كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2022

مجلد 6.الجزء السادس الخطوط ومرافقها الحيوان للجاحظ

 

الجزء السادس الخطوط ومرافقها

بسم الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم جنبنا فضول القول، بما عندنا، ولا تجعلنا من المتكلفين. قد قلنافي الخطوط ومرافقها، وفي عموم منافعها، وكيف كانت الحاجة إلى استخراجها، وكيف اختلفت صورها على قدر اختلاف طبائع أهلها، وكيف كانت ضرورتهم إلى وضعها، وكيف كانت تكون الهلة عند فقدها.
وقلنا في العقد ولم تكلفوه، وفي الإشارة ولم اجتلبوها، ولم شبهوا جميع ذلك ببيان اللسان، حتى سموه بالبيان. ولم قالوا: القلم أحد اللسانين، والعين أنم من اللسان.
وقلنا في الحاجة إلى المنطق وعموم نفعه، وشدة الحاجة إليه، وكيف صار أعم نفعاً، ولجميع هذه الأشكال أصلاً، وصار هو المشتق منه، والمحمول عليه، وكيف جعلنا الأجسام الصامتة نطقاً والبرهان الذي في الأجرام الجامدة بياناً.
وذكرنا جملة القول في الكلب والدِّيك في الجزْأين الأوَّلين، وذكرْنا جملة القول في الحمام، وفي الذِّبَّان، و في الغربان، وفي الخنافس، وفي الجعلان، إلاّ ما بقي من فضْل القول فيهما، فإنّا قد أخَّرنا ذلك، لدخوله في باب الحشرات، وصواب موقعهما في باب القول في الهمج - في الجزء الثالث.
وإذا سمعت ما أودعها اللّه تعالى من عظيم الصَّنعة، وما فطرها اللّه تعالى عليه من غريب المعرفة، وما أجْرى بأسبابها من المنافع الكثيرة، والمِحن العظيمة، وما جعل فيها من الدَّاء والدَّواء - أجلَلْتها أنْ تسميها همجاً، وأكبرت الصنف الآخر أنْ تسمِّيه حشرة، وعلمت أنَّ أقدارَ الحيوان ليست على قدر الاستحسان، ولا على أقْدار الأثمان.
وذكرنا جملة القول في الذّرّة والنَّملة، وفي القرد والخنزير، وفي الحيَّات والنّعام، وبعض القول في النَّار في الجزء الرابع.
والنار - حفظك اللّه - وإنْ لم تكن من الحيوان، فقد كان جرى من السَّبب المتَّصل بذكرها، ومن القول المضمر بما فيها، ما أوجبَ ذِكْرها والإخبار عن جملة القول فيها.
وقد ذكرنا بقيَّة القول في النّارِ، ثمَّ جملة القول في العصافير، ثمَّ جملة القول في الجرذان والسَّنانير والعقارب، وِلجَمْعِ هذه الأجناس في باب واحد سببٌ سيعرفه من قرأه، ويتبيّنه من رآه.
ثمَّ القولَ في القمل والبراغيث والبعوض، ثمَّ القول في العنكبوت والنَّحل، ثمَّ القولَ في الحُبارى. ثمَّ القول في الضَّأن والمعز، ثم القول في الضفادع والجراد، ثمَّ القول في القطا. الإطناب والإيجاز

وقد بقيتْ - أبقاك اللّه تعالى - أبوابٌ توجب الإطالة، وتُحوج إلى الإطناب، وليس بإطالةٍ ما لم يُجاوزْ مِقْدارَ الحاجة، ووقف عند منتهى البغية.
وإنما الألفاظ على أقدار المعاني، فكثيرُها لكثيرها، وقليلها لقليلها، وشريفُها لشريفها، وسخيفها لسخيفها، والمعاني المفردةُ، البائنة بصٍُورها وجهاتها، تحتاج من الألفاظ إلى أقلَّ مما تحتاج إليه المعاني المشتركة، والجهاتُ الملْتبسة.
ولو جَهِد جميعُ أهل البلاغة أن يُخبروا من دونهم عن هذه المعاني، بكلام وجيز يُغْني عن التفسير باللِّسان، والإشارة باليد والرأس - لما قَدَرُوا عليه، وقد قال الأوّل: إذا لم يكنْ ما تُريدُ فأرِدْ ما يكون، وليس ينبغي للعاقل أن يسُوم اللُّغاتِ ما ليس في طاقتها، ويسومَ النُّفوس ما ليس في جِبلَّتها، ولذلك صار يحتاجُ صاحبُ كتاب المنطق إلى أنْ يفسِّره لِمَنْ طُلب مِنْ قبَلِه علم المنطق، وإن كان المتكلمُ رفيق اللِّسان، حسن البيان، إلاّ أنِّي لا أشُكُّ على حالٍ أنَّ النفوسَ إذْ كانتْ إلى الطَّرائف أحنَّ، وبالنَّوادر أشغف، وإلى قصار الأحاديث أمْيل، وبها أصبَّ - أنَّها خليقةٌ لاستثقال الكثير، وإن استحقَّت تلك المعاني الكثيرة، وإنْ كان ذلك الطَّويلُ أنفعَ، وذلك الكثيرُ أردّ.

رجع إلى سرد سائر أبواب الكتاب

وسنبدأ بعون اللّه تعالى وتأييده، بالقول في الحشرات والهمج، وصغار السباع، والمجهولات الخاملة الذِّكْر من البهائم، ونجعل ذلك كله باباً واحداً، ونتَّكل، بعد صُنْع اللّه تعالى، على أنّ ذلك الباب إذْ كان أبواباً كثيرة، وأسماء مختلفة - أنّ القارئ لها لا يملُّ باباً حتَّى يخرجه الثَّاني إلى خلافه، وكذلك يكون مقامُ الثَّالث من الرَّابع، والرابع من الخامس، والخامس من السَّادِس،

مقياس قدر الحيوان

وليس الذي يُعتمد عليه من شأن الحيوان عِظم الجثة، ولا كثرة العدد، ولا ثقل الوزن! والغايةُ التي يُجرى إليها، والغرض الذي نرمي إليه غير ذلك، لأن خلْق البعوضة وما فيها من عجيب التركيب، ومن غريب العمل، كخلْق الذَّرَّة وما فيها من عجيب التركيب، ومن الأحاسيس الصَّادقة، والتدابير الحسنة، ومن الرويَّةِ والنظر في العاقبة، والاختيارِ لكلِّ ما فيه صلاحُ المعيشة، ومع ما فيها من البُرهانات النيرة، والحججِ الظَّاهرة.
وكذلك خَلْق السُّرْفة وعجيب تركيبها، وصنْعة كفِّها، ونظرها في عواقب أمرها.
وكذا خلق النَّحْلة مع ما فيها من غريب الحكم، وعجيب التَّدبير، ومن التقدُّم فيما يُعيشها، والادخارِ ليوم العجْز عن كسبها، وشمِّها ما لا يُشَمُّ، ورؤيتها لما لا يُرى، وحُسن هدايتها، والتّدبير في التأمير عليها، وطاعة ساداتها، وتقسيط أجناس الأعمال بينها، على أقدار معارفها وقُوّة أبدانها.
فهذه النَّحلة، وإن كانت ذبابة، فانظر قبل كل شيء في ضروب انتفاع ضُروب الناس فيها، فإنَّك تجدُها أكبر من الجبل الشامخ، والفضاء الواسع.
وكلُّ شيء وإن كان فيه من العجب العاجب، ومن البُرهان النّاصع، ما يوسِّع فِكر العاقل، ويملأ صدْر المفكّر، فإنّ بعض الأمور أكثرُ أعجوبة، وأظهر علامة، وكما تختلف بُرهاناتها في الغموض والظُّهور، فكذلك تختلف في طبقات الكثْرةِ، وإن شملتها الكثرةُ، ووقع عليها اسم البرهان.

رجْع إلى سرد سائر أبواب الكتاب

ولعلَّ هذا الجزء الذي نبتدئُ فيه بذكر ما في الحشرات والهمج، أنْ يفضل من ورقه شيءٌ، فنرفعه ونتِمَّه بجملة القول في الظّباء والذئاب، فإنَّهما بابان يقصُران عن الطوال، ويزيدان على القصار.
وقد بقي من الأبواب المتوسِّطة والمقتصدة المعتدلة، التي قد أخذت من القِصر لمنَ طلب القصر بحظٍّ، ومن الطُّول لمن طلب الطُّول بحظّ وهو القولُ في البقر، والقولُ في الحمير، والقولُ في كِبار السِّباع وأشرافِها، ورؤسائها، وذوِي النَّباهة منها، كالأسد والنَّمر، والبَبْر وأشباه ذلك، مما يجمعُ قوَّة أصل النَّاب، والذَّرب، وشَحْو الفم، والسَّبُعيّة وحدّة البرثن، وتمكُّنه في العصب، وشدّة القلب وصرامته عند الحاجة، ووثاقة خَلْق البدن، وقوّته على الوثْب. وسنذكر تسالُمَ المتسالمةِ منها، وتعادِي المتعادية منها، وما الذي أصلح بينها على السَّبُعيَّة الصِّرف، واستواء حالها في اقتيات اللُّحمان، حتَّى ربَّما استوت فريستُها في الجنس.
وقد شاهدْنا غير هذه الأجناس يكون تعاديها من قِبل هذه الأمور التي ذكرناها، وليس فيما بين هذه السِّباع بأعيانها تفاوتٌ في الشِّدَّة، فتكون كالأسد الذي يطلب الفهد ليأكله، والفهدُ لا يطمع فيه ولا يأكله، فوجدنا التَّكافؤ في القُوَّة والآلة من أسباب التَّفاسُد، وإنَّ ذلك ليعملُ في طباع عقلاء الإنس حتَّى يخُرجوا إلى تهارُشِ السِّباع، فما بالها لم تعمل هذا العمل في أنفُس السِّباع? وسنذكر علَّة التسالم وعِلَّة التعادي، ولِم طُبعت رؤساء السِّباع على الغفلة وبعض ما يدخلُ في باب الكرَم، دون صغار السِّباع وسفْلتها، وحاشيتها وحَشْوها، وكذلك أوساطها، والمعتدلة الآلة والأسر منها.

شواهد هذا الكتاب

ولم نذكر، بحمد اللّه تعالى، شيئاً من هذه الغرائب، وطريفة من هذه الطرائف إلا ومعها شاهد من كتاب مُنْزلٍ، أو حديثٍ مأثور، أو خبرٍ مستفيض، أو شعرٍ معروف، أو مثل مضروب، أو يكون ذلك ممّا يشهد عليه الطبيب، ومن قد أكثر قراءة الكتب، أو بعض من قد مارَس الأسفار، وركب البحار، وسكنَ الصَّحارِي واستَذْرى بالهضاب، ودخل في الغياض، ومشى في بطون الأودية.
وقد رأيْنا أقواماً يدَّعُون في كتبهم الغرائب الكثيرة، والأمور البديعة، ويخاطرون من أجل ذلك بمروءاتهم، ويُعرِّضون أقدارهم، ويسلِّطون السُّفهاء على أعراضهم، ويجترُّون سُوء الظَّنِّ إلى أخبارهم، ويحكِّمون حُسّاد النِّعم في كتبهم، ويمكِّنون لهم من مقالتِهم، وبعضهم يتّكل على حُسْن الظَّنِّ بهم، أو على التسليم لهم، والتقليد لدعواهم، وأحسنهم حالاً من يُحِبُّ أن يُتفضَّلَ عليه ببسط العُذْر له، ويُتكلّف الاحتجاجُ عنه، ولا يبالي أن يُمَنّ بذلك على عقبه، أو من دان بدينه، أو اقتبس ذلك العلم من قِبل كُتُبه.
ونحن حفظك اللّه تعالى، إذا استنطقْنا الشَّاهد، وأحَلْنا على المثل، فالخصومة حينئذٍ إنَّما هي بينهم وبينها، إذْ كنّا نحنُ لم نستشهد إلاّ بما ذكرنا، وفيما ذكرنا مقنعٌ عند علمائنا، إلاّ أن يكون شيءٌ يثبتُ بالقياس، أو يبطلُ بالقياس، فواضعُ الكتاب ضامنٌ لتخليصه وتلخيصه، ولتثبيتِهِ وإظهار حجّته.
فأمَّا الأبوابُ الكبارُ فمثلُ القَوْل في الإبل، والقولِ في فضيلة الإنسان على جميع الحيوان، كفضل الحيوان على جميع النامي، وفضل النَّامي على جميع الجماد.
وليس يدخلُ في هذا الباب القولُ فيما قسم اللّه، عزّ وجلّ، لبعض البقاع من التَّعظيم دون بعض، ولا فيما قسم من السّاعات والليالي، والأيَّام والشُّهور وأشباه ذلك، لأنّه معنًى يرجع إلى المختبرين بذلك، من الملائكة والجنّ والآدميِّين.
فمن أبواب الكبار القول في فصْل ما بين الذُّكورةِ والإناث، وفي فصْل ما بين الرّجل والمرأة خاصَّة.
وقد يدخل في القول في الإنسان ذكر اختلاف النّاس في الأعمار، وفي طول الأجسام، وفي مقادير العقول، وفي تفاضل الصِّناعات، وكيف قال من قال في تقديم الأوَّل، وكيف قال من قال في تقديم الآخر.
فأما الأبوابُ الأُخر، كفضْل الملكِ على الإنسان، وفضلِ الإنسان على الجانّ، وهي جملة القول في اختلاف جواهرهم، وفي أيِّ موضع يتشاكلون، وفي أيِّ موضع يختلفون؛ فإن هذه من الأبوابَ المعتدلة في القصَر والطّول. وليس من الأبواب بابُ إلاّ وقد يدخلُه نُتفٌ من أبوابٍ أُخرَ على قدْرِ ما يتعلّق بها من الأسباب، ويعرض فيه من التضمين، ولعلك أن تكون بها أشدَّ انتفاعاً.
وعلى أني ربما وشّحْت هذا الكتاب وفصَّلت فيه بين الجزء والجزء بنوادر كلام، وطرف أخبار، وغُرر أشعار، مع طرف مضاحيك، ولولا الذي نُحاول من استعطاف على استتمام انتفاعكم لقد كنَّا تسخَّفْنا وسخَّفْنا شأن كتابنا هذا.
وإذا علم اللّه تعالى موقع النِّيَّة، وجهة القصْد، أعان على السَّلامة من كلّ مخوف.

العلة في عدم إفراد باب للسمك

ولم نجعل لما يسكن المِلحَ والعذوبة، والأنهارَ والأدوية، والمناقع والمياه الجارية، من السَّمَك وممَّا يخالف السَّمك، ممَّا يعيش مع السمك - باباً مجرّداً، لأنِّي لم أجدْ في أكثره شِعراً يجمع الشّاهد ويُوثق منه بحسْنِ الوصف، وينشِّط بما فيه من غير ذلك للقراءة، ولم يكن الشّاهد عليه إلاّ أخبار البحْريِّين، وهم قومٌ لا يعدُّون القول في باب الفِعْل، وكلّما كان الخبرُ أغرب كانوا به أشدّ عُجْباً، مع عبارة غثَّة، ومخارج سَمِجة.
وفيه عيبٌ آخر: وهو أنّ معه من الطّول والكثْرة ما لا تحتملونه، ولو غنَّاكم بجميعه مُخارِق، وضرب عليه زلْزل، وزمر به بَرْصُوماً، فلذلك لم أتعرَّضْ له.
وقد أكثر في هذا الباب أرسطاطاليس، ولم أجد في كتابه على ذلك من الشّاهد إلاّ دعْواه.
ولقد قلت لرجل من البحريِّين: زعم أرسطاطاليس أنّ السّمكة لا تبتلعُ الطُّعم أبداً إلاّ ومعه شيءٌ من ماء، مع سعة المدخل، وشرّ النفس، فكان من جوابه أن قال لي: ما يعلم هذا إلاّ مَنْ كان سمكة مرَّةً، أو أخبرته به سمكة، أو حدَّثه بذلك الحواريُّون أصحاب عيسى، فإنهم كانوا صيّادين، وكانوا تلامذة المسيح.
وهذا البحريُّ صاحبُ كلام، وهو يتكلَّف معرفة العِلل، وهذا كان جوابه، ولكني لن أدع ذِكْرَ بعض ما وجدته في الأشعار والأخبار، أوْ كان مشهوراً عند من ينزل الأسيافَ وشطوط الأودية والأنهار، ويعرفه السَّمَّاكون، ويُقِرُّ بهِ الأطبَّاء - بقدر ما أمكن من القول.
زعم إياس بن معاوية في الشبُّوط وقد روى لنا غيرُ واحد من أصحابِ الأخبار، أنّ إياسَ بن مُعاوية زعم أنّ الشَّبُّوطة كالبغْل، وأنّ أُمّها بُنيّة، وأباها زَجْرٌ، وأنّ من الدّليل على ذلك أنّ الناس لم يجدوا في بطن شَبُّوطة قطُّ بيضاً.
وأنا أخبرك أنِّي قد وجدته فيها مِراراً، ولكنِّي وجدتُهُ أصغر جُثّةً، وأبعد من الطِّيب، ولم أجده عامّاً كما أجده في بطون جميع السمك.
فهذا قول أبي واثلة إياس بن معاوية المزني الفقيه القاضي، وصاحب الإزكان، وأقْوف من كرْز بن علقمة، داهية مُضر في زمانه، ومفخرٌ من مفاخر العرب.
الشك في أخبار البحريين والسّماكين والمترجمين فكيف أسكُنُ بعد هذا إلى أخبار البحْريِّين، وأحاديث السمَّاكين، وإلى ما في كتابِ رَجُل لعلَّه أنْ لو وجد هذا المترجم أن يُقِيمَهُ على المِصْطبة، ويبرأ إلى النَّاس من كذبه عليه، ومن إفساد معانيه بسوء ترجمته.

فصيلة الضب

والذي حضرني من أسماء الحشرات، ممَّا يرجع عمود صُورها إلى قالبٍ واحد، وإن اختلفتْ بعد ذلك في أمور، فأوَّل ما نذكر من ذلك الضبّ.
والأجناسُ التي ترجع إلى صورة الضّبّ: الورلُ، والحرباء، والوحرة، والحُلْكة، وشحمة الأرض، وكذلك العظاء، والوزغ، والحرذون، وقال أبو زيد: وذكر العظاية هو العضْرَفُوط، ويقال في أمِّ حُبين حُبيْنة وأشباهُها مما يسكن الماء: الرّقُّ، والسُّلحفاة، والغيلم، والتِّمساح، وما أشبه ذلك.

الحشرات

وممّا نحن قائلون في شأنه من الحشرات: الظربان، والعُثّ والحُفَّاث والعِربِدُ، والعضْرفوط، والوبْر، وأم حبين، والجعل، والقرَنْبى والدَّسَّاس، والخنفساء، والحيّة، والعقرب، والشّبث والرُّتيلاء، والطَّبُّوع، والحرقُوص، والدَّلم، وقمْلة النَّسْر، والمثل، والنِّبْر، وهي دويْبَّة إذا دبَّتْ على جلد البعير تورَّم، ولذلك يقول الشاعر، وهو يصف إبله بالسِّمن:

دَبَّتْ عليها ذربات الأنبارْ

 

كأنّها من بُدُنٍ واستيقـارْ

وقال الآخر :

بجلودهن مدارِجُ الأنبارِ

 

حمر تحقّنت النَّجيلَ كأنما

والضَّمْج، والقنفذ، والنَّمْل، والذّرِّ، والدّساس، ومنها ما تتشاكل في وجوه، وتختلف من وجوه: كالفأر والجرذان والزباب، والخلد واليربوع، وابن عِرس، وابن مقرض ومنها العنكبوت الذي يقال له منونة، وهي شرُّ من الجرَّارة والضّمْج.

ما فيه الوحشي والأهلي من الحيوان

وسنقول في الأجناس التي يكون في الجنس منها الوحشيُّ والأهليّ، كالفيلة، والخنازير، والبقر، والحمير، والسَّنانير.
والظِّباء قد تَدْجُن وتُولّد على صُعوبةٍ فيها، وليس في أجناس الإبل جنس وحشيٌّ، إلاّ في قول الأعراب.

ما هو أهلي صرف أو وحشي صرف من الحيوانات

وممَّا يكون أهليّاً ولا يكون وحشيّاً وهو سبعُ - الكلاب وليس يتوحّش منها إلاّ الكلب الكَلِب، فأمّا الضِّباع والذِّئاب، والأسد، والنمور، والبُبور، والثعالب، وبنات آوى، فوحشيَّةٌ كلها، وقد يقلّم الأسد وتُنزع أنْيابه، ويطول ثواؤُه مع الناس حتى يهرم مع ذلك، ويحسّ بعجزه عن الصَّيد، ثمَّ هو في ذلك لا يُؤتمن عُرامه ولا شروده، إذا انفرد عن سوَّاسه، وأبصر غيضة قُدّامها صَحراء.
قصة الأعرابي والذئب وقد كان بعض الأعراب ربّى جرو ذئب صغيراً، حتَّى شبَّ، وظنَّ أنه يكونُ أغْنى غناءً من الكلب، وأقوى على الذّبِّ عن الماشية، فلمَّا قوي شيئاً وثب على شاةٍ فذبحها - وكذلك يصنعُ الذِّئب - ثمَّ أكل منها فلمَّا أبصر الرّجل أمرهُ قال:

فمن أنباك أنّ أباك ذيبُ

 

أكَلْتَ شوَيهتي وَربيت فينا

وقد أنكر ناسٌ من أصحابنا هذا الحديث، وقالوا: لم يكنْ ليألفه ويقيم معه بعد أن اشتدّ عظْمُه ولِمَ لَمْ يذهَبْ مع الذِّئاب والضِّباع، ولم تكن الباديةُ أحبَّ إليه من الحاضرة، والقفارُ أحبَّ إليه من المواضع المأنوسة.
كيف يصير الوحشيُّ من الحيوان أهلياً وليس يصير السبعُ من هذه الأجناس أو الوحشيُّ من البهائم أهليّاً بالمقام فيهم، وهو لا يقدر على الصَّحاري، وإنما يصير أهليّاً إذا ترك منازل الوحش وهي له مُعْرضة.
ما يعتري الوحشي إذا صار إلى الناس وقد تتسافد وتتوالد في الدُّور وهي بعد وحشيَّة، وليس ذلك فيها بعامّ، ومن الوحْش ما إذا صار إلى النّاس وفي دُورهم ترك السّفاد، ومنها ما لا يطعم ولا يشربُ البتَّة بوجْهٍ من الوجوه، ومنها ما يُكره على الطُّعْم ويدخل في حلقة كالحيّة، ومنها ما لا يسفد ولا يدْجُن، ولا يطعم ولا يشرب، ولا يصيحُ حتى يموت وهذا المعنى في وحشيِّ الطَّير أكثر.
السوراني ورياضته للوحوش والذي يحكى عن السوراني القَنَّاص الجبليّ ليس بناقضٍ لما قُلنا، لأنّ الشَّيء الغريبَ، والنادر الخارجيّ، لا يقاس عليه، وقد زعموا أنّه بلغ من حذْقه بتدريب الجوارح وتضْرِيتها أنّه ضرَّى ذئباً حتّى اصطاد به الظِّباء وما دونها، صيداً ذريعاً، وأنه ألفه حتى رجع إليه من ثلاثين فرسخاً، وقد كان بعضُ العُمَّال سرقه منه، وقد ذكروا أنّ هذا الذِّئب قد صار إلى العسكر، وأن هذا السُّوراني ضرّى أسداً حتى اصطاد له الحمير فما دونها صيداً ذريعاً، وأنه ضرَّى الزَّنابيرَ فاصطاد بها الذِّبّان، وكلُّ هذا عجب، وهو غريبٌ نادرٌ، بديعٌ خارجيّ وذكروا أنّه من قيس عيلان، وأن حليمة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قد ولدته.
الحيوانات العجيبة وليس عندي في الحمار الهنديِّ شيء، وقد ذكره صاحب المنطق، فأما الدِّباب، وفأرة المسك، والفنك، والقاقُم، والسِّنجاب، والسَّمُّور، وهذه الدوابّ ذوات الفِراء والوبر الكثيف النّاعم، والمرغوب فيه، والمنتفع به، فهي عجيبة.
وإنّما نذكر ما يعرفه أصحابنا وعلماؤنا، وأهلُ باديتنا، ألا ترى أنّي لم أذكر لك الحريش، والدُّخس، ولا هذه السِّباع المشتركة الخلق، المتولّدة فيما بين السِّباع المختلفة الأعضاء، المتشابهة الأرحام، التي إذا صار بعضُها في أيدي القرّادين والمتكسِّبين و الطوّافين، وضعوا لها أسماء، فقالوا: مقلاس، وكيلاس، وشلقطير، وخلقطير وأشباه ذلك، حين لمْ تَكُنْ من السِّباع الأصلية والمشهورة النسب، والمعروفة بالنّفع والضّرر.
وقد ذكرنا منها ما كان مثل الضبع، والسِّمع، والعِسبار، إذ كانت معروفةً عند الأعراب، مشهورة في الأخبار، منوَّهاً بها في الأشعار.
الاعتماد على معارف الأعراب في الوحش وإنَّما أعتمد في مثل هذا على ما عند الأعراب، وإن كانوا لم يَعْرِفوا شكل ما احتِيجَ إليه منها من جهة العناية والفلاية، ولا من جهة التذاكر والتكسُّب، ولكن هذه الأجناس الكثيرة، ما كان منها سبعاً أو بهيمةً أو مشترك الخلْق، فإنّما هي مبثوثة في بلاد الوحْش: من صحراء، أو وادٍ، أو غائط، أو غيضة، أو رملةٍ، أو رأس جبل، وهي في منازلهم ومناشئهم، فقد نزلوا كما ترى بينها، وأقاموا معها، وهم أيضاً من بين النّاس وحشٌ، أو أشباه الوحش. وربَّما؛ بلْ كثيراً ما يُبتلون بالناب والمخلب، وباللدغ واللَّسع، والعضّ والأكل، فخرجتْ بهم الحاجة إلى تعرُّف حالِ الجاني والجارح والقاتل، وحال المجنيِّ عليه والمجروحِ والمقتول، وكيف الطَّلبُ والهرب، وكيف الداء والدواء، لطول الحاجة، ولطول وُقوع البصر، مع ما يتوارثون من المعرفة بالدَّاء والدواء،

معرفة العرب للآثار والأنواء والنجوم

ومن هذه الجهة عرفوا الآثار في الأرض والرَّمل، وعرفوا الأنواءَ ونجوم الاهتداء، لأنَّ كلَّ من كان بالصَّحاصح الأماليس - حيث لا أمارة ولا هادي، مع حاجته إلى بعد الشَّقّة - مضطرٌّ إلى التماس ما ينجيه ويُؤْديه.
ولحاجته إلى الغيث، وفِراره من الجدْب، وضنِّه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تعرُّف شأنِ الغيث.
ولأنه في كلِّ حالٍ يرى السَّماء، وما يجري فيها من كوكب، ويرى التَّعاقب بينها، والنّجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجتمعاً وما يسير منها فارداً، وما يكون منها راجعاً ومستقيماً.

أقوال لبعض الأعراب في النجوم

وسئلت أعرابيَّة فقيل لها: أتعرفين النجوم? قالت: سبحانَ اللّه أما أعرف أشباحاً وُقوفاً عليَّ كلَّ ليلة.
وقال اليقطريّ: وصف أعرابيٌّ لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء، ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات اللّيل والسُّعودِ والنُّحوس، فقال قائلٌ لشيخ عباديٍّ كان حاضراً: أما ترى هذا الأعرابيَّ يعرف من النُّجوم ما لا نعرف قال: ويل أمِّك، منْ لا يعرف أجذاع بيته? قال: وقلت لشيخٍ من الأعراب قد خرِفَ، وكان من دُهاتهم: إني لا أراكَ عارفاً بالنُّجوم قال: أما إنّها لو كانت أكثر لكنتُ بشأنها أبصر، ولو كانت أقلَّ لكنت لها أذْكر.
وأكثرُ سببِ ذلك كلِّه - بعد فَرْط الحاجة، وطول المدارسة - دِقّةُ الأذهان، وجودة الحفظ، ولذلك قال مجنونٌ من الأعراب - لَمّا قال له أبو الأصْبَغِ بن رِبْعيّ: أما تعرِف النجوم? قال: وما لي أعرفُ من لا يعرفني? فلو كان لهذا الأعرابيِّ المجنون مثلُ عُقول أصحابه، لعرف مثل ما عرفوا.

ما يجب في التعليم

ولو كان عندي في أبْدان السَّمُّور، والفنَك، والقَاقُم، ما عِندي في أبدان الأرانب والثَّعالب، دون فرائها، لذكرتها بما قَلَّ أو كثُر، لكنّه لا ينبغي لمن قلَّ علمُه أن يدعَ تعليم من هو أقلُّ منه علماً،

الدساس وعلة اختصاصه بالذِّكر

ولو كانت الدَّسَّاس من أصناف الحيّات لم نخصَّها من بينها بالذِّكر، ولكنها وإن كانت على قالب الحيَّات وخَرْطها، وأفرغت كإفراغها وعلى عَمُود صُورها، فخصائصها دون خصائصها، كما يناسبها في ذلك الحُفَّاث والعِرْبِد، وليسا من الحيّات، كما أن هذا ليس من الحيّات، لأنّ الدّسَّاس ممسوحة الأذن، وهي مع ذلك ممَّا يلد ولا يبيض، والمعروف في ذلك أنّ الولادة هي في الأشرف، والبيض في الممسوح.
وقد زعم ناسٌ أنّ الولادة لا تُخرج الدَّسَّاسَ من اسم الحيّة، كما أن الولادة لا تخرج الخفَّاش من اسم الطير.
وكلّ ولد يخرج من بيضه فهو فرْخ، إلا ولد بيض الدَّجاج فإنّه فَرُّوج.
والأصناف التي ذكرناها مع ذكر الضَّبّ تبيض كلُّها، ويسمى ولدُها بالاسم الأعم فرْخاً.
وزعم لي ابنُ أبي العجوز، أنّ الدّسّاس تلد، وكذلك خبّرني به محمد بنُ أيوبَ ابن جعفر عن أبيه، وخبَّرني به الفضل بنُ إسحاق بن سليمان فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم.
وقد زعموا بهذا الإسناد أنّ الأرْويَّة تضعُ مع كلِّ ولد وضعَتْه أفعى في مشيمةٍ واحدة.
وقال الآخرون: الأرويّة لا تعرف بهذا المعنى، ولكنه ليس في الأرض نمرة إلا وهي تضعُ ولدها وفي عنقه أفعى في مكان الطَّوق، وذكروا أنَّها تنهش وتعضّ، ولا تقتل.
ولم أكتب هذا لتقرَّ بهِ، ولكنها رواية أحببت أن تسمعها، ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكنْ قلبك إلى إنكاره أميلَ.

الشك واليقين

وبعد هذا فاعرف مواضع الشّكّ، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشَّكّ في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلاّ تعرُّف التوقُّف ثمَّ التثبُّت، لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه.
ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف.
 أقوال لبعض المتكلمين في الشك ولمّا قال ابن الجهم للمَكِّيِّ: أنا لا أكاد أشكّ قال المكّيّ: وأنا لا أكاد أوقن ففخر عليه المكيّ بالشكّ في مواضع الشّك، كما فخر عليه ابنُ الجهم باليقين في مواضع اليقين.
وقال أبو إسحاق: نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدتُ الشُّكّاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود.
وقال أبو إسحاق: الشاك أقربُ إليك من الجاحِد، ولم يكنْ يقينٌ قط حتى كان قبله شكّ، ولم ينتقل أحدٌ عن اعتقادٍ إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حالُ شكّ.
وقال ابنُ الجهم: ما أطمعني في أوْبة المتحيِّر لأنّ كل من اقتطعته عن اليقين الحيرة فضالته التبيُّن، ومنْ وجد ضالته فرِح بها.
وقال عمرو بن عُبيد: تقرير لسانِ الجاحد أشدُّ من تعريفِ قلب الجاهل.
وقال أبو إسحاق: إذا أردت أن تعرِف مقدار الرجل العالِم، وفي أيِّ طبقةٍ هو، وأردت أن تدخِله الكورَ وتنفخ عليه، ليظهر لك فيه الصّحَّةُ من الفساد، أو مقدارُه من الصّحَّة والفساد، فكن عالماً في صورة متعلِّم، ثم اسأله سؤال من يطمع في بلوغ حاجتهِ منه.
فصل ما بين العوام والخواص في الشك والعوامُّ أقلُّ شكوكاً من الخواص، لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق والتكذيب ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق المجرّد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي تشتمل على طبقات الشك، وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك، وعلى مقادير الأغلب.
حرمة المتكلمين وسمع رجلٌ، ممَّن قد نظر بعض النظر، تصويب العلماء لبعض الشكّ، فأجرى ذلك في جميع الأمور، حتّى زعم أنّ الأمور كلها يُعرف حقها وباطُلها بالأغلب.
وقد مات ولم يخلّف عَقِباً، ولا واحداً يدينُ بدينه، فلو ذكرت اسمه مع هذه الحال لم أكنْ أسأت، ولكنِّي على حالٍ أكرهُ التّنويه بذكر من قد تحرّم بحُرمة الكلام، وشارك المتكلِّمين في اسم الصِّناعة، ولا سيَّما إنْ كان ممّن ينتحل تقْديم الاستطاعة.
الأوعال والثياتل والأيايل فأمّا القولُ في الأوعال، والثّياتِل، والأيايل وأشباه ذلك، فلم يحضرْنا فيها ما إن نجعل لذكرها باباً مبوباً، ولكننا سنذكرها في مواضِع ذكرها من تضاعيف هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.

الضب

وأنا مبتدئٌ على اسم اللّه تعالى في القول في الضَّبّ، على أنِّي أذمُّ هذا الكتابَ في الجملة، لأنَّ الشواهد على كلِّ شيء بعينه وقعتْ متفرِّقة غير مجتمعة، ولو قدرتُ على جمعها لكان ذلك أبلغ في تزكية الشَّاهد، وأنور َ للبُرهان، وأملأ للنفس، وأمْتع لها، بحسن الرّصف، وأحمده، لأنّ جُملة الكتاب على حالٍ مشتملةٍ على جميع تلك الحجج، ومحيطة بجميع تلك البرهانات، وإن وقع بعضُه في مكان بعضٍ، تأخَّر متقدِّم، وتقدّم متأخر.

جحر الضب وما قيل فيه من الشعر

وقالوا: و من كيْس الضّبّ أنّه لا يتخذ جُحره إلاّ في كُدْية وهو الموضع الصُّلب - أو في ارتفاعٍ عن المسيل والبسيط، ولذلك توجدُ براثنُه ناقصةً كليلة، لأنّه يحفر في الصَّلابة، ويعمِّق الحفْر، ولذلك قال خالد بن الطَّيْفان:

كما دُمِلَتْ ساقٌ تهاضُ بها كَسْـرُ

 

ومَولى كمولى الزِّبرقانِ دَمَلْـتـه

مضى الحوْل لا بُرْءٌ مُبينٌ ولا جَبرُ

 

إذا ما أحالتْ والجبـائرُ فَـوْقـهـا

وأذْنَيْهِ إنْ مولاهُ ثـابَ لـه وفـرُ

 

تراه كـأنّ الـلّـه يَجْـدَعُ أنـفـه

كضبِّ الكُدى أفنى براثِنَه الحفْـرُ

 

ترى الشَّرّ قد أفْنى دوائر وَجْـهـهِ

وقال كثيِّر:

وجدْتك بالقُفِّ ضَباً جَحُـولا

 

فإن شئت قلت له صـادقـاً

ولا يَبْتَغين الدِّماث السُّهـولا

 

من اللاءِ يحفِرْن تحت الكُدى

وقال دُريد بن الصِّمَّة:

لهُ في الصَّفاة بُرثنٌ ومـعـاوِلُ

 

وجدْنا أبا الجبَّار ضَبّاً مـورَّشـاً

ولو كان مِنهمْ حارشان وحابـلُ

 

له كدْيَةٌ أعيت على كلِّ قانـصٍ

تزلَّع جلدي عِنْـدَهُ وهـو قـائِلُ

 

ظَلِلْتُ أراعي الشمس لولا ملالتي

وأنشد لدريد بن الصمة:

 

بسالمةِ العَيْنينِ طـالـبةٍ عُـذْرا

 

وعوْراء مِنْ قيلِ امرئٍ قد ردَدْتُها

وأكثر منها أورثتْ بَيْنَنا غِمْـرا

 

ولو أنني إذ قالها قلْت مِثْـلَـهـا

 

لعلَّ غداً يُبدي لمُنْتظِـر أمـرا

 

فأعْرَضْتُ عنها وانتظرت به غداً

 

وأقْلِمَ أظفاراً أطال بها الحفـرا

 

لأُخرج ضباً كان تحت ضلوعِـه

 








وقال أوسُ بنُ حَجَر، في أكل الصَّخرِ للأظفار:

وألْقى بأسبابٍ لَـهُ وتـوَكّـلا

 

فأشرط فيها نفسهُ وهو مُعْصِمٌ

تَعايا عليه طولُ مَرْقًى تَوَصَّلا

 

وقد أكلت أظْفارَهُ الصَّخر كُلَّما

فقد وصفوا الضَّبّ كما ترى، بأنه لا يحفِرُ إلاّ في كدية، ويطيلُ الحفْرَ حتّى تفنى براثنه، ويتوخّى به الارتفاع عن مجاري السّيل و المياه، وعن مدق الحوافر، لكيلا يَنْهارَ عليه بيته.

الموضع الذي يختاره الضب لجحره

ولمّا علم أنَّهُ نَسَّاءٌ سيِّئ الهداية، لم يحفر وجاره إلاَّ عند أكمة، أو صخْرةٍ، أو شجرة، ليكون متى تباعد من جُحره لطلب الطُّعم، أو لبعض الخوف فالتفت ورآه؛ أحسن الهداية إلى جحره، ولأنّه إذا لم يُقِمْ عَلَماً فلعلّه أن يلِجَ على ظرِبانٍ أو وَرَل، فلا يكون دون أكله له شيءٌ.
فقالت العرب: خبٌّ ضبّ؛ و: أخبُّ من ضبّ؛ و أخْدع من ضبّ؛ و: كلُّ ضبٍّ عِنْد مِرْداتِهِ.
وإذا خَدع في زوايا حفيرته فقد توثَّق لنفسه عند نفسه.
حذر بعض الحيوان ولهذه العلّة اتخذ اليربوع القاصعاء، والنافقاء، والدَّامَّاء، والرَّاهطاء، وهي أبوابٌ قد اتخذها لحفيرته، فمتى أحسَّ بشرٍّ خالف تلك الجهة إلى الباب.
ولهذا وشبهه من الحذر كان التوبير من الأرانب وأشباهها، والتوبير: أنْ تطأ على زمعاتها فلا يعرف الكلبُ والقائفُ من أصحاب القنص آثار قوائمها.
ولما أشبه هذا التَّدبير صار الظبي لا يدخل كناسَه إلاّ وهو مستدبر، يستقبل بعينه ما يخافه على نفسه وخشفه.

شعر في حزم الضب واليربوع

وقد جمع يحيى بن منصورٍ الذُّهليّ أبواباً من حزم الضب، وخبثه وتدبيره، إلاّ أنّه لم يرد تفضيل الضب في ذلك، ولكنه بعد أنْ قدَّمه على حمْقى الرِّجال، قال: فكيف لو فكّرتم في حزْم اليربوع والضبّ.
وأنشدني فقال:

من اليربُوع والضبِّ المكـونِ

 

وبعضُ النّاسِ أنقصُ رأي حَزْمٍ

ويأمَنُ سَـيْلَ بـارقةٍ هَـتُـونِ

 

يَرى مِرْداتـهُ مِـن رأسِ مِـيلٍ

ويجعلُ مَكْوَهُ رأسَ الـوجـينِ

 

وَيَحْفِرُ في الكُدى خَوْفَ انهـيارٍ

رواغَ الفهْدِ من أسـدٍ كـمـينِ

 

ويخْدَعُ إنْ أردْتَ لـه احـتـيالاً

ويعمِلُ كيد ذي خـدٍع طـبـينِ

 

ويدخِلُ عَقْرَباً تحت الـذّنـابـى

حريمٍ مع اليربوعِ والذِّئب اللَّعين

 

فهـذا الـضـبُّ لـيس بـذي

وقد ذكر يحيى جميع ما ذكرنا، إلاّ احتياله بإعداد العقرب لكفِّ المحترش، فإنه لم يذكر هذه الحيلة من عمله، وسنذكر ذلك في موضعه، والشِّعر الذي يُثبتُ له ذلك كثير.
فهذا شأنُ الضّبُ في الحفر، وإحكام شأن منزلِه.
الورل وعدم اتخاذه بيتاً ومن كلام العرب أنّ الورل إنَّما يمنعه من اتِّخاذ البُيوت أنَّ اتخادها لا يكونُ إلاّ بالحفر، والورل يُبقي على براثنه، ويعلم أنّها سلاحه الذي به يقوى على ما هو أشدُّ بدناً منه، وله ذنبٌ يؤكل ويُستطاب، كثيرُ الشَّحم.

قول الأعراب في مطايا الجن من الحيوان

والأعراب لا يصيدون يربوعاً، ولا قُنفذاً، ولا ورلاً من أول الليل، وكذلك كل شيءٍ يكونُ عندهم من مطايا الجنّ، كالنَّعام والظّباء.
ولا تكون الأرنبُ والضَّبع من مراكب الجن، لأن الأرنب تحيض ولا تغتسل من الحيض، والضبِّاع تركبُ أيورَ القتلى والموتى إذا جيَّفتْ أبدانهم وانتفخوا وأنعظوا ثم لا تغتسل عندهم من الجنابة، ولا حنابة إلا ما كان للإنسان فيه شِرْك، ولا تمتطي القرود، لأن القرد زان، ولا يغتسل من جنابة.
فإنْ قتلَ أعرابيٌّ قُنفذاً أو ورلاً، من أول الليل، أو بعض هذه المراكب، لم يأمنْ على فحل إبله، ومتى اعتراه شيءٌ حكم بأنه عقوبةٌ من قبلهم.
قالوا: ويسمعون الهاتف عند ذلك بالنَّعي، وبضروب الوعيد.
قول الأعراب في قتل الجان من الحيات  وكذلك يقولون في الجانّ من الحيّات، وقتلُ الجان عندهم عظيم، ولذلك رأى رجلٌ منهم جاناً في قعر بئر، لا يستطيع الخروج منها، فنزل على خطر شديد حتَّى أخرجها، ثم أرسلها من يده فانسابت، وغمَّض عَيْنيه لكيلا يرى مدخلها كأنّه يريد الإخلاص في التقرُّب إلى الجن.
قال المازني: فأقبل عليه رجلٌ فقال له: كيف يقدر على أذاك مَنْ لم ينقذه من الأذى غيرك?

ما لا يتم له التدبير إذا دخل الأنفاق

وقال: ثلاثة أشياء لا يتمُّ لها التَّدبير إذا دخلت الأسراب، والأنفاق، والمكامِن والتّوالج حتَّى يغص بها الخرْق.
- فمن ذلك: أن الظربان إذا أراد أن يأكل حِسلة الضب أو الضبّ نفسه؛ اقتحم جُحر الضّب مستدبراً، ثم التمس أضيق موضع فيه، فإذا وجده قد غَصَّ به، وأيقنَ أنّه قد حال بينه وبين النسيم، فسا عليه، فليس يجاوز ثلاث فسوات حتى يُغشى على الضب فيأكله كيف شاء.
والآخر: أن الرجل إذا دخل وِجَارَ الضبع ومعه حَبْل، فإن لم يسُدّ ببدنه وبثوبه جميع المخارق والمنافذ ثم وصل إلى الضبع من الضياء بمقدار سمّ الإبرة، وثبتْ عليه، فقطّعته، ولو كان أشدّ من الأسد.
- والثالث: أنّ الضب إذا أراد أن يأكل حُسوله وقف لها من جحرها في أضيق موضعٍ من منفذه إلى خارج، فإذا أحكم ذلك بدأ فأكل منها، فإذا امتلأ جوفه انحطَّ عن ذلك المكان شيئاً قليلاً، فلا يُفْلِتُ منه شيءٌ من ولده إلا بعد أنْ يشبع ويزولَ عن موضعه، فيجد منفذاً.
وقال بعض الأعراب:

تزاحمَ الضبِّ عصى في كُدْيتِهْ

 

ينْشب في المسلكِ عِنْدَ سَلَّـتِـهْ

شعر في أكل الضبّ ولدَه

وقال: الدَّليل على أنّ الضّبّ يأكلُ ولدَه قول عَمَلَّس بن عقيل بن عُلّفَة لأبيه:

وجدت مَرارَة الكلأ الوبيلِ

 

أكَلْتَ بَنيك أكْل الضّبِّ حتى

مَنَعْتَ فِناءَ بيتكَ من بجيلِ

 

فلو أنّ الأُولى كانوا شهوداً

وأنشد لغيره:

تَركْتَ بَنيك ليْس لَهُمْ عَديدُ

 

أكَلْتَ بَنيك أكْل الضَّبِّ حتّى

وقال عمرو بن مسافر: عتبت على أبي يوماً في بعض الأمر، فقُلت:

وَجَدُّه الضَّبُّ لم يَتْرك لَهُ وَلَدَا

 

كيف ألومُ أبي طيْشاً ليرْحَمَني

وقال خداش بنُ زُهير:

أو بطْن قَوٍّ فأخْفُوا الجرْس واكتَتِمُوا

 

فإن سمعُتْم بجيشٍ سالِكـاً سَـرِفـاً

كما أكبّ على ذي بَطْنه الـهـرِمُ

 

ثمَّ ارجِعُوا فأكِبُّوا فـي بُـيُوتِـكُـمُ

جعله هَرِماً لطول عمره، وذي بطنه: ولده.
وقال أبو بكر بن أبي قُحافة لعائشة، رضي اللّه عنهما: إنِّي كنتُ نحلتكِ سبعين وَسْقاً من مالي بالعالية، وإنّك لمْ تحُوزيه، وإنما هو مالُ الوارث، وإنما هو أخواك وأختاك، قالت: ما أعرِفُ لي أختاً غير أسماء، قال: إنَّه قد أُلقي في رُوعي أن ذا بطن بنت خارجة جارية.
قال آخرون: لم يعْنِ بذي بطنه ولده، ولكنَّ الضَّبَّ يرمي ما أكل، أي يقيء؛ ثم يرجعُ فيأكله، فذلك هو ذو بَطْنه، فشبَّهُوه في ذلك بالكلب والسّنّور.
وقال عمرو بن مسافر: ما عنى إلا أولاده، فكأنَّ خداشاً قال: ارجعوا عن الحرب التي لا تستطيعونها، إلى أكل الذُّريَّة والعيال.

قول أبي سليمان الغنوي في أكل الضبة أولادها

قال: وقال أبو سليمان الغنويّ: أبرأ إلى اللّه تعالى من أن تكون الضَّبَّة تأكل أولادها ولكنها تدفنهنَّ وتطمُّ عليهنَّ التُّراب، وتتعهدهنَّ في كلِّ يوم حتَّى يُخرَّجن، وذلك في ثلاثة أسابيع، غير أنّ الثَّعالب والظَّرِبان والطَّير، تحفر عنهنَّ فتأكلهنَّ، ولو أفلت منهنَّ كلُّ فراخ الضِّباب لَملأْنَ الأرض جميعاً.
ولو أنَّ إنساناً نحل أمَّ الدَّرداء، أو مُعاذة العدويَّة، أو رابعة القيسيَّة، أنهنَّ يأكلن أولادهنَّ، لما كان عند أحدٍ من النّاس من إنكار ذلك، ومن التكذيب عنهنَّ، ومن استعظام هذا القول، أكثر مما قاله أبو سليمان في التَّكذيب على الضِّباب أن تكون تأكل أولادها.
قال أبو سليمان: ولكن الضبّ يأكلُ بعْره، وهو طيِّبٌ عنده، وأنشد:

فإنْ أسنَّ تغدَّى نَجْوَهُ كَلِفا

 

يَعود في تَيْعِه حِدْثانَ مَوْلدِهِ

قال: وقال أفَّار بن لقيط: التَّيْع: القيء، ولكنّا رويناهُ هكذا، إنما قال: يعودُ في رَجْعِه، وكذلك الضَّبُّ، يأكُلُ رجْعَه.
وزعم أصحابنا أنَّ أبا المنْجُوف السَّدوسيَّ روى عن أبي الوجيه العُكْليّ قوله:

أعدَّ لهُ عِنْدَ التلمُّس عَـقْـرَبـا

 

وأفطنَ مِنْ ضَبٍّ إذا خافَ حَارِشاً

في نصيب الضباب من الأعاجيب والغرائب

أوَّل ذلك طولُ الذَّماء، وهو بقيَّة النَّفْس وشدَّة انعقاد الحياة والرُّوحِ بعد الذبحِ وهَشْمِ الرّأس، والطَّعنِ الجائف النافذ، حتَّى يكون في ذلك أعجب من الخنزير، ومن الكلب، ومن الخنفساء، وهذه الأشياء التي قد تفرَّدت بطول الذَّماء.
ثمَّ شارك الضَّبُّ الوزغة والحيَّة، فإن الحية تُقطعُ من ثلث جسمها، فتعيش إن سلمت من الذَّرّ، فجمع الضَّبُّ الخصلتين جميعاً، إلا ما رأيت في دَخّال الأذن من هذه الخصلة الواحدة، فإنِّي كنتُ أقطعُه بنصفين، فيمضي أحدُ نصفيه يمنةً والآخر يَسرة، إلا أنِّي لا أعرفُ مقدار بقائهما بعد أن فاتا بَصَرِي.
ومن أعاجيبه طولُ العمر، وذلك مشهورٌ في الأشعار والأخبار، ومضروبٌ به المثلُ، فشارك الحيَّات في هذه الفضيلة، وشارك الأفعى الرّمْليَّة والصَّخرية في أنَّها لا تموتُ حتْفَ أنفِها، وليس إلا أن تُقْتل أو تصطاد، فتبقى في جُون الحوّائين، تذيلها الأيدي، وتُكره على الطّعم في غير أرضِها وهوائها، حتى تموت، أو تحتملها السُّيولُ في الشِّتاء وزمان الزَّمْهرير، فما أسرع موتها حينئذ، لأنَّها صردة.

مثل في الحية

وتقول العرب: أصرد من حيّة؛ كما تقول: أعرى من حية، وقال القشيريّ: واللّه لهي أصْردُ من عنزٍ جرْباء.

حُتوف الحيّات

وحُتوفها التي تُسرع إليها ثلاثة أشياء: أحدها مُرور أقاطيع الإبل والشَّاء، وهي منبسطةٌ على وجه الأرض، إما للتشرُّق نهاراً في أوائل البرد، وإما للتبرُّد ليلاً في ليالي الصَّيف، وإمّا لخروجها في طلب الطُّعم.
والخصلة الثانية ما يسلَّط عليها من القنافذ والأوعال والورل، فإنها تطالبها مطالبة شديدة، وتقوى عليها قوّةً ظاهرة، والخنازير تأكلها . وقد ذكرنا ذلك في باب القول في الحيّات.
والخصلة الثالثة: تكسُّب الحوَّائين بصيدها، وهي تموت عِندهم سريعاً.
ما يشارك الضب فيه الحية والضَّبُّ يشاركها في طول العمر، ثمَّ الاكتفاء بالنسيم والتَّعيشِ ببرد الهواء، وذلك عند الهرم وفناء الرُّطوبات، ونَقْص الحرارات، وهذه كلها عجب.
عود إلى أعاجيب الضب ثم اتخاذه الجحر في الصَّلابة، وفي بعض الارتفاع، خوفاً من الانهدام، ومسيل المياه، ثم لا يكون ذلك إلا عند عَلََم يرجع إليه إنْ هو أضلَّ جُحره، ولو رأى بالقُرْب تراباً متراكِباً بقدر تلك المِرداة والصَّخرة، لم يحفِلْ بذلك، فهذا كله كيْسٌ وحزم، وقال الشَّاعر:

عَذيّة بَطْنِ القـاع طـيّبةُ الـبَـقْـلِ

 

سقَى اللّه أرضاً يَعْلم الضـب أنّـهـا

وكل امرئٍ في حِرْفة العيْشِ ذو عقْلِ

 

يرود بها بيتـاً عـلـى رأس كُـدْيةٍ

وقال البُطين:

الضبُّ كالنُّون والإنسانُ كالسّبُعِ

 

وكلُّ شيءٍ مصيبٌ في تعيُّشِـه

ومن أعاجيبه أنّ له أيرَين، وللضبة حِرَين، وهذا شيءٌ لا يُعْرف إلاَّ لهما، فهذا قولُ الأعراب، وأمَّا قولُ كثير من العلماء، ومن نقّب في البلاد، وقرأ الكتب، فإنّهم يزعُمون أنَّ للسَّقَنْقور أيرين، وهو الذي يتداوى به العاجزُ عن النكاح، ليورثه ذلك القوة.
قالو: و إن للحِرْذون أيضاً أيرين، وإنّهم عاينوا ذلك معاينة، وآخر من زعم لي ذلك موسى بن إبراهيم.
والحِرذون دويبة تشبه الحِرباء، تكون بناحية مِصْرَ وما والاها، وهي دويِّبَة مَليحة موشّاة بألوانٍ ونقط.
وقال جالينوس: الضبُّ الذي له لسانان يصلُح لحمه لكذا وكذا، فهذه أيضاً أعجوبة أخرى في الضبِّ: أن يكونَ بعضه ذا لسانين وذا أيرين.
ومن أعاجيب الضَّبَّة أنّها تأكل أولادها، وتجاوز في ذلك خلُق الهِرَّة، حتّى قالت الأعراب: أعقُّ من ضَبٍّ.
احتيال الضب بالعقرب وزعمت العرب أنّه يُعِدّ العقربَ في جُحره، فإذا سمع صوت الحرْش استثفرها، فألصقها بأصْل عَجْب الذَّنَب من تحتُ، وضمّ عليها، فإذا أدخل الحارشُ يده ليقبض على أصْل ذنبه لسعَتْه العقرب. وقال علماؤهم: بل يهيِّئ العقارب في جحره، لتلسع المحترِشَ إذا أدخل يده.
وقال أبو المنجد بن رويشد: رأيت الضب أخْور دابّة في الأرض على الحر، تراه أبداً في شهر ناجر بباب جُحره، متدخِّلاً يخاف أن يقبض قابضٌ بذنبه، فربّما أتاه الجاهلُ ليستخرجه، وقد أتى بعقرب فوضَعَها تحت ذنبه بينه وبين الأرض، يحبسها بعَجْب الذنب، فإذا قبض الجاهلُ على أصلِ ذنبه لسعَتْه، فَشغِل بنفسه.
فأما ذو المعرفة فإنّ معه عُويْداً يحرِّكه هُناك، فإذا زالت العقرب قبض عليه.
وقال أبو الوجيه: كذب واللّه من زعم أنّ الضّبّة تستثفر عقرباً، ولكنَّ العقارب مسالمة للضِّباب، لأنها لا تعرض لبيضها وفراخها، والضبُّ يأكل الجراد ولا يأكل ُ العقارب، وأنشد قول التميميّ الذي كان ينزل به الأزديُّ: إنه ليس إلى الطعام يقصد، وليس به إلا أنه قد صار به إلفاً وأنيساً، فقال:

كما بين العقارب والضِّبابِ

 

أتأنسُ بي ونَجْرُك غير نَجْري

وأنشد:

على كلِّ حال أسودُ الجِلدِ خنْفَسُ

 

تجَمَّعْن عند الضّبّ حتى كـأنـه

لأن العقارب تألف الخنافِس، وأنشدوا للحَكم بن عمرو البَهْراني:

تُطاعِمُ الحيّاتِ في الجحرِ

 

والوزَغُ الرُّقطُ على ذُلِّها

مودّةُ العقربِ في السِّـرِّ

 

والخُنفَسُ الأسود من نَجْره

لأنك لا تراهُما أبداً إلاّ ظاهرتين، يطَّاعمان أو يتسايران، ومتى رأيت مكنة أو اطَّلعْتَ على جُحر فرأيت إحداهما رأيت الأخرى.
قال: ومما يؤكِّد القول الأوَّل قولُه:

لقد جئت بجْرياً من الدَّهْرِ أعوجا

 

ومُسْتثْفرٍ دون السَّوِيّةِ عـقـربـاً

يقول: حين لم تَرْضَ من الدّهاء والنكر إلاّ بما تخالف عنده النّاس وتجوزهم.
إعجاب الضب والعقرب بالتمر وأنشدني ابن داحة لحذيفة بن دأب عمّ عيسى بن يزيد، الذي يقال له ابن دأب في حديث طويل من أحاديث العشَّاق:

فقدْ يُخْدع الضَّبُّ المخادع بالتّمرِ

 

لئن خُدِعتْ حُبَّى بِسبٍّ مُزَعفـرٍ

لأن الضب شديد العُجْب بالتّمر، فضرب الضب مثلاً في الخُبْث والخديعة.
والذي يدلُّ على أن الضب والعقرب يُعجبان بالتّمر عجباً شديداً، ما جاء من الأشعار في ذلك، وأنشدني ابن الأعرابيِّ، لابن دَغْماء العِجْلي:

على دُرْبةٍ والضّبُّ يُحْبَلُ بالتّمْرِ

 

سوى أنكم دُرِّبْتُـم فـجـريْتـم

فجعل صيده بالتّمر كصيده بالحِبالة، وأنشدني القُشيريُّ:

ولا أنا ممـنْ يزدهِـيهِ وَعـيدُ

 

وما كنت ضباً يُخرج التّمر ضِغْنه

وقال بشر بن المعتمر، في قصيدته التي ذكر فيها آيات اللّه عز ذكره، في صُنوف خلْقه، مع ذكر الإباضيّة، والرافضة والحشوية والنابتة فقال فيها:

لها عِرارٌ ولَهـا زَمْـرُ

 

وهِقْلةٌ تَرتاعُ من ظِلِّـهـا

وَحَبُّ شيءٍ عِندها الجمرُ

 

تلتهمُ المرْو على شهـوةٍ

وعُتْرُفانٌ بطنُه صِـفْـرُ

 

وضبّة تـأكـلُ أولادهـا

مُنَجِّمُ ليس لـه فِـكـرُ

 

يؤثِر بالطُّعْـم وتـأذينـهُ

وعقربٌ يُعجبها التمـرُ

 

وظبيةٌ تخضَمُ في حَنْظـل

وقال أيضاً بشرٌ، في قصيدةٍ له أخرى:

يجمعُ بين الصَّخْر والجمْر

 

أما ترى الهِقْلَ وأمـعـاءَهُ

أحْرص مِنْ ضبٍّ على تمرِ

 

وفأرة البيشِ على بيشِـهـا

وقال أبو دارة - وقد رأيتهُ أنا، وكان صاحب قَنْص:

على جُلِّ هذا الخَلْقِ من ساكن البَحْرِ

 

ومـا الـتـمْـر إلا آفةٌ وبـلــيّةٌ

وثُرمُلةٍ تسْعى وخُنفـسة تـسْـري

 

وفي البَرِّ من ذئب وسمع وعقـربٍ

عذيرك إنَّ الضَّبَّ يُحْبَلُ بالـتـمـرِ

 

وقد قيل في الأمثالِ إن كنت واعـياً

وسنفسِّر معاني هذه الأبيات إذا كتبْنا القصيدتين على وجوههما بما يشتملان عليه من ذكر الغرائب والحكم، والتّدبير والأعاجيب التي أودع اللّه تعالى أصناف هذا الخلْق، ليعتبر مُعتبر، ويفكر مفكر، فيصير بذلك عاقلاً عالماً، وموحِّداً مخْلصاً.
طول ذماء الضب  والدّليل على ما ذكرْنا من تفسير قولهم: الضّبّ أطولُ شيءٍ ذماء، قولهم: إنَّه لأحيا مِن ضَبّ، لأنّ حارشه ربّما ذبحه فاستقْصى فرْي الأوداج، ثم يدعُه، فربما تحرك بعد ثلاثة أيام.
وقال أبو ذؤيبٍ الهذلي:

شؤماً وأقْبلَ حينه يتتـبَّـعُ

 

ذكر الورُود بها وشاقى أمْرَهُ

بذمائه أو ساقطٌ متَجَعْجِـعُ

 

فأبَدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ فـهـاربٌ

وكان النّاس يروون: فهاربٌ بدمائه يريدون من الدم، وكانوا يكسِرون الدال، حتى قال الأصمعيّ: بذمائِه معجمة الذال مفتوحة وقال كثير:

متلمِّظٌ خذم العِنـانِ بَـهـيمُ

 

ولقد شهدْت الخيل يحْمِل شِكَّتي

وإذا جَمَعْتُ به أجشُّ هَـزيمُ

 

باقي الذماءِ إذا مَلَكْت مُناقِـلٌ

خبث الضب والضّبّ إذا خدَع في جُحره وُصِف عند ذلك بالخبث والمكر، ولذلك قال الشاعر:

يرى الخيانة مِثْلَ الماء بالعسَلِ

 

إنَّا مُنينا بِضَبٍّ من بني جُمـحٍ

وأنشد أبو عصام:

غنيَّينِ لا يجْدي عَلَيْنا غِنـاهُـمـا

 

إنّ لنا شيخَين لا ينـفـعـانـنـا

كبيران غيْداقانِ صُفْرٌ كُشاهُمـا

 

كأنَّهما ضَبَّانِ ضَـبَّـا مـغـارةٍ

وإنْ يُرصدا يوماً يخبْ راصِداهُما

 

فإن يُحْبَلا لا يوجدا فـي حـبـالةٍ

ولذلك شبَّهُوا الحِقد الكامنَ في القلْب، الذي يسري ضررُه، وتدبُّ عقاربُه بالضَّبّ، فسمَّوا ذلك الحقد ضبّاً، قال مَعنُ بنُ أوس:

صفاً فيه صَدْعٌ لا يُدانيه شاعِبُ

 

ألا مَنْ لمولًى لا يزالُ كـأنَّـهُ

لأهلِ النّدى من قومِه بالعقارب

 

تدِبُّ ضِبابُ الغشِّ تحت ضُلوعِه

وقال أبو دَهْبل الجمحيّ:

ضبّاً وإني عليك اليوم مَحْسـودُ

 

فاعلمْ بأنِّي لِمَنْ عاديتَ مضطغنٌ

وأنشد ابن الأعرابيّ:

عليَّ ذي ضغنٍ وضبٍّ فارِضِ

 

يا رُبَّ مولًى حاسدٍ مُباغـضِ

 

 

له قُرُوءٌ كقُروءِ الـحـائضِ

كأنّه ذهب إلى أنّ حِقده يخبو تارةً ثمَّ يستعر، ثم يخبو ثم يستعر.
وقال ابن ميّادة، وضرب المثل بنفخ الضب وتوثُّبِه:

إذا أسدٌ كَشّتْ لفخْر ضِبابُها

 

فإن لقيسٍ من بغيضٍ أقاصياً

وقال الآخر:

حِجاجَيْ مَنيعٍ بالقنا من دم سَجْلا

 

فلا يَقْطع اللّه اليمين التي كَسَتْ

إذاً ظلَّ يمطو من حبالكم حَبْـلا

 

ولو ضبَّ أعلى ذي دميثٍ حَبلتما

والضب يُوصف بشدّة الكبر، ولا سيّما إذا أخصب وأمِنَ وصارَ، كما قال عبْدة بن الطَّبيب، فإنهَ ضرب الضبّ مثلاً حيثُ يقول ليحيى بن هزّال:

ضخْم الجُزارةِ بالسَّلْمَينِ وَكّـارُ

 

لأعرِفنّك يومَ الـوِرْدِ ذا لـغَـطٍ

فاحلُبْ فإنّك حـلاّبٌ وصـرّارُ

 

تكفي الوليدة والرُّعيانَ مؤتـزراً

غيثٌ فأمْرعَ واسترخت به الدارُ

 

ما كُنْتَ أول ضب صاب تلْعَتَـهُ

وقال ابن مَيّادة:

يكشُّ لهُ مُسْتـكْـبِـراً ويُطـاوِلُـهْ

 

ترى الضَّبّ أنْ لم يرهبِ الضَّبُّ غيْرهُ

وقال دَعْلَجٌ عبدُ المِنْجاب:

تطاول للشخص الذي هو حابله

 

إذا كان بيتُ الضب وسْط مَضبّةٍ

المضبَّة: مكان ذو ضباب كثيرة، ولا تكثر إلاّ وبقربها حَيّة أووَرل، أو ظرِبان، ولا يكون ذلك إلاّ في موضع بعيد من النّاس، فإذا أمِن وخلا لَهُ جوُّه، وأخصب، نفخ وكشَّ نحو كل شيء يُريده.
ما يوصف بالكِبْر من الحيوان ومما يوصف بالكِبْر الثَّوْرُ في حال تشرُّقه، وفي حالِ مشيته الخُيلاء في الرِّياض، عند غِبِّ ديمة، ولذلك قال الكُميت:

دة لا يبْتَغي عليها ظهـيرا

 

كشبوبٍ ذي كِبرياء من الوَحْ

وهذا كثيرٌ، وسيقع في موضعه من القول في البقر.
ومّما يُوصف بالكِبْر الجملُ الفَحْل، إذا طافت به نوق الهجمة، ومرَّ نحو ماءٍ أو كلأ فتبعنه، وقال الرّاجز:

قالِبَ حِمْلاقيهِ في مثل الجرُفْ

 

فإنْ تشرَّدْن حـوالـيْهِ وَقَـفْ

كِبراً وإعجاباً وعِـزّاً وتَـرَفْ

 

لو رُضَّ لحدُ عَيْنِهِ لما طـرفْ

والنَّاقة يشتدُّ كِبْرها إذا لَقِحت، وتزُمُّ بأنفها وتنفرد عن صحاباتها، وأنشد الأصمعيّ:

دَهْماءَ مِرْباع الِّلقاح جَلْـسـا

 

وهو إذا أراد منهـا عِـرْسـا

حتّى تلقَّتْهُ مخاضاً قُـعْـسـا

 

عاينها بعد السِّـنـان أنـسـا

على الدّوامِ ضامِزاتٍ خُرْسـا

 

حتَّى احتشت في كلِّ نفسٍ نفْسا

 

 

خُوصاً مُسِرَّاتٍ لقاحاً مُلْسـا

وأمَّا قول الشَّمَّاخ:

على حَدِّه لاستكبرتْ أنْ تضوّرا

 

جُماليَّة لو يُجعلُ السَّيفُ غَرضها

فليس من الأوَّل في شيء.
المذكورون من الناس بالكبر والمذكورون من النَّاس بالكِبْر، ثَمَّ من قريشٍ: بنو محزوم، وبنو أميَّة، ومن العرب: بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عُدس خاصّة.
فأمَّا الأكاسرة من الفرْس فكانوا لا يعُدُّون النَّاس إلاّ عبيداً، وأنفسهم إلاّ أرباباً.
ولسنا نُخْبر إلا عن دهماء النّاس وجُمهورهم كيف كانوا، من ملوك وسوقة.
الكبر في الأجناس الذليلة والكِبر في الأجناس الذَّليلة من النّاس أرسَخ وأعمُّ، ولكنّ الذلة والقلّة مانعتان من ظهور كبرهم، فصار لا يعرف ذلك إلاّ أهلُ المعرفة، كعبيدنا من السِّنْدِ، وذِمَّتنا من اليهود.
والجملةُ أنّ كلّ من قدر من السِّفلة والوُضعاء والمحقرين أدنى قدرةٍ، ظهر من كِبره على منْ تحت قدرته، على مراتب القدرة، ما لا خفاء به، فإنْ كان ذمِّياً وحَسُنَ بما لَهُ في صدور النّاس، تزيَّد في ذلك، واستظهرت طبيعته بما يظنُّ أنّ فيه رَقْع ذلك الخرْق، وحِياص ذلك الفتق، وسد تلك الثُّلمة، فتفقدْ ما أقول لك، فإنك ستجده فاشياً.
وعلى هذا الحسابِ من هذه الجهة، صار المملوك أسوأ ملكةً من الحُرّ.
وشيءٌ قد قتلته عِلماً، وهو أنِّي لم أرَ ذا كِبْر قطُّ على منَ دونه إلا وهو يذلُّ لمن فوقه بمقدارِ ذلك ووزْنه.
كبر قبائل من العرب فأمّا بنو مخزوم، وبنو أمَيَّة، وبنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عُدُس، فأبْطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولو كان في قُوى عقولهم وديانتهم فضلٌ على قوى دواعي الحميّة فيهم، لكانوا كبني هاشمٍ في تواضُعِهم، وفي إنصافهم لمنْ دونهم.
وقد قال في شبيهٍ بهذا المعنى عَبْدةُ بن الطبيب، حيث يقول:

يَشْفي صُداع رؤوسهم أن تُصْرعوا

 

إن الذين تُـرَوْنَـهُـمْ خـلاَّنـكُـمْ

وأبتْ ضِبابُ صُدورهم لا تنـزعُ

 

فضلت عداوتهم على أحـلامِـهـم

من عجائب الضب فأمَّا ما ذكروا أنَّ للضبّ أيرين، وللضَّبَّة حِرَين، فهذا من العجب العجيب، ولم نجدْهم يشكُّون، وقد يختلفون ثمَّ يرجعون إلى هذا العمود، وقال الفزاريّ:

مُحذَّفة الأذناب صُفْرُ الشّـواكـلِ

 

جبى المالَ عُمَّالُ الخراجِ وجِبْوتي

كساهُنَّ سُلطانٌ ثيابَ المـراجـلِ

 

رَعين الدَّبا والبَقْلَ حتى كـأنـمـا

على كُلِّ حاف في البلاد وناعـل

 

سِبحْل له نزكانِ كانـا فـضـيلةً

سما بين عِرْسَيْهِ سُمُوَّ المـخـايلِ

 

ترى كلَّ ذيَّال إذا الشمسُ عارضتْ

واسم أيره النَّزْك، معجمة الزّاي والنون من فوق بواحدة، وساكنة الزاي، فهذا قول الفزاريّ، وأنشد الكِسائي:

تفرُّق أيْرِ الضّبِّ والأصل واحدُ

 

تفرَّقتمُ لا زِلْتـم قِـرْنَ واحـدٍ

فهذا يؤكد ما رواه أبو خالد النميري، عن أبي حيّة النُّميري، قال أبو خالدِ: سئل أبو حيّة عن ذلك، فزعم أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة: الأصل واحدٌ، والفرعُ اثنان.

