستثقلت حملاً بغير نكاح
حتى إذا حان المخاض تفجرت ... فأتت بولدان بلا أرواح
حاك الربيع لها ثياباً وشيت ... بيد الندى وأنامل الأرواح
من أصفر في أزهر قد زانه ... تبر على ورق من الأوضاح

ركبن في عمد الزبرجد فاغتدى ... نحو الغزالة ناظراً بملاح
قال الحسن بن هانئ: لقيت ماني الموسوس، فأنشدني:
شعر حي أتاك من لفظ ميت ... صار بين الحياة والموت وقفاً
قد برت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين البرية يخفى
لو تأملتني لتبصر شخصي ... لم تبين من المحاسن حرفا
ثم مضيت، فأتيت جعيفران الموسوس، وهو شيخ من بني هاشم أرت اللسان، وعليه قيد من فضة، وفي عنقه غل من ذهب، فقال لي: من أين دببت يا حسن؟ قلت: من بيت مانويه. فقال: في حر أم مانويه! فدعا بدواة وقرطاس، وقال لي اكتب:
ما غرد الديك ليلاً في دجنته ... إلا حثثت إليك السير مجهودا
ولا هدت كل عين لذ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا
إلا امتطيت الدجى شوقاً إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا
أسعى مخاطرةً بالنفس يا أملي ... والليل مدرع أثوابه السودا
فلم ترق ولم ترث لمكتئب ... زودته حرقات القلب تزويدا
هيهات لا غدر في جن ولا بشر ... إلا يخال معداً فيك موجودا
ثم قال: خرق رقعة مانويه. فخرقتها ثم مضيت، فلقيت عدرد المصاب، وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه ويبكي، وينادي: أيها الناس، الفراق مر المذاق. فقلت له: أبا محمد، من أين أقبلت؟ قال: شيعت الحاج. قلت: وما الذي حملك على تشييعهم؟ فقال: لي فيهم سكن. قلت: فهل قلت فيهم شيئاً؟ قال: نعم، وأنشدني:
هم رحلوا يوم الخميس غديةً ... فودعتهم لما استقلوا وودعوا
فلما تولوا ولت النفس معهم ... فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع
إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع
وعينان قد أعماهما الحزن والبكا ... وأذن عصت عذالها ليس تسمع
أبو بكر الوراق قال: حدثني صديق لي، قال: رأيت رجلاً من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة، وخلفه دابة له تدور معه، فاستوقفته وقلت له: يا فلان، ما حالك وأين النعمة؟ قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة. قلت: بم تغير؟ قال: بالحب، ثم بكى وأنشأ يقول:
أرى التحمل شيئاً لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه
أم كيف صبر محب قلبه دنف ... الهجر ينحله والشوق يحزنه؟
وإنه حين لا وصلٌ يساعفه ... يهوى السلو ولكن ليس يمكنه
وكيف ينسى الهوى من أنت همته ... وفترة اللحظ من عينيك تفتنه
فقلت: أحسنت والله. فقال: قف قليلاً، فوالله لأطرحن في أذنيك أثقل من الرصاص، وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل، وأنشد:
للحب نارٌ على قلبي مضرمة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار
الماء ينبع منها من محاجرها ... يا للرجال لماء فاض من نار
ثم وقف وأنشد:
أعاد الصدود فأحيا الغليلا ... وأبدى الجفاء فصبراً جميلا
ورد الكتاب ولم يقره ... لئلا أرد إليه الرسولا
وأحسب نفسي على ما ترى ... ستلقى من الهم هجراً طويلا
وأحسب قلبي على ما أرى ... سيذهب مني قليلاً قليلا
ثم ترك يدي ومضى.
وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش. قال: فسلمت. فرد، وعرض علي الأكل. فقلت: ما أريد شيئاً، هنأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت بالغداء، فإني بت جائعاً. ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
أعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا
فلا تكن سابري العرض محتشما ... من القليل فلست الدهر محتفلا
ودعا برطل، ودخل رجل من أجلة الفقهاء، فمد يده إليه، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقنيها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه، وقال: كنت يا أمير المؤمنين، الله الله، إني عاهدت الله في الكعبة إلا أشربها أبداً. ففكر طويلاً، والكأس في يد عمرو بن مسعدة، حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها. ثم قال:

ردا علي الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
محمد بن يزيد الأسدي قال: حدثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت السحر أيام الخريف، فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال، قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها، وقد احمر جلده من برد الماء، وإذا ماني الموسوس يرمقه ببصره، فلما خرج من الماء قال:
خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابساً غلالة خمر
قلت له: لعنك الله يا ماني، أبعد الجهاد والغزو تخمش غلاماً قد بات مؤاجرا في الحمامات؟ فقال لي: مثلك يخاطب يا أحمق، وإنا يخاطب هذا، وأشار إلى السماء، وقال:
يكفيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي
خلقت وجوهاً كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجروها عز ذلك من خطب
فإما أبحت الصب ما قد خلقته ... وإما زجرت القلب عن لوعة الحب
أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال:
أيا رب تخلق ما تخلق ... وتنهى عبادك أن يعشقوا
إذا هكذا صغت حسن الوجوه ... فأي البرية لا يفسق
خلقت الملاح لنا فتنة ... وقلت اعبدوا ربكم واتقوا
وقال أبو بكر الموسوس في نصراني:
أبصرت شخصك في نومي تعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الألفا
يا من إذا درس لإنجيل ظل له ... قلب الحنيف عن القرآن منصرفا
وله فيه:
زناره في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود
أخبار البخلاء
أجمع الناس على بخل أهل مرو ثم أهل خراسان.
قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج، ويثير الحب إليها، ويلطف بها، إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده، فعلمت أن لؤمهم في المآكل. ورأيت فيمرو طفلاً صغيراً في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة، فقال: ليس تسع يدك. فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب، والجبلة المفطورة.
واشتكى رجل مروزي ضرراً من سعال، فدلوه على سويق اللوز، فاستثقل النفقة، ورأى الصبر على الوجع أخف عليه، فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الألم حتى أتيح له بعض الموفقين، فدله على ماء النخالة، وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة، فطبخت له وشرب ماءها، فجلا صدره. ووجده بعضهم، فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء، وقال لأم عياله: اطبخي لأهل بيتنا النخالة، فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر. فقالت له زوجته: قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء.
وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان، فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق، وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح، وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة، فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل، فقلت: ما بال هذا العود مربوطاً؟ فقال: هذا عود قد شرب الدهن، فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان، فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة. قال: فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو، ونظر إلى العود، فقال: أبا فلان، فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه، أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء، أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى، وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً، حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد، اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة، أو مسلة صغيرة، فإن الحديد أبقى، وهو مع ذلك غير نشاف، والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها، وربما كان ذلك سبباً لإطفائها. قال الخراساني: ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين.

قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الخزامي، واسمه عبد الله بن كاسب، ونحن في العسكر، إن الشيب سهك، وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته، ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض؟ والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة، والطيب غال ممتنع الجانب، فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل، فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول، وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا.
وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، واعلموا أن أعدى عدو له المملوح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشرها، فإن الباقلاء، تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته.
ومن البخلاء هشام بن عبد الملك. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام. فأطرفته وحدثته. فقال: سل حاجتك، فقلت: يا أمير المؤمنين، تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا، وقال: فيم؟ ولم؟ وبم؟ ألعبادة أحدثتها؟ أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين؟ ألا لا يا بن صفوان، ولو كان لكثر السؤال، ولم يحتمله بيت المال، فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك. فأنت والله كما قال أخو خزاعة:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توافقه
منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ... ولم يفتلتك المال إلا حقائقه
قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له؟ قلت: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه.
وخرج هشام بن عبد الملك متنزها، ومعه الأبرش الكلبي، فمر براهب في دير، فعدل إليه، فأدخله الراهب بستاناً له، وجعل يجتني له أطيب الفاكهة. فقال له هشام: يا راهب، بعني بستانك. فسكت عنه الراهب. ثم أعاد عليه، فسكت عنه. فقال له: ما لك لا تجيبني؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: لماذا ويحك؟ قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش، فقال: ما سمعت ما قال هذا؟ قال: والله إن لقيك حر غيره.
ومن البخلاء: عبد الله بن الزبير، وكانت تكفيه أكلة لأيام، ويقول: إنما بطني شبر في شبر، فما عسى أن يكفيه.
وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير:
لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد ... أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين
فإن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتى فؤادك مثل الخز في اللين
إن امرأ كنت مولاه فضيعني ... يرجو الفلاح لعندي حق مغبون
وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. فقال فيه الشاعر:
رأيت أبا بكر وربك غالب ... على أمره، يبغي الخلافة بالتمر
وأقبل إليه أعرابي فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيناك. قال: أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة.
وأتاه أعرابي يسأله حملا، ويذكر أن ناقته نقبت. فقال: انعلها من النعال السبتية، واخصفها بهلب. قال الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً، فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك. قال: إن وصاحبها.
ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي، واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتد إلي أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج.
وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا؟ قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام هات الغداء.
وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره، ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع، ويفتح على السائل باب الحرمان.
ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر. قال أبو عبيدة عن جهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة، فقدم إلي تمراً، وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً. فأتى الغلام بالزيت. فقال له: خنتني وسرقتني. قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت.

ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي. استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً، فمطله بها ستة أشهر، ثم قضاه درهمين وثلاث حبات. فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار، وأنا بقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي، واستقضي الحبة على بابك والحبتين، صاح على بابك حمال، ولا يحضر تلك الساعة وكيلك، فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات، فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات. فقال زبيدة: يا مجنون، أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية، لأن هذه ندية وتلك يابسة، وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً.
قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: لا أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال: ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله هاهنا، وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة.
ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا. لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل.
قيل لبختى المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده. قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال.
والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً: " جاء فلان على غبيراء الظهر " و " جاء على حاجبه صوفة " . و " جاء بخفي حنين " .
وقال أبو عطاء السندي، في يزيد بن عمر بن هبيرة:
ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ ... طلبت بها الأخوة والثناء
رجعن على حواجبهن صوفٌ ... وعند الله نحتسب الجزاء
طعام البخلاء
قال الأصمعي: كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه:هل تغذيتم اليوم؟ فإن قالوا نعم، قال: والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله، ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا:لا قال: لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله، فلا يصير في أيديهم منه شيء.
وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم؟ فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون، قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت. وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة. ثم يقول: كيف كان شربكم للماء؟ فإن قال أحدهم: كثيراً قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير. وإن قالوا قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلاً.
وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه، ثم يتلو قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا " . ودخل عليه رجل،وبين يديه طبق فراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري.
وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج، ففقد فخذاً من دجاجة، فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد. فقال ابنه الأكبر: يا أبت، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هارون، فأطلنا الحديث، حتى أضر به الجوع، فدعا بغذائه، فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم، لا تحز فيها سكين، ولا تؤثر فيه الضرس، فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة، ففقد الرأس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: لم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذاك؟ فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك. ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه، فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك.
وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله، وهو على المدينة، طعاماً، فثقل عليه ذلك. فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه، فجمعوا، وكشف عن الطعام، فإذا طعام له بالٌ، فندم على الإرسال للمساكين، وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين، وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس، لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان.
وقال: دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية، وقوم يأكلون عنده، فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه، وجعل يرطله بيده ويقول: يزعمون أن خبزي صغير، فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه؟ قال: ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة، والقوم يأكلون، وقد رفع بعضهم يده، فمددت يدي لآكل، فقال أجهز على الجرحى، لا تتعرض للأصحاء يقول: تعرض للدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المنزوع الفخذ، فأما الصحيح فلا تتعرض له. فهذا معناه في الجرحى.
وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقببة، وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل، وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكانبون. قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته؟ قال: جعلت فداك، والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط، وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل.
أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال: يهجوا ابن الأغلب:
لو أن قصرك يا ابن أغلب كله ... إبر يضيق بهن رحب المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
وقيل لحصين: أتغديت عند فلان؟ قال: لا، ولكني مررت به يتغدى. قيل: فكيف علمت أنه يتغدى؟ قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء.
وقال أبو الحارث جمين: دخلت على فلان،فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت.
وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك، فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. قال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. وخرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وقال آخر:
ولو عليك اتكالي في الغداء إذا ... لكنت أول مقتول من الجوع
يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً ... صوت ضعيف وداع غير مسموع
قال المدائني: كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي، وهو والي الكوفة، جدي. يوضع على مائدته بعد الطعام، لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر. فحضر مائدته أعرابي، فبسط يده وأسرع في الأكل. فقال: يا أعرابي، إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك. فقال له الأعرابي: أصلحك الله، وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه، فقال: خذها فإنها بيضة العقر. فلم يحضر طعامه بعد ذلك.

ودخل أشعب على والي المدينة، فحضر طعامه، وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر،فبدر إليه أشعب فمزقه،فقال له: يا أشعب، إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم، فإن في ذلك أجراً. فقال: والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله.
قال عمرو بن ميمون: تغديت يوماً عند الكندي، فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي، فلم يعرض عليه الطعام، ونحن نأكل، فاستحيت أنا منه فقلت: سبحان الله، لو دنوت فأصبت معنا. قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً.
قال: ومررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جارا له. فقلت: ما بالكما؟ فقال أحدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً، فاشتريته له وتغدينا، فأخذت عظامه، فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا وأخذها، ووضعها على باب داره، يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس.
قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما فاشتروا له، وأمر بطبخه حتى تهرأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله. فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا؟ قال: لست بصاحبه. فقال الأوسط: أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول؟ قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً، وأسفه سفاً؟ قال: أنت صاحبه، وهو لك دونهم.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها، ويسميها العرس، لما فيها من الألوان الطيبة، وربما سماه الكامل، والجامع، ويقول: الرأس شيء واحد، وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة، والرأس فيه الدماغ، وطعمه مفرد، وفيه العينان، وطعمهما مفرد، والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين، وطعمها مفرد، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد، وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان، وطعمه مفرد، والخيشوم، والغضروف، ولحم الخدين، وكل شيء من هذه طعمه مفرد. والرأس سيد البدن، والدماغ هو معدن العقل، وخاصة الحواس، وبه قوام البدن، وفيه يقول الشاعر
إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
وقيل لأعرابي: أتحسن أن تأكل كل الرأس؟ قال: نعم أبخص عينيه، وأفك لحييه، وأسحى خديه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحق به مني. وكانوا يكرهون أكل الدماغ، ولذا يقول قائلهم:
ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم

وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إيام ونهم الصبيان، وبغر السباع، وأخلاق النوابح، ونهش الأعراب، وكل ما بين يديك، فإنما حظك منه ما قابلك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف، من لقمة كريمة أو مضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست بواحد منهما. وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر. أي بني، لا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، ولا تنهش نهش السباع، وعود نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة، وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى. واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من غيره. أي بني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين. أي بني، لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت أبدان الأعراب، ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم، وأن الداء كله هو في فضول الطعام، فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بني، ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم، وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات، فافهم تأديب الله، وتأديب الرسول. أي بني، قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت وكف أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت، فلا أبعد الله غيرك.
ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي، وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط، وبين يديه طبق تمر، فقالت: السلام عليك، قال أبو الأسود كلمة مقبولة.
ووقف عليه أعرابي، وهو يأكل، فقال الأعرابي: أدخل؟ قال: وراءك أوسع لك. قال: الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليهما يبردان. قال: أتأذن لي أن آكل معك؟ قال: سيأتيك ما قدر لك. قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا أنك نسيت. ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له، فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه. فقال أبو الأسود: يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه. قال: كرهت أن أدعها للشيطان. قال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها.
الأصمعي قال: قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي، وهو يقول: من يعشي الجائع؟ فقال أبو الأسود: علي به، فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع، فلما أكد ذهب ليخرج، قال: أين تريد؟ قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك، اطرحوه في الأدهم، فبات عنده مكبولًا، حتى أصبح.
قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب له:
يأيها الخارج من بيته ... وهارباً من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزادٍ له ... فارجع تكن ضيفاً على الضيف
وقال آخر:
بت ضيفاً لهشام ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكب الدر ... ي في داجي الظلام
لا حراماً أجد الخ ... بز ولا غير الحرام
وله:
بت ضيفاً لهشام ... فشكا الجوع عدمته
وبكى لا صنع الله ... له حتى رحمته
وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله، فيمطله ابن المقفع، فيقول: أتراني أتكلف لك شيئاً؟ لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي، فلا تتثاقل علي. فلم يزل به حتى أجابه، وأتى به إلى منزله، فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش، فقدمه له. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك، فألح في السؤال، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك. فقال ابن المقفع، للسائل، أرح نفسك وانج، والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة.

وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها، فلما حلها وقف سائل، فقال له: صنع الله لك، ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك. فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان. فقالت له: يا أبت. ما تمسكت لهم بهذا القول، فما تبالي كثروا أم قلوا؟ الأصمعي قال: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قروناً.
البرم: الذي يأكل مع أصحابه، ولا يجعل شيئاً، والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين.
وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف، وهو القائل في ضيف نزل به وأكله:
ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور
وله:
تجهز كفاح ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وله في الأضياف:
لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا ... دسم العمائم تحيكها الشياطين
ألفيت جلتنا الشهريز بينهم ... كأن أيديهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى تلقى المساكين
ما قالت الشعراء في طعام البخلاء
فمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك أسته وتمثل الأمثالا
وقوله فيهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
قوم إذا نبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وقال الراعي:
اللاقطين النوى تحت الثياب كما ... مجت كوادن دهم في مخالبها
فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر:
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدى رفعت ستوره
لآخر:
أبو نوح أتيت إليه يوماً ... فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحماً سميناً ... أكلناه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني ... كؤوساً حشوها ريح المدام
فكان كمن سقى ظمآن آلا ... وكنت كمن تغدى في المنام
ولآخر:
تراهم خشية الأضياف خرساً ... يصلون الصلاة بلا أذان
ولحماد عجرد:
حريث أبو الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوف تخمة إخوانه ... فعودهم أكلة واحدة
ولآخر:
أتانا بخبز له حامض ... كمثل الدراهم في رقته
إذا ما تنفس حول الخوان ... تطاير في البيت من خفته
فنحن كظوم له كلنا ... يرد التنفس من خشيته
فيكلمه اللحظ من رقة ... ويأكله الوهم من قلته
نزل رجل من العرب ببخيل، فقد إليه جرادا فعافه، وأمر برفعه وقال:
لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم
أتانا ببرقان الدبي في إنائه ... ولم يك برقان الدبي لي مطعم
فقلت له غيب إناءك واعتزل ... فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم
ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب، فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال:
تضيفت في برد وريح تلفني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفعت الظلماء من كل جانب
تصلى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطيتي ... تريح بمحسور من الصدر لاغب
فجنت جنوناً من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب
سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخزم بالأطراف شوك العقارب
تقول وقد قربت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر علي ركائبي
فسلمت والتسليم ليس يسرها ... ولكنه حق على كل جانب

فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحي قالت معشر من محارب
من المشتوين القد في كل شتوة ... وإن كان عام الناس ليس بناصب
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... علي مبيت السوء ضربة لازب
وقمت إلى مهرية قد تعودت ... يداها ورجلاها حثيث المواكب
إلا إنما نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وقال الخليل بن أحمد:
كفاه لم تخلقا للندى ... ولم بك بخلهما بدعه
فكف عن الخر مقبوضه ... كما نقصت مائة سبعه
وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها شرعه
وقال غيره:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيدٌ وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار
وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان:
إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم ... جراديم أشباه النخامة تبلع
تبل ختان الضيف حتى تريبه ... ويصبح من عين أسته يتطلع
ويقريك من أكرهته من سوادهم ... قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع
عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن ... لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع
ولآخر:
فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم ... على ميت مستودع بطن ملحد
يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ... ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد
ولآخر:
ذهب الكرام فلا كرام ... وبقي العضاريط اللئام
من لا يقيل ولا يني ... ل ولا يشم له طعام
ولآخر:
صدق أليته إن قال مجتهدا: ... لا والرغيف، فذاك البر من قسمه
فإن هممت به، فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه
ولآخر:
إن هذا الفتى يصون رغيفاً ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
وقال أبو نواس في فضل الرقاشي:
رأيت قدور الناس سوداً من الصلى ... وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيه على طرف الظفر
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها ... أمامهم الحولي من ولد الذر
وقال في إسماعيل الكاتب:
خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشق يرفا
عجباً من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إن رفاءك هذا ... ألطف الأمة كفا
فإذا قابل بالنص ... ف من الجردق نصفا
أحكم الصنعة حتى ... ما يرى مغرز إشفى
ولآخر:
ارفع يمينك من طعامه ... إن كنت ترغب في كلامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
ولآخر:
رأيت الخبز عز لديك حتى ... حسبت الخبز في جو السحاب
وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب
ولآخر:
زرت امرأً في بيته مرةً ... له حباء وله خير
يحذر أن يتخم إخوانه ... إن أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصوم والصائم مأجور
ومن قولنا في نحوه:
طعام من لست له ذاكرا ... دق كما دق بأن يذكرا
لا يفطر الصائم من أكله ... لكنه صوم لمن أفطرا
في وجهه من لؤمه شاهد ... يكفي به الشاهد أن يخبرا
لم تعرف المعروف أفعاله ... قط كما لم ينكر المنكرا
وقال آخر:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... عى دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
باب من أخبار البخلاء
الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء، فقال له: احملني. فقال: ما كنت لأنزل وأحملك. قال: ما أنت بحاتمٍ حيث يقول:
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
قال: ما فيها محمل، ولا بي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم:
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
وقال كثير عزة:
مهين تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا مانعته كان أحزما
سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، فتشفع إليه برجل فقضاها، فقال:
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب المجد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها، وإن همت بشر أطاعها
احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة، فبعث إلى جار له موسر يستسلفه، وكان حسن الظن به،فاعتل عليه ورده، فقال:
لا تشعرن النفس يأساً فإنما ... يعيش بجد حازمٌ وبليد
ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكل قريب لا ينال بعيد
وكتب إلى آخر يستسلفه، فكتب إليه: المؤونة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه أبو الأسود: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً.
وقال بعض الشعراء في بخيل:
ميت مات، وهو في كنف العي ... ش مقيم في ظل عيش ظليل
في عداد الموتى وفي عامر الدني ... ا أبو جعفر أخي وخليلي
لم يمت ميتة الحياة ولكن ... مات عن كل صالح وجميل
ولآخر:
فأما قراه كله فلنفسه ... ومال يزيد كله ليزيد
ولآخر:
له يومان يوم ندىً ويوم ... يسل السيف فيه من القراب
فأما جوده فعلى النصارى ... وأما بأسه فعلى الكلاب
ولآخر:
كدحت بأظفاري وأعملت معولي ... فصادفت جلموداً من الصخر أملسا
تجهم لما جئت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى
فأجمعت أن أنعاه لما رأيته ... يفوق فواق الموت حتى تنفسا
وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي:
جاء بدينارين لي صالحٌ ... أصلحه الله وأخزاهما
أدناهما تحمله ذرةٌ ... وتلعب الريح بأوفاهما
بل لو وزنالك ظليهما ... ثم عمدنا فوزناهما
لكان لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلاهما
ولحماد عجرد:
أورق بخير تؤمل للجزيل فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
إن الكريم ترى في الناس عفته ... حتى يقال غني وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجهٌ سود
وأنشد:
جاد ابن موسى من دنانيره ... لنا بدينارين أسرارا
كلاهما في الكف من خفة ... لو نفخا من فرسخ طارا
قلت وقلبي لهما منكر ... أريهما للحين قسطارا
فكان هذا عنده بهرجا ... وكان هذا عنده بارا
ثم وزنا واحداً منهما ... كان له القسطار مختارا
فكان في كفة ميزانه ... ينقص قيراطاً ودينارا
باب ما قيل في البخلاء
سمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا
فقال له: بخلت الناس كلهم. قال: فأردني واحداً سمحا! وقال ابن حازم:
وقالوا لو مدحت فتى كريماً ... فقلت وأين لي بفتى كريم؟
بلوت ومر بي خمسون عاماً ... وحسبك بالمجرب من عليم
فلا أحدٌ يعد ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم
ولآخر:
لما رآنا فر بوابه ... وانسد من غير يد بابه

كلب له من بعضه حاجب ... يحجبه إن غاب حجابه
ومن قولنا:
جعل الله رزق كل عدوٍ ... لي بكف لبعض من لا أسمي
كف من لا يهز عطفيه يوماً ... لمديح ولا يبالي بذم
يتلقى الرجاء منه بوجه ... راشح الخد والجبين بسم
جئته زائراً فما زال يشكو ... لي حتى حسبته سيدمي
ألف اللؤم فيه من كل طرف ... معرقاً فيه بين خال وعم
قد نهاني النصيح عنه مراراً ... بأبي أنت من نصيح وأمي
ومن قولنا:
يراعة غرني منها وميض سنىً ... حتى مددت إليه الكف مقتبسا
فصادفت حجراً لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحاً وذا نفسا
كلب يهر إذا ما جاء زائره ... حتى إذا جاء مهدي تحفة نبسا
ومن قولنا:
صحيفة طابعها اللوم ... عنوانها بالبخل مختوم
أهداكها والخلف في طيها ... والمطل والتسويف واللوم
من وجهه نحس ومن قربه ... رجس ومن عرفانه شوم
لا تهتضم إن كنت ضيفاً له ... فخبزه في الجوف هاضوم
تكلمه الألحاظ من رقة ... فهو بلحظ العين مكلوم
لا تأتدم شيئاً على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم
احتجاج البخلاء
الأصمعي: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حلاً منهم.
وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم.
وقال لهم أيضاً: لا تجاودوا الله، فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوماً لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى.
وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي.
ونحوه قول ابن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع.
وقال رجل من تغلب: أتيت رجلاً من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب، إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إلي منك، وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبةً طوبة. والله يا أخا بني تغلب، ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس.
وهذا نظير قول لآخر: من أعطى في الفضول قصر في الحقوق.
وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه. قال: وما ذاك يا بن أخي؟ قال: درهماً واحداً. قال: يا بن أخي. لقد هونت الدرهم، وهو طابع الله في أرضه الذي لا يعصى، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم. ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هونته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم.
وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني، أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى:
يلومونني في البخل جهلاً وضلةً ... وللبخل خير من سؤال بخيل
ونظيره قول المتلمس:
وحبس المال خير من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله؟ قال: لا، ولكن أخاف ألا أموت في أوله.
وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم، لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد، إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي، وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي، واسم البخيل فيه حزم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع وكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية وسمعة وطرمذة، وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعرى ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه.

وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك، ومن احتاج إليك ألا يزول عنك، فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك. فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسبابه من الشكر، والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزين الفجور شريك الفاجر.
وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بني، تعلموا الرد فإنه أسد من العطاء، ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم، ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني، خيرٌ له من أن يقال له سخي وهو فقير.
وقال الجذامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك، فما ظنك إن كان أقصر مني؟ أليس يتخيل في قميصي؟! وإن كان أطول مني، أليس يصير آيةً للسائلين؟ فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة، فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي، فمتى يتفق هذا؟ وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة، ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من فقهائهم وعقلائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس علي في هذا مسألة. إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع الجماعة تكلف ما ليس علي.
ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقلبه ويقول: في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي شق آخر: قل هو الله أحد، ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً ورقية. ورمى به في الصندوق.
وكان أبو عيسى بخيلاً، وكان إذا وقع الدرهم بيده طنه بظفره، وقال: يا درهم، كم من مدينة دخلتها، وأيد دوختها، فالآن استقر بك القرار، واطمأنت بك الدار. ثم رمى به في الصندوق.
وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجةً. قال: وأنا لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك إلي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة. فانصرف الرجل عنه.
وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل: اسقني، أتى بإناء على قدر الري أو أصغر؟ وإذا قال: أطعمني، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان؟ أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء. الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في منبته، ألا ترى الباقلاء الأخضر أطيب من الكمثري، والباذنجان أطيب من الكمأة، ولكن أهل التحصيل والنظر قليل، وإنما يشتهون على قدر الثمن.
وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، وأعدى عدو له المالح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره؛ فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته، فما حاجتكم أن تصيروا طعاماً إلى طعامكم؟ الأصمعي قال: جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمت إليه بقرابة وسأله أن يعطيه، فلم يعطه شيئاً، ثم عاد إليه بعد أيام، فقال: أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام. فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام. فقال: معذرة إليك؛ إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي. قال: ذلك ألأم لك عندي، وأهون بشأنك علي. نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه، ومات مثل يزيد ولم تعلم به، يا حرسي، اسفع بيده.
ومن أشعار البخلاء الذين يتمثلون بها:
وزهدني في كل خير صنعته ... إلى الناس ما جربت من قلة الشكر
ولآخر:
ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه ... فإذا أضلك جيبه فاستبدل
ولابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال. وقولهم:
كلام الليل يمحوه النهار
وقولهم:
بروق الصيف كاذبة الرعود
رسالة سهل بن هارون في البخل
بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله.

قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشداً وأن تغري بمشفق، وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم. ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت " . فما كان أحقكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يراد به فخراً لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين، فهو أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: املكوا العجين، فإنه أحد الريعين.
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة، ومن رطبة غريبة على عبدٍ نهم، وصبي جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب، التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوي مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم في العنوان، ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين، وعلف حماره السمسم المقشر.
وعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال: طينة خير من ظنة. فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء.
وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم لحماً فليزد من الماء، فمن لم يصب لحماً أصاب مرقاً.
وعبتموني بخصف النعل وبتصدير القميص، حين زعمت أن المخصومة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفريق من التضييع، والاجتماع من الحفظ. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويلطع أصابعه، ويقول: لو أهدى إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وقال عليه الصلاة والسلام: من لم يشبع من الحلال خفت مؤنته وقل كبره.
وقال الحكماء: لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً، واشترط عليه أن يكون عاقلاً. فأتاه به موافقاً، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا، ويلبس الناس جديداً، فتفرست فيه العقل والأدب. وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وسمى له موضعاً، كما جعل لكل زماناً رجالاً، ولكل مقام مقالاً. وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرك البعر. وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن لا بد فاجعلها بيوضاً.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي. ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدت في الأعضاء فضلاً عن الماء، فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر، فعبتموني بذاك وشنعتم علي. وقد قال الحسن، وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ. فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ.

وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نجوه أكثر من رزقه فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعله أن يكون معمراً، وهو لا يدري، وممدوداً له في السن وهو لا يشعر، ولعله أن يرزق الولد على اليأس، ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على باله ولا يدركه عقله، فيسترده ممن لا يرده، ويظهر الشكوى إلى من لا يرجمه، أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان له أن يطلب. فعبتموني بذلك، وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت: إن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وإن الحفظ إلى المال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما يعرض فيه بذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفساً بالذل.
وعبتموني أن قلت: إن كسب الحلال مضمنٍ بالإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهوى، فعبتم علي هذا القول، وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا فيماذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم، وأنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة، فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع. وقال عمر بن الخطابرضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين، وقال ابن سيرين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض. ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وعبتموني أن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكراً، وللمال لثروة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتموني بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلاً من غني أمن الفقر، وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقال الشاعر: في يحيى بن خالد بن برمك.
وهوب تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع. فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه، وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت أن احتيج إليها استعملت، وإن استغني عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه شيء. قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه، لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك، وذل في قلب عدوك، لكان الحظ فيه جسيماً، والنفع فيه عظيماً. ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو، ولستم علي تردون، ولا رأيي تفندون، فقدموا النظر قبل العزم، وأدركوا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم، والسلام عليكم.
ومن اللؤم التطفيل، وهو التعرض للطعام من غير أن يدعى إليه.
أخبار الطفيليين

أولهم طفيل العرائس، وإيه نسب الطفيليون، وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرساً فلا يلتفت تلفت المريب، ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض، ولا ينظر في عيون الناس، لظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظاً وقاحاً فتبدأ به وتأمره وتنهاه، من غير تعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
القحذمي قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، وخشب منبر الخليفة، وخوان الطعام.
وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: اللؤم شؤم. فقيل له: هذا رأس التطفيل.
أحمد بن علي الحاسب قال: مر طفيلي بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المجلس. فقالوا له: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك؟ قال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية، فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطراحها صلة، وقد جاء في الأثر: " صل من قطعك، وأعط من حرمك " . وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخاناً أو دعوة الأصحاب
لم أعرج دون التقحم لا أر ... هب طعناً أو لكزة البواب
مستهيناً بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب
ومنهم أشعب الطماع، قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. وفيه يقال: أطمع من أشعب.
وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقاً، فقال له: أسأل بالله إلا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين. فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعله يوماً أن يهدى إلي فيه شيء.
ساوم أشعب رجلاً في قوس عربية، فسأله ديناراً، فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشوياً بين رغيفين ما أعطيتك بها ديناراً.
وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب، فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام، فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية، ويأكل معنا الصغار، ففعلوا. وأذن له، فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان؛ فقال: والله إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان. قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك. فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه، وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس، فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت؟ قالوا: لا ندري. قال: إنه يقول: إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه لأن سنه يصغر عن ذلك، ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أدركت أباك وأكلته.
وكان رجل من الأمراء يستظرف طفيلياً يحضر طعامه وشرابه، وكان الطفيلي أكولاً شروباً، فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي:
قد قل أكلي وعقل شربي ... وصرت من بابة الأمير
فليدع بي وهو في أمان ... أن أشرب الراح بالكبير
وأقبل طفيلي إلى صنيع فوجد باباً قد أرتج، ولا سبيل إلى الوصول، فسأل عن صاحب الصنيع: إن كان له ولد غائب أو شريك في سفر؟ فأخبر عنه أن له ولداً ببلد كذا. فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه، ثم أقبل متدللاً، فقعقع الباب قعقعة شديدة، واستفتح، وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل. ففتح له الباب، وتلقاه الرجل فرحاً، وقال: كيف فارقت ولدي؟ قال له: بأحسن حال، وما أقدر أن أكلمك من الجوع. فأمر بالطعام فقدم إليه، وجعل يأكل، ثم قال له الرجل: ما كتب كتاباً معك؟ قال: نعم، ودفع إليه الكتاب. فوجد الطين طرياً. فقال له: أرى الطين طرياً، قال: نعم. وأزيدك أنه من الكد ما كتب فيه شيئاً. فقال: أطفيلي أنت؟ قال: نعم أصلحك الله. قال: كل: لا هنأك الله.
وقيل لأشعب: ما تقول في ثريدة مغمورة بالزبدة، مشقفة باللحم؟ قال: فأضرب كم؟ قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب، فأتقدم على بصيرة؟ وقيل لمزبد المديني، وقد أكل طعاماً كظه: قئ. قال: أقئ خبزاً نقياً ولحم جدي؟ امرأتي طالق: لو وجدتهما قيئاً لأكلتهما.

وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام إليك؟ قال: القريص. قيل له: ولم ذا؟ قال: لأنه يؤخر إلى يوم آخر.
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم. قالوا له: أعرفت منا أحداً؟ قال: نعم، عرفت هذا، وأشار إلى الطعام. فقالوا: قولوا بنا فيه شعراً. فقال الأول:
لم أر مثل سرطة ومطة
وقال الثاني:
ولفة دجاجة ببطة
وقال الثالث:
كأن جالينوس تحت إبطه
فقال الإثنان للثلث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم، فما يصنع جالينوس تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارشن كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه.
ومر طفيلي على الجماز، فقال له: ما تأكل؟ قال: كلب في قحف خنزير.
ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه: سماً. فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم.
ومر طفيلي على قوم كانوا يأكلون، وقد أغلقوا الباب دونه، فتسور عليهم من الجدار، وقال: منعتموني من الأرض فجئتكم من السماء.
وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال أربعة أرغفة.
وقيل لآخر: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؟ قال: كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر درهما.
قال محمد بن أحمد الكوفي حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له بالبصرة، فجمعوا وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فانسل فدخل وسطهم، ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم، فدخل الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة. فدخل معهم، فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً، فيأمر بضرب رقابهم، حتى وصل إلى الطفيلي، وقد استوفى العدة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا: والله ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم، فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك؟ ويلك! قال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالق إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً، ولا مما يدينون الله به، إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون، وقال: يؤدب. وكان إبراهيم بن المهدي قائماً على رأس المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، وأحدثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عنك يوماً، فطفت في سكك بغداد متطرباً، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها، فوقفت على خياط، فقلت: لمن هذه الدار؟ قال: لرجل من التجار البزازين، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فنظرت إلى الدار، فإذا بشباك فيها مطل، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتاً ساعة، ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: أهو ممن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين، فبينا أنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما. قد استبطأكم أبو فلان أعزه الله، وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأجلاني وقدماني، فدخلنا. فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع، فرحب بي وأجلست في أفضل المواضع، فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها وبقي الكف والمعصم، كيف أصل إلى صاحبتهما، ثم رفع الطعام وجاءونا بوضوء، فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة، فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل علي بالحديث، وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة، حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية كأنها جان تثنى كالخيزران، فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتي بالعود، فوضع في حجرها، فجسته، فاستبنت في جسها حذقها، ثم اندفعت تغني:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن مس كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغني:

أشرت إليها هل عرفت مودتي ... فردت بطرف العين إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد
فصحت: يا أمير المؤمنين: السلاح، وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي، ثم اندفعت فغنت الصوت الثالث:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف تسلم
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به، فقلت: بقي عليك يا جارية. فضربت بعودها الأرض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى. فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه؛ ثم غنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزيناً ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
راحوا العشية روحةً مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا
فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبت على رجلي تقبلها، وقالت: معذرةً إليك، فوالله ما سمعت أحد يغني هذا الصوت عناءك، وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها، وطرب القوم والله، واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات، ثم اندفعت أغني:
أفي الحق أن تمسي ولا تذكرينني ... وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
إلى الله أشكو أنها مادرية ... وأني لها بالود ما عشت مكرما
فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا، ثم اندفعت أغني الثالث:
هذا محبك مطويٌ على كمده ... حرى مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما جنى ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه، وسكر القوم. وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه، فلما شربنا أقداحاً قال: يا هذا، ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولي؟ ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر، فقام وقبل رأسي، وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر؟ ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم، فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل، ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها، وأقول: ليست هي، حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي، ووالله لأنزلنهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداءك، ابدأ بالأخت قبل الزوجة، فعساها هي، فبرزت، فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه، فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة، أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألفاً، فرضيت النكاح. فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت، فتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيت من كرمه، فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل، وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته.
ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال: سلام عليكم معشر اللئام. فقالوا: لا والله، بل كرام. فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين، واجعلني من الكاذبين.
ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى، وبيده تفاحة، فألقاها إليه، وقال: حياك الله يا مدني، فلزمها وأكلها. فقال له: شؤم عليك يا مدني، أتأكل التحيات؟ قال: إي والله، والزاكيات الطيبات كنت آكلها.
وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه:

نعم النديم نديم لا يكلفني ... ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج
يكفيه لونان من كشك ومن عدس ... ولو يشاء فزيتون بطسوج
وقال طفيلي في نفسه:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل
ونقل علنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول
وقال آخر، وأتى طعاماً لم يدع إليه، فقيل له: من دعاك؟ فأنشأ:
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوة
ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل لك؟ فأنشأ:
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زارا
فقال له القبطي: زر زارا، ليس ندري، من هو؟ اخرج من بيتي.
ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية، فظنهم يدعون إلى وليمة، فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم، فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله، لست والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم. فقال: ليس هذا مما ينجيك مني، اضربوا عنقه. فقال: أصلحك الله، إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة. فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه، فأخبروه أنه طفيلي معروف، فخلى سبيله.
وقال طفيلي:
ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها الزبد
فأطلب فيما بينهن شهادةً ... بموت كريم لا يشق له لحد
وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
اصطحب شيخ وحدث من الأعراب، فكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل، فكان الحدث يبطش بالقرص، ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعاً، وكان اسم الحدث جعفراً. فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفراً ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحب لم تبت ... سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل
وقال الحدث:
إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها ... وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبي إن شبعت تجدداً ... وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري
وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة، ويظهر لها التعاشق، إلى أن سألته سلفة نصف درهم، فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى، فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك. فقال: اشربيه أنت للطمع، فلو انقطع طمعك انقطع فزعي، وأنشأ يقول:
أخلفي ما شئت وعدي ... وامنحيني كل صدِّ
قد سلا بعدك قلبي ... فاعشق من شئت بعدي
إنني آليت لا أع ... شق من يعشق نقدي
وقيل لأشعب: ما أحسن الغناء؟ قال: نشيش المقلي. قيل له: فما أطيب الزمان؟ قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكان أشعب يغني:
ألا أخبرت أخباراً ... أتت في زمن الشدة
وكان الحب في القلب ... فصار الحب في المعده
وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة:
زرعنا فلما تمم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد
بلينا بكوفي حليف مجاعة ... أضرّ بزرع من دبي وجراد
وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل.
وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه، فنزلوا روضة ووضعوا شراباً، فمر بهم طفيلي، فتطارح عليهم، فقال أبو نواس: ما اسمك؟ قال: أبو الخير. فرحب به وقعد معهم. ثم مرت بهم جارية فسلمت، فرد عليها، وقال لها: ما اسمك؟ قالت: زانة. قال أبو نواس لأصحابه: اسرقوا الياء من أبي الخير، فأعطوها زانة، فتكون زانية، ويكون أبو الخير أبا الخرء، كما هو. ففعلوا.

الجاحظ قال: دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع، فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي. فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ، فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان؟ قال: نعم. قال: فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع، فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب، فتدخل تجاهنا، فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا، فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا. فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه، فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا، فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا، فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس، فقعد فيه، ثم قال لي: ها هنا عندنا يا أبا عثمان. فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها؟ قال الفلوسكي: تسميه ضيفاً، فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف؟ قال: تسميه ضيفاً. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفان؟ قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية، قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً، ثم تتحكم تحكم صاحب البيت؟
باب من أخبار المحارفين الظرفاء
منهم أبو الشمقمق الشاعر، وكان أديباً طريقاً محارفاً، وكان صعلوكاً متبرماً بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً، ثم أنشأ يقول:
أنا في حال تعالى الله ... ربي أي حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حل أكلي لعيالي
وله:
أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي فيه مطية غير رجلي
كلما كنت في جميع فقالوا ... قربوا للرحيل قربت نعلي
حيث كنت لا أخاف رحيلاً ... من رآني فقد رآني ورحلي
وقال أبو الشمقمق أيضاً:
لو قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم ما لي فيه تليس
والله يعلم ما لي فيه شادكةٌ ... إلا الحصيرة والأطمار والديس
وقال أيضاً:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السحاب
فأنت إذا رأدت دخلت بيتي ... علي مسلماً من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السحاب إلى التراب
ولا انشق الثرى عن عود تخت ... أؤمل أن أشد به ثيابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي
ولا حاسبت يوماً قهرماني ... محاسبة فأغلط في حسابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبداً ودابي
وقال أيضاً:
لو ركبت البحار صارت فجاجاً ... لا نرى في متونها أمواجاً
ولو أني وضعت ياقوتةً حم ... راء في راحتي لصارت زجاجا
ولو أني وردت عذباً فراتاً ... عاد لا شك فيه ملحاً أجاجاً
فإلى الله اشتكى وإلى الفض ... ل فقد أصبحت بزاتي دجاجا
وقال عمرو بن الهدير:
وقفت فلا أدري إلى أين أذهب ... وأي أموري بالعزيمة أركب
عجبت لأقدار علي تتابعت ... بنحس، فأفنى طول عمري التعجب
ولما التمست الرزق فانجد حبله ... ولم يصف لي في بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... لرفع الغنى إياي إذ جئت أخطب
فزوجنيها ثم جاء جهازها ... وفيه من الحرمان تخت ومشجب
فأولدتها الحرف النقي فما له ... على الأرض غيري والد حين ينسب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... علي جناحيه لما لاح كوكب

ولو خفت شراً فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان علي بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
ولو لمست كفاي عقداً منظماً ... من الدر أضحى وهو ودع مثقب
وإن يقترف ذنباً ببرقة مذنب ... فإن برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيراً في المنام فنازح ... وإن أر شراً فهو مني مقرب
ولم أغد في أمرٍ أريد نجاحه ... فقابلني إلا غراب وأرنب
أمامي من الحرمان جيشٌ عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب
وقال آخر:
ليس إغلاقي لبابي أن لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقته كيلا يرى ... سوء حالي من يمر الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا
وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخف ظهري وقل زواري
من نظرت عينه إلي فقد ... أحاط علماً بما حوت داري
جهري في البيت كامنٌ وعلى ... مدرجة الرائحين أسراري
وقال بعض المحارفين:
لزمتني حرفةٌ ما تنقضي ... أبداً حتى أوارى في الجدث
كلزوم الطوق إلا أنها ... تستجد الدهر والطوق يرث
كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان
وسائر الحيوان " وتفاضل البلدان "
" فرش " الكتاب
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في المتنبئين والممرورين، والبخلاء، والطفيليين، والمحدودين.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيه في طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، والنعمة والسرور، إذ لم يكن مدار الدنيا إلا عليها، ولا قوام الأبدان إلا بها، وإذ هي ثمرة الفراسة، وتركيب الغريزة، واختلاف الهمم، وطيب الشيم، وتفاضل الطعوم. وقد تكلم الناس في النعمة والسرور على تباين أحوالهم، واختلاف هممهم، وتفاوت عقولهم، وما يجانس كل رجل منهم في طبعه، ويؤالفه في نفسه، ويميل إليه في وهمه. وإنما اختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم، فمنهم من نفسه غضبية، فإنما همه منافسة الأكفاء، ومغالبة الأقران، ومكاثرة العشيرة. ومنهم من نفسه ملكية فإنما همه التفنن في العلوم، وإدراك الحقائق، والنظر في العواقب. ومنهم من نفسه بهيمية، فإنما همه طلب الراحة، وإهمال النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح، وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كله، فقالوا: يوم المطر للشرب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس. وهي أغلب الطبائع على الإنسان، لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة، وقلة العمل، فمنه قولهم: الرأي نائم والهوى يقظان. وقولهم: الهوى إله معبود. وقولهم: ربيع القلب ما اشتهى. وقولهم: لا عيش كطيب نفس.
النفس الملكية
قيل لضرار بن عمرو: ما السرور؟ قال: إقامة الحجة، وإيضاح الشبهة. وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إحياء السنة، وإماتة البدعة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط الدقيقة.
وقال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال: فالصحة، فإني رأيت المريض لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال له: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. فالشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال: ما أجد مزيداً.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: الأمن والعافية.
النفس الغضبية
قيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ.
وقيل لعبد الله بن الأهتم. ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحة والنماء.
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسره.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: ما السرور؟ قال: ركوب الهمالجة، وقتل الجبابرة.

وقيل له: م اللذة؟ قال: إقبال الزمان، وعز السلطان.
النفس البهيمية
قيل لامرئ القيس: ما السرور؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، باللحم مكروبة. وكان مفتوناً بالنساء.
وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية. وكان مغرماً بالشراب.
وقيل لطرفة: ما السرور؟ فقال: مطعم هني، ومشرب روي، وملبس دفي، ومركب وطي. وكان يؤثر الخفض والدعة.
وقال طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا في الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدد
وسمع بهذه الأبيات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال: وأنا والله لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي: لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأنفر في السرية.
وقال عبد الله بن نهيك على مذهب طرفة:
فلولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى ... وربك لم أحفل متى قام رامس
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأن أخاها مطلع الشمس ناعس
ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذ ابتدر الشخص الكمي الفوارس
ومنهن تجريد الكواكب كالدمى ... إذا ابتز عن أكفالهن الملابس
وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ قال: قبلة على غفلة. وكان صاحب وصائف.
وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال، ومحادثة الرجال.
وقيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: دار قوراء، وجارية حوراء، وفرس مرتبط بالفناء.
وقيل للحسن بن هانئ: ما السرور؟ قال: مجالسة الفتيان، في بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الريحان وأنشأ يقول:
قلت بالقفص لموسى ... ونداماي نيام
يا رضيعي ثدي أم ... ليس لي عنه فطام
إنما العيش سماع ... ومدام وندام
فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام
وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: ليس هذا من مسائلك يا أمير المؤمنين. قال: عزمت عليك لتقولن. قال: هتك الحيا، واتباع الهوى.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما العيش؟ قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث، فخرجوا. فقال: العيش كله في إسقاط المروءة.
وقال هشام بن عبد الملك: الذ الأشياء كلها جليس مساعد، يسقط عني مؤونة التحفظ.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: لبس البالي في الصيف، والجديد في الشتاء.
وقيل لآخر: ما النعيم؟ قال: الماء الحار في الشتاء، والبارد في الصيف
البنيان
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بني بنيانا فليتقنه.
وقالت الحكماء: لذة الطعام والشراب ساعة، ولذة الثوب يوم، ولذة المرأة شهر، ولذة البنيان دهر. كلما نظرت إليه تجددت لذته في قلبك، وحسنه في عينك.
وقالوا: دار الرجل جنته في الدنيا.
وقالوا: ينبغي للدار أن تكون أول ما تبتاع وآخر ما يباع.
وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر بن يحيى، حين اختط داره ليبنيها: هي قميصك، إن شئت فضيق، وإن شئت فوسع.
وقال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: كيف منزلك بمنبج؟ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال: وكيف ذلك، وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أحتذي مثاله.
ولما دخل هارون منبجاً قال لعبد الملك بن صالح: هذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين، ولي به. قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: كيف هواؤه؟ قال: أفسح هواء.
وذكر عند جعفر بن يحيى الدار الفسيحة الجو، الطيبة النسيم، فقال رجل عنده: لقد دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكأن قلبن ينضح بالسرور، ولا أجد لذلك علة إلا طيب نسيمها، وانفساح هوائها.
وقيل للحسن بن سهل: كيف نزلت الأطراف؟ قال: لأنها منازل الأشراف، ينالون فيها ما أرادوا بالقدرة، وينالهم فيها من أرادهم بالحاجة.
قولهم في الدار الضيقة
ما هي إلا قوارة حافر، وما هي إلا وجارضبع، وما هي إلا قبرة قانص، وما هي إلا مفحص قطاة.
وقالوا: ما هي إلا محلة يعسوب برأس سنان.

ومن مات في دار ضيقة قيل فيه: خرج من قبر إلى قبر.
من كره البنيان
كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء بيته، فقال: ابن ما يكنك عن الهواجر، وأذى المطر.
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يستأذنه في بناء مدينة، فكتب إليه: ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم.
ومر عمر بن الخطاب ببناء يبني بآجر وجص، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعامل من عمالك. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وأرسل إليه من يشاطره ماله.
وقيل ليزيد بن المهلب: ما لك لا تبني؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
ومر رجل من الخوارج بدار تبنى فقال: من هذا الذي يقيم كفيلاً؟ والخوارج تقول: كل مال لا يخرج بخروجك ويرجع برجوعك، فإنما هو كفيل بك.
ولما بنى أبو جعفر داره بالأنبار دخلها مع عبد الله بن الحسن، فجعل يريه بنيانه فيها، وما شيد من المصانع والقصور، فتمثل عبد الله بن السحن بهذه الأبيات:
ألم تر حوشباً أضحى يبني ... قصوراً نفعها لبني بقيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة
وقالوا في الحجاج بن يوسف، إذ بنى مدينة واسط: بناها في غير بلده، وأورثها غير ولده.
اللباس
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة.
علي بن عاصم عن أبي إسحاق الشيباني قال: مررت بمحمد بن الحنفية واقفاً بعرفات، وعليه برد ومطرف خز أصفر.
الشيباني عن ابن جريج، أن ابن عباس كان يرتدي رداء بألف.
أبو حاتم عن الأصمعي أن ابن عون اشترى برنسا، فمرت عليه معادة العدوية، فقالت: مثلك يلبس هذا؟ قال: فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: ألا أخبرتها أن تميماً الداري اشترى حلة بألف يصلي فيها.
وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني كاديمس الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص، وإنها اليوم في تشميره.
وفي موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه، أن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار، فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله، فقلت: هلم يا رسول الله إلى الظل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر: وعندنا صاحب له نجهزه يذهب يرعى ظهرنا. قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر، وعليه ثوبان. قد أخلقا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما له ثوبان غير هذين؟ قلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما. قال: فادعه، فمره يلبسهما. قال: فدعوته فلبسهما ثم ولى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماله، ضرب الله عنقه، أليس خيراً له؟ فسمعه الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله.

العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد الحارثي نشابة على جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل عام، فأتاه علي بن أبي طالب عائداً، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا ذهاب بصري لتمنيت ذهابه. قال له: وما قيمة بصرك عندك؟ قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها قال: لا جرم ليعطيك الله على قدر ذلك إن شاء الله، إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده تعالى تضعيف كثير. قال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد؟ قال: وماله؟ قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغم أهله، وأحزن ولده. فقال: علي عاصماً فلما أتاه عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم، أترى الله أباح لي اللذات وهو يكره أخذك منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك، أو ما سمعته يقول: " مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان " ، ثم قال: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وقوله: " ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها " . أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال. وقد سمعته عز وجل يقول: " وأما بنعمة ربك فحدث " . وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال: " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " وقال: " يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم " . فقال عصام: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: على لبس الخشن وأكل الخشن. قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتسع على الفقير فقره. قال: فما برج حتى لبس الملاء ونبذ العباء.
لباس الصوف
قدم حماد بن سلمة البصرة فجاء فرقد السبخي وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم، فخرج علينا معصفرة، ونحن نرى أن الميتة قد حلت له.
قال أبو الحسن المدائني: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم، وإلى خراسان، وعليه مدرعة صوف، فقال له قتيبة: ما يدعوك إلى لباس هذه؟ فسكت عنه فقال له قتيبة: أكلمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول زهداً فأزكي نفسي، أو أقول فقراً فأشكو ربي.
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقاً لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفاً لها لقد هلكتم.
وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ومقعدهما واحد في مسجد المدينة، فلا ينكر بعضهما على بعض شيئاً.
وقال محمود الوراق في أصحاب الصوف:
تصوف كي يقال له أمينٌ ... وما يعني التصوف والأمانة
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
التزين والتطيب
دخل رجل على محمد بن المنكدر يسأله عن التزين والتطيب، فوجده قاعداً على فرش حشايا مصبغة، وجارية تغلفه بالغالية، فقال له: يرحمك الله، جئت أسألك عن شيء فوجدتك فيه. قال: على هذا أدركت الناس.
وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والشعث، حتى لو لم يجد أحدكم إلا زيتونة فليعصرها وليدهن بها.
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: ما لي أراك شعثاء، مرهاء، سلتاء؟ قالت: يا رسول الله، أو لسنا من العرب؟ قال: بلى، وربما أنسيت العرب الكلمة فيعلمنيها جبريل.
الشعثاء: التي لا تدهن. والمرهاء: التي لا تكتحل. والسلتاء: التي لا تختضب.
وقال صلى الله عليه و سلم ما نلت من دنياكم إلا النساء والطيب.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال: يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها يا رسول الله؟ قال: نعم وأكرمها. قال: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين.
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اخرج فأصلح رأسك ولحيتك. ففعل ثم رجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟ وقد تمادحت العرب بحسن الهيئة وطيب الرائحة، فقال النابغة:
رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
يحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب

يصونون أجساداً قديماً نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
وقال الفرزدق:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها
يجرون هداب اليماني كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال طرفة:
أسد غيل فإذا ما فزعوا ... غير أنكاس ولا هوج هذر
فإذا ما شربوا وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحو عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وقال كثير عزة:
أشم من الغادين في كل حلة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرمي الملسن
وقال آخر:
من النفر الشم الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدهان رأسه فهو أنزع
إذا النفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقوا وأوسعوا
وقال آخر:
يشبهون ملوكاً في مجلتهم ... وطول أنضية الأعناق واللمم
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحو كأنهم مرضى من الكرم
وقال آخر في علي بن داود الهاشمي:
أما أبوك فذاك الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا تعصب في أثوابه السود
الرحلة والركوب
سمع عمرو بن العاص رجلاً يقول: الرجلة قطعة من العذاب. فقال له: لم تحسن، بل العذاب قطعة من الرجلة.
ولما مشي هارون إلى مكة ومشت معه زبيدة كانت تبسط الدرانك أمامهم وتطوي خلفهم، فلما أعيا دعا بخادم له، فألقي ذراعه عليه وتأوه، وقال: والله لركوب حمار شموس خير من المشي على الدرانك.
قال الشاعر:
وما عن رضاً صار الحمار مطيتي ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب
وقال أعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
الخيل
قد مضى من قولنا في وصف الخيل وفضائلها في كتاب الحروب ما كفى عن إعادتها هنا.
البغال
قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار، سفواء العرف، حصاء الذنب، سوطها عنانها، وهمها أمامها.
وعاتب الفضل بن الربيع بعض الهاشميين في ركوب بغلة فقال: هذا مركب تطامن عن خيلا الفرس، وارتفع عن ذلة الحمار، وخير الأمور أوسطها.
الحمير
قيل للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على سائر الدواب. قال: لأنها أرفق وأوفق. قيل: ولم ذلك؟ قال: لا تستبدل بالمكان على طول الزمان، ثم هي أقل داء وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صريعا، وأقل جماحا، وأشهر فارها، وأقل نظيراً، يزهي راكبه وقد تواضع بركوبه، ويعد مقتصداً وقد أسرف في ثمنه.
وقال جرير بن عبد الله: لا تركب حماراً، إن كان حديداً أتعب يديك، وإن كان بليداً أتعب رجليك.
طبائع الإنسان وسائر الحيوان
زعم علماء الطب أن في الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال. فإن غلب الدم الثلاث الطبائع تغير منه الوجه وورم، ويخرج ذلك إلى الجذام. وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أحدث المد، فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها على بعض فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقيه بالمشي، فإن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام وإما مد. أسأل الله العافية ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا من النصف من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج، إلا أن ينزل مرض لا بد من مداواته.
جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم قال: الغلام كل سنة مقدار أربع أصابع من أصابعه.

حدثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه، أنه قرأ في التوراة: إن الله عز وجل حين خلق آدم ركب جسده من أربعة أشياء، ثم جعلها وراثة في ولده تنمو في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب، ويابس، وسخن، وبارد. قال: وذلك أني خلقته من تراب وماء، وجعلت فيه يبساً، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح. ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع أخر، وهي ملاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة إلا بالأخرى: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم الرطب الحار، والبلغم البارد. ثم أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كل واحدة فيها وفقاً لا تزيد ولا تنقص كملت صحته، واعتدل نباته. وإن زادت بقدر ما زادت. وإن كانت ناقصةً عنهن ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السقم من نواحيهنلقلتها عنهن، حتى تضعف عن طاقتهن، وتعجز عن مقارنتهن.
قال وهب بم منبه: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورعبه في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلثمائة وستين مفصلاً.
الأصمعي: من لم يخف شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبداً، ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبداً.
حدث زيد بن أخزم قال: حدثني بشر بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب.
وقالت الحكماء: الخنث يعتري الأعراب والأكراد والزنج والمجانين وكل صنف، إلا الخصيان، فإنه لا يكون خصي مخنثاً.
وقالوا: كل ذي ريح منتنة وذفر كالتيس وما أشبهه، إذا خصي نقص ريحه وذهب صنانه، غير الإنسان، فإنه إذا خصي زاد نتنه واشتد صنانه، وخبث عرقه وريحه. وقالوا: وكل شيء من الحيوان يخصى فإن عظمه يرق، وإذا رق عظمه استرخى لحمه، إلا الإنسان، فإنه إذا خصي طال عظمه وعرض.
وقالوا: الخصي والمرأة لا يصلعان أبداً، والخصي تطول قدمه وتعظم.
وبلغني أنه كان لمحمد بن الجهم برذون رقيق الحافر، فخصاه فجاد حافره وحسن.
قالوا: والخصي تلين معاقد عصبه وتسترخي، ويعتريه الاعوجاج والفدع في أصابعه، وتسرع دمعته، ويجود جلده، ويسرع غضبه ورضاه، ويضيق صدره عن كتمان السر.
وزعم قوم أن أعمارهم تطول لترك الجماع، كما تطول أعمار البغال.
وقالوا: إن على قصر أعمار العصافير من كثرة الجماع.
وقالوا: في الغلمان من لا يحتلم أبداً، وفي النساء من لا تحيض أبداً، وذلك عيب. ومن الناس من لا يسقط شعره ولا يتبدل سنه، فمنهم عبد الصمد بن علي ذكروا أنه دخل قبره برواضعه.
وقالوا: الضب والخنزير لا يلقيان شيئاً من أسنانهما أبداً.
وقالت الحكماء: إن الجنين يغتذي بدم الحيض يقبل إليه من قبل السرة، ولذلك لا تحيض الحوامل إلا القليل. وقد رأينا من الحوامل من تحيض. وذلك لكثرة الدم.
وتقول العرب: حملت المرأة سهواً، إذا حاضت عليه. وقال الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
يعني أنها لم تر عليه دم حيض في حملها به.
وقالوا: فإذا خرج الولد من الرحم دفعت الطبيعة ذلك الدم الذي كان الجنين يغتذيه إلى الثديين، وهما عضوان باردان عصبيان يغيرانه لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.
وقالوا: يعيش الإنسان حيث تعيش النار ويتلف حيث لا تبقى النار.
وأصحاب المعادن والحفائر إذا هجموا على فتق في بطن الأرض أو مغارة قدموا شمعة في طرف قناة، فإن عاشت بالنار وثبتت دخلوا في طلبها، وإلا أمسكوا.
والعرب تتشاءم ببكر ولد الرجل إذا كان ذكراً.
وكان قيس بن زهير أزرق بكراً، ابن بكرين.
وحدث محمد بن عائشة عن حماد عن قتادة عن عبد الله بن حارث بن نوفل قال: بكر البكرين شيطان مخلد لا يموت إلى يوم القيامة. يعني من الشياطين.
قالوا: وابن المذكرة من النساء والمؤنث من الرجال أخبث ما يكون، لأنه يأخذ بأخبث خصال أبيه وخصال أمه. والعرب تذكر أن الغيرى لا تنجب.
وقال عمرو بن معد يكرب:

ألست تصير إذا ما نسب ... ت بين المغارة والأحمق
قالت الحكماء: كل امرأة أو دابة تبطئ عن الحمل إن واقعها الفحل في الأيام التي يجري فيها الماء في العود فإنها تحمل بإذن الله.
وقالت الحكماء: الزنج شرار الخلق وأردؤهم تركيباً، لأن بلادهم سخنت جداً فأحرقتهم في الأرحام. وكذلك من بردت بلاده فلم تنضجه الرحم. وإنما فضل أهل بابل لعلة الاعتدال. وقالوا: الشمس هي التي شيطت شعر الزنج وقبضته، والشعر إن أدنيته من النار تقبض، فإذا زدته شيئاً تفلفل، فإن زدته احترق.
وقالوا: أطيب الأمم أفواها الزنج وإن لم تستن، وذلك لرطوبة أفواهها وكثرة الريق فيها، وكذلك الكلاب من سائر الحيوان أطيبها أفواها، لكثرة الماء فيها وخلوف فم الصائم يكون لقلة الريق، وكذلك الخلوف في آخر الليل.
وقالت الحكماء أيضاً: كل الحيوان إذا ألقي في الماء سبح. إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر، فإن هذه تغرق ولا تسبح.
قالوا: وليس في الأرض هارب من حرب أو غيرها يستعمل الحضر إلا إذا أخذ على يساره، ولذلك قالوا: فمال على وحشية، وأنحى على شؤمي يديه.
وقالوا: كل ذي عين ذوات الأربع: السباع والبهائم الوحشية والإنسية، فإنما الأشفار منها بجفنها الأعلى، إلا الإنسان، فإن الأشفار، يعني الهدب، بجفنيه معاً، الأعلى والأسفل.
وقالوا: كل جلد ينسلخ إلا الإنسان، فإن جلده لا ينسلخ.
وحدث أبو حاتم عن الأصمعي قال: اختصم رجلان إلى عمر رضي الله عنه في غلام، كلاهما يدعيه، فسأل عمر أمه فقالت: غشيني أحدهما ثم أهرقت دماً، ثم غشيني الآخر. فدعا عمر بالرجلين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أم سر؟ قال: أسر. قال: اشتركنا فيه. فضربه عمر حتى اضطجع. ثم سأل الآخر، فقال مثل ذلك. فقال عمر: ما كنت أرى مثل هذا يكون، ولقد علمت أن الكلبة يسفدها الكلاب، فتؤدي إلى كل كلب نجله.
وركب الناس في أرجلهم، وركب ذات الأربع في أيديها، وكل طائر كفه رجله.
الليث بن سعد عن ابن عجلان أن امرأة حملت، فأقامت حاملاً خمس سنين ثم ولدت، وحملت مرة أخرى فأقامت حاملاً ثلاث سنين ثم ولدت.
وولد الضحاك بن مزاحم، وهو ابن ثلاثة عشر شهراً. وقال جرير: ولد الضحاك لسنتين، وشعبة لسنتين.
ما نقص من خلقة الحيوان
حدث أبو حاتم عن أبي عبيدة، والأصمعي، وأبو زيد قالوا: الفرس لا طحال له. والبعير لا مرارة له، والظليم لا مخ له. وقال زهير:
من الظلمان جؤجؤه هواء
وكذلك طير الماء. والحيتان لا ألسنة لها ولا أدمغة لها، وصفن البعير لا بيضة فيه، والسكة لا رئة لها ولا تنفس، وكل ذي رئة يتنفس.
المشتركات من الحيوان
الراعبي بين الورشان والحمامة. والجوامز من الإبل، بين العراب والفوالج. والحمير الأخدرية، من الأخدر، فرس كان لأردشير كسرى. توحش وحمى عانات حمير فضرب بها. وأعمارها كأعمار الخيل. والزرافة بين الناقة من نوق الحبش وبين البقرة الوحشية وبين الضبعان، واسمها " اشتركا وبلناك " ؛ وذلك أن الضبعان ببلاد الحبشة يسفد الناقة فتجيء بولد خلقه بين خلق الناقة والضبعان، فإن كان ولد تلك الناقة ذكراً عرض للمهاة فألقحها زرافة. وسميت زرافة لأنها جماعة وهي واحدة، كأنها جمل وبقرة وضبع. والزرافة في كلام العرب: الجماعة.
وقال صاحب المنطق: الكلاب تسفدها الذئاب في أرض سلوقية، فتكون منها الكلاب السلوقية.
الأنعام
حديث يزيد بن عمرو عن عبد العزيز الباهلي عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلق الله دابة أكرم من النعجة وذلك أنه ستر حياها دون حيا غيرها.
وحدث أبو حاتم عن الأصمعي عن إهاب بن عمير قال: كان لنا جمل يعرف فسج الحامل، قبل أن يشمها.
وقيل لأبنة الخس: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل: فمائة من الضأن؟ قال: غنى. قيل: فمائة من الإبل؟ قالت: منى. والعرب تضرب المثل في الصرد بالمعز فتقول: أصرد من عنز جرباء.
سئل دغفل العلامة عن بني مخزوم، فقال: معزى مطيرة، عليها قشعريرة، إلا بني المغيرة، فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام.
ومما تقول الأعراب على ألسنة البهائم، تقول المعزى: الاست جهوى، والذنب ألوى، والجلد زقاق، والشعر رفاق.

