كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس


مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 8 مايو 2022

مجلد 1.الموسوعة القرآنية إبراهيم الإبيارى


مجلد 1.الموسوعة القرآنية إبراهيم الإبيارى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

تنبيه [ الترقيم داخل الصفحات موافق للمطبوع ]
(1/1)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 2
الجزء الأول
الباب الأول حياة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم
(1/2)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 3
1 - الجزيرة العربية قبل مبعث الرسول صلى اللّه عليه وسلم
كان إلى الغرب والشمال من الجزيرة العربية المملكة البيزنطية «الروم» ، وفى يديها مصر والشام ، وإلى الشرق والجنوب منها مملكة الفرس وفى يديها العراق واليمن ، وكلتا المملكتين كانت طامعة فى السيطرة على الجزيرة العربية ، وكانت بينهما بسبب ذلك حروب طاحنة امتدت حقبة طويلة.
ولقد أظل الإسلام الجزيرة والحرب قائمة ، لم تخمد نارها إلا مع العام الثامن والثلاثين بعد الستمائة. وحين أخفق الروم فى بسط نفوذهم على الجزيرة حربا أخذوا ينفذون إليها سلما ، فمدوا أيديهم إلى الغساسنة فى شمالى الجزيرة يجعلون منهم أعوانهم على هذا الغزو السامى ، وكما فعل الرومان فعل الفرس ، فإذا هم الآخرون يمدون أيديهم إلى المناذرة ، ملوك الحيرة فى الشرق ، يجعلون منهم أعوانهم على الوقوف أمام الغزو الرومانى.
وإذ كان الروم نصارى لقن الغساسنة طرفا من النصرانية ، وإذ كان الفرس مجوسا أخذ المناذرة بطرف من المجوسية ، وإذا النصرانية تعرف طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الشام ، كما التمست المجوسية طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الحيرة ، وإذ الحرب التى كان يلتقى فيها السيف بالسيف ، تصبح وقد التقى فيها الرأى بالرأى ، يقف المجوس ، ومن ورائهم اليهود والنصارى ، ويقف النصارى للمجوس واليهود ، والجزيرة العربية تشهد هذا الصراع فى الرأى فتشارك فيه ، موزعة بين المجوسية واليهودية والنصرانية ، ويزيد البيئة العربية توزعا توزع اليهود إلى ربانيين وقرائين وسامريين ، وتوزع النصارى إلى يعاقبة ونساطرة وأريوسيين ، هذا إلى توزع الجزيرة العربية توزعا آخر بين عبادة الكواكب وعبادة الأصنام ، وإذ العرب أوزاع
(1/3)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 4
فى الرأى ، أشتات فى الفكر ، يمسك كل بما يحلو له ويطيب ، وإذا هم قد نبذوا الكثير مما توارثوه من شريعة إبراهيم وإسماعيل لا يستمسكون منه إلا ببقية قليلة ، كانت تتمثل فى تعظيم الكعبة ، والحج إلى مكة ، وإذا هم بعد هذا أمة أضلتها الضلالات ، واستهوتها الموبقات ، واستحوذت عليها الخرافات ، تذل للأصنام ، وتستنيم للكهان ، وتستولى الأزلام ، وإذا أخلاقها تراق وتهون على موائد الخمر والميسر ، وإذا عدلها يفوته عليها بغى الأقوياء ، وإذا أمنها ليس لها منه إلا هباء.
ويقال : إن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل ، فكان لا يظعن من مكة ظاعن منهم ، حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح فى البلاد ، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما له ، فحيثما نزلوا وضعوه ، فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خرج بهم ذلك إلى إن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة ، حتى نسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره ، فعبدوا الأوثان ، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات.
وكان فيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بتعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة ، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
وكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم :
هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، اتخذوا «سواعا» برهاط «1».
وكلب بن وبرة ، من قضاعة ، اتخذوا «ودّا» بدومة الجندل «2».
وأنعم ، وطيىء ، وأهل جرش ، من مذحج ، اتخذوا «يغوث بجرش» «3».
__________
(1) من أرض ينبع.
(2) من أعمال المدينة.
(3) من مخاليف اليمن من جهة مكة.
(1/4)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 5
وخيوان - بطن عن همدان - اتخذوا «يعوق» بأرض همدان من أرض اليمن.
وذو الكلاع من حمير ، اتخذوا «نسرا» بأرض حمير.
وكان لخولان صنم يقال له : «عميانس» يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما.
وكان لبنى ملكان بن كنانة بن خزيمة صنم يقال له : «سعد» صخرة طويلة بفلاة من أرضهم.
وكان روس صنم ، يقال له : «ذو الكفين».
واتخذت قريش صنما على بئر فى جوف الكعبة يقال له : «هبل».
واتخذوا «أسافا» و«نائلة» على موضع زمزم ، ينحرون عندهما.
واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه ، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسّمح به حين يركب ، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجّه إلى سفره ، وإذا قدم من سفره تمسح به ، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.
وكانت لبنى كنانة «العزى» بنخلة «1».
وكانت «اللات» لثقيف ، بالطائف.
وكانت «مناة» للأوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل يثرب.
وكان «ذو الخلصة» لدوس وخثعم ، وبجيلة.
وكانت «فلس» لطيىء.
وكان لحمير وأهل اليمن ببيت بصنعاء يقال له : «رثام».
وكانت «رضاء» بينا لنى ربيعة بن كعب بن سعد.
وكان «ذو الكعبات» لمكر وتغلب ، ابنى وائل.
__________
(1) عن يمين المصعد من العراق إلى مكة.
(1/5)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 6
2 - الإرهاصات بمولد الرسول
تلك كانت حال الجزيرة العربية من توزع دينى جر إلى توزع اجتماعى ، فشخصت أبصار القلة الواعية من رجالات الجزيرة الراشدين إلى السماء تنشد العون وتستمطر الرحمة ، وجمعت البلبلة الفاشية بين أربعة من هذه القلة الواعية ، وهم : ورقة بن نوفل ، وعبيد اللّه بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد ابن عمرو بن نقيل ، ينظرون لأنفسهم ولأمتهم ، فما انتهوا إلى رأى ، وإذا هم أشتات حين انفضوا كما كانوا أشتاتا حين اجتمعوا ، لأن الأمر كان أجل من أن يحمل عبئه غير رسول مؤيد من السماء.
وكانت الإرهاصات تشير إلى ميلاد هذا الرسول ، وإلى أن هذا الرسول اسمه محمد ، وأحمد ، وبهما كان يسمى صلى اللّه عليه وسلم ، يقول تعالى :
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ. [الأعراف/ 156] ، ويقول تعالى : وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 6] ، ويقول تعالى : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ [الأنعام 30] ، ويقول تعالى : قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران 93] ، فمما لا شك فيه ولا تعترضه شبهة أنه لا يجوز للخصم المخالف أن يستشهد على خصمه بما فى كتابه ، وينتصر عليه بالتسمية من غير أصل ثابت عنده ، أو مرجع واضح لديه ، وهل الاستشهاد على هذا إلا بمنزلة الاستشهاد على المحسوس ، الذى لا يكاد يقع الاختلاف فيه؟
و على الرغم مما دخل إلى التوراة من تحريف وتبديل فثمة فيها ما يحمل هذه الإشارة إلى محمد ، ولقد جاء هذا التحريف والتبديل إلى التوراة بعد ما خرّب بختنصر بيت المقدس ، وأحرق التوراة ، وساق بنى إسرائيل إلى أرض بابل.
(1/6)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 7
ويقال إن عزيزا أملاها فى آخر عمره على واحد من تلامذته ، وكان هذا الإملاء لا شك عن حفظ فردى ، وعن هذه النسخة المملاة كانت النسخ المختلفة ، وكان هذا التحريف. ويستدلون على ذلك بما فى التوراة من أخبار عما كان من أمر موسى عليه السلام ، وكيف كان موته ، ووصيته إلى يوشع بن نون ، وحزن بنى إسرائيل وبكاؤهم عليه ، وهذا ونحوه لا يجوز عقلا إن يكون من كلام اللّه ولا من كلام موسى.