زعم بعض المفسِّرين في عقاب الحية

وبعضُ أهل التّفسير يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ عاقب الحيَّة - حين أدخلتْ إبليس في جوفها حتَّى كلّم آدم على لسانها - بعشر خصال، منها شقُّ اللسان.
قالوا: فلذلك ترى الحيّة أبداً إذا ضُربت لتُقْتل كيف تُخرجُ لسانها، تلويه كما يصنعُ المسترحمُ من النَّاس بإصبعه إذا ترحّم أو دعا، لترِيَ الظالمَ عقوبة اللّه تعالى لها.
قول بعض العلماء في تناسل الضب قال أبو خالد: قال أبو حيّة: الأصل واحد، والفرع اثنان، وللأنثى مَدخلان، وأنشد لحبَّى المدنيَّة:

كضبَّة كُدْيةٍ وجَدَتْ خلاءَ

 

وَدِدتُ بأنّه ضـبٌّ وأنـي

 

قال: قالت هذا البيت لابنها، حين عذلها، لأنَّّها تزوّجتْ ابن أمِّ كلاب، وهو فتى حدثٌ، وكانت هي قد زادت على النَّصَف، فتمنَّتْ أن يكون لها حِرانِ ولزوجها أيران.
وقال ابن الأعرابيّ: للأنثى سبيلان، ولرحمها قُرْنتان، وهما زاويتا الرَّحم، فإذا امتلأت الزَّاويتان أتأمتْ، وإذا لم تمتلئْ أفردت.
وقال غيرُه من العلماء: هذا لا يكون لذوات البيض والفراخ، وإنما هذا من صفة أرحام اللواتي يحْبلن بالأولاد، ويضعْن خلقاً كخلقهنَّ ويُرْضعن، وكيف تُفرِد الضبّة وهي لم تتئم قط، وهي تبيض سبعين بيضةً في كلِّ بيضةٍ حِسْل.
قال: ولهذه الحشرات أيورٌ معروفة، إلاّ أنّ بعضها أحقر من بعض، فأما الخصى فشيءٌ ظاهرٌ لمن شقّ عنها.
تناسل الذباب وجسر أبو خالد، فزعم أنه قد أبصر أير ذباب وهو يكُوم ذبابة وزعم أن اسم أيره المُتْك، وأنشد لعبد اللّه بن همام السَّلوليِّ:

وتعلَّقَتْ همْدانُ بالأسبـابِ

 

لما رأيْتُ القصْرَ غُلِّقَ بابـه

لم يبْقَ منها قِيسُ أيرِ ذُبابِ

 

أيقنْتُ أنّ إمارة ابن مُضاربٍ

وهذا شعرٌ لا يدلُّ على ما قال.
وقال أصحابنا: إنّما المتك البظْر، ولذلك يقال للعِلْج: يابن المتْكاء كما يقال له: يابن البظراء.

فيمن استطاب لحم الضب ومن عافه

روى أنَّه أُتي به على خوان النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، وقال: ليس من طعام قومي، وأكله خالد بن الوليد فلم يُنكر عليه.
ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا أحلُّه ولا أحرِّمه، وأنكر ذلك ابنُ عباس وقال: ما بعثه اللّه تعالى إلاّ ليُحلّ ويحرِّم.
وحرّمه قومٌ، ورووا أنَّ أُمّتين مُسختا، أخذت إحداهما في البَرِّ، فهي الضِّباب، وأخذت الأخرى في طريق البحر، فهي الجِرِّيّ.
وروَوْا عن بعض الفقهاء أنه رأى رجلاً أكل لحم ضبٍّ، فقال: اعلمْ أنَّك قد أكلت شيخاً من مشيخة بني إسرائيل.
وقال بعضُ من يعافه: الذي يدلُّ على أنّه مِسْخ شبه كفِّه بكفِّ الإنسان.
وقال العُدار الأبرص، نديم أيّوب بن جعفر، وكان أيوبُ لا يغبّ أكل الضباب، في زمانها، ولها في المِرْبد سوقٌ تقوم في ظلّ دار جعفر، ولذلك قال أبو فرعون، في كلمة له طويلة:

سُوقُ الضبابِ خير سوقٍ في العربْ

وكان أبو إسحاق إبراهيم النظام والعُدار، إذا كان عند أيوب قاما عن خوانه، إذا وضع له عليه ضبّ، ومما قال فيه العُدار قوله:

وكالقِرد والخنزير في المسْخِ والغضبْ

 

له كَفُّ إنـسـانٍ وخَـلْـقُ عَـظـايةٍ

قول العوام في المسخ والعوامّ تقول ذلك، وناسٌ يزعمون أن الحيّة مسخ، والضبّ مِسْخ، والكلبَ مِسْخ، والإربيان مِسخ، والفأر مسخ.
قول أهل الكتاب في المسخ ولم أر أهل الكتاب يُقِرُّون بأنَّ اللّه تعالى مسخ إنساناً قط خنزيراً ولا قرداً، إلاّ أنهم قد أجمعوا أنّ اللّه تبارك وتعالى قد مسخ امرأة لُوطٍ حَجَراً، حين التفتتْ.
وتزعم الأعراب: أنَّ اللّه عزّ ذكره قد مسخ كلَّ صاحب مَكْس وجابي خراج وإتاوة، إذا كان ظالماً، وأنه مسخ ماكسين، أحدهما ذئباً والآخر ضبعاً.
شعر الحكم بن عمرو في غرائب الخلق وأنشد محمَّد بن السَّكن المعلِّم النحويّ، للحكم بن عمرو البهراني، في ذلك وفي غيره شعراً عجيباً، وقد ذكر فيه ضروباً كلُّها طريف غريب، وكلها باطل، والأعراب تؤمن بها أجمع.
وكان الحكَم هذا أتى بني العنبر بالبادية، على أنَّ العنبر من بَهْراء، فنفوه من البادية إلى الحاضرة، وكان يتفقَّه ويفتي فُتيا الأعراب، وكان مكفوفاً ودهريّاً عُدْمُليّاً، وهو الذي يقول:

 

ما لشيءٍ أرادهُ منْ مـفـرِّ

 

إنّ ربيِّ لمِـا يشـاءُ قـديرٌ

 

فلهذا تناجـلاَ أمَّ عـمـرو

 

مسخً الماكسينٍ ضبعاً وذئبـاً

 

بنجيعِ الرُّعافٍ في حيِّ بكرِ

 

بعثَ النملَ والجرادَ وقفّـى

 

عرماً محكمَ الأساسِ بصخرِ

 

خرقتْ فارةٌ بأنـفِ ضـئيلٍ

 

عاجزاً لو يرومُه بعد دهرِ

 

فجَّرته وكانَ جيلان عـنـهُ

 

وسهيلَ السماءِ عمداً بصغرِ

 

مسخَ الضبّ في الجدالة قدْماً

جعلَ اللهُ قبـرهُ شـرَّ قـبـرِ

 

والذي كانَ يكتـنـى بـرغـالٍ

 

ومكوسٍ وكلُّ صاحبِ عشـرِ

 

وكذا كلُّ ذى سـفـينٍ وخـرجٍ

 

وعريفٌ جزاؤه حـرُّ جـمـرِ

 

منكبٌ كافـرٌ وأشـراطُ سـوءٍ

 

بغزالٍ وصدقتي زقُّ خـمـرِ

 

ونزوجتُ في الشـبـيبةِ غـولا

 

ومتى شئتُ لم أجدْ غيرَ بكـرِ

 

ثيبٌ إن هويتُ ذلـك مـنـهـا

 

ر وخالي هميمُ صاحبُ عمرو

 

بنتُ عمرو وخالها مسحَل الخي

 

مسحوها فكان لي نصفُ شطرِ

 

ولهـا خـطةٌ بـأرضِ وبـارٍ

 

وعروج من المـؤبًّـل دثـرِ

 

أرضُ حوشٍ وجاملٍ عكـنـانٍ

 

نِّ تـاجـر وآخـرَ مـكــرِ

 

سادة الجنّ ليس فيها مـن الـج

 

يسرقُ السمعَ كل لـيلة بـدرِ

 

ونفوْا عن حريمها كلَّ عـفـرٍ

 

ونساءٍ من الـزوابـع زهـرِ

 

في فتوٍ من الشنـقـنـاقِ غـرٍ

 

بعد روثِ الحمار في كل فجر

 

تأكل القولُ ذا البساطة مـسـياً

 

من أنوقٍ ومن طروقة نـسـرِ

 

جعلَ اللهُ ذلك الـروثَ بـيضـا

 

في محاق القمير آخرَ شـهـرِ

 

ضربت فردةً فصارتْ هـبـاءً

 

وأخوه مزاحم كـان بـكـرِى

 

تركتْ عبدلاً ثمالَ الـيتـامَـى

 

من نساء في أهلها غير نـزرِ

 

وضعتْ تسعةً وكانـت نـزورا

 

بعد ما طار في النجابةِ ذكرى

 

غلبتني على النجابةِ عـرسـيْ

 

غيرَ أنْ النجار صورةُ عـفـرِ

 

وأرى فيهـمُ شـمـائلَ إنـسٍ

 

ملجماً قنفذاً ومـسـرجَ وبـرِ

 

وبها كنتُ راكـبـاً حـشـراتٍ

 

ض ولا الضبع أنها ذاتُ نكـر

 

كنت لا أركبُ الأرانب للحـي

 

ظ وتدعو الضباع من كلِّ جحرِ

 

تركبُ المقعصَ المجيف ذا النع

 

فلفُلا مجتنًى وهضمة عطـرِ

 

جائباً للبحار أهدى لـعـرسـي

 

رِ وأسقى العيالَ من نيلِ مصرِ

 

وأحِّلى هريرَ من صدفِ البـح

 

ثم بخفى على السَّواحر سحري

 

ويسنى المعقودَ نفثى وحـلـىِّ

 

ضاحكٌ سنهُ كثيرٌ الـتـمـرى

 

وأجوب البلاد تحتـىً ظـبـيٌ

 

وهو بالليلٍ في العفاريت يسرِى

 

مولـجٌ دبـرهُ خـواية مـكـوٍ

 

ذاكرٌ عشهُ بـضـفةِ نـهـر

 

يحسبُ الناظرون أنِّى ابن مـاءٍ

 

ث وأعقبتُ بين ذئبٍ ونـمـر

 

ربَّ يوم أكلت من كبدِ الـلـي

 

من شواءِ ومن قـلـيةِ جـزر

 

ليس ذا كم كمن يبيتُ بـطـينـاً

 

بينَ عيني وعينها السمُّ يجـرى

 

ثم لاحظتُ خلَّتـي فـي غـدوٍ

 

مدنفاً مفرداً محالـفَ عـسـرِ

 

ثم أصبحتُ بعد خفضٍ ولـهـوٍ

 

كَ وعاديتُ من أهابَ بصقـرِ

 

أتراني مقتُّ مـن ذبـحَ الـدي

 

لِ فجاوبته بـسـرٍ وجـهـرِ

 

وسمعتُ النقيقَ في ظلمِ الـلـي

 

في خمير وفي دراهم قـمـرِ

 

ثم يرمى بي الجحـيمُ جـهـاراً

 

ويَرى كبرتي ويقبـلُ عـذرى

 

فلعلْ الإله يرحـمُ ضـعـفـي

 








في حل الضب واستطابته

وسنقول في الذين استحلوه واستطابوه وقدّموه.
قالوا: الشيء لا يحرم إلاّ من جهة كتابٍ، أو إجماعٍ، أو حجةِ عقل، أو من جهة القياس على أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ، أو إجماع، ولم نجدْ في تحريمه شيئاً من هذه الخصال، وإن كان إنَّما يُترك من قِبلِ التقزز؛ فقد أكل الناسُ الدَّجاجَ، والشبابيط؛ ولحوم الجَلاَّلة، وأكلوا السراطين، والعقصير، وفراخ الزّنابير، والصحناء والرَّبيثا فكان التقزُّز مما يغتذي العذِرةَ رطْبةً ويابسة، أولى وأحقَّ من كلِّ شيء يأكل الضروب التي قد ذكرناها وذكرها الرَّاجز حيث يقول:

 

رعى المُرار والكَبَـاث والـدَّبـا

 

يَا رُبَّ ضَبٍّ بين أكنافِ الـلِّـوَى

 

وأجفِئَتْ في الأرض أعْرَافُ السّفَا

 

حَتَّى إذا ما ناصِل البُهْمَى ارتمـى

وهو بَعيْنَي قانصٍ بالمرْتَبَـا

 

ظَلَّ يباري هُبَّصاً وَسْط المَلا

 

رازَمَ بالأكباد منها والكُشَى

 

كان إذا أخْفَقَ مِن غير الرعا

 








فإن عفتموه لأكل الدَّبا فلا تأكلوا الجراد، ولا تستطيبوا بَيضه.
وقد قال أبو حجين المنقريُّ:

بأسفـل وادٍ لـيس فـيه أذانُ

 

ألا لَيت شِعرِي هل أبيتنَّ لـيلة

وعرْفجُ أكماع المَديد خِوانـي

 

وهل آكُلَنْ ضَبّاً بأسفَل تَـلْـعَةٍ

بَكَفَّيَّ لم أغسِلْهُما بـشُـنَـانِ

 

أقومُ إلى وقْتِ الصَّلاةِ وريحُهُ

على عطَشٍ من سور أمّ أبانِ

 

وهل أشرَبَنْ مِنْ ماءِ لِينةَ شرْبةً

وقال آخر:

تضحَّى عَرَاداً فهو يَنْفخ كالقَرِمْ

 

لَعَمْرِي لَضَبٌّ بالعُنيزَة صـائف

من السَّمكِ البُنّيّ والسَّلْجَم الوَخِمْ

 

أحبُّ إلينا أنْ يجاورَ أرْضَـنَـا

وقال آخرُ في تفضيل أكل الضّبّ:

وباللّه أبغي صَـيْدَهُ وأخـاتِـلُـهْ

 

أقولُ له يوماً وقد راح صُحْبتـي

وشالت شمالي زايَلَ الضَبّ باطلُهْ

 

فلمَّا التقَتْ كَفّي على فضْل ذَيلِـهِ

تَمَشَّى على القِيزان حُولاً حلائلهْ

 

فأصبح محنوذاً نضِيجاً وأصبَحَـتْ

تطَلَّى بوَرْس بَطْنُه وشواكِـلُـهْ

 

شديد اصفرار الكُشْيَتَيْن كـأنّـمـا

لَحَى اللّه شارِيهِ وقُبِّـح آكِـلُـهْ

 

فذلك أشْهى عنْدَنا من بـيَاحِـكـمْ

وقال أبو الهنْديّ، من ولد شَبَثِ بنِ رِبْعيٍّ:

وإنِّي لأهْوَى قديد الـغَـنَـمْ

 

أكَلْتُ الضِّبابَ فما عِفْـتـهـا

فنِعْمَ الطَّـعـام ونِـعْـمَ الأُدُمْ

 

ورَكَّبتُ زُبداً علـى تَـمـرةٍ

وزينُ السَّديفِ كبودُ النَّـعَـمْ

 

وسَمْن السِّلاءِ وكمءَ القصيصِ

أُتيتُ به فائراً في الـشَّـبـمْ

 

ولحمَ الخروف حَـنـيذاً وقـدْ

فما زِلْتُ منها كَثِيرَ السَّـقَـمْ

 

فأمَّا البَـهـطُّ وحِـيتـانُـكـمُ

فلم أرَ فيها كـضَـبٍّ هَـرِمْ

 

وقد نِلْتُ ذاكَ كـمـا نِـلْـتـمُ

وَبيْضُ الجراد شِفاءُ الـقَـرِمْ

 

وما في البُيُوضِ كبَيْضِ الدَّجاج

وَلا تَشْتَهيهِ نُفُوسُ الـعَـجـمْ

 

ومَكنُ الضِّبابِ طَعَامُ العُـرَيبِ

وإلى هذا المعنى ذهب جران العود، حين أطعمَ ضيفَه ضَبّاً، فهجاه ابن عمٍّ له كان يُغمزُ في نسبِه، فلما قال في كلمةٍ له:

وتأكلُ دُونَهُ تمْراً بـزبْـدِ

 

وتُطْعِمُ ضَيْفَك الجَوْعَانَ ضباً

وقال في كلمةٍ له أخْرَى:

كأنَّ الضَّبَّ عندهم عَرِيبُ

 

وتُطْعِمُ ضَيْفَكَ الجَوْعانَ ضبّاً

قال جران العود:

لَمَا عبْتَ الضِّبَابَ ومنْ قَرَاها

 

فلولا أنَّ أصْلـكَ فـارسـيٌّ

وأيُّ لَـوِيّةٍ إلاّ كُـشـاهــا

 

قريتُ الضيفَ من حُبِّي كُشَاها

واللَّوِيّة: الطُّعيِّم الطّيب، واللَّطف يرفع للشَّيخِ والصبي، وقد قال الأخطل:

وإنْ كان قد لاقى لَبوساً ومَطْعما

 

ففلتُ لهُمْ هاتوا لَـوِيةَ مـالـكٍ

بزماورد الزَّنابير وقال مُويس بن عمران: كان بشر بن المعتَمر خاصّاً بالفضل بن يحيى، فقدِم عليه رجلٌ من مواليه، وهو أحد بني هلال بن عامر، فمضى به يوماً إلى الفضْل؛ ليكرمَه بذلك، وحضرت المائدة، فذكروا الضب ومن يأكلُه، فأفرط الفضْلُ في ذمِّه، وتابَعَهُ القوم بذلك ونظر الهلاليُّ فلم ير على المائدة عربيّاً غيره، وغاظه كلامُهم، فلم يلبث الفضل أن أُتِيَ بصَحْفة ملآنةٍ من فراخ الزَّنابير، ليتّخذ لَه منها بزماورد - والدَّبر والنَّحل عند العرب أجناسٌ من الذّبان - فلم يشكّ الهلاليُّ أنَّ الذي رأى من ذِبّان البيوت والحشُوش، وكان الفضْلُ حين وليَ خُراسان استظرف بها بزماورد الزَّنابير، فلمَّا قدم العراق كان يتشَّهاها فتطلبُ له من كلِّ مكان، فشمِت الهلاليُّ به وبأصحابه، وخرجَ وهو يقول:

وهو بَعيْنَي قانصٍ بالمرْتَبَـا

 

ظَلَّ يباري هُبَّصاً وَسْط المَلا

رازَمَ بالأكباد منها والكُشَى

 

كان إذا أخْفَقَ مِن غير الرعا

فإن عفتموه لأكل الدَّبا فلا تأكلوا الجراد، ولا تستطيبوا بَيضه.
وقد قال أبو حجين المنقريُّ:

بأسفـل وادٍ لـيس فـيه أذانُ

 

ألا لَيت شِعرِي هل أبيتنَّ لـيلة

وعرْفجُ أكماع المَديد خِوانـي

 

وهل آكُلَنْ ضَبّاً بأسفَل تَـلْـعَةٍ

بَكَفَّيَّ لم أغسِلْهُما بـشُـنَـانِ

 

أقومُ إلى وقْتِ الصَّلاةِ وريحُهُ

على عطَشٍ من سور أمّ أبانِ

 

وهل أشرَبَنْ مِنْ ماءِ لِينةَ شرْبةً

وقال آخر:

تضحَّى عَرَاداً فهو يَنْفخ كالقَرِمْ

 

لَعَمْرِي لَضَبٌّ بالعُنيزَة صـائف

من السَّمكِ البُنّيّ والسَّلْجَم الوَخِمْ

 

أحبُّ إلينا أنْ يجاورَ أرْضَـنَـا

وقال آخرُ في تفضيل أكل الضّبّ:

وباللّه أبغي صَـيْدَهُ وأخـاتِـلُـهْ

 

أقولُ له يوماً وقد راح صُحْبتـي

وشالت شمالي زايَلَ الضَبّ باطلُهْ

 

فلمَّا التقَتْ كَفّي على فضْل ذَيلِـهِ

تَمَشَّى على القِيزان حُولاً حلائلهْ

 

فأصبح محنوذاً نضِيجاً وأصبَحَـتْ

تطَلَّى بوَرْس بَطْنُه وشواكِـلُـهْ

 

شديد اصفرار الكُشْيَتَيْن كـأنّـمـا

لَحَى اللّه شارِيهِ وقُبِّـح آكِـلُـهْ

 

فذلك أشْهى عنْدَنا من بـيَاحِـكـمْ

وقال أبو الهنْديّ، من ولد شَبَثِ بنِ رِبْعيٍّ:

وإنِّي لأهْوَى قديد الـغَـنَـمْ

 

أكَلْتُ الضِّبابَ فما عِفْـتـهـا

فنِعْمَ الطَّـعـام ونِـعْـمَ الأُدُمْ

 

ورَكَّبتُ زُبداً علـى تَـمـرةٍ

وزينُ السَّديفِ كبودُ النَّـعَـمْ

 

وسَمْن السِّلاءِ وكمءَ القصيصِ

أُتيتُ به فائراً في الـشَّـبـمْ

 

ولحمَ الخروف حَـنـيذاً وقـدْ

فما زِلْتُ منها كَثِيرَ السَّـقَـمْ

 

فأمَّا البَـهـطُّ وحِـيتـانُـكـمُ

فلم أرَ فيها كـضَـبٍّ هَـرِمْ

 

وقد نِلْتُ ذاكَ كـمـا نِـلْـتـمُ

وَبيْضُ الجراد شِفاءُ الـقَـرِمْ

 

وما في البُيُوضِ كبَيْضِ الدَّجاج

وَلا تَشْتَهيهِ نُفُوسُ الـعَـجـمْ

 

ومَكنُ الضِّبابِ طَعَامُ العُـرَيبِ

وإلى هذا المعنى ذهب جران العود، حين أطعمَ ضيفَه ضَبّاً، فهجاه ابن عمٍّ له كان يُغمزُ في نسبِه، فلما قال في كلمةٍ له:

وتأكلُ دُونَهُ تمْراً بـزبْـدِ

 

وتُطْعِمُ ضَيْفَك الجَوْعَانَ ضباً

وقال في كلمةٍ له أخْرَى:

كأنَّ الضَّبَّ عندهم عَرِيبُ

 

وتُطْعِمُ ضَيْفَكَ الجَوْعانَ ضبّاً

قال جران العود:

لَمَا عبْتَ الضِّبَابَ ومنْ قَرَاها

 

فلولا أنَّ أصْلـكَ فـارسـيٌّ

وأيُّ لَـوِيّةٍ إلاّ كُـشـاهــا

 

قريتُ الضيفَ من حُبِّي كُشَاها

واللَّوِيّة: الطُّعيِّم الطّيب، واللَّطف يرفع للشَّيخِ والصبي، وقد قال الأخطل:

وإنْ كان قد لاقى لَبوساً ومَطْعما

 

ففلتُ لهُمْ هاتوا لَـوِيةَ مـالـكٍ

بزماورد الزَّنابير وقال مُويس بن عمران: كان بشر بن المعتَمر خاصّاً بالفضل بن يحيى، فقدِم عليه رجلٌ من مواليه، وهو أحد بني هلال بن عامر، فمضى به يوماً إلى الفضْل؛ ليكرمَه بذلك، وحضرت المائدة، فذكروا الضب ومن يأكلُه، فأفرط الفضْلُ في ذمِّه، وتابَعَهُ القوم بذلك ونظر الهلاليُّ فلم ير على المائدة عربيّاً غيره، وغاظه كلامُهم، فلم يلبث الفضل أن أُتِيَ بصَحْفة ملآنةٍ من فراخ الزَّنابير، ليتّخذ لَه منها بزماورد - والدَّبر والنَّحل عند العرب أجناسٌ من الذّبان - فلم يشكّ الهلاليُّ أنَّ الذي رأى من ذِبّان البيوت والحشُوش، وكان الفضْلُ حين وليَ خُراسان استظرف بها بزماورد الزَّنابير، فلمَّا قدم العراق كان يتشَّهاها فتطلبُ له من كلِّ مكان، فشمِت الهلاليُّ به وبأصحابه، وخرجَ وهو يقول:

 

وبعضُ إدام العِلْج هَامُ ذُبـابِ

 

وعِلْج يعافُ الضَّبّ لُؤْماً وبطْنةً

لقالُوا لقَدْ أُوتيتَ فَصلَ خطَابِ

 

ولو أن مَلْكاً في الْمَلا ناك أمَّه

شعر أبي الطروق في مَهر امرأة لما قال أبو الطروق الضبي:

فقد جَردَتْ بَيْتي وبَـيْتَ عِـيالـيا

 

يقولُون أصْدِقْهـا جَـرَاداً وضَـبَّةً

فيا لك من دَعْوى تُصِمُّ المُـنـاديا

 

وأبْقتْ ضِباباً في الصُّدور جَواثمـاً

يُدِبُّونَ شَطْرَ اللَّيْلِ نحوي الأفاعـيا

 

وعاديتُ أعمامي وهمْ شـرُّ جِـيرةٍ

من الأقط ما بلَّغن في المَهْرِ حاجيا

 

وقَدْ كانَ في قعبٍ وقوس وإنْ أشَـأ

فقال أبوها:

ولَوْ كان قوساً كانَ للنَّبْلِ أذْكرا

 

فلو كان قَعباً رضّ قَعْبك جندلٌ

فقال عمُّها: دعوني والعبد.

شعر في الضبّ

وأنشد للدُّبيري:

كعَرْفَجَةِ الضّبّ الذي يتذلَّلُ

 

أعامِرَ عبدِ اللّه إنِّي وجدتكمْ

قال: هي ليّنة، وعودُها ليّن، فهو يعلوها إذا حضروا بالقيظ، ويتشوَّف عليها، ولستَ تَرَى الضّب إلا وهي ساميةٌ برأسها، تنظر وترقب، وأنشد:

إذا حَضَروا بالقَيْظِ والضَّبَُّ نونُها

 

بلاد يكون الخَيْمَ أطلال أهْلِـهـا

وقال عمرو بن خويلد:

وناقةُ عَمرٍو ما يُحَلُّ لها رَحـلُ

 

ركاب حُسَيْلٍ أشْهُرَ الصَّيْف بُدَّنٌ

يعُودُ لما نبْني فيهدمُه حِـسْـلُ

 

إذا ما ابتَنيْنَا بيتَـنـا لـمـعـيشةٍ

وما أنت فرعٌ يا حُسيلُ ولا أصْلُ

 

ويزعم حِسْلٌ أنّه فَـرْعُ قـومِـه

كَما ولَدَتْ بالنَّحْسِ دَيَّانهَا عُكْـلُ

 

وُلِدْت بحادي النَّجم تسعى بسعـيه

استطراد لغوي وهم يسمُّون بحسل وحسيل: وضبّ وضبّة، فمنهم ضبّة بن أدّ، وضبة بن محض، وزيد بن ضبّ، ويقال: حفرة ضب، وفي قريش بنو حسل، ومن ذلك ضبَّة الباب، ويسمّى حلْب الناقة بخمس أصابع ضبّاً، يقال ضبَّها يضبُّها ضبّاً: إذا حلبها كذلك، وضبَّ الجُرح وبَضّ: إذا سال دماً، مثل ما تقول: جذب وجبذ، و:إنّه لَخبٌّ ضَبّ، وإنّه لأخْدع من ضبّ، والضبُّ: الحقد إذا تمكَّن وسَرَت عقاربُه، وأخفى مكانه، والضّبُّ: ورمٌ في خفِّ البعير، وقال الرَّاجز:

ليس بذي عرك ولا ذي ضبِّ

ويقال ضَبٌّ خَدِعٌ، أي مراوغ، ولذلك سموا الخزانةِ المخْدع، وقال راشد بن شهاب:

وواللّه ما دَهْري بعشق ولا سَقَمْ

 

أرقتُ فلم تَخْدَعْ بعينَيَّ نـعـسةٌ

وقال ذو الرُّمَّة:

روؤس الضِّباب استخرجَتها الظهائرُ

 

مناسِمها خُثـمٌ صِـلابٌ كـأنّـهـا

شعر فيه ذكر الضبّ ويدلُّ على كثْرةِ تصريفهم لهذا الاسم ما أنشدَناهُ أبو الرُّدَينيّ:

ولا يُداوي مِنْ صَميم الحُبِّ

 

لا يعقر التقبـيل إلا زُبِّـي

 

 

والضّبُّ في صوَّانِهِ مُجَبّ

وأنشدنا أبو الرُّدينيّ العُكْليّ، لطارق وكنيته أبو السَّمّال:

أنِّي على مَيَاسري وعَسْرِي

 

يا أم سَمَّال ألَـمَّـا تـدْرِي

ضَخْم المثاليثِ صغير الأيرِ

 

يَكفيكِ رِفْدي رجلاً ذَا وَفْر

كأنَّه بين الذَّرى والكِسْـرِ

 

إذا تغَدّى قالَ تَمْري تمْـري

 

 

ضَبٌّ تَضَحَّى بمكانٍ قَفْرِ

وقال أعرابيّ:

ليُصْطاد ضبٌّ مِثْلُه بالـحـبـائلِ

 

قد اصطدتُ يا يقظان ضَبّا ولم يَكُنْ

حَنِيذاً ويُجْنى بَعضُه لـلـحَـلائلِ

 

يَظََلُّ رِعاءُ الشَّاءِ يَرْتَمِـضُـونـهْ

يفوتُ الضِّبابَ حِسلُه في السَّحابِلِ

 

عظيمُ الكشى مثلَُ الصَّبِي إذا عـداْ

وقال العماني:

ومِنْ وَليِّ العَهد بعد الغِـبِّ

 

إنّي لأرْجُو مِن عَطَايا رَبّـي

لها حرٌ مُستهدِفٌ كالـقـبِ

 

رُومِيّةً أولجُ فيهـا ضَـبِّـي

 

 

مُستَحصِفٌ نِعْم قرابُ الزُّبِّ

وقال الآخر:

وفي أجوافهم منه ضِبـابُ

 

إذا اصْطلَحوا على أمْرٍ تَوَلَّوْا

وقال الزِّبرقان بنُ بدر:

زَمِرُ المروءَة ناقص الشَّبرِ

 

ومن الموالي ضَبُّ جَنْـدَلةٍ

فالأول جعل أيره ضَبّاً، والثاني جعل الحقد ضبّاً.
وقال الخليل بن أحمد، في ظهر البصرة مما يلي قَصْر أنَس:

لا بُدّ مِنْ زوْرةٍ عَنْ غـير مِـيعـادِ

 

زُرْ وادِيَ الْقَصْر نِعْمَ القَصْرُ والوادي

والضبّ والنُّون والملاح والحـادي

 

تَرَى به السُّفْنَ كالظِّلْـمـانِ واقـفةً

وقال في مثل ذلك ابنُ أبي عُيَينة:

يَبْلُغُها قِـيمةٌ ولا ثَـمـنُ

 

يا جنَّةً فاتَتِ الجِنان فَـمـا

إنَّ فَؤادي لأهْلِها وطَـنُ

 

ألِفْتُها فاتَّخَذْتُهـا وَطَـنـاً

فهـذه كَـنَّةٌ وذا خَـتَـنُ

 

زُوِّجِ حِيَتانُها الضِّبابَ بهـا

إنَّ الأريب المفكِّرُ الفَطِنُ

 

فانظُرْ وفَكِّرْ فيما تُطيف به

ومن نَعَامٍ كأنَّهـا سُـفـنُ

 

من سُفنٍ كالنّعامِ مقـبـلةٍ

وقال عقبة بن مُكَدَّم في صفة الفَرَس:

في المُجاراةِ مثلُ وَجْرِ الضِّبابِ

 

وَلَها مَنْـخِـرٌ إذا رَفـعَـتْـه

وأنشد:

لما تَرَكْتَ الضّبَّ يسْعى بالوَادْ

 

وأنْتَ لو ذُقْتَ الكُشى بالأكبَـادْ

وقال أبو حَيّة النُّميري:

أبَدَّ ليس به ضبٌّ ولا سرَرُ

 

وَقرَّبوا كلَّ قِنعاس قُراسيةٍ

وقال كثير:

بِحُلْو الرُّقى حرش الضِّباب الخْوادِعِ

 

ومحترش ضبَّ العَـداوة مـنـهُـم

وقال كثيِّر أيضاً:

وتُخْرِجُ مِنْ مضائبها ضِبابي

 

وما زالتْ رُقاكَ تَسُلُّ ضِغْني

شعر في الهجاء فيه ذكر الضب

فأما الذين ذمُّوا الضب وأكْلَه، وضربوا المثل به وبأعضائه وأخلاقه وأعماله، فكما قال التميمي:

لَيَاليَ فَرَّ مِنْ أرضِ الضِّبابِ

 

لَكِسْرى كان أعْقَلَ مِنْ تمـيم

وأشجارٍ وأنـهـارٍ عِـذابِ

 

فأنزَلَ أهْلَـهُ بـبـلادِ رِيفٍ

وصرْنَا نحنُ أمثالَ الكِـلابِ

 

وصار بَنُو بَنِيه بها ملـوكـاً

فقد أزْرى بنا في كلِّ بـابِ

 

فلا رَحِمَ الإلهُ صَدَى تـمـيم

وقال أبو نواس:

فقلْ عَدِّ عَنْ ذَا كيف أكْلُك للضَّبِّ

 

إذا ما تميميٌّ أتَـاكَ مُـفـاخـراً

وبَوْلُكَ يَجْري فُوق ساقِكَ والكعْبِ

 

تُفاخِرُ أبناء المُـلُـوكِ سَـفـاهةً

وقال الآخر:

مِنْ كلِّ مُنْهمِرِ الأحشاء ذي بَـرَدِ

 

فحبَّذَا همْ ورَوَّى اللّـه أرضَـهُـمُ

ببَطْنِ فَلْجٍ على اليَنسُوع فالعُـقـدِ

 

ولا سقى اللّه أياماً غنـيتُ بـهـا

أهْلِ الجفاءِ وعيْشِ البُؤس والصّرَدِ

 

مواطنٌ مِنْ تميم غير مـعـجِـبة

وهَمُّ سَعْد بما تُلقي إلى الـمَـعِـدِ

 

همُّ الكرامِ كريمُ الأمْرِ تفْـعـلُـهُ

وعَيشةٍ سَكَنُوا منها على ضَـمَـدِ

 

أصحاب ضبٍّ ويربوع وحَنْـظـلةٍ

وزَادُها الجُوعُ إن باتَتْ ولم تصـدِ

 

إنْ يأكلوا الضّبَّ باتوا مُخصبين به

عنه كما دُفِعتْ عن صالح البـلـدِ

 

لو أنَّ سعداً لها ريفٌ لقد دُفـعَـتْ

ومَنْ يُنافِسُها في عَيْشها الـنّـكـدِ

 

من ذا يقارع سعْداً عَنْ مفازتـهـا

وقال في مثل ذلك عَمرُو بنُ الأهتم:

مُسْلَحِباً ورَهْنَ طُلْسِ الذِّئابِ

 

وتَرَكْنَا عُمَيْرَهُمْ رَهْنَ ضَبْـعٍ

فقَرى القَومَ غِلمة الأعرابِ

 

نَزَلُوا منزلَ الضِّيافة مـنـا

حَيْث لا يأكُلون غَير الضّبابِ

 

ورَدَدْنَاهُمُ إلـى حَـرَّتَـيْهِـم

وقالت المرّيّة:

جاؤوا ببنْتِ الحارثِ بن عُبادِ

 

جاؤُوا بحارشةِ الضِّباب كأنَّما

وقائلة هذا الشعر امرأةٌ من بني مُرَّة بن عباد.
وقال الحارث الكندي:

 

ولا جِئنا حُسيناً يابن أنسِ

 

لعمرك ما إلى حَسَن أنخْنَا

 

مُضِبّاً في مضابئها يُفسِّي

 

ولكنّ ضبّ جَنْدلةٍ أتـينـا

بحاجتنا تَلَوَّنَ لَوْنَ وَرْسِ

 

فلمَّا أنْ أتينَاهُ وقـلْـنـا

 

يُرينا أنّه وَجعٌ بضـرْسِ

 

وآضَ بكفِّه يحتكُّ ضِرْساً

 

وقلت أُسِرُّه أتراه يُمسي

 

فقلتُ لصاحبي أبهِ كُزازٌ

 

نحاذر أنْ نزَنّ بقَتْلِ نَفْسِ

 

وقمْنَا هاربيْن معاً جميعاً

 








وقالت عائشة ابنة عثمان، في أبان بن سعيد بن العاص، حين خطبها، وكان نزل أيْلَة وترك المدينة:

عَدُوّاً ولا مستنفعاً أنت نـافـعُ

 

نَزَلْتَ ببَيتِ الضَّبِّ لا أنت ضائرٌ

وقال جرير:

كبَيْتِ الضَّبِّ ليس له سَواري

 

وجَدْنا بيتَ ضَبَّةَ في تـمـيمٍ

وقال آخر - وهذا الشعر يقع أيضاً في الضِّباع كما يقع في الضِّباب -:

والوثْبِ للعَنْزِ وغير الوثـبِ

 

يا ضبُعَ الأكهافِ ذاتِ الشّعبِ

فلستُ بالطّبِّ ولا ابن الطَّبِّ

 

عِيثي ولا تخشَيْنَ إلاَّ سَـبِّـي

يضيق عند ذي القَرَد المكبِّ

 

إنْ لم أدع بيْتَك بيتَ الضّـبِّ

وقال الفرزدق:

قفَا ضبَّةٍ عند الصّفَاةِ مَكُونِ

 

لحى اللّه ماءً حنبلٌ خيرُ أهله

يمينُك ماءً مُسلماً بـيَمـينِ

 

فلو عَلِمَ الحجَّاجُ عِلمَك لم تَبِعْ

وأنشد:

بأعمى ولكن فاتَ وهْو بصـيرُ

 

زعمْتَ بأنَّ الضبَّ أعمى ولم يفت

إليك بصحراء البـياضِ غـريرُ

 

بل الضبُّ أعمى يوم يخنِسُ باسته

وقالت امرأةٌ في ولدها وتهجو أباه:

يقْلبُ عيْناً مثلَ عين الضَّبِّ

 

وُهِبْتُه من ذي تُفالٍ خَـبِّ

 

 

ليس بمعشوق ولا مُحَبِّ

وقال رجلٌ من فزارة:

كأسنانِ حِسْلٍ لا وَفاءٌ ولا غَدرُ

 

وجدناكم رَأْبـاً بـين أمِّ قِـرفةٍ

وأنشد:

يقاتلنا بالقَرْنِ ألفٌ مقنَّعُ

 

ثلاثون رأباً أو تزيد ثلاثةً

والرأب: السواء، والمعنى الأولُ يشبه قوله:

لِذي شَيْبةٍ منهمْ على ناشئٍ فَضلا

 

سَواسٍ كأسنان الحمار فلا تَـرَى

وأنشد ابنُ الأعرابي:

كأنَّها كُشْية ضبٍّ في صُقُغْ

 

قُبِّحْتِ من سالفَةٍ ومن صُدُغْ

أراد صُقْع بالعين فقلب، وقال الآخر:

أعقّ من ضبٍّ وأفْسَى من ظَرِبْ

وأنشَد:

ولا سلفعٍ يلْقَى مِراساً زمِيلُها

 

فجاءت تهاب الذَّمَّ ليست بضَبّة

يقول: لا تخدع كما يخدع الضّبُّ في جُحْره.
وأنشد ابنُ الأعرابي لحيّان بن عبيد الربعي جد أبي محضة:

إذْ هو يَسْعى يَسْتَجيرُ لـلـسُّـوَرْ

 

يا سهلُ لو رأيْتَهُ يَوْمَ الـجُـفَـرْ

لازْدَدتَ منه قذراً عـلـى قَـذرْ

 

يَرمي عن الصَّفو ويَرضى بالكَدَرْ

ولِـثَةٍ كـأنَّـهـا سَـيرُ حَـوَرْ

 

يضحك عن ثغر ذميم المُكْتَـشَـرْ

 

 

وعارِضٍ كعارض الضَّبِّ الذكرْ

وأنشد السِّدري:

وخُصْيَتَا صَرصَراني من الإبـلِ

 

هو القَرَنْبى ومَشْيُ الضب تعرفهُ

وعاتِقٌ يتعقَّى مأبِض الـرجُـلِ

 

والخالُ ذو قُحَم في الجرْي صادقةٍ

واعلم،حفظك اللّه تعالى، أنّه قد أكتِفي بالشّاهد، وتبقى في الشعر فَضلةٌ، ممّا يصلح لمذاكرة، ولبعض ما بك إلى معرفته حاجة، فأصلُه به، ولا أقطعهُ عنه.
وأنشد لابن لجأ:

يلصق بالصّخْر لصوقَ الأرْقَمِ

 

وغَنَوي يَرْتـمـي بـأسْـهُـمِ

 

 

لو سئمَ الضبُّ بها لم يسْـأم

وقال أعرابيُّ من بني تميم:

ولو حَرَشْتِ لكَشَفْتِ عن حِرشْ

 

تسخرُ مِنِّي أنْ رَأتْني أحتَـرِش

يريد عن حِرِك.
قال: وقال أبو سعنَة:

عاداهما اللّهُ وقد عادَاهـمـا

 

قَلَهْزَمانِ جعدةٌ لِـحَـاهـمـا

 

 

ضَبّاً كُدًى قدْ غمِّرَت كشَاهما

وأنشد الأصمعي:

جرثومة اللُّؤم لا جُرْثومةِ الكرمِ

 

إنِّي وجدتُك ياجُرثومُ من نـفـرٍ

كسَاعدِ الضَّبِّ لا طولٌ ولا عِظمِ

 

إنِّا وجَدْنا بني جَـلاَن كـلَّـهـمُ

وقال ابن ميّادة:

إذا أسدٌ كَشّتْ لفخرٍ ضِبابُها

 

فإنَّ لقيسٍ مِنْ بَغيضٍ لَنَاصراً

وفي هذه القصيدة يقول:

على الشَّمْسِ لم يَطْلُع عليك حجابُها

 

ولو أنّ قَيساً قيسَ عَيْلان أقسَمَـتْ

وهذا من شكل قول بشَّار:

هَتَكْنَا حِجابَ الشَّمْسِ أو مَطَرتْ دمَا

 

إذا ما غضِبنا غَـضْـبةً مُـضَـريّةً

وأنشد لأبي الطَّمَحانِ:

مِنَّا بثَغْرِ ثَنـيَةٍ لـم تـسْـتَـرِ

 

مهْلاً نَميرُ فإنَّـكُـمْ أمـسـيتُـمُ

مُطِرَ البلادُ وحِرْمُها لم يُمْطَـرِ

 

سُوداً كأنّـكـمُ ذئابُ خـطـيطةٍ

حبّو الضِّبابِ إلى أصول السَّخْبَرِ

 

يحْبُون بينَ أجاً وبُـرْقةِ عـالـجٍ

تهوي ثَنيّتُهُ كـعـينِ الأعـور

 

وتَرَكْتُمُ قصب الشُّرَيفِ طوامـياً

مفاخرة العُثِّ للضبِّ

وقال العُثّ، واسمه زيد بن معروف، للضب غلام رُتْبيل بن غَلاق: وقد رأيت من سمّى عَنزاً وثوراً، وكلباً، ويربوعاً،فلم نر منهم أحَداً أشبَه العنز ولا الثَّور، ولا الكلب، ولا اليربوع، وأنتَ قد تقيَّلتَ الضَّبَّ حتى لم تغادِرْ منه شيئاً، فاحتمَلَ ذلك عنه، فلمَّا قال:

فأنتَ والاسْمُ شَنٌّ فَوقه طبقُ

 

من كان يدعى باسمٍ لا يناسِبهُ

فقال ضبٌّ لعثّ:

والضبُّ ذو ثَمن في السُّوق مَعْلُومِ

 

إن كنْتُ ضَبّاً فإنَّ الضّبَ مُحْتَبَـلٌ

ولسْتَ شَيئاً سِوَى قرضٍ وتقلـيمِ

 

وليس للعُـثِّ حَـبَّـالٌ يُرَاوِغُـه

وما أكثر ما يجيء الأعرابي بقربةٍ من ماء، حتى يفرغها في جحره، ليخرج فيصطاده، ولذلك قال الكميت في صفة المطر الشديد الذي يستخرج الضِّباب من جِحَرتها، وإن كانتْ لاتتّخذها إلا في الارتفاع - فقال:

مَ ويكفي المضبِّبَ التفجيرُ

 

وعلته بتركها تحفش الأُكْ

والمضبّب هو الذي يصيد الضباب.

القول في سن الضب وعُمره

أنشد الأصمعيُّ وغيره:

خِطْبي وهّزَْتْ رأسها تسْتبْلي

 

تعلّقت واتّصلـت بـعـكْـلِ

فَقُلْتُ لو عمِّرتُ عمْر الحِسْلِ

 

تسألني من السِّنينَ كـمْ لـي

والصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كطِينِ الوَحْلِ

 

أو عُمرَ نوحٍ زَمَنَ الفِطَحْـلِ

 

 

صِرْتُ رَهينَ هَرَمٍ أو قَتْـلِ

وهذا الشِّعر يدلُّ على طول عمر الحِسْل؛ لأنه لم يكن ليقول:

والصّخرُ مبتلٌّ كطين الوَحْلِ

 

أو عُمرَ نوحٍ زمنَ الفِطَحْلِ

إلاَّ وعمر الحِسل عنده من أطول الأعمار.
وروى ابن الأعرابي عن بعض الأعراب أنّ سِنَّ الضبّ واحدة أبداً، وعلى حال أبداً، قال فكأنه قال: لا أفعله ما دامَ سِنها كذلك، لا ينقص ولا يزيد.
وقال زيد بن كَثْوة: سنّ الحِسْل ثلاثة أعوام، وزعم أن قوله ثَمّةَ: لا أفعله سِنَّ الحسل غلَط، ولكن الضبَّ طويلُ العمر إذا لم يَعرِضْ له أمر.
وسنُّ الحِسل مِثلُ سنّ القَلوص، ثلاث سنين، حتى يلقح؛ ولو كانت سنُّ الحِسل على حال واحدة أبداً لم تعرف الأعرابُ الفتيَّ من المُذَكِّي.
وقد يكون الضّبُّ أعظَمَ من الضّبّ وليس بأكبَر منه سِنّاً.
قال: ولقد نظرتُ يوماً إلى شيخٍ لنا يفُرُّ ضَبّاً جَحْلاً سِبَحْلاً قد اصطاده، فقلت له: لم تفعلُ ذلك? فقال: أرجو أن يكون هرماً.

بيض الضب

قال: وزعم عمرو بن مسافر أن الضّبّة تبيض ستِّين بيضة، فإذا كان ذلك سدَّت عليهن باب الجُحر، ثم تدعهن أربعين يوماً فيتفقَّص البيض، ويظهر ما فيه، فتحفر عنهنَّ عند ذلك، فإذا كشفَتْ عنهن أحْضَرْن وأحضرَتْ في أثرهن تأكلهن، فيحفر المنفلت منها لنفسه جُحراً وَيرْعى من البقْل.
قال: وبيض الضبّ شبيهٌ ببيض الحمام، قال: وفرخه حين يخرج يخُرج كيّساً كاسياً، خبيثاً، مُطيقاً للكَسْب، وكذلك ولد العقرب، وفراخ البطّ، وفراريج الدَّجاج، وولد العناكب.

سنّ الضب

وقال زيدبن كَثْوة، مَرَّةً بعد ذلك: إنّ الضب ينبت سِنُّه معه وتكبر مع كِبر بدنه، فلا يزال أبداً كذلك إلى أن ينتهي بدنُه منُتهاه قال: فلا يُدعى حِسلاً إلا ثلاثَ ليال فقط.
وهذا القول يخالف القول الأوَّل، وأنشَدَ:

مِنَ الضباب سَحْبَلَيْنِ سَبْطَين

 

مَهَرْتُها بعد المِطَالِ ضَـبَّـيْنْ

 

 

نِعْمَ لعمرُ اللّه مهْر العِرْسَينْ

أنشدني ابن فَضَّال: أمْهَرتها وزعم أنّه كذلك سِمعها من أعرابيّ.
وقد يكون أن يكون الحسل لا يُثْني ولا يُرْبِع، فتكون أسنانُه أبداً على أمر واحد، ويكون قول رؤبة بن العجّاج في طول عمره حَقّاً.
ويدلُّ على أنّ أسنانَه على ما ذكروا قولُ الفزاريّ:

كأسنان حِسْلٍ لا وَفَاءٌ ولا غدْرُ

 

وجدناكمُ رأباً بنـي أمّ قِـرفةٍ

يقول: لا زيادة ولا نقصان.

قصة في عمر الضب

وقال زيد بن كَثْوَة المزني: قال العنبريّ، وهو أبو يحيى: مكثْتُ في عنفوان شَبيبتي، ورَيعانٍ من ذلك، أُريغُ ضَبّاً، وكان ببعض بلادنا في وِشاز من الأرض، وكان عظيماً منها مُنْكراً، ما رأيتُ مِثله، فمكثْت دهراً أُرِيغه ما أقدر عليه، ثم إنّي هبطت إلى البصرة، فأقمت بها ثلاثينَ سنةً، ثمَّ إنِّي واللّه كرَرْتُ راجعاً إلى بلادي، فمررتُ في طريقي بموضع الضّبّ، معتمداً لذلك، فقلت: واللّه لأعلمنَّ اليوم عِلمَه، وما دَهرِي إلا أن أجعل من جلده عُكَّة؛ للّذي كان عليه من إفراط العِظَم، فوجَّهت الرَّواحل نحوه، فإذا أنا به واللّه مُحْرنْبئاً على تَلعة؛ فلمّا سمِع حِسّ الرّواحل، ورأى سواداً مقبلاً نحوه، مرَّ مسرعاً نحو جحره، وفاتني واللّه الذي لا إله إلا هو.

مكن الضَّبة

وقال ابن الأعرابيّ: أخبرني ابن فارس بن ضِبْعان الكلبيّ، أنَّ الضّبّةَ يكون بيضُها في بطنها، وهو مكْنها، ويكون بيضُها متَّسِقاً، فإذا أرادَتْ أن تبيضَه حفَرَتْ في الأرض أُدْحيّاً مثلَ أُدْحِيِّ النعامة، ثم ترمي بمكنها في ذلك الأدحِيّ ثمانين مَكنة، وتدفنه بالتُّراب، وتدعُه أربعين يوماً، ثم تجيءُ بعد الأربعين فتبحثُ عن مَكْنها، فإذا حِسَلَةٌ يتعادين منها، فتأكلُ ما قدَرت عليه، ولو قدرَتْ على جميعهن لأكلتهنّ، قال: ومَكنها جلدٌ ليّن، فإذا يبست فهي جلد، فإذا شويْتَها أو طبخْتها وجَدْت لها مُحّاً كمحِّ بيض الدّجاج.

عداوة الضَّبة للحية

قال: والضّبّة تقاتل الحيّة وتضربُها بذَنبها، وهو أخشن من السَّفَن وهو سلاحها، وقد أُعطيت فيه من القُوَّةِ مثل ما أعطيت العُقاب في أصابعها، فربما قطعتها بضربة، أو قتلتها، أو قَدّتها، وذلك إذا كان الضّبّ ذَيّالاً مذنِّباً وإذا كان مرائساً قتلته الحية.
والتذنيب: أنّ الضبّ إذا أرادت الحيّةُ الدُّخول عليه في جُحره أخرَج الضبُّ ذنبه إلى فم جُحره، ثم يضرب به كالمخراق يميناً وشمالاً، فإذا أصاب الحية قطعها، والحية عند ذلك تهرُبُ منه، والمراءسة: أن يُخرِج الرَّأس ويدَعَ الذَّنَب ويكون غُمراً فتعضّه الحيَّة فتقتله.
استطراد لغوي قال: وتقول: أمكنت الضبّة والجرادة فهي تمكن إمكاناً: إذا جمعت البَيضَ في جوفها، واسم البَيض المَكن، والضّبة مكُون، فإذا باضت الضّبة والجرادةُ قيل قد سرأت، والمكن والسَّرء: البيض، كان في بطنها أو بعد أن تبيضه، وضَبّة سرُوء، وكذلك الجرادة تسرَأ سرءاً، حين تُلقي بيضها، وهي حينئذ سِلْقة.
وتقول: رزّت الجرادة ذنبها في الأرض فهي ترزُّ رزّاً، وضربت بذنبها الأرض ضرباً، وذلك إذا أرادت أن تلقي بيضها.
المضافات من الحيوان ويقولون: ذئب الخمَر، وشيطان الحماطة، وأرنب الخُلّة، وتيس الرَّبْل، وضبّ السَّحا، والسَّحا: بقلة تحسُن حاله عنها.
ويقال: هو قنفذ بُرْقة، إذا أراد أن يصِفَه بالخُبث.

ذكر الشعراء للضب في وصف الصيف

وما أكثَر ما يذكرون الضَّبَّ إذا ذكَرُوا الصيف مثل قول الشاعر:

والضبُّ في الجُحْر والعُصفورُ مُجتمعُ

 

سار أبو مسلمٍ عنهـا بـصِـرْمَـتِـهِ

وكما قال أبو زبيد:

حين لاحت للصَّابح الـجـوزاءُ

 

أيُّ ساعٍ سَعَى ليقطَـع شـرْبـي

بِّ وأوْفى في عُودِهِ الحِـربـاءُ

 

واستكنَّ العُصفور كَرْهاً مع الض

وأنشد الأصمعيّ:

مع الضَّبِّ والشِّقْذَانُ تَسمُو صدورُها

 

تجاوَزْتُ والعصفور في الجُحر لاجئٌ

قال: والشِّقذان: الحرَابيّ، قوله: تسمو: أي تَرتَفِع في رؤوس العيدان، الواحد من الشّقذان، بكسر الشين وإسكان القاف، شَقذ بتحريك القاف.

أسطورة الضب والضفدع

وتقول الأعراب: خاصم الضبُّ الضفدعَ في الظّمأ أيُّهما أصبر، وكان للضفدع ذنَب، وكان الضبُّ ممسوحَ الذنب، فلمّا غلبها الضبُّ أخذ ذنَبها فخرجا في الكلأ، فصَبرت الضفدع يوماً ويوماً، فنادت: يا ضبّ، ورداً ورداً فقال الضبُّ:

لا يشْتَهي أن يَرِدا

 

أصبَحَ قلْبي صَرِدا

وصِلِّيانـاً بَـرِدَا

 

إلاّ عَرَاداً عَـرِدا

فلما كان في اليوم الثالث نادت: يا ضَبُّ، وِرداً وِرداً قال: فلمّا لم يُجِبها بادَرَتْ إلى الماء، وأتْبعها الضبُّ، فأخذ ذنَبها، فقال: في تصْداقِ ذلك ابن هَرْمة:

قِ في أسْحَمَ لـمَّـاحِ

 

ألم تأرَقْ لضوءِ الـبَـرْ

دِ قد شِيبَتْ بـأوْضـاحِ

 

كأعناقِ نسـاء الـهِـنْ

فِ يُزْجَى خَلْف أطلاحِ

 

تُؤَامِ الـوَدْق كـالـزّاحِ

يَّ أو أصوات أنْـوَاحِ

 

كأنّ العـازف الـجـنِّ

تَهَدِّيها بـمـصْـبـاحِ

 

على أرجائهـا الـغُـرّ

عِ في بَـيداءَ قِـرواحِ

 

فقال الضبُّ للضـفـدِ

مَ من كرب وتطْـواحِ

 

تأمّل كيف تنْجـوُ الـيو

وما أنـتَ بـسَـبَّـاحِ

 

فإنـيَ سَـابـحٌ نــاجٍ

نِ أبْـدَى خـيرَ إرْواحِ

 

فلمّا دق أنـف الـمُـزْ

لَب بالمـاء سَـحَّـاحِ

 

وسَحَّ الماء من مُستـحْ

عِ عَوماً غير مِنْجـاحِ

 

رَأى الضبُّ من الضفد

ثجُوجٌ غـير نَـشّـاحِ

 

وحطَّ العُصْمَ يُهـويِهـا

نِ يمشي خلفه الصَّاحي

 

ثَقَالُ المشْي كالسَّـكـرا

ثم قال في شأن الضفدع والضب، الكميتُ بن ثعلبة:

وعند الحكومة أذْنَـابَـهـا

 

على أخْذِها يَوْمَ غِبِّ الوُرُود

وقال عبيد بن أيوب:

كفَرْخِ الضبّ لا يبغي ورُودا

 

ظَللت وناقتي نِضْـويْ فَـلاةٍ

وقال أبوزياد: قال الضبّ لصاحبه:

وزعموا أنك لا أخالـكـا

 

أهَدَموا بَيْتَكَ لا أبـالَـكـا

 

 

وأنا أمشي الحَيكى حوالكا

قول العرب أروى من الضب

وتقول العرب: أرْوََى من ضبّ؛ لأن الضب عندهم لا يحتاجُ إلى شُرب الماء، وإذا هرِم اكتفى بَبْرد النَّسيم، وعند ذلك تفنى رطوبته فلا يبقى فيه شيءٌ من الدَّم، ولا مما يُشبه الدّم، وكذلك الحيَّة، فإذا صارت كذلك لم تقْتُلْ بلعاب، ولا بمجَاج، ولا بمخالطةِ ريق؛ وليس إلاّ مخالطة عظم السِّنَّ لدماء الحيوان، وأنشدوا:

قد عاشَ حتَّى هو لا يمْشِي بدمْ

 

لُمَيْمَةً من حنَش أعْمَـى أصـمّ

 

 

فكلّما أقْصدَ منه الجوعُ شـمّْ

وأما صاحبُ المنطق فإنه قال: باضطرار إنه لا يعيش حيوانٌ إلاّ وفيه دمٌ أو شيء يشاكل الدم،

إخراج الضب من جحره

والضبُّ تذْلقه من جُحره أمور، منها السَّيل، وربَّما صبُّوا في جحره قربةً من ماءِ فأذْلقوه به، وأنشد أبو عبيدة:

يُذلقُ السَّيلُ يَرابيعَ النُّفَقْ

 

يُذلقُ الضبَّ وَيخفيه كما

يَخفيه مفتوحة الياء، وتذلقه وقْع حوافِر الخيل، ولذلك قال امرؤ القيس بن حُجْر:

خَفَاهُنَّ وَدْقٌ من سَحابٍ مُرَكّبِ

 

خَفَاهُنَّ مِنْ أنْفاقهنَّ كـأنَّـمـا

تقول: خَفَيْته أخفِيه خَفْياً: إذا أظهرته، وأخفيته إخفاءً: إذَا ستَرته، وقال ابن أحمر:

وإنْ تبعثُوا الحربَ لا نقعُدِ

 

فإن تَدْفِنُوا الدّاء لا نَخفِـهِ

ولا بدَّ من أن يكونَ وقعُ الحوافرِ هدَم عليها، أو يكونَ أفزَعَها فخرجَتْ، وأهلُ الحجاز يسمُّون النّبّاش المُخْتفي؛ لأنّه يستخرج الكفَنَ من القَبْر ويُظهره.
وحكَوا عن بعض الأعراب أنّه قال: إنَّ بني عامر قد جعلوني على حِنديرة أعينها، تريد أن تختفي دمي أي تظهره وتستخرجه، كأنّها إذا سفحَتْه وأراقته فقد أظهرتْه.
قول أبي عبيدة في تفضيل أبيات لامرئ القيس وأنشد أبو عبيدة:

طبقُ الأرض تَحَرَّى وتَدُرّْ

 

دِيمةٌ هَطْلاءُ فيهـا وَطَـفٌ

وتُواريه إذا ما تَعْـتـكـرْ

 

تُخرِج الضبَّ إذا ما أشجَذتْ

ثانياً بُرثُنَه مـا يَنْـعَـفِـرْ

 

وتَرَى الضّبَّ ذفيفاً ماهـراً

وكان أبو عبيدة يقدِّم هذه القصيدة في الغيث، على قصيدة عَبيد بن الأبرص، أوْ أوس بن حجر، التي يقول فيها أحدهما:

يَكادُ يَدْفعُه مَنْ قامَ بـالـرَّاحِ

 

دانٍ مُسِفٍّ فويْقَ الأرْض هَيْدَبه

والمُستَكنُّ كَمَنْ يمشي بقِرْواحِ

 

فمن بنَجْوَتهِ كَمنْ بعَـقْـوَتِـهِ

وأنا أتعجّب مِنْ هذا الحكم.
قولهم: هذا أجلُّ من الحرش ومما يضيفون إلى هذه الضِّباب من الكلام، ما رواه الأصمعيّ في تفسير المثل، وهو قولهم: هذا أجَلُّ من الحَرْش - أنّ الضَّبَّ قال لابنه: إذا سمعْتَ صَوْتَ الحَرْشِ فلا تخْرُجَنَّ قال: والحَرْش: تحريكُ اليدِ عند جُحر الضب؛ ليخرج ويَرى أنّه حيّة، قال: فسمع الحِسْل صَوْتَ الحفْر، فقال للضّبِّ: يا أبت هذا الحرش? قال: يا بُنَيّ، هذا أجَلّ من الحُرْش فأرسَلَها مثلاً.