والضأن تضع مرة في السنة وتفرد ولا تتئم، والمعز قد تلد مرتين في السنة وتضع الثلاثة وأكثر وأقل، والنماء والعدد والبركة في الضأن. ونحو هذا الخنازير ربما تضع الأنثى عشرين خنزيراً، لا نماة فيها ولا بركة.
ويقال: الجواميس ضأن البقر، والبخت ضأن الإبل، والبراذين ضأن الخيل، والحرذان ضأن الفأر، والدلدل ضأن القنافذ، والنمل ضأن الذر.
وتقول الأطباء: في لحم المعز: إنه يورث الهم، ويحرك السوداء، ويورث النسيان، ويخبل الأولاد، ويفسد الدم. ولحم الضأن يضر بمن يصرع من المرة إضراراً شديداً، حتى يصرعهم في غير أوان الصرع: الأهلة وأنصاف الشهور. وهذان الوقتان هما وقت مد البحر وزيادة الماء، ولزيادة القمر إلى أن يصير بدراً بين في زيادة الدماغ والدم وجميع الرطوبات. قال الشاعر:
كأن القوم عشوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم
وفي الماعز أيضاً أنها ترضع من خلفها وهي محفلة حتى تأتي على كل ما في ضرعها. وقال ابن أحمر:
إني وجدت بني أعيا وجاملهم ... كالعنز تعطف روقيها فتحتفل
وإذا رعت الماعزة في فضل نبت ما تأكله الضائنة ولم ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضائنة تقرض بأسنانها والماعزة تقلعه وتجذبه من أصله. وإذا حملت الماعزة أنزلت اللبن في أول الحمل إلى الضرع، والضائنة لا تنزل اللبن إلا عند الولادة، ولذلك تقول العرب: رمدت المعزى فربق ربق، ورمدت الضأن فربق ربق.
وذكور كل شيء أحسن من إناثه إلا التيوس، فإن الصفايا أحسن منها، وأصوات ذكور كل شيء أجهر وأغلظ إلا إناث البقر، فإنها أجهر أصواتاً من ذكورها.
وقرأت في كتاب للروم: إذا أردت أن تعرف ما لون جنين النعجة، فانظر إلى لسانها فإن الجنين يكون على لونه.
وقرأت فيه: إن الإبل تتحامى أمهاتها فلا تسفدها.
وقالوا: كل ثور أفطس، وكل بعير أعلم، وكل ذباب أقرح. وقالوا: البعير إذا صعب وخافوه استعانوا عليه حتى يبرك ويعقل ثم يكومه فحل آخر فيذل، وقد يفعل ذلك بالثور.
وقال بعض القصاص: مما فضل الله به الكبش أن جعله مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن جعله مهتوك الستر، مكشوف القبل والدبر.
وفي مناجاة عزير: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن النبات الحبة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس.
وفي الحديث " إن الغنم إذا أقبلت وإذا أدبرت أقبلت، والإبل إذا أدبرت أدبرت وإذا أقبلت أدبرت، ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الأشأم " .
والأقط قد يكون من المعزى. قال امرؤ القيس:
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري
النعام
قالوا في الظليم: إن الصيف إذا أقبل وابتدأ البسر بالحمرة ابتدأ لون وظيفيه بالحمرة فلا يزالان يتلونان ويزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسرة. لذلك قيل له خاضب، وللنعام خواضب. وفي الظليم أن كل ذي رجلين إذا انكسرت إحدى رجليه نهض على الأخرى، والظليم إذا انكسرت إحدى رجليه جثم، ولذا قال الشاعر في نفسه وأخيه:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا دونها صبرا
قالوا: وعلة ذلك أنه لا مخ في عظمه.
وكل عظم كسر يجبر إلا عظما لا مخ فيه.
والظليم يغتذي المدر والصخر، فتذيبه قانصته بطبعها حتى يصير كالماء. وفي النعامة أنها أخذت من البعير المنسم، والوظيف والعنق والخدامة، ومن الطير الريش والجناحين والمناقير، فهي لا بعير ولا طائر.
وقال الأحيمر السعدي: كنت ممن خلعني قومي وأطل السلطان دمي، وهربت وترددت في البوادي حتى ظننت أني قد جزت نخل وبار أو قريباً من ذلك، وإني كنت أرى النوى في رجيع الذئاب، وكنت أغشى الذئاب وغيرها من بهائم الوحش، ولا تنفر مني لأنها لم تر أحداً قبلي، وكنت أمشي إلى الظبي السمين فآخذه، إلا النعام فإني لم أره قط إلا نافراً فزعاً.
الطير
بلغني عن مكحول أنه قال: كان من دعاء داود النبي عليه السلام: يا رازق النعاب في عشه.
وذلك أن الغراب إذا فقس عن فراخه خرجت بيضاء فإذا رآها كذلك نفر عنها، وتفتح أفواهها فيرسل الله ذباباً يدخل في أفواهها فيكون ذلك غذاءها حتى تسود، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها ودفع الله الذباب عنها.

قال الرياشي: ليس شيء تغيب أذناه من جميع الحيوان إلا وهو يبيض، وليس شيء تظهر أذناه إلا وهو يلد.
قال: هذا يروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الطير: الصرد، والهدهد، والذرة، والنحلة.
وقالوا: الطير ثلاثة أضرب: بهائم الطير وهو ما لقط الحبوب والبزور، وسباع الطير وهي التي تتغذى باللحم، ومشترك وهو مثل العصفور يشارك بهائم الطير، فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر. وإذا سقط الطير على عود قدم أصابعه الثلاثة وأخر الدابرة. وسباع الطير تقدم إصبعين وتؤخر إصبعين. ويشارك سباع الطير فإنه يلقم فراخه ولا يزقها، وإنه يأكل اللحم ويصطاد الجراد والنمل.
وقالوا: العصفور شديد الوطء والفيل خفيف الوطء.
وقال صاحب الفلاحة: العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة والحدأة عقاباً، والأرنب تتبدل فتصير الأنثى ذكراً والذكر أنثى.
وذكر الغربان لا يحضن، وكذلك ذكر الأوز وذكر الدجاج.
وقال كعب الأحبار: ما ذهب طائر في السماء قط أكثر من اثني عشر ميلاً.
ومن حديث سفيان الثوري عن أنس بن مالك قال: عمر الذباب أربعون يوماً، والبعوضة ثلاثة أيام، والبرغوث خمسة أيام.
قال: والحمام تعجب بالكمون وتألف الموضع الذي يكون فيه، وكذلك العدس ولا سيما إذا نقع في عصير حلو. ومما يصلحن عليه ويكثرن أن تدخن بيوتهن بالعلك.
وأيمن مواضعها وأصلحها أن يبني لها بيت على أساطين خشب ويجعل فيه ثلاث كوى: كوة في سمك البيت، وكوة من قبل المغرب، وباب من قبل الجنوب.
قال: والسذاب إذا ألقي في اللبن تحامته السنانير البرية.
هشام بن محمد قال: حدثني ابن الكلى قال: أسماء نساء بني نوح (، إذا كتين في زوايا بيت البرج سلمت الفراخ ونمت وسلمت من الآفات. قال هشام: فجربته أنا وغيري فوجدناه كما قال، واسم امرأة سام بن نوح محلت محم، واسم امرأة حام نف نسا، واسم امرأة يافث فالر.
والطير الذي يخرج من وكره بالليل البومة، والصدى، والهامة، والضوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل.
قالوا: وإذا خرج فرخ الحمامة نفخ أبواه في حلقه لتتسع الحوصلة بعد التحامها وتنفتق، فإذا اتسعت زقاه عند ذلك اللعاب ثم زقاه بعد ذلك الحب.
قال المثنى بن زهير: لم أر قط في رجل أو امرأة إلا رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، وذكراً لا يريد إلا أنثاه إلا أن يهلك أحدهما أو يفقد، ورأيت حمامة لا تمنع شيئاً من الذكور، ورأيت حمامة لا تقمط إلا بعد شدة الطلب، ورأيت حمامة تزيف للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة تقمط الذكر، ورأيت ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج، ورأيت ذكراً له أنثيان يحضن مع هذه وهذه.
قالوا: ومن عجائب الخفاش أنه لا يبصر في الضوء الشديد ولا في الظلمة الشديدة، وتحبل وتلد، وتحيض، وترضع، وتطير بلا ريش، وتحمل ولدها تحت جناحها، وربما قبضت عليه بفيها، وربما ولدت وهي تطير، ولها أذنان وأسنان، وجناحان متصلان برجليها.
قالوا: والخطاف يتبع الربيع حيث كان، وتقلع إحدى عينيه وترجع.
البيض
قالوا: والبيض يكون من أربعة أشياء: منه ما يتكون من السفاد، ومنه ما يتكون من التراب، ومنه ما يتكون من نسيم ريح يصل إلى أرحامها، وهو شيء يعتري الحجل وما شاكلها في الطبيعة، فربما كانت الأنثى على قبالة الريح التي تهب في بعض الزمان فتحتشي لذلك بيضاً.
وكذلك النخلة التي تكون تحت الفحال وتحت ريحه فتلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك.
والدجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها مخ، وإذا لم يكن لها مخ لم يكن لبيضها فرخ، لأن الفرخ يخلق من بياض البيض وغذاؤه الصفرة.
السباع
يقال: إنه ليس في السباع أطيب أفواها من الكلاب، ولا في الوحش أطيب أفواها من الظباء. ويقال: ليس أشد بخراً من الأسد والصقر، ولا في السباع أسبح من كلب.
وليس في الأرض فحل من سائر الحيوان لذكره حجم إلا الإنسان والكلب. والأسد لا يأكل الحار ولا الحامض ولا يدنو من النار، وكذلك أكثر السباع.
وتقول الروم: الأسد يذعر لصوت الذئب ولا يدنو من المرأة الطامث. والأسد إذا بال شغر كما يشغر الكلب، وهو قليل الشرب، ونجوه كنجو الكلب، ودواء عضته كدواء عضة الكلب.
قالوا: والعيون التي تضيء بالليل: عيون الأسد والنمور والأفاعي والسنانير.

وقالوا: ثلاثة من الحيوان ترجع في قيئها: الأسد والكلب والسنور.
وقالوا: أيام حمل الكلبة ستون يوماً، فإن وضعت قبل ذلك لم تكد أولادها تعيش. وأناث الكلاب تحيض كل سبعة أيام يوماً، وعلامة ذلك إن يرم ثفر الكلبة، ولا تريد السفاد في ذلك الوقت.
وذكور السلوقية تعيش عشرين سنة وتعيش أناثها اثنتي عشرة سنة.
وليس يلقى الكلب من أسنانه إلا النابين. والذئاب تسفد الكلاب في أرض سلوقية فتكون منها الكلاب السلوقية.
والكلب من الحيوان يحتلم كما يحتلم الإنسان.
وقالوا: في طبع الذئب محبة الدم، ويبلغ بطبعه أن يرى ذئباً مثله قد دمي، فيثب عليه فيمزقه. قال الشاعر:
وكنا كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
ويقولون: ربما ينام الذئب بإحدى عينيه ويفتح الأخرى، قال حميد بن ثور:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان نائم
قالوا: والذئب أشد السباع مطالبةً، وإذا عجز عوى عواء استغاثة فتسامعت به الذئاب، فأقبلت حتى تجتمع على الإنسان أو غيره فتأكله، وليس في السباع من يفعل ذلك غيرها.
وقضيب الذكر من الأرانب من عظم، وكذلك قضيب الثعلب.
والأرانب تنام مفتوحة العين، وتحيض.
وليس لشيء من ذكور الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل.
ولسان الفيل مقلوب على طرفه داخل.
وزعمت الهند أن نابي الفيل قرناه، يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك. ويخرجان منكسين.
وقال صاحب المنطق: ظهر فيل عاش أربعمائة سنة.
وحدثني شيخ لنا عن الزيادي قال: رأيت فيلاً أيام أبي جعفر قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف، ولأبي جعفر.
والفيلة تضع في سبع سنين.
الحيوان الذي لا يصلح إلا بأمير
الناس، والفأرة، والغرانيق، والكراكي، والنحل، والحشرات.
قتادة عن ابن عمر قال: الفأرة يهودية، ولو سقيتها ألبان الإبل ما شربته. والفأر أصناف: منها الزباب، وهو أصم لا يسمع، والخلد وهو أعمى. وتقول العرب: هو أسود من زبابة، وفأرة البش، والبش سم قاتل يقال: هو قرون السنبل، وله فأرة تغتذيه لا تأكل غيره. وفأرة المسك من غير هذا. وفأرة الإبل: أرواحها إذا عرقت.
قالوا: والأفعى إذا نفثت في فيها الأتراج وأطبقت لحييها الأعلى على الأسفل لم تقتل بعضتها أياماً.
قالوا: الثوم والملح وبعر الغنم نافع جداً إذا وضع على موضع لسعة الحية، والحيات تقتل بريح السذاب والشيح، وتعجب باللفاح والبسباس، والبطيخ والخردل والحرف، واللبن والخمر.
وليس في الأرض حيوان أصبر على الجوع من الحية، ثم الضب بعدها. وإذا هرمت الحية صغر بدنها، وقنعت بالنسيم.
قالوا: وكل شيء يأكل فهو يحرك فكه الأسفل، ما عدا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى.
وبمصر سمكة يقال لها الرعادة، من اصطادها لم تزل يده ترعد ما دامت في شبكته.
والجعل إذا دفنته في الورد سكنت حركته حتى تسحبه ميتاً، فإذا أدنيته من الروث تحرك ورجعت نفسه.
والبعير إذا ابتلع في علفه خنفساء قتلته إذا وصلت إلى جوفه حية.
والضب يذبح ثم يمكث ليلة، ثم يقرب من النار فيتحرك.
والأفعى تذبح فتبقى أياماً تتحرك وإذا وطئها أحد نهشته، ويقطع ثلثها الأسفل فتعيش، وينبت ذلك المقطوع.
قالوا: وللضب ذكران وللضبة حران. حكاه أبو حاتم عن الأصمعي. ويقال لذلك النزك. وأنشد:
سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حافٍ في الأنام وناعل
وسام أبرص لا يدخل بيتاً فيه زغفران.
ومن عضه كلب كلب احتاج أن يستر وجهه من الذباب لئلا تسقط عليه.
وخرطوم الذباب يده، ومنه يغني، وفيه يجري الصوت كما يجري الزامر الصوت في القصبة بالنفخ.
والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعتراً جبلياً.
وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب. والكلاب إذا كان في أجوافها داء أكلت سنبل القمح. والإيل إذا مهشته الحية أكل السراطين.
قال ابن ماسويه: فلذلك يظن أن السراطين صالحة لمن نهشته الحية.
قال صاحب المنطق: الحية إذا اشتكت كبدها من رفع الأرانب والثعالب في الهواء تعالجت بأكل الأكباد حتى تبرأ.
وبعض الناس يعملون من الأوزاغ سماً أنفذ من البيش ومن ريق الأفاعي.
وإذا زرع في نواحي الزرع خردل تجنبته دبي الجراد، وإذا أخذ المر داسنج وخلط بعجين الدقيق ثم طرح للفأر وأكل منه مات، وكذلك برادة الحديد.

وإذا أخذ الأفيون والشونيز والبازرند وقرن الإيل وبابونج وظلف من أظلاف العنز، فخلط ذلك جميعاً، ثم يدق وينخل نخلاً جيداً ويعجن بخل ثقيف، ثم يقطع قطعاً، فيدخن قطعة منه، هربت الحيات والهوام والنمل والعقارب من ريحه. والبعوض تهرب من دخان الكبريت والعلك.
وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصرع، ولحم القنفذ نافع من الجذام والسل والشنج ووجع الكلى، يجفف ويشوى ويطعمه العليل مطبوخاً ومشوياً ويضمد به الشنج.
وعين الأفعى وعين الجراد لا تدوران.
وليس ينسج من العناكب إلا الأنثى، وهي الخدرنق، وولد العنكب ينسج ساعة تولد.
والقمل يتخلق في الرؤوس على لون الشعر، إن كان أسود أو أبيض أو مخضوباً.
وأم حبين لا تقيم بمكان تكون فيه السرقة، وهي دويبة يضرب بها المثل في الصنعة، فيقال: أصنع من سرفة.
أبو حاتم: عن الأصمعي، قال: قال أبو بكر المهجري: ما من شيء يضر إلا وفيه منفعة.
وقيل لبعض الأطباء: إن فلاناً يقول إنما أنا مثل العقرب أضر ولا أنفع. فقال: ما أقل علمه بها، إنها لتنفع إذا شق بطنها ووضعت على مكان اللسعة، وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطين الجوانب ثم يوضع الفخار في تنور. فإذا صارت العقرب رماداً سقي من ذلك الرماد مثل نصف دانق من به حصاة من غير أن يضر سائر الأعضاء. وقد تلسع من به حمى عتيقة فتقلع عنه، وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب في الدهن وتترك فيه حتى يأخذ الدهن منها، ويجتذب قواها فيكون ذلك الذهن مفرقاً للأورام الغليظة.
وقال المأمون: قلت لبختيشوع وسلمويه، وابن ماسويه: إن الذباب إذا دلك على موضع لسعة الزنبور سكن ألمها، فلسعني زنبور، فحككت على موضع لسعته عشرين ذبابة، فما سكن إلا في قدر الحين الذي يسكن فيه من غير علاج، فلم يبق في يدي منهم، إلا أن قالوا: كان هذا الزنبور حتفاً قاضياً، ولولا هذا العلاج له لقتلك.
وقال محمد بن الجهم: لا تتهاونوا بكثير مما ترون من علاج العجائز، فإن كثيراً منه وقع إليهن من قدماء الأطباء، كالذباب يلقي في الإثمد فيسحق معه، ليزيد ذلك من نور البصر، ويشد مراكز شعر الأجفان، في حافات الجفون.
قالوا: وللسع الأفاعي والحيات ينفع ورق الآس الرطب، يعصر ويسقى من مائه قدر نصف رطل.
مصايد الطير
قال صاحب الفلاحة: من أراد أن يحتال للطير والدجاج حتى يتحيرن ويغشى عليهن فيصيدهن عمد إلى الحلتيت، فدافه بالماء ثم جعل في ذلك شيئاً من عسل، ثم نقع فيه برا يوماً وليلة، ثم ألقى ذلك البر إلى الطير فإذا لقطه تحير وغشى عليه، فلا يقدر على الطيران إلا أن يسقى لبناً خالطه سمن.
قال: وإن عمد إلى طحين بر غير منخول فعجن بجير ثم طرح للطير والحجل فأكلا منه، تحيرت وأخذت.
ومما يصاد به الكراكي وغيرها من الطير أن يوضع لهن في مواقعهن إناء فيه خمر ويجعل فيه خريق أسود، وينقع فيه شعير، ثم يلقى لهن، فإذا أكلن منه أخذهن الصائد كيف شاء.
وقال غيره: تصاد العصافير بأيسر حيلة، تؤخذ سلة في صورة المحبرة المنكوسة، ويجعل في جوفها عصفور، فتنقض عليه العصافير وتدخل عليه، فما دخل لم يقدر على الخروج، فيصيد الرجل منها من يومه ما شاء وهو وادع.
وقال: ويصاد طير الماء الساكن بالقرعة، وذلك أن تأخذ قرعة يابسة صحيحة فيرمي بها في الماء فإنها تتحرك بتحرك الماء فإذا أبصرها الطير تحرك وفزع، فإذا كثر ذلك عليه أنس حتى ربما سقط عليها، ثم تأخذ قرعة مثلها فتقطع رأسها، ويفتق فيها موضع عينين ثم يدخل الصائد رأسه فيها، ويدخل الماء ويمشي رويداً، وكلما دنا من الطائر مد يده تحت الماء حتى يقبض على رجليه ويغمس يده به تحت الماء ويكسر جناحيه، ويخليه فيبقى طافياً على الماء يسبح برجليه ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا تنكر انغماسه في الماء، فإذا فرغ من صيد ما أراد بالقرعة لقطها وحملها.
مصايد السباع
السباع العادية تصاد بالزبى والمغويات، وهي آبار تحفر في أنشاز الأرض، ولذلك يقال: قد بلغ السيل الزبى.

قال صاحب الفلاحة: ومما يصاد به السباع العادية أن يؤخذ سمك من سمك البحر الكبار السمان فيقطع قطعاً، ثم تشدخ وتكتل كتلاً، ثم تؤجج نار في غائط من الأرض تقرب من السباع، ثم تقذف تلك الكتل فيها واحدة بعد أخرى حتى ينتشر دخان تلك النار، وقتار تلك الكتل في تلك الأرض، ثم يطرح حول تلك النار قطع من لحم قد جعل فيه الخربق الأسود والأفيون، وتكون تلك النار في موضع لا ترى فيه حتى تقبل السباع لريح القتار وهي آمنة، فتأكل من قطع ذلك اللحم، ويخرج عليه فيصيدها الكامنون لها كيف شاءوا.
تفاضل البلدان
الأصمعي يرفعه إلى قتادة قال: الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف فرسخ، فبلد السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ، وبلد الروم ثمانية آلاف فرسخ، وبلد الفرس ثلاثة آلاف فرسخ، وبلد العرب ألف.
الأصمعي قال: جزيرة العرب ما بين نجران إلى العذيب، وقال غيره: أرض العرب ما بين بحر القلزم وبحر الهند.
قالوا: وسواد البصرة: الأهواز، وفارس. وسواد الكوفة: كسكر إلى الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية، وهذه كلها من عمل العراق.
وعمل العراق من هيث إلى الصين، والهند، والسند، ثم كذلك إلى الري، وخراسان كلها إلى بلد الديلم، والجبال. وأصفهان سرة العراق، وافتتحها أبو موسى الأشعري. والجزيرة ليست من عمل العراق. وهي ما بين الدجلة والفرات والموصل من الجزيرة. ومكة والمدينة ومصر ليست من عمل العراق.
الأصمعي قال: البصرة كلها عثمانية، والكوفة كلها علوية، والشام كلها أموية، والجزيرة خارجية، والحجاز سنية. وإنما صارت البصرة عثمانية من يوم الجمل، إذ قاموا مع عائشة وطلحة والزبير فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقيل لرجل من أهل البصرة: أتحب علياً؟ قال: كيف أحب رجلاً قتل من قومي من لدن كانت الشمس هكذا إلى أن صارت هكذا ثلاثين ألفاً.
والكوفة علوية؛ لأنها وطن علي رضي الله عنه وداره. والشام أموية؛ لأنها مركز ملك بني أمية وبيضتهم. والجزيرة خارجية؛ لأنها مسكن ربيعة. وهي رأس كل فتنة، وأكثرها نصارى وخوارج، ومنازلهم الخابور وهو واد، بالجزيرة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبني تغلب: يا خنازير العرب. والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعفن عليكم الجزية.
وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة. قال: بلى، ولكن منابرهم الجذوع.
الأعمش عن سليم: قال: ذكر عمر بن الخطاب الكوفة، فقال: جمجمة العرب، وكنز الإيمان، ورمح الله في الأرض، ومادة الأمصار.
علي بن محمد المديني قال: الكوفة جارية حسناء تصنع لزوجها، فكلما رآها سرته.
وقال محمد بن عمير بن عطارد: الكوفة سفلت عن الشام ورباها. وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مرية مريعة عذبة برية، وإذا أتتها الشمال هبت على مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبت الجنوب جاءتها بريح السواد وورده وياسمينه وأتراجه، فماؤها عذب، وعيشها خصب.
قال ابن عياش الهمداني لأبي بكر الهذلي عن أبي العباس، وذكرت عنده الكوفة والبصرة، فقال: إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء ببرده وعذوبته، ومثل البصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغير وفساد.
وقال الحجاج: الكوفة بكر حسناء، والبصرة عجوز بخراء، أوتيت من كل حلى وزينة.
وقال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد.
وقال الأصمعي: تذاكروا عند زياد الكوفة والبصرة. فقال زياد: لو أضللت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها.
وقال حذيفة: أهل البصرة لا يفتحون باب هدىً، ولا يغلقون باب ضلالة، وقد رفع الطاعون عن جميع أهل الأرض إلا عن أهل البصرة.
ومما نقم على أهل الكوفة أنهم أغدر الناس. طعنوا الحسن بن علي، وانتهبوا عسكره، وخذلوا الحسين بن علي بعد أن استدعوه حتى قتل.
وشكوا سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، وزعموا أنه لا يحسن أن يصلي، فدعا عليهم أن لا يرضيهم الله عن والٍ، ولا يرضي والياً عنهم.
وقد دعا عليهم علي بن أبي طالب فقال: اللهم ارمهم بالغلام الثقفي. يعني الحجاج بن يوسف.

وشكوا عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة، وطردوا سعيد بن العاص، وخذلوا زيد بن علي. وادعى النبوة منهم غير واحد، منهم المختار بن أبي عبيد. وكتب إلى الأحنف: بلغني أنكم تكذبونني وتكذبوا رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم.
وقيل لعبد الله بن عمر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه. قال: صدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم.
ولما أرادت سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم الرحيل من الكوفة إلى المدينة بعد قتل زوجها المصعب حف بها أهل الكوفة، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله (. فقالت: لا جزاكم الله خيراً من قوم، ولا أحسن الخلافة عليكم، قتلتم أبي وجدي وأخي وعمي وزوجي، أيتمتموني صغيرة وأيمتموني كبيرة.
ولما دخل عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل المصعب، أقبل إليه جماعة من هؤلاء، قالوا: أمراؤك أهل الكوفة. قال: قتلة عثمان؟ قالوا: نعم وقتلة علي! قال: هذه بهذه.
قدم عبد الله بن الكواء على معاوية، فقال: أخبرني عن أهل البصرة، قال: يقبلون معاً ويدبرون شتى. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. قال: أنظر الناس في صغيرة وأوقفهم في كبيرة. قال: فأخبرني عن أهل المدينة. قال: أحرص الناس على الفتنة وأعجزهم عنها. قال: فأخبرني عن أهل مصر. قال: لقمة آكل. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين حشين. قال: فأخبرني عن أهل الشام، قال: جند أمير المؤمنين، ولا أقول فيهم شيئاً. قال: لتقولن. قال: أطوع خلق الله لمخلوق وأعصاهم للخالق، ولا يخشون في السماء ساكناً.
قتادة قال: قيست البصرة في زمن خالد بن عبد الله القسري، فوجدوا طولها فرسخين وعرضها فرسخين.
الأصمعي قال: قال ابن شهاب الزهري: من قدم أرضاً فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه عوفي من وبائها.
الأصمعي قال: دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكان قلبي ينضح بالسرور، وما أجد لذلك علةً إلا انفساح جوها، وطيب نسيمها.
ودخل سليمان بن عبد الملك الطائف، فنظر إلى بيادر الزبيب فقال: ما تلك الجرار السود؟ قيل له: ليست بجرار يا أمير المؤمنين، ولكنها بيادر الزبيب. فقال: لله در قسي، في أي عش أودع أفراخه؟ يريد بقسي ثقيفاً. كذلك كان اسمه.
الأصمعي قال: من أمثال العامة يقولون: حمى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وطواعين الشام.
الأصمعي قال: ذكروا أن في باب سمرقند مكتوباً: بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ.
قال الأصمعي: وبين بغداد وأفريقية ألف فرسخ، وبين الكوفة والبصرة ثمانون فرسخاً، وواسط بينهما متوسطة، ولذلك سميت واسطاً.
الشامات
أول حد الشام من طريق مصر أمج، ثم يليها غزة، ثم الرملة رملة فلسطين، ومدينتها العظمى فلسطين وعسقلان، وبها بيت المقدس. وفلسطين هي الشام الأولى.
ثم الشام الثانية، هي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطئ البحيرة، والغور واليرموك. وبيسان فيما بين فلسطين والأردن.
ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس.
ثم الشام الرابعة وهي أرض حمص.
ثم الشام الخامسة وهي قنسرين، ومدينتها العظمى - حيث السلطان - حلب. وبين قنسرين وحلب أربعة فراسخ، وساحلها أنطاكية مدينة عظيمة على شاطئ البحر، في داخلها البساتين والأنهار والمزارع، وهي مدينة حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى. وبها مسجد ينسب إلى حبيب النجار.
ومن ثغور الشام الخامسة: المصيصة وطرسوس ونهرا جيحان وسيحان.
الجزيرة
ثم الجزيرة، وهي ما بين دجلة والفرات، وبهما نهران يقال لهما الخابور والبليخ، ومخرجهما من رأس العين، مدينة عظيمة بالجزيرة في داخلها عين هي عنصر الخابور والبليخ. وعلى الخابور منازل ربيعة أكثرها نصارى، وخوارج. ونصيين من الجزيرة، وهي مدينة عظيمة مطلة على جبل الجودي. والموصل من الجزيرة أيضاً. والرقة وحران من الجزيرة أيضاً. ومن ثغور الجزيرة في جهة عمورية من أرض الروم بطرة وملطية. وفي جوف الفرات جزائر فيها مدن يقال لها عانة وعانات. وعلى شط الفرات مما يلي الجزيرة قرقيسيا، ومما يلي الشام الرحبة رحبة مالك بن طوق.
العراقان

العراقان: هما البصرة والكوفة، وقد تقدم ذكرهما واختلاف الناس فيهما. ومما أحدث الخلفاء بالعراق خلفاء بني هاشم من المدن الأنبار، وهي مدينة أبي العباس، أول من ولي الخلافة ابتناها واتخذها دار خلافته. ثم ولي أخوه أبو جعفر المنصور، فانتقل إلى بغداد وابتنى بها الكرخ، وهي مدينة السلام في جوف بغداد، وهي دار خلافة بني هاشم. حتى قام المعتصم محمد بن هارون فانتقل منها إلى سامرا. وتفسير سامرا أن سام بن نوح عليه السلام بناها. وإنما هو بالسريانية، وهي دار الخلافة إلى الآن.
فارس
منها الأهواز مدينة عظيمة وبلدها واسع جداً، وهي من سواد البصرة. وتستر مدينة يعمل فيها التستري من الملاحف. ومدينة يقال لها جور وإليها ينسب ماء الورد الجوري. ومدينة يقال لها السوس بها تعمل الثياب السوسية من الخز وغيره. ومدينة يقال لها العسكر وإليها تنسب الثياب العسكرية ومدينة يقال لها الأفساسار وبها تعمل الأكسية الأفساسارية الجياد. ومدينة يقال لها دستوا، وبها تعمل الثياب الدستوائية. ومدينة يقال لها ميسان، وبها يعمل الوطاء الميساني. ومدينة يقال لها الدسكرة دسكرة الملك، كانت لكسرى. ومدينة يقال لها حلوان، وهي أول الجبال من خراسان وآخر العراق.
خراسان
أول مدنها الري، وهي آخر الجبال من خراسان، وإليها ينسب من الرجال الرازي، ومن خراسان مرو، وهي دار خلافة المأمون، ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة. ومن ينسب إليها من الرجال يقال له مروزي، ومن الثياب مروي. ومدينة يقال لها قومس، وإليها تنسب الطيقان القومسية. ومدينة يقال لها سابور بها ملك بني طاهر. ومدينة يقال لها هراة إليها ينسب الهروي من الرجال والمتاع. ومدينة يقال لها بلخ وإليها ينسب البلخي، وبها معادن البجادي العتيق، وهو جنس من الفصوص تسميه العامة البزادي. ومدينة يقال لها خوارزم وإليها ينسب الخوارزمي، وهي على شط البحر المحيط. وبلخ على شط النهر العظيم، الذي يقال له جيحان بخراسان. ثم جرجان، وهي مدينة عظيمة على شط البحر المحيط، وإليها ينسب الوشي الجرجاني والمتاع. ثم قوهى وهي مدينة عظيمة إليها ينسب القوهي من الثياب. ثم كابل، وهي مدينة يؤتى منها بالإهليلج الكابلي. ثم سمرقند، وهي مدينة عظيمة إليها ينسب السمرقندي من الثياب. وبين بغداد وبينها مسيرة ستة أشهر ومما يليها كرمان، وهي على بطائح السند وبلاد السند من آخر خراسان، ما بين المغرب والمشرق من جهة القبلة. وآخر مدن خراسان مدينة يقال لها تبت، وهي من أرض الترك وبها مجمع المسك وإليها ينسب المسك التبتي. ومدينة يقال لها فرغانة وأهلها جنس من العجم يقال لهم الصغد، وهم الذين يقطعون آذانهم من الحزن، إذا مات لهم كبير.
ومن المدن التي في صدر خراسان مع الجبال مدينة يقال لها قرميسين. ثم الدينور، وإليها ينسب الدينوري. ومدينة همدان مدينة عظيمة، وطبرستان مدينة عظيمة فيها تعمل الأكسية الطبرية، ثم قم وهي مدينة عظيمة، منها يؤتى بالزعفران. ثم أصبهان وهي مدينة عظيمة، ثم طوس وهي من ثغور الجبال.
مصر
من ناحية الشام الفسطاط، وهي مدينة بها منبران ومسجدان يجمع فيهما العسكر حيث السلطان. وعين شمس، بها منبر، وهي كانت مدينة فرعون، وفيها بنيانه قائم. والفرما لها منبر، والعريش الذي يقال له عريش مصر له منبر، وهي آخر مصر وأول الشام. ومن أسفل الأرض بوصير، لها منبر. وتنيس لها منبر، وإليها تنسب الثياب التنيسية، وبها طراز للخليفة. وشطا لها منبر وإليها ينسب الشطوي، وديبق، لها منبر وإليها ينسب الدبيقي من الثياب. والإسكندرية لها منبر. من ناحية الحجاز. القلزم لها منبر. وأيلة لها منبر. ومن ناحية الصعيد القس، وإليها ينسب القسي من الثياب. والصفن، وإليها تنسب الأكسية الصفنية الحمر. ودلاص لها منبر، وهي مجمع سحر مصر. والفيوم مدينة لها منبر تؤدي كل يوم ألف دينار، وخلف ذلك بوق، وبها تكون معادن الذهب والجواهر والزبرجد.
صفة المسجد الحرام