ثم إنه ثمة توراة فى أيدى السامرة تخالف تلك التى فى أيدى سائر اليهود فى التواريخ والأعياد وذكر الأنبياء ، كما أنه ثمة توراة فى اليونانية تخالف التوراة العبرانية فى السنين بما يربى على ألف وأربعمائة سنة ، وهذا التخالف محال إن يتصف به كتاب من عند اللّه.
وينقل صاحب البدء والتاريخ عن نسخة من التوراة لأبى عبد اللّه المازنى :
يا داود ، قل لسليمان من بعدك إن الأرض لى أورثها محمدا ليست صلاتهم بالطنابير ، ولا يقدسونى بالأوتار. وفيها : إن اللّه عز وجل يظهر من صهيون إكليلا محمودا.
والإكليل هو الرياسة والإمامة ، والمحمود : محمد صلى اللّه عليه وسلم.
وفى التوراة العبرية ، من قول اللّه تعالى لإبراهيم : سمعت دعاءك فى إسماعيل ، هاه باركت إياه ، وكثرت عدده وأنميته جدّا جدّا حتى لا تعد كثرته اثنا عشر ملكا يولد ، وأظهره لأمه عظيمة.
وفيها : وجاء الرب من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من فاران.
وساعير جبال فلسطين حيث ظهر عيسى ، وفاران : مكة ،
(1/7)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 8
و تجد فى التوراة العربية (سفر التثنية ، الإصحاح 18 ، الآية : 15) : يقيم لك الرب إلهك نبيّا من وسطك من إخوتك مثلى له تسمعون.
ولقد جاء بعد موسى عيسى ، وهو من بنى إسرائيل ، ومقتضى الآية أن يكون ثمة نبى مرتقب بعد عيسى ، ومحمد من ولد إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحاق ، وإسحاق جد بنى إسرائيل ، وإخوتهم هم بنو إسماعيل.
وتزكّى هذا الآية الثامنة عشرة من الإصحاح الخامس والعشرين ، من سفر التكوين حيث تقول : وسكنوا - أى أبناء إسماعيل - من حويلة إلى شور التى إمام مصر ، حينما تجىء نحو أشور أمام جميع إخوته نزل.
وكذا تزكيه الآية الثانية عشرة من الإصحاح السادس عشر ، من سفر التكوين : وأمام إخوته يسكن.
وفى إنجيل يوحنا (الإصحاح : 14 ، الآية : 15 ، الإصحاح : 16 ، الآية : 6 - 7 م) ما يشير إلى إتيان الفار قليط ، ومعنى الفار قليط : الكثير الحمد ، وهذا المعنى هو ما تعطيه كلمة أحمد ، التى هى من أسماء النبى.
غير أن النص العربى من الإنجيل ، جعل مكان الفار قليط فى الموضعين :
المعزى. ففى الموضع الأول يقول الإنجيل : ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذى من عند الأب ينبثق فهو يشهد لى.
والنص فى غير النسخة العربية ، على لسان عيسى وهو يخاطب الحواريين :
أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذى لا يتكلم من تلقاء نفسه وهو يشهد لى بما شهدت له ، وما جئتكم به سرّا يأتيكم به جهرا.
وفى الموضع الثانى يقول : وأما الآن فأنا ماض إلى الذى أرسلنى وليس
(1/8)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 9
أحد منكم يسألنى أين تمضى ...؟ لكنى أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتكم المعزى ، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم.
والنص فى غير النسخ العربية : إن الفاقليط روح الحق الذى أرسله أبى باسمى هو الذى يعلمكم كل شىء. والفارقليط لا يحكم ما لم أذهب.
وفى سفر رؤيا يوحنا (الإصحاح : 19 ، الآية : 11 ، 15) : «ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا وبالعدل يحكم ويحارب».
ومحمد يدعى الأمين الصادق.
وفيه أيضا (19 : 15) «و من فمه يخرج سيف ماض لكى يضرب به الأمم وهو سير عاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر».
والقرآن الكريم فى مضاء السيف أذعنت له الأمم ، ومحمد حرم الخمر وما حرمها عيسى.
3 - نصب الرسول
و العرب كلها من ولد إسماعيل ، ومن عدنان تفرقت القبائل ، وهو عدنان ابن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرج بن يعرب بن يشجب بن نابت (نبت) ابن إسماعيل ، وأم إسماعيل : هاجر ، من أم العرب «1».
فولد عدنان رجلين : معد بن عدنان ، وعك بن عدنان.
وولد معد بن عدنان أربعة نفر : قضاعة بن معد ، وقنص بن معد ، ونزار ابن معد ، وإياد بن معد.
__________
(1) أم العرب : قرية كانت أيام القرما من مصر.
(1/9)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 10
و كان قضاعة بكر معد الذى به يكنى ، فتيامن إلى حمير بن سبأ ، وكان اسم سبأ عبد شمس ، وإنما سمى سبأ ، لأنه أول من سبى فى العرب.
وأما قنص بن معد فهلكت بقيتهم. وكان منهم النعمان بن المنذر ، ملك الحيرة.
وولد نزار بن معد : مضر بن نزار ، وربيعة بن نزار ، وأنمار بن نزار ، وإياد بن نزار.
فولد مضر بن نزار رجلين : إلياس بن مضر ، وعيلان بن مضر.
فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مدركة بن إلياس وكان اسمه عامرا ، وطابخة بن إلياس ، وكان اسمه عمرا ، وقمعة بن إلياس ، وكان اسمه عميرا ، وأمهم خندف ، امرأة من اليمن.
فولد مدركة بن إلياس رجلين : خزيمة بن مدركة ، وهذيل بن مدركة.
فولد خزيمة بن مدركة أربعة نفر : كنانة بن خزيمة ، وأسد بن خزيمة ، وأسدة بن خزيمة ، والهون بن خزيمة.
فولد كنانة بن خزيمة أربعة نفر : النضر بن كنانة ، ومالك بن كنانة ، وعبد مناة بن كنانة ، وملكان بن كنانة.
فولد النضر بن كنانة رجلين : مالك بن النضر ، ويخلد بن النضر.
فولد مالك بن النضر : فهر بن مالك ، وهو قريش ، فمن كان من ولده فهو قرشى ، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشى.
فولد فهر بن مالك أربعة نفر : غالب بن فهر : ومحارب بن فهر.
والحارث بن فهر. وأسد بن فهر.
(1/10)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 11
فولد غالب بن فهر رجلين : لؤى بن غالب ، وتيم بن غالب.
فولد لؤى بن غالب أربعة نفر : كعب بن لؤى ، وعامر بن لؤى ، وسامة ابن لؤى ، وعوف بن لؤى.
فأما سامة بن لؤى فخرج إلى عمان ، فبينما هو يسير على ناقته ، إذ وضعت رأسها ترتع ، فأخذت حية بمشفرها فهصرتها ، حتى وقعت الناقة لشقها ، ثم نهشت الحية «سامة» فقتلته.
وأما عوف بن لؤى فإنه خرج فى ركب من قريش ، حتى إذا كان بأرض غطفان آخاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان ، فشاع نسبه فى بنى ذبيان.
وولد كعب بن لؤى ثلاثة نفر : مرة بن كعب. وعدى بن كعب ، وهصيص بن كعب.
فولد مرة بن كعب ثلاثة نفر : كلاب بن مرة ، وتيم بن مرة ، ويقظة ابن مرة.
فولد كلاب بن مرة رجلين : قصى بن كلاب ، وزهرة بن كلاب.
فولد قصى بن كلاب أربعة نفر وامرأتين : عبد مناف بن قصى ، وعبد الدار بن قصى ، وعبد العزى بن قصى ، وعبد قصى بن قصى ، وتخمر بنت قصى ، وبرة بنت قصى.
فولد عبد مناف - واسمه المغيرة بن قصى - أربعة نفر : هاشم ابن عبد مناف ، وعبد شمس بن عبد مناف ، والمطلب بن عبد مناف ، ونوفل ابن عبد مناف.
(1/11)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 12
فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة : عبد المطلب بن هاشم ، وأسد بن هاشم ، وأبا صيفى بن هاشم ، ونضلة بن هاشم ، والشفاء ، وخالدة ، وضعيفة ، ورقية ، وحية.