الضب والضفدع والسمكة

وقال الكميت:

ويَعْجَب أنْ نَبَرّ بني أبِينا

 

يُؤَلِّفُ بَيْنَ ضِفدِعَة وضَبٍّ

وقال في الضَّبِّ والنُّون:

لِشَيءٍ وبالشِّكْل المقارِبِ للشِّكْل

 

وَلوْ أنَّهُمْ جاؤوا بشيءٍ مُقَـارِبٍ

قَوامسَ والمكنيِّ فينا أبا حِسْـلِ

 

ولَكِنَّهُمْ جاؤوا بحِـيتـان لُـجَّةٍ

وقال الكميت:

على الحيتان مِنْ شَبَهِ الحسولِ

 

وما خلْتُ الضّبابَ مُعطَّفـاتٍ

وقال آخر: والعَربُ تقولُ في الشَّيءِ المُمْتَنع: لا يكونَ ذلك حتى يَرِدَ الضبُّ، وفي تبعيدِ ما بينَ الجِنْسَيْن: حتّى يؤلَّف بين الضَّبِّ والنُّون.
استطراد لغوي قال: ويقال أضبَّت أرض بني فلان: إذا كَثرتْ ضِبابها، وهذه أرضٌ مَضبَّة، وأرضُ بني فلان مَضبَّة، مثل فَئِرة من الفأر، وجَرِذة من الجُرذان، ومَحوَاة ومَحْياة من الحيّات، وجَرِدة من الجراد، وسرِفة من السُّرفة، ومأسَدَة من الأسود، ومَثْعلة من الثّعالب؛ لأن الثَّعلب يسمَّى ثعالة، والذِّئب ذُؤالة.
ويقال أرضٌ مَذبَّة من الذُّباب، مَذْأبَة من الذِّئاب.
ويقال في الضّبِّ: وقَعْنا في مَضابَّ منكَرَة، وهي قطعٌ من الأرض تكثر ضِبابُها.
قال: ويقال أرضٌ مرْبعة، كما يقال مضَبَّة، إذا كانت ذات يرابيع وضِباب، واسمُ بيضها المَكْن، والواحدة مكنِة.
ويقال لفرْخه إذا خرج حِسْل، والجميعُ حَسَلة، وأحسال، وحُسول، وهو حِسْل، ثم مُطَبِّخ ثم غيداق، ثمَّ جَحْل، والسَّحْبَلُ: ما عظم منها، وهو في ذلك كلِّه ضبٌّ.
وبعضُهم يقول: يكون غَيداقاً، ثم يكون مطبِّخاً، ثمَّ يكون جَحْلاً، وهو العظيم، ثمَّ هو خُضَرِمٌ، ثمَّ يكون ضَباً، وهذا خطأ، وهو ضَبٌّ قبل ذلك، وقال الرَّاجز:

قلَّص عنه بيضُهُ في نيق

 

ينفي الغياديقَ عن الطَّريقِ

ما يوصف بسوء الهداية من الحيوان ويقال: أضَلُّ من ضبٍّ، والضلال وسوء الهِداية يكونُ في الضبِّ، والورَل، والدِّيك.

الضب وشدة الحر

وإذا غيّر الحَرُّ لون جلْدِ الضبِّ فذلك أشدُّ ما يكون من الحر، وقال الشَّاعر:

قَطَعْتُ حَشَاهَا بالغُرَيريَّة الصُّهبِ

 

وهَاجرةٍ تُنْجي عنِ الضَّبِّ جِلْـدَه

أمثال في الضب

وفي المثل: خلِّ دَرَج الضبّ، وفي المثل: تعْلِمني بضبٍّ أنا حرَشْتُه؛ و: هذا أجَلُّ من الحَرْش، و:أضلُّ من ضبٍّ و: أخبُّ من ضبّ، و: أروى من ضبٍّ، و: أعَقُّ من ضبّ، و: أحيَا من ضبٍّ، و: أطوَلُ ذَماءً من ضبّ، و:كلُّ ضَبٍّ عِندَ مِرْداته، ويقال: أقصرُ من إبهام الضّبّ كما يقال: أقصر من إبهام القطاة، وقال ابن الطَّثْريّةِ:

ويومٍ كإبهام القطاة

ومن أمثالهم: لا آتِيكَ سنَّ الحِسْل، وقال العجاج:

ثُمَّت لا آتيه سِنَّ الحِسْلِ

كأنّه قال، حتّى يكون مَا لا يكون؛ لأنَّ الحسل لايستبدل بأسنانه أسناناً.
أسنان الذئب وزعم بَعضُهم أنّ أسنان الذِّئب ممطولة في فكيه، وأنشد:

أنيابه ممطولةٌ في فَكّيْنْ

وليس في هذا الشعر دَليلٌ على ما قال؛ لأنَّ الشاعر يُشْبع الصفةَ إذا مَدَح أو هَجا، وقد يجوز أن يكونَ ما قال حقّاً.
ما قيل في عبد الصمد بن علي فأما عبد الصَّمد بن علي فإنه لم يُثغر، ودخل القبر بأسنان الصِّبا.
استطراد لغوي  وقد يقال للضَّبِّ والحيّة والورَل، وما أشبَهَ ذلك: فحَّ يفحُّ فحيحاً، والفحيح: صوت الحية من جَوْفها، والكشيش والقشيش: صَوت جْلدها إذا حكَّت بَعضها ببعض.
وليس كما قال، ليس يُسمع صوت احتكاك الجلد بالجلد إلاَّ للأفعى فقط، وقال رؤبة:

وأن تُرَحّي كرَحَى المرحِّي

 

فِحِّي فلا أفْرَقُ أن تَفِحِّـي

وقال ابنُ ميادة:

يكِشُّ له مستـكـبـراً ويطـاولُـه

 

ترى الضبَّ إن لم يرهب الضبُّ غيره

حديث أبي عمرة الأنصاري

ويُكتَب في باب حبِّ الضّب للتّمر حديث أبي عمرة الأنصاري رووه من كلِّ وجه، أنّ عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنه، قالَ لرجل من أهل الطائف: الحُبْلة أفْضل أم النخلة? قال: بل الحُبلة، أتزببها وأشَمِّسها، وأستظل في ظلّها، وأصلح بُرْمَتي منها، قال عمر: تأبى ذاك عليك الأنصار.
ودخل أبو عمرة عبد الرحمن بن محْصن النجَّاري فقال له عمر: الحبلة أفضل أم النَّخلة? قال: الزبيب إنْ آكلْه أضْرَس، وإن أتْرُكْه أغرث ليس كالصّقر في رُؤوس الرَّقل، الراسخات في الوحل، المطعمات في المَحْل، خُرْفَة الصائم وتُحْفة الكبير، وصُمْتة الصغير وخُرسة مريم، ويُحْتَرَشُ به الضِّباب من الصَّلعاء يعني الصحراء.

دية الضب واليربوع

قال: ويقالُ في الضّب حُلاَّم، وفي اليَربوع جفْرة، والجفرة:التي قد انتفخ جَنْبَاها وشَدنت، والحُلاَّم فوق الجدي وقد صَلُح أن يُذبَح للنُّسك، والحُلاَّن، بالنون: الجدي الصغير الذي لا يصلح للنُّسك.
وقال ابن أحمر:

إمَّا ذَبيحاً وإمَّا كان حُـلاّنـا

 

تهدِي إليه ذراع الجَدْي تَكْرِمَةً

والحُلاَّن والحُلوان جميعاً:رشوة الكاهن، وقد نُهي عن زَبْدِ المشركين، وحُلوان الكاهن، وقال مهلهِل:

حَتَّى ينالَ القَتْلُ آلَ هَمّامْ

 

كُلُّ قَتيل في كُليبٍ حُلاّم

أقوال لبعض الأعراب وقال الأصمعي: قال أعرابيٌّ يَهزَأ بصاحبه: اشتر لي شاةً قفْعاء، كأنَّها تضْحَك: مندلقةً خاصرتاها، كأنّها في مَحْمِل، لها ضرْعٌ أرقط، كأنّه ضبّ، قال: فكيف العَفْلُ ? قال: أو لهذه عَفْل?! قال: وسأل مَدنيٌّ أعرابيّاً قال: أتأكلون الضَّبَّ? قال: نعم، قال: فاليربوع? قال: نعم، قال: فالورَل? قال: نعم، قال: أفتأكلون أمّ حُبَين? قال: لا، قال: فلْيَهْنِ أمَّ حُبينٍ العافية.
شعر في الضب وقال فِراس بن عبد اللّه الكلابي:

ولم أجد بشَوْلِـهـا بـلالا

 

لَمّا خَشِيت الجُوع والإرمَالا

أوفَدَ فَوْقَ جُـحْـرِهِ وذالا

 

أبصرت ضَبّاً دَحِناً مُخْتـالا

حتّى رأيتُ دونيَ القَـذالا

 

فدَبّ لي يخْتلني اخـتـيالا

فَدهِشَتْ كَفَّاي فاستطـالا

 

ومَيْلةً ما مِلْتُ حـينَ مـالا

فحاجزا وبَـرَّأَ الأوصـالا

 

مِني فلا نزْعَ ولا إرسـالا

لمَّا رأتْ عيني كُشًى خِدَالا

 

مِنِّي ولم أرفَعْ بـذاكَ بـالا

ورُحت منهُ دحـنـاً دأّلا

 

منه وثنّيْتُ لـه الأكـبـالا

أسماء لعب الأعراب البُقَّير، وعُظَيمُ وضّاح، والخَطْرة، والدَّارة، والشّحمة والحلق، ولُعبة الضّبّ.
فالبُقيْرَ: أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى أسفله، ثم يقول لصاحبه: اشتَهِ في نفسك، فيصيبُ ويخطئ.
وعُظيمُ وَضّاح: أن يأخذ بالليل عظماً أبيضَ، ثم يرمي به واحدٌ من الفَريقين، فإنْ وجدَهُ واحدٌ من الفريقَين ركِب أصحابه الفريقَ الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه.
والخطرة: أن يعملوا مِخْراقاً، ثم يرمي به واحدٌ منهم من خلفه إلى الفريق الآخر، فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم، فإن أخذوه ركبوهم.
والدّارة، هي التي يقال لها الخَراج.
والشّحمة: أن يمضيَ واحدٌ من أحد الفريقَين بغلامٍ فيتنحَّون ناحية ثم يقبلون، ويستقبلهم الآخرون؛ فإن منَعوا الغلام حتَّى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه، ويُدفَع الغلام إليهم، وإن هم لم يمنعوه ركبوهم، وهذا كله يكون في ليالي الصَّيف، عن غِبِّ ربيعٍ مُخصِب،  ولُعبة الضّبّ: أن يصوِّروا الضّبّ في الأرض، ثم يحوِّل واحدٌ من الفريقين وجهَه، ثم يضع َبعضهم يده على شيءٍ من الضّبِّ، فيقول الذي يحوِّل وجهه: أنف الضّبِّ، أو عين الضبِّ، أو ذَنب الضّب، أو كذا وكذا من الضّبِّ، على الوِلاء، حتّى يفرغ؛ فإن أخطأ ما وضَع عليه يدَهُ رُكِب ورُكِب أصحابه، وإن أصابَ حَوَّل وجهه الذي كان وضع يده على الضّبِّ، ثم يصيرُ هو السائل.
ويقول: الأطبَّاء: إنَّ خُرء الضّب صالح للبياض الذي يصير في العين.
والأعرابُ ربَّما تداوَوْا به من وجَع الظهر.
وناسٌ يزعمون أنّ أكل لحمان الحيوان المذكور بطولِ العمر، يزيد في العمر، فصدَّق بذلك ابن الخارَكي وقال: هذا كما يزعمون أن أكل الكُلية جيِّد للكُلية، وكذلك الكبدُ، والطِّحال، والرِّئة، واللّحم ينبت اللّحم، والشّحم ينبت الشّحم، فغَبرَ سنةً وليس يأكلُ إلاّ قديد لحوم الحمر الوحشية، وإلا الورشان والضِّباب، وكلَّ شيء قدَر عليه مما يقضي له بطول العُمر، فانتقض بدنه، وكاد يموت، فعاد بعدُ إلى غذائه الأوّل.
تفسير قصيدة البهراني نقول في تفسير قصيدة البَهْراني، فإذا فرغنا منها ذكرنا ما في الحشرات من المنافع والأعاجيب والروايات، ثم ذكرنا قصيدتي أبي سهل بشر بن المعتمر في ذلك، وفسرناهما وما فيهما من أعاجيب ما أودع اللّه تعالى هذا الخلْق وركّبهُ فيهم، إن شاء اللّه تعالى، وباللّه تبارك وتعالى أستعين.
أما قوله:

فلهذا تناجلا أمَّ عَـمْـرِو

 

مَسَخَ الماكِسَينِ ضَبْعاً وذئبا

فإن ملوك العرب كانتْ تأخُذُ من التُّجَّار في البرِّ والبحر، وفي أسواقهم، المكْس، وهو ضريبةٌ كانت تؤخذ منهم، وكانوا يظلمونهم في ذلك، ولذلك قال التَّغلبي، وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد وهو قوله:

حارِمنا لا يَبْوُؤُا الـدَّمُ بـالـدَّمِ

 

ألا تَسْتحِي منّا مُلوكٌ وتَـتّـقِـي

ي كلِّ ما باعَ امرؤٌ مَكْسُ دِرْهمِ

 

في كُلِّ أسْواقِ العـراقِ إتـاوةٌ

والإتاوة والأُربان والخرْج كله شيءُ واحد، وقال الآخر:

صراري نعطي الماكسينَ مُكُوسا

 

لاَ ابنَ المُعَلّى خِلْتَنا أمْ حسِبْتـنـا

وقال الأصمعيُّ، في ذكر المكسِ والسُّفن التي كان تُعْشر، في قصيدته التي ذكر فيها من أهلك الله عز ذكره، من الملوك، وقصم من الجبابرة، وأباد من الأمم الخالية - فقال:

وانتحت بعده على ذي جُدُونِ

 

أعْلقَتْ تُبَّعاً حِبالُ الـمـنـونِ

سَ وعادتْ من بعدُ للسّاطِرُونِ

 

وأصابتْ مِنْ بعدهم آل هِرْمـا

لة شرقاً فالطور من عَبْـدينِ

 

ملكَ الحضر والفُراتِ إلى دِجْ

فله مكسُهُ ومكسُ السُّـفِـينِ

 

كل حِمْلٍ يمرُّ فـوق بـعـير

والأعراب يزعمون أن اللّه تعالى عزّ وجلّ لم يدعَ ماكساً ظالماً إلا أنزل به بليةً، وأنَّه مسخَ منهم ضبُعاً وذئباً، فلهذه القرابةِ تسافدا وتناجلا، وإن اختلفا في سوى ذلك، فمن ولدهما السِّمع والعِسبار، وإنما اختلفا لأنّ الأمَّ ربما كانت ضبعاً والأبُ ذئباً، وربما كانت الأمُّ ذئبةً والأبُ ذيخاً، والذِّيخ: ذكر الضِّباع.
ذكر من أهلك الله من الأمم وأمّا قوله:

بنجيع الرُّعافِ في حَيِّ بَكْرِ

 

بَعَث الذَّرَّ والجراد وقـفَّـى

فإنّ الإعراب تزعم أن اللّه تعالى قد أهلك بالذرّ أمما، وقد قال أميّةُ بن أبي الصّلت:

وسنيناً فأهلَكَتْهم ومُـورا

 

أرسل الذَّرَّ والجراد عليهمْ

رّ وإنّ الجرادَ كان ثُبورا

 

ذكرَ الذَّرِّ إنَّه يفعلُ الـش

وأما قوله: وقفّي بنجيع الرُّعاف في حيِّ بكر فإنّه يريد بكر بن عبد مناة، لأنّ كنانةَ بِنزولها مَكَّة كانوا لا يزالون يصيبهم من الرُّعاف ما يصير شبيهاً بالموتان، ويجارف الطاعون، وكان آخِر من مات بالرُّعاف من سادة قُريش هِشام بن المغيرة.
وكان الرُّعاف مِنْ منايا جرهُم أيام جرهم، ولذلك قال شاعرٌ في الجاهلية، من إياد:

ورهط مُناجِيهِ في سُـلّـمِ

 

ونحـنُ إيادٌ عـبـادُ الإلـه

زمان الرُّعافِ على جُرهمِ

 

ونحنُ ولاةُ حجاب العتـيق

ولهذا المناجي الذي كان يناجي الله، عز وجل، في الجاهلية على سُلّم - حديث.
 سيل العرم فأما قوله:

عَرِماً مُحكَمَ الأساسِ بصَخْرِ

 

خَرقتْ فأرةٌ بأنـفٍ ضـئيلٍ

فقد قال اللّه عز وجل: "فَأَرْسَلْنا عَليْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ" والعَرِم: المسنّاة التي كانوا أحكموا عملها لتكون حجازاً بين ضِياعهم وبين السيل، ففجرته فارة، فكان ذلك أعجبَ وأظهر في الأعجوبة كما أفار اللّه تعالى عز وجل ماءَ الطوفان من جَوف تَنُّور، ليكون ذلك أثبتَ في العِبرة، وأعجَبَ في الآية.
ولذلك قال خالدُ بنُ صفوان لليمانيّ الذي فخر عليه عند المهديِّ وهو ساكت، فقال المهدي: وما لكَ لا تقول? قال: وما أقول لقوم ليس فيهم إلا دابغُ جِلد، وناسجُ بُرْدٍ، وسائسُ قرد، وراكب عَرْد، غرَّقتهم فارة، وملَكَتْهم امرأة، ودلَّ عليهم هدهد.
وأما قوله:

عاجزاً لو يَرُومُه بَعْدَ دَهْرِ

 

فَجَّرتْه وكان جِيلان عنـه

فإنّ جيلان فَعَلة الملوك، وكانوا من أهل الجَبَل، وأنشد الأصمعي:

ساتيدما بالحديد فانصدعا

 

أرسَلَ جِيلان يَنحَتون له

وأنشد:

قُصوراً تُعالى بالصَّفيح وتُكْلَسُ

 

وتَبْني له جِيلانُ مِنْ نَحْتِها الصَّفا

وأنشد لامرئ القيس:

ورُدِّدَ فيه الطَّرْفُ حتّى تحيَّرا

 

أُتِيحَ له جَيلانُ عـنـد جَـذَاذِه

يقول: فجَّرته فارةٌ، ولو أنّ جيلان أرادت ذلك لامتَنعَ عليها، لأنَّ الفارةَ إنما خرقته لما سخّر اللّه عز ذكره لها من ذلك العَرِم وأنشدوا:

يَبْنُون مِنْ دُونِ سَيلِهِ العَرِما

 

مِنْ سَبأ الحاضرِينَ مأرِب إذْ

ومأرب: اسمٌ لقصر ذلك الملك، ثم صار اسماً لذلك البلد، ويدلُّ على ذلك قول أبي الطَّمحان القيني:

وما حَوالَيْهِ مِنْ سُورٍ وبُنْـيانِ

 

ألا ترى مَأرباً ما كان أحَصَنَـهُ

ولم يَهَبْ رَيْبَ دَهرٍ حقّ خَوَّانِ

 

ظلَّ العِباديُّ يُسقى فوق قُلّتـهِ

يَرْقى إليه على أسْبابِ كَتّـانِ

 

حتّى تناوله من بعد ما هَجَعـوا

وقال الأعشى:

ومَأرِبُ قَفّى عليه العَرِمْ

 

ففي ذَاكَ للمُؤْتَسي أُسْـوةٌ

إذا جاء ماؤُهُـم لـم يَرِمْ

 

رخامٌ بَنتْه لـهُ حِـمْـيَرٌ

على ساعةٍ ماؤُهُم إذ قُسِمْ

 

فأروَى الحُرُوثَ وأعنابَها

بِيَهْماءَ فيها سَرابٌ يطِـمّ

 

فطار الفُيولُ وفَـيَّالـهـا

فمال بِهمْ جارفٌ مُنْهـدمْ

 

فكانُوا بذلـكـمُ حِـقْـبةً

نَ مِنْهُ لِشُرْب صَبِيٍّ فُطِمْ

 

فطارُوا سِراعاً وما يَقدِرُو

مسخ الضبّ وسهيل

وأما قوله:

وسُهَيلَ السَّماءِ عَمْداً بصُغْرِ

 

مَسَخَ الضَّبّ في الجَدَالةِ قِدْماً

فإنهم يزعمون أنّ الضّبَّ وسُهيلاً كانا ماكِسَين عَشّارين، فمسخ اللّه عز وجل أحدهما في الأرض، والآخَرَ في السماء، والجدالة: الأرض، ولذلك يقال: ضربه فجدَّله أي ألْزَقه بالأرض، أي بالجَدالة، وكذلك قول عنترة:

تَمْكو فريصَتُه كشِدْقِ الأعْلَمِ

 

وحليل غانِيةٍ تركْتُ مجـدّلاً

وأنشد أبو زيدٍ سعيدُ بن أوسٍ الأنصاري:

وأتْرُكُ العاجِز بالجَدالـهْ

 

قد أركب الحالة بعد الحالهْ

أبو رغال وأما قوله:

جَعَل اللّه قَبْرَهُ شَرَّ قَـبْـرِ

 

والذي كان يَكْتَني بـرِغـال

ومُكُوسٍ وكلُّ صاحب عُشْر

 

وكذا كلُّ ذي سُفين وخَـرْجٍ

فإنما ذكر أبا رِغال، وهو الذي يرجم الناس قبره إذا أتوا مَكة، وكان وجّهه صالحٌ النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يزعمون، على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساءَ السِّيرة، فوثَب عليه ثقيف، وهو قَسِيُّ بن مُنَبِّه، فقتله قتْلاً شنيعاً، وإنما ذلك لسوء سيرته في أهل الحرم فقال غيلان بن سلمة، وذكر قَسوة أبيه على أبي رغال:

نحنُ قسِيٌّ وقَسا أبونا

وقال أُميّة بنُ أبي الصَّلت:

وكانوا للقبائل قـاهِـرِينـا

 

نفوْا عن أرْضِهمْ عدْنانَ طُرّاً

بنخلة إذ يسوق بها الظعينا

 

وهم قتلوا الرئيس أبا رغال

وقال عمرو بن دَرَّاكِ العبدي، وذكر فُجور أبي رغال وخُبْثَهُ، فقال:

وحَالَفْتُ المزُونَ على تـمِـيمِ

 

وإني إن قطعت حِبـال قـيسٍ

وأجْوَرُ في الحكومةِ من سَدُومِ

 

لأعْظَمُ فَجْرةً مِنَ أبي رِغـالٍ

وقال مسكينٌ الدارميّ:

كرَجْمِ النّاس قَبْرَ أبي رغالِ

 

وأرجُمُ قَبْرَهُ في كـلِّ عـامٍ

وقال عُمرُ بن الخطاب، رضي اللّه تعالى عنه، لَغَيلان بن سلَمة، حين أعتق عبده، وجعل ماله في رِتاج الكَعْبة: لئن لم تَرْجِعْ في مالك ثمَّ مُتَّ لأرجُمَنّ قبرك، كما رُجِم قبرُ أبي رِغال، وكلاماً غير هذا قد كلّمه به.
المنكب والعريف وأما قوله:

وعَريفٌ جزاؤُه حَرُّ جَمْرِ

 

مَنْكِبٌ كافرٌ وأشْرَاطُ سَوْءٍ

فإنما ذهب إلى أحكام الإسلام، كأنه قد كان لقى من المَنْكِب والعَرِيف جهْداً، وهم ثلاثة: مَنْكِب، ونقيب، وعَريف، وقال جُبَيْهاءُ الأشجعيُّ:

كما جُعِل العريفُ على النَّقِيبِ

 

رعاع عاونَتْ بَكْـراً عـلَـيْه

الغول والسعلاة وأما قوله:

بغزال وصَدْقَتي زقُّ خَمْرِ

 

وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً

فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ للسُّفّار، ويتلوّنُ في ضُروب الصُّور والثِّياب، ذكراً كان أو أنثى، إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى.
وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن أيُّوبَ العنبريّ:

بقرب عُهودهنّ وبالبـعـادِ

 

وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتنـي

لخفّةِ ضربتي ولضعف آدي

 

وأمْسَى الذِّئبُ يرصُدُني مِخشّاً

كأنّ عَلَيْهمَا قِطعَ البـجـادِ

 

وغُولاَ قفرةٍ ذكـرٌ وأنـثـى

فجعل في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى، وقد قال الشَّاعر في تلوُّنها:

كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ

 

فما تدوم على حالٍ تكون بها

فالغول ما كان كذلك، والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ السُّفّار.
قالو: وإنما هذا منها على العَبث، أو لعلّها أن تفزّع إنساناً جميلاً فتغيِّرَ عقله، فتداخِلَه عند ذلك، لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل، ولو كان ذلك إليهم لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب، وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي بكر وعُمر في زَمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما.
وقد فرَق بين الغُول والسِّعلاة عُبيدُ بن أيُّوبَ، حيث يقول:

رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ

 

وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَـهـا

إذا اللّيل وارَى الجنَّ فيه أرنّتِ

 

أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَـفْـرةٍ

وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن، سريعة الحركة، ممشوقة مُمَحَّصة قالوا: سعلاة وقال الأعشى:

ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالـي

 

ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ

تزاوج الجن والإنس

ويقولون: تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة، وقال الرَّاجز:

عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ

 

يا قاتلَ اللّهُ بني الـسّـعـلاةِ

وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ:

وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ

 

أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم

وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره: "وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ".
وقوله عز وجل: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ"، قالوا: فلو كان الجانّ لم يُصِب منهنَّ قَطّ، ولم يأتهنّ، ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء الآدميات - لم يقل ذلك.
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل: "وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ" فجعل منهنَّ النِّساء، إذ قد جعل منهم الرِّجال، وقوله تبارك وتعالى: "أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي".
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال: دعا أعرابيٌّ ربهُ فقال: اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا تُشْرِكهمْ في ولدي، ولا جسدي، ولا دمي، ولا مالي، ولا تُدخلهم في بيتي، ولا تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة.
وقالوا: ودعا زُهير بن هُنيدة فقال: اللهمَّ لا تُسلطهم على نطفتي ولا جَسَدي. قال أبو عبيدة: فقيل له: لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال: وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول: "واذكُرْ عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ" حتى قيل له: "اركُضْ بِرجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ"، وكيف لا أستعيذ باللَّه منه وأنا أسمع اللّه يقول: "الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسِّ"، وأسمعه يقول: "وإذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ"، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، كما قال اللّه عزّ ذكره: "فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكصَ على عَقِبيْهِ وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ"، وقد جاءهم في صورة الشَّيخ النّجدي، وكيف لا أستعيذ بالله منه، وأنا أسمع الله عز ذكره يقول: "ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ، إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ"، وكيف لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: "ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ" ثم قال: "يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ"، وكيف لا أدعو بذلك وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: "قال عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وإنّي عَلَيْه لقويٌّ أمِينٌ".
وكيف لا أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول: "ربِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ الْوهّابُ، فسخَّرْنا لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ، والشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ، وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ".

تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن

والأعراب يتزيّدون في هذا الباب، وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه، وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه، وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى.

مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن

وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة، وفي فرق ما بين الجن والإنس، وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب، وشعراءِ العرب، ولولا العلم بالكلام، وبما يجوز مما لا يجوز، لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل.
قال عُبيدُ بن أيُّوب، وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض، لمَّا اشتد خوفه وطال تردُّدُه، وأبعد في الهرب:

لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْـشَـرِ

 

لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ حَمـامَةٌ

وإن قيل خوفٌ قلتُ حَقّاً فشَمِّرِ

 

فإن قيل أمْنٌ قلتُ هذِي خـديعةٌ

وقيل فلان أو فلانة فـاحـذرِ

 

وخِفت خليلي ذا الصَّفاء وَرَابَني

لصاحِبِ قفْر خائِفٍ متقـتِّـر

 

فلله دَرُّ الـغُـول أيُّ رفـيقةٍ

حواليَّ نيراناً تلوح وتـزهـرُ

 

أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقـدَتْ

ويترك مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَـرِ

 

وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا

وقال في هذا الباب في كلمة له، وهذا أولها:

 

عليَّ فإن قامتْ ففصِّل بـنـانـيا

 

أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حـقـيقةًً

 

ترامى بي البيدُ القِفـارُ تـرامـيا

 

خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَـتْ

 

لنا نسبٌ نرعـاه أصـبـح دانـيا

 

كأني وآجال الظِّـبـاء بـقـفـرةًٍ

 

ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا

 

رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَـرَّةًً

 

قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَـافـيا

 

فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلـنَ ابـنُ بـلـدةًٍ

 

وأخفِينني إذ كنتُ فِيكـن خـافـيَا

 

ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّـنـيً

بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حـتَّـى وَرانـيا

 

أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَـوىً

 

وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الـدّواهـيا

 

وقد لقيتْ منـي الـسِّـبـاعُ بـلـيّةًً

 

دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعـتـرَانـيا

 

ومنهنّ قد لاقـيت ذاك فـلـم أكُـنْ

 

وقدّدْن لحمي وامـتَـشَـقْـنَ ردائيا

 

أذقت المنايا بَعْضَهُنَّ بـأسـهـمـيً

 

كثيراً وأثناءُ الـحـشـاش وسـادِيَا

 

أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى

 

فليت سُلَـيمـانَ بـن وَبْـرٍ يرانـيا

 

إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننـيً

 

أخا الحرب مَجْنيّاً علـيَّ وجـانـيا

 

فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِـجةً

 








ومما ذكر فيه الغيلان قولُه:

مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ

 

نقول وقد ألممتُ بـالإنـس لَـمَّةً

يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الـكـوَاهـلِ

 

أهذا خليلُ الغُول والـذِّئب والـذي

على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمـائلِ

 

رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحبـاً

وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِـلِ

 

تعوَّدَ مـن آبـائه فَـتـكـاتِـهـم

وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجـلِ

 

إذا صاد صيداً لفَّـه بـضـرامِـهِ

بكفّيه رأسَ الشَّيخة المـتـمـايل

 

ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِـراسـهُ

ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القـوابـلِ

 

فلم يسحب المِنديلَ بـين جـمـاعةٍ

ومما قال في هذا المعنى:

أخـا قـفَـراتٍ كـــان بـــالـــذئب يأنـــسُ

 

علام تُـرَى لـيلـى تـعـذِّب بـالـــمُـــنـــى

 

 

وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ

وقال في هذا المعنى:

لهم خُلقٌ عند الجوار حَـمِـيدُ

 

فلولا رجالٌ يا مَنـيعُ رأيتَـهـم

لها ذنبٌ لم تـدركُـوه بـعـيدُ

 

لنالكُمُ مِنـي نـكـالٌ وغـارةٌ

على من يثير الجنّ وهي هجودُ

 

أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغـرتـمُ

أخبار وطرف تتعلق بالجن

وقال ابن الأعرابي: وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها، فكمن في عُشَرةٍ كانت بقربهم، فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ، فقال لامرأته: يا هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت: مَهْ يا شيخُ، ذاك جانُّ العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ: وعنِّي يرحَمُك اللّه قالت: وعن أبيهم إن هو غطَّى رأسه ورقد، قال: ونام الشَّيخ، وجاء الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ أعطاها حتى رضيت.
وروى عن محمّد بن الحسن، عن مُجالِد أو عن غيره وقال: كنّا عند الشّعبي جُلوساً، فمرَّ حمّالٌ على ظهره دَنّ خَلٍّ، فلما رأى الشّعبيَّ وضع الدّنّ وقال للشعبي: ما كان اسمُ امرأة إبليس? قال: ذاك نكاحٌ ما شهدناه .
وأبو الحسن عن أبي إسحاق المالِكي قال: قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص: أخبرني عبدُ اللّه بن هلال صديق إبليس، أنّك تشبه إبليس قال: وما ينكر أنْ يكون سيد الإنس يُشبه سيد الجنِّ وروى الهيثم عن داود بن أبي هند، قال: سئل الشّعبي عن لحم الفيل، فتلا قولَه عزّ ذكره: "قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً أوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ" إلى آخر الآية، وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال: نحن نرضى منه بالكَفَاف، فقال له قائل: ما تقولُ في الذِّبّان? قال: إن اشتهيته فكُلْهُ.
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته:

 

ألا تمُوتين إنا نبتغي بدلاإن اللواتي يموِّتن الميامين

كمـا يُعَـمَّـر إبـلـيسُ الـشَّـــياطِـــين

 

أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً




وقال أبو الحسن وغيرُه: كان سعيدُ بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة، ونصفَ سنةٍ يصح، فيحبو ويُعطي، ويكسُو ويَحمِل، فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه، فتكلّمت امرأةٌ على لسانه فقالت، أنا رُقيَّة بنت ملْحان سيِّد الجنِّ، واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه.
وتقول العرب: شيطان الحمَاطة، وغول القَفْرَة، وجانُّ العُشرَة، وأنشد:

تروح بالوَيْل وتَغْدُو بالـغِـيَرْ

 

فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ

وأنشد:

إنّك غُولٌ ولدَتْكَ غـولْ

 

يا أيُّها الضاغب بالغُمْلولْ

الغُملول: الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل، وضغب ضغبة الأرنب، ليفزعه ويوهمه أنّه عامر لذلك الخمر.

رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان

من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان

وما يشبهون بالجن والشياطين، وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم.
وأنشد:

وانقطعت أوْذامُه وكُرَبُـهْ

 

كأنّه لَمَّا تدانى مَـقْـربُـه

شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ

 

وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُـهْ

 

 

أذنب فانقضَّ عليه كوكبُهْ

وأنشد:

ولو صَبرْتَ لتلقاه على العِـيسِ

 

إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَـبـهـاً

إذ مَرَّ يهدج في خَيش الكرابيس

 

بَيْنا تَراهُ عليه الخـزُّ مـتَّـكِـئاً

أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبلـيسِ

 

وقد تكنَّفَـهُ غُـرَّامُـه زَمَـنـاً

ترى العُقيليّ منهمْ في كرادِيسِ

 

إذا المفاليسُ يوماً حاربُوا مَلِكـاً

وهو الذي يقول:

قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ

 

أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ

وقال الخطفى:

أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا

 

يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا

 

 

وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا

وأنشد ابنُ الأعرابي:

صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ

 

غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي

وقال الحارث بن حلزة:

شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ

 

ربُّنا وابننا وأَفضـل مـنْ يَمْ

نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْـلاءُ

 

إرَميٌّ بمثْلهِ جـالَـتِ الـج

وقال الأعشى:

ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبـا

 

فإنِّي وما كَلَّفتُمونـي ورَبِّـكـم

وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا

 

لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ

وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء بن أسِيد أحد بني عُوافةَ بن سعد:

مثلُ عزِيف الجن هَدّتْ هَدّا

 

بَيْن اللّها منه إذا مـا مـدّا

وقال ذو الرُّمَّة:

في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ

 

قد أعسِفُ النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه

كما تناوَحَ يوم الـريح عـيشـومُ

 

للجِنِّ باللّيل في حافاتـهـا زَجَـلٌ

يَمٌّ تراطَنُ في حافـاتـه الـرُّومُ

 

داويّةٍ ودُجَى لـيل كـأنَّـهـمـا

وقال:

به من كلام الجن أصواتُ سامِـرِ

 

وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس

وقال:

تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَـمَـرا

 

كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ

وقال:

هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ

 

ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه

وقال:

أبو البعد من أرجائها المـتـطـاوحُ

 

وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتـمـى بـنـا

هزيزٌ ولـلأبـوام فـيهـا نــوائحُ

 

فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَـراتـهـا

من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الـصـوائحُ

 

وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت

وقال ذو الرّمة:

بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ

 

بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بنـاتِـه

وقال ذو الرمة:

بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ

 

وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ

وقال الراعي:

عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ

 

ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْـلِـهـا

وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ

 

أقرّ بهـا جـأشِـي تـأوُّل آيةٍ

لطيم الشيطان

ويقال لمن به لقوة أو شتَر، إذا سُبَّ: يا لطيم الشيطان.
وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد، لعمرو بن سعيد، حين أهوى بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية، وكان مستضعفاً، وكان مع الضّحّاك فأسِرَ، فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه، واستغاث بعبيد اللّه، قال عبيد اللّه لعمرو: يدك يا لطيمَ الشيطان. قولهم: ظل النعامة، وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط الطّول: يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم: يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص: بينا أنت، يا ظلَّ الشّيطان، أشدُّ النَّاس كِبْراً إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان.
وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال، وكان مُفْرط الطّول:

ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ

 

فَضَح المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً

قولهم: ظل الرمح فأما قولهم: مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون به الطول فقط، ولكنّهم يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع.
وقال ابن الطّثرية:

دَمُ الزِّقِّ عنّا واصطِفاقُ المَزَاهِرِ

 

ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر طُولـه

قال: وليس يوجد لظلِّ الشخص نهاية مع طلوع الشّمس.

التشبيه بالجن

قال: وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حمل الصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة، وقال: تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان?.
وأنشد في تشبيه الإنس بالجن لأبي الجُوَيرِية العَبْدي:

مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا

 

إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا

وأنشدوا:

قلائصاً تحسِبهنَّ جنا

 

وقلتُ واللّه لنَرحَلنّـا

وقال ابن ذي الزوائد:

بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَـرُ

 

وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً

يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِـرُ

 

ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له

جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا

 

بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ

وأنشدوا:

آخيتهُ عُمْـرِي وقـد آخـانِـيه

 

إنِّي امرؤٌ تابعَنـي شـيطـانِـيَه

فالحمدُ للّه الـذي أعـطـانِـيَه

 

يشْرَبُ في قَعْبي وقد سـقـانِـيَه

تربَّعَتْ في عُقـدٍ فـالـمـاويه

 

قرْماً وخُرْقاً في خُـدودٍ واضـيه

حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه

 

َبقلاً نَضِيداً فـي تِـلاعٍ حـالـيه

فثوَّروا كـلَّ مَـرِيٍّ سـاجـيَه

 

قام إلـيهـا فـتـيةٌ ثـمـانـيه

 

 

أخلافها لِذي الأكـف مـالِـيَه

جبل الجن

وقال ابنُ الأعرابي: قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به، قال: وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه، فقلت: ما أطيب ماءكم هذا، وأعْذى منزلكم قال: نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله، بعيد من العراق واليمامة والحجاز، كثير الحيات، كثير الجنان فقلت: أتَروَنَ الجن? قال: نعم مكانُهم في هذا الجبل - وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال: ثمَّ حدَّثني بأشياء.

شعر فيه ذكر الجن

وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس:

ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْـرَجِ

 

هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعـيمـهـا

حَتّى دَفَعْتُ إلى ربـيبة هـودجِ

 

ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ

فَتَنَفّستْ بُهْراً ولـمَّـا تـنـهـجِ

 

فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها

بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّـجِ

 

فتناولتْ رأْسي لِتعـرفَ مَـسّـهُ

لأُنَبِّهَنَّ الحـيّ إنْ لـم تـخـرجِ

 

قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والـدي

فعلمْتُ أنّ يمينها لـم تـلـجـجِ

 

فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّـمَـتْ

شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج

 

فلثمْت فاهاً قَابضاً بـقُـرونِـهـا

وأنشدني آخر:

تركْنا أحاديثاً ولحـمـاً مُـوضـعـاً

 

ذَهَبْتُمْ فعُذْتـمُ بـالأمـير وقُـلْـتُـمُ

ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخـشّـعـا

 

فمـا زَادَنـي إلاّ سـنـاءً ورِفـعة

وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا

 

فما نفرتْ جِنِّي ولا فُـلَّ مِـبـردِي

وقال حسّانُ بنُ ثابت، في معنى قولِه: وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه، فقال:

مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُـهـا

 

وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَـمْـلَـقٍ

قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها

 

قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَـنِـي

فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن، وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها،  وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة:

مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بـدرِ

 

أتاني وأهْلي بالدِّماخ فـغـمـرةٍ

شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ

 

فلمّا أتاني ما يقولُ تـرقّـصـت

من المثل والتشبيه بالجن

ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم:

وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ

 

وقام جِنِّيُّ السَّنـام الأمـيَلِ

وقال ابن أحمر:

تداعى الجربياءُ به الحنينـا

 

بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى

وجُنَّ الخازِبازِ به جُنـونـا

 

تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي

وقال الأعشى:

حَ وجُنَّ التِّـلاعُ والآفـاقُ

 

وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ

رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّبـاق

 

لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ

وقال النابغة:

يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ

 

وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ

ما يزعمون أنه من عمل الجن

وأهلُ تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان، عليه السلام، بأكثرَ مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا: ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً، وجهلتم موضع الحِيلة فيه، أضفْتُموه إلى الجنِّ، ولم تعانوه بالفكر.
وقال العَرْجيُّ:

مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَـجُ

 

سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل

وقال الأصمعيُّ: السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام، فأمّا القوارير والحمامات، فذلك ما لا شك فيه، وقال البعيث:

من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ

 

بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَـصْـنَـعَةً

مما بنتْ لسليمانَ الشـياطـينُ

 

كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُـهـا

وقال المقنَّع الكِنْديُّ:

حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَـا

 

وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ

شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا

 

جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِـنْ

قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا

 

مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له

وقال أبو النَّجم:

كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه

 

أدرك عقلاً والرهان عمله

 

 

صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ

وقال الأعشى في المعنى الأوّل، من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام:

ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلـقُ

 

أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه

له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّـقُ

 

بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِـقْـبةً

مواضع الجن

وكما يقولون: قنفذ بُرْقة، وضبُّ سحاً، وأرنب الخلَّة، وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن، وإمّا في الخُبث، وإمَّا في القوة - فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن، فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف، فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم، قال لبيد:

جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها

 

غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها

وقال النّابغة:

تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البـقّـارِ

 

سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ

وقال زهير:

جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا

 

عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِـنّةِ عَـبـقـرٍ

وقال حاتم:

يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما

 

عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عـبـقـر

ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق، أو شديدٍ: عبقري.
وفي الحديث، في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً يفري فَرِيّه، قال أعرابي: ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً.

مراتب الجن والملائكة

ثمَّ ينزلون الجن في مراتب، فإذا ذكروا الْجِنِّيَّ سالماً قالوا: جني، فإذا أرادوا أنّه ممن سكن مع النَّاس قالوا: عامر، والجميع عُمّار، وإنْ كان ممن يعرض للصبيان فهُمْ أرواح، فإن خبُث أحدُهم وتعرَّم فهو شيطان، فإذا زاد على ذلك فهو مارد، قال اللّه عز ذكره: "وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ماردٍ" فإن زاد على ذلك في القوَّة فهو عفريت، والجميع عفاريت، قال اللّه تعالى: "قال عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أنَا آتيكَ بِهِ قبْلَ أنْ تَقْومَ منْ مقامِك".
وهم في الجملة جنٌّ وخوافي، قال الشاعر:

ولا يُحَسُّ سِوى الخافي بها أثرُ

فإن طهَرَ الجني ونَظُف ونَقِيَ وصار خيراً كلُّه فهو مَلَك، في قول من تأول قوله عز ذكره: "كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ" على أنّ الجنَّ في هذا الموضع الملائكة.
وقال آخرون: كان منهم على الإضافة إلى الدّار والدّيانة، لا على أنّه كان من جنْسهم، وإنّما ذلك على قولهم سليمان بن يزيد العدوي، وسليمان بن طرْخان التّيمي، وأبو علي الحرمازي، وعَمْرو بن فائد الأسواري، أضافوهم إلى المحالّ، وتركوا أنسابهم في الحقيقة.
استطراد لغوي وقال آخرون: كلُّ مُستْجِنٍّ فهو جِنّيٌّ، وجانّ، وجنين، وكذلك الولدُ قيل له جنينٌ لكونه في البطْن واستجنانه، وقالوا للمّيت الذي في القبر جنين، وقال عمْرو بن كلثوم:

لها منْ تِسْعَةٍ إلاّ جنينـا

 

ولا شمْطاءُ لم تَدعِ المنايا

يُخبر أنّها قد دَفَنَتْهُم كلُّهم.
قالوا: وكذلك الملائكة، من الحَفَظة، والحمَلة، والكَرُوبيِّينَ، فلا بدّ من طبقات، وربُّما فُرِّق بينهم بالأعمال، واشتُقَّ لهم الاسمُ من السّبب كما قالُوا لواحدٍ من الأنبياء: خليل اللّه، وقالوا لآخر: كليم اللّه، وقالوا لآخر: روح اللّه.

مراتب الشجعان

والعرب تُنزل الشُّجعاء في المراتب، والاسم العامُّ شجاع، ثمَّ بطلَ، ثم بُهْمة، ثم أليَس، هذا قول أبي عبيدة.
فأمّا قولهم: شيطان الحماطة، فإنّهم يعنون الحيّة، وأنشد الأصمعي:

تَعمُّجُ شيطان بذي خِرْوَع قَفْرِ

 

تُلاعِبُ مَثْنى حَضْرَميٍّ كأنّـهُ

وقد يُسَمُّون الكِبر والطغيان، والخُنْزُوانة، والغضبَ الشّديدَ شيطاناً، على التّشبيه، قال عمر بن الخطاب، رضي اللّه تعالى عنه: والله لأنزِعَنّ نُعْرتَه، ولأضربنَّه حتى أنزع شيطانه من نخرته.
مراتب الجن والأعراب تجعل الخوافِي والمستجِنّات، من قبل أن ترتِّب المراتب، جنسين، يقولون جِنّ وحنّ، بالجيم والحاء، وأنشدوا:

مختلفٍ نجواهمُ حِنٌّ وجـنّ

 

أبيتُ أهْوي في شياطينَ تُرِنّ

ويجعلون الجِنّ فوق الحنّ، وقال أعشى سليم:

ولستُ من النَّسْناسِ في عنصُرِ البَشَرْ

 

فما أنا منْ جِنٍّ إذا كـنـتُ خـافـياً

ذهب إلى قول من قال: البشر ناسُ ونسناس، والخوافي حنّ وجنّ، يقول: أنا من أكرم الجِنسين حيثما كنت.
شيطان ضعفة النُّسّاك والعباد وضَعَفة النسّاك وأغبياءُ العُبّاد، يزعمون أنّ لهم خاصّة شيطاناً قد وُكِّل بهم، ويقال له المذهِب يُسْرِج لهم النِّيران، ويُضيء لهم الظُّلْمة ليفتنهم وليريهم العجب إذا ظنُّوا أنّ ذلك من قِبَل اللّه تعالى.
شيطان حفظة القرآن وفي الحديث أنّ الشّيطانَ الذي قد تفرّد بحفظة القرآن يُنْسِيهم القرآن، يسمى خَنْزَب، وهو صاحب عثمان بن أبي العاص.
الخابل والخبل قال: وأما الخابل والخَبَل، فإنما ذلك اسمٌ للجنّ الذين يخبلون النّاسَ بأعيانهم، دون غيرهم، وقال

تناوح جِنّان بهنَّ وخُبَّلُ

كأنّه أخْرج الذين يخبلون ويتعرَّضون، ممّن ليس عنده إلاّ العزيف والنّوح، وفصل أيضاً لبيدٌ بينهم فقال:

ولكنْ أتانا كُلُّ جنّ وخابلِ

 

أعاذلُ لو كان النِّداد لقُوتلوا

وقد زعم ناسٌ أنَّ الخبلَ والخابل ناس، قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقول أوس بن حجر:

تناوح جِنّان بهن وخُبّلُ

استطراد لغوي

قالوا: وإذا تعرّضَت الجنّيّة وتلوَّنتْ وعَبِثت فهي شيطانة، ثم غُول، والغُول في كلام العرب الدَّاهية، ويقال: لقد غالَتْهُ غول، وقال الشاعر:

 

فقدْ صدقْتَ ولكنْ أنت مدخولُ

 

تقول بيتي في عِزّْ وفي سـعَةٍ

تَبْني وتَهْدِمُه هدّاً لـه غـولُ

 

لا بأسَ بالبَيْتِ إلاّ ما صنعت به

 








وقال الرَّاجز:

تُزَفُّْ بالرّاياتِ والطُّـبـول

 

والحربُ غولٌ أو كشبه الغُولِ

حِملاقَ عَيْنٍ ليس بالمكْحُولِ

 

تَقْلِبُ للأوتـارِ والـذُّحُـولِ

زواج الأعراب للجن

ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم، ويكلِّمونهم، ويناكحونهم، ولذلك قال شمر بن الحارث الضّبي:

بدارٍ لا أُريدُ بها مُـقـامَـا

 

ونارٍ قد حضأتُ بُعَـيْدَ هَـدْءٍ

أُكالئُها مخافَة أنّ تـنـامـا

 

سِوى تَحْليلِ راحـلةٍ وعـينٍ

سراةُ الجنِّ قلتُ عِموا ظلاما

 

أتَوْا نَارِي فقلتُ منونَ قالـوا

زعيمٌ نحسد الإنسَ الطَّعامـا

 

فقُلْتُ إلى الطَّعامِ فقالَ مِنْهُـمْ

وذكر أبو زيدٍ عنهم أن رجلاً منهم تزوج السِّعلاة، وأنها كانت عنده زماناً، وولدت مِنْه، حتَّى رأت ذات ليلةٍ بَرْقاً على بلاد السَّعالي، فطارَتْ إليهنّ، فقال:

فلا بكِ ما أسال وما أَغامَا

 

رأى بَرْقاً فأوْضعَ فوقَ بَكْرٍ

فمن هذا النِّتاج المشترك، وهذا الخلْقِ المركَّب عندهم، بنو السِّعلاة، من بين عمرو بن يربوع، وبلقيسُ ملكة سبأ، وتأوَّلوا قول الشاعر:

النّاس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا

 

لاهُمّ إنَّ جُرْهُماً عبادُكـا

فزَعموا أن أبا جُرهمٍ من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السَّماء أُنزلوا إلى الأرض، كما قيل في هاروت وماروت، فجعلوا سُهيلاً عشّاراً مُسِخ نجماً، وجعلوا الزُّهرة امرأة بغيّاً مُسِخت نجماً، وكان اسمها أناهيد.
وتقول الهند في الكوكب الذي يسمّى عُطارِدَ شبيهاً بهذا.
المخدومون ويقول الناس: فلانٌ مخدوم يذهبون إلى أنّه إذا عَزَم على الشَّياطين والأرواح والعُمَّار أجابوه وأطاعوه، منهم عبد اللّه بن هلال الحميريّ، الذي كان يقال له صديق إبليس، ومنهم كرباش الهنديّ، وصالح المديبري.
شروط إجابة العامر للعزيمة وقد كان عبيد مُجّ يقول: إن العامِر حريصٌ على إجابة العزيمة، ولكنّ البدنَ إذا لم يصلُحْ أن يكون له هيكلاً لم يستطعْ دخوله، والحيلةُ في ذلك أن يتبخَّرَ باللبان الذّكر، ويراعي سَيْرَ المشتري، ويغتسلَ بالماء القراح، ويدعَ الجماعَ وأكلَ الزُّهُومات، ويتوحّش في الفيافي، ويُكثر دخول الخراباتِ، حتى يرقَّ ويلطف ويصفو ويصير فيه مشابِهُ من الجنّ، فإن عزم عند ذلك فلم يُجب فلا يعودنّ لمثلها فإنه ممَّن لا يصلح أن يكون بدنه هيكلاً لها، ومتى عاد خُبط فربما جُنّ، وربما مات.
قال: فلو كنت ممَّن يصلح أن يكون لهم هيكلاً لكنت فوق عبد اللّه بن هلال.

رؤية الجن

قال الأعراب: وربما نزلنا بجمعٍ كثير، ورأينا خياماً وقباباً،وناساً، ثم فقدناهم من ساعتنا.
والعوامّ ترى أنّ ابن مسعود، رضي اللّه عنه، رأى رجالاً من الزُّطِّ فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجنّ ليلة الجنّ.
قال: وقد رُوي عنه خلاف ذلك.
وتأوّلوا قوله تعالى: "وأنَّه كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرجالٍ مِنَ الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهَقاً"، ولم يُهلك الناس كالتأويل.
ومما يدلُّ على ما قُلنا قولُ أبي النّجم، حيث يقول:

بحيثُ تُستنُّ مع الجنّ الغُولُ

فأخرج الغول من الجِنّ، للذِي بانَتْ به من الجنّ.
وهكذا عادتهم: أن يُخرجوا الشيء من الجملة بعد أنْ دخَلَ ذلك الشيء في الجملة، فيظهر لأمر خاصّ.
وفي بعض الرِّواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمةٍ، وأن خالد بن الوليد حين هدم العُزَّى رمته بالشّرَر حتى احترق عامّةُ فخذه، حتى عادهُ النبيَ صلى الله عليه وسلم.
وهذه فتنةٌ لم يكن اللّه تعالى ليمتحنَ بها الأعراب وأشباه الأعراب من العوامّ، وما أشك أنه قد كانتْ للسَّدنة حِيَلٌ وألطاف لمكان التكسُّب.
ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهِنْدُ من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم، لعلمت أنّ اللّه تعالى قد مَنَّ على جملة الناس بالمتكلِّمين، الذين قد نشؤوا فيهم.
افتتان بعض النصارى بمصابيح كنيسة قمامة  وقد تَعْرِف ما في عجايز النصارى وأغمارهم، من الافتنان بمصابيح كنيسة قمامة، فأما علماؤُهم وعقلاؤُهم فليسوا بمتحاشِين من الكذب الصِّرف، والجراءةِ على البُهتان البَحْت، وقد تعوَّدُوا المكابرة حتى درِبوا بها الدَّرب الذي لا يفطن له إلا ذو الفِراسة الثّابتة، والمعرفة الثّاقبة.

إيمان الأعراب بالهواتف

والأعرابُ وأشباهُ الأعراب لا يتحاشَون من الإيمان بالهاتف، بل يتعجَّبون ممن ردَّ ذلك، فمن ذلك حديث الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي، أنه سمع هاتفاً يقول:

وذُو الباعِ والمجْدِ الرَّفيعِ وذو الفخرِ

 

لقد هَلَك الفيَّاضُ غيثُ بني فِـهْـرِ

قال: فقلتُ مجيباً له:

مَن المرْءُ تَنْعاهُ لنا من بين فِهْرِ

 

ألا أيُّها الناعي أخا الجود والنّدَى

فقال:

وذا الحسب القُدْمُوس والحسب القهرِ

 

نَعيْت ابن جدْعان بن عمروٍ أخا النَّدى

وهذا الباب كثير.
قالوا: ولنَقل الجنّ الأخبارَ علمَ الناس بوفاةِ الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعُوا بموت المنصور بالبصرة في اليوم الذي تُوفي فيه بقرب مكة، وهذا الباب أيضاً كثير.

من له رَئيٌّ من الجن

وكانوا يقولون: إذا ألف الجنّي إنساناً وتعطَّف عليه، وخبّره ببعض الأخبار، وجد حِسّه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئَيٌّ من الجن، وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لُحيّ بن قَمَعة، والمأمور الحارثي، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، في ناسٍ معروفين من ذوي الأقدار، من بين فارس رئيس، وسيِّد مُطاع.
فأما الكهّان: فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وعُزّى سلمة، ومثل شِقّ، وسَطيح، وأشباههم، وأما العرّاف، وهو دون الكاهن، فمثل الأبلق الأسدي، والأجلح الزهري، وعروة ابن زيد الأسدي، وعرّاف اليمامة رباح بن كَحْلة، وهو صاحب بنت المستنير البلتعي، وقد قال الشاعر:

فإنَّك إنّ أبْرَأتني لَطبِـيبُ

 

فقلت لعراف اليمامة داوِني

وقال جُبَيهاء الأشجعيّ:

وقد سيَّرتُ كلَّ هوى حبـيبِ

 

أقامَ هَوى صفيَّة فـي فـؤادي

وما أنا مِنْ هَواكِ بذي نَصيبِ

 

لكِ الخيراتُ كَيْفَ مُنِحتِ وُدِّي

أتاك برُقْيةِ المَلِق الـكـذوبِ

 

أقول وعروةُ الأسـديُّ يرقـي

بشافٍ من رُقاك ولا مُجـيبِ

 

لَعَمْرُك ما التّثاؤبُ يا ابـن زيدٍ

لما بي منْ طبيب بني الذَّهوبِ

 

لَسَيْرُ النّاعجات أظنُّ أشـفـى

وليس البابُ الذي يدّعيه هؤلاء من جنس العيافة والزّجر، والخطوط، والنّظر في أسرار الكفّ، وفي مواضع قرض الفار، وفي الخيلان في الجسد، وفي النظر في الأكتاف، والقضاء بالنجوم، والعلاج بالفكر.
وقد كان مُسيلمة يدّعي أن معه رئيّاً في أوّل زمانه، ولذلك قال الشّاعر، حين وَصَفَ مخاريقه وخُدَعه:

وخُلةِ جِنّيّ وتوصيلِ طائرِ

 

بِبَيْضةِ قارورٍ ورايةِ شادنٍ

ألا تراه ذكر خُلّة الجني.

ظهور الشق للمسافرين

ويقولون: ومن الجنِّ جنسٌ صورةُ الواحدِ منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه شٍقّ، وإنّه كثيراً ما يعرض للرّجُل المسافر إذا كان وحْدَه، فرَّبما أهلَكه فزعاً، وربما أهلَكه ضرباً وقتلاً.
قالوا: فمن ذلك حديثُ علقمة بن صفْوان بن أميَّة بن محرِّث الكناني، جدّ مروان بن الحكم، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالاً له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزارٌ ورداء، ومعه مِقْرعة، في ليلةٍ إضْحِيانة، حتى انتهى إلى موضعٍ يقال له حائط حزمان، فإذا هو بشقّ له يدٌ ورجل، وعينٌ، ومعه سيف، وهو يقول:

وإن لحمي مأكـولْ

 

عَلْقمُ إني مـقـتـولْ

ضربَ غلامٍ شُملولْ

 

أضْربُهُمْ بالهـذْلـولْ

 

 

رحبِ الذَّراع بُهلولْ

فقال علقمة:

اغمِدَ عنِّي مُنْصُلك

 

يا شِقَّها مالي ولك

 

 

تَقْتُل مَنْ لا يقتلك

فقال شِقّ:

كيما أُتِيحَ مَقْـتـلـك

 

عَبيت لك عَبيتُ لـك

 

 

فاصبر لما قَدْ حُمَّ لَكْ

قال: فضرب كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، فخرَّا ميِّتين، فممَّن قتلت الجنّ علقمةُ ابن صفوان هذا، وحَرْب بن أميّة.
قالوا: وقالت الجنّ:

وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ

 

وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قـفـر

قالوا: ومن الدَّليل على ذلك، وعلى أنَّ هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدَهما ثلاث مراتٍ متصلة، لا يَتتَعْتع فيها، وهو يستطيع أن يُنشد أثْقل شعر في الأرض وأشقَّه عشْر مرّات ولا يَتَعْتَعُ.

ذكر من قتلته الجنّ أو استهوته

قال: وقتلت مِرْداسَ بن أبي عامر، أبا عبّاس بن مرداسٍ، وقتلت الغريضَ خنْقاً بعد أن غنَّى بالغناء الذي كانوا نهَوه عنه، وقتلت الجنُّ سعد بن عُبادة بن دُلَيم، وسمعوا الهاتف يقول:

ج سَعْد بن عُبـاده

 

نحن قتَلْنا سيِّد الخزْز

فَلَمْ نُخْـطِ فُـؤادَهُ

 

رَمَيْناه بِسَـهـمـين

واستهوَوا سِنانَ بن أبي حارثة ليستفحلوه، فمات فيهم، واستهووا طالب بن أبي طالب، فلم يوجد له أثرٌ إلى يومنا هذا.
واستهووا عَمرو بن عَدِيٍّ اللَّخميّ الملك، الذي يقال فيه: شَبّ عَمْرٌو عن الطّوق، ثمَّ ردُّوه على خاله جذيمة الأبرش، بعد سنين وسنين.
واستهوَوا عمارة بن الوليد بن المغيرة، ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش.
ويروون عن عبد اللّه بن فائد بإسنادٍ له يرفعه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرافة رَجُل من عُذْرةَ استهوتْه الشّياطين، وأنّه تحدَّث يوماً بحديثٍ فقالت امرأةٌ من نسائه: هذا من حديث خُرافة قال: لا، وخُرافةُ حقٌّ.