صحنه كبير واسع، ذرعه طولاً من باب بني جمح إلى باب بني هاشم الذي يقابل دار العباس بن عبد المطلب أربعمائة ذراع وأربع أذرع. وذرعه عرضاً من باب الصفا إلى دار الندوة لاصقاً بوجه الكعبة الشرقي ثلثمائة ذراع وأربع أذرع. وله ثلاث بلاطات محدقة به من جهاته كلها، منتظم بعضها ببعض. وهي داخلة في الذرع الذي ذكرت، فوقها سماوتها مذهبة، وحافاتها على عمد رخام بيض عددها في طوله من الشرق إلى الغرب مع وجه الصحن خمسون عموداً، وفي عرضه ثلاثون عموداً، طول كل عمود منها عشرة أذرع ودوره ثلاث أذرع. والمذهبة من رؤوس العمد ثلثمائة وعشرون رأساً. وسور المسجد كله من داخله مزخرف بالفسيفساء. وأبوابه على عمد رخام ما بين الأربعة إلى الثلاثة إلى الاثنين، وهي ثلاثة وعشرون باباً لا غلق عليها، يصعد عليها في عدة من درج.
صفة الكعبة
وبيت الله الحرام بوسط المسجد، كان ارتفاعه في عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال والله أعلم تسع أذرع، وطوله في الأرض ثلاثون ذراعاً، وعرضه اثنتان وعشرون ذراعاً. وكان له ثلاثة سقوف ثم بنته قريش في الجاهلية فاقتصرت على قواعد إبراهيم ورفعته ثمان عشرة ذراعاً، ونقصت من طوله في الأرض ست أذرع وشبراً تركته في الحجر، فلما هدمه ابن الزبير رده على قواعد إبراهيم ورفعه سبعاً وعشرين ذراعاً، وفتح له بابين: باباً إلى الشرق وباباً إلى الغرب يدخل من الشرقي ويخرج من الغربي. فكان كذلك حتى قتل. فلما تغلب الحجاج على مكة استأذن عبد الملك بن مروان في هدم ما كان ابن الزبير زاده من الحجر في الكعبة. فأذن له فرده على قواعد قريش وسد الباب الغربي ولم ينقص من ارتفاعه شيئاً.
فذرع وجهه القبلي اليوم من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرون ذراعاً، ووجهه الجنوبي من الركن العراقي إلى الركن الشامي، وهو الذي يلي الحجر إحدى وعشرون ذراعاً. ووجهه الشرقي من الركن الأسود إلى الركن العراقي خمس وعشرون ذراعاً. ووجهه الغربي من الركن اليماني إلى الركن الشامي خمس وعشرون ذراعاً.
وحول البيت كله إلا موضع الركن الأسود درجة مجصصة، يكون ارتفاعها عظم الذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل.
وباب البيت في وجهه الشرقي على قدر القامة من الأرض، طوله ست أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاث أذرع وثمان عشرة إصبعاً. والبابان من ساج، غلظ كل باب ثلاث أصابع، ظاهرهما ملبس بالذهب وباطنهما بالفضة، في كل باب ست عوارض، ولها عروتان يضرب فيهما قفل من ذهب وحواجبه كلها مذهبة ما عدا الحاجب الأيمن، فإن العلوي الثائر لما تغلب على مكة قلع ذهبه فترك على حاله. وتحت العتبة العليا عتبة مذهبة والبابان من ورائهما، والعتبة السفلى مستورة بالديباج إلى الأرض.
وبين الركن الأسود والباب خمس أذرع أو نحوها، وهو الملتزم فيما يذكر عن ابن عباس.
والحجر الأسود على رأس صخرتين من وجه الأرض قد نحت من الصخر مقدار ما أدخل فيه الحجر وشقت الصخرة الثالثة عليهما مثل إصبعين. والحجر أملس مجزع حالك السواد في قدر الكف المحنية، قد لز من جوانبه بمسامير الفضة. وفيه صدوع، وفي جانب منه صفيحة فضة تحسبها شظية منه شظيت فجبرت بها. وصخر الركن الأسود أحرش أكبر من صخرنا قليلاً.
وللبيت سقفان سقف دون سقف، وفيهما أربع روازن ينفذ بعضها إلى بعض للضوء، وللسقف الأسفل ثلاث جوائز من ساج منقشة مذهبة. وفي داخل البيت في الحائط الغربي قبالة الباب الجزعة، على ست أذرع من قاع البيت وهي سوداء مخططة ببياض، طولها اثنتا عشرة إصبعاً في مثل ذلك، وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع. ذكر أن النبي ( جعلها على حاجبه الأيمن حين صلى في البيت.
والحجر بجوفي البيت محجور من الركن العراقي إلى الركن الشامي تحجيراً محنياً غير مرتفع. قد انقطع طرفاه دون الركنين اللذين يليانه بمثل ذراعين للدخول والخروج، يكون ما بين موسطة جنبي التحجير والبيت كما بين الركنين، وارتفاع التحجير مثل نصف قامة. وهو ملبس بالرخام من داخله وخارجه وأعلاه، وجعل بين كل رخامتين عمود من رصاص لزازاً لهما، وقاع الحجر كله مفروش بالرخام، ومصب الميزاب فيه، وقبلتنا إليه.
والميزاب موسطة أعلى جدار الكعبة خارجاً عنه مثل أربع أذرع في سعته، وارتفاع حيطانه ثمان أصابع، ملبس ظاهره وباطنه بصفائح الذهب. والصفائح مسمرة بمسامير مروسة من ذهب.

والبيت كله مستور إلا الركن الأسود، فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطي، وهو ديباج أبيض خراساني، فيكون بتلك الكسوة ما كان للناس محرمين. فإذا حل الناس وذلك يوم النحر، حل البيت، فكسى الديباج الأحمر الخراساني. وفيه دارات مكتوبة فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل. ثم يكسى أيضاً على حال ما وصفت. فإذا كثرت الكسوة فخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت، وهم بنو شيبة.
وذكر بعض المصريين أنه حضر كشف البيت سنة خمس وستين فرأى بلاطه الزعفران واللوبان.
وذكر أيضاً عن بعض المكيين حديثاً يرفعونه إلى مشايخهم، أنهم نظروا إلى الحجر الأسود إذ هدم ابن الزبير البيت وزاد فيه، فقدروا طوله ثلاث أذرع، وهو ناصع البياض فيما ذكروا إلا وجهه الظاهر. واسوداده فيما ذكروا، والله أعلم لاستلام أهل الجاهلية إياه، ولطخه بالدم.
والمقام بشرقي البيت على سبع وعشرين ذراعاً منه، وجه المصلي خلفه مستقبل البيت إلى الغرب، والركن العراقي على يمينه، والباب والركن الأسود على يساره، وهو فيما ذكر من رآه حجر غير مرفوع يكون ذراعاً في ذراع، وفيه أثر قدم إبراهيم عليه السلام، وطول القدم مثل عظم الذراع. والحجر موضوع على منبر لئلا يمر به السيل، فإذا كان وقت الموسم وضع عليه تابوت حديد مثقب لئلا تناله الأيدي. وحول البيت كله سوارٍ ست غلاظ مربعة من حديد مذهبة ورؤوسها مذهبة أيضاً، يوقد عليها بالليل للطائفين، بين كل عمود منها والبيت نحو ما بين المقام والبيت. وزمزم بشرقي الركن الأسود بينهما مثل الثلاثين ذراعاً، وهي بئر واسعة تنورها من حجر مطوق أعلاه بالخشب، وسقفها قبو مزخرف بالفسيفساء على أربعة أركان، تحت كل ركن منها عمودا رخام متلاصقان، قد سد ما بين كل ركنين منها بشرجب خشب، ورد إلى باب من جهة المشرق. وحول القبو كله رف مثل البرطلة، وبشرقي زمزم بيت مقدر سقفه قبو مزخرف بالفسيفساء أيضاً مقفل عليه، وشرقي هذا البيت بيت كبير مربع له ثلاثة أقباء، وفي كل وجه منه باب.
وحمام المسجد كثير أنيس، يكاد الإنسان أن يطأه بقدمه لأنسه بالناس، وهو في لون حمام الأبرجة عندنا إلا أنه أقدر منه، وليس منها حمامة تجلس على البيت ولا تطير عليه. ولقد همني ذلك فرأيتها حين تكاد أن تحاذي البيت، وهي مستعلية في طيرانها ذلك، عكست حتى تصير دونه، وأخذت عن يمينه أو يساره، وذرقها ظاهر بارز على البيوت التي في المسجد إلا بيت الله الحرام فإنه نقي ليس فيه ولا عليه منه أثر، فسبحان معظمه ومقدسه ومطهره وتعالى علواً كبيراً.
وبين باب الصفا - وهو بقبلي البيت - والصفا الشارع وهو بطن الوادي، وبعد الشارع فناء غير كبير فيه الباعة، ثم الصفا في أصل جبل أبي قبيس قد أحدق بها البناء إلا من الوجه الذي يرقى إليها منه، والرقي إليها على ثلاث درج مبنية بالصخر. والواقف على الصفا مستقبل الجوف بنظر إلى البيت من باب الصفا. والمروة بشرقي المسجد وهي من الصفا بين المشرق والمغرب، قد أحدق بها البناء أيضاً إلا من وجه المصعد إليها، وهو من أعلى القصور، بينها وبين المسجد الحرام الزقاق الضيق، فالواقف على المروة مستقبل البيت تجاه الفرجة يرى الميزاب وما اتصل به من البيت، وبين الصفا والمروة شبيه بما بين السقاية والمسجد الجامع. والساعي بينهما إذا هبط من الصفا يريد المروة سلك في الشارع وهو مبطن الوادي، عن يمينه القصور، وعن يساره المسجد، ثم يتعرضه بطن وادٍ إذ انصبت قدماه فيه أرقل حتى يخرج عن آخره، وله علمان أخضران في جانبي الوادي، أحدهما وهو الأول خلف باب الصفا لاصقاً بالسور، والثاني أمامه بائن عن السور، جعلا ليفهم بهما حد الوادي الذي يرمل فيه.
ومنى قرية بشرقي مكة تنحو إلى القبلة قليلاً، خارجة عن الحرم على نحو الفرسخ منها، وفيها بنيان وسقايات، وأول ما يلقى منها الخارج من مكة إليها جمرة العقبة ثم الجمرتين اللتين ترميان مع جمرة العقبة بعد يوم النحر أيام التشريق. وبها مسجد أكبر من جامع قرطبة، وهو مسجد الخيف، له مما يلي المحراب أربع بلاطات معترضة، سقفها من جرائد النخل، وعمدها مجصصة، والمنبر عن يسار المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي موسطة صحن المسجد منارة، وفي كل جانب منها سقيفة.

والمزدلفة وهي المشعر الحرام بين منى وعرفة، وهي من منى على نحو الميلين، ولها مسجد مصحر لا بناء فيه إلا الحائط الذي فيه المحراب، وليس بها ساكن.
وعرفة بشرقي منى على نحو الفرسخين منها، ليس بها ساكن ولا بناء إلا سقايات وقنوات يجري فيها الماء، وليس بمسجدها بنيان إلا الحائط الذي فيه المحراب، وموقف الناس يوم عرفة بعرفة في الجبل وما يليه مما تحته، والجبل بين المشرق والجوف من مسجدها، وفي الموضع الذي يقف فيه الإمام ماء جارٍ. ومحراب منة وعرفة والمزدلفة إلى نحو المغرب.
صفة مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم
بلاطاته في قبلته معترضة من المشرق إلى المغرب، في كل صف من صفوف عمدها سبعة عشر عموداً، ما بين كل عمودين منها فجوة كبيرة واسعة، والعمد التي في البلاطات القبلية بيض مجصصة شاطة جداً، وسائر عمد المسجد رخام، والعمد المجصصة على قواعد عظيمة مربعة ورؤوسها مذهبة عليها نجف منقشة مذهبة، ثم السموات على النجف وهي أيضاً منقشة مذهبة. وقبالة المحراب موسطة البلاطات، بلاط مذهب كله شقت به البلاطات من الصحن إلى أن ينتهي إلى البلاط الذي بالمحراب ولا يشقه، وفي البلاط الذي يلي المحراب تذهيب كثير، وفي موسطته سماء كالترس المقدر مجوف كالمحار، مذهب، وقد أخذ وجه السور القبلي من داخل المسجد بإزار رخام من أساسه إلى قدر القامة منه، وكف على الإزار بطوق رخام في غلظ الأصبع، ثم من فوقه إزار دونه في العرض مخلق بالخلوق، ثم فوقه إزار مثل الأول فيه أربعة عشر باباً في صف من الشرق إلى الغرب في تقدير كوى المسجد الجامع بقرطبة منقشة مذهبة، ثم فوقه إزار رخام أيضاً فيه صنيفة سماوية فيها خمسة سطور مكتوبة بالذهب بكتاب ثخين، غلظه قدر أصبع، من سور قصار المفصل، ثم فوقه إزار رخام مثل الأول الأسفل، فيه ترسة من ذهب منقشة وبين كل ترسين منها عمود أخضر في حافاته قضبان من ذهب، ثم فوقه إزار رخام فيه صنيفة منقشة عرضها مثل عظم الذراع، لها قضبان وأوراق من ذهب ثم فوقه إزار فسيفساء عريض، ثم السماوات عليه. والمحراب في موسطة السور القبلي، على قوسه قصة من ذهب ناتئة غليظة، في وسطها مرآة مربعة ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها.
قبو المحراب مقدر جداً، وفيه دارات بعضها مذهبة وبعضها حمر وسود، وتحت القبو صنيفة ذهب منقشة، تحتها صفائح ذهب مثمنة، فيها جزعة في مثل جمجمة الصبي الصغير مسمرة، ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلق بالخلوق، فيه الوتد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليه في المحراب الأول، عند قيامه من السجود فيما ذكر. والله أعلم. وعن يمين المحراب باب يدخل منه الإمام ويخرج، وعن يساره باب صغير شطرنجي قد سد بعوارض من حديد، وبي هذين البابين والمحراب ممشى مسطح لطيف.
والمقصورة من السور الغربي لاصقة بالباب إلى الفصيل اللاصق بالسور الشرقي، ومن هذا الفصيل يصعد إلى ظهر المسجد، وهي قديمة مختصرة العمل، لها شرفات وأربعة أبواب، وخارج المقصورة قريباً منها عن يسار المحراب سرب في الأرض يهبط فيه على درج فيفضي منها إلى دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والمنبر على يمين المحراب في أول البلاط الثالث من المحراب في روضة مفروشة بالرخام محجور حولها به. وله درج، وسمر في أعلاه لوح لئلا يجلس أحد على الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس عليها، وهو مختصر ليس فيه من النقوش ودقة العمل ما في منابر زماننا الآن، والجذع أمام المنبر، وبشرقي المنبر تابوت يستر به مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبره صلوات الله عليه وسلامه بشرقي المسجد في آخر مسقفه القبلي مما يلي الصحن بينه وبين السور الشرقي مثل عشر أذرع، قد حظر حوله بحائط بينه وبين السقف مثل ثلاث أذرع، وله ستة أركان، ولبس بإزار رخام أكثر من قامة، وما فوق الرخام مخلق بالخلوق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .

وعلى ظهر المسجد حذاء القبر حجر محجور لئلا يمشى عليه، والبلاطات الجوفية خمسة والغربية أربعة، منتظم بعضها ببعض في طولها مع وجه الصحن من القبلة إلى الجوف ثمانية عشر عموداً، وحنايا المسجد كلها مما يلي الصحن مشدودة من جهاتها الأربع إلى مناكب العمد من داخله، مزخرفة بخشب منقش، وللمسجد ثلاث منارات اثنتان في الجوف وواحدة في الشرق، وحيطان المسجد كلها من داخله مزخرفة بالرخام والذهب والفسيفساء أولها وآخرها، وله ثمانية عشر باباً عتبها مذهبة، وهي أبواب عظيمة لا غلق عليها، أربعة منها في الجوف، وسبعة في الشرق وسبعة في الغرب. وقاع المسجد كله مفروش بالحصى وليس له حصر، ووجه سور المسجد كله من خارج منقش بالكذان، وكذلك الشرفات.
فينبغي للداخل في المسجد أن يأتي الروضة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها روضة من رياض الجنة " فيصلي فيها ركعتين، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فيستدبر القبلة ويستقبل القبر، ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولا يلصق بالقبر فإنه من فعل الجهال، وقد كره ذلك، فإذا فعل ما ذكر استقبل القبلة ودعا بما أمكنه بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا به، ورزقنا شفاعته برحمته، آمين.
صفة مسجد بيت المقدس
وما فيه من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
طول المسجد سبعمائة ذراع وأربع وثمانون ذراعاً، وعرضه أربعمائة ذراع وخمس وخمسون ذراعاً بذراع الإمام، ويسرج في المسجد ألف قنديل وخمسمائة قنديل، وعدة ما فيه من الخشب ستة آلاف خشبة وتسعمائة خشبة، وعدد ما فيه من الأبواب خمسون باباً، وعدد ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون عموداً، والعمد التي داخل الصخرة ثلاثون عموداً، والعمد التي خارج الصخرة ثمانية عشر عموداً، وفيه الصخرة الملبسة صفائح الرصاص عليها ثلاثة آلاف صفيحة وثلثمائة واثنتان وتسعون صفيحة، ومن فوق ذلك صفائح النحاس مطلية بالذهب يكون عليها عشرة آلاف صفيحة، ومائتان وعشر صفائح، وجميع ما يسرج في الصخرة من القناديل أربعمائة قنديل وأربعة وستون قنديلاً بمعاليق النحاس وسلاسل النحاس، وكان طول صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلاً، وكان أهل أريحاء، يستظلون بظلها، وأهل عمواس مثل ذلك. وكان عليها ياقوتة حمراء تضئ لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها نساء أهل البلقاء. وفي المسجد ثلاث مقاصير للنساء، طول كل مقصورة ثمانون ذراعاً في عرض خمسين ذراعاً، وفيه من السلاسل لتعليق القناديل ستمائة سلسلة، طول كل سلسلة ثمان عشرة ذراعاً، وفيه من غرابيل النحاس سبعون غربالاً، وفيه من الصنوبر التي للقناديل سبع صنوبرات، وفيه من المصاحف الجامعة سبعون مصحفاً، وفيه من الكبار التي في الورقة منها جلد ستة مصاحف على كراسي تجعل فيها، وفيه من المخاريب عشرة، ومن القباب خمس عشرة قبة، وفيه أربعة وعشرون جباً للماء، وفيه أربعة مناور للمؤذنين، وجميع سطوح المسجد والقباب والمنارات ملبسة صفائح مذهبة، وله من الخدم بعيالاتهم مائتا مملوك وثلاثون مملوكاً، يقبضون الرزق من بيت مال المسلمين، ووظيفته في كل شهر من الزيت سبعمائة قسط بالإبراهيمي، وزن القسط رطل ونصف بالكبير، ووظيفته في كل عام من الحصر ثمانية آلاف ووظيفته في كل عام من السراقة لفتائل القناديل اثنا عشر ديناراً ولزجاج القناديل ثلاثة وثلاثون دينارا، ولصناع يعملون في سطوح المسجد في كل عام خمسة عشر ديناراً.
آثار الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام
بيت المقدس

مربط البراق الذي ركبه النبي صلى الله عليه وسلم تحت ركن المسجد، وفي المسجد باب داود عليه الصلاة والسلام، وباب سليمان عليهما الصلاة والسلام، وباب حطة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى " وقولوا حطة " وهي قول لا إله إلا الله، فقالوا: حنطة، وهم يسخرون فلعنهم الله بكفرهم، وباب محمد صلى الله عليه وسلم، وباب التوبة الذي تاب الله فيه على داود، وباب الرحمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه " له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " يعني وادي جهنم الذي بشرقي بيت المقدس، وأبواب الأسباط أسباط بني إسرائيل وهي ستة أبواب، وباب الوليد، وباب الهاشمي وباب الخضر، وباب السكينة. وفيه محراب مريم ابنة عمران رضي الله عنها التي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ومحراب زكريا الذي بشرته فيه الملائكة بيحيى وهو قائم يصلي في المحراب، ومحراب يعقوب، وكرسي سليمان صلوات الله عليه الذي كان يدعو الله عليه، ومغارة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام الذي كان يتخلى فيها للعبادة، والقبة التي عرج النبي ( منها إلى السماء، والقبة التي صلى فيها النبي( بالنبيين، والقبة التي كانت السلسلة تهبط فيها زمان بني إسرائيل للقضاء بينهم، ومصلى جبريل عليه السلام، ومصلى الخضر عليه السلام. فإذا دخلت الصخرة فصل في أركانها وصل على البلاطة التي تسامى الصخرة، فإنها على باب من أبواب الجنة. ومولد عيسى بن مريم على ثلاثة أميال من المسجد. ومسجد إبراهيم عليه السلام وقبره على ثمانية عشر ميلاً من المدينة. ومحراب المسجد بغربيه.
فضائل بيت المقدس ينصب الصراط ببيت المقدس، ويؤتى بجهنم - نعوذ بالله منها - إلى بيت المقدس، وتزف الجنة يوم القيامة زفاً مثل العروس إلى بيت المقدس، وتزف الكعبة بحاجها إلى بيت المقدس، ويقال لها: مرحباً بالزائرة والمزورة. ويزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس.
ومن فضائل بيت المقدس، أن الله رفع نبيه صلى الله عليه وسلم إلى السماء من بيت المقدس، ورفع عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء من بيت المقدس، ويغلب المسيح الدجال على الأرض كلها إلا بيت المقدس، وحرم الله على يأجوج ومأجوج أن يدخلوا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس، والأبدال كلهم من بيت المقدس. وأوصى آدم وموسى ويوسف وجميع أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم أن يدفنوا ببيت المقدس.
نتف من الأخبار
فرج بن سلام قال: حدثني سليمان بن المغيرة قال: كنت أجد من أبي أيوب المازني رائحة طيبة ليست برائحة شراب ولا رائحة طيب، فقلت له: أخبرني عن هذه الرائحة، فقال: عفص آمر به، فيدق وينخل، فألته بقطران شامي، ثم آخذ منه كل غداة على إصبعي، فأدلك به أسناني وعمورها، فتطيب نكهتها، وتشتد ثتها وعمورها.
الرياشي قال: كانوا إذا أرادوا جارية مضغت نصف جوزة وأكلتها. فلا تزال طيبة النكهة سائر ليلتها.
عبد الصمد بن همام قال: كتب عامل عمان إلى عمر بن عبد العزيز: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء، فطفت على الماء. فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا خل عنها.
وقال رجل للحسن: أبا سعيد، الملائكة خير أم الأنبياء؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك " . وقال: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون " . وقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " .
العتبي قال: حدثني أبو النصر عن جويبر عن الضحاك، قال: من سمع الأذان في بيته فقام يصلي فقد أجاب.
أبو حاتم: عن العتبي قال: سمى المحرم لأنه جعل حراماً. وصفر لإصفار مكة من أهلها. والربيعان للخصب فيهما. والجماديان لجمود الماء فيهما من شدة البرد. ورجب لترجيب العرب أسنتها. وشعبان لأنه شعب بين رجب ورمضان. ورمضان لإرماض الأرض من الحر. وشوال لأن الإبل شالت بأذنابها فيه لحمها. وذو القعدة لقعودهم فيه عن الغزو من أجل الحج. وذو الحجة للحج.
الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس النحوي، قال: قال لي رؤية وأنا أسأله عن الغريب: حتى متى سألني عن هذه الأباطيل، وأزوقها لك؟ أما ترى الشيب قد أخذ في عارضيك ولحيتك؟

وقال الخليل بن أحمد: إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجلس عند غيره.
الرياشي عن الأصمعي، قال: لا تكون حطمة، حتى يكون قبلها بريق تأتي فتحطم.
ومن حديث أبي رافع، عن أبي ذر: قال قلت: يا رسول الله: صلى الله عليك، كم عدد النبيين؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
أبو بكر بن عياش: عن العجلي، عن قتادة. قال: طول الدنيا مائة ألف وأربعة وعشرون ألف فرسخ.
ومن حديث عبد الله بن عمرو، قال: العرش مطوق بحية، والوحي ينزل في السلاسل.
ومن حديث ابن أبي شيبة، أن العباس بن عبد المطلب، كان أقرب شحمة أذن إلى السماء، وكان إذا طاف بالبيت يشبه بالفسطاط العظيم، وإذا مشى بين قوم تحسبه راكباً.
ومن حديث عروة بن الزبير عن عائشة عن النبي (، قال: خلق الله الملائكة من نور، والجان من نار، وآدم من تراب.
وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى القيامة؟ فقال له: وما أعددت لها؟ لا شيء والله غير أني أحب الله ورسوله. قال: المرء مع من أحب.
زياد عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " إياكم والشرك الأصغر " . قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء " .
زياد عن مالك، قال: إذا لم يكن في الرجل خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره، وإذا رأيت الرجل يستحل مال عدوه فلا تأمنه على مال صديقه.
وقال بعضهم: سمعت حذيفة يحلف لعثمان في شيء بلغه عنه ما قاله، ولقد سمعته يقول فسألته عن ذلك، فقال: يا بن أخي، اشتري ديني بعضه ببعض لئلا يذهب كله.
أخذه الشاعر فقال:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا ولا ما نرقع
زياد عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الغيرة من الإيمان، والمراء من النفاق " .
الأصمعي قال: سأل علي بن أبي طالب الحسن ابنه رضوان الله عليهم: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال، وكيف ذلك؟ قال: الإيمان كل ما سمعته إذناك وصدقه قلبك، واليقين ما رأته عيناك فأيقن به قلبك، وليس بين العين والأذنين إلا أربع أصابع.
الرياشي قال: ضرب علي كرم الله وجهه بيده زانياً، فأوجعه إيجاعاً شديداً. فقال له عم المضروب: بعض هذا الضرب، فقد قتلته. فقال علي رضي الله عنه: إنه وتر من ولدها من قبل أبيها وأمها من النبيين والصالحين إلى آدم.
قال الرياشي: فكنت أعجب من شنعة حد الرجم، فلما سمعت شنعة الذنب هان علي الحد.
الأصمعي عن أبي عمرو قال: دم الحيض غذاء المولود.
أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينشد ضالة له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وجدتها لا وجدتها، إنما المساجد لما بنيت له " .
الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أبوها خليفة، وجدها خليفة، وأخوها معاوية ين يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وولدها يزيد بن عبد الملك خليفة، وأربابها الوليد وسليمان وهشام خلفاء.
قتادة عن أنس بن مالك قال: أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة، فإنه قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: وهم عبد العزى بن يزيد بن خطل، ومقيس بن صبابة الكندي، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة. فأما عبد العزى فإنه قتل وهو معلق بأستار الكعبة. وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وشفع له عنده. وأما مقيس، فإنه كان له أخ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل خطأ، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر، ليأخذ له عقله من الأنصار، فلما اجتمع له العقل أخذه وانصرف مع الفهري، فنام في بعض الطريف فوثب عليه مقيس فقتله، ثم أقبل وهو يقول:
شنى النفس من قد بات بالقاع مسندا ... يضرج ثوبيه دماء الأخادع
قتلت به فهرا، وأغرمت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوتار أول راجع

وأما سارة: فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئاً، ثم أتاها رجل فبعث معها كتاباً إلى أهل مكة يتقرب به إليهم ليحفظ في عياله، وكان عياله بمكة، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب فلحقاها، ففتشاها، فلم يقدرا على شيء، فأقبلا راجعين، ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها. فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، ثم قالا: لتدفعن إلينا الكتاب أو لنذيقنك الموت. فأنكرته، ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا تؤدياني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقبلا منها ذلك، فحلت عقاص رأسها، وأخرجت الكتاب من قرن من قرونها، فرجعا بالكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعاه إليه، فدعا الرجل وقال له: ما هذا الكتاب؟ فقال له: أخبرك يا رسول الله، إنه ليس ممن معك أحد إلا وله بمكة من يحفظه في عياله غيري، فكتبت بهذا الكتاب ليكافئوني في عيالي، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " .
أمر المصعب بن الزبير رجلاً من بين أسد بن خزيمة بقتل مرة بن مكان السعدي، فقال مرة:
بني أسد، إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
وكان ابن سعد الأسدي قد تولى صدقات الأعراب لعمر بن عبد العزيز وأعطياتهم، فقال فيه جرير يشكو عمر:
حرمت عيالاً لا فواكه عندهم ... وعند ابن سعد سكر وزبيب
وقد كان ظني بابن سعد سعادة ... وما الظن إلا مخطئ ومصيب
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاع ليالٍ والأداء قريب
تحيا العظام الراجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب
لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان أبو خيثمة فيمن تخلف عنه، فأقبل وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانها، ومهدت له في ظل حائط. فقال: أظل ممدود، وثمرة رطبة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، في الضح والريح، ما هذا بخير. ثم ركب ناقته ومضى في إثره. فقالوا: يا رسول الله، نرى رجلاً يرفعه الآل، فقال: كن أبا خيثمة. فكانه.
الضح: الشمس، تقول العرب في أمثالها: " جاء فلان بالضح والريح " ، إذا أقبل بخير كثير.
نتف من الطيب
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم " . يريد ما نزعتم عن القسي، ونزوتم على ظهور الخيل، وإنما أراد الحركة والله أعلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سافروا تصحوا " .
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط: الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه. وأما المشي فإن من لم يتعاهده أوشك أن يطلبه فلا يجده. وأما الجماع فإنه كالبئر، إن نزحت، جمت، وإن تركت تخثر ماؤها، وحق هذا كله القصد فيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من استقل برأيه فلا يتداوى. فرب دواء يورث الداء " .
وقال الحكماء: إياك وشرب الدواء ما حملتك الصحة.
وقالوا: مثل الدواء في البدن مثل الصابون في الثوب، ينقيه ويخلقه.
الأصمعي عن رجل عن عمه قال: لقيت طبيب كسرى شيخاً كبيراً قد شد حاجبيه بخرقة، فسألته عن دواء المشي، فقال: سهم يرمى به في جوفك أصاب أم أخطأ.
وفي كتاب التفصيل للهند: الدواء من فوق والدواء من تحت، والدواء لا من فوق ولا من تحت.
تفسيره: من كان داؤه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن بالدواء، ومن لم يكن له داء لا من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء ولم يحقن به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس: " بم كنت تستمشين في الجاهلية؟ قالت: بالشبرم. قال: حار بار، ثم قالت: استمشيت بالسنا. قال: لو أن شيئاً يرد القدر لرده السنا.
ومن حديث أبي هريرة:أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، وهم يتذاكرون الكمأة، ويقولون فيها: جدري الأرض، فقال: إن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، وهي شفاء من السم.