فولد عبد المطلب بن هاشم عشرة نفر وست نسوة : العباس ، وحمزة ، وعبد اللّه وأبا طالب ، واسمه عبد مناف - والزبير ، والحارث ، وحجلا ، والمقوم ، وضرارا ، وأبا لهب - واسمه عبد العزى - وصفية ، وأم حكيم البيضاء ، وعاتكة ، وأميمة ، وأروى ، وبرة.
فولد عبد اللّه بن عبد المطلب ، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، سيد ولد آدم محمدا ، فهو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب (شيبة) بن هاشم (عمرو) ابن عبد مناف (المغيرة) بن قصى (زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة (عامر) بن مضر بن معد بن عدنان.
وأمه : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وأمها : برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وأم برة : أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وأم أم حبيب : برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدى بن كعب ابن لؤى بن غلب بن فهر بن مالك بن النضر.
(1/12)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 13
فرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشرف ولد آدم حسبأ ، وأفضلهم نسبأ ، من قبل أبيه وأمه ، صلى اللّه عليه وسلم.
4 - ولاية البيت
و لما توفى إسماعيل بن إبراهيم ، ولى البيت بعده ابنه نابت بن إسماعيل ، ثم ولى البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمى.
و نشر اللّه ولد إسماعيل بمكة ، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام ، لا ينازعهم ولد إسماعيل فى ذلك لخؤولتهم وقرابتهم.
ثم إن جرهما بغوا بمكة ، فظلموا من دخلها من غير أهلها ، وأكلوا مال الكعبة الذى يهدى لها. فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وغبشان من خزاعة ، ذلك ، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة ، فآذنوهم بحرب فاقتتلوا فغلبهم بنو بكر وغبشان ، فنفوهم من مكة.
ثم إن غبشان ، من خزاعة ، وليت البيت دون بنى بكر بن عبد مناة ، وكان الذى يليه عمرو بن الحارث الغبشانى ، وقريش إذ ذاك متفرقون فى قومهم من كنانة ، فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر ، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى.
ثم إن قصى بن كلاب خطب إلى حليل بن حبشية ابنته «حبى» ، فرغب فيه حليل فزوجه فولدت له عبد الدار ، وعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبدا.
فلما انتشر ولد قصى ، وكثر ماله ، وعظم شرفه ، هلك حليل ، فرأى قصى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر ، وأن قريشا نخبة إسماعيل بن إبراهيم وصريح ولده ، فكلم رجالا من قريش وبنى كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة ، فأجابوه. فكتب إلى أخيه
(1/13)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 14
من أمه : رزاح بن ربيعة ، يدعوه إلى نصرته ، والقيام معه ، فخرج رزاح ومعه إخوته ، فيمن تبعهم من قضاعة ، وهم مجمعون لنصرة قصى.
وكان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلى الإفاضة للناس بالحج من عرفة ، وولده من بعده ، وكان يقال له ولولده : صوفة ، وإنما ولّى ذلك الغوث بن مر لأن أمه كانت امرأة من جرهم ، وكانت لا تلد ، فنذرت إن هى ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها ، فولدت : الغوث ، فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم ، وولده من بعده حتى انقرضوا.
وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة أو تجيز بهم إذا نفروا من منى.
فإذا كان يوم النفر أتو الرمى الجمار ، ورجل من صوفة يرمى للناس ، لا يرمون حتى يرمى.
فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له : قم فارم حتى نرمى معك. فيقول : لا واللّه ، حتى تميل الشمس. فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجل يرمونه بالحجارة ، ويستعجلون بذلك ، ويقولون له : ويلك! قم ، فارم ، فيأبى عليهم ، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ، ورمى الناس بعده.
فإذا فرغوا من رمى الجمار وأرادوا النقر من «منى» أخذت صوفة بجانبى العقبة فحبسوا الناس وقالوا : أجيزى صوفة ، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا ، فإذا نفرت صوفة ومضت خلى سبيل الناس ، فانطلقوا بعدهم.
(1/14)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 15
فلما كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل ، فأتاهم قصى بن كلاب بمن معه من قومه من قريش ، وكنانة وقضاعة عند العقبة ، فقال : لنحن أولى بهذا منكم ، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا ، ثم انهزمت صوفة ، وغلبهم قصى على ما كان بأيديهم من ذلك ، وانصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه من قومه.
5 - ولاية قصى البيت
فولّى قصى البيت وأمر مكة ، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة ، وتملك على قومه وأهل مكه فملكوه ، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه ، حتى جاء الإسلام ، فهدم اللّه به ذلك كله.
وكان قصى أول بنى كعب بن لؤى أصاب ملكا ، فكانت إليه الحجابة ، والسقاية ، والرفادة «1» ، والندوة «2» ، واللواء «3».
فحاز قصى شرف مكة كلها ، وسمته قريش مجمعا ، لما جمع من أمرها ، وتيمنت بأمره ، فما تنكح امرأة ، ولا يتزوج رجل من قريش ، وما يتشاورون فى أمر نزل بهم ، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم ، إلا فى داره.
فكان أمره فى قومه من قريش فى حياته ، ومن بعد موته ، كالدين
__________
(1) الرفادة : طعام كانت قريش تجمعه كل عام لأهل الموسم.
(2) الندوة : الاجتماع للمشورة.
(3) اللواء ، يعنى : الحرب
(1/15)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 16
المتبع لا يعمل بغيره ، واتخذ لنفسه دار الندوة ، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ، ففيها كانت قريش تقضى أمورها.
فلما كبر قصى ورقّ عظمه ، وكان عبد الدار يكره ، وكان عبد مناف قد شرف فى زمان أبيه وذهب كل مذهب ، وكذلك عبد العزى ، وعبد قصى ، قال قصى لعبد الدار : أما واللّه يا بنى لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك : لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له ، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك ، ولا يشرب أحد إلا من سقاينك ، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك ، ولا تقطع قريشا أمرا من أمورها إلا فى دارك. فأعطاه دار الندوة ، التى لا تقضى قريش أمرا من أمورها إلا فيها ، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.
فجعل قصى إليه كل ما كان بيده من أمر قومه ، وكان ، قصى لا يخالف ولا يرد عليه شىء صنعه.
6 - ولاية هاشم بن عبد مناف الرفادة والسقاية
ثم إن قصى بن كلاب هلك ، فأقام أمره فى قومه وفى غيرهم بنوه من بعده ، وأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع.
ثم إن بنى عبد مناف بن قصى : عبد شمس ، وهاشما ، والمطلب ، ونوفلا ، أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بنى عبد الدار بن قصى ، مما كان قصى جعل إلى عبد الدار ، من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم فى قومهم ، فتفرقت عند ذلك قريش ، فكانت طائفة مع بنى عبد مناف على رأيهم ، يرون أنهم أحق به من بنى عبد الدار
(1/16)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 17
لمكانهم فى قومهم ، وكانت طائفة مع بنى عبد الدار ، يرون ألا ينزع منهم ما كان قصى جعل إليهم.
فكان صاحب أمر بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف ، وذلك أنه كان أسن بنى عبد مناف ، وكان صاحب أمر بنى عبد الدار عامر ابن هاشم بن عبد مناف.
و كان بنو أسد بن عبد العزى بن قصى ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر ، مع بنى عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب ، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو عدى بن كعب ، مع بنى عبد الدار.
وخرجت عامر بن لؤى ، ومحارب بن فهر ، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
وعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ، ولا يسلم بعضهم بعضا ، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا ، ثم غمس القوم أيديهم فيها ، فتعاقدوا وتعاهدوا وحلفاؤهم ، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم وتوكيدا على أنفسهم ، فسموا : المطيبين.
وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ، فسموا : الأحلاف.
(م 2 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/17)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 18
فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب ، إذ تداعوا إلى الصلح ، على أن يعطوا بنى عبد مناف السقاية والرفادة ، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبنى عبد الدار كما كانت ، ففعلوا ورضى كل واحد من الفريقين بذلك ، وتحاجز الناس عن الحرب ، وثبت كل قوم مع من حالفوا ، فلم يزالوا على ذلك ، حتى جاء اللّه تعالى بالإسلام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «ما كان من حلف فى الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة» ، يريد المعاقدة على الخير ونصرة الحق.