طعام الجن

ورووا عن عُمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أنّه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم? قال: الفول، قال: فما كان شرابهم? قال: الجدف.
ورووا أن طعامهم الرِّمة وما لم يذكر اسمُ اللّه عليه.
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم - والحديث صحيح - أنه قال: خَمِّروا آنيتكم، وأوكئوا أسقيتكم وأجيفُوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح، واكفُفُوا صِبيانكم، فإن للشّياطين انتشاراً وخَطْفة،

رؤوس الشياطين

وقد قال الناس في قوله تعالى: "إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ، طلْعُها كأَنَّهُ رُؤُوس الشَّياطِين"، فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن، لها منظر كرِيه.
والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير، وقالوا: ما عنى إلاّ رؤُوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فَسَقة الجن ومَرَدتهم، فقال أهل الطَّعن والخلاف: كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه، ولا وُصِفت لنا صورته في كتابٍ ناطق، أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك الصُّورة، والتفزيع منها، وعلى أنّه لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك لذكَرَه، فكيف يكون الشَّأن كذلك، والناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ، قد عاينوه، أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان، بليغٌ في الوصف، ونحن لم نعاينها، ولا صوَّرها لنا صادق، وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايشْ أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً?.
قلنا: وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا صادقٌ بيده، ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان، حتَّى صاروا يضعُون ذلك في مكانين: أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمَّى الجميلُ شيطاناً، على جهة التطيُّر له، كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ شَوهاء، والمرأة الجميلة صَمّاء، وقرناء، وخَنْساء، وجرباء وأشباه ذلك، على جهة التطيُّر له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل بقُبْح الشيطان، دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح.
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت.
وكما يقولون: لهو أقبحُ من السحر، فكذلك يقولون، كما قال عمر بن عبد العزيز لبعض من أحسنَ الكلام في طلب حاجته - هذا واللّه السِّحر الحلال.
وكذلك أيضاً ربّما قالوا: ما فلانٌ إلا شيطان على معنى الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك.
صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ.
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد، أنّ أعرابيّاً أنشده:

وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ

 

وحافر العَير فـي سـاقٍ خَـدَلَّـجةٍ

وذكروا أنّ العامَّة تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول، وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين إلاّ عن الأعراب.
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم، وعن جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق، فما القول في ذلك إلاّ كالقول في الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم، وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور إذا حضروا لقبْض أرواحِ الكفار، وكذلك في صور مُنكر ونكير، تكون للمؤمن على مثال، وللكافر على مثال.
ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا يتوهّمون الكلامَ والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن يُلَقى في نار جهنّم? فالحجّة على جميع هؤلاء، في جميع هذه الأبواب، من جهةٍ واحدة، وهذا الجوابُ قريبٌ، والحمد للّه.
وشقُّ فم العنكبوت بالطول، وله ثماني أرجل.

سكنى الجن أرض وبارِ

وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ، كما أهلك طسْماً، وجَدِيساً، وأميماً، وجاسماً، وعملاقاً، وثموداً وعاداً - أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها، وأنّها أخصبُ بلاد اللّه، وأكثرها شجراً، وأطيبُها ثمراً، وأكثرها حبّاً وعنباً، وأكثرها نخلاً وموزاً، فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد، متعمِّداً، أو غالطاً، حَثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه، وربّما قَتلوه.
والموضع نفسه باطل، فإذا قيل لهم: دُلُّونا على جهته، ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ - زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة، حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في التِّيه، وقال الشاعر:

رجاءَ القِرى يا مُسْلِمَ بن حمارِ

 

وداعٍ دعا واللَّيلُ مرخٍ سُدولـه

من اللؤم حتّى يهْتدي لوَبَـارِ

 

دعا جُعَلاً لا يهتدِي لمقـيلـه

فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان، والدهناء، ورمل يبرين، وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر، على معنى هذا الشاعر.
قالوا: فليس اليومَ في تلك البلاد إلاَّ الجنُّ، والإبلُ الحُوشيَّة.
الحوشية من الإبل والحوشُ من الإبل عندهم هي التي ضربتْ فيها فحولُ إبل الجن، فالحوشِيَّة من نَسْل إبل الجن، والعِيديَّة، والمَهْرية، والعَسْجديّة، والعُمانية، قد ضربت فيها الحوش، وقال رُؤبة:

جَرَّت رَحانا من بلاد الحوشِ

وقال ابن هريم:

لها نَسبٌ في الطَّيرِ وهو ظليمُ

 

كأنّي على حُوشيَّةٍ أو نَعـامةٍ

وإنما سمَّوا صاحبة يزيد بن الطَّثرية حُوشيّة على هذا المعنى.

التحصُّن من الجنّ

وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى: "وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً": إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض، وتوسَّطوا بلاد الحُوش، خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين، فيقوم أحدهم فيرفع صوته: إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ، وتصير لهم بذلك خفارة.

أثر عشق الجن في الصرع

وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ، وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ - أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى، وشهوة النِّكاح، وأن الشيطان يعشق المرأة منّا، وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ عليها من حُمّى أيام، وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان.
قال: وسمع عمرو بن عُبيد، رضي اللّه عنه، ناساً من المتكلّمين يُنْكِرون صَرْع الإنسان للإنسان، واستهواء الجنّ للإنس، فقال وما ينكرون من ذلك وقد سمعوا قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا، وما يصيبهم يوم القيامة، حيث قال: "الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ منَ المَسِّ"، ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً لما ذكر اللّه تعالى به أكلة الرّبا، فقيل له: ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب، قال: ولعله قد كثر فازداد أضعافاً، قال: وما يُنكرون من الاستهواء بعد قوله تعالى: "كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في الأرض حَيْرانَ".
 زعم العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال: والعرب تزعم أن الطاعون طعنٌ من الشيطان، ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ، قال الأسديُّ للحارث الملك الغسّاني:

رِماحَ بني مُقيِّدة الحمـارِ

 

لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ

رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ

 

ولكني خَشيت علـى أُبـيٍّ

يقول: لم أكن أخاف على أُبيّ مع منعته وصرامته، أن يقتله الأنذال، ومن يرتبط العير دونَ الفَرس، ولكني إنما كنت أخافك عليه، فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو يطعَنه طاعونُ الشّام.
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس:

وأذهب العذابَ والتَّجنِّي

 

قد دَفع اللّه رِماح الجن

وقال زيد بن جُندب الإياديّ:

رِماح الأعادي من فصيح وأعجم

 

ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم

ذهب إلى قول أبي دؤاد:

فلهم في صَدى المقابر هامُ

 

سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم

يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر الطَّاعون فقال: "هو وَخْزٌ من عَدُوِّكم": وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس في طاعون عَمَواس فقال: إنّ هذا الطاعون قد ظهر، وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان، ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب.
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ، فأنكر ذلك القول عليه.

تصور الجنّ والغيلان والملائكة والناس

وتزعم العامَّة أنّ اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في أيِّ صورة شاؤوا، إلاّ الغول، فإنّها تتحوَّل في جميع صُورة المرأة ولباسها، إلاّ رجليها، فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار.
وإنما قاسُوا تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي، وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم، وإبراهيم، ولوطاً، وداود عليهم السلام في صورة الآدميِّين، وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر إبليس في صورة سُراقة بن مالك بن جعْشم، وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي، وقاسوه على تصوُّر مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم، فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر الأعمال الصالحة والطالحة.
قالوا: وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة الرِّجال، ومنهم من هو في صورة الثِّيران، ومنهم من هو في صورة النسور، ويدلُّ على ذلك تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت، حين أُنشِد:

والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصدُ

 

رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت رِجْلِ يمينـه

قالوا: فإذ قد استقام أن تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم، وتتفق عقولهم وبيانهم واستطاعتهم، جاز أيضاً أن يكون إبليس والشّيطان والغول أن يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة.
قالو: وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً، حتى سماه المسلمون الطّيّار، ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة، وله مثلُ عقل أخيه علي رضي اللّه عنهما، ومثل عقل عمه حمزة رضي اللّه تعالى عنه، مع المساواة بالبيان والخلق.

أحاديث في إثبات الشيطان

قالوا: وقد جاء في الأثر النهي عن الصّلاة في أعطان الإبل، لأنّها خلقت من أعنان الشياطين.
وجاء أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الصَّلاة عند طلوع الشَّمس حتى طلوعها، فإنّها بين قرني شيطان.
وجاء أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان.
فكيف تنكر ذلك مع قوله تعالى في القرآن: "والشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص، وآخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفادِ".
ولشهرة ذلك في العرب، في بقايا ما ثبتوا عليه من دين إبراهيم عليه السّلام، قال النابغة الذبياني:

قُم في البَرِيَّةِ فاحْددْها عن الفَنَد

 

إلا سُلَيمـانَ إذْ قـال الإلـهُ لَـهُ

يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفَّاح والعـمـدِ

 

وخيِّس الجِنَّ إنِّي قدْ أذِنتُ لَـهُـمْ

تنهى الظّلوم ولا تقْعد على ضمدِ

 

فمنْ عصاك فعاقِبْهُ مُـعـاقـبةً

وجاء في قتل الأسود البهيم من الكلاب، وفي ذي النُّكْتتين، وفي الحية ذات الطُّفْيتين، وفي الجانّ.
 وجاء: لا تشربوا من ثُلمة الإناء، فإنَّه كِفْل الشَّيطان، وفي العاقد شَعره في الصلاة: إنَّه كِفْل الشيطان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تراصُّوا بينكم في الصلاة، لا تتخللكم الشّياطين كأنّها بنات حذف، وأنَّه نهى عن ذبائح الجن.
ورووا: أن امرأة أتتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ ابني هذا، به جنونٌ يصيبه عند الغداء والعَشَاء قال: فمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدْرَه، فثعَّ ثعة فخرج من جوفه جروٌ أسود يسعى.
قالوا: وقد قضى ابن عُلاثة القاضي بين الجنّ، في دم كان بينهم بحكمٍ أقنعهم.
رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهّراني: أما قوله:

بغزال وصَدْقتي زِقُّ خمرِ

 

وتزوّجْتُ في الشبيبة غولاً

فزعم أنه جعل صداقها غزالاً وزِقَّ خمر، فالخمر لطيب الرائحة، والغزالُ لتجعله مَرْكباً، فإنّ الظَّباء من مراكب الجن.
وأما قوله:

ومتى شئتُ لم أجِدْ غير بِكرِ

 

ثيِّبٌ إن هَوِيتُ ذلك منـهـا

كأنه قال: هي تتصوَّر في أيِّ صورةٍ شاءتْ.

شياطين الشعراء

وأما قوله:

ر وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو

 

بنت عَمْرٍو وخالها مِسحل الخي

فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر، فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو صاحب المخبَّل، وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى، وذكر أن خاله هُمَيم، وهو همّام، وهمّام هو الفرزدق، وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال: يا هميم.
وأما قوله: صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان الفرزدق عمرو، وقد ذكر الأعشى مِسْحلاً حين هجاه جُهُنَّام فقال:

جُهُنّامَ جَدْعاً للهجين المذَمَّـمِ

 

دَعَوْتُ خليلي مِسْحلاً ودعَوا له

وذكره الأعشى فقال:

بأفْيَحَ جَيَّاشِ العَشيّات مِرْجـمِ

 

حباني أخي الجنِّيُّ نفسي فداؤُه

وقال أعشى سُليم:

وما كان فيهم مِثْلُ فَحْلِ المخـبَّـلِ

 

وما كان جِنّيُّ الـفـرزدقِ قـدوةً

ولا بعدَ عمرو شاعرٌ مثلٌ مِسْحـلِ

 

وما في الخوافي مثل عَمْرو وشيخِهِ

وقال الفرزدق، في مديح أسد بن عبد اللّه:

مَنْ كان بالغُورِ أو مَرْوَيْ خُراسانا

 

ليُبلغَنّ أبا الأشبـال مِـدْحـتـنـا

لسانُ أشْعر خلْقِ اللّه شـيطـانـا

 

كأنّها الذَّهب العقْـيانُ حـبّـرهـا

وقال:

بيوم دهتْني جِنُّهُ وأخـابـلُـه

 

فلو كنْتَ عنْدي يوم قوٍّ عذرْتني

فمن أجل هذا البيت، ومن أجل قول الآخر:

خبالَ اللّه منْ إنس وجِنِّ

 

إذا ما راعَ جارَتهُ فلاقى

زعموا أنّ الخابل النّاس.
ولما قال بشّار الأعمى:

فقلتُ: اتركنِّي فالتفرُّدُ أحمدُ

 

دعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْفِ بكرةٍ

يقول: أحمدُ في الشعر أن لا يكون لي عليه معين - فقال أعشى سُليم يردُّ عليه:

فقل لخنازير الجزيرةِ أبْشري

 

إذا ألِفَ الجنّيُّ قِرداً مُشَنّـفـاً

فجزِع بشّارٌ من ذلك جزعاً شديداً، لأنّه كان يعلم مع تغزُّله أنَّ وجهه وجْهُ قردٍ، وكان أوّل ما عُرف من جزعه من ذكر القِرد، الذي رأوا منه حين أنشدوه بيت حمّاد:

إذا ما عَمِيَ القِرْدُ

 

ويا أقبحَ مِن قِـرْدٍ

وأما قوله:

مسَحُوها فكان لي نصْفُ شطرِ

 

ولهـا خِـطَّةٌ بـأرض وبـار

فإنما ادّعى الرُّبع من ميراثها، لأنه قال:

وأخوه مزاحم كان بـكـر

 

تركتْ عَبْدلاً ثمالَ اليتـامـى

من نِساءٍ في أهْلِها غير نُزْرِ

 

وَضَعَتْ تِسْعةً وكانتْ نَزوراً

وفي أنَّ مع كلِّ شاعر شيطاناً يقول معه، قول أبي النجم:

شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر

 

إني وكلّ شاعر من البَشـرْ

وقال آخر:

وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي

 

إني وإن كنتُ صغير السِّنّ

 

 

فإنّ شيطاني كبير الجنِّ

كلاب الجن

وأما قول عمرو بن كلثوم:

وشَذَّبْنَا قتادةَ من يلـينـا

 

وقد هَرَّتْ كلابُ الجِنِّ منا

فإنهم يزعمون أنّ كلاب الجنِّ هم الشعراء.

أرض الجن

وأما قوله:

وعُروجٍ من المؤبّلِ دَثْـر

 

أرض حُوشٍ وجاملٍ عَكَنَانٍ

فأرض الحوش هي أرضُ وَبارِ، وقد فسَّرنا تأويل الحوش، والعَكَنَان: الكثير الذي لايكون فوقه عدد، قوله: عروج جمع عَرْج، والعَرْج: ألف من الإبل نقص شَيئاً أوْ زاد شيئاً، والمؤبّل من الإبل، يقال إبل مؤبَّلة، ودراهم مُدَرهمة، وبدَر مبدَّرة، مثل قوله تعالى: "وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَة" وأما قوله: "دثر" فإنهم يقولون: مال دَثر، ومالٌ دَبْر، ومال حَوْم: إذا كان كثيراً.

استراق السمع

وأما قوله:

يسرقُ السَّمعَ كلَّ ليلةِ بَدْرِ

 

ونَفَوْا عَنْ حريمها كلَّ عِفْر

فالعِفْر هو العفريت، وجعله لا يسرق السمع إلا جهاراً في أضوإ ما يكون البدر، من شدَّة معاندته، وفرط قوته.
الشنقناق والشيصبان وأما قوله:

ونِساء من الزَّوابعِ زُهْرِ

 

في فُتُوٍّ من الشَّنقناق غُرٍّ

الزوابع: بنو زَوْبعة الجنِّيّ، وهم أصحاب الرَّهج والقَتَام والتَّثوير وَقال راجزهم:

في غَبَش الليل وفيهم زَوبعه

 

إنّ الشياطين أَتوْني أربـعـهْ

فأما شِنِقناق وشَيْصَبان، فقد ذكرهما أبو النجم:

لابن شنقْناق وشَيْصَبَانِ

فهذان رئيسان ومن آباء القبائل، وقد قال شاعرهم:

فليس يقال لـه مـن هُـوَهْ

 

إذا ما ترَعْرَعَ فينا الـغـلامُ

فذلك فينـا الـذي لا هُـوَهْ

 

إذا لم يَسُدْ قبـل شـدِّ الإزار

ن فطوراً أقولُ وطوراً هُوَهْ

 

ولي صاحبٌ من بني الشَّيصبا

وهذا البيت أيضاً يصلح أن يلحق في الدَّليل على أنهم يقولون: إن مع كلِّ شاعر شيطاناً، ومن ذلك قولُ بشَّار الأعمى:

فقلت: اترُكَنِّي فالتَّفَرُّدُ أحَمدُ

 

دَعاني شِنِقْناقٌ إلى خَلْف بَكرَةٍ

شياطين الشام والهند

قال: وأصحاب الرُّقى والأُخذ والعزائم، والسِّحر، والشَّعبذة، يزعمون أنّ العدد والقوّة في الجنِّ والشياطين لنازلة الشام والهند، وأنَّ عظيم شياطين الهند يقال له: تنكوير، وعظيم شياطين الشام يقال له: دركاذاب.
وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد بن يَسِير، حين ادّعى هذه الصناعة فقال:

تِ ومن سفْر آدم والـجـرابِ

 

قد لعمْرى جمعت مِلْ آصـفـيّا

كل والرهنباتِ من كـلِّ بـابِ

 

وتفردتَ بالطـوالـق والـهـي

زُحلاً والمريخَ فوق السـحـابِ

 

وعلمتَ الأسماء كيمـا تُـلاقـى

ينَ لصرعِ الصحيح بعدَ المصابِ

 

واستثرتَ الأرواح بالبحْـر يأت

تِ كبوسا نمقتها فـي كـتـابِ

 

جامعاً من لطائف الدنـهـشـيَّا

ت وفعل الناريس والـنـجـابِ

 

ثمَّ أحكمت متـقـن الـكـرويا

مةُ والاحتـفـاء بـالـطـلابِ

 

ثمَّ لم تعْيك الشعـابـيذ والـخـد

يِ بـتـنـكـوير ودركـاذابِ

 

بالخواتيم والمـنـاديل والـسـع

قتل الغول بضربة واحدة وأما قوله:

في مُحاقِ القُمير آخر شَهْرِ

 

ضربَتْ فَردةً فصارت هَباءً

فإنّ الأعرابَ والعامّة تزعُم أن الغول إذا ضربت ضَربةً ماتت، إلاّ أن يُعيد عليها الضّارب قبل أن تقْضي ضربة أخرى، فإنّه إن فعل ذلك لم تمُتْ، وقال شاعرهم:

فَلَيْتَ يميني قبل ذلك شلّتِ

 

فَثنّيتُ والمِقدارُ يحرُسُ أهلَهُ

وأنشد لأبي البلاد الطُّهَويّ:

من الروعاتِ يومَ رحَى بطانِ

 

لهَانَ علَى جهينةً مـا أُلاقـي

بسهبٍ كالعباية صحصحـانِ

 

لقيتُ الغول تسرِى في ظـلامٍ

أخُو سفَر فصدِّى عن مَكانى

 

فقلتُ لها كلانا نقـض أرضٍ

حسامٍ غيرِ مؤتشبٍ يمـانـى

 

فصدتْ وانتحيتُ لها بعضـبٍ

فخرتْ لليدين ولـلـجـران

 

فقدّ سَراتها والبرك مـنـهـا

على أمثالها ثبتُ الـجـنـانِ

 

فقالت زدْ فقلـتُ رويدَ إنِّـى

لأنظرَ غدوةً ماذا دهـانـى

 

شددتُ عقالها وحططت عنها

كوجْه الهرِّ مشقوق اللسـانِ

 

إذا عينان في وجـهٍ قـبـيحٍ

وجلدٌمن فـراءِ أو سـنـانِ

 

ورجلا مخدجٍ ولسانُ كـلـبٍ

وأبو البلاد هذا الطهوي كان من شياطين الأعراب، وهو كما ترى يكذِب وهو يَعلَم، ويُطيل الكذِب ويُحَبِّرُه، وقد قال كما ترى:

على أمثالها ثَبْتُ الجَنانِ

 

فقالت زِدْ فقلتُ رُوَيْد إنّي

لأنّهم هكذا يقولون، يزعمون أنّ الغول تستزيد بعد الضَّرْبة الأولى لأنّها تموت من ضربةٍ، وتعيشُ من ألْف ضرْبة.

مناكحة الجنِّ ومحالفتهم

وأمّا قوله:

بعد أنْ طالَ في النجابة ذكري

 

غلبتني على النَّجابة عـرسـي

غيرَ أنّ النّجارَ صُورةُ عِفـرِ

 

وأرى فِيهِـمُ شـمـائِل إنـسٍ

فإنَّه يقول: لما تركّب الولدُ منّي ومنها كان شبهُها فيه أكثر.
وقال عبيد بن أيُّوب:

مِنَ الإنْس حتّى قد تَقَضّتْ وسائلُهْ

 

أخو قَفراتٍ حَالَفَ الجِنَّ وانتفـى

وللجِنِّ منه خَلْقـه وشـمـائلُـه

 

له نَسَبُ الإنسيّ يُعرَفُ نَـجْـلُـه

وقال:

صَفِيّاً وربَّتْه القِفَارُ البسابسُ

 

وصارَ خليلَ الغُول بَعدَ عداوةٍ

ولا أَنَسِيٍّ تحتويه المجالِـسُ

 

فَليس بِجِنّيٍّ فيُعْرَفَ نَجْـلـه

ولكنّه ينْباعُ واللّـيْلُ دامِـس

 

يظلُّ ولا يبدوُ لشيءٍ نهـارَه

قال: وقال القَعقاع بنُ مَعْبَد بن زُرارة، في ابنه عوف بن القعقاع: واللّه لما أرى من شمائل الجنّ في عوف أكثر ممّا أرَى فيه من شمائل الإنس.
وقال مَسلمة بن محارب: حدّثني رجلٌ من أصحابنا قال: خرجنا في سَفرٍ ومعنا رجُلٌ، فانتهينا إلى واد، فدعَوْنا بالغَدَاء، فمدّ رجلٌ يدَه إلى الطعام، فلم يقدر عليه - وهو قبْلَ ذلك يأكلُ معَنا في كلِّ منزل - فاشتدّ اغتمامنا لذلك، فخرجنا نسأل عن حاله، فتلقَّانَا أعرابيٌّ فقال: ما لكم? فأخبرناه خبَر الرَّجُل، فقال: ما اسم صاحبكم? قلنا: أسد قال: هذا وادٍ قد أخِذَتْ سباعه فارحلوا، فلو قد جاوزتم الواديَ استمرَى الرَّجُل وأكَل.

مراكب الجن

وأمَّا قوله:

مُلجِماً قُنفُذاً ومُـسْـرجَ وَبْـر

 

وبها كنتُ راكـبـاً حـشـراتٍ

ضاحكٌ سنُّه كثيرُ الـتـمـرِّي

 

وأجوبُ البلادَ تحتـيَ ظـبـيٌ

وهو باللّيل في العفاريت يَسري

 

مُولـجٌ دُبْـرَهُ خَـوَايَة مَـكْـوٍ

فقد أخبرْنا في صدر هذا الكتاب بقول الأعراب في مطايا الجن من الحشرات والوحش.
وأنشد ابنُ الأعرابي لبعض الأعراب:

ألَذَّ وأشهى مِنْ مذاكي الثَّعـالـبِ

 

كلَّ المطايا قد ركبنا فـلـم نـجـد

تَخُبُّ برجْليهـا أمـام الـرَّكـائبِ

 

وَمِنْ عنظوان صـعـبةٍ شـمّـرية

يعوم برَحْلي بين أيدِي المـراكـب

 

ومنْ جُرَذٍ سُرْح الـيدين مـفـرَّج

تبرِّح بالخوصِ العِتاقِ النَّـجَـائبِ

 

ومنْ فارةٍ تزداد عِـتْـقـاً وحـدّةً

مدَرَّبة مـن عـافـيات الأرانـبِ

 

ومنْ كلِّ فتْلاء الـذِّراعَـينِ حُـرَّة

أضَرَّ به طول السُّرى في السَّباسِبِ

 

ومنْ وَرَل يغتالُ فضْـلَ زِمـامِـهِ

قال ابنُ الأعرابي: فقلت له: أترى الجن كانت تركبُها، فقال: أحلِفُ باللّه لقد كنتُ أجد بالظِّباء التَّوقيعَ في ظهورها? والسِّمة في الآذان، وأنشد:

ألذَّ وأشْهَى من رُكوب الجَـنـادِبِ

 

كلّ المطايا قد ركبنا فـلـم نـجـدْ

يبادِرُ وِرداً من عـظـاءٍ قـواربِ

 

ومنْ عَضْرفوط حطَّ بي فأقمـتـهُ

وذئبُ الغضا أوقٌ على كلِّ صاحبِ

 

وشرُّ مطايا الـجـنِّ أرْنـبُ خُـلّةٍ

يَقُودَ قطاراً منْ عظام العنـاكـبِ

 

ولم أر فيها مِثْـلَ قُـنـفُـذ بُـرْقةٍ

وقد فسَّرنا قولهم في الأرانب، لم لا تركب، وفي أرنب الخَلّة، وقنفذ البُرْقة.
 وحدثني أبو نُواس قال: بكرتُ إلى المِربَد، ومعي ألواحي أطلبُ أعرابيّاً فصيحاً، فإذا في ظلِّ دار جعفر أعرابيٌّ لم أسمع بشيطان أقبَحَ منه وجهاً، ولا بإنسان أحسنَ منه عقلاً، وذلك في يومٍ لم أر كبرده برداً، فقلتُ له: هلاَّ قعدت في الشمس فقال: الخَلْوة أحبُّ إليّ فقلت له مازحاً: أرأيت القنفذَ إذا امتطاه الْجِنيُّ وعلا به في الهواء، هل القنفذ يحمل الجنِّيّ أم الجنّيّ يحمل القنفذ? قال: هذا من أكاذيب الأعراب، وقد قلت في ذلك شعراً، قلت فأنشِدْنيه، فأنشَدَني بعد أن كان قال لي: قلت هذا الشعر وقد رأيت ليلة قنفذاً ويربوعاً يلتمسان بعض الرِّزق:

وفي الأُسْد أفراسٌ لهم ونجائبُ

 

فما يُعجبُ الجنَّانَ منك عَدِمتَهـم

لقَدْ أعوزَتهُمْ ما علمْتَ المراكِبُ

 

أتُسرِج يربوعً وتُلجِم قُـنـفـذاً

ولا ذَنْبَ للأقدار واللّه غالـبُ

 

فإن كانت الجنّانُ جُنّت فبالحَرى

وصاحبُ إسْهَابٍ وآخر كـاذب

 

وما الناس إلا خادعٌ ومـخـدَّعٌ

قال: فقلت له: قد كان ينبغي أن يكون البيت الثالث والرابع بيت آخر، قال: كانت واللّه أربعين بيتاً، ولكنَّ الحطمة واللّه حَطمتها، قال: فقلت: فَهلْ قلت في هذا الباب غير هذا? قال: نعم، شيءٌُ قلتُهُ لزوجتي، وهو واللّه عندها أصدقُ شيءٍ قلتُه لها:

لقد ضاع سِرُّ اللّه يا أمَّ مَعْبدِ

 

أراه سَميعاً للسِّرارِ كقنـفـذٍ

قال: فلم أصبر أن ضحِكْتُ، فغضب وذهب.

شعر فيه ذكر الغول

ويكتب مع شعر أبي البلاد الطُّهوي:

على غِرَّةٍ ألقَت عطافاً ومئزرا

 

فمن لامَني فيها فَوَاجَه مِثلَـهـا

ورأسٌ كمسْحاة اليهُوديِّ أزعَرَا

 

لها ساعِدَا غُولٍ ورجلا نعـامةٍ

جوانبُه أعكانَـه وتَـكَـسَّـرا

 

وبَطْنٌ كأثناء المزادةِ رَفّـعـتْ

إلى جُؤجُؤٍ جاني الترائب أزْوَرَا

 

وثدْيان كالخُرْجين نيطت عُرَاهُما

قال: كان أبو شيطان، واسمه إسحاق بن رَزِين، أحد بني السِّمط سِمْط جعدة ابن كعب، فأتاهم أميرٌ فجعل ينْكُب عليهم جَوراً، وجعل آخر من أهل بلده ينقب عليهم: أي يكون عليهم نقيباً. فجعل يقول:

زَوّجَهُ الرَّحمن غُولاً عقْرَبـا

 

يا ذا الذي نَكَـبَـنَـا ونَـقَـبَـا

لبالب التّيس إذا تَهَـبْـهـبَـا

 

جمّع فيها مالـه ولـبْـلَـبـا

عاينَ أشنا خَلقِ ربّـيزرْنـبَـا

 

حتَّى إذا ما استطربَتْ واستطرَبَا

 

 

ذات نواتين وسَلعٍ أُسْـقِـبَـا

يعني فرجها ونوَاتها، يقول، لم تُخْتَن.

جنون الجن وصرعهم

وأما قوله:

فإنْ كانت الجِنّان جُنّتْ فبالَحرى

فإنهم قد يقولون في مثل هذا، وقد قال دَعْلجُ بن الحكم:

وشيطانه عِندَ الأهـلَّة يُصْـرَعُ

 

وكيف يفِيق الدهرَ كعبُ بنُ ناشبٍ

شعر فيه ذكر الجنون وأنشدني عبد الرحمن بن منصور الأُسَيْديِّ قبل أن يُجَنَّ:

طَبيباً يُداوِي منْ جُنونِ جُنونِ

 

جُنونكَ مجنونٌْ ولستَ بواجِدٍ

وأنشدني يومئذ:

وما صاحبي إلا الصَّحيحُ المسَلَّمُ

 

أتَوني بمجْنون يَسِيلُ لُـعـابُـهُ

وفيما يشبه الأولَ يقولُ ابن ميَّادة:

تَغَنَّتْ شياطيني وجُنَّ جُنـونُـهـا

 

فلما أتاني ما تـقُـولُ مـحـاربٌ

ترامَتْ بها صُهْبُ المَهارِي وجُونُها

 

وحاكتْ لها ممّا أقـول قـصـائداً

وقال في التَّمثيل:

ودَ ما لم يُعاصَ كان جُنونـا

 

إنّ شَرخَ الشّبابِ والشّعرَ الأَس

وقال الآخر:

إنّ الشّبابَ جُنُونٌ بُرؤُه الكِبَرُ

 

قالت عَهِدْتُك مجنوناً فقلتُ لها

وما أحسنَ ما قال الشّاعر حيث يقول:

فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ

 

فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكمِلت

وما أحسن ما قال الآخر:

جَملٌ بهودج أهلِهِ مظعونُ

 

حمراء تامِكةُ السَّنام كأنّهـا

كلتا يَدَي عَمْرِو الغَداة يمينُ

 

جادَتْ بها عند الغداةِ يمـين

إلاّ كريمُ الخِيمِ أو مَجنـونُ

 

ما إن يجودُ بمثلها في مثلها

وقال الجميح:

إلاّ السِّنَانَ لذاقَ الموتَ مظعـونُ

 

لو أنّني لم أنَلْ مِنكم مُـعـاقـبةً

بالسَّيفِ إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ

 

أُوْ لاختطبتُ فإني قد هَمْمتُ بـه

وأنشد:

يؤلّفُ بَيْنَ أشتاتِ الـمـنُـون

 

هُمُ أَحْمَوا حِمى الوَقَبى بضرْبٍ

ودَاوَوْا بالجُنون من الجُنـونِ

 

فنَكَّبَ عنـهـم دَرءَ الأعـادي

وأنشدني جعفر بن سعيد:

الرِّيحُ والبحْرُ والإنسانِ والجَملُِ

 

إنَّ الجنونَ سِهامٌ بـين أربـعةٍ

وأنشدني أيضاً:

إنّ المغيظ جَهُولُ السَّيفِ مجنونُ

 

احْذَر مغايظَ أقوامٍ ذوي حَسَـبٍ

وأنشدني أبو تمام الطائي:

كأَنّه من حِذار الضَّيمِ مجنونُ

 

منْ كلِّ أصلَعَ قد مالَت عمامتُه

وقال القطاميّ:

مجنُونةً أو تُرَى ما لا تُرَى الإبلُ

 

يَتْبَعْنَ سَامِيةَ العَينين تَحْسَـبُـهـا

وقال في المعني الأوَّل الزَّفَيانُ العُوافيّ:

أذقتُـه بـوادِرَ الـهـوان

 

أنا العُوافيُّ فمنْ عـادانـي

 

 

حتّى تَرَاهُ مُطرِقَ الشّيطانِ

وقال مروانُ بن محمد:

أسعطْتُه بمرارة الشيطانِ

 

وإذا تجنّنَ شاعرٌ أو مُفْحَمٌ

وقال ابن مُقبِل:

فتُصْعدُ لم تَعْدَم من الْجِنِّ حادِيا

 

وعِنْدي الدُّهَيم لو أحُلُّ عِقالهَـا

وقد صغَر الدُّهيَم ليس على التحقير، ولكن هذا مثل قولهم: دبَّت إليهم دويهيَة الدهر.
أحاديث الفلاة وَقال أبو إسحاق: وأما قول ذي الرُّمَّة:

أحاديثُها مثلُ اصطخاب الضّرائر

 

إذا حَثَّهُنََّ الرَّكبُ في مُدْلـهِـمَّة

قال أبو إسحاق: يكون في النَّهار ساعاتٌ ترى الشّخص الصَّغيرَ في تلك المهامهِ عظيماً، ويُوجَد الصَّوت الخافضُ رفيعاً، ويُسمع الصَّوتُ الذي ليس بالرَّفيع مع انبساط الشّمس غدوة من المكان البعيد؛ ويُوجَد لأوساط الفَيافي والقِفار والرِّمال والحرار، في أنصاف النّهار، مثلُ الدَّويّ من طبع ذلك الوقت وذلك المكان، عند ما يعرض له، ولذلك قال ذو الرُّمَّة:

صَهٍ لم يكنْ إلا دويُّ المسامع

 

إذا قال حادينا لتَشْبـيهِ نَـبـأةٍ

قالوا: وبالدَّويّ سمِّيت دوِّيّة وداوية، وبه سمِّي الدوّ دَوّاً.

تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان

وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعرابُ من عزيف الجنان، وتغوُّل الغيلان: أصلُ هذا الأمر وابتداؤه، أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملتْ فيهم الوَحْشة، ومن انفردَ وطال مُقامُه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس - استوحَش، ولا سيَّما مع قلة الأشغال والمذاكرين.
والوَحدةُ لاتقطع أيامهم إلا بالمُنى أو بالتفكير، والفكرُ ربما كان من أسباب الوَسوَسة، وقد ابتلى بذلك غيرُ حاسب، كأبي يس ومُثَنًّّى ولد القُنافر.
وخبَّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة، فأنكر أهله عقله، حتّى حَمَوه وداووه.
وقد عرض ذلك لكثير من الهند.
وإذا استوحشَ الإنسانُ تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة الكبير، وارتاب، وتفرَّق ذهُنه، وانتقضت أخلاطُه، فرأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيمٌ جليل.
ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ، ورُبّي به الطِّفل، فصار أحدهم حين يتوسَّط الفيافيَ، وتشتملُ عليه الغيظان في اللَّيالي الحنادس - فعند أوَّل وحْشةٍ وفزْعة، وعند صياح بُوم ومجاوبة صدًى، وقد رأى كلَّ باطل، وتوهَّم كلَّ زُور، وربما كان في أصل الخلْق والطبيعة كذّاباً نفّاجاً، وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل، فيقولُ في ذلك من الشِّعر على حسب هذه الصِّفة، فعند ذلك يقول: رأيتُ الغيلان وكلّمت السِّعلاة ثمَّ يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول: رافَقتها ثمَّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوَّجتها.
قال عُبيد بن أيُّوب:

لصاحبِ قفْرٍ خائفٍ متقتّرِ

 

فللّه دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفـيقةٍ

وقال:

يهيمُ بَرَبَّاتِ الحِجالِ الهَرَاكِـلِ

 

أهذا خَليلُ الغولِ والذئبِ والذي

وقال:

من الإنْسِ حتَّى قد تقضّت وسائله

 

أَخُو قَفَرَاتٍ حالَفَ الجِنّ وانتَفَـى

وللجنِّ منهُ خَلْقُـه وشـمـائلـه

 

له نسَبُ الإنْسيِّ يُعْرَفُ نـجـلـه

وممّا زادهم في هذا الباب، وأغراهم به، ومدَّ لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيّاً مثلهم، وإلا عَامِّيّاً لم يأخُذْ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التّكذيب والتّصديق، أو الشّكّ، ولم يسلُك سبيلَ التوقف والتثبّت في هذه الأجناس قطّ، وإمَّا أن يَلقَوْا رَاوِيَة شعر، أو صاحب خبَر، فالرّاوية كلّما كان الأعرابيُّ أكذبَ في شعره كان أطْرَف عِنْده، وصارت روايتُه أغلبَ، ومضاحيكُ حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدّعي رؤية الغُول، أو قتلها، أو مرافقتها، أو تزويجها؛ وآخر يزعم أنّه رافقَ في مفازةٍ نمراً، فكان يطاعمه ويؤاكله، فمن هؤلاء خاصّة القَتّال الكِلابي؛ فإنّه الذي يقول:

لآتـيه إنـي إذاً لَـمَـصـلَّــلُ

 

أيرسِلُ مَـرْوانُ الأمـيرُ رسـالة

ولكنّني من خوْف مَرْوانَ أوجـلُ

 

وما بي عِصْيانٌ ولا بُعدُ مـنـزل

أو الأُدَمِى من رَهْبةِ الموتِ مَوْئلُ

 

وفي باحة العَنْقاء أو في عَـمـايةٍ

هو الجَـون إلاّ أنـه لا يعـلّـل

 

ولي صاحبٌ في الغارِ هَدَّكَ صاحباً

صُماتٌ وطرْفٌ كالمعَابلِ أطْحَـلُ

 

إذا ما التقَينا كان جُـلّ حـديثـنـا

كِلانا له منها نَصـيبُ ومـأكـلُ

 

تَضَمَّنَتِ الأرْوَى لنا بطـعـامِـنـا

أُميطُ الأذى عـنـه ولا يتـأمَّـلُ

 

فأغلِبُه في صَنْعة الـزّادِ إنّـنـي

شريعـتُـنـا لأيّنـا جــاءَ أوَّلُ

 

وكانتْ لنا قَلتٌ بـأرض مَـضَـلَّةٍ

مَحزّاً وكلٌّ في العداوة مُجْـمِـلُ

 

كلانا عدُوٌّ لـو يرى فـي عـدُوِّه

وأنشد الأصمعيّ:

يُسائرُني من نُطفةٍ وأسـائرُهْ

 

ظللْنَا معاً جارَينْ نحترسُ الثَّأى

ذكر سبعاً ورجُلاً، قد ترافقا، فصار كلُّ واحدٍ منهما يدَعُ فضْلاً من سُؤره ليشرَبَ صاحبه، الثَّأى: الفساد، وخبّر أنّ كلّ واحد منهما يحترس من صاحبه.
وقد يستقيمُ أن يكونَ شعر النابغة في الحية، وفي القتيلِ صاحب القَبْر، وفي أخيه المصالح للحيةِ أن يكون إنما جعل ذلك مثلاً، وقد أثبتناهُ في باب الحيات، فلذلك كرهنا إعادَته في هذا الموضع، فأما جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينَة والتّحقيق، وإنما المثل في هذا مثل قوله:

وكان شيطاني منْ طُلاَّبِها

 

قد كان شيطانك منْ خطّابها

 

 

حيناً فلمّا اعتَركا ألْوى بها

الاشتباه في الأصوات والإنسان يجوع فيسمع في أذنه مثل الدويّ، وقال الشاعر:

أَميمٌ وسارِي اللَّيلِ للضُّرِّ مُعْوِرُ

 

دويُّ الفَيَافي رَابـه فـكـأنّـه

مُعْوِر: أي مُصْحِر.
وربما قال الغلام لمولاه: أدعوتني? فيقول له: لا، وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرضٍ، لا أنَّه سمعَ صوتاً.
ومن هذا الباب قول تأبَّط شراً، أو قول قائل فيه في كلمة له:

جَحِيشاً ويَعرَوْرِي ظهورَ المهالِكِ

 

يَظَلُّ بمَوّْماةٍ ويُمسـي بـقَـفـرَةٍ

بمنخَرِقٍ من شَدِّهِ الـمـتـدارِكِ

 

ويَسْبِقُ وقدَ الرِّيح من حَيث ينْتحي

له كالئٌ من قَلبِ شَيْحانَ فاتـكِ

 

إذا خاطَ عَينَيه كَرى النَّوم لم يزَلْ

إلى سلَّةٍ من حَدِّ أخْضَر بـاتـكِ

 

ويجعلُ عينـيه رَبـيئةَ قـلـبـهِ

نواجذُ أفواهِ المنايا الضّـواحـكِ

 

إذا هزَّه في عَظم قِرْنٍ تهلَّـلـتْ

بحيث اهتدتْ أمُّ النجومِ الشّوابـكِ

 

يَرى الإنس وحْشيَّ الفَلاة ويهتدي

نزول العرب بلاد الوحش والحشرات والسباع ويدلُّ على ما قال أبو إسحاق، من نزولهم في بلاد الوحْش وبينَ الحشَراتِ والسِّباع، ما رواه لنا أبو مُسْهرٍ، عن أعرابيٍّ من بني تميم نزل ناحية الشَّام، فكان لا يَعْدِمُهُ في كلِّ ليلة أن يعضَّه أو يَعضَّ ولدَه أو بعضَ حاشيته سبعٌ من السباع، أو دابّة من دوابّ الأرض فقال:

ومَزّقَ جلدي نابُ سبْع ومِخْلـبُ

 

تعـاوَرَنـي دَينٌ وذُلٌّ وغُـــربةٌ

ونحن أُسارَى وَسْطَهَا نتـقـلـبُ

 

وفي الأرض أحناشٌ وسَبْع وحاربٌ

وأرقطُ حُرْقُوصٌ وضَمْجٌ وعَقْربُ

 

رُتَيْلا وطَبُّوعٌ وشِبْـثَـان ظُـلْـمةٍ

وأرْسالُ جعلانٍ وهَزْلى تَسَـرَّبُ

 

ونمل كأشخاصِ الخنافس قُـطَّـبٌ

وذرٌّ ودَحّاس وفَـارٌ وعـقـربُ

 

وعُثٌّ وحُفّاثٌ وضَـبٌّ وعِـربِـدٌ

وثُرْمُلةٌ تجرِي وسِيدٌ وثـعـلـبُ

 

وهرٌّ وظِرْبانٌ وسِـمْـعٌ ودَوْبَـلٌ

وليثٌ يجُوس الألـف لا يتـهـيّبُ

 

ونمر وفَهْدٌ ثـم ضـبـعٌ وجَـيألٌ

ولا الدُّبَّ إنّ الدُّبَّ لا يتـنـسَّـبُ

 

ولم أرَ آوى حيث أسـمـعُ ذِكـرَه

فأما الرُّتَيلا والطَّبُّوع، والشَّبَث، والحُرقوص، والضّمجُ والعنكبوت، والخنفُساء، والجُعَل، والعُثّ، والحُفَّاث، والدّحّاس والظّرِبان، والذِّئب، والثَّعلب، والنمر، والفَهْد، والضّبع، والأسد - فسنقول في ذلك إذا صرنا إلى ذكر هذه الأبواب، وقبل ذلك عند ذِكر الحشرات، فأما الضّبُّ والورَل، والعقرب، والجُعل، والخنفساء، والسِّمْع فقد ذكرنا ذلك في أوّل الكتاب، وأما قوله: وهَزْلى تسرب فالهزْلى هي الحيات، كما قال جَرير:

مَزَاحف هزْلَى بينها متباعدُ

وكما قال الآخر:

خدودُ رصائعٍ جُدِلَتْ تُؤَامَا

 

كأنَّ مَزَاحِفَ الهَزْلى عليها

وأما قوله:

ولم أر آوَى حيثُ أسمع ذِكرَه

فإنّ ابنَ آوى لا ينزِلُ القفار، وإنّما يكونُ حيث يكونُ الريف.
وينبغي أن يكونَ حيث قال هذا الشّعر توهَّم أنّه ببياض نجد.
وأمَّا قوله:

ولا الدبَّ إنَّ الدبَّ لا يتنسَّبُ

فإنّ الدبَّ عندهم عجميٌّ، والعجميُّ لا يقيم نسبَه.

مُلَح ونوادر

وروَوْا في المُلَح أنّ فتًى قال لجارية له، أو لصديقةٍ له: ليس في الأرض أحسنُ منِّي: ولا أملحُ منِّي، فصار عندها كذلك، فبينا هو عِندها على هذه الصّفة إذ قرع عليها الباب إنسانٌ يريدهُ، فاطَّلعت عليه من خرق الباب، فرأت فتًى أحسنَ النّاس وأملحَهم، وأنَبلهم وأتمّهم، فلمَّا عاد صاحبُها إلى المنزل قالت له: أَوَ ما أخبرَتني أنَّك أملحُ الخلْقِ وأحسنُهم? قال: بلى وكذلك أنا فقالت: فقد أرادك اليومَ فلانٌ، ورأَيتُه من خَرق البابِ، فرأيتُه أحسنَ منك وأملَح قال: لَعْمري إنَّه لَحَسنٌ مَليح، ولكنَّ له جنِّىّة تصرعه في كلِّ شهرٍ مرَّتين - وهو يريدُ بذلك أن يسقطه من عينها - قالت: أوَ ما تصرعه في الشّهر إلاّ مرتين? أمَا واللّه لو أنِّي جنّيَّة لصرعْته في اليوم ألفين.
وهذا يدلُ على أنّ صرْع الشّيطان للإنسان ليس هو عند العوامِّ إلاّ على جهة ما يعرفون من الجِماع.
ومن هذا الضَّرب من الحديث ما حدَّثنا به المازنيُّ، قال: ابتاع فتًى صَلِفٌ بَذَّاخ جاريةً حسناءَ بديعةً ظريفة، فلمّا وقع عليها قال لها مراراً ويلَكِ، ما أوسَعَ حِرَك فلمّا أكثَرَ عليها قالت: أنت الفداءُ لمن كان يملَؤُه.
فقد سمع هذا كما ترى من المكروه مثلَ ما سِمع الأوّل.
وزعموا أنّ رجلاً نظر إلى امرأَةٍ حسْناء ظريفةٍ، فالحّ عليها، فقالت: ما تنظر? قُرَّة عينك، وشيءُ غيرك.
وزعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم، فراوغَتْه فلم ينقطع عنها، فحثّتْ في المشي فلم ينقطع عنها، فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت: يا هؤلاء، لي طريقٌ ولهذا طريق، ومولاي ينيكني؛ فسَلوا هذا ما يريدُ مني? وزَعَمَ أيضاً أن سياراً البرقيّ قال: مرّت بنا جاريةٌ، فرأينا فيها الكِبْرَ والتجبُّر، فقال بعضنا: ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيكها قالت: كما يكون.
فلم أسمع بكلمة عامّية أشَنََعَ ولا أدلّ على ما أرادت، ولا أقصَر من كلمتها هذه.
وقد قال جحشويهِ في شعر شبيهاً بهذا القول، حيث يقول:

ولكن يا مَشُوم بأيِّ أيْرِ

 

تواعدُني لتنكِحني ثلاثاً

فلو خُطِبَتْ في صفة أيرٍ خُطبةٌ أطولُ من خطبة قيس بن خارجة بن سنان في شأن الحمالة - لما بلغ مبلغَ قول جحشويه: ولكن يا مَشُوم بأيِّ أير، وقول الخادم: كما يكون. وزعموا أن فتًى جلس إلى أعرابيّة، وعلمت أنّه إنما جلس لينظر إلى محاسن ابنتها، فضربت بيدها على جنبها، ثم قالت:

أطِيطَ الغَرْزِ في الرَّحْلِ الجديدِ

 

عَلَـنْـداة يئطُّ الأيرُ فـيهــا

ثم أقبلت على الفتى فقالت:

بعينَيكَ عَينيها فهل ذاكَ نافعُ

 

وما لَكَ من غيرَ أنَّكَ ناكـحٌ

ودخل قاسم منزل الخُوارزمي النخَّاس، فرأى عنده جارية كأنها جانّ، وكأنها خُوط بانٍ، وكأنّها جَدْل عِنان، وكأنه الياسمين؛ نعْمةً وبياضاً؛ فقال لها: أشتريك يا جارية? فقالت: افتحْ كيسَك تسرَّ نفسَك ودخلت الجارية منزل النخّاس، فاشتراها وهي لا تعلم ومضى إلى المنزل ودفعها الخوارزميُّ إلى غلامه، فلم تشعر الجارية إلا وهي معه في جَوف بيت، فلما نظرتْ إليه وعرفتْ ما وقعَتْ فيه قالت له: ويلكَ إنك واللّه لن تَصِل إليّ إلا بعد أن أموت فإن كنت تجسُرُ على نَيك من قد أدرجوه في الأكفان فدونَك واللّهِِ إن زلتُ منذ رأيتك، ودخلتُ إلى الجواري، أصف لهنَّ قبحك وبليّةَ امرأتك بك فأقبل عليها يكلِّمها بكلام المتكلمين، فلم تقبل منه، فقال: فلم قلتِ لي: افتَحْ كيسَك تسرَّ نفسك? وقد فتحت كيسي فدَعيني أَسُرُّ نفْسي وهو يكلِّمها وعينُ الجارية إلى الباب، ونفْسُها في توهُّم الطّريق إلى منزل النخّاس، فلم يشعر قاسمٌ حتّى وثبَتْ وثبةً إلى الباب كأنّها غزال، ولم يشعر الخوارزمي إلاّ والجارية بين يدَيه مغشيٌّ عليها، فكرَّ قاسمٌ إليه راجعاً وقال: ادفعْها إليّ أشفي نفسي منها، فطلبوا إليه فصفَح عنها، واشتراها في ذلك المجلس غلامٌ أملحُ منها، فقامت إليه فقبَّلت فاه، وقاسمٌ ينظرُ، والقومُ يتعجَبون ممّا تهيأ له وتهيَّأ لها.
وأما عيسى بن مروان كاتب أبي مروان عبد الملك بن أبي حمزة فإنّه كان شديد التغزُّل والتّصندل، حتَّى شرب لذلك النبيذَ وتَظَرَّف بتقطيع ثيابه وتغنَّى أصواتاً، وحفظ أحاديثَ من أحاديث العشّاق ومن الأحاديث التي تشتهيها النساء وتفهمُ معانِيها، وكان أقبحَ خلْق اللّه تعالى أنفاً، حتَّى كان أقبحَ من الأخنَس، ومن الأفطس، والأَجدع، فإمّا أن يكون صادقَ ظريفةً، وإما أنْ يكونَ تزوَّجها فلما خَلاَ معها في بيتٍ وأرادها على ما يريد الرَّجلُ من المرأة، امتنعت، فوهب لها، ومنَّاها، وأظهر تعشقها، وأرَاغَها بكلِّ حيلة، فلما لم تُجِب قال لها: خبِّريني، ما الذي يمنعُك? قالت: قبح أنفِك وهو يَستقِبلُ عيني وقتَ الحاجة، فلو كان أنفُك في قفَاك لكان أهونَ عليَّ قال لها: جعِلْت فِداك? الذي بأنفي ليسَ هو خِلقةً وإنّما هو ضربةٌ ضُرِبتُها في سبيل اللّه تعالى، فقالت واستغربَتْ ضحِكاً: أنا ما أبالي، في سبيل اللّه كانَتْ أو في سبيل الشَّيطان، إنَّما بيَ قبحُه، فخذْ ثوابَك على هذه الضَّربة من اللّه أمَّا أنَا فلا.

باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ

ليس هذا، حفظك اللّه تعالى، من الباب الذي كُنَّا فيه، ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً، وسنقول في باب من ذكر الجنّ، لتنتفع في دِينك أشد الانتفاع، وهو جِدٌّ كلُّه.
والكلام الأوّل وما يتلوه من ذكر الحشرات، ليس فيه جِدٌّ إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل، وليس فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة، لأن هذا الباب هكذا يقع.
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن، فإذْ قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى، فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ، وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة، وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ، وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان، ولكنا نقول بجملةٍ كافية، واللّه تعالى المعين على ذلك.
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن  قال قوم: قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً، وأقلُّ آفَةً، وأحدُّ أذهاناً، وأقلُّ فضُولاً، وأخفُّ أبداناً، وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا، والدّليلُ على ذلك إجماعهم على أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ، دقيقةٌ ولا جليلة، ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق الهوى والشّهوة، خفيّةً كانت أو ظاهرة، إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها، والمزيِّنُ لها، والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء، ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة، ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات.
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل، ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ، أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه، أويكونُ متى رام ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ - أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه، ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ.
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار، وليس له خواطئ، فإمَّا أن يكون يصيبه، وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به، وهذه الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور، ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع والمسترِق، والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني، ولا الثّاني ينهي الثّالث، ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب، وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم، وهو ظاهر مكشوف?.
وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات، ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية، وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد، فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن وصدقوها، وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ كما يُنجِز ما وعد، وقد قال اللّه عزّ وجل: "وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ"، وقال تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان رَجيمٍ" وقال تعالى: "إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ" وقال تعالى: "هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ، يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون" مع قولِ الجنّ: "أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً" وقولهم: "أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً، وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً".
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً، وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب، والإحراقَ بالنار، وقوله تعالى: "إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ" وقوله تعالى: "وَحفْظاً مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ، لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن كُلِّ جانبٍ دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ" في آيٍ غيرِ هذا كثير، فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع، مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب، ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب، ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر - لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر، وفي إخبار بعضِهم لبعض، ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود،  وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار? وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم? وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى? قيل لهم: فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول، وفي هذه الأبواب، كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ، وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار، والحمّارين والمُكارينَ، من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه؛ وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا، مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل، ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه، وقد كان طريقاً مسلوكاً، وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه، لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم.
ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها، مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها، وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب، وجبالٌ لا تُرام، ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة.
وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا، حين ذكرنا الصَّرفة، وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه، وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته، وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً؛ إذا كان في ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق، مع غير ذلك، ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة، لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب.
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة، ما دام لا يقول بالتّوحيد، وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه، ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل، وأن الأمر والنَّهي، والثوابَ والعقاب على غير ما نقول، وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة الحزْم.
وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة، وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى: "واللّه يَعصِمُك من النّاسِ" لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها، وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية، وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب.
وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير? ونحن نقول: لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى: "وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ" وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه، لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان، لم يطمع فيه، ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه، ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق.
فنقول في إبليس: إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس، وفي جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول.0 وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا، فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ، واللّه تعالى المعين والموفِّق.
وأما قولهم: منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان متبيَّناً كيف كان اعتراضهم على أنّ أيسر ما يحتملون في جَنْب تلك الرِّياسات القتل.
ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه الرَّجْم، والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول، ويعلم أنه إذا كان شهاباً أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه، فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه، ولا يأخذه إلا قمحاً، فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه - ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه، أو فقئت إحدى عينَيه. ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان، وماردٍ، وعفريتٍ، وأشباه ذلك? ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء، ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه?.
وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا، قالوا في قوله تعالى: "وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً" فقالوا: قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد، فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك.
قلنا: ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين، وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ، وتكبيرٌ وتلاوة، فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم.
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ: سمعت ما لم يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ متنبئٍ وكاهن، فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة، قالوا: زعمتم أن اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فكيف يكون ذلك رَجْماً، وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً، وذلك موجودٌ في الأشعار، وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك:

وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَـرْتـعُ

 

فجأجأها مـن أول الـرِّيِّ غُـدوة

خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ

 

بأكْلـبةٍ زُرْقٍ ضـوارٍ كـأنّـهـا

وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ

 

فجال على نَفْر تعرُّضَ كـوكـبٍ

فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته، وحُسْنه، وبريق جلده، ولذلك قال الطّرِمّاح:

سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ

 

يَبْدُو وتُضْمِرُه البلاد كـأنّـهُ

وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم:

فتْخاءُ كاسِرةٌ هَوَتْ من مرْقـبِ

 

وتشُجُّ بالعير الفـلاة كـأنّـهَـا

ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ

 

والعير يُرْهِقُها الخبَار وجَحشُهـا

قالوا: وقال الضّبّي:

بذي غُروب فيه تحريبُ

 

يَنَالها مهتك أشْجـارهـا

أو قبَسٌ بالكفِّ مشبوبُ

 

كأنّه حيِنَ نَحَا كـوكـبٌ

وقال أوس بن حَجَر:

نَقْع يثُورُ تخالُه طُنُبَـا

 

فانقضَّ كالدّريءِ يَتْبَعُهُ

رفع المشيرُ بكفِّهِ لهبَا

 

يَخفى وأحياناً يلوح كما

ورووا قوله:

لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل مُظْلِمِ

 

فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر

وقال عَوْف بن الخرِع:

أو الثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ

 

يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه

وقال الأفوه الأودي:

فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ

 

كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ بـه

وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت:

ورَواغُها شتّى إذا ما تُطْرَدُ

 

وترى شياطيناً تَرُوغُ مُضافةً

وكواكبٌ تُرمى بها فتعرِّدُ

 

يُلْقى عليها في السَّماء مذلَّة

قلنا لهؤلاء القوم: إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم، وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى، فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة، والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد، فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به، وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار، والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار، وقال: شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام. والأعلام ضروب، فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب، لكون الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة، وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر، والتأسيس له، وكالتعبيد والترشيح، فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد حدثت عند مولده، أو قُبيلَ مولِده، أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث مثلُها، وعند ذلك يقول الناس: إنّ هذا لأَمرٍ، وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع، أو سيكون لهذا نبأ، كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان، فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة، وحين خروج الماء من تحت رُكْبة جملة، وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك، مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره، والمتوقَّع أبداً معظّم.
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص، إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك، فإنّ عددهم كثير، وشعرهم معروف.
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام، وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم.
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً، ولا حجراً مطروحاً، ولا خنفساء، ولا جُعلاً، ولا دودة، ولا حيةً، إلا قال فيها، فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها، وكيف أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم.
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال: هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم، وبي نُصروا.
ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون، من صِفَتها كذا، ومن شأنها كذا، وتُنصرون على العجَم، وبي تنصرون.
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ بها لنفسه، فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار، التي شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا.
وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها، ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها، فأما قوله:

لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ

 

فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ

فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي هَمَّام، هو الذي كان ولَّدها، فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ، وهات القصيدة، فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ، من قصيدةٍ، صحيحة لشاعر معروف، وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت.
وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ:

مِنْ رحيق مُدامَهْ

 

اسقِني يا أُسامَـهْ

كافرٌ بالقـيامَـهْ

 

اسْقنيها فـإنِّـي

وهذا الشعر هو الذي قتله، وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر:

نَقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا

 

فانقضَّ كالدريء يتبعه

وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس بن حجر، وشُريح ابن أوس، وقد طعنت الرُّواة في هذا الشِّعر الذي أضفْتموه إلى بشر بن أبي خازم، من قوله:

ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكبِ

 

والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشهـا

فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب، وقالوا: في شعر بشر مصنوعٌ كثير، مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها:

إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبـا

 

فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي

وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي، فإنَّ الضّبيَّ مخضرم. وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة، وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس، حين ذكر القول في الشُّهب، مع القول في الكواكب ذوات الذوائب، ومع القول في القَوس، والطَّوق الذي يكون حول القَمَر بالليل، فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ، وإليه تفزعون، فإنّا نوجدكم من كذب التَّراجمة وزيادتهم، ومن فساد الكِتاب، من جهة تأويل الكلام، ومن جهة جهْل المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة، ومن جهة فَسادِ النَّسخ، ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب، فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد، وهذا الكلام معروفٌ صحيح.
وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ، وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ، وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم، وهو جاهليٌّ، ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون? فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ: وأما قوله:

فُلفلاً مجتنًى وهَضْمة عِطْـر

 

جائباً للبحار أُهدي لِعِـرْسـي

ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ

 

وأحلّي هُرَيْرَ مِنْ صدف البَـحْ

فإن الناس يقولون: إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب، وهُريرة: اسم امرأته الجنِّيّة.
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند، فقال:

ضاحكٌ سِنُّه كثيرُ الـتَّـمـرِّي

 

وأجوبُ البلاد تحتـيَ ظـبـيٌ

وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري

 

مُولـج دَبْـرَهُ خَـوَايَة مَـكْـوٍ

يقول: هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره، من بين جميع الوَحْش، لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً، لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً إذا كان تحتي.
وأما قوله:

ذاكرٌ عُشَّهُ بضَـفّةِ نَـهْـرِ

 

يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ

فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء.

قولهم: أروى من ضبّ

وأما قولهم في المثل: أروى من ضبّ فإني لا أعرفه، لأنَّ كلَّ شيء بالدوّ والدَّهْناء والصَّمَّان، وأوساط هذه المهامه والصحاصح فإن جميع ما يسكنُها من الحشرات والسِّباع لا يرِدُ الماء ولا يريدُه، لأنه ليس في أوساط هذه الفيافي في الصَّيف كله وفي القَيظ جميعاً مَنْقَع ماء، ولا غدير، ولا شريعة، ولا وَشَلَ، فإذا استقام أن يمرّ بظبائها وأرانبها وثعالبها وغير ذلك منها الصَّيفة كلَّها، والقيظ كله، ولم تذق فيها قطرة ماء، فهي له في الشتاء أتْرك، لأنَّ من اقتاتَ اليبَس إذا لم يشرب الماء فهو إذا اقتات الرَّطب أترك.
وليس العجب في هذا، ولكنّ العجب في إبلٍ لا ترِد الماء.
وزعم الأصمعيُّ أنَّ لبني عقيل ماعِزاً لم يرد الماءَ قطّ، فينبغي على ذاكَ أنْ يكون واديهم لا يزالُ يكونُ فيه من البقْل والورق ما يُعيشُها بتلك الرُّطوبة التي فيها.
ولو كانت ثعالبُ الدّهْناء وظباؤُها وأرانبُها ووحْشُها تحتاج إلى الماء لطَلبتْه أشدّ الطلب، فإن الحيوان كلَّه يهتدي إلى ما يُعيشه، وذلك في طبْعه وإنما سُلِب هذه المعارفَ الذين أُعطوا العقل والاستطاعة فوكِلوا إليهما.
فأمّا من سُلِبَ الآلة التي بها تكون الرَّويّة والأداة التي يكون بها التصرُّف، وتخرج أفعاله من حد الإيجاب إلى حد الإمكان، وعُوِّض التمكينَ، فإن سبيله غيرُ سبيل من مُنِح ذلك، فقسم اللّه تعالى لتلك الكفاية، وقسم لهؤلاء الابتلاء والاختيار.

قصيدتا بشر بن المعتمر

أوّل ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش بشِعْرَي بشرِ بن المعتمر، فإن له في هذا الباب قصيدتين، قد جمع فيهما كثيراً من هذه الغرائب والفرائد، ونبَّه بهذا على وجوهٍ كثيرةٍ من الحكمة العجيبة، والموعظةِ البليغة، وقد كان يمكننا أن نذكر من شأن هذه السِّباع والحشرات بقَدْر ما تتسع له الرواية، من غير أن نكتبهما في هذا الكتاب، ولكنهما يجمعان أموراً كثيرة.
 أمّا أوّل ذلك فإنَّ حفظَ الشّعر أهونُ على النَّفس، وإذا حُفظ كان أعلَقَ وأثبت، وكان شاهداً، وإن احتيج إلى ضرْب المثل كان مثلاً.
وإذا قسمنا ما عندنا في هذه الأصناف، على بيوت هذين الشِّعرين، وقع ذكرهما مصنّفاً فيصير حينئذٍ آنقَ في الأسماع، وأشدَّ في الحفْظ.