وأهدى تميم الداري إلى النبي صلى الله عليه وسلم زبيباً، فلما وضعه بين يديه قال لأصحابه: " كلوا فنعم الطعام الزبيب، يذهب النصب، ويشد العصب، ويطفئ الغضب، ويصفي اللون، ويطيب النكهة، ويرضي الرب " .
وقال طلحة بن عبد الله: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في جماعة من أصحابه، وفي يده سفرجلة يقلبها، فلما جلست إليه دحرج بها نحوي، وقال: دونكها أبا محمد، فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاء الصدر " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أربع من النشر: شرب العسل نشرة، والنظر إلى الماء نشرة، والنظر إلى الخضرة نشرة، والنظر إلى الوجه الحسن نشرة " .
وقال عثمان بن عفان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من بلغ الخمسين أمن الأدواء الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص " .
ومن حديث زيد بن أسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما انزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله " .
ومن حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل الدواء الذي أنزل الداء " .
ومن حديث زيد بن أسلم أن رجلاً أصابه جرح في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رجلين من بني أنمار، فقال: أيكما أطل؟ فقال له رجل من أصحابه: في الطب خير؟ قال: " إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب " .
يريد القسط الهندي، وهو الذي تسميه العامة الكست.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بهذه الحبة السوداء؛ فإن فيها دواء من كل داء إلا السام " يعني الشونيز.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يحد البصر، وينبت الشعر " .
وفيه: أن عبد الله بن مسعود قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل.
الأصمعي قال: ثلاث ربما صرعت أهل البيت عن آخرهم: الجراد، ولحوم الإبل، والفطر، وهو الفقع.
ويقول أهل الطب: إن أردأ الفطر في ظلال الشجر، ولا سيما في ظلال الزيتون، فإنه قتال.
وقال وهب بن منبه: إذا صام الرجل زاغ بصره، فإذا أفطر على الحلوى رجع إليه البصر.
وأقبل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني كنت في الجاهلية ذا فطنة وذا ذهن، وأنكرت نفسي في الإسلام. فقال له: أكنت تنام في القائلة؟ قال: نعم. قال: " فعد إلى ما كنت عليه من نوم القائلة " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالشجرة التي كلم الله منها موسى بن عمران، زيت الزيتون فادهنوا به، فإن فيه شفاء من الباسور " .
وقال: في الزيتونة يقول الله: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " .
ويقول الأطباء: إذا خرج الطعام من قبل ست ساعات فهو من ضرر، وإذا أقام في الجوف أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو من ضرر.
دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال له معاوية: أنكرت من نفسي خصلتين: قل طعمي، ورق عظمي. فإن تدثرت بالثقيل أثقلني، وإن تدثرت بالخفيف أصابني البرد. قال: نم يا أمير المؤمنين بين جاريتين سمينتين يدفئانك بشحومهما، ويحملان عنك ثقل الدثار بمناكبهما. وأكثر من الألوان، وكل من كل لون ولو لقمة، فإن ذلك إذا اجتمع نفع. فدخل عليه بعد ذلك فقال له معاوية: يا أعور، قد جربنا ما قلت فوجدناه موافقاً.
التعويذ والرقي
أبو بكر بن أبي شيبة عن عقبة عن شعبة عن أبي عصمة قال: سألت سعيد بن المسيب عن تعليق التعويذ؟ قال: لا بأس به.
وكان مجاهد يكتب للصبيان التعويذ ويعلقه عليهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة، لم يضره عين ولا حية ولا عقرب.
وفي مسند ابن أبي شيبة: إن خالد بن الوليد كان يفزع في نومه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " أخبرني جبريل أن عفريتاً من الجن يكيدك، فقل: أعوذ بكلمات الله التامة المباركات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر كل ذي شر " . فقالهن خالد، فذهب ذلك عنه.
وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ولا رقية إلا من عين أو حمة " . والحمة: السم.

سفيان بن عيينة قال: بينا عبد الله بن مسعود جالساً تعرض عليه المصاحف، إذ أقبلت أعرابية فقالت: أبا فلان، لرجل جالس إليه: لقد لدغ مهرك، وتركته كأنه يدور في فلك، فقم واسترق له. فقال له ابن مسعود: لا تسترق له، واذهب فانفث في منخره الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً، وقل: أذهب الباس، يا رب الناس، فإنه لا يذهبه إلا أنت. ففعل، فلم يبرح حتى أكل وشرب وبال وراث.
دخل أبو بكر على عائشة وهي تشتكي، ويهودية ترقيها، فقال لها: ارقيها بكتاب الله.
الحجامة والكي
قال عبد الله بن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه من أذى كان به.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحجم في فأس رأسه، فقال: ما هذا؟ قال: " هذا خير ما تداويتم به " .
وفي مسند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير ما تداويتم به الحجامة والقسط العربي، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة " .
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير يوم تحتجمون فيه سبعة عشر، وتسعة عشر، وأحد وعشرون.
وفيه أنه قال: " إن كان في شيء مما تعالجون به خير ففي شرطة من محجم أو لذعة من نار تواقع ألماً، أو شربة من عسل، وما أحب أن أكتوي " .
السم والسحر
في مسند ابن أبي شيبة: أن يهود خيبر أهدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجمعوا لي من هاهنا من اليهود " . فجمعوا له. فقال لهم: هل جعلتم في هذا الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك السم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري " .
الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام، وعنده الحارث ابن كلدة طبيب العرب، فأكلا منه، فقال الحارث، لأبي بكر: لقد أكلنا والله في هذا الطعام سم سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول، فماتا جميعاً عند انقضاء السنة.
وفي مسند ابن أبي شيبة: أن رجلاً من اليهود سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى لذلك أياماً، فأتاه جبريل فقال له: إن رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً وجعلها في مكان كذا وكذا. فأرسل عليا رضي الله عنه فاستخرجها، وجاء بها، فجعل يحلها، فكلما حل عقدة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خفة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما أنشط من عقال.
وفي مسند لبن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: " طب رسول الله صلى الله عليه وسلم - والطب: السحر - فبعث إلى رجل فرقاه " .
العين
تقول العرب: رجل معين، إذا أخذ بالعين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سبق القدر شيء لسبقته العين.
وتقول العرب: إن العين تسرع بالإبل إلى أوصامها، وبالرجال إلى أسقامها.
ونظر عامر بن أبي ربيعة إلى سهل بن حنيف يستحم، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، قال: فلبط به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عامر ابن أبي ربيعة أن يتوضأ له ثم يطهره بمائه، ففعل، فقام سهل بن حنيف كأنما أنشط من عقال.
أبيات في الطب
وجدناها في كتاب فرج بن سلام
النافجاء بشيرج ملتوت ... فيه شفاء للرياح مميت
يغلى لذلك حلبة في مائها ... تسقيه مصطحبا وحين يبيت
وقال:
ليس شيء أنفى عن الجسم للري ... ح من الأنجدان والمحروث
وقال:
في الحرف سبعون دواء وفي الكم ... مون فيما قيل ستونا
قد قاله هرمس في كتبه ... فلا تدع حرفاً وكمونا
وقال:
بسعتر بر داو كل مبلغم ... وذا المرة الصفراء بالرازيانق
وذو المرة السوداء ذاك علاجه ... تعاهد فصد العرق من كفٍ حاذق
وذو الدم فليكثر حجامة ... فما غيرها شيء له بموافق
وقال:
لا تكن عند أكل سخن وبهر ... ودخول الحمام تشرب ماء
فإذا ما اجتنبت ذلك منه ... لم تخف ما حييت في الجوف داء
وقال:
إن أردت الرقاد في الليل فاجعل ... قطنة عندها على الأذنين

فيه تظهر السلامة للأذ ... نين مما يضر بالعينين
وقال:
لا تشرب الماء بعد النوم من ظمأ ... ولا تبت أبداً من غير منتفض
فجوف من بات من ماء ومن ثقل ... ومن رياح دعا كلا إلى مرض
وقال:
احس في الحمام ماء سخنا ... وليكن ذلك في البيت السخن
يسلم البطن من الداء ولا ... يعتريه وجع طول الزمن
وقال:
إن دخلت الحمام فاضرب على رأ ... سك بالماء السخن سبع مرات
فيه تظهر السلامة من كل ... ل صداع بقدرة الجبار
وقال:
لا تجامع ولا تمطى ولا تد ... خل إذا ما شبعت في الحمام
فهو دفع لكل ما يتقيه ال ... مرء من فالج وكل سقام
وقال:
ما كان في الرأس أخرجه بغرغرة ... فالقيء يخرج ما في الصدر من عفن
وكل ما كان في الصلب فذلك لا ... يستل إلا بإخلاط من الحقن
وقال:
على الريق في البرد احس ماء مسخناً ... وفي الصيف ماء بارداً حين تصبح
وذلك فيما قيل فيه مصحة ... وذاك على إدمانه الجسم يصلح
وقال:
إن من باكر الغداء وبعد ال ... عصر منه تعاهد للعشاء
فبإذن الإله يبقى صحيحاً ... سالماً في الحياة من كل داء
وقال:
إن رأس الطب إن تد ... لك بالزنبق دلكا
باطني رجليك عند الن ... نوم ينفى السقم عنكا
وقال:
شجر البراغيث الكريه مشمه ... يبري بإذن الله من داء الحبن
وقال:
إن السواك ليستحب لسنة ... ولأنه مما يطيب به الفم
لم تخش من حفر إذا أدمنته ... وبه يسيل من اللهاة البلغم
وقال:
احتجم بين كل شهرين ولتل ... ف على أثرة من الأيام
سبعة منك للزبيب بلا عج ... م تبديه قبل كل طعام
فهو للعين وللهاة وللحل ... ق أمان له من الأسقام
وقال:
ولا تغط الرأس في وقت ما ... تخرج من الحمام واخش الضرر
إن بخار الرأس في وقت ما ... وصفته داءٌ يصيب البصر
وقال:
إن الجماع على الحمام مصحة ... ولذاذة تاهت على اللذات
وقال:
السمك المالح إن لم يكن ... بد من الأكل له فانعم
بالطبخ أكثر زيته ثم كل ... من قبل مأدوماً من المطعم
وقال:
اطل منك الشعر في كل ... ل أربعاً لا تدور
وليكن غسلك بالبا ... رد منه والطهور
إنه يزعر منه ... شعر الجسم الكثير
إنني طب بما يج ... هله الناس خبير
وحدث محمد بن إبراهيم الوراق قال: حدثني محمد بن عبيد الله بن الحارث بن إسحاق بمصر قال: حدثنا محمد بن داود بن أبي ناجية قال: حدثنا زياد بن يونس الحضرمي، عن محمد بن هلال المدني عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها. فقال: إنها تذكر كثرة الجماع. قال: يا رسول الله، أفأزني؟ قال: لا، ولكن إذا جاءنا سبي، فتعال حتى نعطيك جارية. فقدم عليه سبي، فجاء إليه، فقال له: يا رسول الله، وعدي! فقال له: اختر. فقال له: اختر لي. فقال: " خذ هذه، فإني أراها زرقاء، فلعلها " . قال: فما لبثنا أن جاءت المرأة، فقالت: يا رسول الله، ما زاده الأمر إلا تجدداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، أفأزني؟ قال: لا. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسكثر الأطلاء. قال: نعم. قال: " فأقل اطلاءك يقل جماعك " .
قال محمد: قال لي ابن أبي ناجية: وأنا كما تراني شيخ كبير، قد أتى علي ثمانون سنة، إذا أحببت الوطء اطليت في كل خمس عشرة ليلة.
الهدايا
كتب سعيد بن حميد إلى بعض أهل السلطان في يوم النيروز:

أيها السيد الشريف، عشت أطول الأعمار، بزيادةٍ من العمر، موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضي حق نعمة حتى تجدد لك أخرى، ولا يمر بك يوم إلا كان مقصراً عما بعده، موفياً على ما قبله. إني تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة، فالتمست التأسي بهم في الإهداء، وإن قصرت بي الحال عن الواجب، وإني وإن أهديت نفسي فهي ملك لك، لا حظ فيها لغيرك، ورميت بطرفي إلى كرائم مالي، فوجدتها منك. فكنت إن أهديت منها شيئاً كمهدي مالك إليك، وفزعت إلى مودتي، فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة، فرأيت إن جعلتها هديتي لم أجدد لهذا اليوم الجديد براً ولطفاً، ولم أميز منزلة من الشكر بمنزلة من نعمتك، إلا كان الشكر مقصراً عن الحق والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة، فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك براً أتوصل به إليك، وقلت في ذلك:
إن أهد مالاً، فهو واهبه ... وهو الحقيق عليه بالشكر
أو أهد شكراً، فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنة البدر
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك: النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمل مصروف نحوك، فما عسى أن أهدي إليك في هذا اليوم، وهو يوم سهلت فيه العادة سبيل الهدايا للسادة، وكرهت أن نخليه من سنته، فنكون من المقصرين، أو أن ندعي أن في وسعنا ما يفي بحقك علينا، فنكون من الكاذبين، فاقتصرنا على هدية تقضي بعض الحق، وتنفي بعض الحقد، وتقوم عندك مقام أجمل البر. ولا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة، في أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمر بك الأعياد الصالحة، والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد، تستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها. وقد بعثت الرسول بالسكر لطيبه وحلاوته، والسفرجل لفأله وبركته، والدرهم لبقائه عند كل من ملكه، ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مراً على أعدائك، متقدماً عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك وتحسن أفنيتهم بمثلك. وقد جمعنا في هذه القصيدة ثناء ومسرةً واعتذاراً وتهنئة. وهي:
غاد في المهرجان كأساً شمولا ... وأطعني ولا تطيعن عذولا
فهو يوم قد كان آباؤك الغ ... ر يحلونه محلاً جليلا
إن للصيف دولة قد تقضت ... وأراك الشتاء وجهاً جميلا
وتجلت لك الرياض عن النو ... ر فكانت من كل شيء بديلا
فتمتع باللهو، لا زلت جذلا ... ن وطرف الزمان عنك كليلا
يعدل الشكر والثناء، وإن لم ... يك شكري لما أتيت عديلا
فجعلت الذي أطيق من الشكر ... على ما عجزت عنه دليلا
يا لها من هدية تقنع المه ... دى إليه ولا تعني الرسولا
وكتب بعض الشعراء إلى بعض أهل السلطان في المهرجان: هذه الأيام جرت فيها العادة، بإلطاف العبيد للسادة، وإن كانت الصناعة تقصر عما تبلغه الهمة، فكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب، فجعلت هديتي هذه الأبيات، وهي:
ولما أن رأيت ذوي التصافي ... تباروا في هدايا المهرجان
جعلت هديتي وداً مقيماً ... على مر الحوادث والزمان
وعبداً حين تكرمه ذليلاً ... ولكن لا يقر على الهوان
يزيدك حين تعطيه خضوعاً ... ويرضى من نوالك بالأماني
وأهدى أبو العتاهية إلى بعض الملوك نعلاً وكتب معها:
نعل بعثت بها لتلبسها ... تسعى به قدم إلى المجد
لو كان يصلح أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي
وأهدى علي بن الجهم كلباً، وكتب:
استوص خيراً به فإن له ... عندي يداً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق ال ... ليل إذا النار نام موقدها
أهدى أحمد بن يوسف ملحاً طيباً إلى إبراهيم بن المهدي، وكتب إليه: الثقة بك سهلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم.
وأهدى إبراهيم بن المهدي إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي جراب ملح، وجراب أشنان، وكتب إليه:

لولا إن القلة قصرت عن بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برك، ولكن البضاعة قعدت بالهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر، فبعثت بالمبتدأ به ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته. وأما ما سوى ذلك فالمعبر عنا فيه كتاب الله تعالى إذ يقول: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج " . إلى آخر الآية.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى صديق له: لو كانت التحفة على حسب ما يوجه حقك لأجحف بنا أدنى حقوقك، ولكنه على قدر ما يخرج الوحشة، ويوجب الأنس وقد بعثت بكذا وكذا.
وكتب رجل إلى المتوكل على الله وقد أهدى إليه قارورة من دهن الأترج: إن الهدية يا أمير المؤمنين، إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أنفع وأوقع. وأرجو أن لا تكون قصرت بي همة أصارتني إليك، ولا أخرني إرشاد دلني عليك، وأقول:
ما قصرت همة بلغت بها ... بابك يا ذا الندى وذا الكرم
حسبي بوديك أن ظفرت به ... ذخراً وعزاً يا واحد الأمم
أهدى حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب قلماً، وكتب معه إليه هذه الأبيات:
قد بعثنا إليك أكرمك الل ... ه بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل
فاستجز قلة الهدية مني ... إن جهد المقل غير قليل
ومن قولنا في هذا المعنى وقد أهديت سلي عنب ومعهما:
أهديت بيضاً وسداً في تلونها ... كأنها من بنات الروم والحبش
عذراء تؤكل أحياناً وتشرب أح ... يانا فتعصم من جوع ومن عطش
وأهديت حوتين وكتبت معهما:
أهديت أزرق مقروناً بزرقاء ... كالماء لم يغذها شيء سوى الماء
ذكاتها الاخذ ما تنفك طاهرة ... بالبر والبحر أمواتاً كأحياء
وأهديت طبق ورد ومعه:
رياحين أهديها لريحانة المجد ... جنتها يد التخجيل من حمرة الخد
وورد به حييت غرة ما جد ... شمائله أذكى نسيماً من الورد
ووشي ربيع مشرق اللون ناضر ... يلوح عليه ثوب وشي من الحمد
بعثت بها زهراء من فوق زهرة ... كتركيب معشوقين خداً على خد
وكتبت على كأس:
اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقاً ... واحذر على خصرها الرقيق
وقل لمن لاعم في التصابي ... إليك خل عن الطريق
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في هذا المعنى:
ما ترى في هدية من فقير ... حيل ما بينه وبين اليسار
يغرب الناس في الهدايا إلى النا ... س، ويهدي غرائب الأشعار
محكماتٍ كأنها قطع الرو ... ض تحلت أنوارها بالبهار
وأنشد يزيد بن المهلب في المعتمد:
سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المهرجان
قصائد تملأ الآفاق مما ... أحل الله من سحر البيان
وقال آخر:
جعلت فداك، للنيروز حق ... وأنت علي أوجب منه حقا
ولو أهديت فيه جميع ملكي ... لكان جميعه لك مسترقا
وأهديت الثناء بنظم شعر ... وكنت لذاك مني مستحقا
لأن هدية الألطاف تفنى ... وأن هدية الأشعار تبقى
وقال حبيب:
فوالله لا أنفك أهدي شوارداً ... إليك يحملن الثناء المنخلا
ألذ من السلوى وأطيب نفحةً ... من المسك مفتوقاً وأيسر محملا
وقال مروان بن أبي حفصة:
بدولة جعفر حمد الزمان ... لنا بك كل يوم مهرجان
جعلت هديتي لك فيه وشياً ... وخر الوشي ما نسج اللسان
وقال أحمد بن أبي طاهر:
من سنة الأملاك فيما مضى ... من سالف الدهر وإقباله
هدية العبد إلى ربه ... في جدة الدهر وأحواله
فقلت ما أهدي إلى سيدي ... حالي وما خولت من حاله

إن أهد نفسي فهي من نفسه ... أو أهد مالي فهو من ماله
فليس إلا الحمد والشكر والم ... دح الذي يبقى لأمثاله
وقال الحمدوني، وأهدى إليه سعيد بن حميد أضحية مهزولة، فقال فيها:
لسعيد شويهة ... نالها الضر والعجف
فتغنت وأبصرت ... رجلاً حلاملاً علف
" بأبي من بكفه ... برء دائي من الدنف "
فأتاها مطعماً ... وأتته لتعتلف
ثم ولى فأقبلت ... تتغنى من الأسف
" ليته لم يكن وقف ... عذب القلب وانصرف "
وقال الحمدوني: كتبت إلى الحسن بن إبراهيم، وكان كل سنة يبعث إلي بأضحية، فتأخر عني سنة فكتبت إليه:
سيدي أعرض عني ... وتناسى الود مني
مر بي أضحى وأضحى ... أخلفاني فيه ظني
لا يراني فيهما أه ... لا لظلف ولقرن
فتعزيت بيأس ... ثم ضحيت بجني
واصطحبت الراح يوماً ... ثم أنشدت أغني
لا يجرم صد عني ... صد عني بالتجني
أهدت جارية من جواري المأمون تفاحة له، وكتبت إليه: إني يا أمير المؤمنين لما رأيت تنافس الرعية في الهدايا إليك، وتواتر ألطافهم عليك، فكرت في هدية تخف مؤونتها، وتهون كلفتها، ويعظم خطرها، ويجل موقعها، فلم أجد ما يجتمع فيه هذا النعت، ويكمل فيه هذا الوصف إلا التفاح، فأهديت إليك منها واحدة في العدد، كثير في التصرف، وأحببت يا أمير المؤمنين أن أعرب لك عن فضلها، وأكشف لك عن محاسنها، وأشرح لك لطيف معانيها، ومقالة الأطباء فيها، وتفنن الشعراء في وصفها، حتى ترمقها بعين الجلالة، وتلحظها بمقلة الصيانة، فقد قال أبوك الرشيد رضي الله عنه: أحسن الفاكهة التفاح، اجتمع فيه الصفرة الدرية، والحمرة الخمرية، والشقرة الذهبية، وبياض الفضة، ولون التبر، يلذ بها من الحواس العين ببهجتها، والأنف بريحها، والفم بطعمها. وقال أرسطا طاليس الفيلسوف، عند حضوره الوفاة، واجتمع إليه تلاميذه: التمسوا لي تفاحة أعتصم بريحها، وأقضي وطري من النظر إليها. وقال إبراهيم بن هانئ: ما علل المريض المبتلى، ولا سكنت حرارة الثكلى ولا ردت شهوة الحبلى، ولا جمعت فكرة الحيران، ولا سلت حسيفة الغضبان ولا تحيت الفتيان في بيوت القيان، بمثل التفاح. والتفاحة يا أمير المؤنين إن حملتها لم تؤذك، وإن رميت بها لم تؤلمك، وقد اجتمع فيها ألوان قوس قزح من الخضرة والحمرة والصفرة، وقال فيها الشاعر:
حمرة التفاح مع خضرته ... أقرب الأشياء من قوس قزح
فعلى التفاح فاشرب قهوةً ... واسقنيها بنشاط وفرح
ثم غن الآن كي تطربني ... طرفك الفتان قلبي قد جرح
فإذا وصلت إليك يا أمير المؤمنين فتناولها بيمينك، واصرف إليها يقينك، وتأمل حسنها بطرفك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينك، ولا تبذلها لخدمك، فإذا طال لبثها عندك، ومقامها بين يديك، وخفت أن يرميها الدهر بسهمه، ويقصدها بصرفه، فيذهب بهجتها، ويحيل نضرتها، فكلها.
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المأمون: احملوا إليها من كل ما أهدي لنا في هذا اليوم.
وكتب العباس الهنداني إلى المامون في يوم نيروز:
أهدى لك الناس المرا ... كب والوصائف والذهب
وهديتي حلو القصا ... ئد والمدائح والخطب
فاسلم سلمت على الزما ... ن من الحوادث والعطب
كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب
فرش الكتاب
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان والنتف، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الطعام والشراب اللذين بهما نمو الغراسة، وهما قوم الأبدان، وعليهما بقاء الأرواح.
قال المسيح عليه الصلاة والسلام في الماء: هذا أبي، وفي الخبز، هذا أمي. يريد أنهما يغذيان الأبدان كما يغذيها الأبوان.

وهذا الكتاب جزآن، جزء في الطعام، وجزء في الشراب. فالذي في الطعام منهما متقص جميع ما يتم ويتصرف به أغذية الطعام، من المنافع والمضار، وتعاهد الأبدان بما يصلحها من ذلك في أوقاته، وضروب حالاته واختلاف الأغذية مع اختلاف الأزمنة بما لا يخلي المعدة وما لا يكظها، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
والذي في الشراب منهما مشتمل على صفوف الأشربة، وما اختلف الناس فيه من الأنبذة، ومحمود ذلك ومذمومه، فإنا نجد النبيذ قد أجازه قوم صالحون، وكرهه قوم صالحون.
وقد وضعنا لكل شيء من ذلك باب، فيحتاط كل رجلٍ لنفسه بمبلغ تحصله، ومنتهى نظره، فإن الرائد لا يكذب أهله.
أطعمة العرب
الوشيقة من اللحم، وهو أن يغلى إغلاءةً ثم يرفع، يقال منه وشقت أشق وشقا، قال الحسن بن هانئ:
حتى رفعنا قدرنا بضرامها ... واللحم بين موذم وموشق
والصفيف مثله، ويقال: هو القديد، يقال: صففته أصفة صفاً.
والربيكة: شيء يطبخ من بر وتمر، ويقال: منه ربكته أربكه ربكاً.
والبسيسة: كل شيء خلطته بغيره، مثل السويق بالأقط، ثم تلته بالسمن أو بالزيت، أو مثل الشعير بالنوى للإبل، يقال: بسسته أبسه بساً.
والعبيثة: بالعين غير معجمة: طعام يطبخ ويجعل فيه جراد، وهو الغثيمة أيضاً.
والبغيث والعليث: الطعام المخلوط بالشعير. فإذا كان فيه الزؤان فهو المعلوث.
والبكيلة والبكالة جميعاً: وهي الدقيق يخلط بالسويق، ثم يبل بماء أو سمن أو زيت، يقال: بكلته أو أبكله، بكلاً.
والفريقة: شيء يعمل من اللبن.
فإذا قطعت اللحم صغاراً قلت: كتفته تكتيفاً.
أبو زيد قال: إذا جعلت اللحم على الجمر قلت: حسحسته، وهو أن تقشر عنه الرماد بعد أن يخرج من الجمر. فإذا أدخلته النار ولم تبالغ في طبخه قلت: ضهبته، وهو مضهب.
والمضيرة سميت بذلك لأنها طبخت باللبن الماضر، وهو الحامض والهريسة لأنها تهرس. والعصيدة لأنها تعصد أي تلوى، واللفيتة لأنها تلفت.
والفالوذ: وهو السرطراط. ومن أسماء الفالوذ أيضاً: السريط، لأنه يسترط مثل يزدرد. ويقال: " لا تكن حلوا فتسترط، ولا مراً فتعقي " .
يقال: أعقى الشيء: اشتدت مرارته.
الرغيدة: اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق لعقاً.
الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق.
والسخينة: حساء كانت تعمله قريش في الجاهلية، فسميت به، قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
والعكيس: الدقيق يصب عليه الماء ثم يشرب: قال منظور الأسدي:
ولما سقيناها العكيس تمذحت ... خصواصرها وازداد رشحاً وريدها
تمذحت، أي انتفخت.
أسماء الطعام
الوليمة: طعام العرس. والنقيعة: طعام الإملاك. والإعذار: طعام الختان. والخرس: طعام الولادة. والعقيقة: طعام سابع الولادة. والنقيعة: طعام يصنع عند قود الرجل من سفره؛ يقال: أنقعت إنقاعاً. والكيرة: طعام يصنع عند البناء يبنيه الرجل في داره. والمأدبة: كل طعام يصنع لدعوة، يقال: آدبت أودب إيداباً. وأدبت أدباً. قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
الآداب: صاحب المأدبة. والجفلى: دعوة العامة. والنقري: دعوة الخاصة.
والسلفة: طعام يتعلل به قبل الغداء. والقفي: الطعام الذي يكرم به الرجل، يقال منه: قفوته فأنا أقفوه قفواً. والقفاوة: ما يرفع من المرق للإنسان، قال الشاعر:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونحسبه إن كان ليس بجائع
صفة الطعام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز فإن الله سخر له السموات والأرض. وكلوا سقط المائدة.
وقال الحسن البصري: ليس في الطعام سرف، وتلا قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " .
وقال الأصمعي: الكبادات أربعة: العصيدة، والهريسة، والحيس، والسميذ.
أبو حاتم: والسويق طعام المسافر، والعجلان، والحزين والنفساء، وطعام من لا يشتهي الطعام.
أبو حاتم، عن الأصمعي قال: قال أبو صوارة: الأرز الأبيض بالسمن المسلي والسكر الطبرزذ ليس من طعام أهل الدنيا.
وقال مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أكل الخبيص يزيد في الدماغ.

وقال الحسن لفرقد السبخي: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج! قال: يا أبا سعيد أخاف أن لا أؤدي شكره! قال: يا لكع، وهل تؤدي شكر الماء البارد في الصيف، والحار في الشتاء؟ أما سمعت قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما كسبتم " .
وسمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج، فقال: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم.
وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض إلي من الزبد والكمأة. فقال الأحنف: " رب ملوم لا ذنب له " .
وقيل لشريح القاضي: أيهما أطيب، اللوزينق أو الجوزينق؟ فقال: لا أحكم على غائب! ولد لعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام فصنع الأخبصة، ودعا الناس، وفيهم مساور الوراق، فلما أكلوا قال مساور الوراق:
من لم يدمم بالثريد سبالنا ... بعد الخبيص فلاهناه الفارس
الرقاشي قال: أخبرنا أبو هفان أن رقبة بن مصقلة طرح نفسه بقرب حماد الراوية في المسجد، فقال له حماد: ما لك؟ قال: صريع فالوذج. قال له حماد: عند من؟ فطالما كنت صريع سمك مملوح خبيث. قال: عند حكم في الفرقة وفصل في الجماعة. قال: وما أكلتم عنده؟ قال: أتانا بالأبيض المنضود، والملوز المعقود، والذليل الرعديد، والماضي المودود.
محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلال بن أبي بردة، وهو أمير على البصرة للجاوود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده متصحباً، يعني نائماً، فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن لنا فنساقطه الحديث، فإن حدثناه أحسن الاستماع، وإن حدثنا أحسن الحديث، ثم يدعو بمائدته، وقد تقدم إلى جواريه وأمهات أولاده أن لا تلطفه واحدة منهن إلا إذا وضعت مائدته، ثم يقبل خبازه، فيمثل بين يديه، فيقول: ما عندك اليوم؟ فيقول: عندي كذا عندي كذا، فيعدد كل ما عنده، ويصفه، يريد بذلك أن يحبس كل رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام، وتقبل الألطاف من هاهنا وهاهنا، وتوضع على المائدة، ثم يؤتى بثريدة شهباء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من العراق، فنأكل معه، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون جثا على ركبتيه، ثم استأنف الأكل معهم. فقال أبو بردة: لله در عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس.
وحضر أعرابي طعام عبد الأعلى، فلما وقف الخباز بين يديه ووصف ما عنده قال: أصلحك الله، أتأمر غلامك يسقيني ماء؟ فقد شبعت من وصف هذا الخباز.
وقال له عبد الأعلى يوماً: ما تقول يا أعرابي لو أمرت الطباخ فعمل لون كذا، ولون كذا؟ قال: أصلحك الله لو كانت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع سجود.
أبو عبيدة قال: مر الفرزدق بيحيى بن المنذر الرقاشي فقال له: هل لك أبا فراس في جدي رضيع، ونبيذٍ صليب منشراب الزبيب؟ قال: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة.
وقال الأحوص لجرير لما قدم المدينة: ماذا ترى أن نعد لك؟ قال: شواء وطلاء، وغناء. قال: قد أعد لك.
وقال مساور الوراق في وصف طعام:
اسمع بنعتي للملوك ولا تكن ... فيما سمعت كميت الأحياء
إن الملوك لهم طعامٌ طيب ... يستأثرون به على الفقراء
إني نعت لذيذ عيشي كله ... والعيش ليس لذيذه بسواء
ثم اختصصت في اللذيذ وعيشه ... صفة الطعام لشهوة الحلواء
فبدأت بالعسل الشديد بياضه ... شهد تباكره بماء سماء
إني سمعت لقول ربك فيهما ... فجمعت بين مبارك وشفاء
أيام أنت هناك بين عصابة ... حضروا ليوم تنعم أكفاء
لا ينطقون إذا جلست إليهم ... فيما يكون بلفظةٍ عوراء
متنسمين رياح كل هبوبة ... بين النخيل بغرفة فيحاء
فقعدت ثم دعوت لي بمبذرف ... متشمر يسعى بغير رداء
قد لف على عضلاته ... قلص القميص مشمر سعاء
فأتى بخبز كالملاء منقط ... فبناه فوق أخاون الشيزاء
حتى ملاها ثم ترجم عندها ... بالفارسية داعياً بوحاء
فإذا القصاع من الخلنج لديهم ... تبدن جوانبها مع الوصفاء