فولّى الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف ، وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلّما يقيم بمكة ، وكان مقلا ذا ولد ، وكان هاشم موسرا ، فكان إذا حضر الحاج قام فى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنكم جيران اللّه وأهل بيته ، وإنه يأتيكم فى هذا الموسم زوّار اللّه وحجّاج بيته ، وهم ضيف اللّه ، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه ، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التى لا بد لهم من الإقامة بها ، فإنه واللّه لو كان مالى يسع لذلك ما كلفتكموه.
فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم ، كل امرىء بقدر ما عنده ، فيصنع به للحجاج طعاما حتى يصدروا من مكة.
وكان هاشم فيما يزعمون أول من سن الرحلتين لقريش رحلتى الشتاء والصيف ، وأول من أطعم الثريد بمكة ، وإنما كان اسمه عمرا ، فما سمى هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه.
ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا ، فولّى السقاية
(1/18)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 19
و الرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف ، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم ، وكان ذا شرف فى قومه وفضل ، وكانت قريش إنما تسميه الفضل لسماحته وفضله.
7 - ولاية المطلب ثم عبد المطلب ما كان يليه هاشم
و كان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة ، فتزوج سلمى بنت عمرو ، فولدت لهاشم : عبد المطلب ، فسمته شيبة. فتركه هاشم عندها حتى كان غلاما دون المراهقة أو فوق ذلك.
ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه ، فقالت له سلمى :
لست بمرسلته معك ، فقال لها المطلب : إنى غير منصرف حتى أخرج به معى.
أن ابن أخى قد بلغ ، وهو غريب فى غير قومه ، ونحن أهل بيت شرف فى قومنا ، نلى كثيرا من أمورهم ، وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة فى غيرهم. وقال شيبة : لست بمفارقها إلا أن تأذن لى ، فأذنت له ، ودفعته إليه.
فاحتمله المطلب ودخل به مكة مردفه معه على بعيره ، فقالت قريش :
عبد المطلب ابتاعه ، فبها سمى شيبة : «عبد المطلب». فقال المطلب : ويحكم ، إنما هو ابن أخى هاشم ، قدمت به من المدينة.
ثم هلك المطلب بأرض اليمن ، فولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة ، بعد عمه المطلب ، فأقامها للناس ، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله
(1/19)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 20
لقومهم من أمرهم ، وشرف فى قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبه قومه.
وعظم خطره فيهم.
8 - حفر زمزم
ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم فى الحجر إذ أمر بحفر زمزم ، فلما بين لعبد المطلب شأنها ، ودل على موضعها ، غدا بمعوله ، ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ، ليس له يومئذ ولد غيره ، وقام ليحفر حيث أمر ، فقامت إليه قريش حين رأوا جده ، فقالوا : واللّه لا نتركك تحفر عند وثنينا هذين اللذين فنحر عندهما إساف ونائلة. فقال عبد المطلب لابنه الحارث : ذد عنى حتى أحفر ، فو اللّه لأمضين لما أمرت به.
فلما عرفوا أنه غير نازع خلّوا بينه بين الحفر ، وكفّوا عنه. فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدائه الطى ، فكبر وعرف أنه قد صدق.
وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة :
حفر عبد شمس بن عبد مناف «الطوى» ، وهى البئر التى بأعلى مكة ، عند دار محمد بن يوسف الثقفى.
وحفر هاشم بن عبد مناف «بذر» ، وهى البئر التى على فم شعب أبى طالب.
وحفر أمية بن عبد شمس «الحفر» لنفسه.
وحفرت بنو أسد بن عبد العزى «سقية».
وحفرت بنو عبد الدار «أم أحراد».
(1/20)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 21
و حفرت بنو جمح «السنبلة».
وحفرت بنو سهم «الغمر».
فعفت زمزم على البئار التى كانت قبلها ، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ، ولفضلها على ما سواها من المياه ، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها ، وعلى سائر العرب.
9 - نذر عبد المطلب
و كان عبد المطلب بن هاشم قد نذر حين لقى من قريش ما لقى عند حفر زمزم : لئن ولد له عشرة نفر ، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ، لينحرن أحدهم للّه عند الكعبة.
فلما توافى بنوه عشرة ، وعرف أنهم سيمنعونه ، جمعهم ، ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء للّه بذلك ، فأطاعوه وقالوا : كيف نصنع؟ قال :
ليأخذ كل رجل منسكم قدحا ، ثم يكتب فيه اسمه ، ثم ائتونى ، ففعلوا ثم أتوه.
ثم قال عبد المطلب لصاحب القداح : اضرب على بنى هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره الذى نذر ، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه.
وكان عبد اللّه بن عبد المطلب أصغر بنى أبيه ، كان هو والزبير
(1/21)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 22
و أبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر.
وكان عبد اللّه أحب ولد عبد المطلب إليه ، فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها ، قام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضرب صاحب القداح ، فخرج القدح على عبد اللّه فأخذه عبد المطلب بيده ، وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به ليذبحه ، فقامت إليه قريش فقالوا : ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال : أذبحه ، فقالت له قريش وبنوه : واللّه لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه ، لئن فعلت هذا لا زال الرجل يأتى بابنه حتى يذبحه ، فما بقاء الناس على هذا ، انطلق به إلى الحجاز ، فإن به عرافة لها تابع ، فسلها ، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته.
فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها بخير ، فركبوا حتى جاءوها فسألوها ، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه ، وما أرادوا به ، ونذره فيه ، فقالت لهم : ارجعوا عنى اليوم حتى يأتينى تابعى فأسأله ، فرجعوا من عندها ، فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم عدوا عليها ، فقالت لهم : قد جاءنى الخبر ، كم الدية فيكم؟ قالوا : عشرة من الإبل - وكانت كذلك - قالت : فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ، وقربوا عشرة من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح ، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه ، فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر ، قام
(1/22)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 23
عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم قربوا عبد اللّه وعشرا من الإبل ، وعبد المطلب قائم يدعو اللّه عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل عشرين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ثلاثين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل أربعين. وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل خمسين. وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل سبعين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ثمانين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل تسعين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد اللّه ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل مائة. وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل ، فقالت قريش ومن حضر : قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب ، فقال : لا واللّه حتى أضرب عليها ثلاث مرات. فضربوا على عبد اللّه وعلى الإبل ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثانية ، وعبد المطلب قائم يدعو اللّه ، فضربوا فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثالثة ، وعبد المطلب قائم يدعو اللّه ، فضربوا فخرج القدح على الإبل ، فنحرت ، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
(1/23)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 24
10 - زواج عبد اللّه بآمنة :
ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد اللّه ، فمر به على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصى ، وهى أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وهى عند الكعبة ، فقالت له ، حين نظرت إلى وجهه : أين تذهب يا عبد اللّه؟
قال : مع أبى. قالت : لك مثل الإبل التى نحرت عنك وتزوجنى. قال :
أنا مع أبى ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا وشرفا. فزوّجه ابنته آمنة بنت وهب ، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا.
فدخل عليها مكانه ، فحملت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت. فقال لها : مالك لا تعرضين علىّ اليوم ما كنت عرضت بالأمس؟ قالت له : فارقك النور الذى كان معك بالأمس.
وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل ، أنه سيكون فى هذه الأمة نبى.
11 - ولادته صلى اللّه عليه وسلم
و أتيت آمنة حين حملت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولى : أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى ، من أرض الشام.
ثم لم يلبث عبد اللّه بن عبد المطلب ، أبو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن هلك ، وأم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حامل به.
وكان مولده صلى اللّه عليه وسلم بمكة عام الفيل ، بعد قدوم أبرهة بخمسين
(1/24)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 25
ليلة ، وكان أول يوم من المحرم عام الفيل ، يوم الجمعة ، وقدم الفيل يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين وثمانين للإسكندر الرومى ، وست عشرة ومائتين من تاريخ العرب الذى أوله حجة الغدر ، وسنة أربع وأربعين من ملك أنو شروان بن قباذ ملك العجم.
و ولد صلى اللّه عليه وسلم لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول ، وقيل لاثنتى عشرة ليلة خلت منه. والصحيح أن ولادته كانت يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول ، كما حقق ذلك المرحوم محمود حمدى الفلكى فى رسالته ، وهذا اليوم يوافق العشرين من أبريل سنة 571 م ، وكانت ولادته صلى اللّه عليه وسلم بالدار التى عند الصفا ، والتى كانت بعد لمحمد بن يوسف أخى الحجاج ، فصيرتها الخيزران ، زوج المهدى ، مسجدا.