القصيدة الأولى

قال بشرُ بن المعتمر:

 

وكلهم من شأنهِ الخـتـرُ

 

الناس دأباً في طلاب الغنى

 

لها عواءٌ ولـهـا زفـرُ

 

كأذؤبٍ تنهـشـهـا أذؤبٌ

 

كلٌّ لهُ في نفثـهِ سـحـرُ

 

تراهمُ فوضَى وأيدى سبـا

 

بينَ يديهِ النفعُ والـضـرُّ

 

تبارك الله وسـبـحـانَـه

 

الذيخُ والثيتلُ والـغـفـرُ

 

منْ خلقه في روقه كلهـمْ

 

فيه ومنْ مسكنهُ القـفـر

 

وساكنُ الجوِّ إذا مـا عـلا

 

وجأبةٌ مسكنهـا الـوعـرُ

 

والصدع الأعصمُ في شاهقٍ

 

والتتفـلُ الـرائغُ والـذرُّ

 

والحيةُ الصماءُ في جحرها

 

والسهلُ والنوفلُ والنضـرُ

 

وإلقةٌ ترغث ربـاحـهـا

 

لها عرارٌ ولـهـا زمـرُ

 

وهقلةٌ ترتاعُ من ظلـهـا

 

أحبُّ شيءٍ عندها الجمـر

 

تلتهم المروَ على شـهـوةٍ

 

وعترفانٌ بطنـهُ صـفـر

 

وضـبة تـأكـلُ أولادهـا

 

منجمُ لـيس لـه فـكـرُ

 

يؤثر بالطـعـم وتـأذينـهُ

 

حشوتهُ التأبيس والـدغـر

 

وكيف لا أعجبُ من عالـمٍ

 

ليس لها من دونها سـتـرُ

 

وحكمةٌ يبصرها عـاقـلٌ

 

وأبغثٌ يصطادهُ صـقـر

 

جرادةٌ تخرقُ متنَ الصفـا

 

وقد عراه دونه الـذعـر

 

سلاحه رمحٌ فمـا عـذره

 

والفيلُ والكلبةُ والـيعـر

 

والدبُّ والقرد إذا علـمـا

 

وعنْ مدى غاياتها السحـر

 

يحجم عن فرطِ أعاجيبهـا

 

وعقربٌ يعجبها التـمـرُ

 

وظيبة تخضمُ في حنظـلٍ

 

يقوتها الأرواثُ والبـعـرُ

 

وخنفسُ يسعى بجعـلانـهِ

 

ضمَّ إليها الروث والجعـرُ

 

يقتلها الـورد وتـحـيا إذا

 

والخلد فيه عجبٌ هـتـرُ

 

وفارة البيشِ إمـامٌ لـهـا

 

وحيةٌ يخلى لهُ الجـحـرُ

 

وقتفذٌ يسـرى إلـى حـيةٍ

 

وهدهدٌ يكـفـره بـكـرُ

 

وعضر فوطُ ماله قـبـلةٌ

 

تخبرُ أن ليسَ لهـا عـذرُ

 

وفرةُ العقرب من لسعهـا

 

إذا تلاقى الليث والبـبـرُ

 

والببر فيه عجبٌ عـاجـبٌ

 

وطائرٌ ليسَ لـهـا وكـرُ

 

وطائرُ أشـرفُ ذو جـردة

 

وعسكرٌ يتبعه الـنـسـر

 

وثرملٌ تأوى إلـى دوبـل

 

أبرمها في الرحم العمـرُ

 

يسالمُ الضبـعَ بـذى مـرة

 

وسابحٌ ليسَ لهـا سـحـرُ

 

وتمسحٌ خـلـلـهُ طـائرٌ

 

وخرنـقٌ يسـفـدهُ وبـر

 

والعثُّ والحفاثُ ذو فحفـحٍ

 

ليس لها نابٌ ولا ظـفـرُ

 

وغائص في الرمل ذو حدة

 

حتى يوافى وقتهُ العصـر

 

حرباؤها في قيظها شامسٌ

 

يميلُ في روضتهِ الزهـر

 

يميل بالشقِّ إليهـا كـمـا

 

حبُّ الكشى والوحر الحمر

 

والظربانُ الوردُ قد شـفـه

 

ولو نجا أهلكـهُ الـذعـرُ

 

يلوذُ منه الضبُّ مذلـولـياً

 

شيءٌ ولو أحرزه قصـرُ

 

وليس ينجيه إذا ما فـسـا

 

وسمعُ ذئبٍ همهُ الحضـرُ

 

وهيشنة تأكلـهـا سـرفةٌ

 

لكنما يعجبها الـخـمـرُ

 

لا تردُ الماءَ أفاعي النـقـا

 

إذا غلا واحتدم الهـجـرُ

 

وفي ذرى الحرملِ ظلُّ لها

 

أعطى سهامَ الميسرِ القمرُ

 

فبعضها طعمُ لبعض كمـا

والليثُ رأسٌ ولـه الأسـرُ

 

وتمسحُ النيل عقابُ الـهـوا

 

إلاّ بما ينتقـضُ الـدهـرُ

 

ثلاثةٌ ليس لـهـا غـالـبٌ

 

فالله يقضـى ولـهُ الأمـرُ

 

إنِّى وإنْ كنتُ ضعيفَ القوى

 

كرافضىٍ غرهُ الـجـفـرُ

 

لست إبـاضـيَّا عـبـيَّا ولا

 

سفراً فأودَى عنده السفـرُ

 

كما يغرُّ الآل في سبـسـبٍ

 

فعاله عندهـمـا كـفـرُ

 

كلاهما وسع في جهل مـا

 

عابوا الذي عابوا ولم يدروا

 

لسنا من الحشو الجفاةِ الأولى

 

وإنْ رنَا فلحـظـهُ شـزرُ

 

أن غبتَ لم يسلمكَ من تهمة

 

كأنما يلـسـبـه الـدبـرُ

 

يعرضُ إن سالمته مـدبـراً

 

له احتـيالٌ ولـه مـكـرُ

 

أبلهُ خبٌّ ضغـنٌ قـلـبـه

 

وفارقوها فـهـمُ الـيعـر

 

وانتحلوا جماعةً باسـمـهـا

 

ليس لـه رأىٌ ولا قــدر

 

وأهـوجُ أعـوجُ ذو لـوثةٍ

 

وغرهم أيضاً كمـا غـروا

 

قد غره في نفسه مـثـلـه

 

ينبو عن الجرولة القـطـرُ

 

لا تنجع الحكمةُ فيهم كـمـا

 

ثلاثةٌ يجـمـعـهـم أمـرُ

 

قلوبهم شتًى فمـا مـنـهـم

 

وأنهم أعـينـهـمْ خـزرُ

 

إلا الأذى أو بهتَ أهلِ التقى

 

أعيا لديه الصابُ والمقـر

 

أولئك الداءُ العضـالُ الـذي

 

حسنُ عزاء النفسِ والصبر

 

حيلة من ليست لـه حـيلةٌ

 








القصيدة الثانية

قال: وأنشدني أيضاً:

 

يقصر عنها عدد القـطـر

 

ما ترى العالـم ذا حـشـوةٍ

 

وكلُّ سبع وافر الـظـفـرِ

 

أوابد الوحشِ وأحنـاشـهـا

 

فيه اعتبارٌ لذوي الـفـكـر

 

وبعضه ذو همـجٍ هـامـجٍ

 

تطاعمُ الحياتِ في الجحـر

 

والوزغُ الرقط على ذلـهَّـا

 

مودة العقرب في الـسـر

 

والخنفسُ الأسودُ في طبعـه

 

بين الورى والبلدِ الـقـفـرِ

 

والحشراتُ الغبرُ مـنـبـثةٌ

 

خيرٌ كثيرٌ عنـد مـن يدرى

 

وكلها شرٌّ وفـي شـرهـا

 

مدةَ هذا الخلقِ في العمـر

 

لو فكرَ العاقلُ في نفـسـه

 

أو حجةً تنقشُ في الصخـرِ

 

لم ير إلا عجـبـاً شـامـلا

 

خفيةِ الجسمان في قـعـرِ

 

فكم ترى في الخلق مـن آيةٍ

 

يحارُ فيها وضحُ الفـجـرِ

 

أبرزها الفكر على فـكـرةٍ

 

وصاحبِ في العسرِ واليسرِ

 

لله درُّ الـعـقـلِ مـن رائدٍ

 

قضيةَ الشـاهـدِ لـلأمـرِ

 

وحاكمٍ يقضى علـى غـائبٍ

 

أن يفصلَ الخيرَ من الشـرِّ

 

وإن شيئاً بعضُ أفـعـالـه

 

بخالص التقديس والطـهـر

 

بذى قوًى قد خـصـه ربُّـه

 

ومخرج الخيشوم والنـحـرِ

 

بل أنت كالعين وإنسـانـهـا

 

كالذئب والثعـلـب والـذر

 

فشرهم أكـثـرهـم حـيلةً

 

بما حوى من شـدة الأسـر

 

والليث قد جلـده عـلـمـه

 

وتارة يثنيه بـالـهـصـر

 

فتارة يحطمـهُ خـابـطـاً

 

مواضعَ الفرِّ مـن الـكـر

 

والضعفُ قد عرف أربابـه

 

في الأسر والإلحاح والصبر

 

تعرف بالإحساس أقـدارهـا

 

بصاحبِ الحاجة والفـقـرِ

 

والبختُ مقرونٌ فلأتجهـلـن

 

أهونُ منها سكرةُ الخـمـر

 

وذو الكفايات إلى سـكـرةٍ

 

شرٌّ من اللبوة والـنـمـر

 

والضبعُ الغثراء مع ذيخهـا

 

والنمرُ أو قد جىء بالبـبـر

 

لو خلى الليثُ ببطن الـورى

 

ما بين قرنيه إلى الـصـدر

 

كان لها أرجى ولو قضقضت

 

فبعد أن أبلغ فـي الـعـذر

 

والذئب إن أفلت مـن شـره

وعنصرٌ أعراقـه تـسـرى

 

وكلُّ جنـس فـلـه قـالـبٌ

 

مثلٍ صنيع الأرض والبـذر

 

وتصنع السرفة فيهم عـلـى

 

يحتال للأكبر بـالـفـكـرِ

 

والأضعف الأصغرُ أحرى بأن

 

أحوجهُ ذاك إلى الـمـكـرِ

 

متـى يرى عـدوه قـاهـراً

 

صاحً فجاءت رسلاً تجـرى

 

كما ترى الذئب إذا لم يطـقْ

 

يحجـم أو يقـدم أو يجـرى

 

وكلُّ شيءٍ فـعـلـى قـدره

 

والعندليب الفرخُ كالنـسـرِ

 

والكيس في المكسب شملٌ لهمْ

 

والفيلُ والأعلـم كـالـوبـر

 

والخلدْ كالذئب على خـبـثـه

 

والأبغثُ الأغثر كالصـقـر

 

والعبدُ كالـحـرِّ وإن سـاءه

 

تفاوتوا في الرأي والـقـدر

 

لكنهم في الـدين أيدى سـبـا

 

فناصبوا القياسَ ذا السـبـر

 

قد غمر التقليدُ أحـلامـهـم

 

فإنما النجح مع الـصـبـر

 

فاقهم كلامى واصطبر ساعةً

 

يكـره أن يجـري ولا يدري

 

وانظر إلى الدنيا بعين امرىء

 

يجمعُ بين الصخرِ والجمـرِ

 

أما ترى الهقـلَ وأمـعـاءه

 

طيبةٌ فـائقة الـعـطــر

 

وفارةُ البيش على بـيشـهـا

 

كماهرٍ يسبح فـي غـمـرِ

 

وطائر يسبـح فـي جـاحـمٍ

 

وصنعة السـرفة والـدبـر

 

ولطعة الذئب على حـسـوهِ

 

أعجبُ مما قيلَ في الحجـرِ

 

ومسمع القردان في منـهـل

 

مؤخرها من شدة الـذعـر

 

وظبية تدخـلُ فـي تـولـجٍ

 

يريغها من قـبـلِ الـدبـر

 

تأخذ بالحزم علـى قـانـصٍ

 

مرارةٌ تسمعُ فـي الـذكـر

 

والمقرمُ المعلـم مـا إنْ لـه

 

عندَ حدوثِ الموتِ والنحـر

 

وخصيةٌ تنصلُ من جـوفـه

 

شقـشـقةً مـائلة الـهـدر

 

ولا يرى من بعدهـا جـازرٌ

 

أشاعه الـعـالـمُ بـالأمـر

 

وليس للطرفِ طحـالٌ وقـد

 

يعرفه الجازر ذو الخـبـرِ

 

وفي فؤاد الثور عظـمٌ وقـد

 

ما كان منها عاشَ في البحر

 

وأكثرُ الحـيتـان أعـجـوبةً

 

ولا دماغُ السمك النـهـرى

 

إذْ لا لسانٌ سقـى مـلـحـه

 

كفعل ذى النقلةِ إلى الـبـرِّ

 

يدخل في العذب إلى جـمـه

 

على مثالِ الفلك المـجـرى

 

تدير أوقـاتـاً بـأعـيانـهـا

 

تعاقبَ الأنواء في الشـهـر

 

وكلُّ جـنـسٍ فـلـهُ مـدةٌ

 

ثمَّ تـوارى آخـرَ الـدهـر

 

وأكبدٌ تظهرُ فـي لـيلـهـا

 

مزاجه مـاءً عـلـى قـدر

 

ولا يسبغ الطعم ما لـم يكـن

 

سوى جرابٍ واسع الشجـر

 

ليس لـه شـيء لإزلاقــه

 

فشطر أنبوب على شـطـر

 

والتتفل الـرائغ إمـا نـضـا

 

تجـده ذا فـشٍ وذا جـزر

 

متى رأى الليث أخا حـافـر

 

أطعمه ذلك فـي الـنـمـر

 

وإن رأى النمر طعامـاً لـه

 

ونابه يجرح في الصـخـر

 

وإن رأى مخـلـبـه وافـياً

 

فالنمر مأكولٌ إلى الحـشـر

 

منهرتَ الشدقِ إلى غلـصـمٍ

 

زئيره أصبـر مـن نـمـر

 

وما يعادي النمرُ في ضيغـمٍ

 

من شدةِ الأضلاع والظهـر

 

لولا الذي في أصلِ تركـيبـه

 

ما يسحر المختالَ ذا الكبـر

 

يبلغ بالجسر على طـبـعـه

 

ومنشر الميتِ من الـقـبـر

 

سبحانَ ربِّ الخلـقِ والأمـر

 

ما أقربَ الأجرَ من الـوزرِ

 

فاصبرْ على التفكير فيما ترى

 








تفسير القصيدة الأولى

نقول بعون اللّه تعالى وقُوته في تفسير قصيدة أبي سهل بشر بن المعتمر، ونبدأ بالأولى المرفوعة، التي ذكر في آخرها الإباضية، والرافضة، والنابتة، فإذا قلنا في ذلك بما حضرَنا قلنا في قصيدته الثانية إن شاء اللّه تعالى.
ما قيل في الذئب أمَّا قوله:

لها عُواءٌ ولها زَفرُ

 

كأذْؤُبٍ تنهشُها أذْؤبٌ

فإنَّها قد تتهارشُ على الفريسة، ولا تبلغ القتْل، فإذا أدْمى بعضها بعضاً وثَبتْ عليه فمزّقته وأكلته، وقال الرّاجز:

ورقاء دَمّى ذئبها المدمِّي

 

فلا تكوني يا ابْنَة الأشَـمِّ

وقال الفرزدق:

بصاحبه يوماً أحالَ على الـدَّمِ

 

وكنْتَ كذئبِ السَّوْء لمّا رأى دماً

نعم حتّى رُبما أقبلا على الإنسان إقبالاً واحداً، وهما سواءٌ على عداوته والجزْم على أكله، فإذا أُدْمي أحدُهما وثب على صاحبه المدْمى فمزّقه وأكله، وترك الإنسان وإن كان أحدهما قد أدماه.
ولا أعلمُ في الأرض خلقاً ألأمَ من هذا الخلق، ولا شرّاً منه، ويحدث عند رؤيته الدَّم له في صاحبه الطمع، ويحدث له في ذلك الطمع فضلُ قوة، ويحدث للمدمَّى جبنٌ وخوف، ويحدث عنهما ضعف واستخذاء، فإذا تهيأ ذلك منهما لم يكن دونَ أكله شيء، واللّه أعلم حيثُ لم يُعط الذئب قُوة الأسد، ولم يعط الأسد جُبن الذئب الهارب بما يرى في أثر الدم من الضعف، مثل ما يعتري الهر والهرة بعد الفراغ من السِّفاد، فإن الهر قبل أن يفرُغ من سفاد الهرة أقوى منها كثيراً، فإذا سَفِدها ولّى عنها هارباً واتبعته طالبةً له، فإنها في تلك الحال إن لحقَتْه كانت أقوى منه كثيراً، فلذلك يقطع الأرض في الهرب، وربَّما رمى بنفسه من حالق، وهذا شيءٌ لا يعدمانِه في تلك الحال.
ولم أرهم يقِفون على حدِّ العلة في ذلك، وهذا بابٌ سيقعُ في موضعه من القول في الذئب تامّاً، بما فيه من الرِّواية وغير ذلك.
الذيخ والثيتل والغفر وأمَّا قوله:

الذِّيخُ والثّيْتلُ والغُـفـرُ

 

منْ خلقه في رزقِه كلَّهُمْ

الذِّيخ: ذكر الضّبع، والثّيتل شبيهٌ بالوعل، وهو ممَّا يسكن في رؤوس الجبال، ولا يكون في القُرى، وكذلك الأوعال، وليس لها حُضرٌ ولا عملٌ محمود على البسيط، وكذلك ليس للظباء حُضْر ولا عملٌ محمود في رؤوس الجبال.
وقال الشاعر:

كمشي الوُعولِ على الظاهرهْ

 

وخَيلٍ تُكْردِسُ بـالـدارعـينَ

وقال أيضاً:

عِنْد الهضاب مُقيَّداً مشْكـولا

 

والظّبيُ في رأس اليفَاع تخالُه

والغُفْر: ولد الأُروية: واحد الأرْوى، والأرْوى: جماعةٌ من إناث الأوعال.
الصَّدع والجأب وأما قوله:

وجأبةٌ مسكنُهـا الـوعْـرُ

 

والصَّدَعُ الأعصمُ في شاهق

فالصّدع: الشّاب من الأوعال، والأعصم: الذي في عصمته بياضٌ، وفي المِعْصم منه سوادٌ ولونٌ يخالفُ لونَ جسده، والأُنثى عصماء، والجأب: الحمار الغليظ الشَّديد، والجأبة: الأتان الغليظة، والجأب أيضاً، مهموز: المَغرة، وقال عنترة:

فوْتَ الأسِنة حافر الجأبِ

 

فنجا أمامَ رِماحِهنَّ كأنَّـهُ

شبَّهه بما عليه من لُطوخ الدِّماء برجُل يحفر في معدن المغْرة، والمغرة أيضاً المكْر، ولذلك قال أبو زُبيد في صفة الأسد المخمر بالدماء:

عنايته كأنّما باتَ يُمْكُـر

 

يعاجيهم للشّرِّ ثانِيَ عِطْفِهِ

الحية والثعلب والذر وأما قوله:

والتَّتفـل الـرائغ والـذّرُّ

 

والحية الصماء في جُحرها

فالتتفل هو الثّعلب، وهو موصوفٌ بالرَّوغان والخبث، ويضرب به المثل في النَّذالة والدناءة، كما يضرب به المثلُ في الخبْث والرَّوغان.
وقال طرفة:

لا ترك اللهُ لهُ واضحَـه

 

وصاحبٍ قد كنتُ صاحبْتُه

ما أشبهَ اللّيلة بالبارحَـهْ

 

كلهمُ أرْوغُ من ثعـلـبٍ

وقال دُريد بن الصمَّة:

يروغُون بالغَرّاءَ روْغ الثَّعالبِ

 

ومُرّة قد أدركتُهم فتركتُـهـمْ

وقال أيضاً:

يدُسُّ برأسهِ في كُلِّ جُحْر

 

ولستُ بثعلبٍ إن كان كونٌ

ولمَّا قال أبو محجنٍ الثَّقفي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، من حائط الطائف ما قال: قال له عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: إنما أنت ثعلبٌ في جُحْر، فابرزْ من الحصْن إن كنت رجلاً.
ومما قيل في ذلة الثعلب، قال بعض السّلف، حين وجد الثُّعلبان بال على رأس صنمه:

لقد ذَلّ منْ بالتْ عليه الثّعالبُ

 

إله يبول الثُّعلّبـانُ بـرأسِـه

فأرسلها مثلاً، وقال دُريدٌ في مثل ذلك:

وأنت امرؤٌ لا تحتويك المقانبُ

 

تمنَّيْتني قيْسَ بن سعدٍ سفـاهةً

من الأقِطِ الحوليِّ شبعان كانِبُ

 

وأنت امرؤٌ جَعْدُ القفا مُتَعَكِّـسٌ

إليهم ومن شرِّ السِّباع الثعالبُ

 

إذا انتسبوا لم يعرِفوا غير ثعْلبٍ

وأنشدوا في مثل ذلك:

والدَّهْرُ لا تنقضي عجائبُـهُ

 

ما أعجبَ الدَّهْرَ في تصرُّفِهِ

آمـالِـنـا نــوائبُـــهُ

 

يبسطُ آمالنا فنبسطهـا ودون

بالتْ على رأسهِ ثعالـبـهُ

 

وكم رأينا في الدَّهر من أسدٍ

ففي الثَّعلب جلدهُ، وهو كريم الوبر، وليس في الوَبر أغلى من الثعلب الأسود، وهو ضروبٌ، ومنه الأبيضُ الذي لا يُفْصل بينه وبين الفَنَك، ومنه الخلنْجيّ، وهو الأعمّ.
ومن أعاجيبه أن نَضِيَّهُ، وهو قضيبه في خلقة الأنبوبة، أحد شِطْريه عظْمٌ في صورة المثقب، والآخر عصبٌ ولحم، ولذلك قال بشرُ بنُ المعتمر:

فشطْرُ أُنبوبٍ على شطْرِ

 

والتّتفل الرائغُ إمّا نضـا

وهو سَبُعٌ جبانٌ جدّاً، ولكنَّه لفرط الخبث والحيلة يجرِي مع كبار السّباع.
وزعم أعرابيٌّ ممن يُسمعُ منه، أنّه طاردهُ مرّة بكلابٍ له، فراوغه حتّى صار في خَمر، ومرّ بمكانه فرأى ثعلباً ميّتاً، وإذا هو قد زَكر بطنه ونفخه، فوهّمه أنّه قد مات من يوم أو يومين، قال: فتعدّيته وشمَّ رائحة الكلاب فوثب وثْبةً فصار في صحراء.
وفي حديث العامَّة أنَّه لما كثُرت البراغيثُ في فرْوته، تناول بفيه إمَّا صُوفةً وإمَّا ليقة، ثم أدخل رجليه في الماء، فترفّعتْ عن ذلك الموضع، فما زال يغمسُ بدنه أوّلاً فأوّلاً حتَّى اجتمعن في خَطْمه، فلمّا غمس خطمه أوّلاً فأوّلاً اجتمعنَ في الصُّوفة، فإذا علم أنّ الصُّوفة قد اشتملت عليهنَّ تركها في الماء ووثَبَ، فإذا هو خارجٌ عن جميعها.
فإن كان هذا الحديثُ حَقّاً فما أعجبه، وإن كان باطلاً فإنّهم لم يجعلوه له إلاّ للفضيلة التي فيه، من الخبْثِ والكَيْس.
وإذا مشى الفرسُ مشْياً شبيهاً بمشْي الثعلب قالوا: مشى الثّعلبيّة قال الراعي:

ثعالبُ مَوْتى جلدها قد تسَلَّعا

 

وغَمْلى نَصِيٍّ بالمِتانِ كأنّهـا

وقال الأصمعيُّ: سرق هذا المعنى من طفيلٍ الغنويّ ولم يُجِد السَّرق.
وفي تشبيه بعض مشيته قال المرَّار بن مُنقذ:

وإذا يُرْكضُ يَعْفُورٌ أشِرْ

 

صِفَةُ الثَّعلبِ أدنى جَرْيِهِ

وقال امرؤ القيس:

وإرخاءُ سِرْحانٍ وتقْريب تَتْفُلِ

 

له أيْطلا ظبْيٍ وساقا نَعـامَةٍ

والبيت الذي ذكره الأصمعيُّ لطفيل الغنوي، أنّ الرَّاعي سرق معناه هو قوله:

ثعالبُ موتى جِلْدُها لم ينزعِ

 

وغمْلى نصيٍّ بالمتان كأنّها

وأنشدوا في جُبْنِه قولَ زُهير بن أبي سُلمى:

زَوْراءَ مُغْبَرَّةٍ جوانبُهـا

 

وبَلـدةٍ لا تُـرام خـائفةٍ

تصِيحُ مِنْ رَهْبَةٍ ثعالبُها

 

تسمَعُ للجِنِّ عازِفينَ بهـا

ذاتَ هِبابٍ فُعماً مناكبُها

 

كلّفْتُها عِرْمِساً عُذافِـرَةً

هاجرةٌ لم تَقِلْ جَنادبُهـا

 

تُراقبُ المُحْصَدَ الممَرَّ إذا

والذي عندي أنَّ زُهيراً قد وصف الثّعلب بشدَّة القلْب، لأنهم إذا هَوَّلُوا بذكر الظُّلْمة الوحشيَّة والغيلان، لم يذكروا إلاَّ فزع من لا يكاد يفزع، لأنَّ الشاعر قد وصف نفسه بالجراءة على قطع هذه الأرض في هذه الحال.
وفي استنذاله وجبنه قالت أمُّ سالم لابنها مَعْمر:

ولا زانَهُ مـنْ زائر يتـقـرّبُ

 

أرى مَعْمراً لا زيّنَ اللّهُ مَعْمراً

كأنك في السِّربالِ إذْ جئت ثعلبُ

 

أعاديْتَـنـا عـاداك عـزٌّ وذلَّةٌ

أحقَّ بأن يُجنى عليه ويُضْـرَبُ

 

فلم تَرَ عيني زائراً مثل مَعْمـر

وقال عقيل بن عُلفة:

فإنَّـك عَـبْـدٌ يا زُمَـيل ذَلـيلُ

 

تأمَّل لما قد نال أمَّك هِـجْـرِسٌ

أُصبِّحْ بني عَمْرٍو وأنتَ قـتـيلُ

 

وإني متى أضْرِبْك بالسَّيفِ ضَرْبة

الهِجْرس: ولد الثَّعلب، قال: وكيف يصْطادُ وهو على هذه الصِّفة? فأنشد شعر ابن ميّادة:

ويُخْدَعُ أحياناً فيُصطاد نُورهـا

 

ألم تَرَ أنَّ الوَحْشَ يَخْـدَعُ مَـرَّةً

وإنْ فُرهتْ عقبانُها ونُسورهـا

 

بلى وضَوارِي الصَّيدِ تُخْفِقُ مَرَّة

قال: وسألت عنه بعض الفقهاء فقال: قيل لابن عبّاس: كيف تزعمون أنّ سليمان بن داود عليهما السلام كان إذا صار في البراري، حيث لا ماء ولا شجر، فاحتاج إلى الماء، دلّه على مكانه الهدهُد، ونحن نغطّي له الفخَّ بالتراب الرَّقيق، ونُبرز له الطُّعم، فيقع فيه جَهْلاً بما تحت ذلك التراب، وهو يدلُّ على الماء في قعر الأرض الذي لا يوصل إليه إلاّ بأن يحفر عليه القيِّم الكيِّس?.
قال: فقال ابنُ عبّاس رضي اللّه عنهما: إذا جاء القدَرُ لم ينفع الحذر.
وأنشدوا:

وكذاك شَرُّهم الميُون الأكـذبُ

 

خير الصديق هو الصَّدوق مقالةً

بالوَعْدِ راغَ كما يروغُ الثّعلـبُ

 

فإذا غَدوْت له تـريد نـجـازهُ

وقال حسّان بن ثابت رضي اللّه عنه:

بِطاءٌ عن المعروف يوم التّزايُدِ

 

بني عابدٍ شاهَتْ وجُوهُ الأعابِـد

قَفا ثعلب أعْيا ببعض المراصِدِ

 

فما كان صَيفيٌّ يفي بـأمـانة

وأنشد:

سَجاجاً كأقرابِ الثَّعالبِ أوْرقا

 

ويشْرَبُه مَذْقاً ويسقِي عِـيالـه

وقال مالك بن مِرْداس:

لا تلعبنَّ لِعبةَ المـغـتـرِّ

 

يا أيُّها ذا الموعِدِي بالضـرِّ

أو ثَعْلبٍ أُضيعَ بعـد حُـرِّ

 

أخافُ أنْ تكونَ مثـل هـرِّ

عسراء في يوم شمال قَـرِّ

 

هاجَتْ به مخيلة الأظـفـر

بصردٍ ليس بذي محـجـر

 

يجول منها لثـق الـذعـر

تنفضُّ منها نابها بـشـزر

 

تنفض أعلى فرْوِهِ المغبـرِّ

 

 

نفضاً كلون الشره المخمر

المخيلة: العقاب الذّكر الأشبث، صرد: مكان مطمئن.
وقال اليقطري: كان اسمُ أبي الضّريس ديناراً فقال له مولاه: يا دنينير فقال: أتصغِّرني وأنت من بني مخيلة، والعقاب الذّكر بدرهم، والأنثى بنصف درهم، وأنا ثمني عشرة دراهم.
سلاح الثعلب ومن أشدِّ سِلاح الثَّعلب عندكم الرَّوغان والتّماوُت، وسلاحه أنتنُ وألزجُ وأكثرُ من سُلاح الحبارى.
وقالت العرب: أدهى من ثعلب، وأنتن من سُلاح الثَّعلب.
وله عجيبةٌ في طلب مقتل القنقذ، وذلك إذا لقيه فأمكنهُ من ظهرهِ بالَ عليه، فإذا فعل ذلك به ينبسط فعند ذلك يقبض على مَراقِّ بطْنه.
أرزاق الحيوان ومن العجب في قسمة الأرزاق أنّ الذّئب يصيد الثّعلب فيأكله، ويصيد الثّعلب القنقذَ فيأكله، ويُريغ القنفذ الأفعى فيأكلها، وكذلك صنيعُه في الحيَّات ما لم تعظُم الحيَّة، والحيَّة تصيدُ العصفور فتأكلهُ، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يلتمس فِراخَ الزّنابير وكلّ شيء يكون أفحوصُهُ على المستوي، والزُّنبور يصيد النّحلة فيأكلها، والنَّحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيدُ البعوضة فتأكلها.
الإلقة والسهل والنوفل والنضر وأمَّا قوله:

والسّهْلُ والنَّوْفَلُ والنضْرُ

 

وإلقة تُرْغِثُ رُبَّاحـهـا

فالإلقة هاهنا القردة، تُرْغِث: ترضع، والرُّبَّاح: ولد القِردة، والسَّهْل: الغراب، والنَّوفل: البحر، والنَّضْر: الذهب، وكلُّ جَرِيَّةٍ من النِّساء وغيرِ ذلك فهي إلْقةٌ، وأنشدني بشرُ بن المعتمر لرؤبة:

جَدّ وجدّت إلقةٌ من الإلقْ

وقد ذكرنا الهِقْلَ وشأنه في الجمر والصّخْر، وأكلَ الضّبِّ أولاده، في موضعه من هذا الكتاب وكذلك قوله في العُتْرُفان، وهو الديك الذي يؤثر الدَّجاج بالحبّ، وكأنّه منجِّم أو صاحبِ أسْطُرلاب، وذكرنا أيضاً ما في الجراد في موضعه، ولسنا نُعيدُ ذكر ذلك، وإن كان مذكوراً في شعر بشر.
الأبغث وأمّا قوله:

وأبغث يصطاده صقر

ثم قال:

وقد عَراه دُونه الذعرُ

 

سلاحُه رُمْحٌ فما عُذْرُه

يقول: بدنُ الأبغث أعظمُ من بدن الصقر، وهو أشدُّ منه شِدَّة، ومنقارُه كسنان الرُّمْح في الطول والذّرب، وربَّما تجلّى له الصَّقرُ والشّاهينُ فَعَلقَ الشّجر والعَرار، وهتك كلَّ شيء، يقول: فقد اجتمعت فيه خصالٌ في الظّاهر معينةٌ له عليه، ولولا أنّه على حال يعلم أنَّ الصَّقر إنما يأتيه قبُلاً ودبُراً، واعتراضاً، ومن عَلُ، وأنه قد أعطى في سلاحه وكفِّه فضل قوَّة لما استخذى له، ولما أطمعه بهرَبِه، حتّى صارت جُرأته عليه بأضعاف ما كانت.
قال بعضُ بني مروان في قتل عبد الملك عَمْرو بن سعيد:

بغاثٌ من الطّيرِ اجتمعن على صقْر

 

كأنَّ بني مَـرْوان إذ يقـتـلـونـه

ما يقبل التعليم من الحيوان وأمَّا قوله:

والفيل والكَلْبة واليَعْرُ

 

والدُّبُّ والقِرد إذا عُلِّما

فإن الحيوان الذي يَلْقَن ويَحْكِي ويَكيِسُ ويُعلَّم فيزداد بالتّعليم في هذه التي ذكرنا، وهي الدّبّ والقِرد، والفيل، والكلب.
وقوله: اليعر، يعني صغار الغنم، ولعمري أنَّ في المكّيّة والحبشيَّة لعباً.
حب الظبي للحنظل والعقرب للتمر وأمَّا قوله:

وعَقْرَبٌ يُعْجِبها التَّمرُ

 

وظبيةٌ تخضِمُ في حَنْظل

ففي الظَّبي أعاجيبُ من هذا الضرب، وذلك أنّه ربّما رَعى الحنظل، فتراه يقبِضُ ويعضُّ على نِصف حنظلةٍ فيقدّها قد الخسْفة فيمضغُ ذلك النصفَ وماؤُه يسيلُ من شدقيه، وأنت ترى فيه الاستلذاذ له، والاستحلاء لطعمه.
وخبرني أبو محجن العنزيّ، خالُ أبي العميثل الرّاجز، قال: كنت أرى بأنطاكية الظّبي يُرِدُ البحر، و يشربُ المالحَ الأجاج.
والعقْرب ترمي بنفسها في التَّمر، وإنّما تطلب النَّوى المُنْقع في قعر الإناء.
فأيُّ شيء أعجبُ من حيوانٍ يستعذب مُلوحة البحر، ويستحلي مرارة الحنظل.
وسنذكر خصال الظّبي في الباب الذي يقع فيه ذكره إن شاء الله تعالى، ولسنا نذكر شأن الضبِّ والنَّمل، والجعل والرَّوث والورد لأنّا قد ذكرناه مرّة.
فأرة البيش وأمّا قوله:

والخلْدُ فيه عجبٌ هترُ

 

وفأرة البِيش إمامٌ لهـا

فإن فأرة البيش دُويْبة تشبة الفأرة، وليست بفأرة، ولكن هكذا تسمّى، وهي تكون في العياض والرِّياض ومنابت الأهضام، وفيها سمومٌ كثيرة، كقرون السُّنْبل، وما في القُسْط، فهي تتخلَّل تلك الأهضام، وتطلب السُّمومَ وتغتذيها، والبيش: اسمٌ لبعض السُّموم، وهذا ممّا يُعجب منه.
وقد ذكرنا شأن القنقذ والحيَّة في باب القول في الحيّات.
العضرفوط والهدهد وأمَّا قوله: وعضرفوطٌ ما له قِبْلة فهو أيضاً عندهم من مطايا الجنّ، وقد ذكره أيمنُ بن خُريم فقال:

تجوب العِراقَ وتَجْبي النَّبِيطا

 

وخيلُ غزالة تَـنْـتـابُـهُـمْ

كما أجْحَرَ الحيَّةُ العَضْرفوطا

 

تَكُرُّ وتُجْحِر فُـرسـانَـهُـمْ

لأن العضرفوط دويْبّة صفيرةٌ ضعيفة، والحيّات تأكلها وتغصِبها أنفسها.
وأنشدوا على ألسنة الجنّ:

يبادِرُ وِرْداً مِنْ عظاءٍ قوارِبِ

 

ومن عَضْرَفوطٍ حَطَّ بي فأقمته

وأمّا قولُه:

وهدهدٌ يُكْفِرُهُ بكرُ

فإنَّما ذلك لأنَّه كان حاجَّ بكر ابن أختِ عبد الواحد صاحب البكريَّةِ، فقال له: أتخبرُ عن حال الهدهُدِ بخبر? إنه كان يعرفُ طاعة اللّه عزَّ وجل من معصيته، وقد ترك موضِعَه وسار إلى بلاد سبأ، وهو وإن أطرف سليمان بذلك الخبر وقبِله منه فإنَّ ذَنْبَه في ترْك موضعه الذي وُكِّل به، وجولانِه في البُلدان على حاله، ولا يكون ذلك مما يجعل ذنبه السابق إحساناً، والمعصيةُ لا تنقلبُ طاعة، فلم لا تشهد عليه بالنِّفاق? قال: فإني أفعل قال: فحكى ذلك عنه فقال: أمّا هو فقد كان سلم على سُليمان وقد كان قال: "لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شديداً أوْ لأذْبحنّهُ أوْ ليَأْتينِّي بِسُلْطانٍ مُبينٍ"، فلمَّا أتاه بذلك الخبر، رأى أنّه قد أدلى بحجّة، فلمْ يعذِّبْه، ولم يذبَحْه، فإن كان ذنبُه على حاله، فكيف يكون ما هجم عليه ممَّا لم يُرسل فيه ولم يقْصِد له حُجَّة? وكيف يُبْقي هذا عليه. وبكر يزعم أن الأطفال والبهائم لا تأثم، ولا يجوز أن يُؤْثم الله تعالى إلاّ المسيئين، فقال بشرٌ لبَكْر: بأيِّ شيءٍ تستدلُّ على أنّ المسيء يعلمُ أنه مسيء? قال: بخجله، واعتذاره بتوبته، قال: فإنّ العقرب متى لسعت فرّتْ من خوف القتْل، وهذا يدلُّ على أنَّها جانية، وأنت تزعمُ أنّ كلَّ شيءٍ عاصٍ كافرٌ، فينبغي للعقرب أن تكون كافرة، إذا لم يكن لها عذرٌ في الإساءة.
الببر والنمر وأمّا قوله:

إذا تلاقى الليث والنَّمْرُ

 

والبَبْرُ فيه عجبٌ عاجبٌ

لأنّ الببر مسالِمٌْ للأسد، والنَّمر يطالبه، فإذا التقيا أعان الببر الأسد.
الخفاش والطائر الذي ليس له وكر وأمّا قوله:

وطائِرٌ ليس له وكـرُ

 

وطائِرٌ أشْرَفُ ذو جُرْدة

فإنّ الأشرفَ من الطَّير الخُفّاش، لأنَّ لآذانها حجماً ظاهراً، وهو متجرِّدٌ من الزَّغب والرِّيش، وهو يلد.
والطّائِر الذي ليس له وكرٌ، هو طائرٌ يخبر عنه البحريُّون أنّه لا يسقُط إلاّ ريثما يجعلُ لبيضه أُدحيّاً من تراب، ويغطّي عليه، ويطير في الهواء أبداً حتّى يموت، وإن لقى ذكرٌ أنثى تسافدا في الهواء، وبيضه يتفقص من نفسه عند انتهاء مُدَّته، فإذا أطاق فرخُه الطّيران كان كأبويه في عاداتهما.
الثعالب والنسور والضباع وأمّا قوله:

وعسْكرٌ يتبعه النـسـرُ

 

وثُرْمُلٌ تأوي إلى دَوْبَـلٍ

أبرمها في الرحم العُمْرُ

 

يُسالم الضّبْعَ بذي مـرةٍ

فالثرْملة: أنثى الثّعالب، وهي مسالمِة للدَّوبل، وأمَّا قوله:

وعسكر يتبعه النّسر

فإن النسور تتبع العساكر، وتتبع الرِّفاق ذواتِ الإبل، وقد تفعل ذلك العِقبان، وتفعله الرَّخم، وقد قال النَّابغة:

كتائبُ من غسـانَ غـيرُ أشـائب

 

وثقتً بالنصرِ إذ قيل لهً قد غـدتْ

أولئك قومٌ بأسهـمْ غـيرُ كـاذب

 

بنو عمِّه دنيا وعمرو بن عـامـر

عصائبُ طيرٍ تهتدى بعـصـائب

 

إذا ما غزوا بالجيشِ حلقَ فوقهـمْ

إذا ما التقى الجمعانِ أوّل غالـبِ

 

جوانـحُ قـد أيقـنَّ أن قـبـيلـه

جلوسَ الشيوخِ في مسوك الأرانب

 

تراهنَّ خلفَ القومِ خزراً عيونهـا

والأصمعي يروي: جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانِب.
وسباع الطير كذلك في اتباع العساكر، وأنا أرى ذلك من الطمع في القتلى، وفي الرَّذايا والحسْرَى، أو في الجهيض وما يُجْرح.
وقد قال النّابغة:

لَهُـنَّ رذَايا بـالـطَّـريقِ وَدائِعُ

 

سَمَاماً تُباري الرِّيحَ خُصوماً عُيونُها

وقال الشاعر:

أخو قَفْرَةٍ بادِي السَّغابَةِ أطْحَلُ

 

يشُقّ سماحِيقَ السّلا عن جَنينِها

وقال حُميد بن ثور في صفة ذئب:

من الطير ينظرْن الذي هو صانعُ

 

إذا مـا بـدا يومـاً رأيتَ غـيايةً

لأنّه لا محالة حين يسعى وهو جائع، سوف يقع على سبع أضعف منه أو على بهيمةٍ ليس دونها مانع.
وقد أكثر الشُّعراءُ في هذا الباب حتّى أطنب بعضُ المحدثين وهو مسلم بن الوليد بن يزيد فقال:

وَيجعلُ الهامَ تِيجان القنا الذُّبُلِ

 

يكسو السيوف نفوس الناكثين به

فهُنَّ يتْبعْنَه في كلِّ مُرْتَـحـلِ

 

قد عَوَّدَ الطَّيرَ عاداتٍ وثِقْنَ بها

ولا نعلم أحداً منهم أسرَفَ في هذا القول وقال قولاً يُرغبُ عنه إلا النابغة، فإنَّه قال:

إذا ما التقى الجمعانِ أوّلُ غالبِ

 

جوانحُ قد أيقـنَّ أنّ قـبـيلـهُ

وهذا لا نُثْبته. وليس عند الطَّير والسِّباع في اتّباع الجموع إلاَّ ما يسقط من ركابهم ودوابِّهم وتوقّع القتل، إذْ كانوا قد رأوا من تلك الجُموع مرَّةً أو مراراً، فأمّا أن تقصد بالأمل واليقين إلى أحد الجمعين، فهذا ما لم يقلْه أحدٌ.
نسر لقمان وقد أكثر الشُّعراءُ في ذكر النسور، وأكثر ذلك قالوا في لُبَد.
قال النَّابغة:

أخْنى عَلَيْها الذي أخْنَى على لُبَـدِ

 

أضحَتْ خلاءً وأمْسى أهلُها احتملُوا

فضربه مثلاً في طُول السَّلامة، وقال لبيد:

من بين قائمِ سيفهِ والمحمل

 

لما رأى صبحٌ سوادَ خليلـه

وبكر يزعم أن الأطفال والبهائم لا تأثم، ولا يجوز أن يُؤْثم الله تعالى إلاّ المسيئين، فقال بشرٌ لبَكْر: بأيِّ شيءٍ تستدلُّ على أنّ المسيء يعلمُ أنه مسيء? قال: بخجله، واعتذاره بتوبته، قال: فإنّ العقرب متى لسعت فرّتْ من خوف القتْل، وهذا يدلُّ على أنَّها جانية، وأنت تزعمُ أنّ كلَّ شيءٍ عاصٍ كافرٌ، فينبغي للعقرب أن تكون كافرة، إذا لم يكن لها عذرٌ في الإساءة.
الببر والنمر وأمّا قوله:

إذا تلاقى الليث والنَّمْرُ

 

والبَبْرُ فيه عجبٌ عاجبٌ

لأنّ الببر مسالِمٌْ للأسد، والنَّمر يطالبه، فإذا التقيا أعان الببر الأسد.
الخفاش والطائر الذي ليس له وكر وأمّا قوله:

وطائِرٌ ليس له وكـرُ

 

وطائِرٌ أشْرَفُ ذو جُرْدة

فإنّ الأشرفَ من الطَّير الخُفّاش، لأنَّ لآذانها حجماً ظاهراً، وهو متجرِّدٌ من الزَّغب والرِّيش، وهو يلد.
والطّائِر الذي ليس له وكرٌ، هو طائرٌ يخبر عنه البحريُّون أنّه لا يسقُط إلاّ ريثما يجعلُ لبيضه أُدحيّاً من تراب، ويغطّي عليه، ويطير في الهواء أبداً حتّى يموت، وإن لقى ذكرٌ أنثى تسافدا في الهواء، وبيضه يتفقص من نفسه عند انتهاء مُدَّته، فإذا أطاق فرخُه الطّيران كان كأبويه في عاداتهما.
الثعالب والنسور والضباع وأمّا قوله:

وعسْكرٌ يتبعه النـسـرُ

 

وثُرْمُلٌ تأوي إلى دَوْبَـلٍ

أبرمها في الرحم العُمْرُ

 

يُسالم الضّبْعَ بذي مـرةٍ

فالثرْملة: أنثى الثّعالب، وهي مسالمِة للدَّوبل، وأمَّا قوله:

وعسكر يتبعه النّسر

فإن النسور تتبع العساكر، وتتبع الرِّفاق ذواتِ الإبل، وقد تفعل ذلك العِقبان، وتفعله الرَّخم، وقد قال النَّابغة:

كتائبُ من غسـانَ غـيرُ أشـائب

 

وثقتً بالنصرِ إذ قيل لهً قد غـدتْ

أولئك قومٌ بأسهـمْ غـيرُ كـاذب

 

بنو عمِّه دنيا وعمرو بن عـامـر

عصائبُ طيرٍ تهتدى بعـصـائب

 

إذا ما غزوا بالجيشِ حلقَ فوقهـمْ

إذا ما التقى الجمعانِ أوّل غالـبِ

 

جوانـحُ قـد أيقـنَّ أن قـبـيلـه

جلوسَ الشيوخِ في مسوك الأرانب

 

تراهنَّ خلفَ القومِ خزراً عيونهـا

والأصمعي يروي: جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانِب.
وسباع الطير كذلك في اتباع العساكر، وأنا أرى ذلك من الطمع في القتلى، وفي الرَّذايا والحسْرَى، أو في الجهيض وما يُجْرح.
وقد قال النّابغة:

لَهُـنَّ رذَايا بـالـطَّـريقِ وَدائِعُ

 

سَمَاماً تُباري الرِّيحَ خُصوماً عُيونُها

وقال الشاعر:

أخو قَفْرَةٍ بادِي السَّغابَةِ أطْحَلُ

 

يشُقّ سماحِيقَ السّلا عن جَنينِها

وقال حُميد بن ثور في صفة ذئب:

من الطير ينظرْن الذي هو صانعُ

 

إذا مـا بـدا يومـاً رأيتَ غـيايةً

لأنّه لا محالة حين يسعى وهو جائع، سوف يقع على سبع أضعف منه أو على بهيمةٍ ليس دونها مانع.
وقد أكثر الشُّعراءُ في هذا الباب حتّى أطنب بعضُ المحدثين وهو مسلم بن الوليد بن يزيد فقال:

وَيجعلُ الهامَ تِيجان القنا الذُّبُلِ

 

يكسو السيوف نفوس الناكثين به

فهُنَّ يتْبعْنَه في كلِّ مُرْتَـحـلِ

 

قد عَوَّدَ الطَّيرَ عاداتٍ وثِقْنَ بها

ولا نعلم أحداً منهم أسرَفَ في هذا القول وقال قولاً يُرغبُ عنه إلا النابغة، فإنَّه قال:

إذا ما التقى الجمعانِ أوّلُ غالبِ

 

جوانحُ قد أيقـنَّ أنّ قـبـيلـهُ

وهذا لا نُثْبته. وليس عند الطَّير والسِّباع في اتّباع الجموع إلاَّ ما يسقط من ركابهم ودوابِّهم وتوقّع القتل، إذْ كانوا قد رأوا من تلك الجُموع مرَّةً أو مراراً، فأمّا أن تقصد بالأمل واليقين إلى أحد الجمعين، فهذا ما لم يقلْه أحدٌ.
نسر لقمان وقد أكثر الشُّعراءُ في ذكر النسور، وأكثر ذلك قالوا في لُبَد.
قال النَّابغة:

أخْنى عَلَيْها الذي أخْنَى على لُبَـدِ

 

أضحَتْ خلاءً وأمْسى أهلُها احتملُوا

فضربه مثلاً في طُول السَّلامة، وقال لبيد:

 

من بين قائمِ سيفهِ والمحمل

 

لما رأى صبحٌ سوادَ خليلـه

فأصاب صبحاً قائماً لم يعقل

 

صبحنَ صبحاً يوم حقَّ حذاره

 

بين التراب وبين حنو الكلكل

 

فالتفَّ منقصفاً وأضحي نجمهٌ

 

ريبُ الزمانِ وكان غير مثقلِ

 

ولقد جرى لبدٌ فأدركَ جـريه

 

رفعَ القوادمَ كالفقير الأعزل

 

لما رأى لبد النسور تطـايرتْ

 

ولقد رأى لقمانُ أن لم يأتـل

 

من تحته لقمانُ يرجو نفعـه

 








وإن أحسنت الأوائل في ذلك فقد أحسن بعض المحْدَثين وهو الخزرجي في ذكر النَّسر وضرب المثل به وبلبد وصِحَّة بدنِ الغراب، حيث ذكرَ طولَ عمر مُعاذِ بن مُسلم بن رجاء، مولى القعقاع بن شَور وكان من المعَمرين، طعن في السن مائَةً وعشرينَ سنةً، وهو قوله:

قد ضجَّ من طولِ عمـره الأبـدُ

 

إن معـاذَ بـنَ مـسـلـمٍ رجـلٌ

دهـرً وأثـوابُ عـمـرِ جـدد

 

قد شابَ رأسُ الزمانِ واختضب ال

تلبـسُ ثـوبَ الـحـياةِ يا لـبـد

 

يا نسرَ لقمانَ كـمْ تـعـيشُ وكـمْ

وأنـتَ فـيه كـأنـك الـونــد

 

قد أصبـحـتْ دارُ آدمٍ خـربـتْ

كيفَ يكونُ الصـداعُ والـرمـد

 

تسألُ عربانـهـا إذا حـجـلـتْ

شعر وخبر فيما يشبه بالنسور

وما تعلق بالسَّحاب من الغيم يشبَّه بالنَّعام، وما تراكبَ عليه يُشبَّه بالنسور، قال الشاعر:

له كلُّ أمر أنْ يصوبَ ربيعُ

 

خليلىَّ لا تستسلما وادعوا الذي

وجبرٌ لعظمٍ في شظاه صدوعُ

 

حياً لبلادٍ أنفذ المحلُ عودهـا

جبالٌ عليهنّ النسورُ وقـوعُ

 

بمنتصر غرِّ النشاصِ كأنهـا

وعلَّ النوى بالظاعنينَ تـريعُ

 

عسى أن يحلّ جزعاً وإنـهـا

وشبّه العُجير السّلوليّ شُيوخاً على باب بعضِ الملوك بالنسور، فقال:

له من عمانيّ النُّجوم نـظـيرُ

 

فمنهن إسآدي على ضوء كوكبٍ

به القومُ يرْجونَ الأذين نُسـورُ

 

ومنهن قرْعي كلَّ بابٍ كأنّـمـا

له فوق أعواد السَّـريرِ زئيرُ

 

إلى فَطِنٍ يستخرج القلبَ طرْفُه

وذكرت امرأةٌ من هُذيلٍ قتيلاً فقالت:

مشيَ العذارى عَلَيهِنَّ الجلابيبُ

 

تمشى النسورُ إليه وهي لاهِيَةٌ

تقول: هي آمنةٌ أنْ تُذعر.
ومدح بعض الشُّعراء عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ فقال:

بجوٍّ شِخَابٌ ماضرٌ وصَبُـوحُ

 

وعند الكلابيِّ الذي حلَّ بيْتُـه

نُسورٌ إلى جَنْبِ الخوان جُنوحُ

 

ومكسورةٌ حمْرٌ كأنَّ مُتونهـا

مكسورة: يعني وسائد مثنيَّة، وقال ابن ميّادة:

شيخـاً أزبَّ كـأنَّـه نَـسْــرُ

 

ورَجَعْتُ مِنْ بَعْدِ الشَّبابِ وعصرِه

وقال طرفة:

مران إذ منع النسور

 

فلأ منعنَّ مَنَابتَ الضّ

وفي كتاب كليلة ودمنة: وكُنْ كالنَّسْرِ حَوْلَهُ الجيفُ، ولا تكنْ كالجِيفِ حولها النسور، فاعترض على ترجمة ابن المقفَّع بعضُ المتكلِّفين من فتيان الكتّاب فقال: إنما كان ينبغي أن يقول: كُنْ كالضِّرس حُفَّ بالتُّحَف، ولا تكنْ كالهبْرة تطيف بها الأَكَلة أطنّه أراد الضُّروس فقال الضّرس، وهذا من الاعتراض عجبٌ.
ويوصف النسر بشدّة الارتفاع، حتّى ألحقوه بالأنوق، وهي الرَّخمة.
وقال عديُّ بن زيد:

يَلْغَبُ النّسرُ دُونها والأَنوقُ

 

فوق عَلْياءَ لا يُنال ذُراهـا

وأنشدوا في ذلك:

الطَّيْشِ والعوراءِ والهذْرِ

 

أهل الدّناءةِ في مجالِسهِمْ

فهُمُ معَ العَيُّوق والنَّسْرِ

 

يَدْنون ما سألوا وإن سُئلوا

وقال زيد بن بِشْر التّغلبي، في قتل عمير بن الحباب:

بخفير ولا بغـيرِ خَـفـيرِ

 

لا يجُوزنَّ أرْضنا مُضَـرِيُّ

وألحَّت على بني مَنْصـورِ

 

طحنَتْ تغلبٌ هوازِنَ طحْنـاً

حَجَلانَ النسور حَوْلَ جَزُورِ

 

يومَ تَرْدي الكماةُ حول عمير

وقال جميل:

 

يدٌ وممرُّ العقدتـينِ وثـيقُ

 

وما صائبٌ من نابلٍ قذفتْ به

ونصلٌ كنصل الزاعبىِّ رقيقُ

 

له من خوافى النسرِ حمٌّ نظائرٌ

 

فمتنٌ وأما عودها فعـتـيق

 

على نبعةٍ زوراءً أما خطامها

 

نوافذَ لم تظهرْ لهن خـروق

 

بأوشكَ قتلاً منكِ يومَ رميتنـى

 

تكشفُ غماها وأنتِ صـديقُ

 

فلمْ أرَ حرباً يا بثينَ كحربـنـا

 








مسالمة النسر للضبع وأما قوله:

رَمها في الرَّحِمِ العُمْرُ

 

يُسالم الضّبْع بذي مِرّةٍ

لأنَّ النَّسر طيرٌ ثقيلٌ، عظيمٌ شرِهٌ رغيبٌ نهم، فإذا سقط على الجيفة وتملأ لم يستطعِ الطّيران حتى يثب وثباتٍ، ثمّ يدور حولَ مسقطهِ مِراراً، ويسقُط في ذلك، فلا يزالُ يرفع نفسه طبقةً طبقةً في الهواء حتى يُدخِلَ تحته الرِّيح، فكلُّ من صادفه وقد بَطِن وتملأ، ضربه إن شاء بعصاً، وإن شاء بحجر، حتّى ربما اصطاده الضَّعيف من الناس.
وهو مع ذلك يشارك الضَّبع في فريسة الضبع، ولا يثبُ عليه، مع معرفته بعجْزِه عن الطّيران، وزعَمَ أنّ ثقته بطول العمر هو الذي جرَّأه على ذلك.

ستطراد لغوي

ويقال: هوت العُقاب تهوي هُوِيّاً: إذا انقضّت على صيدٍ أو غيره ما لم ترِغه، فإذا أراغتْه قيل أهوت له إهواءً، والإهواء أيضاً التَّناول باليد، والإراغة أن يذهب بالصيد هكذا وهكذا.
ويقال دوَّم الطائر في جوّ السّماء، وهو يدوِّم تدويماً: إذا دار في السماء ولا يحرك جناحيه.
ويقال نسره بالمِنْسَر، وقال العجَّاج:

كعَابِرَ الرؤوس منها أو نسَرْ

 

شاكي الكلاليب إذا أهْوى ظَفَرْ

والنسر ذو منسر، وليس بذي مخلب، وإنما له أظفارٌ كأظفار الدّجاج.
وليس له سلاحٌ، إنّما يقوى بقوّة بدنه وعِظمه، وهو سبعٌ لئيمٌ عديم السِّلاح، وليس من أحرار الطير وعِتاقها.