ارفع وضع وهنا وهاك وهاهنا ... قصف الملوك ونهمة القراء
يؤتون ثم بلون كل طريفة ... قد خالفته موائد الخلفاء
من كل فرني وجدي راضع ... ودجاجة مربوبة عشواء
ومصوص دراج كثير طيب ... ونواهض يؤتى بهن شواء
وثريدة ملمومة قد سقفت ... من فوقها بأطايب الأعضاء
وتزينت بتوابل معلومة ... وخبيصاتٍ كالجمان نقاء
هذا الثريد وما سواه تعلل ... ذهب الثريد بنهمتي وهوائي
ولقد كلفت بنعت جدي راضع ... قد صنته شهرين بين رعاء
قال نال من لبن كثير طيب ... حتى تفتق من رضاع الشاء
من كل أحمر لا يقر إذا ارتوى ... من بين رقص دائم ونزاء
متعكن الجنبين صافٍ لونه ... عبل القوائم من غذاء رخاء
فإذا مرضت فداوني بلحومها ... إني وجدت لحومهن دوائي
ودع الطبيب ولا تثق بدوائه ... ما خالفتك رواضع الجزاء
إن الطبيب إذا حباك بشربة ... تركتك بين مخافة ورجاء
وإذا تنطع في دواء صديقه ... لم يعد ما في جونة الرقاء
نعت الطبيب هليلجاً وبليلجاً ... ونعت غيرهما من الحلواء
رطب المشان مجزعاً يؤتى به ... والرازقي فما هما بسواء
وبنانياً زرقاً كأن بطونها ... قطع الثلوج نقية الأمعاء
ليست بآكلة الحشيش ولا التي ... يبتاعها الخناق في الظلماء
باب آداب الأكل والطعام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الأكل في السوق دناءة " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " سموا إذا أكلتم، واحمدوا إذا فرغتم " . وكان يلطع أصابعه بعد الطعام.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعد الطعام ينفي اللمم.
ومن الأدب في الوضوء أن يبدأ صاحب البيت فيغسل يديه قبل الطعام، ويقدم أصحابه بعد الطعام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " املكوا العجين فإنه أحد الريعين " .
وكان فرقد يقول لأصحابه: إذا أكلتم فشدوا الإزار على أوساطكم، وصغروا اللقم، وشدوا المضغ، ومصوا الماء، ولا يحل أحدكم إزاره فيتسع معاه، ويأكل كل واحد ما بين يديه.
وقالوا: كان ابن هبيرة يباكر الغداء، فسئل عن ذلك فقال: إن فيه ثلاث خصال: أما الواحدة: فإنه ينشف المرة، والثانية: أنه يطيب النكهة، والثالثة: أنه يعين على المروءة. فقيل له: وكيف يعين على المروءة؟ قال: إذا خرجت من بيتي وقد تغديت، لم أتطلع إلى طعام أحدٍ من الناس.
البطنة وقولهم فيها
قالوا: البطنة تذهب الفطنة.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأليون، ملك الروم: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل ما وجد.
وحضر أبو بكرة سفرة معاوية ومعه ولده عبد الرحمن، فرآه يلقم لقماً شديداً، فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة، فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اعتل. قال: مثله لا يعدم العلة.
ورأى أبو الأسود الدؤلي رجلاً يلقم لقماً منكراً، فقال: كيف اسمك؟ قال: لقمان، قال: صدق الذي سماك.
ورأى أعرابي رجلاً سميناً، فقال له: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك.
وقعد أعرابي على مائدة المغيرة، فجعل ينهش ويتعرق، فقال المغيرة: يا غلام، ناوله سكيناً. قال الأعرابي: كل امرئ سكينه في رأسه.
قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات جفافين من العراق، فأضرب فيها كما يضرب الولي السوء في ما اليتيم.
وقال أعرابي:
ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً ... وخيلاً من البرني فرسانها الزبد
فأطلب فيما بينهن شهادة ... بموت كريمٍ لا يعد له لحد

واصطحب شيخ وحدث من الأعراب في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ مخلع الأضراس، وكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشكو العشق، والشيخ يتضور جوعاً، وكان يسمى جعفراً، فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفراً ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسك الحب لم تبت ... بطيناً ونساك الهوى شدة الأكل
الأصمعي قال: تقول العرب في الرجل الأكول: إنه برم قرون.
البرم: الذي يأكل مع الجماعة ولا يجعل شيئاً. والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين ويأكل أصحابه تمرة تمرة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن.
وكان عبد الله بن الزبير إذا قدم التمر إلى أصحابه قال عبد الله بن عمر: إياكم والقران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
وقيل لبسرة الأحول: كم تأكل كل يوم؟ قال: من مالي أو من مال غيري؟ قيل له: من مالك. قال: مكوكاً. قيل: فمن مال غيرك، قال: اخبزوا واطرحوا.
وقال رجل من أهل العراق في قينة حفص الكاتب:
قينة حفص ويلها ... فيها خصالٌ عشره
أولها أن لها ... وجهاً قبيح المنظره
ودارها في وهدةٍ ... أوسع منها القنطره
تأكل في مقعدها ... ثوراً وتخرى بقره
قال تأبط شراً: ما أحببت شيئاً قط حبي ثلاثة: أكل اللحم، وركوب اللحم، وحك اللحم باللحم.
وقال أبو اليقظان: كان هلال بن الأسعر التميمي أكولاً، فيزعمون أنه أكل جملاً، وأكلت امرأته فصيلاً، فلما أراد أن يجامعها لم يصل إليها، فقالت له: وكيف تصل إلي وبيني وبينك بعيران.
وكان الواثق واسمه هارون بن محمد بن هارون أكولاً، وكان مفتوناً بحب الباذنجان، وكان يأكل في أكلة واحدة أربعين باذنجانة، فأوصى إليه أبوه - وكان ولي عهده - ويلك متى رأيت خليفة أعمى؟ فقال للرسول: أعلم أمير المؤمنين أني تصدقت بعيني جميعاً على الباذنجان.
وكان سليمان بن عبد الملك من الأكلة، حدث العتبي عن أبيه عن المشردل وكيل عمرو بن العاص قال: لما قدم سليمان الطائف دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب وابنه بستاناً لعمرو بن العاص فجال فيه ساعة، ثم قال: ناهيكم بمالكم هذا مالاً، ثم ألقى صدره على غصن، وقال: ويلك يا شمردل ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى إن عندي جدياً كانت تغدو عليه بقرة وتروح عليه أخرى. قال: عجل به. قال: فأتيته به كأنه عكة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص. قال: إني صائم. فأتى عليه، ثم قال: ويلك يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قال: بلى والله عندي خمس دجاجات هنديات كأنهن رثلان النعام. قال: فأتيت بهن فكان يأخذ برجلي الدجاجة فيلقي عظامها نقية حتى أتى عليهن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، إن عندي حريرة كأنها قراضة الذهب. فقال: عجل بها. فأتيته بعس يغيب فيه الرأس، فجعل يلاطمها بيديه ويشرب، فلما فرغ تجشأ فكأنما صاح في جب، ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائي؟ قال: نعم. قال: وما هو؟ قال: ثمانون قدراً، قال: ائتني بها قدراً قدراً، قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقل ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس ووضعت المائدة وقعد فأكل مع الناس، فما أنكرت من أكله شيئاً.
وقال الأصمعي: كنت يوماً عند هارون الرشيد، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: حدثني بحديث مزرد أخي الشماخ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن مزرداً كان رجلاً جشعاً نهماً، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه، وكان ذلك مما يضريه ويحفظه، فذهبت يوماً في بعض حقوق أهلها وخلفت مزرداً في بيتها ورحلها، فدخل الخيمة فأخذ صاعين من دقيق، وصاعاً من عجوة، وصاعاً من سمن، فضرب بعضه ببعض فأكله، ثم أنشأ يقول:
ولما مضت أمي تزور عيالها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... رؤوس رخال قطعت لا تجمع
وقلت لبطني أبشري اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيد وتجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبع

قال: فاستضحك هارون حتى أمسك على بطنه واستلقى على ظهره، ثم قعد فمد يده، وقال: خذ، فذا يوم تشبع يا أصمعي.
وقال حميد الأرقط، وهو الذي يقال له: " هجاء الأضياف " ، يصف أكل الضيف:
تجهز كفاه ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
أتانا وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وقال:
لا أبغض الضيف ما بي جل مأكله ... إلا تنفجه حولي إذا قعد
ما زال ينفخ جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
وقال:
لا مرحباً بوجوه القوم إذ نزلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين
ألقيت جلتنا الشهريز بينهم ... كأن أظفارهم فيها سكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين
أبو الحسن المدائني قال: أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك، وهو بدابق، بسلين، أحدهما مملوء بيضاً، والآخر مملوء تيناً، فقال: اقشروا، فجعل يأكل بيضة وتينة حتى فرغ من السلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله، فأتخم ومرض فمات.
والأكلة كلهم يعيبون الحمية، ويقولون: الحمية إحدى العلتين.
وقالوا: من احتمى فهو على يقين من المكروه، وفي شك من العافية.
وقالوا: الحمية للصحيح ضارة، وللعليل نافعة.
الحمية وقولهم فيها
قيل لبقراط: مالك تقل الأكل جداً؟ قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل.
وأجمعت الأطباء على أن رأس الداء كله إدخال الطعام على الطعام، وقالوا: احذروا إدخال اللحم على اللحم، فإنه ربما قتل السباع في القفر. وأكثر العلل كلها إنما يتولد من فضول الطعام.
والحمية مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى صهيباً يأكل تمراً وبه رمد، فقال: " أتأكل تمراً وأنت أرمد؟ " .
ودخل على علي رضي اللهعنه، وهو عليل وبيده عنقود عنب، فنزعه من يده.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم " .
وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. يريد قلة الأكل. ومنه قيل للمجاعة: الأزمة، وللكثير أزمات.
وقيل لآخر: ما أفضل الدواء؟ قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه.
أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل للمنذر بن جندب: إن ابنك أكل طعاماً كظله حتى كاد يقتله. قال: لو مات ما صليت عليه.
ودعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى الغداء، فقال: ما في فضل يا أمير المؤمنين. قال: لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل.
وقال الأحنف بن قيس: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصافاً لبطنه وفرجه.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأدواء أطيب؟ قال: الجوع ما ألقيت إليه من شيء قبله.
وقال رجل من أهل الشام، لرجل من أهل المدينة: عجبت منكم، أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: أوتدري من أين ذلك؟ قال: لا أدري. قال: من الجوع، ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لما خلا جوفه.
وقال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه يوم الرأس، وكان له يوم معروف يأكل فيه رأساً لا محالة، وكان يجلس ابنه معه: ويقول: إياك يا بني ونهم الصبيان، وأخلاق النوائح، ونهش الأعراب، وكل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو مضغة شهية، أو شيء مستطرف، فإنما ذلك للشيخ المعظم، أو للصبي المدلل، ولست بواحد منهما. وقد قالوا: مدمن اللحم كمدن الخمر. أي بني، عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنساناً، فلا تجعل نفسك بهيمة. واحذر صرعة الكظة، وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهماً فعد نفسك من الزمنى، واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، وأن السقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره.
أي بني، والله ما أدى الركوع والسجود ذو كظة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والوجبات عيش الصالحين.

أي بني؛ لأمر ما طالت أعمار أهل الهند، وصحت أبدان العرب، ولله در الحارث بن كلدة، إذ زعم أن الدواء هو الأزم، فالداء كله من فضول الطعام، فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بني، لم صار الضب أطول عمراً، إلا لأنه يتبلغ بالنسيم؟ ولم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الصوم وجاء؟ إلا لأنه جعله حجازاً دون الشهوات؟ فافهم تأديب الله عز وجل، وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام.
أي بني، قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك.
سياسة الأبدان بما يصلحها
قال الحجاج بن يوسف للباذون طبيبه: صف لي صفةً آخذ بها نفسي ولا أعدوها. قال له: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل اللحم إلا فتياً، ولا تأكله حتى تنعم طبخه، ولا تشرب دواء إلا من علة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلا أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام، واشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل، ولا تحبس الغائظ ولا البول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة.
قيل ليهود خيبر: بم صححتم على وباء خيبر؟ قالوا: بأكل الثوم، وشرب الخمر، وسكنى اليفاع، وتجنب بطون الأودية، والخروج من خيبر عند طلوع النجم وعند سقوطه.
وقال قيصر لقس بن ساعدة: صف لي مقدار الأطمعة. فقال: الإمساك عن غاية الإكثار، والبقيا على البدن عند الشهوة. قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة الإنسان قدره. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف الإنسان عند منتهى علمه.
وسأل عبد الملك بن مروان أبا المفوز: هل أتخمت قط؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظ المعدة ولا نخليها.
وقيل لبزر جمهر: أي وقت فيه الطعام أصلح؟ قال: أما لمن قدر فإذا جاع ولمن لم يقدر فإذ وجد.
وقال: أربع يهدمن العمر، وربما قتلن: الحمام على البطنة، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجاف، وشرب الماء البارد على الريق.
وقال إبراهيم النظام: ثلاثة أشياء تفسد العقل: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر في البحر.
الأصمعي قال: جمع هارون من الأطباء أربعة: عراقياً، ورومياً، وهندياً، ويونانياً، فقال: ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي لا داء معه. فقال العراق: الدواء الذي لاداء معه حب الرشاد الأبيض. وقال الهندي: الإهليلج الأسود. وقال الرومي: الماء الحار، وقال اليوناني - وكان أطبهم - حب الرشاد الأبيض يولد الرطوبة، والماء الحار يرخي المعدة، والإهليلج الأسود يرق المعدة، لكن الدواء الذي لا داء معه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه.
تدبير الصحة
ثم نذكر بعد هذا من وصف الطعام وحالاته، وما يدخل على الناس من ضروب آفاته، باباً في تدبير الصحة التي لا تقوم الأبدان إلا به، ولا تنمى النفوس إلا عليه.
وقد قال الشافعي: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان.
ولم نجد بداً - إذ كانت جملة هذه المطاعم التي بها نمو الغراسة، وعليها مدار الأغذية تضر في حالة، وتنفع في أخرى - من ذكر ما ينفع منها ومقدار نفعه، وما يضر منها ومبلغ ضره، وأن نحكم على كل ضرب منها بالأغلب عليه من طباعه، وقلما نجد شيئاً ينفع في حالة إلا وهو يضر في الأخرى، ألا ترى أن الغيث الذي جعله الله رحمة لخلقه، وحياة لأرضه، قد يكون منه السيول المهلكة، والخراب المجحف؟ وأن الرياح التي سخرها الله مبشرات بين يدي رحمته، قد أهلك باه قوماً وانتقم بها من قوم؟ وفي هذا المعنى قال حبيب الطائي:
ولم تر نفعاً عند من ليس ضائراً ... ولم تر ضراً عند من ليس ينفع
قال خالد بن صفوان لخادمه: أطعمينا جبناً، فإنه يشهي الطعام، ويهيج المعدة، وهو حمض العرب. قال: ما عندنا منه شيء. فقال: لا عليك، فإنه يقدح الأسنان، ويشد البطن.

ولما كانت أبدان الناس دائمة التحلل، لما فيها من الحرارة الغريزية من داخل، وحرارة الهواء المحيط بها من خارج، احتاجت إلى أن يخلف عليها ما تحلل، واضطرت بذلك إلى الأطعمة والأشربة، وجعلت فيها قوة الشهوة ليعلم بها وقت الحاجة منها إليها، ومقدار ما يتناول منها، والنوع الذي يحتاج إليه، ولأنه لا يخلف الشيء الذي يتحلل ولا يقوم مقامه إلا مثله، وليس تستطيع القوة التي تحيل الطعام والشراب في بدن الإنسان أن تحيل إلا ما شاكل البدن وقاربه. فإذا كان هذا هكذا، فلا بد لمن أراد حفظ الصحة أن يقصد لوجهين: أحدهما أن يدخل على البد الأغذية الموافقة لما يتحلل منه، والآخر أن ينفي عنه ما يتولد فيه من فضول الأغذية.
ما يصلح لكل طبيعة من الأغذية
وينبغي لك أن تعرف اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، لتعرف بذلك موافقة كل نوع من الأطعمة لكل صنف الناس. وذلك أن الأغذية مختلفة، فمنها معتدلة، كالتي يتولد منها الدم الخالص النقي، ومنها غير معتدلة، كالتي يتولد منها البلغم والمرة الصفراء والسوداء، والرياح الغليظة، ومنها لطيفة، ومنها غليظة، ومنها ما يتولد منه كيموس لزج، وكيموس غير لزج ومنها ما له خاصة منفعة أو مضرة في بعض الأعضاء دون بعض. فقد يجب متى كان المستولي على البدن الدم النقي أن تكون أغذيته قصداً في قدرها، معتدلة في طبائعها. ومتى كان الغالب عليه البلغم، فيجب أن تكون مسخنة أو يغتذي بما يزيد في الحرارة، ويقمع الرطوبة. ومتى كان الغالب عليه المرة السوداء، فينبغي له أن يغتذي بالأغذية الحارة الرطبة. ومتى كان الغالب عليه المرة الصفراء، فيغتذى بالأغذية الباردة الرطبة، ومتى كان البدن مستحصفاً عسر التحلل، فينبغي أن يغتذى بأغذية يسيرة لطيفة جافة، ومتى كان متخلخلاً فينبغي له أن يتعذى بأغذية لزجة، لكثرة ما يتحلل من البدن.
فهذا التدبير ينبغي أن يلتزم، ما لم يكن في بعض أعضاء البدن ألم، فينبغي أن يستعمل النظر في الأغذية الموافقة للعضو الألم، لأنا ربما اضطررنا إلى استعمال ما يوافق العضو الآلم إن كان مخالفاً لسائر البدن، كما أنه لو كانت الكبد باردة ضيقة المجاري، احتجنا إلى استعمال الأغذية اللطيفة، وتجنب الأغذية الغليظة، وإن كان سائر البدن غير محتاج إليها لضعف أو نحافة، لئلا تحدث الطبيعة في الكبد سدداً، وربما كانت الكبد حارة فتحذره الأغذية الحلوة، وإن احتاج إليها، لسرعة استحالتها إلى المرة الصفراء. وربما كانت المعدة ضعيفة، فتحتاج إلى ما يقويها من الأغذية، وربما كان يولد الطعام فيها بلغماً، فتحتاج إلى ما يقمع الصفراء، وإلى تجنب الأشياء المولد لها. وربما كان الطعام يبقى على رأس المعدة طافياً، فيستعمل الأغذية الغليظة الراسية ليتثقل بثقلها إلى أسفل المعدة، وتأمره بحركة يسيرة بعد الطعام، لينحط الطعام عن رأس المعدة. وربما كان رأس المعدة حاراً قابلاً للحار فيتجنب الأغذية الحارة، وإن احتاج إليها سائر البدن.
الحركة والنوم مع الطعام
وينبغي ألا يقتصر على ما ذكرنا دون النظر في مقدار الحركة قبل الطعام، والنوع بعده، فمتى كانت الحركة قبل الطعام كثيرة، غذيناه بأغذية كثيرة غليظة لزجة إلى اليبس ما هي، بطيئة التحلل، ولم نأمره بالحمية، لقلة الحاجة إليها. ومتى لم تكن قبل الطعام حركة، أو كانت يسيرة، فينبغي ألا يقتصر على الحمية، بقلة الطعام ولطافته، دون أن يستعين على تخفيف ما يتولد في البدن من الفضول باستفراغ الأدوية المسهلة، وبالحمام، وبإخراج الدم. ومتى كانت الحركة كافية، استعملنا الأغذية المعتدلة في كثرتها، وقد لطافتها وغلظها. ومت كان النوم بعد الطعام كثيراً احتجنا إلى استعمال أغذية كثيرة غزيرة الغذاء، لطول الليل، وكثرة النوم، ومتى كان النوم قليلاً احتجنا إلى الطعام القليل الخفيف اللطيف، كالذي يغتذي به في الصيف، لقصر الليل وقلة النوم.
تقدير الطعام وما يقدر منه وما يؤخر
ويجب في الطعام أن يقدر فيه اربعة أنحاء: أولها ملاءمة الطعام لبدن المغتذي به في الوقت الذي يعتذي به فيه، كما ذكرنا آنفاً: أنه متى كان الغالب على البدن الحرارة احتاج إلى الأغذية البادرة. ومتى كان الغالب عليه البرد احتاج إلى الأغذية الحارة، ومتى كان معتدلاً احتاج إلى الأغذية المعتدلة المشاكلة له.

والنحو الثاني: تقدير الطعام بأن يكون على مقدار قوة الهضم، لأنه وإن كان في نفسه محموداً وكان ملائماً للبدن، وكان أكثر من قد احتمال قوة الهضم، ولم يستحكم هضمه، تولد منه غذاء رديء.
والنحو الثالث: تقديم ما ينبغي أن يقدم من الطعام، وتأخير ما ينبغي أن يؤخر منه، ومثل ذلك أنه ربما جمع الإنسان في أكلة واحدة طعاماً يلين البطن، وطعماً يحبسه. فإن هو قدم الملين وأتبعه الآخر سهل انحدار الطعام منه، ومتى قدم الطعام الحابس وأتبعه الملين لم ينحدر وفسدا جميعاً. وذلك أن الملين حال فيما بينه وبين النزول الطعام الحابس، فبقي في المعدة بعد انهضامه، ففسد به الطعام الآخر. ومتى كان الطعام الملين قبل الحابس انحدر الملين بعد انهضامه، وسهل الطريق لانحدار الحابس. وكذلك أيضاً إن جمع أحد في أكلة واحدة طعاماً سريع الانهضام وآخر بطيء الانهضام، فينبغي له أن يقدم البطيء الانهضام ويتبعه السريع الانهضام، ليصير البطيء في قعر المعدة؛ لأن قعر المعدة أسخن، وهو أقوى على الهضم، لكثرة ما فيه من أجزاء اللحم المخالطة له، وأعلى المعدة عصبي بارد لطيف ضعيف الهضم. ولذلك إذا طفا الطعام على رأس المعدة لم ينهضم.
والنحو الرابع: أن من يتناول الطعام الثاني بعد انحدار الأول، وقد قدم قبله حركة كافية، وأتبعه بنوم كاف، استمرأه. ومن أخذ وقد بقي في معدته أو أمعائه بقية من الطعام الأول غير منهضمة، فسد الطعام الثاني ببقية الأول.
باب الحركة والنوم مع الطعام
ومن أكل الطعام بعد حركة كافية، وأخذه على حاجة من البدن إليه، وافى الطعام الحرارة الغريزية بمنزلة النار إذا اشتعلت. ومن تناول طعاماً من غير حركة وأخذه على غير حاجة من البدن إليه وافى الطعام الحرارة الغريزية خامدة، بمنزلة النار الكامنة في الزناد. ومن اتبع الطعام بنوم بطنت الحرارة الغريزية فيه، فاجتمعت في باطن البطن، فهضمت طعامه. ومن اتبع الطعام بحركة انحدر عن معدته غير منهضم، وابنث في العروق غير مستحكم، فأحدث سدداً وعللاً في الكبد والكلى وسائر الأعضاء. وربما كانت الأطعمة لضعف المعدة تطفو فيها وتصير في أعلاها، فلا نأمره بالنوم حتى ينحدر الطعام على المعدة بعض الانحدار، حتى يصير في قعر المعدة. وربما أمرنا بحركة يسيرة كما ذكرنا آنفاً لانحدار الطعام عن المعدة بعض الانحدار.
وإن أكثر الشراب منع الطعام من الانهضام، لأنه يحول فيما بين جرم المعدة وبين الطعام، وإذا لم تلق المعدة الطعام لم تحله إلى مشاكلة البدن وموافقته، فيبقى فيها غير منهضم، فيجب لذلك على من أخذ الطعام أن يتناول معه من الشراب ما يسكن به جل العطش ويصبر على قدر احتماله من العطش، ويصبر حتى ينهضم، ثم يتناول بعد ذلك من الشراب ما أحب، فإنه عند ذلك يعين على انحدار الطعام وترقيقه، لتنفيذه في المجاري الدقاق. ويجب أيضاً أن يكون أخذه للطعام في وقت حركة الشهوة. وذلك أنه إذا تحركت الشهوة ولم يبادر بأخذ الطعام اجتذبت المعدة من فضول البدن ما صار في المعدة أبطل الشهوة، وأفسد الطعام إذا خالطه.
الأوقات التي يصلح فيها الطعام
أجود الأوقات كلها الطعام: الأوقات الباردة، لجمعها الحرارة في باطن البدن، فأما الأوقات الحارة فينبغي أن يتجنب أخذ الطعام فيها، لأن حرارة الهواء تجذب الحرارة الباطنة الغريزية إلى ظاهر البدن ويخلو منها باطنه، فتضعف الحرارة في باطن البدن عن هضمه، فلذلك كانت القدماء تفضل العشاء على الغداء، لما يلحق العشاء من اجتماع الحرارة في باطن البدن، لبرد الليل والنوم، ولأن الحرارة في النوم تبطن وتسخن باطن البدن ويبرد ظاهره، واليقظة على خلاف ذلك، لأن الحرارة تنتشر في ظاهر البدن وتضعف في باطنه.

والذي يحتاج إلى كثرة الغذاء من الناس من كان الغالب على بدنه الحرارة، وكانت كبده لحرارتها سريعة التوليد للمرة الصفراء، فلذلك يحتاج إلى الأطعمة الغليظة البطيئة الانهضام ويستمرئها، ويستمرئ لحم البقر، ولا يستمرئ لحم الدجاج وما أشبهه من الأطعمة الخفيفة. ولا يصلح شيء من هذه إلا في وقت تحرك الشهوة، فإنه أفضل وقت يؤخذ فيه الطعام. وللعادة في هذا حظ عظيم، ألا ترى أنه من اعتاد الغداء فتركه واقتصر على العشاء عظم ضرر ذلك عليه، ومن كانت عادته أكلة واحدة فجعلها أكلتين لم يستمرئ طعامه؟ ومن كانت عادته أن يجعل طعامه في وقت من الأوقات، فنقله إلى غير ذلك الوقت أضر ذلك به، وإن كان قد نقله إلى وقت محمود. فيجب لذلك أن يتبع العادة إذا تقادمت فطالت، وإن كانت ليست بصواب، إذا لم يحدث شيء اضطره إلى نقلها، لأن العادة طبيعة ثانية، كما ذكر الحكيم أبقراط. فإن حدث شيء يدعوه إلى الانتقال عنها فأوفق الأمور في ذلك أن ينتقل عنها قليلاً قليلاً. وللشهوة أيضاً في استمراء الطعام أعظم الحظ، لأنها دليل على الموافقة والملاءمة، فمتى كان طعامان مستويان في الجودة، وكانت شهوة المحتاج إليهما أميل إلى أردئهما، اخترناه على الأجود، إذا لم نخف منه ضرراً أكثر مما ينال منه من المنفعة، لحسن قبول المعدة له واستمرائها إياه.
فقد بان أنه يحتاج في حسن استعمال الأغذية وجودة تخير الأطعمة إلى معرفة اختلاف الطبائع وحالاتها.
فقد بينت اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، وما يجب على كل واحد منها من أنواع الأطعمة والأشربة. وبقي أن نبقي اختلاف قوى الأطعمة والأشربة، وأن أصف أنواع الأغذية، وأسمي ما في كل صنف منها، إن شاء الله تعالى.
أنواع الأطعمة
الأطعمة اللطيفة
هي التي يتولد منها دم لطيف. فمنها لباب خبز الحنطة، والحب المقشور، ولحم الفراريج، ولحم الدراج والطيهوج، والحجل، وأجنحة جميع الطيور، وما لان لحمه من صغار السمك ولم تكن فيه لزوجة، والقرع، والماش، وما أشبهه. وهذا الجنس من الأطعمة نافع لمن ليست له حركة، وكانت الحرارة الغريزية في بدنه ضعيفة، ولم يأمن أن يتولد في بدنه كيموس غليظ، ويتولد في كبده أو طحاله سدد، أو في كلاه، أو في صدره، أو في دماغه، أو في شيء من مفاصله من البلغم.
الأطعمة اللطيفة في نفسها الملطفة لغيرها
هي التي يكون ما يتولد منها لطيفاً، وتلطف ما تلقاه من الكيموس اللزج الغليظ في البدن.
وهذا الجنس من الأطعمة أربعة أصناف: صنف منها حلو لطيف، لما فيه من قوة الجلاء، مثل ماء الشعير، والبطيخ، والتين اليابس، والجوز، والقسطل، والعسل، ما يعمل منه من الناطف. وهذا الجنس في منفعته من جنس الأول من الأطعمة اللطيفة، إلا أنه أبلغ في تلطيف البدن.
والصنف الثاني حار حريف: كالحرف، والثوم، والكراث، والكرفس، والكرنب والجرجير، والصعتر، والنعنع، والرازيانج، والشراب الأصفر اللطيف العتيق الحار.
وهذا كله نافع لمن احتاج إلى فتح السدد التي في الكبد والطحال والصدر والدماغ، وتقطيع البلغم وترقيقه. ولا ينبغي لأحد أن يكثر استعماله لأنه يرقق الدم أولاً ويصيره مائياً، فيقل لذلك غذاء البدن. ويضعف ثم إنه يسخن البدن سخونة مفطرة، فيصير أكثره مرة صفراء، ثم إنه بعد ذلك إذا تمادى مستعمله في استعماله حلل لطيف الدم وترك غليظه، فصار أكثر مرة سوداء، وربما تولد من ذلك حجارة في الكلى. ومضرة هذا الصنف أشد ما تكون على من كانت المرة الصفراء غالبة عليه.
والصنف الثالث: يذيب ويلطف بملوحته، كالمري، وما لان لحمه وقل شحمه من السمك إذا ملح، والسلق، وماء الجبن، وكل ما جعل فيه من الأطعمة الملح والمري والبورق. ومنافع هذا النصف ومضاره قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارها، إلا أن هذا الصنف في تنقية المعدة والأمعاء وتليين الطبيعة أبلغ.
والصنف الرابع: يقطع ويلطف بحموضته، كالخل، والسكنجبين، وحماض الأترج، وماء الرمان الحامض، وكل ما يتخذ بها من الأطعمة. وهذا الصنف نافع لمن كان معدته وسائر بدنه حاراً إذا تولد فيها البلغم من غلظ ما يتناول من الأغذية ومن كثرتها.
الأطعمة الغليظة في نفسها الملطفة لغيرها

منها البصل، والجزر، والفجل، والسلجم، وما أشبه ذلك. فهذه الأطعمة في نفسها غليظة وتلطف ما تلقى من الشيء الغليظ، بما فيها من الحدة والحرافة، وهي تولد كيموساً غليظاً. ومتى ما طبخ شيء منها أو شوي ذهب عنه قوة الحرافة والتقطيع، وبقي جرمه غليظاً رديئاً، وقد يتناول للمنفعة بتقطيع هذه الأطعمة وتلطيفها، ويسلم من غلظ جرمها على إحدى ثلاث جهات: إما أن تطبخ فتلطف، كالذي يفعل بالبصل، وإما أن تعصر أو تطبخ ثم يستعمل ماؤها، وإما أن تؤكل نيئة فتقطع البلغم، كالذي يفعل بها جميعاً.
الأطعمة الغليظة
الغالب على الأطعمة الغليظة كلها اليبس واللزوجة. فمنها شيء يكون اليبس واللزوجة من طبعه. ومنها ما يكتسب اليبس من غيره. فالذي يكون اليبس من طبعه العدس، ولحم الأرانب، والبلوط، والشاه بلوط، والكمأة، والباقلي المقلو. هذه كلها غليظة، لأن اليبس في طبائعها. وأما الذي يكتسب اليبس من غيره فالكبود والبيض المسلوق والمشوي وما قلي منه، واللبن المطبوخ طبخاً كثيراً، والضروع، وعصير العنب المطبوخ، لا سيما إن كان العصير غليظاً. فهذه كلها غليظة، لأن الحرارة بالطبخ أحدثت لها يبساً وانعقاداً. وأما لحوم الإبل، ولحوم التيوس، ولحوم البقر، والكروش والأمعاء، فإنها غليظة بصلابتها. وكذلك الترمس، وثمر الصنوبر، والسلجم، واللوبيا، وما خبز على الفرن، فإن ظاهره غليظ لما أحدثت له النار من اليبس، وباطنه غليظ لما فيه من اللزوجة. وكذلك كل ما لم يجود عجنه أو خبزه أو إنضاجه من خبز التنور، وكل ما خبز على الطابق بدهن أو غيره، والسمن والفطر والشهد واللبن والأدمغة، فإنها كلها غليظة للزوجة فيها طبيعية. وأما الفالوذج فإنه غليظ للزوجته، والانعقاد الحادث له من الطبخ. وأما الباذنجان فإنه غليظ لليبس وللزوجة في طبعه. وأما الخبز فإنه غليظ لاجتماع الحالات الثلاث فيه. فأما السمك الصلب اللزج فإنهغليظ، لاجتماع الصلابة واللزوجة فيه. وأما الآذان والشفاه وأطراف العضل، فإنها تولد كيموساً لزجاً ليس بالغليظ، وقد تولد ما يعرض من الأغذية الباردة عن هضمها وتلطيفها، كالذي يعرض من أكل الفاكهة قبل نضجها، ومن أكل الخيار والقثاء، وشحم الأترج واللبن الحامض. فهذه الأطعمة الغليظة كلها إن صادفت بدناً حاراً كثير التعب قليل الطعام كثير النوم بعد الطعام، انهضمت وغذت البدن غذاء كثيراً نافعاً، وقوته تقوية كثيرة. وأحمد ما تستعمل هذه الأغذية في الشتاء، لاجتماع الحرارة في باطن البدن وطول النوم، ومتى أحس أحد في بدنه نقصاناً بيناً. وإن أكلها من يجد الحرارة في بدنه قليلة ولا سيما في معدته، وتعبه قليل، ونومه بعد الطعام قليل، لم يستحكم انهضامها، وتولد منها في البدن كيموس غليظ حار يابس يتولد منه سدد في الكبد والطحال. فلذلك ينبغي لمن أكل طعاماً غليظاً من غير حاجة إليه لعلة أو شهوة أن يقل منه ولا يفرده، ولا يدمنه. وما كان من الأطعمة الغليظة له مع غلظه لزوجة فهو أغذاها للبدن، فإن لم تنهضم فهو أكثرها توليداً للسدد.
الأطعمة المتوسطة
المتوسطة بين الغلظة واللطيفة، تصلح لمن كان بدنه معتدلاً صحيحاً، ولم يكن تعبه كثيراً. وأجود الأغذية له المتوسط، لأنها لا تنهكه ولا تضعفه كاللطيفة، ولا تولد خاماً ولا سدداً كالغليظة، وهي كل ما أحكم صنعه من الخبز، ولحوم البقر، والدجاج، والجداء، والحولية من الماعز. وأما لحوم الخرفان والضأن كلها فرطبة لزجة. وأما لحم فراخ الحمام والقطا فهي تولد دماً سخناً، وأغلظ من الدم المعتدل. وأما فراخ الوراشين فإنها مثل فراخ الحمام والقطا والإوز، فأجنحتها معتدلة، وسائر البدن كثير الفضول.
وكل ما كثرت حركته من الطير وكان مرعاه في موضع جيد الغذاء، صافي الهواء، كان أجود غذاء وألطف. وكل ما كان على خلاف ذلك فهو أردأ غذاء وأوسخ.
وكل ما لم يستحكم نضجه من البيض، وخاصة ما ألقي على الماء الحر، وأخذ من قبل أن يشتد، فهو معتدل. وكل ما كان من لحم السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة والزهومة، وكان مرعاه ماء نقياً من الأوساخ والحمأة فهو معتدل جيد الغذاء.
ومن الفواكه التين والعنب، إذا استحكم نضجهما على الشجر وأسرعت الانحدار إلى الجوف، كان ما يتولد منها معتدلاً، فإن لم تسرع الانحدار فلا خير فيها.
ومن البقول الهندبا، والخس، والهليون.