وكانت قابلته التى نزل على يديها الشفاء ، أم عبد الرحمن بن عوف.
فلما وضعته أمه صلى اللّه عليه وسلم أرسلت إلى جده عبد المطلب : أنه قد ولد لك غلام ، فأته فانظر إليه ، فأتاه فنظر إليه ، وحدثته بما رأت حين حملت به ، وما قيل لها فيه ، وما أمرت به أن تسميه.
12 - حديث رضاعه صلى اللّه عليه وسلم
فأخذه عبد المطلب فدخل به الكعبة ، فقام يدعو اللّه ويشكر له ما أعطاه ، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها ، والتمس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المراضع ، فاسترضع له امرأة من بنى سعد بن بكر ، يقال لها : حليمة بنت أبى ذؤيب.
واسم أبيه الذى أرضعه صلى اللّه عليه وسلم : الحارث بن عبد العزى.
وإخوته من الرضاعة ، عبد اللّه بن الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، وحذافة بنت الحارث ، وهى الشيماء ، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف فى قومها إلا به ، وهم لحليمة بنت أبى ذؤيب.
(1/25)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 26
و كانت حليمة بنت أبى ذؤيب تحدث أنها خرجت من بلدها - مع زوجها وابن لها صغير ترضعه - وفى نسوة من بنى سعد بن بكر ، تلتمس الرضعاء.
وذلك فى سنة شهباء لم تبق شيئا.
قالت : فخرجت على أتان لى قمراء «1» ، معنا شارف «2» ، واللّه ما تبض بقطرة ، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذى معنا ، من بكائه من الجوع ، ما فى ثديى ما يغنيه ، وما فى شارفنا ما يغذيه ، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.
فخرجت على أتانى تلك حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتأباه ، إذا قيل لها إنه يتيم ، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى فكنا نقول : يتيم ، وما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك ، فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى.
فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى : واللّه إنى لا أكره أن أرجع من بين صواحبى ، ولم آخذ رضيعا ، واللّه لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال :
لا عليك أن تفعلى ، عسى اللّه أن يجعل لنا فيه بركة.
قالت : فذهبت إليه فأخذته ، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره ، فلما أخذته رجعت به إلى رحلى ، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن ، فشرب حتى روى ، وشرب معه أخوه حتى روى ، ثم ناما ، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجى إلى شارفنا تلك ، فإذا هى حافل ، فحلب منها ما شرب ، وشربت معه ، حتى انتهينا ريّا وشبعنا ، فبتنا بخير ليلة.
__________
(1) تمراء فى لونها خضرة.
(2) الشارف الناقة المسمنة.
(1/26)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 27
قالت : يقول صاحبى حين أصبحنا : اعلمى واللّه يا حليمة ، لقد أخذت نسمة مباركة. فقلت : واللّه إنى لأرجو ذلك.
قالت : ثم خرجنا. وركبت أنا أتانى ، وحملته عليها معى ، فو اللّه لقطعت بالركب ما يقدر عليها شىء من حمرهم ، حتى إن صواحبى ليقلن لى :
يا ابنة أبى ذؤيب ، ويحك! وأربعى «1» علينا ، أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها ، فأقول لهن : بلى واللّه ، إنها لهى هى. فيقلن : واللّه إن لها لشأنا.
قالت : ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد ، وما أعلم أرضا من أرض اللّه أجدب منها ، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا ، فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها فى ضرع ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم! اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب.
فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمى شباعا لبنا.
فلم نزل نتعرف من اللّه الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا «2».
قالت : فقدمنا به على أمه ، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا ، لما كنا نرى من بركته ، فكلمنا أمه وقلت لها : لو تركت بنى عندى حتى يغلظ ، فإنى أخشى عليه وباء مكة.
قالت : فلم نزل بها حتى ردته معنا ، فرجعنا به.
وبعد أشهر حملته حليمة إلى أمه ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع
__________
(1) اربعى : انتظرى.
(2) جفرا : شديدا.
(1/27)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 28
أمه آمنة بنت وهب ، وجده عبد المطلب بن هاشم ، فى كلاءة اللّه وحفظه ، ينبته اللّه نباتا حسنا لما يريد به من كرامته.
13 - وفاة أمه وكفالة جده عبد المطلب له
فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب بالأيواء ، بين مكة والمدينة ، وكانت قد قدمت به على أخواله من بنى عدى بن النجار ، تزيره إياهم ، فماتت وهى راجعة به إلى مكة.
فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم ، وكان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.
فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتى ، وهو غلام شديد ، حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب ، إذا رأى ذلك منهم :
دعوا ابنى ، فواللّه إن له لشأنا ، ثم يجلسه معه على الفراش ، ويمسح ظهره بيده ، ويسره ما يراه يصنع.
14 - موت عبد المطلب وكفالة عمه أبى طالب
فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثمانى سنين هلك عبد المطلب بن هاشم ، وذلك بعد الفيل بثمانى سنين.
فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولّى زمزم والسقاية عليها بعده العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا ، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام
(1/28)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 29
و هى بيده ، فأقرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على ما مضى من ولايته.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد عبد المطلب مع عمه أبى طالب.
وكان عبد المطلب يوصى به عمه أبا طالب ، وذلك لأن عبد اللّه أبا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأبا طالب ، أخوان لأب وأم ، أمهما فاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فكان أبو طالب هو الذى يلى أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد جده ، فكان إليه ومعه.
وكان رجل من «لهب» ، «1» وكان عاثفا ، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم ، فأتى أبو طالب بالنبى صلى اللّه عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه ، فنظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم شغله عنه شىء ، فلما فرغ قال : الغلام ، علىّ به ، فلما رأى أبوطالب حرصه عليه غيبه عنه ، فجعل يقول : ويلك! ردوا علىّ الغلام الذى رأيت آنفا ، فواللّه ليكونن له شأن. فانطلق به أبو طالب.
15 - حديث بحيرى الراهب
ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام ، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير تعلق به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فرقّ له ، وقال : واللّه لأخرجن به معى ، ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا.
فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام ، وبها راهب - يقال له : بحيرى فى صومعة له ، وكان إليه علم أهل النصرانية ، فلما نزلوا ذلك
__________
(1) لهب : قبيلة من أزد شنوءة.
(1/29)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 30
العام ببحيرى ، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا بعرض لهم ، حتى كان ذلك العام ، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لها طعاما كثيرا ، وذلك لشىء رآه وهو فى صومعته : رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الركب حين أقبلوا ، وغمامة تظله من بين القوم ، ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه ، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتدلت أغصان تلك الشجرة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته ثم أرسل إليهم فقال : إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، فأنا أحب أن تحضروا كلكم ، صغيركم وكبيركم ، عبدكم وحركم. فقال له رجل منهم : واللّه يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ، فما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم؟
قال له بحيرى : صدقت ، قد كان ما تقول ، ولكنكم ضيف ، وقد احببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم.
فاجتمعوا إليه ، وتخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين القوم ، لحداثة سنه ، فى رحال القوم تحت الشجرة.
فلما نظر بحيرى فى القوم لم ير الصفة التى يعرف ، فقال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامى. قالوا له : يا بحيرى ، ما تخلف عنك أحد ينبغى أن يأتيك إلا غلام ، وهو أحدث القوم سنّا ، فقال : لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى ، إن كان للوم بنا أن يتخلف ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا ، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
(1/30)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 31
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده ، قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى فقال له : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتى عما أسألك عنه - وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما -
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تسألنى باللات والعزى ، فواللّه ما أيغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى : فباللّه إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه ، فقال له : «سلنى عما بدا لك» فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبره ، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده ، فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال له : ما هذا الغلام منك؟ قال :
ابنى. قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال : فإنه ابن أخى : قال : فما فعل أبوه؟ قال ، مات وأمه حبلى به.
قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود ، فواللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرّا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.
فأسرع به إلى بلاده.