ولوع عتاق الطير بالحمرة

ويقال إنّ عتاق الطير تنقضُّ على عُمود الرّحل وعلى الطِّنفسة والنمرق فتحسبه لحمرته لحماً، وهم مع ذلك يصفونها بحدَّة البصر ولا أدري كيف ذلك.
وقال غيلان بن سلمة:

رَيعٌ كأنّ مَتونَه السَّحـلُ

 

في الآل يخفِضُها ويرفَعُها

كِللٌ على ألوانها الخَمْـلُ

 

عَقْلاً ورَقْماً ثـمَّ أردفـه

وكأنَّهنَّ ضوامـراً إجـلُ

 

كدم الرُّعافِ على مآزرها

وهذا الشِّعر عندنا للمسيَّب بن عَلس وقال علْقمة بن عَبدة:

وكلّهَا بالتَّزيدِياتِ مَـعْـكُـومُ

 

ردّ الإماءُ جمالَ الحيِّ فاحتملوا

كأنّه من دَمِ الأجوافِ مَدْمُـومُ

 

عَقْلاً ورَقْماً يظلُّ الطّيرُ يتبعُه

شعر في العقاب وقال الهذليّ:

تحتَ الرِّداء بصيرةٌ بالمشرفِ

 

ولقد غَدَوْتُ وصاحبي وحشـيَّةٌ

سوداءَ، رَوْثَةُ أنفها كالمِخْصَفِ

 

حتَّى أتيتُ إلى فراش عـزيزةٍ

يعني عقاباً، وقوله: بصيرة بالمشرف يريد الرّيح من أشرفَ لها أصابتْه.
وقال الآخرُ في شبيهٍ بهذا:

إنّ الرِّماح بصيرةٌ بالحاسِرِ

 

فإذا أتتْكُمْ هذه فتلـبّـسُـوا

وقال آخر:

مِن العِقْبانِ خائِتَةً طَلُـوبـا

 

كأنِّي إذْ عَدَوْا ضَمَّنْتُ بـزِّي

تَرى لعِظامِ ما جَمعَتْ صليبا

 

جريمةَ ناهضٍ في رأس نيقٍ

وقال طُفيل الغنويّ:

إذا ما نَوَوْا إحداثَ أمْرٍ مُعَطّبِ

 

تبيتُ كعِقْبان الشُّرَيف رجالـه

أي أمهلوا، وقال دُريد:

وكلُّ امرىءٍ قد بانَ إذْ بان صاحبه

 

تعللتُ بالشطاء إذْ بانَ صاحـبـى

لها ناهضٌ في وكرها لا تجانبـه

 

كأنى وبزى فوقَ فتخـاءَ لـقـوةٍ

تراقبُ ليلاً ما تغورُ كـواكـبـه

 

فباتتْ عليه ينفضُ الطلًّ ريشـهـا

تنفض حسرى عن أحصٍ مناكبه

 

فلما تجلى الليلُ عنها وأسـفـرت

إلى حرةٍ والموتُ عجلانُ كاربـه

 

رأت ثعلباً من حرةٍ فـهـوتْ لـهُ

وبالقلب يدمى أنـفـه وتـرائبـه

 

فخرَّ قتيلاً واستمـر بـسـحـره

جفاء العقاب  زعم صاحبُ المنطق أنّه ليس شيءٌ في الطّير أجفى لفِراخه من العُقاب وأنّه لا بدّ من أن يُخْرجَ واحداً، وربما طردَهُنَّ جميعاً حتّى يجيء طائرٌ يسمّى كاسر العظام فيتكفّل به.
ودريدُ بن الصِّمَّة يقول:

لها ناهضٌ في وكْرها لا تجانِبُه

 

كأني وبزِّي فوق فتخاءَ لـقْـوةٍ

ما يعتري العقاب عند الشبع وقد يعتري العُقاب، عند شِبعها من لحم الصّيد، شبيهٌ بالذي ذكرنا في النسر، وأنشد أبو صالحٍ مسعود بن قنْد، لبعض القيسيِّين:

بوحْفاء قَفْرٍ ما يدِبُّ عُـقـابُـهـا

 

قرى الطّير بعد اليأس زيدٌ فأصبحتْ

ولا العِرْمسَ الوَجناء قد شقَّ نابُهـا

 

وما يتخطّى الفحلَ زيدٌ بـسـيفـهِ

يقطِّع أقران الجِبـالِ جـذابُـهـا

 

وإن قـيل مَـهْـلاً إنّـه شـدنِـيّةٌ

خبّر أنّه يعتري العُقاب من الثِّقل عند الطيران، من البِطْنة، ما يعتري النسر.
شعر في العقاب وقال امرؤُ القيس - إن كان قاله -:

فتخاءُ لاحَ لها بالقـفـرةِ الـذيبُ

 

كأنها حين فاض الماءُ واحتمـلـتْ

ودونَ موقعها منـهُ شـنـاخـيب

 

فأبصرت شخصهُ من فوقِ مرقـبةٍ

يحثُّها من هوىِّ اللوح تـصـويب

 

فأقبلتْ نحوه في الجـوِّ كـاسـرةً

إنَّ الشقاء على الأشقين مصبـوبُ

 

صبتْ عليه ولم تنصبّ مـن أمـمٍ

إذْ خانها وذمٌ منـهـا وتـكـريب

 

كالدلو بتتُ عراها وهي مـثـقـلةٌ

ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب

 

لا كالتي في هواء الجـوِّ طـالـبةً

ما في اجتهادٍ على الإصرار تغبيب

 

كالبرق والريح مرآتاهما عـجـبٌ

فانسل من تحتها والدفُّ مثـقـوب

 

فأدركته فنالـتـه مـخـالـبـهـا

منها ومنه على الصخر الشآبـيب

 

يلوذُ بالصخر منها بعدَ ما فـتـرت

وباللسان وبالشـدقـين تـتـريب

 

ثم استغاثت بمتنِ الأرض تعـفـرهُ

ولا تحرزَ إلاّ وهـو مـكـتـوب

 

ما أخطأته المنـايا قـيسَ أنـمـلةِ

ويرقب الليلَ إنَّ الليلَ محـبـوب

 

يظلُّ منجحراً منـهـا يراقـبـهـا

وقال زهير:

تَنتِخُ أعيُنَها العِقبانُ والرَّخَمُ

 

تنبذُ أفلاذهَا في كلِّ منْزلةٍ

تنتِخ: أي تنزع وتستخرج، والعرب تسمِّي المنقاش المِنتاخ.
ويقال: نقّت الرَّخمُ تنقُّ نقيقاً، وأنشد أبو الجرَّاح:

كأنَّ نَقيقَهُنَّ نقيِقُ رُخـمِ

 

حديثاً من سماعِ الدَّلِّ وعر

والنقيق مشترك، يقال: نقّ الضفدع ينقُّ نقيقاً.
ويقال: أعزُّ من الأبْلق العَقُوق، و: أبعدُ من بيض الأنوق.
فأمَّا بيض الأنوق فربما رئي، وذلك أنَّ الرَّخم تختارُ أعاليَ الجبال، وصدُوعَ الصَّخر، والمواضِعَ الوحشيّة، وأمّا الأبلق فلا يكون عقوقاً، وأما العقوق البلْقاء فهو مَثلٌ، وقال:

من الأُدْمِ مخماص العشيِّ سلوبُ

 

ذكرناكِ أن مَرَّتْ أمامَ ركـابـنـا

براثِنُها وراحُـهـنَّ خَـضـيبُ

 

تدلّتْ عليها تَنفُضُ الرّيش تحتهـا

من الطَّودِ فأْوٌ بينهـا ولـهـوبُ

 

خداريَّة صقْعاء دُون فـراخِـهـا

فمطعَمُهُ جُنْحَ الظّلامِ نَـصـيبُ

 

إذا القانِص المحروم آبَ ولم يُصِبْ

كما قام فوق المنْصِتِين خطـيبُ

 

فأصبحت بعد الطير ما دون فارة

وقال بشرُ بن أبي خازم:

على زَلق زُمَالقَ ذي كهافِ

 

فما صَدْعٌ بِخيَّة أو بَـشَـرْقٍ

مخالبُها كأطْرافِ الأشافـي

 

تَزلُّ اللِّقْوة الشَّغْواء عنـهـا

وقال بشر أيضاً:

مع الـنَّـسْـر فَـتـخـاءُ الـجـنـاح قــبـــوضُ

 

تداركَ لَـحـمـي بـعـدَ مـا حَـلّــقـــتْ بـــه

 

 

فإن تجعلِ النَّعماء منك تمامَةًونُعماك نعمى لا تزال تفيضُ

وأيدي الـنّـدى فـي الـصـالـحـــين قـــروض

 

تكنْ لك في قومي يدٌ يشكرونها

وعلى شبيهٍ بهذا البيت الآخر، قال الحطيئة:

لا يذْهبُ العُرْفُ بين اللّهِ والنَّاسِ

 

مَنْ يفعل الخيرَ لا يَعدَمْ جـوازيَهُ

وقال عقيل بن العرندس:

فيالكِ نفساً كيف حان ذُهولها

 

حبيبٌ لقرطاسٍ يؤدِّي رسـالة

بملتفَّةِ الأفنانِ حيلٌ مقيلُـهـا

 

وكنت كفرخِ النسْر مُهِّد وكْرُه

التمساح والسمك وأما قوله:

وسابحٌ ليس له سَحْرُ

 

وتِمْسحٌ خَلَّلَهُ طـائرٌ

فالتمساح مختلف الأسنان، فينشب فيه اللحم، فيغمُّه فيُنتن عليه، وقد جُعل في طبعه أن يخرُج عند ذلك إلى الشط، ويشحا فاه لطائر يعرفه بعينه، يقال إنه طائرٌ صغير أرقط مليح، فيجيء من بين الطير حتى يسقط بين لحييه ثم ينقرُه بمنقاره حتّى يستخرج جميع ذلك اللحم، فيكون غذاءً له ومعاشاً، ويكونُ تخفيفاً عن التِّمساح وترفيهاً، فالطائر الصغير يأتي ما هنالك يلتمس ذلك الطُّعم، والتمساح يتعرَّض له، لمعرفته بذلك منه.
وأما قوله: وسابح ليس له سَحْر، فإن السمك كلَّه لا رئة له، قالوا: وإنما تكون الرِّئة لمن يتنفس، هذا، وهم يرون منخري السَّمك، والخرق النَّافذ في مكان الأنف منه، ويجعلون ما يرون من نفسه إذا أخرجوه من الماء أن ذلك ليس بنفس يخرج من المنخرين، ولكنه تنفس جميع البدن.
العث والحفاث وأما قوله:

وخرنقٌ يسفِـده وَبْـرُ

 

والعُث والحُفّاث ذو نفخةٍ

فإنَّ الحُفَّاث دابّة تشبه الحيّة وليست بحيّة، وله وعيدٌ شديدٌ، ونفْخ وتوثُّب، ومن لم يعرفْه كان له أشدَّ هيبةً منه للأفاعي والثّعابين، وهو لا يضرُّ بقليل ولا كثير، والحيّات تقتله، وأنشد:

قَدْ عضَّه فقضى عليه الأسودُ

 

أيفايشون وقد رأوْا حُفّاثـهـم

والعثُّ: دويْبة تقرض كلَّ شيء، وليس له خطرٌ ولا قوّة ولا بدن.
قال الرَّاجز:

وما يحثُّ من كبيرٍ عَثِّ

 

يحثُّني ورْدانُ أيَّ حـثّ

 

 

إهابُه مثلُ إهاب العُثّ

وأنشد:

فطاحَ الأهلُ واجتِيحَ الحريمُ

 

وعَثٍّ قدْ وكلْتُ إليه أهْلـي

ولا صَكٌّ إذا ذكر القضِـيمُ

 

وما لاهى به طرفٌ فيوحي

وأنشد آخر:

فقد يقرض العثُّ مُلْسَ الأديمِ

 

فإن تشتمونا على لُـؤْمِـكُـمْ

وقالوا في الحُفَّاث، هجا الكروبي أخاه فقال:

وحُفَّاثٌ إذا اجتمع الفريقُ

 

حُبارى في اللِّقاء إذا التقينا

وقال أعرابي:

وينفخُ نَفْخَ الكيرِ وهو لَـئيمُ

 

ولستُ بحفَّاثٍ يُطاوِلُ شَخْصَهُ

وقع بين رجلٍ من العرب ورجل من الموالي كلامٌ، فأربى عليه المولى، وكان المولى فيه مَشابهُ من العرب والأعراب، فلم يشكَّ ذلك العربيُّ أن ذلك المولى عربيُّ، وأنَّه وسط عشيرتِه، فانخزل عنه فلم يكلمْه، فلما فارقه وصار إلى منزله علم أنه مولى، فبكر عليه غُدوةً، فلما رأى خِذْلان جلسائه له ذلَّ واعتذر، فعند ذلك قال العربيُّ في كلمةٍ له:

ولا نفض للأشخاصِ حتّى تكشّفَا

 

ولم أدْرِ ما الحفاثُ حتّى بلـوتُـه

وقد أدركتُ هذه القضية وكانت في البحرَين، عند مسحر بن السكن عندنا بالبصرة، فهو قوله: والعثّ والحفّاث ذو نفخةٍ لأن الحفاث له نفْخ وتوثُّب، وهو ضخمٌ شنيعُ المنظر، فهو يهول من لا يعرفه. وكان أبو ديجونة مولى سليمان، يدَّعي غاية الإقدام والشَّجاعة والصَّرامة، فرأى حُفّاثاً وهو في طريق مكة، فوجده وقد قتله أعرابيٌّ، ورآه أبو ديجونة كيف ينفخ ويتوعّد، فلم يشك إلا أنه أخبتُ من الأفعى ومن الثعبان، وأنه إذا أتى به أباه وادعى أنه قتله سيقضي له بقتل الأسد والببْر والنمر في نِقاب، فحمله وجاء به إلى أبيه وهو مع أصحابه، وقال: ما أنا اليوم إلا ذيخ وما ينبغي لمن أحسَّ بنفسه مثل الذي أُحِس أن يُرمى في المهالك والمعاطب، وينبغي أن يستبقيها لجهادٍ أو دفعٍ عن حُرْمة وحريمٍ يذبُّ عنه وذلك أني هجمْت على هذه الحيّة، وقد منعت الرِّفاق من السُّلوك، وهربت منها الإبل، وأمعَنَ في الهرب عنه كلُّ جمّالٍ ضخم الجزارة، فهزتني إليه طبيعة الأبطال، فراوغتها حتى وهب اللّه الظَّفر، وكان من البلاء أنها كانت بأرضٍ ملساء ما فيها حصاة، وبصُرْتُ بفهر على قاب غلوة، فسعيت إليه - وأنا أسوارٌ كما تعلمون - فو اللّه ما أخطاتُ حاقَّ لهِزْمته حتى رزق اللّه عليه الظَّفر، وأبوه والقومُ ينظرون في وجْهه، وهم أعلم النَّاس بضعْف الحُفّاث، وأنَّه لم يؤذ أحداً قط، فقال له أبوه: ارم بهذا من يدك، لعنك اللّه ولعنهُ معك، ولعنَ تصديقي لك ما كنْت تدَّعيه من الشَّجاعة والجراءة فكبّروا عليه وسمَّوة قاتل الأسد.
ومما هجوا به حين يشبِّهون الرَّجل بالعث، في لؤْمه وصِغر قَدرِه قول مُخارق الطائي، حيث يقول: ???نقضص صفحة349 من الكتاب الوبر والخرنق وأما قوله:

وخِرنقٌ يسفدُه وبْرُ

فإنَّ الأعراب يزعمون أنّ الوبْر يشتهِي سِفاد العِكرشَة - وهي أنثى الأرانب - ولكنّه يعجز عنها، فإذا قدَر على ولدِها وثَبَ عليه، والأنثى تسمى العِكرِشة، والذَّكر هو الخُزَر، والخِرنِق ولدهما، قال الشاعر:

في جَحْجَحان إلى أسافِلِ نقنـقِ

 

قبَحَ الإلَه عِصابةً نـادمـتُـهـمْ

لمحَرَّبٍ ذَكَرِ الحديدِ مُـعـرِّقِ

 

أخَذُوا العِتَاق وعرَّضُوا أحسابَهُمْ

مُتشبِّثين بزاحفٍ مـتـعـلِّـقِ

 

ولقد قرعتُ صَفاتَكمْ فوجدْتُكـم

خرْعاءَ مَكْسِرُها كعودٍ محرَقِ

 

ولقد غَمَزْتُ قناتَكم فوجدتـهـا

قبْضَ العُقابِ على فؤاد الخِرنقِ

 

ولقد قبَضْتُ بقلبِ سَلْمةَ قبـضةً

في وكرِ مرتفعِ الجنابِ معلَّـقِ

 

ثمَّ اقتحَمْتُ لِلَحمهِ فـأكـلـتـه

قالوا: إنه قالها أبو حبيب بعد أن قال جُشَمُ ما قال، وقد قدَّم إليه طعامه.
مايشبه الخزز ووصف أعرابيٌّ خلْقَ أعرابيٍّ فقال: كأن في عََضَلته خُزَزاً، وكأنّ في عضده جُرذاً.
وأنشدوا لماتحٍ ووصفَ ماتحاً، ورآه يستقي على بئرهِ، فقال:

دَلواً جَرُوراً وجَلالاً خُـزَخِـزْ

 

أعدَدْت للوِرد إذ الوِردُ حَـفـزْ

كأنَّ تحتَ جِلْدِه إذا احـتـفـزْ

 

وماتِحاً لا ينْثَني إذا احـتـجَـزْ

 

 

في كلِّ عضوٍ جُرَذين أو خُزَزْ

وسنقول في الأرنب بما يحضرنا إن شاء اللّه تعالى.
القول في الأرانب قال الشاعر:

ضخماً يوازِنه جنَاحُ الجنْدبِ

 

زَعَمَتْ غُدانة أن فيها سـيِّداً

سُكراً ويُشْبِعه كراعُ الأرنب

 

يُروِيه ما يُروِي الذُّبابَ فينتَشي

وإنما ذكرَ كراعَ الأرنب من بين جميع الكراعات لأنَّ الأرنب هي الموصوفة بقصر الذِّراع وقصر اليد، ولم يُرد الكُراع فقط، وإنما أراد اليدَ بأسْرها، وإنما جعل ذلك لها بسببٍ نحن ذاكروه إن شاء اللّه تعالى.
والفرس يُوصف بقِصر الذِّراع فقط.

التوبير

والتَّوبير لكلِّ محتالٍ من صغار السِّباع، إذا طَمِع في الصيد أو خاف أنْ يُصاد، كالثّعلب، وعَناقُ الأرض هي التي يقال لها التُّفَة، وهي دابّة نحو الكلْب الصَّغير، تصيد صَيداً حسناً، وربَّما واثبَ الإنسان فعقَرَه، وهوأحسن صيداً من الكلْب.
وفي أمثالهم: لأَنتَ أغنى من التفَةِ عن الرُّفة، وهو التِّبن الذي تأكله الدوابُّ والماشية من جميع البهائم، والتُّفة سبعٌ خالصٌ لا يأكل إلا اللحم.
 والتَّوبير: أن تَضمَّ بَرَاثنِها فلا تطأ على الأرض إلا ببطن الكفِّ، حتى لا يُرَى لها أثر براثِنَ وأصابع، وبعضها يطأ على زمَعاته، وبعضها لا يفعل ذلك، وذلك كله في السهل، فإذا أخذت في الحُزونة والصَّلابة، وارتفعت عن السَّهل حيث لا تُرَى لها آثارٌ - قالوا: ظلفت الأثر تظلفه ظلْفاً، وقال النُّميري: أظلفَت الأثر إظلافاً.
بعض ما قيل في الأرنب وعن عبد الملك بن عمير، عن قَبيصة بن جابر: ما الدُّنيا في الآخرةِ إلاّ كنفْجة أرنب.
ويقال حذفته بالعَصا كما تُحذَف الأرنب.
وقال أبو الوَجيه العُكْلي: لو كانت واللّه الضبّة دجَاجةً لكانت الأرنب دُرَّاجة، ذهب إلى أنّ الأرانب والدُّرَّاج لا تستحيل لحومها ولا تنقلِبُ شحوماً، وإنّما سِمَنها بكثرة اللّحم، وذهب إلى ما يقول المعجبون منهم بلحْم الضّبّ؛ فإنّهم يزعُمون أنّ الطعمين متشابهان، وأنشد:

لما تَرَكْتَ الضَّبَّ يَسعَى بالوادْ

 

وأنتَ لو ذُقْتَ الكشى بالأكبـادْ

قال: والضبّ يعرض لبيض الظّليم؛ ولذلك قال الحجَّاج لأهل الشّام: إنّما أنا لكم كالظّليم الرَّامح عن فراخه، ينفي عنها المَدَر، ويباعدُ عنها الحجَر، ويُكِنُّها من المطَر، ويحميها من الضِّباب، ويحرُسُها من الذئاب، يا أهلَ الشّام أنتم الجُنّة والرِّداء، وأنتم العُدّة والحذاء.

ما يشبه بالأرنب

ثم رجع بنا القول إلى الأرانب، فممَّا في الخيل مما يُشبِه الأرنب قول الأعشى:

جِذعٌ سَمَا فوقَ النَّخيل مشـذَّبُ

 

أمَّا إذا استقبلـتَـه فـكـأنَّـه

فتقولُ سِرْحَانُ الغَضَا المتنصِّبُ

 

وإذا تصفَّحه الفَوارِسُ مُعْرِضاً

ساقٌ يُقمِّصُها وظيف أحْـدَبُ

 

أمَّا إذا استدبرته فـتـسـوقُـه

كشَطتْ مَكان الجَلِّ عَنْهَا أَرْنَبُ

 

مِنْه وجاعرةٌ كأنّ حَمـاتَـهـا

وقال عبد الرَّحمن بن حسّان:

ن غيضتا خيفةَ الأَجْدَلِ

 

كأنّ حَماتَيْهمَا أرْنَـبـا

طول عمر الأغضف والأرنب

وأنشد الأثرم:

وأرنب الخُلّةِ تِلْوُ الـدَّهـرِ

 

بأغْضَفَ الأُذْنِ الطَّوِيل العمر

قد سمعتُ من يذكر أنّ كِبَرَ أذنِ الإنسان دليلٌ على طُول عمره، حتَّى زعُموا أنّ شيخاً من الزَّنادقة، لعنهم اللّه تعالى، قدّموه لتُضرب عنقُه فعَدَا إليه غلامٌ سعديٌّ كان له، فقال: أليسَ قد زعمتَ يا مولايَ أنّ من طالت أذُنه طال عمره? قال: بلى قال: فهاهم يقتلونك قال: إنما قلت: إن تركوه.
وأنا لا أعرف ما قال الأثرم، ولا سمعتُ شِعراً حديثاً ولا قديماً يُخبرُ عن طول عُمر الأرنب، قال الشّاعر:

تسقى دَم الجوفِ لظفرِ قاصرْ

 

مِعْبلة في قِدْح نَـبْـعٍ حـادِرْ

أو كروانٌ أو حُبارى حاسِـرْ

 

إذ لا تـزال أرنـبٌ أو فـادِرْ

 

 

إلى حمار أو أتان عـاقـرْ

لبن الأرنب

قال: ويزعمون أنه ليس شيءٌ من الوحْش، في مثل جسم الأرنب أقلَّ لبناً ودُرُوراً على ولَدٍ منها، ولذلك يُضرَبُ بدَرِّها المثل، فممَّن قال في ذلك عَمرو بن قَميئة، حيث يقول:

ص دَرُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ

 

ليس بالمطعم الأرانِب إذْ قلّ

لي عُكوفاً على قُرارة قِدْرِ

 

ورأيتَ الإماء كالجِعثن البا

جَنِ يَنباع من وراء السِّترِ

 

ورأيتَ الدُّخانَ كالودع الأه

رُّ خرُيسٍ من الأرانب بِكرِ

 

حاضرٌ شرُّكُمْ وخَيْرُكـمُ دَ

قصر يدي الأرنب

والأرنب قصير اليدين، فلذلك يخفُّ عليه الصَّعْداء والتوقُّل في الجبال، وعَرف أنّ ذلك سهلٌ عليه، فصرَفُ بعضَ حِيله إلى ذلك، عند إرهاق الكلاب إيَّاه، ولذلك يعجَبون بكلِّ كلبٍ قصير اليدين، لأنه إذا كان كذلك كان أجدر أن يلحقها.

من أعاجيب الأرنب

وفي الأرانب من العجب أنها تحيض، وأنها لا تسمن، وأن قضيب الخُزَزِ ربَّما كان من عظمٍ، على صورة قضيب الثّعلب.
ومن أعاجيبها أنّها تنام مفتوحةََ العَين، فربَّما جاء الأعرابيُّ حتّى يأخذها من تلقاء وجهها، ثقةً منه بأنَّها لا تبصر.
 وتقول العرب: هذه أرنبٌ، كما يقولون: هذه عُقاب ولايذكّرون، وفيها التَّوبير الذي ليس لشيءٍ من الدوابِّ التي تحتال بذلك، صائدةً كانت أو مصيدةً، وهو الوطْء على مؤخر القوائم، كي لا تعرف الكلابُ آثارها، وليس يعرفُ ذلك من الكلابِ إلاّ المَاهر، وإنَّما تفَعل ذلك في الأرض اللَّيِّنة، وإذا فعلَتْ ذلك لم تسرع في الهرَب، وإن خافت أن تدرَك انحرفت إلى الحُزونة والصَّلابة، وإنما تستعمل التَّوبير قبل دنو الكلاب.
وليسَ لشيء من الوَحْش، ممّا يُوصَف بِقصَر اليدَينِ ما للأرنَب من السرعة، والفرس يوصف بقصر الكُراع فقط.

تعليق في كعب الأرنب

وكانت العربُ في الجاهليَّة تقول: مَن عُلّق عليه كعبُ أرنب لم تصبهُ عينٌ ولا نفسٌ ولا سِحر، وكانت عليه واقيةٌ؛ لأَنَّ الجنَّ تهرب منها، وليست من مطاياها لمكان الحيض.
وقد قال في ذلك امرؤ القيس:

عليه عَقِيقَتُه أحْسَبَـا

 

يا هِنْدُ لا تنْكحي بُوهَةً

به عَسَمٌ يبتغي أرْنبـا

 

مُرَسِّعَةٌ بين أرساغـه

حِذَار المنيَّة أنْ يَعْطَبا

 

ليجْعَل في يَدِهِ كَعْبَهَـا

وفي الحديث: بكى حتَّى رسعت عينه مشَدَّدة وغير مشدَّدة، أي قد تغيَّرت، ورجلٌ مرسِّع وامرأة مرسِّعة.

تعشير الخائف

وكانوا إذا دخل أحدهم قريةً من جِنِّ أهلها، ومن وباء الحاضرة، أشدّ الخوف، إلاّ أن يقِف على باب القَرية فيعشِّرَ كما يعشِّرُ الحمارُ في نهيقه، ويعلِّق عليه كعبَ أرْنب، ولذلك قال قائلهم:

ولا دَعدعٌ يغني ولا كعبُ أرْنبِ

 

ينفع التَّعشيرُ في جَنْبِ جِـرْمة

الجِرمة: القطعة من النّخل، وقوله: دعدع كلمةٌ كانوا يقولونها عند العِثار، وقد قال الحادرة:

حَرَجٍ تُنمُّ من العِثَارِ بدَعْدَعِ

 

ومَطِيَّةٍ كلّفْتُ رَحْلَ مَطِـيَّةٍ

وقالت امرأةٌ من اليهود:

ولا قَوْلُها لابنها دَعْدَعِ

 

وليس لوالدةٍ نَفْثُـهـا

وربُّك أعْلَمُ بالمصْرَعِ

 

تداري غراء أحوالـه

وقد قال عُورة بن الوَرد، في التَّعشير، حين دخل المدينَة فقيل له: إن لم تعشِّرْ هلكت فقال:

لَعمْري لئنْ عشَّرْتُ من خيفةِ نُهاقَ الحَمير إنّني لجَزوعُ

نفع الأرنب

وللأرنب جلدٌ وَوَبَرٌ يُنتَفع به، ولحمه طيِّب؛ ولا سيَّما إنْ جُعل مَحْشياً؛ لأنّه يجمع حُسنَ المنظر، واستفادة العلم مما يرون من تدبيرها وتدبير الكلاب، والانتفاع بالجلد وبأكل اللّحم، وما أقلَّ ما تجتمع هذه الأمورُ في شيءٍ من الطَّير.
وأما قوله:

قياماً بأيديهم مسوكُ الأرانبِ

 

إذا ابتدَرَ النّاسُ المعالي رأيتَهم

فإنّه هجاهم بأنّهم لا كسب لهم إلاّ صيدُ الأرانبِ وبيع جلودها.
الحُلكاء وأمّا قوله:

ليس له نابٌ ولا ظُـفْـرُ

 

وغائصٌ في الرمل ذو حدَّةٍ

فهذا الغائص هو الحلكاء، والحلكاء: دويْبّة تغوصُ في الرمل، كما يصنع الطَّائر الذي يسمّى الغَمّاس في الماء، وقال ابن سُحيم في قصيدته التي قصَد فيها للغرائب:

والحُلَكاء التي تَبْعَج في الرمل

شحمة الرمل وممَّا يغوص في الرَّمل، ويسبح فيه سباحة السَّمكة في الماء، شحْمةُ الرَّمل، وهي شحمة الأرض، بيضاء حَسَنَةٌ يشبّه بها كفُّ المرأة، وقال ذو الرُّمَّة في تشبيه البَنان بها:

بَناتُ النقا تخْفَى مراراً وتظهرُ

 

خراعيب أمْثالٌ كأنّ بنـانَـهـا

وقال أبو سليمان الغَنَوي: هي أعرض من العظاءة بيضاء حسنةٌ منقطة بحمرة وصُفرة، وهي أحسنُ دوابِّ الأرض.
وتشبّه أيضاً أطرافُ البنانِ بالأساريع وبالعنم، إذا كانت مُطَرَّفة، وقال مرقّش:

نيرُ وأطراف الأكُفِّ عَنَمْ

 

النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجوهُ دنـا

وصاحب البلاغة من العامَّة يقول: كأنّ بَنانها البَيَّاح والدُّواج، ولها ذراعٌ كأنها شَبُّوطة.
ويشبه أيضاً بالدِّمقس.
شعر فيه خرافة ومن خرافات أشعار الأعراب، يقول شاعره:

عشائراً مثلَ فراخ السرهـدِ

 

أشكو إلى اللّه العليِّ الأمجـد

قد ساقَهمْ خبث الزمان الأَنكَدِ

 

عشائراً قد نبَّفـوا بـفَـدفَـدِ

 

وكلّ رامٍ في الرِّمال يهْتـدي

 

وكلّ حِرباءَ وكـل جُـدْجُـدِ

ينصِبُ رِجْليَه حِذار المعتدي

 

وكلّ نفّاض القفـا مـلـهّـد

والفَار واليَرْبوع ما لم يسفَـدِ

 

وشحْمة الأرض وفَرْخ الهُدهُد

شواء أحناشٍ ولـم تـفـرّدِ

 

فنارهم ثاقـبةٌ لـم تـخْـمُـد

يبيتُ يَسْري ما دنا بـفـدفـدِ

 

من الحُبينِ والعظاء الأجـردِ

حَتَّى ينـالـوه بـعـود أوْ يَدِ

 

وكلِّ مقطوعِ العرا معلـكـدِ

يغدون بالجهد وبالـتـشـرُّدِ

 

منها وأبصار سَعَـالٍ جُـهَّـدِ

 

 

زَحْفاً وحَبْواً مثل حَبْوِ المُقْعَدِ

الحرباء وأمّا قوله:

حتَّى يوافي وَقته العَصْرُ

 

حِرباؤها في قيْظها شَامِسٌ

يميل في رَوْضَتِهِ الزّهْرُ

 

يَميل بالشِّقِّ إليهـا كـمـا

قال: والحِرباء دويْبَّة أعظَم من العظاءة أغبَرُ ما كان فرخاً، ثم يصفرّ، وإنّما حياتُه الحر، فتراه أبداً إذا بدت جَونة يعني الشَّمس، قد لجأ بظهْره إلى جُذيل، فإن رمضت الأرضُ ارتفع، ثم هو يقلّب بوجهه أبداً مع الشَّمس حيث دارت، حتَّى تغرب، إلا أنْ يخاف شيئاً، ثم تراه شَابحاً بيدَيه، كما رأيت من المصلوب، وكلما حميت عليه الشَّمس رأيتَ جلدَه قد يخضرّ، وقد ذكره ذو الرُّمَّة بذلك فقال:

على الجِـذلِ إلاّ أَنّـه لا يكـبِّـرُ

 

يظلُّ بها الحِرباءُ للشَّمـس مـاثـلاً

حَنِيفاً وفي قرْن الضُّحَى يَتَنَصَّـرُ

 

إذا حَوَّل الظّلَّ الـعِـشـيِّ رأيتَـه

من الضِّحِّ واستقبالهِ الشَّمْسَ أخضَرُ

 

غَدَا أصفَرَ الأعْـلـى ورَاحَ كـأنَّ

خضوع بعض الأحياء للشمس وكذا الجمل أيضاً يستقْبل بهامته الشَّمس، إلاّ أنه لا يدور معَها كيف دارَت كما يفعل الحرباء، وشقائقُ النُّعمان والخِيريّ يصنع ذلك، ويتفتَّحُ بالنهار، وينضمُّ بالليل، والنِّيلُوفر الذي ينبت في الماء يغيب الليل كلّه ويظهر بالنهار، والسَّمك الذي يقال له الكَوسج، في جوفه شحمة طيّبة، وهم يسمُّونها الكَبِد، فإن اصطادُوا هذه السَّمكة ليلاً وجدوا هذه الشَّحمة فيها وافرةً، وإن اصطادُوها نهاراً لم تُوجَد، وقد ذكر الحطيئة دوران النّبات مع الشمس حيث يقول:

فنُوَّارُه مِيلٌ إلى الشَّمس زَاهِرُه

 

بمُستأسدِ القُرْيانِ حُوٍّ تِـلاعُـه

وقال ذو الرُّمَّة:

ويخضرُّ من لَفْحِ الهَجير غَباغِبُه

 

إذا جعَلَ الحِرباءُ يغبـرُ لـونُـه

أخو فجرةٍ عالى بهِ الجذعَ صالبُه

 

ويَشْبحُ بالكفَّين شَبْـحـاً كـأنّـه

وقال ذو الرُّمَّة أيضاً:

قلوصي بها والجُندبُ الجَوْنُ يَرْمحُ

 

وهاجرةٍ من دُونِ مَـيَّةَ لـم يَقِـل

من الحَرِّ يلـوِي رأسَـه ويرنِّـحُ

 

إذا جعَل الحِرباءُ ممَّـا أصـابَـه

وقال آخر:

يَدَا مُجرمٍ يَستغفِرُ اللّه تائب

 

كأنّ يدَيْ حِربائها متشَمِّسـاً

وقال آخر:

أخو حَرَباتٍ بُزَّ ثَوْبيه شابحُ

 

لظًى يلفَحُ الحِرباءَ حتَّى كأنّه

وأنشدوا:

أبْلجُ ما لشمسه منْ جلـبـابْ

 

قد لاحها يوَمٌ شموسٌ مِلـهـابْ

شال الحَرابيُّ لـه بـالأذْنـابْ

 

يرمي الإكام من حصاة طبطاب

وقال العباس بن مرداس:

تخالُ به الحِرباءَ أنشط جالِسا

 

على قُلصٍ يعلو بها كلَّ سَبْسَبٍ

وقال الشّاعر:

الصَّبِّ والشِّقذانُ تسمو صُـدورُهـا

 

تجاوَزتُ والعُصفورُ في الحجرِ لاجئ

وقال أبو زُبَيْد:

بِّ وأوَفى في عُودِهِ الحـرْبـاءُ

 

واستَكَنّ العُصفورُ كَرْهاً مع الضَّ

والشِّقْذان: الحرابي، وقوله: تسمو أي ترتفع في الشجرة وعلى رأس العود، والواحدِ من الشِّقذَان بإسكان القاف وكسر الشِّين شَقَذ بتحريك القاف.
وأنشد:

قام مَثيلَ الرَّاهبِ المتعبِّدِ

 

ففيها إذا الحِرباءُ مَدَّ بكفّه

وذلك أنّ الحِرباء إذا انتصف النّهار فعلا في رأس شجرةٍ صار كأنَّه راهبٌ في صومعتِه.
وقال آخر:

لا يترُكُ السَّاق إلاّ مُمْسكاً سَاقَا

 

أنَّى أُتيحَ لَكُم حِرباءُ تنـضـبةٍ

التشبُّه بالعرب قال: وكان مولى لأبي بكر الشّيباني، فادَّعى إلى العرب مِنْ ليلته فأصبح إلى الجُلوس في الشمس، قال: قال لي محمد بن منصور: مررْتُ به فإذا هو في ضاحيةٍ، وإذا هويحكُّ جلده بأظفاره خمْشاً وهو يقول: إنما نحن إبل.
وقد كان قيل له مرَّة: إنَّك تتشبّه بالعرب، فقال: ألي يقال هذا? أنا واللّه حِرباء تنضُبة، يشهدُ لي سوادُ لَوني، وشَعاثَتي، وغَوْر عينيّ وحُبي للشَّمس.
نفخ الحرباء والورل قال: والحِرباء ربَّما رأى الإنسان فتوعَّدَه، ونفَخ وتطاول له حتَّى ربَّما فزِع منه مَن لم يعرفْه، وليس عندَه شرٌ ولا خير.
وأمَّا الذي سمعناه من أصحابنا فإنَّ الورَل السّامد هو الذي يفعل ذلك، ولم أسمعْ بهذا في الحِرباء إلا من هذا الرجل.
قال: والحِرباء أيضاً: المسمار الذي يكون في حَلقة الدِّرع؛ وجمعه حرابي.
استدراك لما فات من ذكر الوبر وقد كنا غفلنا أنْ نذكر الوَبْر في البيت الأول، قال رجلٌ من بني تغلب:

جاءَتْ بهِ أسْوَد مثلَ الوَبر

 

إذا رَجوْنَا ولداً من ظَـهْـرِ

 

 

من بارد الأدنَى بعيدِ القَعْر

وقال مُخارقُ بنِ شهاب:

بني فالج حيثُ استقرَّ قرارُها

 

فيا راكباً إمَّا عرَضْتَ فبلِّغـن

بلاقعُ أرضٍ طار عنه وِبارُها

 

هلُمُّوا إلينا لا تكونوا كأنَّـكـم

كثيرٌ بها أوعالُها ومـدارهـا

 

وأرض التي أنتم لقيتم بجوِّهـا

فهجا هؤلاء بكثرة الوِبار في أرضهم، ومدح هؤلاء بكثرة الوعول في جَبَلهم، وقال آخر:

دنِسُ الثِّيابِ كطابخ القِـدْرِ

 

هل يشتمنّي لا أبـا لَـكُـمُ

زَمِرُ المروءةِ ناقص الشَّبْرِ

 

جُعَلٌ تمَطّى في غَيابـتـهِ

والعاجز التّدبيرِ كالـوَبْـرِ

 

لِزَبابةٍ سَـوداءَ حَـنْـظـلةٍ

ويَضرب المثل بنتْن الوبْر؛ ولذلك يقول الشاعر:

بوضْر الوَبر تحسَِبُه مَلابَا

 

تطلّى وهْيَ سيِّئة المُعَرَّى

ونتن الوبر هو بَول مما يتمازح به الأعراب ومما تتمازح به الأعراب، فمن ذلك قول الشاعر:

فجاء الرُّبْيةِ والـوِبـارَهْ

 

قد هدَمَ الضِّفدعُ بيتَ الفاره

 

 

وحلَمٌ يَشدُّ بالـحِـجـاره

وهذا مثلُ قولهم:

وقد بقي دريهمٌ وثلْثـانْ

 

اختلط النَّقد على الجِعْلانْ

الظرِبان وأمَّا قوله:

حُبُّ الكشي والوحَرُ الحُمْرُ

 

والظَّربانُ الوَرْدُ قد شـفّـه

ولو نجا أهلكـه الـذُّعْـرُ

 

يلوذ منه الضبُّ مذلـولـياً

شيءٌ ولَوْ أحرَزَهُ قَصْـرُ

 

وليس يُنْجيه إذا ما فـسَـا

قال أبو سليمان الغنويُّ: الظّربان أخبثُ دابَّةٍ في الأرض وأهلَكه لفراخ الضَّبّة.
قال: فسألت زيدَ بن كثْوَة عن ذلك فقال: إي واللّه وللضَّبّ الكبير.
والظَّرِبان دابّة فسّاءَه لا يقوم لشَرِّ فسْوها شيءٌ، قلت: فكيف يأخذها? قال: يأتي جُحر الضَّبّ، وهو ببابه يستَروِح، فإذا وجد الضّبُ ريحَ فسْوه دخل هارباً في جُحره، ومَرَّ هو معه من فوق الجُحر مستمعاً حَرْشَه، وقد أصغى بإحدى أذُنيه من فوق الأرض نحوَ صوته - وهو أسمع دابَّةٍ في الأرض - فإذا بلغ الضبُّ منتهاه، وصار إلى أقصى جُحره وكفَّ حَرشَه استدَبَر جُحره، ثم يَفْسُو عليه من ذلك الموضع - وهو متى شمّه غُشيَ عليه - فيأخذه.
قال: والظّرِبان واحدٌ، والظِّرْبان: الجميع، مثل الكَرَوان للواحد والكِرْوان للجميع، وأنشد قولَ ذي الرُّمَة:

كأنَّهمُ الكِرْوان أبـصَـرْن بـازِيا

 

من آلِ أبي موسى تَرَى القَوْمَ حَوْلَهُ

والعامّة لا تشكُّ في أنَّ الكَرَوَان ابنُ الحُبارَى؛ لقول الشاعر:

وأنّ الحُبارَي خالَةُ الكَرَوَانِ

 

ألم تَر أنّ الزُّبد بالتَّمْرِ طَيِّبٌ

وقال غيره: الظَّربان يكونُ على خلقة هذا الكلب الصِّينيِّ، وهو منتنٌ جدّاً، يدخل في جُحر الضبِّ فيفسو عليه، فينتن عليه بيته، حتى يُذلق الضبَّ من بَيته، فيصيده.
والضّباب الدلالي أيضاً، التي يدخُل عليها السَّيلُ فيخرجها، وأنشد:

رَأى العُقاب فَوْقهُ فخبّا

 

يا ظَرباناً يتعشّى ضَبّـاً

فَرُّوجتان تطلبان حَبَّـا

 

كأنَّ خُصْييَه إذا أكـبّـا

 

 

أوْ ثَعلبَان يَحْفِزان ضبَّا

وأنشد الفرزدق:

وأنت بجيريّ قـصـيرٌ قـوائمُـهُ

 

أبوك سليمٌ قَدْ عَرَفْـنـا مـكـانـه

كمنْ رفَعَتْهُ في السمـاء دعـائمـهُ

 

ومن يجعل الظِّرْبى القصار ظُهورُها

سلاح بعض الحيوان قال: والظَّرِبان يعلم أنَّ سلاحه في فسائه، ليس شيءٌ عندَه سواه، والحبارى تعلم أنَّ سِلاحها في سَلْحها ليس لها شيءٌ سواه، قال: ولها في جوفها خِزانةٌ لها فيها أبداً رَجْعٌ مُعدٌّ فإذا احتاجتْ إليه وأمكنَها الاستعمال استعملَتْه، وهي تعلم أنَّ ذلك وقايةٌ لها، وتعرف مع ذلك شدَّة لَزَجه، وخبث نَتْنِه، وتعلم أنها تساور بذلك الزُّرَّق، وأنها تُثقله فلا يصيد.
ويعلم الدِّيك أنَّ سلاحه في صيصيته، ويعلم أنَّ له سلاحاً، ويعلم أنّه تلك الشوكة، ويدري لأيّ مكانٍ يعتلج، وأيَّ موضعٍ يطعن به.
والقنافذ تعلم أنّ فروتها جنّة وأنّ شوك جلدها وقايةٌ، فما كان منها مثل الدُّلدل ذوات المداري فإنها ترمي فلا تُخْطِئ، حتى يمرَّ مُرُورَ السهم المُسدَّد، وإن كانت من صغارها قبضتْ على الأفعى وهي واثقةٌ بأنّه ليس في طاقة الأفعى لها من المكروه شيء، ومتى قبضتْ على رأس الأفعى فالخطب فيها يسير، وإن قبضتْ على الذنَبِ أدخلَتْ رأسها فقرضتها وأكلتها أكلاً، وأمكنَتها من جسمها، تصنع ما شاءت؛ ثقةً منها بأنّه لايصل إليها بوجهٍ من الوجوه.
والأجناس التي تأكل الحيَّاتِ: القنافذُ، والخنازير، والعِقْبانُ، والسّنانيرُ، والشاهُمرْك، على أن النّسور والشاهمرك لا يتعرَّضان للكبار.
ويعلم الزُّنبور أن سلاحه في شَعْرته فقط، كما تعلم العقربُ أن سلاحها في إبرتها فقط، وتعلم الذِّبان والبعوضُ والقَملة، أن سلاحها في خراطيمها، وتعلم جوارحُ الطّير أن سِلاحها في مخالبها، ويعلم الذِّئبُ والكلبُ أنّ سلاحهما في أشداقهما فقط، ويعلم الخنزير والأفعى أنّ سلاحهما في أنيابهما فقط.
ويعلم الثّور أنّ سلاحه قرنُه، لا سلاحَ له غيره، فإن لم يجد الثّورُ والكبشُ والتّيس قروناً، وكانت جُمّاً، استعملتْ باضطرارٍ مواضع القُرون.
والبِرذون يستعمل فمه وحافر رجله.
ويعلم التِّمْساح أنّ أحدّ أسلحته وأعْونَها ذَنبُه، ولذلك لايعرِض إلاّ لمن وجَدَه على الشريعة؛ فإنّه يضربه ويجمعُه إليه حتى يُلقيَه في الماء.
وذنَب الضبّ أنفع من براثنه.
لُجوء بعض الحيوان إلى الخبث وإنما تفزع هذه الأجناس إلى الخُبث، وإلى ما في طبعها من شدَّة الحُضْر إذا عَدِمت السِّلاح؛ فعند ذلك تستعمل الحيلَة: مثلَ القُنفذِ في إمكان عَدوِّهِ من فرْوته، ومثلَ الظّبي واستعمال الحضْر في المستوي، ومثل الأرنب واستعماله الحضْر في الصَّعْداء.
وإذا كان ممن لا يرجع إلى سلاحه ولا إلى خبثه كان إمَّا أن يكون أشدَّ حُضْراً ساعة الهربِ من غيره، وإمَّا أن يكون ممَّن لا يمكنه الحضْر ويقطَعه الجبْن، فلا يبرح حتَّى يؤخذ.
ما يقطعه الجبن من الحيوان وإنما تتقرَّب الشّاة بالمتابعة والانقياد للسّبع، تظنُّ أن ذلك ممّا ينفعها؛ فإن الأسد إذا أخذ الشّاة ولم تتابعه، ولم تعِنْه على نفسها، فربما اضطُرّ الأسد إلى أن يجرَّها إلى عرينه، وإذا أخذها الذئب عدَتْ معه حتّى لا يكونُ عليه فيها مَؤُونة، وهو إنما يريد أن ينحِّيَها عن الراعي والكلب، وإن لم يكن في ذلك الوقت هناك كلبٌ ولا راع، فيرى أن يجري على عادته.
وكذلك الدَّجاج إذا كُنَّ وُقَّعاً على أغصان الشَّجر، أو على الرُّفوف، فلو مرَّ تحتها كلُّ كلبٍ، وكلُّ سنّور، وكلُّ ثَعلب، وكلُّ شيءٍ يطالبها، فإِذا مرَّ ابن آوى بقُربها لم يبق منها واحدةٌ إلاّ رمت بنفْسها إليه، لأنّ الذِّئب هو المقصود به إلى طباع الشاة، وكذلك شأنُ ابن آوى والدَّجاج، يخيَّلُ إليها أن ذلك مما ينفع عنده، وللجُبن تفعل كلّ هذا.
ولمثل هذه العلَّة نزل المنهزم عن فرسه الجوادِ؛ ليُحْضر ببدنه، يظنُّ اجتهاده أنجى له، وأنّه إذا كان على ظهر الفرَس أقلُّ كَدّاً، وأنَّ ذلك أقرب له إلى الهلاك. ولمثل هذه العلَّة يتشبَّثُ الغريق بمن أراد إنقاذه حتَّى يُغرِقَه نفسَه، وهما قبل ذلك قد سمعا بحال الغريق والمنهزم، وأنّهما إنّما هما في ذلك كالرجل المعافَى الذي يتعجَّب ممن يشرب الدَّواء من يد أعلم النَّاس به، فإن أصابتْه شقيقة، أو لسعة عقرب، أو اشتكى خاصِرته، أو أصابه حُصْر أو أُسْر شرب الدَّواءَ من يد أجهل الخليقة، أو جَمع بين دواءين متضادَّين.
فالأشياء التي تعلم أنَّ سِلاحها في أذنابها ومآخرها الزُّنبور والثَّعلب والعقرب والحُبارى، والظَّرِبان، وسيقع هذا البابُ في موضعه إن شاء اللّه تعالى.
وليس شيءٌ من صنف الحيوان أردأَ حيلةً عند معاينة العدوِّ من الغنم؛ لأنها في الأصل موصولةٌ بكفايات النَّاس، فأسندت إليهم في كل أمْرٍ يصيبها، ولولا ذلك لخرَّجت لها الحاجة ضروباً من الأبواب التي تعينها، فإذا لم يكن لها سلاحٌ ولا حيلة، ولم تَكن ممن يستطيع الانسياب إلى جُحرهِ أو صدع صخرة، أو في ذرْوة جبل، كانت مثل الدَّجاجة، فإنَّ أكثر ما عندها من الحيلة إذا كانت على الأرض أن ترتفع إلى رَفٍّ، وربّما كانت في الأرض، فإذا دنا المغرب فزعت إلى ذلك.
ما له ضروب من السلاح وربّما كان عند الجنس من الآلات ضروبٌ، كنحو زبرة الأسد ولبدته، فإنَّه حَمولٌ للسِّلاح إلاَّ في مراقِّ بطنه فإنّه من هناك ضعيفٌ جدّاً، وقال التغلبي:

وزُبْرَة ضِرْغامٍ من الأُسدِ ضَيغَمِ

 

تَرى النَّاسُ مِنَّا جلدَ أسْودَ سالـخٍ

وله مع ذلك بَعدُ الوثبة واللُّزوقُ بالأرض، وله الحبس باليد، وله الطَّعن بالمخلب، حتى ربَّما حبَسَ العَيرَ بيمينه وطعن بِمِخْلب يساره لبَّته وقد ألقاه على مؤخره، فيتلقَّى دمَه شاحياً فاه وكأنه ينصبُّ من فَوَّارَة، حتى إذا شربه واستفرغه صار إلى شقِّ بطنه، وله العضُّ بأنيابٍ صلابِ حداد، وفكُّ شديد، ومنخر واسع، وله مع البُرثُن والشكِّ بأظفاره دقُّ الأعناق، وحطم الأصلاب، وله أنه أسرعَ حُضْراً من كلِّ شيءٍ أعمَلَ الحُضْرَ في الهرب منه، وله من الصَّبر على الجوع ومن قلَّة الحاجة إلى الماء مع غيره، وربّما سار في طلب الملح ثمانين فرسخاً في يوم وليلة، ولو لم يكن له سلاحٌ إلاَّ زئيره وتوقُّد عينيه، وما في صدور النَّاس له لَكفاه.
وربما كان كالبعير الذي يعلم أنَّ سِلاحه في نابيه وفي كِركِرته.
والإنسان يستعملُ في القتال كفّيه في ضروبٍ، ومرفقيه ورِجليه ومنكبيه وفمه ورأسَه وصدرَه، كلُّ ذلك له سلاحٌ ويعلم مكانه، يستوي في ذلك العاقلُ والمجنونُ، كما يستويان في الهداية في الطَّعام والشراب إلى الفم.
سلاح المرأة والمرأة إذا ضعُفت عن كلِّ شيءٍ فزعت إلى الصُّراخِ والولولة؛ التماساً للرَّحمة، واستجلاباً للغياث من حُماتِها وكُفاتها، أو من أهل الحسبة في أمرها.
باب أسماء أولاد الحيوان قال: ويقال لولد السَّبع الهِجرِس والجمع هجارس، ولولد الضبع الفرعُل والجمعُ فراعل، قال ابن حبناء:

إذا ما رآها فُرعُلُ الضَّبع كَفَّرا

 

سلاحين منها بالرّكوب وغيرها

قال: والدَّيسم ولد الذّئب من الكلبة.
وسألت عن ذلك أبا الفتح صاحبَ قطرب فأنكر ذلك وزعم أنَّ الدَّيسمة الذَّرة، واسم أبي الفتح هذا ديْسم.
ويقال إنَّه دويْبَّة غير ما قالوا.
ويقال لولد اليربوع والفأرِ درص، والجمع أَدْرَاصٌ، ويقال لولد الأرنب خِرنِق، والجمع خرانق، قال طرفة:

خرانقَ تُوفي بالضَّغيبِ لها نَذْرا

 

إذا جَلسوا خيّلْتَ تحت ثيابـهـم

أشعارٌ فيها أخلاط من السباع والوحش والحشرات.
قال مسعود بن كبير الجرمي، من طيئ، يقولها في حمارٍ اشتراه فوجدَهُ على خلاف ما وصفهُ به النخّاس:

 

معجِّبٌ ما يحتويه العُجْبُ

 

إنّ أبا الخرشن شيءٌ هِنْبُ

 

واعتر القوم صحار رحبُ

 

قد قلتُ لما أنْ أجدّ الرَّكبُ

 

أهانك اللّه فبئسَ النَّجْـبُ

 

يا أجْنحُ الأُذنِ ألا تـخـبُّ

 

بَلى ولكنْ ضاع ثَمَّ اللُّـبُّ

 

ما كان لي إذ أشتريك قلبُ

 

أخبرني أنّك عَـيْرٌ نَـدْبُ

 

إن الذي باعك خبٌّ ضـبُّ

 

صَبَّ عليه ضبُـعٌ وذئبُ

 

وشرُّ ما قال الرِّجال الْكذِبُ

ذيخٌ عَـدتْــهُ رَمْـــلةٌ وهـــضـــبُ

 

سرْحـــانَةٌ وجَـــيْأَلٌ قِـــرْشَـــــبّ

 

 

 

كأنه تحت الظَّلام سَقْبُ يأخذ منه من رآه الرُّعْبُ

 

حتَّـى يقـال حـيث أفـضـى الـسـحــبُ

 

أبو جراءٍ مَسَّهُنَّ السَّغْبُ

 

وصـبَـحَ الـراعـي مُـجَـــرّاً وغـــبُ

 

وأنـت نَـفَّـــاقٌ هـــنـــاك ضـــبُّ

 

وأكـرُعُ الـعَـــيْرِ وفـــرْثٌ رطْـــبُ

 

ورخـمـات بَـيْنــهُـــنَّ كـــعـــبُ

 








يقول:أدنوني إلى شرائه، ويقال ثرية لقيك لغة طائيَّة.
وقال قِرْواش بن حَوْط:

بنعافِ ذي عدَمٍ وأنَّ الأعلمـا

 

نبّئْتُ أن عقالاً بـنَ خـويلـدٍ

وثعَيلبَا خمرٍ إذا ماء أظلَـمـا

 

ضَبُعاً مجاهَرةٍ ولـيثَـا هُـدنةٍ

أبداً فلستُ بسائمٍ إنْ تسـأمَـا

 

لا تسأماني من رَسِيسِ عَـداوَةٍ

فيئاً ولا أكُلاً له متخَضَّـمَـا

 

غُضَّا الوعيدَ فما أكونُ لموعِدِي

عَرِكاً يفلُّ الحدَّ شاكاً مُعْلِمَـا

 

فمتى ألاقِكما البراز تُـلاَقـيا

الوحر قال: وقال العَدَبّس الكنانيّ: والوَحَرةَ دويْبَّة كالعظاءة حمراء إذا اجتمَعَتْ تلصق بالأرض، وجمع وحَرَة وحَرٌ، مفتوحة الحاء، ومنه قيل وَحَرُ الصَّدر، كما قيل للحقدِ ضبٌّ؛ ذهبوا إلى لزوقه بالصّدر كالتزاق الوَحَرة بالأرض، وأنشدَ:

فَقَرَوْا أضيافُهُمْ لَحْماً وحِر

 

بئسَ عَمْرَ اللّه قومٌ طُرِقُوا

لبَناً من دَرِّ مِخراطٍ فَـئرْ

 

وسَقَوْهم في إناءٍ مقـرفٍ

يقال لحم وَحر: إذا دبّت عليه الوَحرة، مقرف: مُوبئ، ويقال فِئر: إذا وقعتْ فيه فارةٌ، وقال الحكَميّ:

نُ عَنْهَا الطّلْحَ والعُشَرَا

 

بأرضٍ باعدَ الـرَّحْـمَ

يَرَابـيعـاً ولا وَحَـرا

 

ولم يَجْعلْ مصـايِدَهـا

لهيْشَة وأمّا قوله:

وَسِمْعُ ذئْبٍ هَمُّهُ الحُضْرُ

 

وَهيْشةٌ تأكلـهـا سُـرْفَةٌ

فالهيشة أم حبين، وأنشد:

كما تعرَّق رأسَ الهيْشَة الذِّيبُ

 

أشكو إليك زماناً قدْ تعـرَّقـن

وأمُّ جُبَيْن وأمُّ حُبَيْنَة سواءٌ، وقد ذكرنا شأنها في صدر هذا الكتاب، ويقال إنّها لا تقيم بمكانٍ تكون فيه هذه الدُّودة التي يقال لها السُّرفة، وإليها ينتهي المَثل في الصَّنْعة، ويقال: أصْنَعُ من سُرفة، ويقال إنّها تقوم منْ أمِّ حُبين مَقامَ القراد من البعير، إذا كانتْ أمُّ حبَيْنٍ في الأرض التي تكون فيها هذه الدُّودة.
ذكر من يأكل أم حبين والقرنبي والجرذان قال: وقال مَدَنيٌّ لأعرابي: أتأكلون الضَّبََّ? قال: نعم، قال: فاليربوع? قال: نعم، قال: فالوَحرة? قال: نعم، حتَّى عدَّ أجناساً كثيرةً من هذه الحشرات، قال أفتأكلون أمَّ حُبيْنٍ? قال: لا، قال: فلْتَهنِ أمَّ حُبينٍ العافيةُ.
قال ابنُ أبي كريمة: سألَ عمرُو بنُ كريمةَ أعرابيّاً - وأنا عنده - فقال: أتأكلونَ القرنْبى? قال: طال واللّه ما سال ماؤُه على شدقي.
وزعم أبو زيدٍ النحويُّ سعيدُ بنُ أوْس الأنصاريُّ، قال: دخلتُ على رُؤبة وإذا قُدَّامه كانونٌ، وهو يَمُلُّ على جَمْرِهِ جُرذاً من جرذان البيت، يخرج الواحدَ بعد الواحد فيأكله، ويقول: هذا أطيبُ من اليربوع يأكل التّمرْ والجُبْنُ، ويحسو الزَّيْت والسَّمْن.
وأنشد:

إلى تَيْميَّة كقَفـا الـقَـدُّوم

 

تَرَى التَّيْميَّ يزحَفُ كالقَرَنْبى

وقال آخر:

دَبيبَ القَرْنبى باتَ يعلو نقا سهلا

 

يدِبُّ عَلَى أحشائهـا كـلَّ لَـيْلَةٍ

اليربوع قال: واليربوع دابَّة كالجُرذ، منْكبٌّ على صدره؛ لقِصرِ يديه طويل الرِّجلين، له ذنبٌ كذنب الجرذ يرفعه في الصعداء إذا هَرْولَ، وإذا رأيتَه كذلك رأيتَ فيه اضطراباً وعجباً، والأعراب تأكله في الجَهْد وفي الخِصب.
أخبث الحيوان قال: وكلُّ دابّةٍ حشاها اللّه تعالى خُبْثاً فهو قصيرُ اليدين، فإذا خافت شيئاً لاذت بالصّعداء فلا يكاد يلحقُها شيء.
أكل المسيب بن شريك لليربوع  قال: وأخبرني ابنُ أبي نُجَيح وكان حجّ مع المسيّب بن شريك عامَ حجَّ المهديُّ مع سلسبيل، قال: زاملْت المسيِّب في حَجَّته تِلك، فبينا نحنُ نَسير إذ نظرنا إلى يربوع يتخلل فرَاسن الإبل، فصاحَ بغلمانه: دونَكم اليَربوع فأحضرُوا في إثره فأخذُوه، فلمَّا حططْنا قال: اذَبحوه، ثمَّ قال: اسلخوهُ واشوُوه وائتوني به في غَدائي، قال: فأتي به في آخر الغداء، على رغيف قد رَعَّبوه فهو أشدُّ حمرة من الزَّهوة، - يريد البُسرة - فعطف عليه فثنى الرَّغيف ثم غمزه بين راحتيه ثم فَرَج الرغيف، فإذا هو قد أخذَ من دسمه، فوضعه بين يديه، ثمَّ تناول اليربوع فنزع فخذاً منه، فتناولها ثم قال: كل يا أبا محمد فقلت: ما لي به حاجة فضحك ثم جعلَ يأتي عليه عضواً عضواً.
أم حبين قال: وأمَّا أمُّ حُبين فهي الهَيشة، وهي أم الحبين، وهي دويْبَةٌ تأكلُها الأعراب مثل الحرباء، إلاّ أنَّها أصغر منها، وهي كدْرَاءٌ لِسوادٍ بيضاءُ البطن، وهو خلافُ قول الأعرابيِّ للمدني.
وصاة أعرابي لسهل بن هارون وقال أعرابيٌّ لسهل بن هارون، في تواري سهل من غُرمائه وطلبهم له طلباً شديداً؛ فأوصاه الأعرابيُّ بالحزْم وتدبير اليَربوع، فقال:

تَزيغ إلى سَهْلٍ كثـير الـسَّـلائقِ

 

انزل أبا عمرو علـى حَـدِّ قـريةٍ

ودَعْ عنك إني ناطقٌ وابنُ ناطـق

 

وخُذْ نَفَقَ اليربوع واسْلُكْ سبـيلَـه

له منزلٌ في ضيق العَرْض شاهقِ

 

وكنْ كأبي قُطْنِ علـى كـلِّ زائغ

وإنّما قال ذلك لاحتيال اليربوع بأبوابه التي يخرج من بعضها، إذا ارتاب بالبعض الآخر، وكذا كانت دار أبي قطنة الخناق بالكوفة في كندة، و يزعمون أنَّه كان مولًى لهم، وأنشد أبو عُبيدة قال: أنشدني سفيان بن عيينة:

فلا تمرُرْ على كِنْدَهْ

 

إذ ما سَرَّكَ العَـيشُ

وقد قُتل أبو قُطْنة وصُلِب.
الخناقون وممَّن كان يخنق النّاس بالمدينة عَدِيَّة المدنيّةُ الصَّفراءُ، وبالبصرة، رادويْه، والمرميُّون بالخنق من القبائل وأصحاب النِّحل والتأويلات هم الذين ذكَرَهم أعشى هَمْدان في قوله:

وكِنْدَةَ فاحذَرْهَا حِذَارك للخـسْـفِ

 

إذا سِرْتَ في عِجلٍ فسِرْ في صَحابةٍ

وقَشْبٌ وإعمال لجنـدلة الـقـذفِ

 

وفي شيعة الأعمى خِنـاقٌ وغِـيلةٌ

حميدة والميلاءُ حاضِنة الكِـسْـفِ

 

وكلُّهُمُ شَـرٌّ عـلـى أنَّ رأسـهـم

فإِنَّ لها قصفاً يدلُ علـى حَـتْـفِ

 

متى كُنْتَ في حَيَّيْ بجيلةَ فاستمـعْ

تداعَوْا عَلَيه بالنُّباح وبـالـعَـزْفِ

 

إذا اعتزموا يوماً على قَـتْـل زائر

وذلك أن الخناقين لا يسيرون إلاّ معاً، ولا يقيمون في الأمصار إلاّ كذلك، فإذا عزَم أهلُ دارٍ على خنْق إنسانٍ كانت العلامةُ بينهم الضرب على دُفٍّ أوْ طبلٍ، على ما يكون في دوُر الناس، وعندهم كلابٌُ مرتَبطة فإذا تجاوَبُوا بالعزْف ليختفي الصَّوت ضربوا تلك الكِلاب فنبحَتْ، وربّما كان منهم معلِّم يؤدّب في الدّرب، فإذا سمع تلك الأصوات أمَرَ الصِّبيانَ برفع الهجاء والقِراءة والحساب.
المغيرية والغالية والمنصورية وأما الأعمى فهو المغيرة بن سعيدٍ صاحبُ المغيرية، مولى بجيلة والخارج على خالد بن عبد اللّّه القَسري، ومن أجل خُروجه عليه قال: أطعموني ماء حتى نعى عليه ذلك يحيى بنُ نوفل، فقال:

شراباً ثمَّ بُلتَ على السّريرِ

 

تقول من النَّواكَة أطعموني

كَليلِ الحدّ ذي بصر ضريرِ

 

لأعلاجٍ ثـمـانـيةٍ وشـيخ

وأمَّا حميدة، فكانت من أصحاب لَيلى الناعظية، ولها رياسة في الغالية، والمَيْلاء حاضنة أبي منصور صاحب المنْصوريَّةَ، وهو الكِسْف، قالت الغالية: إيَّاه عَنَى اللّه: "وإنْ يَرَوْا كِسْفاً من السَّماء سَاقِطاً يقُولُوا سَحابٌ مَرْكومٌ" وإيَّاه عنى مَعْدان الأعمى حيثُ يقول:

وكميلٌ رَذْلٌ مـن الأرْذَالِ

 

إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ آل كُميل

ضَلَّ فيه تلطُّف المحتـالِ

 

تَرَكا بالـعِـراق دَاءً دويّاً

تفسير بيت وأمَّا قوله:

تَزيغ إلى سهْل كثيرٍ السّلائق

 

انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ

فأراد الهرب؛ لأنه متى كان في ظهرٍ فظٍّ كثير الجوَادّ والطرائق، كان أمكرَ وأخفى، وما أحسن ما قال النابغةُ في صفة الطّريق إذا كان يتشعَّب، حيث يقول:

كَسَحْل اليماني قاصداً للمناهـلِ

 

وناجيةٍ عدَّيتُ في ظهر لاحـبٍ

إلى كلِّ ذي نِيرَين بادِي الشَّواكلِ

 

له خلجٌ تَهْوِي فُرادى وتَرعـوي

وهذا موضع اليربوع في تدبيره ومَكره.
أرجوزة في اليربوع وأكل الحشرات والحيات وقال الآخر في صفة اليربوع، وفي حيلته، وفي خلْقه، وفي أكل الحشَرات والحيات:

وشاخـصِ الـعَـجْـب ذلـيل الـصَّـدْرِ

 

يا رُبَّ يَربـوع قَـصـيرِ الـظَّــهـــر

يَرْعـى أُصـولَ سَــلـــم وسِـــدْرِ

 

ومُـحْـكـم الـبـيتِ جـمـيع الأمـــر

باكـرتُـه قـبـلَ طُـلـوع الـفَـجــرِ

 

حتّـى تـراهُ كـمِـداد الـعـــكـــرِ

وكـلِّ قَـنَّـاصٍ قـلـيلِ الـــوَفـــرِ

 

بكـلِّ فـيَّاض الـــيدين غَـــمـــر

فعـاد مـنّـي بـبـعـيد الـقَــعْـــرِ

 

مُرتـفـع الـنّـجـم كـريم الـنَّـجْـــر

وتـدْمُـريٌّ قـاصـعٌ فـي جُــحـــرِ

 

مختلفِ الـبَـطْـن عـجـيبِ الـظـهـر

أطيب عـنـدي مِـنْ جَـنـيِّ الـتّـمـرِ

 

في العُسـر إنْ كـان وبـعـدَ الـعُـسْـرِ

وكـلِّ جـبـار بـعــيد الـــذِّكـــرِ

 

وشَـحْـمةُ الأرضِ طـعـامُ الـمُـثــرِي

 

 

وهيْشة أرفعها لفطري ليوم حفْل وليوم فَخْرِ

من عـقْـرَبٍ أو قُـنـفــذ أو وَبْـــرِ

 

وكلُّ شيءٍ في الظلام يَسْري

فتـلـك هَـمِّـي وإلـيهــا أجـــري

 

أو حـيّةٍ أَمُـلَّـهـا فـي الـجَــمْـــر

وكـلُّ شـيءٍ لـقَـضَـــاءٍ يجـــري

 

في كـلِّ حـالٍ مـن غـنًـى وفَـقْـــرِ

وَكـلُّ يَعـســـوبٍ وكـــلُّ دَبْـــرِ

 

وكـلُّ طـيرٍ جـاثــم فـــي وَكْـــرِ

والكـلـبُ والـتَّـتْـفـل بـعـد الـهِـرِّ

 

والـذّيخُ والـسِّـمْـعُ وذئبُ الـقَـفْـــرِ

والأعـورُ الـنَّـاطـقُ يومَ الـزّجْـــرِ

 

والـضّـبُّ والـحـوتُ وطـيرُ الـبَـحْـر

أو جُـعـل صـلَّـى صـلاة الـعـصْـرِ

 

آكُـلُـهُ غـيرَ الـحـرابـي الـخُـضْـرِ

يا ويلَـه مـن شـاكـرٍ ذي كُــفْـــرِ

 

يشـكـر إن نـالَ قِـرًى مـن جَـعْـــرِ

 

 

أفـسـدَ والـلّـه عـلـيّ شُـكـــري

فزعم أنَّه يستطيبُ كلَّ شيءٍ إلاّ الحِرباء الذي قد اخضرَّ من حرِّ الشَّمس وإلاّ الجُعَل الذي يصلِّي العصر، وزعَمَ أنّه إنما جعَل ذلك شكراً على ما أُطعِم من العَذِرة، وأنَّ ذلك الشُّكر هو اللُّؤم والكفر.
ولا أعرِفُ معنى صلاة الجعَل، وقد روى ابن الأعرابي عن زاهر قال: يا بُنَيّ لا تصلِّ فإنّما يصلِّي الجُعل، ولا تَصُمْ فإنما يصوم الحِمار، وما فهمتُه بعد.
وأراه قد قدّم الهَيْشة، وهي أمُّ حبين، وهذا خلافُ ما رووا عن الأعرابي والمدني.
اليرابيع وأمَّا قوله: وَتَدْمُريٌّ قاصعٌ في جحْرِ فقد قال الشاعر:

شُفَاريَّها والتّدمُريَّ المقَصِّعَا

 

وإنِّي لأصطاد اليَرابيعَ كُلّها

واليرابيع ضربان: الشُّفاريُّ والتَّدمُري، مثل الفَتِّي والمذكِّي.
وقال جريرٌ حينَ شبَّه أشياء من المرأة بأشياء من الحشرات وغيرها وذكر فيها الجُعل فقال:

إلى تيميةٍ كعصَا المَـلـيلِ

 

ترَى التَّيميَّ يزْحفُ كالقرنبى

وتمْشي مِشْية الجُعلِ الدّحُولِ

 

تشينُ الزَّعفران عَروسُ تـيْمٍ

شَوى أمِّ الحُبَين ورأسُ فيلِ

 

يَقولُ المجتَلون عروسَ تـيمٍ

شعر فيه ذكر اليربوع وقال عُبيد بن أيُّوب العنبري، في ذكر اليربوع:

تُحَمَّلُه طارتْ به في الـخـفـاخـفِ

 

حَمَلْتُ عليهـا مـا لـوَ أنَّ حـمـامةً

بَرى جًسمَه طولُ السُّرى في المخاوفِ

 

نطوعاً وأنسـاعـاً وأشـلاء مُـدْنَـفٍ

لأزغَبَ مُلْقى بين غُبْر صَـفـاصـفِ

 

فرُحْنا كما راحَتْ قَـطـاةٌ تـنـوَّرَتْ

وينقرنَ وطء المنسمِ الـمـتـقـاذِفِ

 

ترى الطّير واليربوعَ يبحثن وطـأهـا

وقال ابنُ الأعرابيّ، وهو الذي أنشدَنيه: ترى الطير واليربوع يعني أنّهما يبحثانِ في أثر خُفّها ملجأ يلجآن إليه، إمَّا لشدَّة الحر، وإما لغير ذلك، وأنشد أصحابنا عن بعض الأعراب وشعرائهم أنَّه قال في أمّه:

بعالمةٍ بأخْلاقِ الـكـرامِ

 

فما أمُّ الـرُّدينِ وإن أدَلّـتْ

تَنَفّقْنَاه بالحـبْـل الـتـؤَامِ

 

إذا الشّيطان قصَّع في قَفَاها

يقول: إذا دخل الشَّيطان في قاصعاء قفاها تنفقناه، أي أخرجْناه من النافقاء، بالحبل المثنّى، وقد مَثَّل وقد أحسن في نعت الشِّعر وإن لم يكن أحْسَن في العُقوق، وأنشد قي قوس:

يدرُج تحت عَجْسها اليربوعُ

 

لا كَّزة السَّهم ولا قـلـوعُ

القَلوع من القسي: التي إذا نُزِع فيها انقلبت على كفِّ النازع، وأما قوله: وأما قوله:

إذا مـــا عــــدا

 

تخالُ به السِّمعَ الأزلَّ كأنّه

قيام الذئب بشأن جراء الضبع ويقولون: إن الضبع إذا هلكَتْ قام بشأنِ جرائها الذِّئب وقال الكُميت:

لِذي الحَبْل حتَّى عالَ أوسٌ عِيالها

 

كما خامَرَتْ في حضْنها أمُّ عامر

وأنشد أبو عبيدة في ذلك شعراً فسَّر به المعنى، وهو قوله:

بلْ يحسبُ الذِّئبُ أنَّ النَّجْل للذِّيبِ

 

والذّئبُ يغذُو بناتِ الذِّيخ نـافـلةً

يقول: لكثرة ما بين الذئاب والضباع من التّسافُد يظن الذّئب أنّ أولاد الضبع أولادُه.
أكل الأعراب للسباع والحشرات والأمرُ في الأعراب عجب في أكل السِّباع والحشرات، فمنهم من يظهر استطابتها، ومنهم من يفخَر بأكلها، كالذي يقول:

جِوَارَ عَدِيٍّ يأكل الحَـشـراتِ

 

أيا أمَّ عمرو ومَنْ يَكُنْ عُقرُ داره

ما تحبه الأفاعي وما تبغضه وأمَّا قوله:

لكنّها يُعْجِبُها الخمْـرُ

 

لا تَرِدُ الماء أفاعي النّقا

إذا علا واحْتدَم الهَجْرُ

 

وفي ذَرَى الحَرْمَلِ ظلٌّ

فإن من العجبَ أنّ الأفعى لا ترِدُ الماءَ ولا تريدُه، وهي مع هذا إذا وجدت الخَمر شربَت حتّى تسكر حتّى ربَّما كان ذلك سبب حتفها.
والأفاعي تكره ريح السَّذاب والشّيح، وتستريح إلى نبات الحَرمَل، وأمَّا أنا فإنِّي ألقيْتُ على رأسها وأنفها من السّذاب ما غمرها فلم أر على ما قالوا دليلاً.
أكل بعض الحيوان لبعض وأمّا قوله:

أعْطَى سِهام الميْسِرِ القَمْرُ

 

وبعضها طُعْمٌ لبعضٍ كمـا

فإن الجرذ يخرُج يلتمسُ الطُّعم، فهو يحتالُ لطُعمه، وهو يأكل ما دونَه في القُوَّة، كنحو صغارِ الدّوابِّ والطّير، وبيضِها وفراخِها، ومِما لا يسكن في جُحْر، أو تكون أفاحيصُه على وجْه الأرض، فهو يحتال لذلك، ويحتال لمنْع نفسه من الحيّات ومن سِباع الطيَّر.
والحيّة تُريغ الجرذ لتأكله، وتحتال أيضاً للامتناع من الوَرل والقنفذ، وهما عليه أقْوى منه عليهما، والوَرل إنما يحتال للحية، ويحتال للثَّعلب، والثعلب يحتال لما دُونه.
قال: وتخرج البعوضة لطلب الطُّعمِ، والبعوضة تعرف بطبعها أنّ الذي يعيشها الدم، ومتى أبصرتْ الفيلَ والجاموسَ وما دونهما، علمت إنّما خلِقت جلودهما لها غذاءً، فتسقطُ عليهما وتطعُنُ بخرطومها، ثقةً منها بنفوذ سلاحها، وبهجومها على الدَّم.
وتخرجُ الذُّبابة ولها ضروبٌ من المطعم، والبعوضُ من أكبرها صيدها وأحبُّ غذائها إليها، ولولا الذِّبان لكان ضررُ البعوض نهاراً أكثر.
وتخرج الوزَغَةُ والعنكبوت الذي يقال له الليث فيصيدان الذُّباب بألطف حِيلة، وأجود تدبير، ثم تذهب تلك أيضاً كشأن غيرهما.
كأنه يقول: هذا مذهبٌ في أكل الطيِّبات بعضها لبعض، وليس لجميعها بُدٌّ من الطُّعم، ولا بدّ للصائد أنْ يصطاد، وكلُّ ضعيفٍ فهو يأكُلُ أضعف منه، وكلُّ قويٍّ فلا بدَّ أن يأكله من هو أقوى منه، والنَّاسُ بعضُهم على بعض شبيه بذلك، وإن قصروا عن دَرْك المقدار، فجعل اللّه عزّ وجلَّ بعضها حياةً لبعض، وبعضها موتاً لبعض.
شعر للمنهال في أكل بعض الحيوان لبعض وقال المنهال:

 

وخِرنقٍ يلعَبُ فَوْقَ التُّرابْ

 

ووثبة من خُـزَزٍ أعـفـرٍ

 

مُحْلوْلِكِ البقة مثل الحباب

 

وَعَضرَ فُوطٍ قد تقوَّى على

قد ضَجَّ منه حَشراتُ الشِّعابْ

 

وظالم يَعْدُو عـلـى ظـالـمٍ

 








وهذان الظَّالمان اللذان عنى: الأسودُ، والأفعى، فإنَّ الأسود إذا جاع ابتلع الأفعى.
آكل الأَسود للأَفاعي وشكا إليّ حَوّاءٌ مرةً فقال: أفقرني هذا الأَسْوَد، ومنعني الكَسْبَ، وذلك أنّ امرأتي جهلت فرمَتْ به في جُونةٍ فيها أفاعي ثلاثٌ أو أربعٌ، فابتلعهنَّ كلّهن، وأراني حيَّةً مُنْكَرةً، ولا يبعد ما قال.
والعرب تقول للمسيء: أظْلَمُ من حيَّة، وقد ذكرنا ذلك في موضعه من هذا الكتاب.
ولا يستطيع أنْ يروم ذلك من الأفعى إلاّ بأن يغتالها، فيقبض على رأسها وقَفاها، فإنّ الأفعى تنفذ في الأسود، لكثرة دمه.
وصف سم الحية وإذا وصفوا سمّ الحيّة بالشدَّة والإجهاز خبَّروا عنها أنّه لم يبقَ في بدنها دمٌ ولا بِلّة، ولذلك قال الشاعر:

ولو تَكَنّفَهُ الراقون ما سَمِعا

 

لو حُزّ ما أخرجتْ منه يَدٌ بَللاً

وقال آخر:

قد عاش حتّى هو ما يمشي بِدَمْ

 

لُميمةً من حنشٍ أعْمـى أصـمّ

سلاح الحيوان والشأن في السِّلاح أنّه كلما كان أقلَّ كان أبلغ، وكلما كان أكثر عدَداً وأشدَّ ضرراً كان أشجع وآخذَ لكلِّ من عَرفَ أنه دونه، وأنشد أبو عبيدة:

له سلاحانِ أنـيابٌ وأظـفـارُ

 

مشْي السَّبَنْتى إلى هَيْجاءَ مُفْظِعَةٍ

كالأسد له فم الذِّئب - وحسبك بفم الذِّئب - وله فضلُ قوة المخالب، وللنَّسر منْسرٌ وقُوَّة بدن يكون بهما فوقَ العقاب، ولذلك قال ابن مُناذر:

نُيوباً وأظْفاراً وعِرساً وأشبُلاَ

 

أتجعلُ ليثاً ذا عرين تَرى لـه

ولم يتَّخذ عِرْساً ولم يَحْم مَعْقِلاَ

 

كآخرَ ذا نابٍ حديدٍ ومِخْـلـبٍ

وذلك أن فتيين تواجئا بالخناجر، أحدهما صُبيريّ والآخر كلْبيّ، فَحُملا إلى الأمير، فضرب الصُّبيريَّ مائة سوط، فلم يحمدوا صبره، وشغل عن الكلبي فضربه يوم العَرْض خمسمائة سوط، فصبر صبراً حمِدوهُ، ففخر الْكلبيُّ بذلك على الصُّبيري.
وابن مناذر مولى سُليمان بن عبيد بن علاّن بن شَمّاس الصُّبيري، فقال هذا الشعر، ومعناه أنّ شُجاعاً لو لقي الأسد وهو مسلَّح، بأرضٍ هو بها غريبٌ وليس هو بقرب غيضتِهِ وأشباله، لما كان معه، مما يتخذه، مثل الذي يكون معه في الحال الأخرى، يقولُ: وإنما صبرَ صاحبُكم لأنّه إنما ضُرِبَ بحضرة الأكفاء والأصدقاء والأعداء، فكان هذا مما أعانه على الصّبر، وضُربَ صاحبُنا في الخلاء، وقد وُكل إلى مقدار جودة نَفْسه، وقطعت المادةُ بحضور البطالة.
حمدان وغلامه وسمعتُ حمدانَ أبا العقب، وهو يقولُ لِغلامٍ له، وكيف لا تستطيل عليَّ وقد ضربُوك بين النّاس خمسِين سوطاً فلم تنطِق? فقلت: إذا ضربه السَّجَّانُ مائة قناةٍ في مكانٍ ليس فيه أحدٌ فصبرَ فهو أصبرُ النّاسِ.
تفسير بيت الخنساء وأمّا قوله: مشْي السّبَنْتَى، فإن السبَّنتى هو النمر، ثمَّ صار اسماً لكلِّ سبع جريء، ثم صاروا يسمُّون الناقة القوية سَبَنْتاة، قال الشّاعرُ:

مَشْي السَّبتى وجد السَّبَنْتى

رؤساء الحيوان وأمّا قولُهُ:

والليثُ رأسٌ وله الأسْرُ

 

وَتمْسح النِّيلِ عُقاب الهوا

إلاَّ بما يَنْتَقِضُ الدَّهْـرُ

 

ثلاثةٌ ليْسَ لَهُمْ غـالـبٌ

فإنّهم يزعمون أنَّ الهواء للعقُاب، والأرض للأسد، والماء للتِّمساحِ، وليس للنّارِ حظٌّ في شيءٍ من أجناس الحيوان: فكأنّه سلّم الرياسةَ على جميع الدُّنيا للعُقاب والأسد والتمساح؛ ولم يَمُد الهواءَ، وقصْرُ الممدود أحْسَنُ من مدِّ المقصورِ.
رواية المعتزلة للشعر وروت المعتزلةُ المذكورون كلُّهمْ رواية عامَّةِ الأشعارِ، وكان بِشرٌ أرواهم للشِّعر خاصَّةً.
الهوائي والمائي والأرضي من الحيوان وقولهم: الطائر هوائيٌّ، والسمك مائيٌّ، مجازُ كلام، وكلُّ حيوان في الأرض فهو أرضيٌّ قبل أن يكون مائيّاً أو هوائياً؛ لأنَّ الطَّائر وإنْ طار في الهواء فإنّ طيرانَهُ فيه كسباحةِ الإنسان في الماء، وإنّما ذلك على التكلفِ والحيلة، ومتى صار في الأرض ودلّى نفسه لم يجدْ بُدّاً من الأرض.
بقية قصيدة بشر الأولى  وأمّا بَقِيَّةُ القصيدةِ التي فيها ذكر الرَّافضة والإباضيَّةِ والنَّابتة فليس هذا موضع تفسيره.
وسنقولُ في قصيدته الأخرى، بما أمكننا من القول إن شاء اللّه تعالى.
انقضت قصيدةُ بشر بن المعتمر الأولى.

تفسير القصيدة الثانية

وأما قوله:

أوابد الوحش وأحناشها

فإن الأوابد المقيمة، والأحناشُ الحيّات، ثم صار بعدُ الضبُّ والوَرَلُ والحِرباء والوحَرة وأشباه ذلك - من الأحناش.
وأما قوله:

خيرٌ كثيرٌ عند مَنْ يدري

 

وكلُّها شرٌّ وفي شَرِّهـا

يقولُ: هي وإن كانَتْ مؤذيَةً وفيها قواتل فإن فيها دواءً، وفيها عبرةً لمن فكّر، وأذاها محنة واختبارٌ، فبالاختبار يطيع النّاسُ، وبالطاعة يدخلون الجنّة.
وَسئلَ علي بن أبي طالب، كرم اللّه وجههُ، غير مرَّةٍ في عِللٍ نالته فقيل لهُ: كيف أصبحت? فقال: بشرٍّ، ذَهبَ إلى قوله عزّ وجلّ:"قُلْ أعوذُ بِربِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ ما خلَقَ".
وأمّا قوله:

كالذِّئْبِ والثّعْلَبِ والذَّرِّ

 

فَشَرُّهُمْ أكثرُهُمْ حِـيلةً

فقد فسرهُ لك في قوله:

بما حوى من شدّةِ الأسْرِ

 

والليث قد بلّده عِلْـمُـهُ

وهكذا كلُّ من وثِقَ بنفسه، وقلَّت حاجته.
ويزعم أصحابُ القنصِ أنّ العُقاب لا تكادُ تراوغ الصَّيد ولا تعاني ذلك، وأنَّها لا تزال تكونُ على المرقَبِ العالي، فإذا اصطاد بعضُ سباع الطير شيئاً انقَضّتْ عليه فإذا أبصرها ذلك الطائرُ لم يكن همه إلا الهرب وترْك صيدِه في يدها، ولكنها إذا جاعت فلم تجدْ كافياً لم يمتنعْ عليها الذّئْبُ فما دونَه، وقد قال الشّاعرُ:

إليه من مُسْتَكَفِّ الجوِّ حملاقا

 

مُهَبّلٌ ذئبها يوماً إذا قَلَـبَـتْ

وقال آخر:

صَقْعاءُ لاحَ لها بالقَفرَةِ الـذِّيبُ

 

كأنّها حين فاض الماءُ واحتمِلَـتْ

إنَّ الشَّقاء على الأشقيْنَ مصبوبُ

 

صُبَّتْ عليه ولم تنصبَّ من أمـم

وأمَّا قوله:

في الأسرِ والإلحاح والصَّبرِ

 

تَعْرِفُ بالإحساسِ أقدارهـا

يقول: لا يخفى على كلِّ سبع ضعفُه وتجلدُه وقوته، وكذلك البهيمةُ الوحشيَّةُ لا يخفى عليها مقدارُ قوةِ بدنِها وسلاحها، ولا مقدارُ عَدْوِها في الكرِّ والفر، وعلى أقدار هذه الطّبقات تظهر أعمالها.
وأمّا قوله:

شرٌّ من اللّبْوَة والـنَّـمـرِ

 

والضَّبُع الغَثراء مع ذيخها

صاح فجَاءَت رَسلاً تجرِي

 

كما تَرى الذِّئب إذا لم يُطِق

يُحْجِمُ أو يُقْـدِمُ أو يَجْـري

 

وكُلُّ شيءٍ فعلـى قَـدْرِهِ

فإنَّ هذه السِّباع القَويَّة الشَّريفَةَ ذواتِ الرِّياسةِ: الأُسْد والنُّمور والبُبُورَ - لا تعرِض للنَّاس إلاّ بعد أن تهرم فتعجِزَ عن صيد الوَحش، وإن لم يكنْ بها جوعٌ شديدٌ فمرَّ بها إنسانٌ لم تعْرِضْ له، وليس الذِّئبُ كذلك، لأن الذِّئْبَ أشدُّ مطالبةً، فإن خاف العجز عوى عُواء استغاثة فتسامعت الذِّئاب وأقبلتْ، فليس دون أكل ذلك الإنسانِ شيءٌ.
وقسّم الأشياء فقال: إنّما هو نكوصٌ وتأخُّر، وفِرارٌ، وإحجام وليس بفرار ولا إقدام، وكذلك هو، وأمَّا قوله:

والعندليل الفرخ كالنَّـسْـرِ

 

والكَيْسُ في المكسبِ شَمْلُ لهم

فالعندليل طائرٌ أصغر من ابن تمرة، وابنُ تمرة هو الذي يُضرب به المثلُ في صغر الجسم، والنَّسر أعظمُ سباع الطَّير وأقواها بدناً.
وقال يونسُ النحويُّ وذكر خلفاً الأحمر فقال: يضربُ ما بين العندليل إلى الكُركيّ، وقد قال فيه الشّاعر:

لا عانساً يبقى ولا مُحْتلِـمْ

 

ويضربُ الكركي إلى القُنبرِ

وقال:

إيهاً إليك تَحَـذّرَنْ خَـلَـفُ

 

وبما أقولُ لصاحبي خـلـفٍ

من دُونِ قُلَّةِ رأسِهِ شَعَـفُ

 

فلو أنّ بيتك في ذُرى عَلـمٍ

إن لم يكن لي عنه مُنصرفُ

 

لخشيتُ قدرك أن يبـيتـهـا

وفي المثل: كلُّ طائرٍ يصيدُ على قَدْرِه.
كسب الذئب وخبثه وأمَّا قوله:

والفيلُ والأعلمُ كالوَبْـرِ

 

والخُلد كالذِّئب على كَسْبِهِ

فإنّه يقالُ: أغدرُ من ذئب وأخبث من ذئب، وأكسبُ من ذئب، على قول الآخر:

أكسبُ لِلْخَيْرِ من الذِّئْبِ الأزَلّ

والخير عنده في هذا الموضع ما يُعيش ويقُوت، والخير في مكانٍ آخر: المالُ بِعينه على قوله عزّ وجلّ: "إنْ ترَكَ خيْراً الْوصِيَّةُ"، وعلى قوله: "وإنَّهُ لِحُبِّ الخيْرِ لَشَديدُ"، أي إنّه من أجل حبِّ المال لبخيلٌ عليه، ضنين به، متشدِّد فيه.
والخير في موضعٍ آخر: الخصب وكثرة المأكول والمشروب، تقول: ما أكثر خير بيتِ فلان، والخير المحض: الطّاعة وسلامة الصدر.
وأمَّا قولهم: أخْبث من ذِئْبِ خَمَر فعلى قول الرَّاجز:

إذْ أنا بالغائط أستـغـيثُ

 

أما أتاك عَنِّي الـحـديثُ

وصحتُ بالغائط يا خبيث

 

والذِّئْبُ وسط أعنُزي يَعِيثُ

وقالوا في المثل: مُستودع الذئب أظلم.
الخلد والخُلد دويبةٌ عمياءُ صماءُ، لا تعرف ما يدنُو منها إلا بالشّمِّ، تخرُج من جُحرها، وهي تعلم أن لا سمع ولا بصَر لها، وإنما تَشْحا فاها، وتقفُ على باب جُحرها فيجيء الذُّباب فيسقط على شِدقها ويمرُّ بين لَحييها فتسُّد فمها عليها وتستدخلها بجذْبة النّفس، وتعلمُ أن ذلك هو رِزقها وقسمها، فهي تعرِض لها نهاراً دون اللّيل، وفي السّاعات من النهار التي يكون فيها الذباب أكثر، لا تفرِّط في الطَّلب، ولا تقصِّر في الطّلب، ولا تخطئ الوقْت، ولا تغلط في المقدارِ.
وللخلد أيضاً ترابٌ حواليْ جُحره، هو الذي أخرجه من الجحر، يزعمون أنّه يصلُحُ لصاحب النِّقرس إذا بُلّ بالماء وطُلي به ذلك المكان.
الأعلم وأمّا قوله:

والفيل والأعلم كالوبْرِ

فالفيل معروف، والأعلم: البعير، وبذلك يسمّى، لأنّه أبداً مشقوقُ الشَّفةِ العليا، ويسمّى الإنسان إذا كان كذلك به.
ويدلُّ على أن الأعلم والبعير سواء قولُ الراجز:

أخو خناثيرَ أقود الأعلما

 

إني لمن أنكر أو توسَّما

وقال عنترة:

تمْكُو فريصتُه كشِدْق الأعْلمِ

 

وحليل غانيةٍ تركتُ مجـدَّلاً

يريد شِدْق البعير في السعة، وقال الآخر:

من المصاعِب في أشداقِهِ عَلَمُ

 

كم ضربةٍ لك تحْكي فاقراسِيَةٍ

بعض ما قيل من الشعر في صفة الضرب والطعن وقال الكميت:

مَشافِرَ قَرْحى أكلْن البَريرا

وقال آخر:

طرُوقَته ويأتنِفُ السِّفـادا

 

بضربٍ يُلقِحُ الضِّبْعانُ مِنْهُ

وقال الشاعر الباهليّ:

وطعَنٍ كإيزاغِ المخاضِ تَبُورُها

 

بضَرْبٍ كآذان الفِراء فُضولُـه

كأنّه ضربَه بالسَّيف، فعلِق عليه من اللحم كأمثال آذان الحمير.
وقال بعضُ المحدثين، وهو ذو اليمينين:

قد بانَ عن مَنْكِبه الكاهلُ

 

ومقْعصٍ تشْخَبُ أوداجُه

يمشي بها الرَّامحُ والنّابِلُ

 

فصارَ ما بينهمـا هُـوَّةً

وفي صفات الطَّعنة والضَّربة أنشدني ابنُ الأعرابيّ:

فسهَّل مأوى ليلها بالـكـلاكِـلِ

 

تمنَّى أبو اليقظانِ عندي هَـجْـمَةً

وضربٍ كأشداق الفِصال الهوازلِ

 

ولا عَقْلَ عندي غيرُ طعنِ نوافـذٍ

كوقْعِ الهضابِ صُدِّعَتْ بالمعاوِلِ

 

وسَبٍّ يود المرءُ لو مـاتَ دُونـه

وقل الآخر:

ترى قائماً من خلفها ما وراءها

 

جَمَعْتُ بها كفِّي فأنْهرْت فَتْقهـا

وقال البعيث:

تِلاعاً من المرُّوت أحْوى جميمها

 

أئن أمرعَت مِعْزى عطِيَّة وارتعتْ

على الرّأس يكبو لليدينِ أميمهـا

 

تعرَّضْت لي حتّى ضربتُك ضربةً

أناملُ آسيها وجاشَتْ هُزُومـهـا

 

إذا قاسها الآسِي النِّطاسيُّ أُرعِشَتْ

وقال الآخر:

تَنُوحُ وقد وقعَ المِـهْـذَمُ

 

ونائحة رافعٍ صـوْتُـهـا

وقد غابت الكفُّ والمعْصَمُ

 

تَنُوحُ وتُـسْـبَـرُ قَـلاّسَةً

وقال آخر:

فِ قدْ قطعَ الحبلَ بالمِرْودِ

 

ومُستَنَّةٍ كاستنانِ الـخـرُو

سِ نجلاءَ مُؤْيسةِ الـعُـوَّدِ

 

دفوعِ الأصابع ضَرْحَ الشَّمُو

وقال محمد بن يسير:

أُْفْرِغَ منْ ثَعبِ الحـاجِـرِ

 

وطعن خليسٍ كفرْغ النّضيح

تردُّ السِّبارَ على السّـابـرِ

 

تُهالُ العوائدُ من فَتْـقِـهـا

وأنشدوا لرجلٍ من أزْد شنوءة:

يقطِّعُ أحشاءَ الجبانِ شهيقهـا

 

وطَعْنَ خَليسٍ قد طعنت مُرِشّةٍ

تقطع أم السكر شيب عقوقُها

 

إذا باشرُوها بالسِّبار تقطّعـتْ

وروي للفِندْ الزِّمَّاني ولا أظنُّه له:

وقلنا القـومُ إخـوانُ

 

كففنا عن بنى هـنـدٍ

جميعاً كالذي كانـوا

 

عسى الأيامُ ترجعهـم

وأضحى وهو عريانُ

 

فلمَّا صرحَ الـشـرُّ

عدا والليثُ غضبـانُ

 

شددنا شـدةَ الـلـيثِ

وتـوهـينٌ وإرنـانُ

 

بضربٍ فيه تفـجـيعٌ

وهي والزقُّ مـلآنُ

 

وطعن كفـم الـزقِّ

وأنشد السُّدّيّ لرجل من بلحارث:

فشمرَ رحلىِ بعنسٍ خبـوبْ

 

أتيت المحرم فـي رحـلـه

ويومَ الأباء ويومَ الكـثـيب

 

تذكر منِّى خطوباً مـضـت

وأشرطت نفسى بأن لا أثوب

 

ويومَ خزازَ وقدْ ألـجـمـوا

لها عائدٌ مثلُ ماء الشعـيب

 

ففرجتُ عنهـم بـنـفـاحةٍ

وجاشتْ إليهم بآنٍ صـبـيبْ

 

إذا سبروها عوى كلـبـهـا

وقال آخر:

مَّ هلالٍ وأين منِّى هـلالُ

 

طعنةً ما طعنتُ في جمحِ الذَّ

نجم الرمحُ خلفه كالخـلال

 

طعنة الثائر المصمم حتـى

وقال الحارث بن حِلِّزَة:

ل ولا ينفعُ الذليلَ النجـاءُ

 

لا يقيم العزيز بالبلدِ السـه

قرظىً كـأنـهُ عـبـلاءُ

 

حولَ قيسٍ مستلئمين بكبشٍ

رجُ من خربة المزادِ الماءُ

 

فرددناهم بضربٍ كمـا يخ

وما إنْ للحـائنـين دمـاءُ

 

وفعلنا بهمْ كما علم الـلـه

وقال ابن هَرْمة:

يَوْمَ اللَّقاء وكلِّ وَرْدٍ صاهِل

 

بالمشرفيّة والمظاهر نَسْجُها

فمسايفٍ فمعانقٍ فمُـنـازِل

 

وبكلِّ أرْوَعَ كالحريق مُطاعنٍ

ويروى: فمعاذل.
الإفراط في صفة الضرب والطعن وإذْ قد ذكرنا شيئاً من الشِّعر في صفة الضرب والطعن فقد ينبغي أن نذكر بعض ما يشاكلُ هذا الباب من إسرافِ من أسْرَفَ، واقتصادِ من اقتصد، فأما من أفْرط فقول مُهلهل:

صليلَ البيض تُقْرَعُ بالذُّكور

 

فلولا الرِّيحُ أُسْمِعُ مَنْ بحجْرٍ

وقال الهذلي:

ضَرْبَ المعوِّل تحتَ الدِّيمة العضدا

 

والطعن شَغْشَغَةٌ والضّرْبُ هَيْقَـعة

حِسَّ الجنوبِ سوق الماء والقـردا

 

وللقسـيِّ أزامـيلٌ وغَـمْـغَـمَةٌ

ومن ذلك قول عنترة:

باللّيْل مُعْتسَّ السِّباع الضُّـرَّمِ

 

بِرَحيبة الفَرْغين يهدي جرْسُها

وقال أبو قيس بن الأسلت:

أطْعَمُ نوماً غيرَ تَهـجـاعِ

 

قد حصَّت البيضةُ رأسي فما

وقال دُريد بن الصِّمَّة:

رُكوبي في الصَّريخ إلى المنادي

 

أعاذِلُ إنَّما أفْـنـى شـبـابـي

وأقْرَحَ عاتِقي حَمْل الـنِّـجـادِ

 

مع الفتيان حتّى خلّ جِـسْـمـي

ومّما يدخُل في هذا الباب قولُ عنترة:

وبكُلِّ أبْيضَ صارمٍ قَصَّالِ

 

رُعْناهم والخيلُ تَرْدي بالقنا

والطَّعْنُ مِنِّي سابِقُ الآجالِ

 

وأنا المنيّة في المواطِنِ كلِّها

وأمَّا قوله:

مِثْلي إذا نَزلوا بِضنْكِ المنزلِ

 

إنّ المنيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُـثِّـلَـتْ

وقال نهشل بن حَرِّيّ:

وفارسُ هيجا ينفض الصدر واقفُ

 

وما زال رُكْني يرتقي مـن ورائه

فوصف نفسه بأنّه مجتمع القلب، مرير لا يبرح.
وقد كان حميد بن عبد الحميد يوصف بذلك ،لأنّه كان لا يرمي بسَهْم، ولا يطعنُ برُمحٍ، ولا يضربُ بسيفٍ، ولكن التصبير والتَّحريض والثّبات، إذا انهزمَ كلُّ شُجاع منْ نذر في حميّة المقتول نذْرا فبلغ في طلب ثأره الشفاء. قال العبسيّ:

لَنَلْقى مِنْقراً أو عَبْدَ عَمْرِو

 

دَعَوْتُ اللّه إذْ قدْنا إلـيهـمْ

وشاء اللّهُ أنْ أدْرَكْتُ وتِري

 

وكانَتْ حَلْفَةً حُلِفَتْ لِـوِتْـرٍ

 

بقِرْواش بن حارثة بن صَخْرِ

 

وإنّي قد سَقِمْتُ فكان بُـرئي

والأعرابُ تعدُّ القَتْلَ سُقماً وداءً لا يبرئه أخذ ثأره دون أخٍ أو ابن عمٍّ، فذلك الثّأرُ المنيم.
وممَّن قال في ذلك صَبار بن التوءم اليشكري، في طلب الطّائلة وأنّ ذلك داءٌ ليس له بُرء، وكانوا قتلوا أخاه إساف بن عباد، فلما أدرك ثأره قال:

شفاني من الدَّاء المُخامِرِ شـافِ

 

ألمْ يأتِها أنِّي صَحَـوْتُ وأنَّـنـي

صحيحَ الأديم بَعْـد داءِ إسـاف

 

فأصبحْتُ ظبياً مُطْلقاً من حِبـالةٍ

كَشَفْتُ قناعي واعتطَفْتُ عطافي

 

وكنتُ مغطّى في قناعِي حِقْـبةً

وفي شبيه بهذا المذهب منْ ذكر الدّاء والبُرء قال الآخر:

إن الشّبابَ جُنونٌ بُرؤهُ الكبرُ

 

قالتْ عهدِتك مجنوناً فقلتُ لها

وفي شبيهٍ بالأوّل قول الشّيخ الباهليِّ، حين خرج إلى المبارزَةِ على فرسٍ أعجف، فقالوا: بالٍ على بالٍ، فقال الشّيخ:

على بالٍ ولم يعرِفْ بلائي

 

رآني الأشْعَرِيُّ فقالَ بـالٍ

فآبَ بدائه وشـفَـيْتُ دائي

 

ومثلُك قد كَسَرْتُ الرُّمْحَ فيه

وقالت بنتُ المنذر بن ماء السَّماءِ:

فكان قَسِيمُها خيْرَ القَسـيمِ

 

بعين أُباغ قاسَمْنا المـنـايا

كذاك الرُّمح يَكْلَفُ بالكريمِ

 

وقالوا فارس الهيْجاء قلنـا

وقال الأسدي:

وبالرَّاح مِنَّا فلم يدفعـونـا

 

رفعْنا طريفاً بأرْمـاحـنـا

ولا تأكلُ الحَرْبُ إلا السَّمينا

 

فطاح الوَشيظُ ومالَ الجْمُوحُ

وقال الخريمي:

وسَهْمُ المنايا بالذخائر مُولعُ

 

وأعددتُه ذُخْراً لكلِّ مُلِـمَّةٍ

وقال السموءلُ بنُ عاديا:

وتَكْرَهُه آجالهمْ فتطـولُ

 

يقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنا لنا

إذا ما رأتْه ُعامرٌ وسلولُ

 

لأنّا أُناسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً

وقال أبو العيزار:

شِلْوٌ تَنَشَّبَ في مخالِبِ ضارِي

 

يَدْنُو وتَرْفَعُهُ الرِّماحُ كـأنّـهُ

إنّ الشُّراة قصيرةُ الأعمـارِ

 

فتوى صرِيعاً والرِّماحُ تَنُوشُه

وقال آخر وهو يُوصي بلُبْس السِّلاح:

إنَّ الرِّماحَ بصيرةٌ بالحاسرِ

 

فإذا أتَتْكُمْ هذه فتلـبَّـسُـوا

وقال الآخر:

كِلتا اليدينِ كرُوراً غَـيْرَ وقّـافِ

 

يا فارسَ الناس في الهيجا إذا شُغلتْ

قوله شُعِلَتْ يريد بالسّيف والتُّرس، وأنشد أبو اليقظان: وكان ضروباً باليدينِ وباليَدِ أمَّا قوله: ضروباً باليدين، فإنّه يريد القِداح، وأمّا قوله: باليد فإنّه يريد السَّيف.
وأمّا قول حسّان لقائده حين قرَّبوا الطّعام لبعض الملوك: أطعام يدين أم يد? فإنه قال هذا الكلام يومئذ وهو مكفوفٌ.
وإن كان الطعام حَيْساً أو ثريداً أو حريرة فهو طعام يدٍ، وإن كان شواءً فهو طعام يدَين.
من أشعار المقتصدين في الشعر ومن أشعار المقتصدين في الشِّعر أنشدني قطرب:

دْتُ نفسي على ابن الصَّعِقْ

 

تركْت الرِّكابَ لأربابها فأجْهَ

وبعضُ الفوارِس لا يعتنق

 

جَعَلْتُ يديَّ وِشـاحـاً لـه

وممن صدق على نفسه عمرو بن الإطنابة، حيثُ يقول:

وضرْبي هامَة البطلِ المشِيحِ

 

وإقْدامي على المكْروهِ نَفْسي

مَكانَكِ تُجْمَدي أوْ تَسْتريحـي

 

وقولي كُلَّما جَشأتْ وجَاشَـتْ

وقل آخر:

فَلا ترهَبيه وانظُري كيف يركبُ

 

وقلتُ لِنفسي إنّما هـو عـامـرٌ

وقال عَمرو بن مَعْدِ يكرب:

جَدَاوِلُ زَرْعٍ أُرْسِلَتْ فاسْبَطَرَّتِ

 

ولّما رأيتُ الخيلَ زُوراً كأنَّـهـا

فَرُدَّتْ على مَكْرُوهِها فاسْتقَرَّتِ

 

فجاشَتْ إليّ النَّفْـسُ أوَّل مَـرَّةٍ

وقال الطّائيُّ:

أمْكنَ الضّرْبُ فمنْ شاءَ ضربْ

 

ودَنَـوْنـا ودَنَـوْا حـتّــى إذا

لَهذْميَّاتٌ وبيضٌ كـالـشُّـهُـبْ

 

ركضتْ فِينـا وفِـيهـمْ سـاعةً

غمراتِ الموتِ واختارُوا الهَربْ

 

تروا القـاعَ لـنـا إذْ كَـرِهُـوا

وقال النّمر بنُ تولب:

نهزُّ قناً سَمْهريّاً طِوالاَ

 

سَمَوْنا ليشْكُر يَوْمَ النِّهابِ

أحَبّوا الحياة فولَّوْا شِلالا

 

فلمّا التقينا وكان الْجـلادُ

وكما قال الآخر:

إذا ابيضَّ من هَوْل الطِّعان المسالحُ

 

هُم المقْدِمُون الْخيلَ تَدْمى نُحورُهـا

وقال عنترة:

عنْها ولكني تضايقَ مُقْدمي

 

إذْ يتَّقون بي الأسنِّةَ لم أخِـمْ

وقال قَطريُّ بن الفُجاءة:

من الأبطالِ ويْحكِ لا تُراعـي

 

وقولي كلّما جشأتْ لنـفـسـي

سوى الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي

 

فإنّكِ لـوْ سـألـتِ حـياةَ يومٍ

وقالت الخنْساء:

غداة الكريهةِ أبقى لـهـا

 

يُهِينُ النُّفوس وهَوْن النفوس

وقال عامر بن الطُّفيل:

أقِلِّي المراح إنَّني غيرُ مُقْصِر

 

أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثـلـهـا

وقال جرير:

أو نازلوا عانَقُوا الأبطال فاهتصروا

 

إن طارَدُوا الخيل لم يُشْوُوا فوارِسها

وقال ابن مقروم الضّبيّ:

أعطاك ثائبةً ولم يَتَعَـلَّـل

 

وإذا تُعلَّل بالسِّياطِ جيادُهـا

وعلامَ أرْكبهُ إذا لم أنـزلِ

 

فدعوا نَزالِ فكنتُ أوّل نازلٍ

وقال كعب الأشقري:

وللكربِ فيهم والخصاصةِ فاسـحُ

 

إليهم وفيه منتهى الحزم والـنـدى

إذا انفرجت من بعدهنّ الجـوانـح

 

ترى علقاً تغشى النقوش رشـاشـه

أشاطينُ بئرٍ هيجتهـا الـمـواتـحُ

 

كأن القنا الخطىَّ فـينـا وفـيهـم

هنالك في جمع الفريقـين رانـحُ

 

هناك قذفنا بـالـرمـاح فـمـائلٌ

ودارت على هامِ الرجال الصفائح

 

ودرنا كما دارتْ على قطبها الرحى

وقال مهلهل:

بان إن الخليل يبغي الخـلـيلاَ

 

ودلَفْنا بجمعنا لـبـنـي شَـيْ

وأخو الحرب من أطاق النزولا

 

لم يُطيقوا أن ينزلوا ونـزلْـنـا

وقال عبدة، وهو رجلٌ من عبد شمس:

كما خاضت البُزْلُ النِّهاءَ الطَّواميا

 

ولما زجرْنا الخيلَ خاضْتْ بنا القنا

ورَدْن فأنكرْن القبيل المـرامـيا

 

رمَوْنا برشْقٍ ثـمَّ إنَّ سـيوفـنـا

إذا ما عقدنا للجلادِ الـنّـواصـيا

 

ولم يكُ يثْني النَّبل وقعُ سُيوفـنـا

في ذكر الجبن ووهل الجبان قال اللّه عزَّ وجلّ: "يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحةٍ عَلَيْهمْ هُمُ الْعَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ قاتلَهُمُ اللّه أنّى يُؤْفكُون"، ويقال إن جريراً من هذا أخذ قوله:

خيلاً تكرُّ علـيكـم ورِجـالا

 

ما زلتَ تحسِبُ كُلَّ شيءٍ بعدَهُمْ

وإلى هذا ذهب الأوَّل:

مُسَوَّمةً تدعُو عُبيداً وأزْنما

 

ولو أنّها عصفورةٌ لحسبتها

وقال جران العود:

والقَلْبُ مُسْتَوْهِلٌ للبَيْنِ مشغـولُ

 

يومَ ارْتحلت برَحْلي قَبْل برذعتي

إثر الحُمول الغوادي وهو معقولُ

 

ثمَّ اغترزتُ على نِضْوى ليحملني

وهذا صفة وهل الجبان، وليس هذا من قوله:

وقادَ الجيادَ بأذنابِهـا

 

كملقي الأعنّةِ من كَفِّهِ

وقال الذَّكواني أو زمرة الأهوازيُّ، ففسر ذلك حيث يقول:

عادياً فوق طِرْفِهِ المَشْكولِ

 

يجعلُ الخيل كالسّفينِ ويَرْقى

لأنهم ربّما تنادوا في العَسكر: قد جاؤوا، ولا بأس فيُسرج الفارس فرسه وهو مشكولٌ ثم يركبه ويحثُّه بالسَّوط، ويضربُه بالرِّجل، فإذا رآه لا يُعطيه ما يريدُ نزل فأحْضر على رجليه، ومنْ وهل الجبان أن يُذْهل عن موضع الشِّكال في قوائم فرسه، وربما مضى باللِّجام إلى عَجْب ذنبه، وهو قوله: يجعل الخيْل كالسّفين لأنّ لجام السفينة الذي يغمزها به والشِّكال هو في الذَّنب.
وقال سهل بن هارون الكاتب في المنهزِمة من أصحاب ابن نهيك بالنَّهروان من خيل هَرْثمة بن أعْين:

بأنّ ظهورَ الخيل أدنى من العَطبْ

 

يُخيِّلُ للمهـزومِ إفـراطُ رَوْعِـه

لأنّ الجُبْنَ يُريه أنّ عَدْوَه على رجليه أنجى له، كأنّه يرى أنّ النَّجاة إنّما تكونُ على قدر الحمل للبدن. وقال آخر حينَ اعْتلَّ عليه قومُه في القتال بالورع:

سِواهُمُ مِنْ جميعِ النّاس إنسانَا

 

كأنّ ربَّك لم يَخْلقْ لِخَشـيتـه

وقال آخر:

على الخائفِ المطلوب كِفّة حَابِل

 

كأنّ بلادَ اللّـه وهـي عـريضةٌ

وقال الشّاعر:

مخافة أن يكون به السِّرارُ

 

يروِّعه السِّرارُ بكُلِّ أرضٍ

وأنشدني ابن رُحيم القراطيسي الشاعر ورمى شاطراً بالجبن، فقال:

فوارَى نفْسَهُ أشهرْ

 

رأى في النَّوم إنساناً

ويقولون في صفة الحديد إذا أرادوا أنّه خالص، فمن ذلك قول هِميان:

يمشون في ماء الحديدِ تنكُّبا

وقال ابنُ لجأ:

أخضر من ماءِ الحديدِ جِمْجِم

وقال الأعشى في غير هذا:

وَق عند الهيجا وقَلَّ البُصاقُ

 

وإذا ما الأكسُّ شبـه بـالأرْ

وقال الأعشى:

ولا نُرامي بالحجارَه

 

إذ لا نقاتل بالعِصـيِّ

وقال الأخطل:

لأعدائنا قيس بن عيلان من عُذر

 

وما تركتْ أسيافُنا حينَ جُـرِّدَتْ

وأنشد الأصمعيُّ للجعديّ:

لا تُلْبث الحلبَ الحلائبْ

 

وبنـو فـزارة إنّـهـا

يقول: لا تُلْبِثُ الحلائِبَ حَلَباً حتى تَهْزِمَهُم.
السّندل وأمَّا قوله:

كماهِرٍ يسبحُ في غَمرِ

 

وطائر يسبح في جاحمٍ

فهذا طائرٌ يسمَّى سَنْدل، وهو هِنْديّ، يدخل في أتون النّار ويخرج ولا يحترق له ريشة.
ذكر ما لا يحترق وزعم ثُمامة أن المأمون قال: لو أخذ إنسانٌ هذا الطُّحلب الذي يكون على وجّه الماء، في مناقع المياه، فجفَّفه في الظلّ وألقاه في النّار لما كان يحترق.
وزعموا أنّ الفلفل لا يضرُّه الحرق، ولا الغرق، والطَّلق لا يصير جمراً أبداً، قال: وكذلك المَغْرة.
فكأنّ هذا الطَّائرَ في طباعه وفي طباع ريشه مزاجٌ من طلاء النّفاطين، وأظنُّ هذا من طلق وخَطْمِيٍّ ومَغْرة.
وقد رأيْت عُوداً يُؤْتى به من ناحية كِرْمان لا يحترق، وكان عندنا نصرانيٌّ في عنقه صليبٌ منه، وكان يقول لضعفاء الناس: هذا العود من الخشبة التي صُلب عليها المسيح، والنّار لا تعمل فيها، فكان يكتسب بذلك، حتّى فُطن له وعورِض بهذا العُود.
الماهر وأمّا قوله:

كماهِرٍ يسبحُ في غَمْرِ

فالماهر هو السَّابح الماهر وقال الأعشى:

يقذِفُ بالبُوصيِّ والماهرِ

 

مِثلَ الفراتيّ إذا ما طما

وقال الربيع بن قَعْنب:

ثْل كَلْبِ الماء في يومٍ مَطِرْ

 

وترى الماهِرَ في غَمْرتِـه

لطعة الذئب صونعة السرفة والدبر وأمَّا قوله:

وصَنْعَة السّرْفَة والدَّبرِ

 

ولطعة الذِّئب على حَسْوِهِ

قال: فإنّ الذِّئب يأتي الجمل الميِّت فيفضي بغمغمته، فيعتمدُ على حجاج عينه فيلْحسُ عينه بلسانه حسْياً، فكأنّما قُوِّرت عينُه تقويراً، لِما أعُطيَ من قوَّة الرَّدَّة، وردُّه لسانه أشدُّ مرّاً في اللَّحم والعصب من لسان البقر في الخلى.
فأمّا عضّتُه ومصّتُه فليس يقعُ على شيء عظماً كان أو غيره إلاّ كان له بالغاً بلا معاناةٍ، من شدّة فكيه.
ويقال: إنّه ليس في الأرض سبعٌ يعضُّ على عظمٍ إلاّ ولَِكَسرْته صَوتٌ بين لحييه، إلاّ الذئب، فإنّ أسنانه توصف بأنّها تبري العظم برْي السَّيف المنعوت بأنّ ضربته من شدّة مُرورها في العظم، ومن قلّة ثبات العظْم له، لا يكون له صوت، قال الزُّبير بن عبد المطّلب:

غموضُ الصوت ضَرْبته صَمُوتُ

 

ويُنْبِي نخوَةَ المحـتـال عَـنّـي

ولذلك قالوا في المثل: ضربه ضربةً فكأنما أخطأه، لسرعة المرِّ، لأنّه لم يكن له صوت.
وقال الرَّاجز في صفة الذِّئب:

في شدْقِه شَفْرته ونـارُهُ

 

أطلس يخفي شخصه غُبارُه

وسنأتي على صفة الذئب، في غير هذا البابِ من أمره في موضعه إن شاء اللّه تعالى.
وأمَّا ذِكر صَنْعة السُّرْفة والدَّبْر، فإنّه يعني حكمتها في صنعة بيوتها، فإنّ فيها صنْعَةً عجيبةً.
سمع القُراد والحِجر وأمّا قوله:

أعجبُ ممّا قيل في الحِجْرِ

 

ومَسْمع القِرْدان في مَنْهَلٍ

فإنهم يقولون: أسمعُ مِنْ فَرَسٍ، ويجعلون الحجْر فرساً بلا هاء، وإنَّما يعنون بذلك الحِجْر، لأنها أسمع.
قال: والحِجْر وإن ضُرِبَ بها المثل، فالقُرادُ أعْجب منها، لأنها تكون في المنهل فتموج ليلة الوِرْد، في وقت يكون بينها وبين الإبل التي تريد الورود أميالٌ، فتزعمُ الأعراب أنها تسمعُ رغاءها وأصوات أخفافها، قبل أنْ يسمعها شيء.
والعرب تقول: أسمعُ منْ قُراد، وقال الرَّاجز:

أسمعُ منْ فَرْخِ العُقابِ الأسحمِ

ما في الجمل من الأعاجيب وأمَّا قوله:

مَرارة تُسْمَعُ في الذِّكـرِ

 

والمقْرم المعْلم ما إن لـه

عِنْدَ حُدوث الموتِ والنَّحْرِ

 

وحصيةٌ تنصُلُ من جَوفِـه

شقشقةً مـائلة الـهـدْرِ

 

ولا يرى بعدهمـا جـازرٌ

فهذا بابٌ قد غلط فيه من هو أعْنى بتعرُّف أعاجيب ما في العالم من بِشْر.
ولقد تنازع بالبصرة ناسٌ، وفيهم رجلٌ ليس عندنا بالبصرة أطيبُ منه، فأطبقوا جميعاً على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات فالتُمست خُصْيته وشقشقتُه أنهما لا توجدان، فقال ذلك الطيِّب: فلعلَّ مرارة الجمل أيضاً كذلك، ولعلّه أن تكون له مرارةٌ ما دام حيّاً، ثمَّ تبطل عند الموت والنَّحر، وإنّما صرنا نقول: لا مرارَة له، لأنّا لا نصلُ إلى رؤية المرارة إلاّ بعد أن تفارقه الحياة، فلم أجد ذلك عمل في قلبي، مع إجماعهم على ذلك، فبعثت إلى شيخٍ من جزَّاري باب المغيرة فسألته عن ذلك، فقال: بلى لعمري إنهما لتوجدان إن أرادهما مريد، وإنّما سمعت العامّة كلمةً، وربّما مزَحْنا بها، فيقول أحدنا: خُصية الجمل لا توجد عند مَنْحره أجلْ واللّه ما توجدُ عند منحره، وإنما توجد في موضعها، وربّما كان الجمل خياراً جيّداً فتلحق خصيتاه بكليتيه، فلا توجدان لهذه العلّة، فبعثت إليه رسولاً: إنّه ليس يشفيني إلاّ المعاينة، فبعث إليَّ بعد ذلك بيومٍ أو يومين مع خادمي نَفيس، بشقشقةٍ وخُصية.
ومثل هذا كثيرٌ قد يغلط فيه من يشتدُّ حرصُه على حكاية الغرائب.
ما في الفرس والثور من الأعاجيب وأمّا قوله:

أشاعَهُ العالمُ بـالأمـرِ

 

وليس للطّرْفِ طِحالٌ وقد

يعرِفُه الجازِرُ ذُو الخبرِ

 

وفي فُؤاد الثّورِ عَظْمٌ وقدْ

وليس عندي في الفرَس أنّه لا طحال له، إلاّ ما أرى في كتاب الخيل لأبي عبيدة والنّوادر لأبي الحسن، وفي الشِّعر لبشْر، فإن كان جوف الفرس كَجوف البرذون، فأهلُ خراسان من أهل هذا العسكر، يذبحون في كلِّ أسبوع عدَّة براذين.
وأمّا العظم الذي يوجد في قلب الثّور فقد سمعنا بعضهم يقول ذلك، ورأيتهُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق.
أعجوبة السمك وأمّا قوله:

ما كان منها عاشَ في البَحْرِ

 

وأكثرُ الحيتـان أعـجـوبةً

ولا دماغ السمك النـهـري

 

إذ لا لسانٌ سُقي مـلـحـه

فهو كما قال: لأنَّ سمك البحر كلّه ليس له لسانٌ ولا دِماغ.

القواطع في السمك

وأصنافٌ من حِيتان البحْر تجيء في كلِّ عام، في أوقاتٍ معلومةٍ حتّى تدخل دجلة، ثم تجوز إلى البطاح، فمنها الأسبور، ومنها البرسْتوك ووقته ومنها الجُواف ووقته، وإنما عرِفَتْ هذه الأصناف بأعيانها وأزمانها لأنها أطيبُ ذلك السَّمك، وما أشكّ أنّ معها أصنافاً أُخر يعلم منها أهلُ الأبلّة مثل الذي أعلم أنا من هذه الأصناف الثّلاثة.
كبد الكوسج وأمّا قوله:

ثمَّ توارى آخرَ الـدَّهـرِ

 

وأكبدٌ تَظْهر في لـيلِـهـا

مِزاجُه ماءً علـى قـدْرِ

 

ولا يُسيغ الطُّعمَ ما لم يكنْ

سوى جِرابٍ واسعِ الشَّجْرِ

 

ليس له شـيءٌ لإزلاقـه

فإنّ سمكاً يقال له الكوسج غليظ الجلد، أجرد، يشبه الجِرّيَّ، وليس بالجِرِّي، في جوفها شحمةٌ طيِّبة، فإن اصطادُوها ليلاً وجدوها وإن اصطادوها نهاراً لم يجدوها.
وهذا الخبر شائعُ في الأبُلة، وعند جميع البحريِّين، وهم يسمُّون تلك الشَّّحمة الكبد.
وأما قولهم: السَّمكة لا تسيغ طعمها إلاّ مع الماء، فما عند بِشْرٍ ولا عندي إلاّ ما ذكر صاحبُ المنطق، وقد عجِب بشرٌ من امتناعها من بلْع الطّعم، وهي مستنقعة في الماء، مع سعة جِرابِ فيها.
 والعرب تسمِّي جوف البئر من أعلاه إلى قعرِه جراب البئر.
وأمّا ما سوى هذه القصيدة فليس فيها إلاّ ما يعرف، وقد ذكرناه في موضعٍ غير هذا من هذا الجزء خاصَّة.

الضبع

وسنقول في باب الضّبع والقنفذ والحرقوص والورل وأشباه ذلك ما أمكن إن شاء اللّه تعالى.
قال أبو زياد الكلابيّ: أكلت الضّبع شاة رجلٍ من الأعراب، فجعل يخاطبُها ويقول:

عليَّ دَقُّ العُصْلِ من أنيابكْ

 

ما أنا يا جعارِ من خُطّابِـكْ

 

 

على حذا جُحْرِك لا أهابُكْ

جَعَارِ: اسمُ الضبع، ولذلك قال الراجز:

هزْلى تجرُّهُمُ ضِباعُ جَعارِ

 

يا أيُّها الجفْر السَّمين وقَومُه

ثم قال الأعرابيّ:

ملأْت مِنْها البَطْنَ ثُمَّ جُـلْـتْ

 

ما صَنَعتْ شاتي التي أكـلْـتْ

 

 

وخُنْتَني وبئْسَ ما فَـعـلْـتْ

وأرسل اللّه عليكَ الحـمّـى

 

قالت له: لا زلتَ تلقى الهمّا

 

 

لقد رأيْت رجلاً معـتـمّـا

قد طال ما أمسيتُ في اكتراثِ

 

قال لها: كذبتِ يا خباثِ

 

 

أكلتِ شاةَ صـبـيةٍ غِـراث

أَسهبْتَ في قولك كالمجنـوِن

 

قالت له والقولُ ذو شُجونِ:

لأفْجَعَنْ بِعـيركَ الـسَّـمـينِ

 

أما وربِّ المْـرسَـلِ الأمـين

حتَّى تكونَ عُقْـلةَ الـعُـيُونِ

 

وأمِّه وجَـحـشِـه الـقـرين

واجتهدي الجهد وواعـدينـي

 

قال لهـا وْيحَـكِ حـذِّرينـي

لأقطعَنَّ مُلتـقـى الـوتـينِ

 

وبالأمـانـيِّ فـعـلِّـلـينـي

فصدِّقينـي أو فـكـذِّبـينـي

 

مِنْكِ وأشفى الهمَّ مِنْ دَفـينـي

إذاً فشلّتْ عنـدهـا يمـينـي

 

أو اتركي حَقِّي ومـا يلـينـي

 

 

تعرّفـي ذلـك بـالـيقـينِ

وأنت شيخٌ مُهْتـرٌ مـفَـنّـدُ

 

قالت: أبالقتلِ لنا تهدِّد

منك وأنت كالذي قد أعـهـدُ

 

قولُكَ بالجُبْنِ علـيك يشـهـدُ

إذا تجردتُ لشأني فاصبـري

 

قال لها: فأبشِري وأبـشـري

أحلفُ باللّه العلـيِّ الأكـبـر

 

أنتِ زعمتِ قد أمنتِ منكـري

لأخْضِبنَّ منك جَنْبَ المنحَـر

 

يمين ذي ثـرية لـم يكـفـرِ

أو تتركين أحْمري وبَـقَـرِي

 

برمْيةٍ مـن نـازع مـذَكّـرٍ

فأصبحَتْ في الشّركِ المزعفرِ

 

فأقبلتْ للـقـدر الـمـقـدّرِ

والشَّيخُ قد مالَ بغربِ مجزرِ

 

مكبوبةً لوَجْهِها والمـنـخـر

منها ومقدورٍ وما لـم يُقْـدر

 

ثمّ اشتوى من أحمرٍ وأصفـر

جلد الضبع

وقال الآخر:

وشَرَكاً من استها لا يَنْقـطِـعْ

 

يا ليت لي نَعلينُ من جلد الضّبُعْ

 

 

كُلَّ الحذاء يحتذي الحافي الوَقعْ

وهذا يدلُّ على أنّ جلدها جلدُ سوء.
وإذا كانت السَّنةُ جدبةً تأكلُ المال، سمّتُها العربُ الضّبع، قال الشّاعر:

فإنّ قَوْمي لم تأكلُهم الضّبعُ

 

أبا خُراشة أمّا كُنْتَ ذا نفرٍ

تسمية السنة الجدبة بالضبع

وقال عُمير بن الحباب:

يشبعُ أولادَ الضباعِ العُرْجِ

 

فبشِّري القيْنَ بطَعْنِ شَرْجِ

حتّى اتّقَوني بظهُورٍ ثُبْـجِ

 

ما زال إسدائي لهمْ ونَسْجي

 

 

أرَيْننا يَوماً كيوم المـرْج

مما قيل من الشعر في الضباع

وقال رجلٌ من بني ضبَّة:

ففي البطون وقد راحتْ قراقير

 

يا ضبعاً أكـلـت آيارَ أحـمـرةٍ

دسمُ المرافـق أنـذالٌ عـواويرُ

 

ما منكم غير جعـلانٍ مـمـددة

تنكى عدوكم منـكـم أظـافـير

 

وغيرُ همزٍ ولمز للـصـديق ولا

منكك على الأقربِ الأدنى زنابير

 

وإتكم ما بطنـتـم لـم يزلْ أبـداً

وأنشد:

فمنهُم الذِّئب ومنهـم الـنَّـمِـرْ

 

القوْم أمثال السِّباع فـانـشَـمِـر

 

 

والضّبْع العَرجاءُ واللّيثُ الهصِرْ

وقال العلاجم:

كالدِّيخ أفنى سِنّه طول الهرم

 

معاورِ حلباته الشخص أعـم

وأنشد:

 

لسابغ المِشفر رحبٍ بلعمه

 

فجاوز الحرض ولا تشمِّمه

كالذِّيخ في يومٍ مُرشٍّ رِهَمه

 

سالت ذفاريه وشاب غلصمُه

 








يقول: وبَرُ لحييها كثيرٌ كأنّه شعر ذيخ قد بلّه المطر، وأنشد:

تخلَّجَتْ أشداقُها للـشُّـربِ

 

لما رأين ماتِحاً بـالـغَـرْبِ

 

 

تخْليجِ أشداقِ الضَّباع الغُلْبِ

يعني من الحرص والشّرهِ، وتمثّل ابنُ الزُّبير:

بلحْمِ امرئٍ لم يَشْهدِ اليومَ ناصرهُ

 

خُذيني فَجُرِّيني جَعارِ وأبشـري

وإنّما خصَّ الضّباع، لأنّها تنبش القبور، وذلك من فرط طلبها للحوم النّاس إذا لم تجدْها ظاهرة، وقال تأبّط شرّاً:

عليكمْ ولكن خامـري أمَّ عـامـر

 

فلا تَقْبُرُوني إنَّ قَـبْـري مُـحَـرَّمٌ

غُودر عِند الملتـقـى ثـمَّ سـائري

 

إذا ضربوا رأسي وفي الرّأس أكثري

سميرَ الليالي مُبْسـلاً بـالـجـرائر

 

هنالك لا أبْغـي حـياةً تـسـرُّنـي

إعجابُ الضِّباع بالقتلى

قال اليقطري: وإذا بقي القتيلُ بالعراء انتفخ أيره، لأنّه إذا ضربت عنقه يكون منبطحاً على وجهه، فإذا انتفخ انقلب، فعند ذلك تجيء الضّبع فتركبُه فتقضي حاجتها ثمَّ تأكله.
وكانت مع عبد الملك جاريةٌ شهِدت معه حربَ مُصعَب، فنظرت إلى مصعبٍ وقد انقلبَ وانتفخ أيره وورم وغلظ، فقالت: يا أمير المؤمنين، ما أغلظ أُيور المنافقين. فلطمها عبد الملك

حديث امرأة وزوجها

ابنُ الأعرابي: قالت امرأةٌ لزوجها، وكانت صغيرة الرّكب، وكان زوجُها صغير الأير: ما للرّجل في عِظَم الرّكَب منفعة، وإنّما الشّأن في ضِيق المدخل، وفي المصِّ والحرارة، ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ليس من هذا في شيء، وكذلك الأير، إنّما ينبغي أن تنظر المرأة إلى حَرِّ جلدته، وطيب عُسيلته، ولا تلتفت إلى كِبَره وصِغره، وأنعظ الرجل على حديثها إنعاظاً شديداً، فطمع أن ترى أيره في تلك الحال عظيماً، فأراها إيّاه، وفي البيت سِراجٌ، فجعل الرَّجلُ يشير إلى أيره، وعينُها طامحةٌ إلى ظلِّ أيره في أصْل الحائط، فقال: يا كذابة، لشدّة شهوتك في عظم ظلِّ الأير لم تفهمي عنِّي شيئاً، قالت: أما إنَّك لو كنت جاهلاً كان أنعم لبالك يا مائق، لو كان منفعةُ عِظم الأير كمنفعة عِظم الرَّكب لما طمَحَتْ عيني إليه، قال الرجل: فإنَّ للرَّكب العظيم حَظّاً في العين، وعلى ذلك تتحرّك له الشَّهوة، قالت: وما تصنع بالحركة، وشكٍّ يؤدِّي إلى شكّ? الأير إنْ عَظم فقد ناك جميع الحِر، ودخل في تلك الزَّوايا التي لم تزل تنتظمُ من بعيد، وغيرها المنتظم دونَها، وإذا صغُر ينيكُ ثُلث الحِرِ ونصفُه وثلثيه، فمنْ يسرُّه أن يأكل بثُلث بطْنه، أو يشرب بثُلث بطنه? قال اليقطري: أمكنها واللّه من القول ما لم يمكنه.

حديث معاوية وجاريته الخراسانية

وقال: وخلا معاوية بجاريةٍ له خراسانيّة، فما همَّ بها نظر إلى وصيفةٍ في الدّار، فترك الخراسانيّة وخلا بالوصيفة ثمَّ خرج فقال للخراسانيّة: ما اسم الأسد بالفارسيّة? قال: كَفْتار، فخرج وهو يقول: ما الكفتار? فقيل له: الكفتار الضّبع، فقال: ما لها قاتلها اللّه، أدركتْ بثأرها والفُرْسُ إذا استقبحت وجه الإنسان قالت: رُوي كَفْتار، أي وجه الضبع.

كتاب عمر بن يزيد إلى قتيبة بن مسلم

قال: وكتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم، حين عزل وكيع بن سُودٍ عن رياسة بني تميم، وولاَّها ضِرار بن حسين الضّبي: عزلْت السِّباعَ وولَّيت الضِّباع.

شعر فيه ذكر الضبع

وأنشد لعبّاس بن مِرداسٍ السُّلميِّ:

ضباعٌ بأكناف الأراك عـرائسـا

 

فلو مات مِنهمْ مَنْ جَرَحْنا لأصْبحتْ

وقال جريبة بن أشْيم:

وأسلم إنَّ الأوهنـين الأقـاربُ

 

فمنْ مبلغٌ عني يساراً ورافـعـاً

بديمومةٍ تنزو علىَّ الجـنـادبُ

 

فلا تدفننَّى في ضراً وادفنّنـنـىِ

فلا قام في مالٍ لكَ الدهرَ حالبُ

 

وإنْ أنتَ لم تعقرْ علىّ مطيتـىِ

ولا فرعلٌ مثل الصريمة حاربُ

 

فلا يأكلني الذئبُ فيما دفنتـنـي

إذا ذربت أنيابه والمـخـالـب

 

أزلُّ هلـيبٌ لا يزال مـآبـطـا

وأنشد:

ضبعُ الوادي وترميه الشجر

 

تركوا جارهـم تـأكـلـه

يقول: خذلوه حتّى أكله ألأم السِّباع، وأضعفها، وقوله: وترميه الشَّجر، يقول: حتّى صار يرميه من لا يرمي أحداً.

بقية الكلام في الضبع

وقد بقي من القول في الضّبُع ما سنكتبه في باب القول في الذئب.