ومن الأشربة ما كان لونه ياقوتياً صافياً، ولم يكن عتيقاً جداً.
الأطعمة الحارة
يحتاج إليها من كان الغالب عليه البرودة، وفي الأوقات الباردة والبلاد الباردة. وينبغي أن يجتنبها من كان حار البدن، وفي الأوقات الحارة، وفي البلاد الحارة. منها الحنطة المطبوخة، والخبز المتخذ من الحنطة، والحمص، والحلبة، والسمسم، والشهدانج، والعنب الحلو، والكرفس، والجرجير، والفجل، والسلجم، والخردل، والثوم، والبصل، والكراث، والخمر العتيق. وأسخن الأشربة الحارة العتيق الأصفر.
الأطعمة الباردة
ينبغي أن يستعملها من كان حار البدن، وفي الأوقات الحارة، والبلد الحار. وهي الشعير وكل ما يتخذ منه، والجاورس، والدخن، والقرع، والبطيخ، والخيار، والقثاء، والإجاص، والخوخ، والجمار، وما بين الحموضة والعفوصة، من العنب والزبيب، والطلع، والبلح، والخس والهندبا، والبقلة الحمقاء، والخشخاش، والتفاح، والكمثرى، والرمان. فما كان من الرمان عفصا فهو بارد غليظ، وما كان حامضاً فهو بارد لطيف. فأما الخل فهو بارد لطيف، وهو ضار بالعصب. وما كان أيضاً من الشراب عفصا هو أقل حرارة، وما كان من ذلك حديثاً غليظاً فهو بارد.
الأطعمة اليابسة
يحتاج إلى الأطعمة اليابسة من كان الغالب على بدنه الرطوبة، وفي الأوقات الرطبة، وللبلد الرطب. منها العدس، والكرنب، والسويق، وكل ما يشوى ويطبخ ويقلى، وكل ما أكثر فيه السذاب والمري والخل والأبزار والخردل، ولحم المسن من جميع الحيوان.
الأطعمة الرطبة
يحتاج إلى الأطعمة الرطبة من أفرط عليه اليبس، وفي الأوقات اليابسة والبلد اليابس. وهي: الشعير، والقرع، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والجوز الرطب، والعنب، والنبق، والإجاص، والتوت، والجمار، والخس، والبقلة اليمانية، والقطف، والباقلاء الرطب، والحمص الرطب، واللوبيا الرطبة، وكل ما يطبخ بالماء ويسلق به وثقل فيه الأبزار والخل والمري والسذاب، وجيمع لحوم صغار الحيوان.
الأطعمة القليلة الفضول
أجنحة الطيور، وأكارع المواشي، ورقابها، وما يربى في البر من الحيوان في المواضع الجافة.
الأطعمة الكثيرة الفضول
منها لحم الأوز خلا الأجنحة، والأكباد كلها من جميع الحيوان، والنخاع والدماغ، والطيور التي في الفيافي والآجام، والحمص الطري، والباقلاء الطري ولحم الضأن، ولحم المراضع من كل الحيوان، ولحم كل ساكنٍ غير سريع النهوض، وما كان من السمك على ما ذكرنا صلباً لرجاً.
الأطعمة التي غذاؤها كثير
كل ما غلظ من الأطعمة إذا نهضم غذى غذاءً كثيراً. وكل ما كان له فضول كان غذاؤه كثيراً.
وقد يحتاج إلى الأطعمة الكثيرة الغذاء من احتاج إلى أن يأخذ طعاماً قليلاً يغذي غذاءً كثيراً، كالناقة والمسافر، وكالذي يثقل معدته الكثير من الطعام وبدنه يحتاج إلى عذاء كثير.
فمن ذلك لحم البقر، والأدمغة، والأفئدة، وحواصل الطير كلها، والسمك الغليظ اللوح، والسميد والباقلاء، والحمص، واللوبيا، والترمس، والعدس، والتمر، والبلوط، والشاه بلوط، والسلجم، تغذو غذاءً كثيراً لغلظها. واللبن الحليب والشراب الأحمر. وغذاء اللبن كله أغلظه وأرقه، ٌل غذاء. وأغلظ اللبن لبن البقر ولبن النعاج، وأرقه لبن الأتن وألبان اللقاح. وألبان الماعز متوسطة بين ذلك.
وأغذى الأشربة النبيذ الغليظ الحلو، ثم الغليظ الأسود الحلو، ثم الغليظ الأبيض الحلو، ثم من بعد هذه الأشربة العفصة الحلوة. وكلما مال إلى الحمرة والحلاوة كان أغذى. والأبيض أقلها غذاء.
الأطعمة التي غذاؤها قليل
كل ما كان من الأطعمة لطيفاً كان غذاؤه قليلاً، وكل ما أفرط فيه اليبس أو الرطوبة، أو كثرة الفضل قل غذاؤه، كالأكارع، والكروش، والمصارين، والشحم، والآذان، والرئة، ولحم الطير كله. وما ملح من الحيوان قليل الغذاء، لليبس الذي فيه. وكذلك الزيتون، والفستق، والجوز، واللوز، والبندق، والغبيرا والزعرور، والخروب، والبطم، والكمثرى العفص، والزبيب العفص، فإنما قل غذاؤه للعفوصة.
وأما السمك والقرع، والرمان والتوت، والإجاص والمشمش، فإنما قل غذاؤها لكثرة رطوبيتها. وغذؤها غير باقٍ سريع التحلل.

وأما خبز الشعير والخشكار، والباقلاء الرطب، وجميع البقول، مثل الكرنب، والسلق، والحماض، والبقلة الحمقاء، والفجل، والخردل، والحرف، والجزر، فقليلة الغذاء، لكثرة الفضل فيها. وأما البصل والثوم والكراث فإنها إذا أكلت نيئة لم تغذ. وإذا طبخت غذت غذاءً يسيراً. وأما التين والعنب فإنهما بين ما قل غذاؤه وما كثر غذاؤه.
الأطعمة التي تولد كيموسا جيداً
كل ما كان معتدلاً من الأطعمة لم تفرط فيه قوة ولا تجاوزت القدرة فيه ولد دماً خالصاً نقياً صحيحاً. وكل ما كان كذلك فهو موافق لجميع الأبدان، وفي جميع الأوقات، وهو لجميع الأبدان المعتدلة في الأوقات المعتدلة أوفق، لأن ما تجاوز الاعتدال من الأبدان يحتاج من الأطعمة إلى ما فيه قوة تجاوز الاعتدال، وكذلك الأبدان المعتدلة التي ليست بمعتدلة.
وفي الأطعمة المعتدلة ما هو غليظ، وما هو لطيف، وما هو بين ذلك. وأجودها لجميع الناس ما كان معتدلاً منها، بين الغليظ واللطيف. وقد وصفنا الأطعمة الغليظة واللطيفة والمتوسطة، ومتى يصلح كل صنف منها. فبقي علينا أن نخبر بجملة الأطعمة المولدة الكيموس الجيد، وقسمتها على ما قسمناها.
فمن ذلك: خبز الحنطة النقي المحكم الصنعة إن كان من يومه، ولحم الدجاج والجداء، وحولية الماعز، وما كان من السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة، وما لم يكن له زهومة، وما لم يكن له سمن كثير، وما كان مرعاه في ماء ليس فيه أوساخ ولا حمأة، ولم يكن سريع العفونة، وكل ما اشتد واستحكم نضجه من البيض، وكل شراب طيب الريح، ياقوتي اللون، ليس فيه حلاوة، وكل ذلك يولد كيموساً معتدلاً بين اللطيف والغليظ.
وأما الدراج والفراريج، وأجنحة جميع الطير، وما صغر من السمك وكان مرعاه على ما وصفنا، وما ألقى عليه من السمك الملح فصار رخصا، وذهبت لزوجته، وأما كشك الشعير، والشراب الطيب الرائحة، الأحمر. فكل ذلك جيد الكيموس لطيف.
وأما اللبن الحليب فإنه جيد الكيموس، إلا أن فيه غلظاً. ولذلك ربما تجبن في المعدة. فلهذه العلة يخلط به العسل والملح ويرق بالماء. وأجود اللبن وأعدله لبن الماعز، لأنه ألطف من لبن الضأن والبقر، وأغلظ من لبن الأتن واللقاح.
وينبغي للبن أن يؤخذ من حيوانٍ صحيح شاب، جيد الغذاء. ولا يستحب في وقت ما يضع الحيوان، ولا بعد ذلك بزمان طويل؛ لأن اللبن من الحيوان في وقت ما يضع غليظ، ثم يرق بعد ذلك قليلاً قليلاً حتى يصير مائياً، فلذلك كان أوله وآخره ردئياً. وأجود ما يؤخذ اللبن ساعة يحلب، قبل أن يغيره الهواء، لأنه سريع الاستحالة. وأما الخشكار من الخبز الرطب، وكل ما لم تحكم صنعته من خبز السميد، وخبز الفرن، ولحم العجل، ومن أجزاء الغنم: الضرع والكبد والفؤاد، ومن الحبوب الباقلاء، ومن الشراب ما كان طيب الرائحة حلواً، فكل ذلك يولد كيموساً غليظاً جداً.
الأطعمة التي تولد كيموساً رديئاً
كل ما لم يكن معتدلاً من الأغذية لم يولد دماً خالصاً صافياً.
والأطعمة الرديئة الكيموس ثلاثة أصناف: منها ما يزيد في البلغم، ومنها ما يزيد في الصفراء، ومنها ما يزيد في السوداء.
وينبغي لجميع الناس أن يتجنبوا الإكثار منها، وإدمان استعمالها، وإن كانوا لها مستمرئين، لأنها وإن لم يتبين لها ضرر في عاجل الأمر يجتمع منها في بدن مدمن استعمالها مع طول الزمان كيموس رديء، يولد أمراضاً رديئة. وأولى الناس بتجنب كل صنف من أصنافها من كان الغالب على بدنه ما يزيد فيه ذلك الصنف.
فأقول: إن كل ما يتخذ من الخبز من دقيق كثير النخالة، أو ما عتق من الحنطة، رديء الكيموس، يزيد في السوداء.
ولحم الضأن كله يزيد في البلغم، ولحم الماعز المسن كله يزيد في السوداء، وأردؤه لحم التيوس. ولحم البقر والجزور والأرانب والظباء والأيايل كل هذا يزيد في السوداء، وشر هذه اللحوم لحم الجزور، وبعده لحم التيوس، لا سيما ما لم يخص منها، وبعده لحم المسن من الضأن، وبعده لحم البقر. وكل ما خصي من هذه كان أجود غذاء.
وأما لحوم الأرانب والظباء والأيايل فهو دون جميع ما ذكرنا في الرداءة. ومن أعضاء جميع الحيوان الكلى رديئة الكيموس، لزهومتها وما استفادت من رداءة البول.

والدماغ يزيد في البلغم، وكل البطون تزيد في البلغم، لكثرة الفضول فيها. والبيض المطجن يولد غذاء غليظاً فاسداً، وكذلك الجبن، ولا سيما ما عتق منه. والعدس يزيد في السوداء. والدخن والجاورس يولدان دماً غليظاً. وما صلب لحمه من السمك وغلبت عليه اللزوجة يولد البلغم، فإن ملح وعتق ولد السوداء.
والتين اليابس إن أكثر أكله ولد فضلاً عفناً يكثر منه القمل. والكمثرى والتفاح إن أكلا غير نضيجين ولدا كيموساً رديئاً بارداً. كذلك القثاء والخيار. فأما البطيخ والقرع فربما انهضما ولم يحدثا في البدن حدثاً رديئاً، وربما فسدا في المعدة، فولدا كيموساً ردئياً، ولا سيما إن صادفا في المعدة فضلاً رديئاً، فلذلك تعرض الهيضة كثيراً لمن أكل البطيخ.
والبقول كلها رديئة الكيموس، لكثرة الفضل فيها، وقلة الغذاء. وأما البصل والثوم والكراث والفجل والجزر والسلجم فرديئة، لما فيها من الحرارة والحرافة، وربما زادت في الصفراء، وربما زادت في السوداء أيضاً، كما ذكرت آنفاً، إلا أنها أن طبخت وصب ماؤها وطبخت بماءٍ ثان ذهبت الحرافة والرداءة عنها.
والباذروج يسخن الدم ويجففه تجفيفاً شديداً. والكرنب يولد السوداء وكذلك جميع البقول الرديئة.
الأطعمة المتوسطة الكيموس
وهي بين ما يولد الكيموس الجيد، وما يولد الكيموس الردي، فمنها خبز الخشكار، ولحم الخصيان من المعز والضأن. ومن الأعضاء: اللسان، والأمعاء والذنب. ومن الفاكهة: العنب، والبطيخ، والمعلق من العنب أجود والتين اليابس مع الجوز، والشاهبلوط، ومن البقول الخس وبعده الهندبا، وبعده الخبازى، وبعده القطف، والبقلة الحمقاء اليمانية، والحماض، وما لم يكن فيه حدة كثيرةً من الأصول.
الأطعمة السريعة الانهضام
وإنما يسرع الانهضام لأحد وجهين: فالوجه الأول منهما إذا كانت الأطعمة غير يابسة كالعدس، ولا صلبة كالترمس، ولا لزجة كالحنطة، ولا خشنة كالسمسم، ولا كريهة كالسذاب، ولا كثيرة الفضول كالأرز، ولا يغلب عليها برد شديد كاللبن الحامض، ولا حر شديد كالعسل.
والوجه الثاني: لطبيعة البطن المستمرئ لها، وذلك لأحد وجهين: الأول موافقة الأغذية، ومشاكلة الأبدان الطبيعية، كالأطعمة التي يشتهيها ويلذها الإنسان، فقد تجد الناس يختلفون في شهواتهم ويستمرئ كل واحدٍ منهم ما شهوته إليه أميل، وإن كان الذي لا يشتهيه أحمد من الذي يشتهيه.
والوجه الثاني: لمزاج عارض يصادف من الطعام مضادة كالذي ترى، أن من غلب عليه الحر لعلةٍ من العلل كان للأطعمة الباردة أسد استمراء، لما تطفئ من حرارة البدن وتعدله. ومن غلب عليه البرد استمرأ الحار ولم يستمرئ البارد. ومن رطب بدنه أو معدته استمرأ الأطعمة الجافة ولم يستمرئ الرطبة، ومن عرض له اليبس خلاف ذلك.
فقد بان بما ذكرناه أن الأطعمة اللطيفة والمتوسطة في نفسها، سريعة الانهضام. وقد يجوز أن تكون الأطعمة الغليظة أسرع انهضاماً في بعض الأبدان أيضاً. فقشر الخبز المحكم، ولحم الدجاج والفراريج والدراج والحجل، وكبود الإوز وأجنحتها، سريعة الانهضام. وفي الجملة: الجناح من كل طائر أسرع انهضاماً من سائره. وليس الطير كله بأسرع انهضاماً من المواشي.
وكل ما كان من الحيوان يابساً فصغيره أسرع انهضاماً. وكذلك لحم العجاجيل أسرع انهضاماً من لحم البقر، ولحم الجدي الحولي أسرع انهضاماً من لحم المسن من الماعز.
وكل ما كان من الحيوان أرطب فكبيره من قبل أن يشتد أسرع انهضاماً من صغيره. ألا ترى أن الحولي من الضأن أسرع انهضاماً من الخروف؟ وكل ما كان مرعاه في المواضع اليابسة أسرع انهضاماً مما كان مرعاه في المواضع الرطبة. وكل ما كان جرمه متخلخلاً فهو أسرع انهضاماً مما كان جرمه متلززاً. ولذلك كان الجوز أسرع انهضاماً من البندق. والبيض الحار امرأ من البيض البارد. والشراب الحلو أمرأ من العفص.
الأطعمة البطيئة الانهضام

وإنما يعسر الانهضام من الطبيعة في الطعام إذا كان يابساً، أو صلباً، أو لزجاً، أو ملتززاً، أو كثير الدسم، أو كثير الفضول، أو كريه الطعم، أو الحرافة فيه مفرطة أو البرد أو الحر، أو مخالفاً للمزاج الطبيعي إذا لم يشته. فلحم البقر ولحم الإبل، والكروش والأمعاء، والأوز، والآذان من جميع الحيوان، والجبن، والبيض البارد، عسرة الانهضام ليبسها وصلابتها. وكذلك من الطير الوراشين والفواخت والطواويس. والقوانص من جميع الطير عسرة الانهضام.
ومن الحبوب: الأرز، والترمس، والعدس، والدخن، والجاورس، والبلوط والشاهبلوط.
وأما لحم التيوس، وأكارع البقر، فعسرة الانهضام، لزهومتها وكراهتها. وأما لحم الضأن، والكبود من جميع الحيوان والإوز، فلكثرة الفضول فيها وأما الجبن الحامض فلبرده. وأما الحنطة المسلوقة فللزوجتها وتلززها. وأما الباقلاء واللوبياء - كثرة النفخ فيها. وأما السمسم فلكثرة دهنه. وأما العنب والتين وسائر الفواكه إذا لم يستحكم نضجها، والأتراج والباذروج والسلجم والجوز والشراب الحديث الغليظ، فلكثرة الفضول فيه.
الأطعمة الضارة للمعدة
السلق رديء، للذعه أياها، ولما فيه من الحدة البورقية، والباذروج والسلجم ما لم يستقص طبخهما للذع فيهما. والبقلة اليمانية والقطف للزوجتهما، فلذلك ينبغي أن يؤكلا بالخل، والمري. والحلبة رديئة للمعدة، للذعها إياها، والسمسم رديء للمعدة للزوجته وكثرة دهنه، واللبن لسرعة استحالته في المعدة والعسل ما أكثر منه لذع المعدة وأغثاها. والبطيخ أيضاً يغثي، وإذا لم ينضج في المعدة ولد كيموساً رديئاً، فينبغي بعد أكل البطيخ أن يأكل طعاماً كثيراً جيد الكيموس.
والأدمغة أيضاً كلها رديئة للمعدة، فلذلك ينبغي أن تؤكل بالصعتر، والفودنج البري، والخردل، والملح. وكذلك أيضاً المخاخ. والنبيذ الحديث الغليظ الأسود العفض يسرع الحموضة في المعدة ويغثي.
الأطعمة التي تفسد في المعدة
المشمش، والسمسم، والنون، والبطيخ، إذا لم يسرع انحدارها عن المعدة وصادفت فيها كيموساً رديئاً أسرع إليها الفساد. فيجب أن تؤكل قبل الطعام والمعدة نقية، ليسرع انحدارها عنها، ويسهل الطريق لما يؤكل بعدها من الطعام، فإن أكلت بعد الطعام فسدت لبقائها في المعدة، وأفسدت سائر الطعام بفسادها، وربما بلغ الفساد بها إلى أن تصير بمنزلة السم القاتل.
الأطعمة التي لا يسرع إليها الفساد في المعدة
من كان يفسد طعامه في معدته فأجود الأطعمة له ما كان غليظاً بطئ الانحدار، مثل لحم البقر، وأكارعها، وما أشبه ذلك، مما قد ذكرناه في الأطعمة الغليظة.
الأطعمة الملينة المسهلة للبطن
كل ما كان من الأطعمة فيه حلاوةٌ أو حدة أو لزوجة. فمن ذلك ماء العدس، وماء الكرنب يلينان البطن، وجرمهما يمسك البطن، وكذلك مرقة الديوك العتيقة، وخبز الخشكار، وماء الحلبة مع العسل، وزيتون الماء إذا كان قبل الطعام مع مريٍ لين البطن، فإن كان أيضاً بعد الطعام بلا مري فإنه يقوي المعدة على دفع الطعام لعفوصته. وكذلك ما عمل منه بالخل.
وكل طعام عفصٍ فإنه دابغ للمعدة مقوٍ لها.
فأما اللبن وماء الجبن فيلينان البطن، ولا سيما إذا خلط به الملح.
ولحم الصغير من الحيوان، والسلق، والقطف، والبقلة اليمانية، والقرع والبطيخ، والتين، والزبيب الحلو، والتوت الحلو، والجوز الرطب، والإجاص الرطب، والسكنجبين والنبيذ الحلو، ملين للبطن.
الأطعمة التي تحبس البطن
إذا كان الطعام ينحدر عن المعدة قبل انهضامه احتجنا إلى الأطعمة الممسكة الحابسة للبطن.
وكل ما غلب عليه من الأطعمة اليبس أو العفوصة أو الغلظ، كالسفرجل والكمثرى، وحب الآس، وثمر العوسج، وجرم العدس، والبلوط، والشاهبلوط. والنبيذ العفص، يمسك البطن، لعفوصته وقبضه. والجاورس، والدخن وسويق الشعير، تمسك البطن بيبوستها. ولحم الأرانب، والكرنب المطبوخ بعد صب مائه الأول عنه، ثم يطبخ بماءٍ ثان، فإنه يمسك البطن بيبسه. واللبن المطبوخ، والجبن كلاهما يمسك البطن لغلظه. وذلك أن يطبخ اللبن حتى تفني مائيته، ويبقي جرمه، وربما ولد سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى.

وأما الأشياء الحامضة كالتفاح الحامض، والرمان الحامض، فإن صادفت في المعدة كيموساً غليظاً قطعته وحدرته، ولينت البطن، وإن صادفت المعدة نقية أمسكت البطن.
الأطعمة التي تولد السدد
اللبن الغليظ والجبن ربما أحدثا سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى، لمن أكثر استعمالها، وكان كلاه وكبده مستعدة لقبول الآفات.
وجميع الأطعمة الحلوة رديئة للكبد والطحال، فإذا أكل معها الفوذنج الجبلي، والصعتر، والفلفل، فتح سدد الكبد والطحال.
والرطب، والتمر، وجميع ما يتخذ من الحنطة سوى الخبز الجيد الصنعة، والأشربة الحلوة أيضاً تولد سدداً في الكبد، وحجارة في الكلى، وتغلظ الطحال.
الأطعمة التي تجلو المعدة وتفتح السدد
ماء الكشك كشك الشعير يجلو المعدة، ويفتح السدد. والحلبة، والبطيخ، والزبيب الحلو، والباقلاء، والحمص الأسود، ينقي الكلى، ويفتت الحجارة المتولدة فيها. والكبر بالخل، والعسل إذا أكل قبل الطعام فإنه يجلو وينقي المعدة والأمعاء، ويفتح السدد. والسلق أيضاً يجلو ويفتح السدد في الكبد، ولا سيما إذا أكل بالخردل. والبصل، والثوم، والكراث، والفجل يقطع ويلطف الكيموس الغليظ. والتين رطبه ويابسه يجلو وينقي الكلى. واللوز كله، ولا سيما المر منه فإنه يجلو ويلطف، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويعين على نفث الرطوبة من الصدر والرئة. والفستق يقوي الكبد ويفتح سددها.
وعسل النحل حارٌ يابس وماء العسل يلطف البصاق الغليظ، ويعين على نفثه. والسكنجبين يلطف ويقطع الرطوبة الغليظة. ويفتح سدد الكبد والطحال، وينقي الصدر والرئة.
والنبيذ اللطيف إذا كانت له حدة وحرافة يصفي اللون، وينقي العروق من الكيموس الغليظ، وينتفع به من كان يجد في بدنه كيموساً غليظاًبارداً. وأما النبيذ الرقيق المائي فإنه يعين على نفث الرطوبة من الرئة، بتقويته الأعضاء وتلطيفه لما بها من الفضل الغليظ، وقد يفعل ذلك النبيذ الحلو.
الأطعمة التي تنفخ
الحمص والباقلاء، ولا سيما إن طبخ بقشره، فإن طبخ مقشراً أو مسحوقاً كان أقل نفخاً، وإن قلي أيضاً كان أقل نفخاً. وبعد هذه اللوبياء، والماش، والعدس، والشعير إذا لم ينعم طبخها.
والنعناع، والأنجذان، والحلتيت، والتين الرطب، يولد نفخاً إلا أنه يتحلل سريعاً لسرعة انحداره.
وما استحكم نضجه من التين والعنب كان أقل نفخاً. ويابس التين أقل نفخاً من رطبه.
واللبن يولد رياحاً في المعدة. والعسل إذا طبخ ونزعت رغوته قل نفخه. والنبيذ الحلو العفص يولد نفخاً.
ما يذهب النفخ من الأطعمة
كل الطعام نافخٍ إذا أحكمت صنعته، وأجيد طبخه وإنضاجه قل نفخه. وكل ما قلي منه قل نفخه. وكل ما خلط به الأبزار المحللة للرياح كالكمون والذاب، والأنيسون والكاشم يقل نفخه. والخل الممزوج بالعسل يلطف الرياح، ويذهب بالنفخ.
كتاب إسحاق بن عمران إلى بعض إخوانه
كتب إسحاق بن عمران المعروف بسم ساعة إلى رجل من إخوانه: اعلم رحمك الله أن الخام والبلغم يظهران على الدم والمرة بعد الأربعين سنة فيأكلانهما، وهما عدوا الجسد وهادماه. ولا ينبغي لمن خلف الأربعين سنة أن يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام والبلغم، ويقوي الدم جاهداً، غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين أن يفجر من دمه شيئاً، ومن المرة مثل ذلك، لقلة صبره على الطعام اللذيذ، والمشروب الروي.
فتعاهد أصلحك الله ذلك من نفسك، واعلم أن الصحة خير من المال والأهل والولد، ولا شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى خير من العافية.
وما تأخذ به نفسك، وتحفظ به صحتك أن تلزم ما أكتب به إليك: في شهر يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة. وفي شهر فبرير لا تأكل السلق. وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة. وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا الفجل. وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده، على الريق. وفي يوليه تجنب الوطء. وفي أغشت لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً. وفي نبنبر لا تدخل الحمام. وفي دجنبر لا تأكل الأرنب.

زعم علماء الطب أن الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال، فإن غلب الدم الطبائع تغير منه الوجه وورم، وخرج ذلك إلى الجذام، وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أنبتت المد.
قال: فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضاً فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقه بالمشي، فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام، وإما مد. نسأل الله العافية.
ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا أيام السموم، إلا أن ينزل فيها مرض شديد لا بد من مداواته، أو يظهر فيها موم، أو ذات الجنب، فإنه ينبغي للطبيب أن يعانيه بفصاد، أو شيء خفيف، فإنها أيام ثقيلة. وهي خمسة عشر يوماً من تموز إلى النصف من آب، فذلك ثلاثون يوماً لا يصلح فيها علاج، وكان بقراطيس يجعلها تسعة وأربعين يوماً، ويقطع الغرر والخطر في أيام القيظ، فإذا مضى لأيلول ثلاثة أيام طاب التداوي كله.
وأمر جالينوس في الربيع بالحجامة، والنورة، وأكل الحلاوة وشربها، ونهى عن القطاني واللبن الرائب، وعتيق الجبن، والمالح، والفاكهة اليابسة، إلا ما كان مسلوقاً.
وفي القيظ وهو زمان المرة الصفراء بأكل البارد الرطب على قدر قوة الرجل في طبعه وسنه، وترك الجماع، وأكل الحوت الطري، والفاكهة الرطبة والبقول ولحم البقر والمعز، ومن القطاني العدس، ومن الأشربة المربب بالورد، والسكركة من الشعير، والسكر بالماء المطبوخ، وأكل الكزبرة الخضراء في الأطعمة وأكل الخيار والبطيخ، ولزوم دهن الورد، وماء الورد، ورش الماء، وبسط البيت بورق الشجر، ومن الدواء السكر بالمصطكى، يسحقهما مثلاً بمثل، ويأخذ منهما على الريق قدر الدرهم أو أكثر قليلاً.
وفي زمان الخريف وهو زمان السوداء، وهو أثقل الأزمنة على أهل تلك الطبيعة، من الطعام والشراب بالحار الرطب، مثل الأحساء بالحلاوة، وأكل العسل وشربه. ونهي فيه عن الجماع، وأكل لحم المعز والبقر، وأمر بأكل صيود البر والبحر، وحسو البيض والدهن قبل الحمام، وإيتان النساء على غير شبع في آخر الليل وفي أول النهار، والتماس الولد على الريق من الرجل والمرأة، فإن أولاد ذلك الزمان أسد وأقوى تركيباً من غيرهم، كما قالت الحكماء.
الخمر المحرمة في الكتاب
أجمع الناس على أن الخمر المحرمة في الكتاب خمر العنب، وهي ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب، من غير أن تمسه نار. ولا تزال خمراً حتى تصير خلاً، وذلك إذا غلبت عليها الحموضة، وفارقتها النشوة؛ لأن الخمر ليست محرمة العين، كما حرمت عين الخنزير، وإنما حرمت لعرض دخلها، فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالاً، كما كانت قبل الغليان حلالاً، وعينها في كل ذلك واحدة، وإنما انتقلت أعراضها من حلاوةٍ إلى مرارة، ومن مرارة إلى حموضة، كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة، والعين قائمة، وكما ينتقل طعم الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه، والعين قائمة.
ونظير الخمر فيما يحل ويحرم بعرض: المسك، الذي هو دم عبيط حرام، ثم يجف وتوجد رائحته فيصير حلالاً طيباً.
فهذه الخمر بعينها المجمع على تحريمها. وأصحاب النبيذ إنما يدورون حولها ويتعللون بأنهم يشربون ما دون المسكر، ولا لذة لهم دون مواقعة السكر، كما قال الشاعر:
يدورون حول الشيخ يلتمسونه ... بأشربةٍ شتى هي الخمر تطلب
وكقول القائل:
إياك أعني فاسمعي يا جاره
قيل للأحنف بن قيس: أي الشراب أطيب؟ فقال: الخمر. قيل له: وكيف علمت ذلك، وأنت لم تشربها؟ قال: إني رأيت من حلت له لا يتعداها، ومن حرمت عليه إنما يدور حولها.
وقال ابن شبرمة:
ونبيذ الزبيب ما اشتد منه ... فهو للخمر والطلاء نسيب
وقال عبد الله بن القعقاع:
أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب فصدقناه وهو كذوب
فهل هي إلا ساعة غاب نحسها ... أصلي لربي بعدها وأتوب
وقال ابن شبرمة: أتانا الفرزدق، فقال: اسقوني. فقلنا: وما تريد أن نسقيك؟ قال: " أقربه إلى الثمانين " ، ويعني حد الخمر.

وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن؟ قال: " ما صفا في العين، واشتد على اللسان، وطابت رائحته في الأنف، من شراب الكرم " . قيل له: فما تقول في مطبوخه؟ فقال: " مرعى ولا كالسعدان! " . قيل له: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيى، فيه بعض المتعة، ولا يكاد يحيا من مات مرة. قيل له: فما تقول في العسل؟ قال: نعم شراب الشيخي ذي الإبردة، والمعدة الفاسدة.
علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته، إذ أتي بابن شراعة من الكوفة، فوالله ما سأله عن نفسه ولا سفره، حتى قال له: يا ابن شراعة، إني والله ما بعثت فيك لأسألك عن كتاب الله، ولا سنة رسول. قال: والله لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما حماراً. قال: فإنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة. قال: فأنا دهقانها الخبير، وطبيبها العليم. قال: فأخبرني عن الطعام؟ قال: ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أن أنفعه أدسمه، وأشهاه أمرؤه، قال: فما تقول في الشراب؟ قال: ليسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: فما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في السويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي، من طول ما أرضعتني به. قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: حاموا به على الشراب. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: أوه، تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي. قال: وأي المجالس أحسن؟ قال: ما شرب الناس على وجه قط أحسن من النساء.
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد، وهو في الفرش منغمس كما ولدته أمه، فقال لي: يا أصمعي، من أين طرقت اليوم؟ قال: قلت احتجمت. قال: وأي شيء أكلت عليها؟ قلت: سكباجة وطباهجة. قال: رميتها بحجرها. قال: هل تشرب؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين:
اسقني حتى تراني مائلاً ... وترى عمران ديني قد خرب
قال: يا مسروق، أي شيء معك؟ قال: ألف دينار. قال: ادفعها إليه.
آفات الخمر وجناياتها
أول ذلك أنها تذهب العقل - وأفضل ما في الإنسان عقله - وتحسن القبيح، وتقبح الحسن. قال أبو نواس:
اسقني حتى تراني ... حسنٌ عندي القبيح
وقال أيضاً:
اسقني صرفاً حمياً ... تترك الشيخ صبيا
وتريه الغي رشداً ... وتريه الرشد غيا
وقال أيضاً:
عتقت في الدن حولاً ... فهي في رقة ديني
وقال الناطق بالحق:
تركت النبيذ وشرابه ... وصرت خدينا لمن عابه
شراب يضل سبيل الرشاد ... ويفتح للشر أبوابه
وإنما قيل لمشارب الرجل " نديم " من الندامة، لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه، وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه نادمه، لأنه فعل مثل ما فعله، فهو نديم له، كما يقال جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشيء، أي فناءه.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت ذنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال الشاعر:
أرى كل قومٍ يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سئوم
فهذا ثنائي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
وقال قصي بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر، فإنها تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان.
وقيل لعدي بن حاتم: مالك لا تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي.
وقيل له: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاذ الله أن أصبح حكيم قومي وأمسي سفيههم.
وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقال يزيد بن الوليد: النشوة تحل الحبوة.