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة ، حين فرغ من تجارته بالشام ، وشب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واللّه تعالى بكاؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد من كرامته ورسالته ، حتى بلغ أن كان رجلا ، وأفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا ، وأحسنهم جوارا ،
(1/31)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 32
و أعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التى تدنّس الرجال تنزها وتكرّما ، حتى كان اسمه فى قومه الأمين ، لما جمع اللّه فيه من الأمور الصالحة.
فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربع عشرة سنة ، هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة ، وبين قيس عيلان ، فشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض أيامهم ، أخرجه أعمامه معهم ، فكان ينبل على أعمامه ، أى يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
16 - زواجه صلى اللّه عليه وسلم من خديجة
و لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسا وعشرين سنة ، تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب ، وكان سنها حين ذاك ، أربعين عاما.
وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال فى مالها بشىء تجعله لهم.
فلما بلغها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته ، وكرم أخلاقه ، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج فى مال لها إلى الشام تاجرا ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار ، مع غلام لها يقال له : ميسرة.
فقبله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخرج فى مالها ذلك ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.
(1/32)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 33
ثم باع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلعته التى خرج بها ، واشترى ما أراد أن يشترى ، ثم أقبل قافلا إلى مكة ، ومعه ميسرة.
فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف.
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة ، يلتقى نسبها مع نسبه فى جده الأعلى قصى ، كما يلتقى نسبها مع نسب أمه فى كلاب بن مرة مع ما أراد اللّه بها من كرامته. فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت له : يا بن عم ، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك فى قومك ، وأمانتك وحسن خلقك ، وصدق حديثك.
ثم عرضت عليه نفسها ، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا ، وأعظمهن شرفا ، وأكثرهن مالا ، كل قومها كان حريصا على ذلك منها ، لو يقدر عليه.
17 - خلاف قريش فى بنيان الكعبة
فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليقفوها ، ويهابون هدمها.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت ، فأخذوا خشبها ، فأعدوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطى نجار ، فتهيأ لهم فى أنفسهم بعض ما يصلحها.
فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا فى بنائها من كسبكم (م 3 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/33)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 34
إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغى ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم فى هدمها ، فأخذ المغول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركنين.
فتربص الناس تلك الليلة وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شىء ، فقد رضى اللّه صنعنا ، فهدمنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - وأفضوا إلى حجارة خضراء أخذ بعضها بعضا ، فانتهوا عن ذلك الأساس.
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى أعدوا للقتال.
فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب ابن لؤى على الموت ، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة ، فسموا :
لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد وتشاوروا وتناصفوا.
ثم إن أبا أمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، وكان عامئذ أسن قريش كلها ، قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضى بينكم فيه ، ففعلوا.
(1/34)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 35
فكان أول داخل عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا :
هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ،
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هلم إلىّ ثوبا ، فأتى به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ، ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه.
18 - علم اليهود والنصارى بمبعثه صلى اللّه عليه وسلم
و كانت الأحبار من يهود ، والرهبان من النصارى ، والكهان من العرب قد تحدّثوا بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه ، لما نقارب من زمانه.
ويحدث رجال من المسلمين : أن مما دعانا إلى الإسلام ، لما كنا نسمع من رجال يهود ، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس لنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : إنه قد تقارب زمان نبى يبعث الآن ، فكنّا كثيرا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى اللّه تعالى ، فبادرناهم إليه ، آمنا به وكفروا به.
وكان سلمة ، من أصحاب بدر ، يقول : كان لنا جار من يهود فى بنى عبد الأشهل ، فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بنى عبد الأشهل ، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقالوا له : ويحك يا فلان ، أو ترى
(1/35)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 36
هذا كائنا؟ قال : نعم. فقالوا له : ويحك يا فلان ، فما آية ذلك؟ قال : نبى مبعوث من نحو هذه البلاد - وأشار بيده إلى مكة واليمن - فقالوا : ومتى نراه؟
فنظر إلىّ - وأنا من أحدثهم سنّا ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة : فو اللّه ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللّه محمدا رسولا صلى اللّه عليه وسلم.
19 - مبعثه صلى اللّه عليه وسلم
و لما بلغ محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعين سنة بعثه اللّه تعالى رحمة للعالمين ، وبشيرا للناس كافة.
و كان أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النبوة ، حين أراد اللّه كرامته ورحمة العباد به ، الرؤيا الصادقة ، لا يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤيا فى نومه إلا جاءت كفلق الصبح ، وحبب اللّه تعالى إليه الخلوة ، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده.
ومكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذلك إلى أن جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة اللّه ، وهو بحراء فى شهر رمضان ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتكف فى حراء ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاء من المساكين ، فإذا قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتكافه من شهره ذلك ، كان أول ما يبدأ به الكعبة قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا ، أو ما شاء اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته.
حتى إذا كان الشهر الذى أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التى بعثه اللّه تعالى فيها ، وذلك الشهر رمضان ،
خرج رسول اللّه
(1/36)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 37
صلى اللّه عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج ، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه اللّه فيها برسالته ، جاءه جبريل عليه السلام بأمر اللّه تعالى فقال : اقرأ ، قال :
ما أنا بقارئ. قال : فأخذنى فغطنى «1» حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال :
اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال : اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. فرجع بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضى اللّه عنها فقال : زملونى زملونى ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسى. فقالت خديجة : كلا واللّه ما يخزيك اللّه أبدا.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها - وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل - فأخبرته بما أخبرها به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال ورقة :
و الذى نفس ورقة بيده ، لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر ، الذى كان يأتى موسى ، وإنه لنبىّ هذه الأمة ، فقولى له : فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة.
فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتكافه وانصرف ، صنع كما كان يصنع ، بدأ بالكعبة فطاف بها ، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة فقال :
يابن أخى ، أخبرنى بما رأيت وسمعت ، فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فقال له ورقة : والذى نفسى بيده ، إنك لنبى هذه الأمة ، ولقد جاءك الناموس
__________
(1) غطنى : عصرنى عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقة. [.....]
(1/37)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 38
الأكبر الذى جاء موسى ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن اللّه نصرا يعلمه.
ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه. ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى منزله.
20 - بدء التنزيل
فابتدئ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتنزيل فى شهر رمضان ، يقول اللّه عزوجل : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
ثم تتام الوحى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو مؤمن باللّه مصدق بما جاء منه. ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه ، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
فآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاء من اللّه ، وكانت أول من آمن باللّه ورسوله ، وصدق بما جاء منه ، فخفف اللّه بذلك عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، لا يسمع شيئا مما يكرهه ، من رد عليه وتكذيب له ، إلا فرج اللّه عنه بها إذا رجع إليها.
ثم فتر الوحى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فترة ، حتى شق ذلك عليه فأحزنه ، فجاءه جبريل بسورة الضحى ، يقسم له ربه ، وهو الذى أكرمه بما أكرمه ، ما ودعه وما قلاه ، يقول تعالى : وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى . ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى . أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى . وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى . وَوَجَدَكَ عائِلًا
(1/38)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 39
فَأَغْنى . فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر ما أنعم اللّه به عليه وعلى العباد من به من النبوة ، سرّا إلى من يطمئن إليه من أهله.
21 - فرض الصلاة
وافترضت الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم ، أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له يعقبه فى ناحية الوادى فانفجرت منه عين ، فتوضا جبريل عليه السلام ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر إليه ، ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما رأى جبريل يتوضأ ، ثم قام جبريل ، فصلى به ، وصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصلاته. ثم انصرف جبريل عليه السلام.
فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ، ليريها كيف الطهور للصلاة ، كما أراه جبريل ، فتوضأت كما توضأ لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم صلى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما صلى به جبريل ، فصلت بصلاته.
و يقول ابن عباس : لما افترضت الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس ، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله ، ثم صلى العصر به حين كان ظله مثليه.
ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ، ثم صلى به العشاء
(1/39)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 40
الآخرة حين ذهب ثلث الليل الاول ، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق.
22 - إسلام على بن أبى طالب
و كان أول ذكر من الناس آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وصلى معه ، وصدق بما جاءه من اللّه تعالى : على بن أبى طالب بن عبد المطلب ابن هاشم ، وهو يومئذ ابن عشر سنين.