الحرقوص

وأمَّا الحرقوص فزعموا أنّه دويْبَّة أكبر من البُرغوث، وأكثرُ ما ينبت له جناحان بعد حينٍ، وذلك له خير.
وهذا المعنى يعتري النّمل - وعند ذلك يكون هلاكه - ويعتري الدَّعاميص إذا صارت فَراشاً، ويعتري الجِعلان.
والحرقوص دويْبَّة عضُّها أشدُّ من عضِّ البراغيث، وما أكثر ما يَعضُّ أحراحَ النساء والخُصى، وقد سميِّ بحرقوص من مازِنٍ أبو كابية بن حُرقوص، قال الشّاعر:

كلّهُمُ هامته كالأفْحُـوصْ

 

أنتم بني كابية بن حُرقُوصْ

وقال بشرُ بن المعتمر، في شعره المزاوج، حين ذكر فضل عليٍّ على الخوارج، وهو قوله: ???نق صفحة 455 من الكتاب قال: والحرقوص يسمى بالنُّهيك، وعضَّ النُّهيك ذلك الموضع من امرأة أعرابيّ فقال:

لها بَيْنَ رجليها بِـجِـدِّ عَـقُـورِ

 

وما أنا للحرقوص إنْ عضَّ عَضةً

مقالتُها إنَّ النُّـهـيك صـغـيرُ

 

تطيب بنفْسي بعد ما تستفـزُّنـي

والذين ذهبوا إلى أنَّه البرغوث نفسُه قالوا: الدَّليل على ذلك قول الطِّرمَّاح:

يَكرُّ على صَفَّيْ تمـيمٍ لـوَلّـتِ

 

ولو أنّ حُرقوصاً على ظَهْرِ قَمْلة

قالوا: ولو كان له جناحانِ لما أركبه ظَهْر القملة، وليس في قول الطِّرمَّاح دليلٌ على ما قال، وقال بعضُ الأعراب، وعض الحرقوص خُصيتَه:

فلا ليلاً نَقَـرُّ ولا نَـهـارَا

 

لقدْ مَنَعَ الحراقيصُ القَـرَارَا

وفي الأحراحِ دَسّاً وانجِحارا

 

يُغالِبْنَ الرِّجالَ على خُصاهم

وقالت امرأةٌ تَعْني زوجَها:

بفخذِيَ منـهـا مـا يَجُـذُّ غـيورُ

 

يغارُ من الحرقوصِ أنْ عَضَّ عَضةً

أرى لَذّةَ الـدُّنـيا إلـيه تـصـيرُ

 

لقد وقَعَ الحُرقوصُ مِنِّي موقِـعـاً

وأنشدوا لآخر:

يَقْرُضُ أحياناً وحيناً ينهَـسُ

 

بَرَّحَ بي ذُو النُّقطتين الأملسُ

فقد وصفَه هذا كما ترى، وهذا يصدِّق قول الآخر، ويردُّ على من جعل الحراقيص من البراغيث، قال الآخر:

ماذا هُنالك من عَضِّ الحراقيصِ

 

يَبيت باللّيل جوّاباً عـلـى دَمِـثٍ

الورل

وسنقول في الورَل بما أمكنَ من القول إن شاء اللّه تعالى، وعلى أنَّا قد فرَّقنا القولَ فيه على أبواب قد كتبناها قبل هذا.
قالوا: الورَل يقتل الضَّبَّ، وهو أشدُّ منه، وأجودُ سلاحاً وألطفُ بدناً، قالوا: والسَّافِد منها يكون مهزولاً، وهو الذي يَزيِف إلى الإنسان وينفخ ويتوعَّد.
قال: واصطدت منها واحداً فكسرت حجراً، وأخذتُ مَرْوةً فذبحته بها، حتَّى قلت قد نخعته، فاسبطَرَّ لحِينِه فأردت أن أصغي إليه وأشرْتُ بإبهامي في فيه، فعضَّ عليها عضةً اختلعَت أنيابَه، فلم يخلِّها حتى عضضْت على رأسِه.
قال: فأتيتُ أهلي فشققْتُ بطنَه، فإذا فيها حيّتان عظيمتان إلاَّ الرَّأس.
قال: وهو يشدخ رأسَ الحيَّة ثمّ يبتلعُها فلا يضرُّه سمُّها، وهذا عنده أعجب ما فيه، فكيف لو رأى الحوَّائين عندنا، وأحدُهم يُعطَى الشيءَ اليسير، فإن شاء أكل الأفْعى نِيّاً، وإن شاء شِواءً، وإن شاء قَديداً فلا يضرُّه ذلك بقليلٍ ولا كثير.
وفي الوَرل أنه ليس شيءٌ من الحيوان أقوَى على أكل الحَيَّات وقتلها منه، ولا أكثر سفاداً، حتى لقد طمّ في ذلك على التَّيس، وعلى الجمل، وعلى العُصفور، وعلى الخِنزير، وعلى الذِّبَّانِ في العدد، وفي طُول المكث، وفيه أنَّه لا يحتفر لنفسه بيتاً، ويغتصب كلَّ شيء بيتَه؛ لأنها أيَّ جُحر دخَلتْه هربَ منه صاحبُه، فالورَل يغتصب الحيَّة بيتَها كما تغتصب الحيَّةُ بيوت سائر الأحناش والطّير والضَّب.
وهو أيضاً من المراكِب، وهو أيضاً مما يُستطاب، وله شَحمة، وَيَستطيبون لحمَ ذنبه، والورل دابَّة خفيفُ الحَركة ذاهباً وجائياً، ويميناً وشمالاً، وليس شيء بعد العَظَاءة أكثر تلفُّتاً منه وتوقفاً.

زعم المجوس في العظاءة

وتزعم المجوس أنّ أَهْرِمَن، وهو إبليس، لمَّا جلس في مجلسه في أوَّل الدهر ليقسِّم الشَّرَّ والسُّموم - فيكون ذلك عدّةً على مناهضة صاحب الخير إذا انقضى الأَجل بينهما، ولأنَّ من طباعه أيضاً فعلَ الشر على كلِّ حال - كانت العظاءَة آخِرَ من حَضَر، فحضَرَتْ وقد قسم السمَّ كلَّه، فتداخلها الحسرةُ والأَسف، فتراها إذا اشتدّت وقفَتْ وِقْفةَ تذكُّرٍ لما فاتَها من نصيبها من السُّم، ولتفريطها في الإبطاء حتى صارتْ لا تسكن إلاَّ في الخرابات والحُشُوش؛ لأنها حين لم يكن فيها من السمّ شيءٌ لم تطلبْ مواضعَ الناس كالوزَغِة التي تسكنُ معهم البيوت، وتكرَع في آنيتهم الماءَ وتمجُّه، وتُزاقُّ الحيَّات وتهيِّجها عليهم، ولذلك نفرت طباعُ النَّاس من الوزَغة، فقتلوها تحت كلِّ حجر، وسلمت منهم العظاءَة تسليماً منهم.
ولم أر قولاً أشدَّ تناقضاً، ولا أمْوق من قولهم هذا؛ لأنّ العظاءَة لم يكن ليعتريَها من الأسف على فوت السمّ على ما ذكروا أوَّلاً إلاَّ وفي طبعها من الشّرَارة الغريزيَّة أكثرُ ممَّا في طبع الأفعى.

شعر فيه ذكر للورل

قال الرَّاجز في معنى الأوَّل:

أكانَ هذا أول الـثّـوَاب

 

يا وَرَلاً رقرق في سَرَابِ

قال: ورقرقتُه: سُرعتُه ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً.
قال أبو دُؤاد الإيادي، في صفة لسان فرسه:

مَر مَجَّ الثَّرَى عليه العَرارُ

 

عَنْ لسان كَجُثَّة الورَل الأحْ

وقال خالد بن عُجْرة:

بِدارِ مَضِنّةٍ مَجُّ العرارِ

 

كأنّ لسانه ورلٌ علـيه

ووصف الأصمعيُّ حمرته في بعض أراجيزه، فقال:

يعرجُ منه بعد ضيق ضَنْكِ

 

في مَغرٍ ذي أضرُسٍ وصَكِّ

فروة القنفذ

قد قلنا في القُنفذ، وصنيِعه في الحيَّات وفي الأفاعي خاصَّة، وفي أنه من المراكب، وفي غير ذلك من أمره، فيما تقدم هذا المكانَ من هذا الكتاب.
ويقول من نزَع فروته بأنها مملوءة شحيمة، والأعراب تستطيبُ أكله، وهو طيِّب للأرواح.
شعر فيه ذكر للقنفذ والقنفذ لا يظهر إلا بالليل، كالمستخفي، فلذلك شبه به، قال أيمن بن خُريم:

خِبٌّ إذا نام عنْهُ النّاسُ لم يَنَم

 

كقنفذ الرَّمل لا تخفى مدارِجُه

وقال عَبْدَة بن الطبيب:

حَدَجوا قَنافِذَ بالنّمِيمةِ تمْزَعُ

 

قومٌ إذا دَمَسَ الظّلامُ عليهمُ

وقال:

فأوْلَى لَكُمْ يابَني الأعرجِ

 

شَرَيْتُ الأُمور وغالَيْتُهـا

دَبِيبَ القنافِذِ في العَرْفَجِ

 

تدبُّون حول رَكِيَّاتـكُـمْ

وقال الآخر في غير هذا الباب:

ينحطُّ من قُنفذِ ذِفراه الذّفِرْ

 

كأنّ قِيراً أو كُحيلاً ينعصرْ

وقال عبَّاس بن مِرداس السُّلَمِيُّ، يَضرب المَثَلَ به وبأذنيه في القلّة والصَّغَر:

ولكنْ أبوك أبو سَـالِـم

 

فإنَّك لم تك كابن الشَّـرِيد

على أذنَي قنـفُـذٍ رازم

 

حَمَلْتَ المئين وأثقالـهـا

وَالعِرْقُ يَسْرِي إلى النّائمِ

 

وأشبْهتَ جَدَّكَ شرّ الجدودِ

وأنشدنيِ الدَّلهمُ بن شهاب، أحد بني عوف بن كنانة، من عُكل، قال: أنشدنيه نفيع بن طارق في تشبيه رَكَب المرأة إذا جَمَّمَ بجلد القنفذ:

وقد رأيتَ هدجاً في مشيته

 

علقَ من عنائه وشـقـوتـه

بنتَ ثماني عشرةٍ من حجته

 

وقد جلاَ الشيبُ عذارَ لحيتـه

تمشى بجهمٍ ضيقهُ من همته

 

يظنها ظنًّا بـغـير رؤيتـه

جممَ بعدَ حلقـهِ ونـورتـه

 

لم يخزه الله برحب سعـتـه

لا يبلغ الأيرُ بنزعِ رهوتـه

 

كقنفذ القفِّ اختفى في فروته

كأنَّ فيه وهجاً من ملـتـه

 

ولا يكرُّ راجعاً بـكـرتـه

من تسمى بقنفذ ويتسمَّون بالقَنافذ، وذو البرة الذي ذكره عَمرو بن كلثوم هو الذي يقال له: بُرة القُنفذ، وهو كعب بن زهير، وهو قوله:

بهِ نَحْمَى وَنَشْفِيس المُلْجَئِينَا

 

وذو البُرة الذي حُدِّثتَ عَنه

كبار القنافذ  ومن القنافذ جنس وهو أعظم من هذه القنافذ؛ وذلك أنّ لها شوكاً كصَياصي الحاكة، وإنَّما هي مدارَى قد سُخِّرَتْ لها وذلِّلت تلك المغارز والمنابت، ويكون متى شاء أن ينصل منها رمى به الشخصَ الذي يخافُه، فَعلاَحتّى كَأنّه السهم الذي يخرجه الوتر.
ولم أر أشبه به في الحذف من شَجر الخِرْوع؛ فإنَّ الحبَّ إذا جفَّ في أكمامه، وتصدَّع عنه بعضَ الصَّدع، حذف به بعضُ الغصون، فربَّما وقَع على قاب الرّمح الطويل وأكثر من ذلك،

تحريك بعض أعضاء الحيوان دون بعض

والبرذون يسقُط على جلدِهِ ذبابةٌ فيحرِّك ذلك الموضعَ، فهذا عامٌّ في الخيل، فأمَّا النَّاس فإن المخنَّث ربما حرَّك شيئاً من جسدَه، وأيَّ موضعٍ شاء من بدنه.
والكاعاني، وهو اسم الذي يتجنّن أو يتفالج فالج الرِّعدة والارتعاش، فإنّه يحكي من صَرْع الشَّيطان، ومن الإزباد، ومن النَّفضة، ما ليس يصدرُ عنهما، وربّما جمعهما في نِقابٍ واحد، فأراك اللّه تعالى منه مجنوناً مفلوجاً يجمع الحركتين جميعاً بما لا يجيء من طباع المجنون.
حكاية الإنسان للأصوات وغيرها والإنسان العاقلُ وإن كان لا يحسُن يبني كهيئة وَكْر الزُّنبور، ونسج العنكبوت، فإنه إذا صار إلى حكاية أصوات البهائم وجميع الدوابّ وحكاية العُمْيان والعُرْجان؛ والفأفأء، وإلى أنْ يصوِّر أصنافَ الحيوان بيده، بَلَغ من حكايته الصُّورةَ والصوت والحركة ما لا يبلغه المحكيّ.
الحركات العجيبة وفي النَّاس من يحرِّك أذنَيه من بين سائر جسده، وربَّما حرَّك إحداهما قبل الأخرى، ومنهم من يحرِّك شعر رأسه، كما أنَّ منهم من يبكي إذا شاء، ويضحَك إذا شاء.
وخبَّرني بعضهم أنّه رأى من يبكي بإحدى عينيه، وبالتي يقترحُها عليه الغير.
وحكى المكّي عن جَوارٍ باليمن، لهنّ قرونٌ مضفورةٌ من شعر رؤوسهن، وأنَّ إحداهنَّ تلعب وترقُص على إيقاعٍ موزون، ثمَّ تُشخِص قرناً من تلك القرون، ثمَّ تلعب وترقص، ثمَّ تُشِخص من تلك الضَّفائر المرصَّعة واحدةً بعد أخرى، حتَّى تنتصب كأنها قرونٌ أوَابدُ في رأسها، فقلت له: فلعلَّ التَّضفير والترصيع أن يكون شديد الفتْل ببعض الغِسْل والتّلبيد، فإذا أخرجَتْه بالحركة التي تُثْبِتُها في أصل تلك الضفيرة شخَصت، فلم أره ذهبَ إلى ذلك، ورأيته يحقّقه ويستشهد بأخيه.
نوم الذئب وتزعمُ الأعراب أنّ الذّئب ينامُ بإحدى عينيه، ويزعمون أنّ ذلك من حاقِّ الحذر، وينشد شعر حُميد بن ثَوْرٍ الهلاليّ، وهو قوله:

مَنَايا بأُخْرَى فهو يَقظانُ هاجعُ

 

يَنامُ بِإحدى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّـقِـي ال

وأنا أظنُّ هذا الحديث في معنَى ما مُدح به تأبَّط شرّاً:

له كالئٌ من قلب شَيْحَانَ فاتـكِ

 

إذا خاط عينيه كرَى النّوم لم يَزلْ

إلى سَلّةٍ منْ حَدّ أخْضَرَ باتـكِ

 

ويجعَلُ عيَنَيه رَبِـيئَة قـلْـبـهِ

قولهم: أسمع من قنفذ ومن دلدل ويقال: أسمَعُ من قُنْفُذ، وقد ينبغي أن يكون قولهم: أسمعُ من الدُّلدُل من الأمثال المولّدة.
المتقاربات من الحيوان وفرق ما بين القنفذِ والدُّلدُل، كفرق ما بين الفَأْر والجُرْذان، والبقر والجواميس، والبَخَاتيِّ والعِراب، والضّأن والمعز، والذّر والنّمل، والجوَاف والأسبور، وأجناس من الحيّات، وغير ذلك؛ فإنّ هذه الأجناس منها ما يتسافد ويتلاقح، ومنها ما لا يكون ذلك فيها.
قولهم: افحش من فاسية ويقال: إنّه لأفْحشُ من فاسية وهي الخنفساء؛ لأنّها تفسو في يد من مَسَّها، وقال بعضهم: إنّه عنى الظَّربان؛ لأنّ الظّربان يفْسُو في وسط الهجْمة، فتتفرَّق الإبل فلا تجتمع إلا بالجهد الشّديد، ويقال: ألجُّ من الخنفساء، وقال خلفٌ الأحمرُ وهو يهجو رجلاً:

وأزْهى إذا ما مَشَى مِنْ غُرابِ

 

ألجُّ لَجاجاً مِن الخُـنـفـسـاء

رجز في الضبع وأنشد أبو الرُّديني، عن عبد اللّه بن كُراع، أخي سُويد بن كُراع، في الضّبع:

مُرْداً أولـه شُـمـطــا

 

مَنْ يجن أولاد طريفٍ رَهْطا

كأضْبعٍ مُرْطٍ هَبطْنَ هَبْطَا

 

رَأى عَضاريط طِوالاً ثُطَّـا

إنَّ لكم عندي هناءً لَعْـطَـا

 

ثم يفسِّينَ هَـزِيلاً مَـرْطَـا

 

 

خطماً على آنِفُكُمْ وعلطـا

قصة أبي مجيب وحكى أبو مجيب، ما أصابه من أهله، ثمَّ قال: وقد رأيت رؤيا عبَّرتها: رأيتُ كأني طردت أرنباً فانَجحرتْ، فحفرتُ عنها حتَّى استخرجتها، فرجوت أن يكون ذلك ولداً أُرزقه، وإنه كانت لي ابنة عمٍّ هاهنا، فأردتُ أن أتزوَّجها؛ فما ترى? قلت: تزوَّجْها على بركة اللّه تعالى، ففَعل؛ ثمَّ استأذنني أنْ يقيم عندنا أيَّاماً؛ فأقام ثم أتاني فقلتُ: لاتخبرْني بشيءٍ حتى أنشدَك، ثمَّ أنشدْتُه هذه الأبيات:

إذْ باتَ في مَجَاسِدٍ وطـيبِ

 

يا لَيت شِعْرِي عَن أبي مجيبِ

أأقْحَمَ الحِفارَ في القَـلـيبِ

 

مُعانقاً للـرَّشـأ الـرَّبـيبِ

 

 

أمْ كانَ رِخْواً يابسَ القَضيبِ

قال: بلى كان واللّه رخْواً يابسَ القضيب، واللّه لكأنّكَ كنتَ معنا ومُشاهِدَنا.

خصال الفهد

فأمَّا الفهد؛ فالذي يحضُرنا من خصاله أنّّه يقال إن عظام السِّباع تشتهي ريَحه، وتستدلُّ برائحته على مكانهِ وتُعجَب بلحمه أشدّ العجب.
وقد يصادُ بضروبٍ، منها الصَّوت الحسَن؛ فإنّه يُصغِي إليه إصغاءً حسناً، وإذا اصطادوا المسنَّ كان أنفعَ لأهله في الصَّيد من الجرو الذي يربُّونه؛ لأنَّ الجرو يخرج خَبّاً، ويخرج المسنُّ عَلَى التأديب صَيُوداً غيرَ خِبٍّ ولا مُوَاكِلٍ في صيده، وهو أنفع من صيد كلِّ صائد، وأحسن في العين، وله فيه تدبيرٌ عجيب.
وليس شيءٌ في مثل جِسْم الفَهد إلاّ والفَهد أثقلُ منه، وأحطمُ لظهر الدابَّة التي يَرقَى على مؤخَّرها.
والفهد أنْوَم الخلق، وليس نومه كنوم الكلب؛ لأن الكلب نومه نعاس واختلاس، والفهد نومه مُصْمَت: قال أبو حيَّة النّميري:

عَنّا وعنك وعنها نومةَ الفَهَدِ

 

بعذاريها أناساً نام حلمـهـمُ

وقال حُميد بن ثَورٍ الهِلاليّ:

أكلْت طعاماً دونه وهو جـائعُ

 

ونمتَ كنَوم الفَهْدِ عن ذي حفيظةٍ

أرجوزة في صفة الفهد

وقال الرقاشيُّ في صفة الفهد:

والصبحُ في الظلماء ذو تهـدى

 

قد أغتدى والليلُ أحوى الـسـدِّ

بأهرتِ الشـدقـين مـلـتـئد

 

مثل اهتزازِ العضب ذى الفرندِ

طاوى الحشا في طىِّ جشمٍ معدِ

 

أربدَ مضبورِ القـرا عـلـكـدِ

برامز ذى نـكـتٍ مـسـودِّ

 

كزَّ البراجيمِ هصـور الـجـدِّ

شرنبثٍ أغـلـبَ مـصـعـدِّ

 

وسحر اللـجـين سـحـر وردِ

على قطاة الردف ردف العبـد

 

كالليث إلاَّ عاين بعدَ الـجـهـدِ

وانقضَّ يأدو غيرَ مـجـرهـدَّ

 

سر سرعتنا بـحـس صـلـد

مثل انسياب الحية الـعـربـد

 

في ملـهـبٍ مـه وخـتـلٍ إدِّ

وقوله: مثل انسياب الحيَّة العربدِّ، هذه الحيَّة عين الدابّة التي يقال لها العربِد، وقد ذكرها مالك بن حريم في قوله لعمْرو بن معد يكرب:

لرفوتنى ف يالخيل رفـوا

 

يا عمرو لو أبصـرتـنـي

تعصو بها الفرسان عصوا

 

والبيضُ تلمـعُ بـينـهـم

يقطو أمامَ الخيلِ قـطـوا

 

فلقـيت مـنـي عـربـداً

يدخلنَ تحت البيت حـبـوا

 

لمـا رأيتُ نـسـاءهــم

جوفِ الظلام هبى وهبـوا

 

وسمعتُ زجرَ الخيل فـي

تسطو على الخبراتِ سطوا

 

في فـيلـقٍ مـلـمـومةٍ

وقال الرَّقاشي أيضاً في الفهد:

رَهْطُ رسولِ اللّه أهلُ المفْخَر

 

لما غدا للصَّيدِ آلُ جَـعْـفَـرِ

وكاهلٍ بادٍ وعـنْـق أزْهـر

 

بفَهْدَةٍ ذات قَـراً مُـضَـبَّـر

منها إلى شِدقٍ رُحابِ المفْغَر

 

ومُقْلةٍ سال سَوادُ المـحـجـرِ

وأيْطلٍ مستأسدٍ غضـنـفـر

 

وذنبٍ طالَ وجـلْـدٍ أنْـمَـر

فَطْساءَ فيها رَحَبٌ في المنخر

 

وأذنٍ مكسورةٍ لـم تـجْـبـرِ

أرثها إسحاق في الـتـعـذر

 

مثل وجار التتفل الـمـقـوَّر

 

 

منها على الخدَّين والمُعـذّر

نعت ابن أبي كريمة للفهد

وقال ابنُ أبي كريمة في صفة الفهْد:

غدوت عليها بالمنايَا الشواعبِ

 

كأنَّ بناتِ القَفْر حين تشعّبَـتْ

 

بمُخْطفة الأحشاء رحْبِ التّرائبِ

 

بذلك نبَغي الصيد طوراً وتـارةً

مخطّطة الآماق غلبِ الغَوَارب

 

مُوَقَّفة الأذناب نُمرٍ ظهـورهـا

تخالُ على أشْداقها خطّ كاتـبِ

 

مُوَلَّعةٍ فُطْح الجِبَـاهِ عـوابـسٍ

إذا آنَسَتْ بالبيد شُهبَ الكـتـائبِ

 

فوارسُ ما لم تلقَ حرْباً ورجـلةٌ

عيونٌ لدى الصّرّاتِ غير كواذب

 

تضَاءَلُ حَتَّى ما تكاد تُبـينُـهـا

مُرَمَّلة تحْكي عِناقَ الحَـبـائب

 

توسّد أجيَادَ الـفـرائس أذرُعـاً

ما يضاف إلى اليهود من الحيوان

قال: والصبيان يصيحون بالفهد إذا رأوه: يا يهوديّ وقد عرفنا مَقالهم في الجِرِّيّ.
والعامَّة تزعم أن الفأرة كانت يهوديَّةَ سحّارة، والأرضة يهودية أيضاً عندهم؛ ولذلك يلطِّخون الأجذاع بشحم الجزُور.
والضبّ يهوديّ؛ ولذلك قال بعضُ القصَّاص لرجل أكل ضبّاً: اعلمْ أنّك أكلت شيخاً من بني إسرائيل.
ولا أراهم يضيفون إلى النّصرانية شيئاً من السِّباع والحشرات.
ولذلك قال أبو علقمة: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف رجحون، فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب؛ ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ: "وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ"، قال: فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف.
فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب، لأنَّ الذئابَ كلها لم تأكله.

زعم المجوس في لبس أعوان سومين

وتزعمُ المجوس أنّ بَشُوتَن الذي ينتظرون خروجه، ويزعُمون أنّ الملك يصيرُ إليه، يخرج على بقرةٍ ذاتِ قرون، ومعه سبعون رجلاً عليهم جلود الفهود، لا يعرفُ هرّا ولا بِرّاً حتى يأخذ جميع الدنيا.
الهرّ والبرّ وكذلك إلغازهم في الهرّ والبرّ، وابن الكلبي يزعم عن الشّرقي بن القطاميّ، أن الهرّ السنّور، والبرّ الفارة.

جوارح الملوك

والباز والفَهد من جوارح الملوك، والشاهين، والصَّقر، والزُّرَّق، واليؤيؤ.
وليس ترى شريفاً يستحسِنُ حملَ البازي - لأنّ ذلك من عمل البازيار - ويستهجن حمل الصُّقور والشواهين وغيرها من الجوارح، وما أدري علّة ذلك إلا أنّ البازَ عندهم أعجميّ، والصَّقر عربيّ.
ومن الحيوان الذي يدرّب فيستجيب ويَكيس وينصَح العَقْعَقُ، فإنّه يستجيبُ من حيثُ تستجيبُ الصُّقور، ويُزْجِر فيعرف ما يُرَاد منه ويخبأ الحَلي فيُسأل عنه ويُصاح به فيمضي حتى يقفَ بصاحبه على المكان الذي خبَّأه فيه، ولكن لا يلزم البحث عنه.
وهو مع ذلك كثيراً ما يُضيع بيضه وفِراخه.
مخبئات الدراهم والحلى وثلاثة أشياءَ تُخبِّي الدَّراهم والحليَ، وتَفْرَحُ بذلك من غير انتفاع به، منها: العَقعقُ؛ ومنها ابن مِقْرض: دويْبّةٌ آلَقُ من ابن عِرْس؛ وهو صعبٌ وحْشيٌّ، يحبُّ الدَّراهم، ويفْرَحُ بأخذها، ويخبيها، وهو مع ذلك يصيد العصافير صيداً كثيراً، وذلك أنّهُ يُؤْخَذ فيُربَطُ بخيطٍ شديد الفتْل، ويُقابلُ به بيت الْعُصفور، فيدخُلُ عليه فيأخذه وفراخَه، ولايقتلها حتى يقتلها الرّجل، فلا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جُحْر، فإذا حلّ خيطه ذهَبَ ولم يقُم.
وضرب من الفار يسرق الدَّراهِمَ والدنانير والحَلْي ويفرح به ويُظْهِرهُ ويغيِّبه في الجُحر وينظُر إليه ويتقلّب عليه.
ذَنَبُ الوزغة قال: وخطب الأشعث فقال: أيُّها الناسُ إنه مابقي من عدوِّكم إلا كما بقي من ذَنَب الوزَغة تضرِب به يميناً وشمالاً ثم لاتلبث أن تموت فمر به رجلٌ من قشير فسمع كلامه فقال: قَبَّح اللّه تعالى هذا ورأيَه، يأمر أصحابَه بقلَّة الاحتراس، وتركِ الاستعداد.
وقد يُقطَع ذنبُ الوزَغةِ من ثلثها الأسفل، فتعيش إن أفلتَتْ من الذَّرِّ.
أشد الحيوان احتمالاً للطعن والبتر وقد تحتمل الخنافسُ والكلابُ من الطَّعْن الجائف، والسّهم النَّافذ؛ ما لا يحتملُ مثلَه شيء، والخُنفَسَاءُ أعْجبُ من ذلك وكفاك بالضّبِّ.
 والجمل يكون سَنامُه كالهدف، فيُكشَف عنه جلدُه في المجهدَة؛ ثمَّ يُجتث من أصله بالشِّفار، ثمَّ تعاد عليه الجلدةُ ويُدَاوَى فيبرأ، ويحتمل ذلك، وهو أعْجَب في ذلك من الكبش في قطع أليته من أصل عَجْب ذنَبه، وهي كالتُّرس، وربما فعل ذلك به وهو لا يستطيع أن يقُلَّ أليته إلاّ بأداةٍ تتَّخذ، ولكنَّ الألية على كلِّ حال طرفٌ زائد، والسَّنام قد طبَّقَ على جميع ما في الجوف.
ذكاء إياس ونظر إياسُ بن معاوية في الرَّحْبة بواسط إلى آجُرَّة، فقال: تحت هذه الآجُرَّة دابّة: فنزعوا الآجُرَّة فإذا تحتها حيَّة متطوِّقة، فسُئِل عن ذلك، فقال لأنِّي رأيتُ ما بينَ الآجُرَّتين نَدِيّاً من جميع تلك الرَّحَبة، فعلمتُ أن تحتها شيئاً يتنفّس.
هداية الكلاب في الثلوج وإذا سقط الثّلج في الصحارى صار كلَّه طبقاً واحداً، إلاّ ما كان مقابلاً لأفواه جِحَرة الوحْش والحشرات؛ فإنّ الثّلج في ذلك المكان يَنْحسر ويرقّ لأنفاسها من أفواهها ومنَاخِرها ووهَج أبدانها، فالكلابُ في تلك الحال يعتادها الاسترواح حتى تقفَ بالكلاّبين على رؤوس المواضع التي تنبت الإجْرِدّ والقَصيص، وهي التربة التي تُنبتُ الكَمْأة وتربِّيها.
تعرّف مواضع الكمأة وربما كانت الواحدةُ كالرُّمانة الفخْمة، ثم تتخلَّق من غير بزر، وليس لها عرقٌ تمصُّ به من قُوى تلك الأرض، ولكنها قوى اجتمعَت من طريق الاستحالات، كما يَنطبخُ في أعماق الأرض، من جميع الجواهر وليس لها بدّ من تربةِ ذلك من جوهرها، ولا بدَّ لها من وسْميّ، فإذا صار جانِيها إلى تلك المواضع - ولا سيما إن كان اليومُ يوماً لِشمسهِ وَقْعٌ - فإنه إذا أبصر الإجرِدَّ والقَصِيص استدلَّ على مواضعها بانتفاخ الأرض وانصداعها.
وإذا نظر الأعرابيّ إلى موضع الانتفاخ يتصدّعُ في مكانه فكان تفتُّحه في الحالات مستوياً، علم أنَّه كمأة؛ وإن خلَطَ في الحركة والتصدُّع علم أنّه دابَّة، فاتَّقى مكانّها.

نوادرَ وأشعار وأحاديث

قال الشّاعر:

وأطعْتِ رأيَ ذَوي الْجَهالَهْ

 

وعصَيتِ أمْرَ ذوي النُّهـى

والمرءُ يَعْجَزُ لا المَحَالـه

 

فاحتلتُ حِينَ صَرَمْتِـنِـي

والحرُّ تكفيه المـقـالـهْ

 

والعبدُ يقرعُ بـالـعـصـا

وقال بشّار:

حَمَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلِدي

 

وصاحبٍ كالدُّمّل المُـمِـدِّ

وليس للملحِفِ مثلُ الـرَّدِّ

 

الحُرُّ يُلْحَى والعصا للعَبْـدِ

وقال خليفة الأقطع:

والحُرُّ تكفيه المَلامَهْ

 

العبد يُقْرَعُ بالعصـا

القول في العُرْجان

قال رجلٌ من بني عِجْل:

فقالت له ليلَى مقالةَ ذي عـقْـلِ

 

وشَى بيَ واشٍ عندَ لَيْلَى سَـفـاهةً

كَوَرْهَاءَ تجترّ الملامة للـبَـعـلِ

 

وخبَّرَها أنِّي عَرِجْتَ فـم تـكُـنْ

جَعَلْتُ العَصَا رِجلاً أقيمُ بها رِجلي

 

وما بيَ مِنْ عَيبِ الفتى غَيْرَ أنّنـي

وقال أبو حَيَّة في مثل ذلك:

ظهْري فَقُمت قِيَامَ الشّاربِ السَّـكـرِ

 

وقد جَعَلْتُ إذ ما قُمـتُ يُوجِـعُـنـي

فصرتُ أمشي على أخرى من الشجر

 

وكنتُ أمشي على رِجلْينِ مُـعْـتَـدِلاً

وقال أعرابيٌّ من بني تميم:

ألِفْتُ قناتي حِينَ أوجَعني ظَهْري

 

وما بيَ منْ عيب الفتى غَيْرَ أنّني

وكان بنو الحَدَّاءِ عُرْجاناً كلّهم، فهجاهُم بعض الشُّعراء فقال:

وكلُّ جارٍ على جيِرانِهِ كَلِـبُ

 

للّه درُّ بَني الحَدّاءِ مـنْ نَـفَـرٍ

كما تُنَصَّبُ وَسْطَ البيعَةِ الصُّلُبُ

 

إذا غَدَوْا وعصيُّ الطّلْح أرجُلُهُم

وإنّما شبه أرجلهم بعصيّ الطّلح؛ لأنَّ أغصان الطلح تنْبت معوجَّة، لذلك قال مَعْدانِ الأعمى:

ر وقد بات قاسِمَ الأنـفـالِ

 

والذي طفَّفَ الجدار من الذُّع

وبسَاقٍ كعُودِ طَـلـحٍ بـالِ

 

فغدا خامعاً بـأيدِي هَـشِـيمٍ

وله حديثٌ.

عصا الحكم بن عبدل

وكان الحكمُ بن عبدل أعرجَ، وكان بعد هجائه لمحمد بن حسَّان بنِ سعد لا يبعث إلى أحدٍ بعصاه التي يتوكأ عليها وكتبَ عليها حاجَته إلاّ قضاها كيفَ كانت، فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو أميرُ الكوفة، وكان أعرجَ، وكان صاحبُ شُرطته أعرَج فقال ابن عَبْدَل:

عملاً فهذي دَولَةُ العُـرجـانِ

 

ألقِ العَصَا ودَعِ التَّعَارجَ والتمِسْ

يا قومنا لكلـيهـمـا رِجـلان

 

فأميرنُا وأميرُ شُرطِتنَـا مَـعـاً

وأنا فإنّ الرَّابعَ الـشـيطـانُ

 

فإذا يكـونُ أمـيرنُـا ووزيرُه

وقال آخر ووصف ضَعفه وكِبَر سنِّه:

وأقودُ للشرَف الرفيع حمارِيا

 

آتِي النديَّ فلا يُقرَّب مجلسي

عرجان الشعراء

وكان من العُرجان والشعراء أبو ثعلب، وهو كليب بن أبي الغول، ومنهم أبو مالك الأعرج، وفي أحدهما يقول اليزيدي:

على خبثه والناطفـيُّ غـيورُ

 

أبو ثعلبٍ للناطـفـيِّ مـؤازِرٌ

وصاحبُنا ماضي الجَنان جَسورُ

 

وبالبغلة الشهباء رِقَّةُ حـافـرٍ

وما الـنـاسُ إلآ آيِرٌُ ومَـئيرُ

 

ولا غَرْوَ أنْ كان الأعيرجُ آرَهَا

البدء والثُّنيان

وقال الشاعر:

وبَدْؤُهم إنْ أتانا كان ثُنْيانَا

 

تَلَقى ثِنَانا إذا ما جاءٍ بَدَأَهم

فالبدء أضخم السَّادات؛ يقال ثِنًى وثنيان، وهو اسم واحد، وهو تأويلُ قولِ الشَّاعرِ:

صُدُودَ الْبَكْرِ عن قَرْمٍ هِجَانِ

 

يَصُدُّ الشَّاعر الثُّنْيَانُ عَـنِّـي

لم يمدح نفسه بأن لا يغلب الفحل وإنَّما يغلب الثّنيانَ، وإنما أراد أنْ يصغِّر بالذي هَجَاه، بأنه ثنيان، وإن كان عندَ نفسِه فحلاً وأمَّا قول الشَّاعر:

يجئْ قبل السّوابقِ وهو ثانِ

 

وَمَنْ يَفْخَرْ بمثل أبي وجَدّي

فالمعنى ثانٍ عنانه.

أحاديث من أعاجيب المماليك

- أتيتُ باب السَّعدانيَ، فإذا غلامٌ له مليحٌ بالباب كان يتْبع دابَّته، فقلت له: قلْ لمولاك، إن شئتَ بكَرتَ إليَّ، وإن شئت بكَرتُ إليك، قال: أنا ليس أكلّم مولاي - ومعي أبو القنافذ - فقال أبو القنافذ: ما نحتاج مع هذا الْخُبْرِ إلى معايَنَة.
وقال أبو البصير المنجِّم، وهو عند قثم بن جعفر، لغلام له مليحٍ صَغيرِ السّنّ: ما حَبَسك يا حلَقيّ? والحلقيُّ:المخنث - ثمّ قال: أمَا واللّه لئن قمتُ إليك يا حلَقيُّ لَتَعلمنَّفلمَّا أكثر عليه من هذا الكلام بكى و قال: أدعو اللّه على مَنْ جعلَني حَلَقياً.
حدَّثني الحسن بنُ المرْزبانِ قال: كنتُ مع أصحابٍ لنا، إذ أُتينا بغلامٍ سنديٍّ يُباع، فقلتُ له: أشتريك يا غلام? فقال: حتَّى أسألَ عنك قال المكِّي: وأُتِيَ المثنّى بن بِشرٍ بِسِنْديٍّ ليشتريه على أنّه طبّاخ، فقال له المثنى: كَمْ تحسنُ يا غلامُ من لونٍ? فلم يُجبْه؛ فأعاد عليه، وقال: يا غلامُ كَمْ تحسنُ من لون? فكلّم غيرَه وتركه؛ فقال المثنّى في الثالثة: ما له لايتكلم? يا غلام، كم تحسنُ من لون? فقال السندي: كم تحسن من لون كم تحسن من لون وأنت لا تحسن ما يكفيك أنت? قال: حسبُك الآن: ثم قال المثنّى للدَّلاّل: امضِ بهذا، عليه لعنةُ اللّه.
وحدَّثني ثمامة قال: جاءنا رجلٌ بغلامٍ سِنديّ يزعمُ أنّه طباخٌ حاذق، فاشتريتُه منه، فلمَّا أمرتُ له بالمال قال الرَّجل: إنه قد غاب عنا غيبةً، فإن اشتريتَه عَلى هذا الشّرط، وإلاّ فاتركْهُ، فقلتُ للسندي: أكنتَ أبقْتَ قطّ قال: واللّه ما أبقْتُ قطّ فقلت: أنت الآن قد جمعتَ مع الإباق الكذب قال: كيف ذلك ? قلتُ: لأنّ هذا الموضعَ لا يجوز أنْ يكذِب فيه البائع، قال: جعلني اللّه تعالى فِدَاءَك أنا واللّه أخبرك عن قصّتي: كنت أذنَبتُ ذنْباً كما يُذْنِبُ هذا وهذا، جميعُ غلمان النّاس فحلف بكلّ يمين لَيضربنِّي أربَعمائة سوط، فكنتَ ترى لي أن أقيم? قلت: لا واللّه قال: فهذا الآن إباق? قلتُ لا، قال: فاشتريته فإذا هو أحسنُ النّاس خَبْزاً وأطيبُهم طبخاً.
وخبَّرني رجلٌ قال: قال رجلٌ لغلام له ذاتَ يوم: يا فاجر قال: جعلني اللّه فِداك، مَولى القوم منهم.
 وزعم روح بن الطائفية - وكان روْحٌ عَبداً لأخْت أنَس بن أبي شيخ، وكانت قد فوَّضت إليه كلَّ شيءٍ من أمْرها - قال: دخلت السُّوق أريدُ شراءَ غلامٍ طبَّاخ، فبينا أنا واقفٌ إذ جيءَ بغلامٍ يُعرَض بعشرة دنانير، ويساوي على حُسْن وجهه وجودة قدِّه، وحداثة سنِّه، دونَ صناعته - مائَة دينار، فلمَّا رأيته لم أتمالك أنْ دنوتُ منه فقلت: ويحك أقلُّ ثمنِك على وجْهِك مائةُ دينار، واللّه ما يبيعُك مولاك بعشْرَة دنانيرَ إلاّ وأنت شرُّ الناس فقال: أمَّا لهم فأنا شرُّ الناس، وأمَّا لغيرهم فأنا أساوي مائةً ومائةً، قال: فقلت: التزيُّن بجمالِ هذا وطيبِ طبْخِه يوماً واحداً عند أصحابي خيرٌ من عشرة دنانير، فابتَعته ومضيتُ به إلى المنزل، فرأيت من حِذقه وخِدمته، وَقلَّة تزيُّده ما إنْ بعثْتُه إلى الصيّرفي لِيأتيني من قِبَله بعشرين ديناراً، فأخذَها ومضى على وجْهه فو اللّه ما شعَرت إلاّ والنَّاشد قد جاءني وهو يطلب جُعْله، فقلت: لهذا وشبْهه باعك القَومُ بعشرة دنانير قال: لولا أنِّي أعلم أنَّك لا تصدِّق يميني و كيف طرَّت الدّنانير من ثَوبي، ولكنِّي أقولُ لك واحدة: احتبسني واحترسْ مِنِّي، واستمتعْ بخدمتي، واحتسِبْ أنَّك كنت اشتريتني بثلاثين ديناراً، قال: فاحتبسته لهوايَ فيه، وقلت لعلَّه أنْ يكونَ صادقاً، ثمَّ رأيتُ واللّه من صلاحه وإنابته وحُسْن خدمته ما دعاني إلى نسيان جميع قصَّته، حتى دفعتُ إليه يَوماً ثلاثين ديناراً ليوصلها إلى أهلي، فلمَّا صارت إلى يده ذهبَ على وجهه، فلم ألبثْ إلاّ أيّاماً حتى ردّه النّاشد، فقلت له: زَعمتَ أنّ الدَّنانير الأولى طُرَّتْ منك، فما قولك في هذه الثانية? قال: أنا، واللّهِ أعلم أنَّك لا تقبل لي عُذْراً، فدَعْني خارجَ الدار، ولا تجاوِزْ بي خدمةَ المطبخ؛ ولو كان الضَّرْبُ يردُّ عليك شيئاً من مالِك لأشرتُ عليك به، ولكنْ قد ذهبَ مالُك، والضَّرب ينقُص من أجْرك؛ ولعلِّي أيضاً أموتُ تحتَ الضّرب فتندمَ وتأثمَ وتفتضحَ ويطلبَك السلطان، ولكنْ اقتصِرْ بي على المطْبخ فإنِّي سأسُرُّك فيه، وأوفره عليك، وأستجيد ما أشتريه وأستصلحه لك، وعدَّ أنْك اشتريتني بستّين ديناراً فقلت له: أنت لا تفلح بعد هذا اذهبْ فأنتَ حرٌّ لوجه اللّه تعالى فقال لي: أنت عبدٌ فكيف يجوز عتقُك، قلت فأبيعُك بما عَزَّ أوْ هانََ فقال: لا تَبعْني حَتَّى تُعِدَّ طبَّاخاً، فإنّك إن بعتني لم تتغذّ غِذاءً إلاّ بخبزٍ وباقِلاء، قال: فتركته ومَرَّتْ بعد ذلك أيامٌ فبينا أنا جالسٌ يوماً إذْ مرَّت عليّ شاةٌ لبونٌ كريمة، غزيرة الدّرّ كنا فرَّقنا بينها وبين عَناقها فأكثرتْ في الثُّغاء، فقلت كما يقول النّاس، وكما يقول الضّجر: اللهمَّ العنْ هذه الشاة ليت أنَّ اللّه بعثَ إنساناً ذبحها أو سرَقها، حتى نستريحَ من صياحها قال: فلم ألبَثْ إلاّ بقدْر ما غاب عن عيني، ثمَّ عاد فإذا في يده سِكِّين وسَاطور وعليه قَميصُ العَمَل، ثمّ أقبل عليّ فقال: هذا اللّحم ما نصنع به وأيُّ شيءٍ تأمرني به? فقلت: وأيُّ لحم? قال: لحم هذه الشاة، قلت: وأيُّما شاةٍ? قال: التي أمرتَ بذبحها، قلت: وأي شاةٍ أمرْت بذَبحها? قال: سبحان اللّه أليس قد قلت السّاعة: ليت أن اللّه تعالى قد بعث إليها من يذبحها أو يسرقها، فلما أعطاك اللّه تعالى سؤلك صرتَ تتجاهل قال روح: فبقِيت واللّه لا أقدرُ على حبَسه ولا على بيعه ولا على عِتقه.

أشعارٌ حِسَان

وقال مسكينٌ الدّارميّ:

وحَواء قَرْمٌ ذو عِثانـين شـارف

 

إنَّ أبانا بِكْـرُ آدم فـاعـلـمـوا

من القُطن هاجته الأكفُّ النوادفُ

 

كأنّ على خُرطومه متهـافِـتـاً

من المِسك دافته الأكْفُّ الدوائفُ

 

وللَصَّدَأ المُسْوَدُّ أطيبُ عـنـدَنـا

إذا جاءَ يومٌ مُظلمُ اللّونِ كاسـفُ

 

ويصبْح عِرفان الدُّرُوعِ جلـودَنـا

وما بينها والكعب مِنَّـا تـنـائفُ

 

تعلق في مثل السّواري سُيوفـنـا

قطاً سابقٌ مستوردُ الماء صائفُ

 

وكلُّ رُدَيْنـيٍّ كـأنَّ كُـعـوبَـه

جلا الغَيْمَ عنه والقتامَ الحَراجِفُ

 

كأنّ هِلالاً لاحَ فـوقَ قَـنَـاتِـهِ

 

ومثل القدامى ساقها متناصفُ

 

له مثلُ حُلقومِ النَّعـامة حـلة

وقال أيضاً مِسكينٌ الدَّارِميّ:

فهناكُمْ وافَقَ الشَّنُّ الطبَـقْ

 

وإذا الفاحش لاقى فاحـشـاً

كغُرابِ البَيْن ما شَاءَ نعَـقْ

 

إنَّما الفُحشُ ومـنْ يعـتـادُه

رَمَحَ النَّاسَ وإنْ جَاعَ نَهَـقْ

 

أو حمارِ السَّوءِ إنْ أشبعْتَـهُ

سَرَق الجارَ وإن يشْبَع فسَق

 

أو غُلامِ السَّوءِ إنْ جوَّعتـه

وقال ابن قيس الرقيات:

فازَ بالجهلِ مَعْشَرٌ آخرُونا

 

مَعقل القوم من قُريشٍ إذا ما

ءولا يُفْسِدون ما يَصْنعُونـا

 

لا يَؤُمُّون في العَشِيرة بالسَّو

وقال ابن قيس أيضاً، واسُمه عبد اللّه:

ينطِق رجالٌ إذا همُ نَطـقُـوا

 

لو كانَ حَولي بنـو أمَـيّة لـم

أو ركِبوا ضاق عنهمُ الأُفـقُ

 

إنْ جَلسُوا لم تَضقْ مجالسهُـم

عن مَنْكِبَيه القميصُ منخـرقُ

 

كَمْ فيهم من فَتًى أخـي ثـقَةٍ

ما احمَرَّ تحت القوانِسِ الْحَدَقُ

 

تحبُّهـم عُـوَّذ الـنِّـسـاء إذا

وطاحَ الـمـروَّع الـفَـرِقُ

 

وأنكَرَ الكَلْبُ أهلَه ورأى الشَّرَّ

وقال النابغة:

تحتَ السَّنَوَّرِ جنّةُ البـقَّـارِ

 

سَهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهمْ

وقال بشار بن برد:

على أنّها ريحُ الدِّماء تضُوع

 

يطيَّبُ ريحُ الخيزُرَانَةِ بينَهـمْ

سنقول في الشهب وفي استراق السمع وإنّما تركْنا جمعَه في مكان واحد، لأنّ ذلك كان يطولُ على القارئ، ولو قد قرأ فضْل الإنسان على الجانّ، والحجَّة على مَن أنكرَ الجانّ - لم يستثقِلْه، لأنّه حينئذٍ يقصد إليه على أنّه مقصورٌ على هذا الباب، فإذا أدخلناه في باب القول في صغار الوحش، والسِّباع، والهَمج، والحشراتِ، فإذا ابتدأ القراءة على ذلك استطال كلَّ قصير إذا كان من غير هذا المعنى.
قالوا: زعمتم أنَّ اللّه تعالى قال: "وَلَقد زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيا بمصَابيحَ وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشّياطين"، وقال تعالى: "وَحَفِظْنَاهَا منْ كُلِّ شيْطان رَجيم"، وقال تعالى: "وجَعَلْناهَا رُجُوماً للِشَّياطين" ونحنُ لم نجدْ قطُّ كوكباً خلا مكانهُ، فما ينبغي أنْ يكون واحدٌ من جميع هذا الخلق، من سكّان الصحارى، والبحار، ومن يَراعِي النُّجوم للاهتداء، أو يفَكِّر في خلق السموات أن يكون يرى كوكباً واحداً زائلاً، مع قوله: "وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشَّياطينِ".
قيل لهم: قد يحرِّك الإنسانُ يدَه أو حاجبَه أو إصبَعه، فتضاف تلك الحركةُ إلى كلِّه، فلا يشكُّون أنّ الكلَّ هو العاملُ لتلك الحركة، ومتى فصَل شهابٌ من كوكب، فأحرق وأضاء في جميع البلاد، فقد حكَم كلُّ إنسانٍ بإضافة ذلك الإحراق إلى الكوكب، وهذا جواب قريبٌ سهل، والحمد للّه.
ولم يقلْ أحد: إنّه يجبُ في قوله: "وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً للِشَّياطينِ" أنّه يَعْني الجميع، فإذا كان قد صحّ أنّه إنَّما عَنى البعض فقد عَنى نُجُوم المجرّة، والنجومَ التي تظهر في ليالي الحنادس؛ لأنّه محال أن تقعَ عينٌ على ذلك الكوكبِ بعينه في وقت زوَاله حتّى يكون اللّه عزّ وجلَّ لو أفنى ذلك الكوكَب من بين جميع الكواكب الملتفَّة، لعرف هذا المتأمِّلُ مكانه، ولوَجَدَ مَسَّ فقدِه، ومن ظَنَّ بجهله أنَّه يستطيع الإحاطة بعدد النُّجوم فإنه متى تأَمَّلها في الحَنادس، وتأمَّل المجرَّة وما حولها، لم يضرِب المثل في كثرة العدد إلاّ بها، دونَ الرّمل والتّراب وقطْر السَّحاب.
 وقال بعضُهم: يدنو الشِّهاب قريباً، ونراه يجيء عَرْضاً لا مُنْقضاً ولو كان الكوكب هو الذي ينقضُّ لم يُر كالخيط الدّقيق، ولأضاء جميع الدُّنيا، ولأحرق كلَّ شيء مما على وجْه الأرض، قيل له: قد تكون الكواكب أفقيّة ولا تكونْ علوية؛ فإذا كانت كذلك فصَل الشِّهابُ منها عَرْضَاً، وكذلك قال اللّه تعالى: "إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ" وقال اللّه عزَّ وجلّ: "أوْ آتيكُمْ بشِهابٍ قبس" فليس لكم أن تقضوا بأنّ المباشر لبدَن الشيطان هو الكوْكب حتى لا يكون غير ذلك، وأنتم تسمعونَ اللّه تعالى يقول: "فأتبعَهُ شِهَابٌ ثَاقبٌ" والشِّهاب معروفٌ في اللغة، وإذا لم يُوجِبْ عليها ظاهرَ لفظ القُرآن لم ينكر أنْ يكون الشِّهَابُ كالخطّ أو كالسهم لا يضيءُ إلاّ بمقدار، ولا يقوى على إحراق هذا العالم، وهذا قريبٌ والحمد لله.
وطعن بعضهم من جهة أخرى فقال: زعمتم أنّ اللّه تبارك وتعالى قال: "وَحفظًاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ، لا يَسَّمعُون إلى الملإ الأعْلى وَيُقْذَفُونَ من كلِّ جانبٍ، دُحوراً ولَهُمْ عَذابٌ واصبٌ" وقال على سَنَنِ الكلام: "إلاّ مَنْ خَطفَ الخْطفَةَ فأتْبَعَهُ شهَابٌ ثاقبٌ" قال: فكيف تكون الخطفة من المكان الممنوع? قيل له: ليس بممنوعٍ من الخطفة، إذ كان لا محالة مرمِيّاً بالشِّهاب، ومقْتُولاً، على أنّه لو كان سلِمَ بالخطْفة لما كان استفاد شيئاً للتكاذيب والرِّياسة، وليس كلُّ من كذب على اللّه وادَّعى النبوَّة كان على اللّه تعالى أنْ يُظهر تكذيبه، بِأن يخسِفَ به الأرْض، أو ينطِقَ بتكذيبه في تلك السَّاعة، وإذا وجبت في العُقول السّليمة ألاّ يصدق في الأخبار لم يكن معه بُرهان، فكفى بذلك.
ولو كان ذلك لكانَ جائزاً، ولكنَّه ليس بالواجب، وعلى أنَّ ناساً من النحويِّين لم يُدخلوا قوله تعالى: "إلاّ منْ خطِف الخْطفَةَ"، في الاستثناء، وقال: إنّما هو كقوله:

وابنَي قبيصة أن أغيبَ ويشْهدَا

 

إلاّ كخارجة المكلّفِ نفـسَـه

وقوله أيضاً:

كالغُصْنِ في غلوائه المتَنبّتِ

 

إلا كناشرة الذي كَلّـفـتـمُ

وقال الشاعر في باب آخر ممّا يكونُ موعظةً له من الفكر والاعتبار، فمن ذلك قوله:

أرى قمَر اللّيلِ المعَذّر كالفَـتـى

 

مهما يَكن ريبُ المنُون فـإنـنـي

ويرجعُ حتّى قيلَ قد مات وانقضى

 

يَكُونُ صغيراً ثـمَّ يعـظُـم دائبـاً

وتكراره في إثره بعد ما مضَـى

 

كذلك زَيدُ المرءِ ثمَّ انـتـقـاصُـه

وقال آخر:

وما إن تلاقي ما به الشّفَتانِ

 

ومستنْبَتٍ لا باللّيالي نَبـاتُـه

ويُجْهد في سَبْعٍ معاً وثمانِ

 

وآخر في خمسٍ وتسعٍ تمامُه

الأوّل الطّريق والثاني القمر.

ما قيل من الشعر في إنقاص الصحة والحيا

وقال أبو العتاهية:

أسرَعَ في نقْضِ امرئٍ تمامه

وقال عبدُ هند:

من العارِ أو يعدُو على الأسد الوَرْدِ

 

فإنّ السِّنان يركبُ الـمـرءُ حَـدّه

يُناغي نساءَ الحيِّ في طرّة البُـرْد

 

وإنّ الذي ينهاكُمُ عـن طِـلابِـهـا

كما تنقُصُ النِّيرانُ من طَرَف الزَّندِ

 

يُعلّلُ والأيّامُ تـنـقـص عـمـرَهُ

وفي أمثال العرب: كلُّ ما أقامَ شَخَص، وكلُّ ما ازداد نقص؛ ولو كان يُميتُ النّاس الدَّاءَ، لأعاشهم الدّواء.
وقال حميد بن ثور:

وحَسْبُكَ داءً أن تصحَّ وتسلمـا

 

أرى بَصَري قد رَابَني بعْدَ صحّةٍ

وقال النَّمر بنُ تَولب:

فكَيفَ تَرَى طُول السَّلامةِ يفعَلُ

 

يُحبُّ الفَتى طُولَ السَّلامةِ والبقا

أخبار في المرض والموت

وقيل للمُوبَذ: متى أبنك يعني أبنك قال: يوم ولِد.
وقال الشّاعر:

وكان الصَّبَا منِّي جديداً فأخلقا

 

تصرّفتُ أطواراً أرى كُلَّ عِبْرَةٍ

وما اجتمع الإلفان إلاّ تفرَّقـا

 

وما زادَ شيءٌ قطُّ إلا لنقصـهِ

وقيل لأعرابي في مرضه الذي مات فيه: أيَّ شيءٍ تشتكي? قال: تمام العِدّة وانقضاء المدّة. وقيل لأعرابي، في شَكَاته التي ماتَ فيها: كيف تجِدُك ? قال: أجدُني أجدُ ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أجِد.
وقيلَ لَعمرو بن العاص في مَرْضَته التي ماتَ فيها: كيف تجدك? قال: أجِدُني أذوب ولا أثُوب ، وقال مَعْمَرٌ: قلتُ لرجلٍ كان معي في الحبْس، وكان مات بالبطْن: كيفَ تجدُك? قال: أجدُ روحي قد خرَجَتْ من نصفي الأسفل، وأجد السَّماءَ، مُطْبقةً عليَّ، ولو شئتْ أنْ ألمسَها بيدي لفعلت، ومهما شككتُ فيه فلا أشكُّ أنّ الموت بَرد ويُبس، وأنّ الحياةَ حرارة ورطوبة.

شعر في الرثاء

وقال يعقوبُ بن الرَّبيع في مرثية جاريةٍ كانتْ له:

للموتِ قد ذَبَلَتْ ذُبول النَّرجسِ

 

حتَى إذا فَتَر اللّسانُ وأصبحَتْ

رَجَعَ اليقينُ مطامِعَ المتلمِّسِ

 

رَجَعَ اليقين مطامعي يأساً كما

وقال يعقوبُ بن الربيعُ:

لَبُعدُك قد كان لي أنفـعـا

 

لئن كان قُرْبكِ لي نافـعـاً

وإنْ جلَّ خطبٌ فلن أجْزعَا

 

لأني أمنْتُ رَزَايا الدُّهـور

وقال أبو العتاهية:

فأنتَ اليوم أوْعظُ منك حيّا

 

وكانتْ في حياتِك لي عِظَاتٌ

وقال التيميُّ:

عليها مِثل يومكَ لا يعـودُ

 

لقد عزَّى رَبيعَة أنَّ يومـاً

على عَمْدٍ وهُنَّ له جُنُـودُ

 

ومن عَجبٍ قصَدنَ له المنايا

وقال صالحُ بنُ عبد القدُّوس:

فذهاب العزاء فيه أجَـلُّ

 

إن يكنْ ما أصِبت فيه جليلاً

ونظر بعض الحكماء إلى جنازة الإسكندر، فقال: إنّ الإسكندرَ كان أمسِ أنطقَ منه اليوم، وهو اليومَ أوعْظُ منه أمس.
وقال غسان:

ودَعَا المشيبُ حليلَتي لبعـادِ

 

ابيضَّ مِنِّي الرَّأسُ بعدَ سوادِه

وكفى بذلك علامةً لحصادي

 

واستُنفِد القَرْن الذي أنا مِنْهُمُ

وقال أعرابي:

واضطربتْ من كِبَر أعضادُها

 

إذا الرِّجـالُ ولـدَتْ أولادُهـا

فهي زُروعٌ قد دَنا حصادُهـا

 

وَجعلتْ أسقامُها تعـتـادُهـا

وقال ضِرارُ بنُ عمرو: منْ سرَّه بَنُوهُ ساءتْه نفسُه.
وقال عبدُ الرحمن بن أبي بكرة، مَنْ أحَبَّ طُولَ العُمُر فليُوطِّن نفسَه على المصائب.
وقال أخو ذي الرُّمَّة:

ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوْجَعُ

 

ولم يُنسني أوْفى المُلِمَّاتُ بعـدَه

بعض المجون

وقال بعض المُجّان:

فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نرقِّعُ

 

نُرقِّع دُنْيانا بتمزيقِ دينـنـا

وسُئل بعضُ المُجَّان: كيف أنتَ في دينك? قال: أخرِّقه بالمعاصي، وأرقّعه بالاستغفار.
شعر في معنى الموت وأنشدُوا لعُروة بن أُذينة:

ويحزُننا بُكاءُ الباكـياتِ

 

نُراع إذا الجنائزُ قابلتْنَـا

فلما غابَ عادَتْ راتِعَاتِ

 

كَرَوْعةِ ثَلَّةٍ لمغازِ سَبْـعٍ

وقال أبو العتاهية:

وإن لم تَرَوا ملتم إلى صَبواتِها

 

إذا ما رأيتم مَيِّتينَ جـزعـتـمُ

وقالت الخنساء:

فإنَّما هـي إقـبـالٌ وإدبـارُ

 

تَرتَعُ ما غَفَلتْ حتَّى إذا ادَّكرت

وكان الحسن لا يتمثَّل إلا بهذين البيتين، وهما:

إذا عَرَفَ الدَّاءَ الذي هو قاتلُه

 

يسرُّ الفتى ما كان قدَّمَ من تُقًى

والبيتُ الآخر:

إنّما الميْتُ مـيّتُ الأحـياءِ

 

ليس مَنْ ماتَ فاستراح بَميْتٍ

وكان صالحٌ المُرّيّ يتمثَّل في قصصه بقوله:

فَعاشَ الفَسيلُ ومات الرجلْ

 

فباتَ يُروِّي أُصولَ الفسـيلِ

وكان أبو عبد الحميد المكفوف، يتمثَّل في قصصه بقوله:

إنّ الحوادث قد يطْرُقن أسحاراً

 

يا راقدَ اللّيل مسروراً بـأوَّلـه

ونظر بكرُ بن عبد اللّه المُزنيّ إلى مُوَرِّقٍ العِجليّ، فقال:

وتنجلي عنهمْ غيابات الكَـرَى

 

عندَ الصّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى

وقال أبو النجم:

والمنايا هي آفاتُ الأملْ

 

كلنا يأمُل مدّاً في الأجلْ

فأمَّا أبو النجم فإنَّه ذَهب في الموت مذهبَ زهيرحيث يقول:

كالغَرَضِ المنْصُوبِ للسِّهام

 

إنَّ الفتى يُصْبِحُ للأسـقـام

 

أخطاهُ رامٍ وأصاب رامِ

 






وقال زهير:

تُمتْهُومَنْ تخطئ يُعَمّـرْ فَـيَهْـرَمِ

 

رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ منْ تُصبْ

مقطعات شتى وقال الآخر:

بيدَين ليس نَداهُما بمـكـدّرِ

 

وإذا صنَعْتَ صنيعةً أتممتهـا

فسواك بائعُها وأنت المُشْتري

 

وإذا تباعُ كريمةٌ أو تُشْتَـرى

وقال الشاعر:

وشرُّ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا

 

قصيرُ يدِ السِّربال يَمْشي معرِّداً

وقال الآخر:

فزَاريّاً أحَذَّ يدِ القَمـيصِ

 

بعثتَ إلى العراقِ ورافِدَيه

وعلّمَ قومه أكلَ الخبيصِ

 

تفيهق بالعراق أبو المثنَّى

وقال الآخر:

بيدَيْ دِرعِها تحلُّ الإزَارا

 

حَبَّذا رَجْعُها إلـيَّ يَدَيهـا

وأنشد:

بمنخَرِق السِّربال عارِي المناكبِ

 

طَوَتْهُ المنايا وهو عنهنَّ غـافـلٌ

بأبيضَ سَقَّاطٍ وراءَ الضَّـرائب

 

جريءٍ على الأهوال يَعْدِل دَرْءَهَا

وقال جرير:

مَتينَ القُوى مُسْتَحْصدِ الْفَتْل باقيَا

 

تركتُ لكم بالشّام حَبْلَ جـمـاعةٍ

وقد كان شَيطاني من الجِنِّ راقيا

 

وجدْت رُقى الشَّيطان لا تستفزُّه

وقال الأسديّ:

يجود مجداً وأصـلاً أثـيلا

 

كثير المناقب ِوالمكرمـات

تباله بعد نصال نـصـولا

 

ترى بيديه وَراء الكـمـيّ

وضَلَّ وقد كان قِدْماً ضَلولا

 

تمنى السفاه ورأى الخـنـا

فما إن وجدت لقلبي محيلا

 

فإن أنت تنزع عـن وُدِّنـا

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...