وقيل لعثمانبن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك فيها؟ قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملةً ويعود جملة.
وقال أيضاً: ما تغنيت، ولا تفتيت، ولا شربت خمراً، ولا مسست فرجي بيدي بعد أن خططت بها المفصل.
وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ ثريد المنادمة؟ قال: أصلح الله الأمير، الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليك بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت ألا تفرق بينهما فافعل.
وربما أذهبت الكأس البيان، وغيرت الخلقة، فيعظم أنف الرجل ويحمر ويترهل.
وقال جرير في الأخطل:
وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدنان كأن أنفك دمل
شبه أنفه بالدمل في ورمه وحمرته.
وقال آخر في حماد الراوية:
نعم الفتى، لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان، فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد
وأبيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
ودخل أمية بن عبد الله بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: قمت بالليل فأصاب الباب وجهي. فقال عبد الملك:
رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقلت: لا واخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك. فقال: بل واخذك الله بسوء مصرعك.
وقال حسان بن ثابت.
تقول شعثاء لو صحوت عن ال ... كأس لأصبحت مثري العدد
أنسى حديث الندمان في فلق ال ... صبح وصوت المسامر الغرد
لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يساموا كلبدة الأسد
وقال ابن الموصلي:
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام أمئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
لعمري لئن نكبت عن منهل الصبا ... لقد كنت وراداً لمشربه العذب
ليالي أمشي بين بردي لاهباً ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لإبراهيم بن هرمة: لا تحسبني كمن باع لك دينه رجاء مدحك، وخوف ذمك، فقد رزقني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه، وإني أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حد الخمر، وحد السكر ولأزيدنك لموضع حرمتك، فليكن تركك لها لله تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبرني عنها وحبي ... لها حب تمكن في العظام
أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام
وذكروا أن حارثة بن بدر الغداني كان فارس بني تميم وشريفها، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو رجل مستهتر بالشراب. فقال لهم: كيف باطراح رجلٍ ما راكبني قط فمست ركبتي ركبته، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي، ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت علمه عنده. فلما مات زياد جفاه ولده عبيد الله بن زياد، فقال له حارثة: أيها الأمير: ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد برع بروعاً لم يلحقه معه عيب؛ وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من تغلب علي، وأنت رجل نديم الشراب، فدع النبيذ وكن أول داخلٍ وآخر خارج. فقال حارثة: أنا لا أدعه لله، أفادعه لك؟ قال: فاختر من عملي ما شئت! قال: ولني رامهرمز، فإنها عذبة، وسرق، فإن بها شراباً وصف لي عنه فولاه إياها، فلما خرج شيعه الناس. وكتب إليه أنس بن أبي أنيس:
أحار بن بدر قد وليت ولايةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً تخونه ... فحظك من ملك العراقين سرق

وبادر تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما تهوي، وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل يوماً حققوا لم يحققوا
فوقع حارثة في أسفل كتابه " لا بعد عنك الرشد " .
ولما خرجت الأزارقة على أهل البصرة لاقاهم حارثة بن بدر، وتولى حربهم في أصحابه في فرسانٍ من بني يربوع، حتى أصيب في تلك الحروب. وقال فيه الشاعر:
فلولا ابن بدر للعراقين لم يقم ... لما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت ... إليه معد بالأكف وقحطان
وقال الشاعر:
شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم في كل ناحية وفر
فلما علت شمس النهار رأيتنا ... تخلى الغنى عنا وعاودنا الفقر
وكان أبو الهندي من ولد شبث بن ربعي الرياحي، من بني يربوع، وكان قد غلب عليه الشراب، على كريم منصبه، حتى كاد يبطله، وكان قد ضاف إلى راعٍ يسمى سالماً، فسقاه قدحاً من لبن، فكرهه وقال:
سيغني أبا الهندي عن وطب سالم ... أباريق كالغزلان بيض نحورها
مفدمة قزاً كأن رقابها ... رقاب كراكٍ أفزعتها صقورها
فما ذر قرن الشمس حتى كأنما ... أرى قريةً حولي تزلزل دورها
ولقيه نصر بن سيار، والي خراسان، وهو يميد سكراً فقال له: أفسدت مروءتك وشرفك. قال: لو لم أفسد مروءتي لم تكن أنت والي خراسان.
ومرض أبو الهندي، فلما وجد فقد الشراب جعل يبكي ويقول:
رضيع المدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع
أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً، فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهرب معه، وقال فيه أبو الهندي:
قل للسري أبي قيس أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا
أبا الوليد أما والله لو علمت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا
ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا
وشرب أبو الهندي في غرفة مع نديمٍ له، فاطلع منها فإذا بميت يزف به على شرجع، فالتفت إلى صاحبه فقال:
اصبب على قلبك من بردها ... إني أرى الناس يموتونا
فكان هذا القول منه " دليلاً " على " عدم " اتعاظه بالموت.
وكان أبو الهندي عجيب الجواب، وجلس إليه رجل كان صلب أبوه في جناية، فجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: أحدهم يبصر القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع المعترض في أست أبيه! وقال عبد الرحمن بن أم الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعتورانها ... يميلان أحياناً ويعتدلان
فما ظن ذا الواشي بأروع ماجد ... وعذراء خود حين يلتقيان
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وقال:
لا هنيئاً بما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً وغير كريم
لا أحب النديم يومض بالعي ... ن إذا ما انتشى لعرس النديم
وقال أبو العباس المبرد: ودخل عمرو بن مسعدة على المأمون، وبين يديه جام زجاج، فيه سكر طبرزذ، وملح جريش، قال: فسلمت عليه، فرد وعرض علي الأكل، فقلت: ما أريد شيئاً. هنأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت الغداء. قال: بت جائعاً! ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
اعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واعزم على من أبى واشكر لمن أكلا
ولا تكن سابري العرض محتشماً ... من القليل فلست الدهر محتفلا
ودعا برطل، ودخل شيخ من جلة الفقهاء فمد يده إليه، فقال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها ناشئاً، فلا تسقينها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة، فأخذها منه وقال: يا أمير المؤمنين، فإني عاهدت الله في الكعبة ألا أشربها أيضاً. ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة، فقال:

ردا علي الكأس إنكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
شرب المأمون ويحيى بن أكثم القاضي وعبد الله بن طاهر، فتغامز المأمون وعبد الله على سكر يحيى، فغمز يد الساقي فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من ورد ورياحين، فأمر المأمون فشق له لحد في الورد والرياحين، وصيروه فيه، وعمل بيتي شعر، ودعا قينة، فجلست عند رأسه وحركت العود وغنت:
دعوته وهو حي لا حراك به ... مكفنٌ في ثياب من رياحين
فقلت قم قال رجلي لا تطاوعني ... فقلت خذ قال كفي لا تواتيني
فانتبه يحيى لرنة العود، وقال مجيباً لها:
يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضاً قد وهى جسدي ... ولا أجيب المنادي حين يدعوني
فاختر لبغداد قاضٍ إنني رجلٌ ... الراح تقتلني والعود يحييني
حدثنا أبو جعفر البغدادي قال: كان بالجزيرة رجل يبيع نبيذاً في ماخورٍ له، وكان بيته من قصب، وكان يأتيه قوم يشربون عنده، فإذا عمل فيهم الشراب قال بعضهم لبعض: أما ترون بيت هذا النباذ من قصب؟ فيقول بعضهم: علي الآجر، ويقول الآخر: علي الجص، ويقول الآخر: علي أجرة العامل. فإذا أصبحوا لم يعملوا شيئاً، فلما طال ذلك على النباذ قال فيهم:
لنا بيت يهدم كل يوم ... ويصبح حين يصبح جذم خص
إذا ما دارت الأقداح قالوا ... غداً نبني بآجر وجص
وكيف يشيد البنيان قومٌ ... يمرون الشتاء بغير قمص
ودخل حارثة بن بدر على زياد، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فصرعني. قال: أما إنك لو ركبت الأشهب ما صرعك.
أراد حارثة بالأشقر النبيذ، وأراد زياد بالأشهب اللبن.
وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر، فيبتاع منه، ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً، فجذب ابنته وتناول قرنها، ورأى القمر فتكلم بشيء، ثم نهب ماله ومال الخمار، وأنشأ يقول:
من تاجر فاجر جاء الإله به ... كأن لحيته أذناب أجمال
جاء الخبيث ببيسانيةٍ تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال
فلما صحا أخبر بما صنع وما قال، فآلى ألا يذوق خمراً أبداً. - وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله. قال المأمون: " يا نطف الخمار، ونزائع الظؤور، وأشباه الخؤولة " .
وقال الشاعر:
لما رأيت الحظ حظ الجاهل ... ولم أر المغبون غير العاقل
رحلت عنساً من كروم بابل ... فبت من عقلي على مراحل
وقال آخر يصف السكر:
أقبلت من عند زيادٍ كالخرف ... أجر رجلي بخطٍ مختلف
كأنما يكتبان لام ألف
وقال آخر يصف السكر:
شربنا شربةً من ذات عرقٍ ... بأطراف الزجاج من العصير
وأخرى بالمروح، ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير
كأن الديك ديك بني تميم ... أمير المؤمنين على السرير
كأن دجاجهم في الدار رقطا ... بنات الروم في قمص الحرير
فبت أرى الكواكب دانياتٍ ... ينلن أنامل الرجل القصير
أدافعهن بالكفين مني ... وألثم لبة القمر المنير
وقال الشاعر:
دع النبيذ تكن عدلاً، وإن كثرت ... فيك العيوب، وقل ما شئت يحتمل
هو المشيد بأخبار الرجال فما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا
كم زلةٍ من كريم ظل يسترها ... من دونها ستر الأبواب والكلل
أضحت كنارٍ على علياء موقدةٍ ... ما يستسر لها سهل ولا جبل
والعقل علق مصونٌ لو يباع لقد ... ألفيت بياعه يعطون ما سألوا

فاعجب لقوم مناهم في عقولهم ... أن يذهبوها بعل بعده نهل
قد عقدت بخمار الكأس ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها علل
وزررت بسنات النوم أعينهم ... كأن أحداقها حول وما حولوا
تخال رائحهم من بعد غدوته ... حبلى أضر بها في مشيها الحبل
فإن تكلم لم يقصد لحاجته ... وإن مشى قلت مجنون به خبل
وقال:
أخو الشراب ضائع الصلاة ... وضائع الحرمة والحاجات
وحاله من أقبح الحالات ... في نفسه والعرس والبنات
أف له أفٍ إلى أفات ... خمسة آلافٍ مؤلفاتٍ
من حد من الأشراف في الخمر
وشهر بها
منهم يزيد بن معاوية، وكان يقال له: يزيد الخمور، وبلغه أن مسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر، فكتب إلى عامله بالمدينة: أن يجلد مسوراً حد القذف، ففعل. فقال مسور:
أيشربها صرفاً بطين دنانها ... أبو خالدٍ ويضرب الحد مسور
وممن حد في لشراب الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان لأمه. شهد أهل الكوفة عليه أنه صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران. ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زذتكم! فجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان. وفيه يقول الحطيئة، وكان نديمه أبو زبيد الطائي:
شهدت الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً ولا يدري
ليزيدهم خيراً ولو قبلوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كبحوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب، شرب بمصر، فحده هناك عمرو بن العاص سراً. فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية.
ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس، كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الأخطل الشاعر. وفيه يقول الأخطل:
ولقد غدوت على التجار بمسمحٍ ... هرت عواذله هرير الأكلب
لباس أردية الملوك تروقه ... من كل مرتقبٍ عيون الربرب
ومنهم قدامة بن مظعون، من أصحاب رسول الله (، حده عمر بن الخطاب بهشادة علقمة الخصي وغيره، في الشراب.
ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شحمة، حده أبوه في الشراب، وفي أمر أنكره عليه.
ومنهم عبد الله بن عروة بن الزبير، حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب.
ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب، حده بعض ولاة المدينة في الشراب.
ومنهم عبد العزيز بن مروان، حده عمرو الأشدق.
وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة الأشعري، وفيه يقول يحيى ابن نوفل الحميري:
وأما بلال فذاك الذي ... يميل الشراب به حيث مالا
يبيت يمص عتيق الشراب ... كمص الوليد يخاف الفصالا
ويصبح مضطرباً ناعساً ... تخال من السكر فيه احولالاً
ويمشي ضعيفاً كمشي النزيف ... تخال به حين يمشي شكالا
وممن شهر بالشراب عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي، القاضي بالكوفة. وفضح بمنادمة سعد بن هبار. وفيه يقول حارثة بن بدر:
نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار
ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دوياً، دوي النحل في الغار
يدين أصحابه فيما يدينهم ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار
فأصبح الناس أطلاحاً أضربهم ... حث المطي وما كانوا بسفار
ومنهم أبو محجن الثقفي، وكان مغرماً بالشراب، وقد حده سعد بن أبي وقاص في الخمر مراراً. وشهد القادسية مع سعد، وأبلى فيها بلاء حسناء. وهو القائل:
إذا مت فادفني إلى ظل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا مامت ألا أذوقها
ثم حلف بالقادسية ألا يشرب خمراً أبداً، وأنشأ يقول:
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها صهباء صافيةً ... طوراً وأشربها صرفاً وأمتزج

وقد تقوم على رأسي مغنية ... فيها إذا رفعت من صوتها غنج
فتخفض الصوت أحياناً وترفعه ... كما يطن ذباب الروضة الهزج
ومنهم عبد الملك بن مروان، وكان يسمى " حمامة المسجد " ، لاجتهاده في العبادة قبل الخلافة. فلما أفضت إليه الخلافة شرب الطلاء، وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت بعدي الطلاء؟ فقال: إي والله، والدماء! ومنهم الوليد بن يزيد، ذهب به الشراب كل مذهب حتى خلع، وقتل. وهو القائل:
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة ... وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
أبالملك أرجو أن أخلد فيكم ... ألا رب ملك قد أزيل فزالا
وسقى قوم أعرابية مسكراً، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم. قالت: فما يدري أحدكم من أبوه! ومنهم إبراهيم بن هرمة، وكان مغرماً بالشراب، وحده عليه جماعة من عمال المدينة؛ فلما ألحوا عليه وضاق ذرعه بهم، دخل إلى المهدي بشعره الذي يقول فيه:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل هاشم ... إذا اسود من لؤم التراب القبائل
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
فأعجب المهدي بشعره، وقال له: سل حاجتك. قال: تأمر لي بكتاب إلى عامل المدينة أن لا يحدني على شراب. فقال له: ويلك، كيف نأمر بذلك؟ لو سألتني عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت. قال: يا أمير المؤمنين: ولو عزلت عامل المدينة ووليتني مكانه، أما كنت تعزلني أيضاً وتولي غيري؟ قال: بلى. قال: فكنت أرجع إلى سيرتي الأولى. فقال المهدي لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه يطلب مالا سبيل إليه: إسقاط حد من حدود الله. قال المهدي: إن عندي له حيلةً، إذ أعيتكم الحيل فيه، اكتبوا له إلى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكران فيضرب ابن هرمة ثمانين، ويضرب الذي يأتيك به مائة. فكان ابن هرمة إذا مشى في أزقة المدينة يقول: من يشتري مائه بثمانين؟ وكان بأمج رجل يقال له: حميد، وكان مفتوناً بالخمر، فهجاه ابن عم له، وقال فيه:
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على شربها ... وكان كريماً، فما ينزع
ودخل حميد يوماً على عمر بن عبد العزيز، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حميد. قال: " حميد الذي " ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما شربت مسكراً منذ عشرين سنة. فصدقه بعض جلسائه فقال له: إنما داعبناك.
الفرق بين الخمر والنبيذ
أول ذلك أن تحريم الخمر مجمع عليه لا اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء. وتحريم النبيذ مختلف فيه بين الأكابر من أصحاب النبي ( والتابعين بإحسان. حتى لقد اضطر محمد بن سيرين في علمه وورعه أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ. فقال له عبيدة: اختلف علينا في النبيذ. وعبيدة ممن أدرك أبا بكر وعمر. فما ظنك بشيء اختلف فيه الناس وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام متوافرون، فمن بين كطلق له ومحظر عليه؟ وكل واحدٍ منهم يقيم الحجج لمذهبه، والشواهد على قوله.
والنبيذ كل ما نبذ في الدباء والمزفت، فاشتد حتى يسكر كثيره. وما لم يشتد فليس يسمى نبيذا، كما أنه ما لم يغل من عصير العنب حتى يشتد فليس يسمى خمراً، كمال قال الشاعر:
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تقطر أو خر الذباب وقيذا
وقيل لسفيان الثوري، وقد دعا بنبيذٍ فشرب منه، ووضعه بين يديه: يا أبا عبد الله، أخشى الذباب أن يقع في النبيذ. قال: قبحه الله، إذا لم يذب عن نفسه.
وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قومٌ من طلبة الحديث، فسترته، فقال لي: لم سترته؟ فكرهت أن أقول: لئلا يراه من يدخل، فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب. فقال لي: هيهات، إنه أمنع من ذلك جانباً.
ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرمها الله في كتابه ما اختلف في تحريمه اثنان من الأمة.

حدث محمد بن وضاح قال: سألت سحنون، فقلت: ما تقول فيمن حلف بطلاق زوجته، إن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر، التي حرمها الله في كتابه؟ قال: بانت زوجته منه.
وذكر ابن قتيبة في كتاب الأشربة: إن الله تعالى حرم علينا الخمر بالكتاب، والمسكر بالسنة، فكان فيه فسحة، فما كان محرماً بالكتاب فلا يحل منه لا قليل ولا كثير، وما كان محرماً بالسنة فإن فيه فسحةً أو في بعضه، كالقليل من الديباج والحرير يكون في الثوب، والحرير محرم بالسنة. وكالتفريط في صلاة الوتر، وركعتي الفجر، وهما سنة. فلا تقول: إن تاركهما كتارك الفرائض من الظهر والعصر. وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله ( في لباس الحرير لبلية كانت به، وأذن لعرفجة بن سعد، وكان أصيب أنفه يوم الكلاب، باتخاذ أنفٍ من الذهب. وقد جعل الله فيما أحل عوضاً مما حرم، فحرم الربا وأحل البيع، وحرم السفاح وأحل النكاح، وحرم الديباج وأحل الوشي، وحرم الخمر وأحل النبيذ غير المسكر. والمسكر منه ما أسكرك.
مناقضة ابن قتيبة في قوله في الأشربة
قال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هو الشربة المسكرة، أكذبه النظر. لأن القدح الأخير إنما أسكر بالأول، وكذلك اللقمة الأخيرة إنما أشبعت بالأولى. ومن قال: السكر حرام، فإنما ذلك مجازٌ من القول، وإنما يريد ما يكون منه السكر حرام. وكذلك التخمة حرام.
وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه " قليل ما أسكره كثيره " وتشبيهه ذلك بالتخمة شاهد عليه لا شاهد له؛ لأن الناس مجمعون أن قليل الطعام الذي تكون منه التخمة حلال، وكثيره حرام. وكذلك ينبغي أن يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالاً، وكثيره حرام، وأن الشربة الآخرة المسكرة هي المحرمة. ومثل الأربعة الأقداح التي يسكر منها القدح الرابع، مثل أربعة رجال اجتمعوا على رجل، فشجه أحدهم موضحة، ثم شجه الثاني منقلة، ثم شجه الثالث مأمومة، ثم أقبل الرابع فأجهز عليه. فلا نقول: إن الأول هو قاتله، ولا الثاني، ولا الثالث، وإنما قتله الرابع الذي أجهز عليه. وعليه القود.
وذكر ابن قتيبة في كتابه، بعد أن ذكر اختلاف الناس في النبيذ، وما أدلى به كل قومٍ من الحجة. فقال: وأعدل القول عندي أن تحريم الخمر بالكتاب وتحريم النبيذ بالسنة، وكراهية ما أفتر وأخدر من الأشربة تأديب.
ثم زعم في هذا الباب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما مجتمع على تحريمه، وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار، لا يحل منه لا قليل ولا كثير. ونوع آخر مختلف فيه، وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر إذا صلب، وهو يسمى السكر، ولا يسمى السكر إلا نبيذ التمر خاصةً.
وقال بعض الناس: ليس نبيذ التمر خمراً. ويحتجون بقول عمر: ما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام.
وقال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله. وهذا هو القول عندي، لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة، وكلها يقع عليها هذا الاسم في ذلك الوقت.
وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن من البتع، وهو نبيذ العسل. وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة، وخمرة التمر يقال له: البتع والفضيخ.
وذكر أن عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل.
والخمر ما خامر العقل. ولأهل اليمن أيضاً شراب من الشعير، يقال له المزر.
فزعم ها هنا ابن قتيبة أن هذه الأشربة كلها خمر. وقال: هذا هو القول وقد تقدم له في صدر الكتاب أن النبيذ لا يسمى نبيذاً حتى يشتد ويسكر كثيره، كما أن عصير العنب لا يسمى خمراً حتى يشتد، وأن صدر هذه الأمة وأئمة الدين لم يختلفوا في شيء اختلافهم في النبيذ، وكيفيته.
ثم قال فيما حكم به بين الفريقين: أما الذين يذهبون إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر، وبين ما طبخ وبين ما نقع، فإنهم غلوا في القول جداً، ونحلوا قوماً من أصحاب رسول الله ( البدريين، وقوماً من خيار التابعين، وأئمة من السلف المتقدمين شرب الخمر. وزينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل. وغلطوا في ذلك، فأتهموا القوم، ولم يتهموا نظرهم، ونحلوهم الخطأ، وبرءوا أنفسهم منه.

فعجبت منه، كيف يعيب هذا المذهب ثم يتقلده، ويطعن على قائله ثم يقول به. إلا أني نظرت في كتابه فرأيته قد طال جداً، فأحسبه أنسي في آخره ما ذهب إليه في أوله.
والقول الأول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب، وتقبله العقول، لا قوله الآخر الذي غلط فيه.
احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيره
ذهبوا أجمعوا أن جميع ما أسكر كثيره من الشراب فقليله حرام، كتحريم الخمر. وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها، ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين ما نقع. وقضوا عليه كله أنه حرام. وذهبوا من الأثر إلى حديثٍ رواه عبد الله ابن قتيبة عن محمد بن خالد بن خداش، عن أبيه، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام وكل مسكر خمر " . وحديثٍ رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه، عن المعتمر بن سليمان، عن ميمون بن مهدي، عن أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام " .والفرق: ستة عشر رطلاً. وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: فأصغرها المد، وهو رطل وثلث في قول الحجازيين، ورطلان في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد.
والصاع: أربعة أمداد، خمسة أرطال وثلث، في قول الحجازيين، وثمانية أرطال في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع.
والقسط وهو رطلان وثلثان، في قول الناس جميعاً. والفرق، وهو ستة عشر رطلاً، ستة أقساط في قول الناس جميعاً.
وذهبوا إلى حديثٍ رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة، عن اعائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل شراب أسكر فهو حرام " ، مع أشباهٍ لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها، إلا أن هذه أغلظها في التحريم، وأبعدها من حيلة المتأول.
قالوا: والشاهد على ذلك من النظر: أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجنايتها على شاربها، ولأنها رجس، كما قال الله.
ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا، في باب آفات الخمر وجناياتها.
ثم قالوا: فالعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار، ومن الصداع والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، قائمة بعينها في النبيذ كله المسكر. فسبيله الخمر، لا فرق بينهما في الدليل الواضح، والقياس الصحيح. كما أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السمن، إنه كان جامداً ألقيت وألقي ما حولها، وإن كان ذائباً أريق السمن. فحملت العلماء الزيت وغيره محمل السمن، بالدليل الواضح.
وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس الفأرة، وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى به، فقاس العلماء الزيت وغيره بالسمن. وكما أمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار، فعلم أهل العلم أنه إنما أراد صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الأحجار للتنقية من الأذى، فأجازوا كل ما أنقى: من الخزف، والخرق، وغير ذلك، وحملوه محمل ثلاثة الأحجار. ولما حرمت الخمر لعلةٍ قائمة في النبيذ المسكر حمل النبيذ محمل الخمر في التحريم.
قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث النفس وصداع الرأس من الخمر: مخمور وبه خمار. ويقولون مثل ذلك في شارب النبيذ، ولا يقولون: منبوذ، ولا به نباذ. والخمار مأخود من الخمر، كما يقال: الكباد في وجع الكبد، والصدار في وجع الصدر.
وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، " أنه نهى عن أن ينبذ في الدباء والمزفت " ، وقالوا: لمن أجاز قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقته السكر حد ينتهى إليه، ولا يوقف عنده، ولا يعلم شارب من شاربي المسكر متى يسكر حتى يسكر كما لا يعلم الناعس متى يرقد حتى يرقد. وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر. ويشرب من غيره قدحاً واحداً فيسكر، لا، بل قد يختلف طبع الرجل في نفسه، فيسكر مرة من القدحين ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر.
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة

" أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرم أمر ساءت فيه رغبة كثير منهم، حتى سفه أحلامهم، وأذهب عقولهم، فاستحل به الدم الحرام، والفرج الحرام، وإن رجالاً منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء، فلا بأس علينا في شربه. ولعمري إن فيما قرب مما حرم الله بأساً، وإن في الأشربة التي أحل الله: من العسل، والسويق، والنيذ من الزبيب والتمر لمندوحةً عن الأشربة الحرام، غير أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لا زفت فيها، ولا يشرب منها ما يسكر؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب ما جعل في الجرار، والدباء، والظروف المزفتة. وقال: " كل مسكر حرام " . فاستغنوا بما أحل الله لكم عما حرم عليكم. وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء، وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة، وكل مسكر - اتخاذ الحجة عليكم. فمن يطع منكم فهو خير له. ومن يخالف إلى ما نهي عنه نعاقبه على العلانية، ويكفنا الله ما أسر. فإنه على كل شيء رقيب. ومن استخفى بذلك عنا فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً " .
احتجاج المحللين للنبيذ
قال المحللون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ: إنما حرمت الخمر بعينها خمر العنب خاصةً بالكتاب، وهي معقولة مفهومة، لا يمتري فيها أحدٌ من المسلمين، وإنما حرمها الله تعبداً لا لعلة الإسكار كما ذكرتم، ولا لأنها رجس كما زعمتم. ولو كان ذلك كذلك لما أحلها الله للأنبياء المتقدمين، والأمم السالفين، ولا شربها نوحٌ بعد خروجه من السفينة، ولا عيسى ليلة رفع، ولا شربها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام.
وأما قولكم: إنها رجس، فقد صدقتم في اللفظ، وغلطتم في المعنى، إذ كنتم أردتم أنه منتنة؛ فإن الخمر ليست بمنتنة ولا قذرة، ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر، وإنما جعلها الله رجساً بالتحريم، كما جعل الزنا فاحشة ومقتاً، أي معصية وإثماً، بالتحريم، وإنما هو جماع كجماع النكاح، وهو عن تراضٍ وبذل، كما أن النكاح عن تراضٍ وبذل. وقد يبذل في السفاح ما يبذل في النكاح، ولذلك سمى الله تبارك وتعالى المحرمات كلها خباثث. فقال تعالى: " ويحرم عليهم الخبائث " . وسمى المحللات كلها طيبات، فقال: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ، وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفاً، وإن اقتصد فيه. وقد ذكر الخمر فيما امتن به على عباده قبل تحريمها، فقال تعالى: " ومن ثمرات التخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " . ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها الله في جنته، وسماها لذة للشاربين.
وإن قلتم: إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا؛ لأن الله نفى عنها عيوب خمر الدنيا، فقال تعالى: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " ، وكذلك قوله في فاكهة الجنة: " لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة " ، فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا؛ لأنها تأتي في وقتٍ وتنقطع في وقت، ولأنها ممنوعة إلا بالثمن، ولها آفات كثيرة، وليس في فواكه الجنة آفة. وما سمعنا أحداً وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم من طيب النسيم، وذكاء الرائحة.
قال الأخطل:
كأنما المسك نهبى بين أرحلنا ... وقد تضوع من ناجودها الجاري
وقال آخر:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
وقال أبو نواس:
نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريحٍ فتفوح
وإنما قوله فيها " رجس " كقوله تعالى: " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم " . أي كفراً إلى كفرهم.
وأما منافعها التي ذكرها الله تعالى في قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، فإنها كثيرةٌ لا تحصى: فمنها أنها تدر الدم، وتقوي المنة وتصفي اللون، وتبعث النشاط، وتفتق اللسان، ما أخذ منها بقدر الحاجة، ولم يحاوز المقدار. فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضراً.
وقال ابن قتيبة، في كتاب الأشربة: كانت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح، ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً، وربما سميت روحاً.
وقال إبراهيم النظام:
ما زلت آخذ روح الزق في لطفٍ ... وأستبيح دماً من غير مذبوح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح

وقد تسمى دماً لأنها تزيد في الدم. قال مسلم بن الوليد الأنصاري:
مزجنا دماً من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منا الدم الدم
قال ابن قتيبة: وحدثني الرياشي أن عبيداً راوية الأعشى قال: سألت الأعشى عن قوله:
وسلافةٍ مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
فقال: " شربتها حمراء، وبلتها بيضاء " . يريد أن حمرتها صارت دماً.
ومن منافع الخمر أنها تزيد في الهمة، وتولد الجرأة، وتهيج الأنفة، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان. قال حسان بن ثابت:
ونشر بها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقال طرفة:
فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وقال مسلم بن الوليد:
تصد بنفس المرء عماً يغمه ... وتنطق بالمعروف ألسنة البخل
وقال الحسن بن هانئ:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
ومن تسخيتها للبخيل على البذل قول بعض المحدثين:
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحةٌ في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا
فياليت حظي من سروري وترحتي ... ومن جوده ألا علي ولا ليا
قالوا: ولولا أن الله تعالى حرم الخمر في كتابه لكانت سيدة الأشربة. وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى، والثالثة أطيب من الثانية، حتى يؤديك إلى أرفق الأشياء وهو النوم. وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية، والثانية أطيب من الثالثة حتى تمله وتكرهه.
وسقى قومٌ أعرابياً كؤوساً، ثم قالوا: كيف تجدك؟ قال أجدني أبشر وأجدكم تحببون إلي.
وقالوا: ما حرم الله شيئاً إلا عوضنا ما هو خير منه أو مثله، وقد جعل الله النبيذ عوضاً عن الخمر نأخذ منه ما يطيب النفس، ويصفي اللون، ويهضم الطعام، ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل، ويصدع الرأس، ويغثي النفس، ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم جناياتها.
قالوا: وأما قولكم: إن الخمر كل ما خمر، والنبيذ كله يخمر، فهو خمر - فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني، فتسمى ببعضها لعلةٍ فيها، وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر. ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبةٍ تلقى فيه ولا يسمى خمراً، وأن العجين قد يخمر فيسمى خميراً ولا يسمى خمراً، وأن نقيع التمر يسمى سكراً لإسكاره ولا يسمى غيره من النبيذ سكراً وإن كان مسكراً. وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به.
ورائب اللبن يسكر إسكاراً كسكر النبيذ. ويقال: قوم ملبونون، وقوم روبى، إذا شربوا الرائب فسكروا منه. وقال بشر بن أبي خازم:
فأما تميم تميم بن مرٍ ... فألفاهم القوم روبي نياما
وأما قولكم للرجل: مخمور، وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر، وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نباذ - فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يعرض مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه ما يقال في الخمر. وإنما كان شربة النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء ومما لا يعرض منه خمار.
وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر، فقال الأقيشر، وكان مغرماً بالشراب:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف، ولم تنغر بها ساعةً قدر
أتاني بها يحيى، وقد نمت نومةً ... وقد غارت الشعري، وقد خفق النسر
فقلت: اصطحبها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب، ويحك، والخمر
إذا المرء وافى الأربعين، ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه، ولا تنكر عليه الذي أنى ... وأن جر أرسان الحياة له الدهر
فأعلمك أن الخمر هي التي لم تغل به القدور.
وأما قول بعض الشعراء في شاربي النبيذ، وما عابوهم به من قلة الوفاء، ونقض العهود فقد قالوا أقبح من ذلك في تارك النبيذ، وقال ابن بيض:
ألا لا يغرنك ذو سجدةٍ ... يظل بها دائباً يخدع

===============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...