وكان من نعمة اللّه على على بن أبى طالب ، ومما صنع اللّه له ، وأراد ربه من الخير ،
أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للعباس عمه ، وكان من أيسر بنى هاشم :
يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بنيه رجلا ، وتأخذ أنت رجلا ، فقال العباس : نعم.
فانطلقنا حتى أتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما.
فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليّا فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه. فلم يزل علىّ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيّا ، فاتبعه على رضى اللّه عنه وآمن به وصدقه ، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
(1/40)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 41
و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيا من أبيه أبى طالب ، ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا.
فمكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا ، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان ، فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا بن أخى ، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟
قال : أى عم ، هذا دين اللّه ، ودين ملائكته ، ودين رسله ، ودين أبينا إبراهيم ، بعثنى اللّه به رسولا إلى العباد ، وأنت - أى عم - أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوت إلى الهدى ، وأحق من أجابنى إليه وأعاننى عليه.
فقال أبو طالب : أى ابن أخى ، إنى لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه ، ولكن واللّه لا يخلص إليك بشىء تكرهه ما بقيت.
23 - إسلام زيد بن حارثة
ثم أسلم زيد بن حارثة. وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق ، فيهم زيد بن حارثة وصيف ، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد ، وهى يومئذ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لها : اختارى يا عمة أى هؤلاء الغلمان شئت فهو لك ، فاختارت زيدا ، فأخذته ، فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عندها ، فاستوهبه منها ، فوهبته له ، فأعتقه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتبناه ، وذلك قبل أن يوحى إليه.
وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا ، ثم قدم عليه وهو عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
(1/41)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 42
«إن شئت فأقم عندى ، وإن شئت فانطلق مع أبيك»؟ فقال : بل أقيم عندك.
فلم يزل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بعثه اللّه فصدقه ، وأسلم ، وصلى معه.
24 - إسلام أبى بكر
ثم أسلم أبو بكر بن أبى قحافة ، واسمه عتيق. واسم أبى قحافة عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى ابن غالب بن فهر.
فلما أسلم أبو بكر رضى اللّه عنه أظهر إسلامه ، ودعا إلى اللّه وإلى رسوله.
وكان أبو بكر رجلا مألفا «1» لقومه ، محببا سهلا ، وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلم قريش بها ، وبما كان فيها من خير وشر ، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألقونه ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسه ، فجعل يدعو إلى اللّه وإلى الإسلام من وثق به قومه ، ممن يغشاه ويجلس إليه.
25 - من اسلم بدعوة أبى بكر
فأسلم بدعاء أبى بكر عثمان بن عفان بن أبى العاصى بن أمية بن عبد شمس ،
__________
(1) المألف : الذى يألفه الناس.
(1/42)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 43
و الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب ، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب ، وسعد بن أبى وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن مرة بن كلاب ، وطلحة بن عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة بن كعب بن لؤى.
فجاء بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ،
و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردده ، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة ، ما تلبث عنه حين ذكرته له ، وما تردد فيه.
26 - من أسلموا بعد ذلك
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد اللّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر ، وأبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللّه ابن عمر بن مخزوم ، والأرقم بن أبى الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد اللّه ابن عمر بن مخزوم ، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى ، وأخواه قدامة ، وعبد اللّه ، ابنا مظعون ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ، أخت عمر بن الخطاب ، وأسماء بنت أبى بكر ، وعائشة بنت أبى بكر - وهى يومئذ صغيرة - وخباب بن الأرت ، حليف بنى زهرة ، وعمير بن أبى وقاص - أخو سعد بن أبى وقاص - وعبد اللّه
(1/43)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 44
ابن مسعود بن الحارث - حليف بنى زهرة - ومسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد ابن عبد العزى - من القارة - وسليط بن عمرو بن عبد شمس ، وأخوه حاطب ابن عمرو وعياش بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، وامرأته أسماء بنت سلامة التميمية ، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدى ، وعامر بن ربيعة - من عنز بن وائل - وعبد اللّه بن جحش بن رئاب ، وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وجعفر بن أبى طالب ، وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان ، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب ، وامرأته فاطمة بنت المجلل بن عبد اللّه ، وأخوه حطاب بن الحارث ، وامرأته فكيهة بنت يسار ، ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب ، والسائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب ابن وهب ، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف ، وامرأته رملة بنت أبى عوف ابن صبيرة ، والنحام نعيم بن عبد اللّه بن أسيد ، وعامر بن فهيرة - مولى أبى بكر الصديق - وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد ، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وأبو حذيفة مهشم بن عتبة بن ربيحة بن عبد شمس ، وواقد بن عبد اللّه بن عبد مناف - حليف بنى عدى بن كعب - وخالد ، وعامر ، وعاقل ، وإياس - بنو البكير ابن عبد ياليل بن ناشب - وعمار بن ياسر - حليف بنى مخزوم بن يقظة - وصهيب بن سنان ، أحد النمر بن قاسط.
ثم دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به.
27 - الجهر بالدعوة
ثم إن اللّه عز وجل أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يصدع بما جاءه
(1/44)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 45
منه وأن يبادى الناس بأمره ، وأن يدعوه إليه ، وكان بين ما أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره اللّه تعالى بإظهار دينه ، ثلاث سنين من مبعثه ، ثم قال اللّه تعالى : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وقال تعالى : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وقال جل شأنه : وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ.
وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة ، إذا ظهر عليهم نفر من المشركين ، وهم يصلون ، فنا كروهم وعابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم.
فضرب سعد بن أبى وقاص يومئذ رجلا من المشركين بعظم فشجه ، فكان أول دم هريق فى الإسلام.
فلما بادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره اللّه لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه ، حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلا من عصم اللّه تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل.
وحدب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه. ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شىء.
فلما رأت قريش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يعتبهم»
من شى ء
__________
(1) لا يعتبهم : لا يرضيهم.
(1/45)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 46
أنكروه عليه ، من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب : عتبة ، وشيبة - ابنا ربيعة بن عبد شمس - وأبو سفيان بن حرب ابن أمية ، وأبو البخترى العاصى بن هشام بن الحارث بن أسد ابن عبد العزى ، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى وأبو جهل عمرو ابن هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، والوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، ونبيه ، ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة والعاص بن وائل بن هاشم ، فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آبائنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلى بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه ، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا ، وردهم ردّا جميلا ، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين اللّه ويدعو إليه ، ثم اشتد الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتعادوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينها ، وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا خذلانه.
(1/46)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 47
ثم بعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له : يا بن أخى ، إن قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا ، فأبق علىّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلنى من الأمر ما لا أطيق.
فظن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه رأى أنه خاذله ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«يا عم ، واللّه لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ، ما تركته». ثم استعبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبكى ، ثم قام.
فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا ابن أخى. فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال : اذهب يا بن أخى فقل ما أحببت ، فو اللّه لا أسلمك لشىء أبدا.
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم فى ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له : يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أنهد «1» فتى فى قريش وأجمله ، فخذه واتخذه ولدا فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل.
__________
(1) أنهد : أشد وأقوى.
(1/47)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 48
فقال : واللّه لبئس ما تسوموننى. أتعطوننى ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابنى تقتلونه ، هذا واللّه ما لا يكون أبدا.
فقال المطعم بن عدى بن نوفل : واللّه يا أبا طالب ، لقد أنصفك قومك.
وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.
فقال أبو طالب للمطعم : واللّه ما أنصفونى ، ولكنك قد أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم علىّ ، فاصنع ما بدا لك.
فاشتد الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضا.
28 - تآمر قريش على المسلمين
ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من فى القبائل منهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم منهم بعمه أبى طالب.
وقد قام أبو طالب ، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون فى بنى هاشم وبنى المطلب ، فدعاهم إلى ما هو عليه ، من منع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والقيام دونه. فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبى لهب ، عدو اللّه.
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ،
(1/48)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 49
و إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا.
قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به.
قال : بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا : نقول : كاهن قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بكلام الكاهن ولا سجعه. قالوا :
فنقول : مجنون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه. قالوا :
فنقول : شاعر. قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، فما هو بالشعر.
قالوا : فنقول : ساحر. قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : واللّه إن لقوله لحلاوة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا :
ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا منه بذلك ، فجعلوا يجلسون بطرق الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره.
و صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها.
فلما انتشر أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العرب ويلغ البلدان.
(م 4 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/49)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 50
ذكر بالمدينة ، ولم يكن حى من العرب أعلم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين ذكر وقبل أن يذكر ، من هذا الحى من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود ، وكانوا لهم حلفاء ومعهم فى بلادهم.
29 - ما لقى الرسول من قومه
ثم إن قريشا اشتد أمرهم ، للشقاء الذى أصابهم فى عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مظهر لأمر اللّه لا يستخفى به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم.
واجتمع أشرافهم يوما فى الحجر فذكروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.
فبينما هم فى ذلك ، إذ طلع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقبل يمشى حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول ، فعرف ذلك فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم مضى ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرف ذلك فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : «أتسمعون يا معشر قريش. أما والذى نفسى بيده ، لقد جئتكم بالذبح «1»».
فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه
__________
(1) بالذبح ، يعنى : بالهلاك.
(1/50)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 51
وصاة «1» ليهدئه بأحسن ما يحمد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، فو اللّه ما كنت جهولا.
فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر ، فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه ، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.
فبينماهم فى ذلك طلع عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون : أنت الذى تقول كذا وكذا؟ - لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم - فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
نعم ، أنا الذى أقول ذلك.
فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه. فقام أبو بكر رضى اللّه عنه دونه ، وهو يبكى ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللّه؟ فانصرفوا عنه.
30 - إسلام حمزة
ثم إن أبا جهل مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره ، فلم يكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومولاة لعبد اللّه بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم.
فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضى اللّه عنه أن أقبل متوشحا قوسه ، راجعا من صيد له - وكان صاحب صيد يخرج له ، وكان إذا رجع من صيده لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على
__________
(1) الوصاة : الوصية.
(1/51)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 52
ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى فى قريش وأشد شكيمة ، فلما مر بالمولاة - وقد رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بيته - قالت له : يا أبا عمارة ، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى جهل ، وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه ، ولم يكلمه محمد صلى اللّه عليه وسلم.
فاحتمل حمزة الغضب ، لما أراد اللّه به من كرامته ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد ، معدّا لأبى جهل إذا لقيه أن يوقع به ، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضر به بها فشجه شجة منكرة ، ثم قال : أنشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد ذلك على إن استطعت! فقامت رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ، فقال أبو جهل :
دعوا أبا عمارة ، فإنى قد واللّه سببت ابن أخيه سبّا قبيحا.
ونم حمزة رضى اللّه عنه على إسلامه ، وعلى ما تابع عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
31 - ما كان بين عتبة والرسول
و حين أسلم حمزة ، ورأت قريش أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، قال عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، وهو جالس فى نادى قريش ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس فى المسجد وحده : يا معشر
(1/52)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 53
قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا؟ فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه.
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال :
يا بن أخى ، إنك منا حيث قد علمت من الشرف فى العشيرة ، والمكان فى النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قل يا أبا الوليد ، أسمع ، قال : يابن أخى ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا «1» تراه ، لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع «2» على الرجل حتى يداوى منه.
حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستمع منه ، قال :
أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم. قال : فاسمع منى. قال : أفعل. فقال :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
__________
(1) الرئى : ما يتراءى للإنسان من الجن.
(2) التابع : من يتبع من الجن.
(1/53)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 54
فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه. ثم انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ، ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائى أنى قد سمعت قولا واللّه ما سمعت مثله قط ، واللّه ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعونى واجعلوها بى ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فواللّه ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزّه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا :
سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه. قال : هذا رأيى فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم.
32 - الرسول واشراف قومه
و جعل الإسلام يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ، فاجتمع أشراف قريش من كل قبيلة بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم.
فجاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سريعا ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه رأى ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ، حتى جلس إليهم.
فقالوا له : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا واللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، وما بقى أمر قبيح إلا قد
(1/54)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 55
جئته فيما بيننا وبينك ، وإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك ، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ، ولا أقل ماء ، ولا أشدّ عيشا منّا ، فسل ربك الذى بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا.
فقال لهم صلوات اللّه وسلامه عليه : ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من اللّه بما بعثنى به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علىّ أصبر لأمر اللّه تعالى حتى يحكم اللّه بينى وبينكم. قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تتمول ، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك ، إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما بعثت إليكم بهذا ، ولكن اللّه بعثنى بشيرا ونذيرا. قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا ، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ذلك إلى اللّه إن شاء أن يفعله بكم فعل.
وقام عنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حزينا آسفا ، لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
(1/55)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 56
فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإنى أعاهد اللّه لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه ، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.
قالوا : واللّه لا نسلمك لشىء أبدا ، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينتظره ، وغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما كان يغدو ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى جعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام يصلى ، وقد غدت قريش فجلسوا فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل.
فلما سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ، ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على الحجر ، حتى قذف الحجر من يده. وقامت إليه رجال قريش فقالوا له :
ما لك يا أبا الحكم؟ قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل ، لا واللّه ما رأيت مثل هامته قط ولا أنيابه لفحل قط ، فهم أن يأكلنى.
فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النضر بن الحارث ، فقال : يا معشر قريش ، إنه واللّه قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر! لا واللّه ما هو بساحر! وقلتم : كاهن! لا واللّه ما هو بكاهن! وقلتم : شاعر! لا واللّه
(1/56)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 57
ما هو بشاعر! وقلتم : مجنون! لا واللّه ما هو بمجنون! يا معشر قريش ، فانظروا فى شأنكم ، فإنه واللّه لقد نزل بكم أمر عظيم.
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبنصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها ، فكان إذا جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسا فذكر فيه باللّه ، خلفه فى مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش ، أحسن حديثا منه ، فهلم إلىّ ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ، ثم يقول : بما ذا محمد أحسن حديثا منى؟
33 - أول جهر بالقرآن
و اجتمع يوما أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : واللّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهره لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد اللّه ابن مسعود ، أنا. قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال : دعونى فإن اللّه سيمنعنى.
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى ، وقريش فى أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ : (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) رافعا بها صوته الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ثم استقبلها يقرؤها. فتأملوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن مسعود؟
ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللّه أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثروا فى وجهه ، فقالوا له : هذا الذى خشينا عليك. فقال : ما كان أعداء اللّه أهون علىّ منهم الآن ، وائن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا؟ قالوا : لا ، حسبك ، قد أسمعتهم ما يكرهون.
(1/57)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 58
34 - استماع قريش إلى قراءة الرسول
و خرج ليلة أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والأخنس ابن شريق ، ليستمعوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يصلى من الليل فى بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع القمر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض. لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا ، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان فى بيته ، فقال : أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال :
يا أبا ثعلبة ، واللّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها.
قال الأخنس : وأنا والذى حلفت به كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه فى بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف
(1/58)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 59
الشرف ، أطعموا وأطعمنا ، وأعطوا وأعطينا ، حتى إذا كنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك مثل هذه؟ واللّه لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.
فقام عنه الأخنس وتركه.
35 - عدوان قريش على المستضعفين من المسلمين
ثم إن قريشا عدوا على من أسلم يعذبون من استضعفوا منهم ، فيفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه اللّه.
وكان بلال ، لبعض بنى جمح ، مولى من مواليهم ، وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول بلال وهو فى ذلك البلاء : أحد ، أحد.
حتى مر به أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه يوما ، وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبى بكر فى بنى جمح ، فقال لأمية بن خلف : ألا تتقى اللّه فى هذا المسكين! حتى متى؟ قال : أنت الذى أفسدته فأنقذه مما ترى. فقال أبو بكر :
أفعل ، عندى غلام أسود أقوى منه. على دينك ، أعطيكه به. قال : قد قبلت فقال : هو لك. فأعطاه أبو بكر عنه غلامه ذلك ، وأخذه فأعتقه.
ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب ، بلال سابعهم. فقال أبوه أبو قحافة : يا بنى ، إنى أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك! فقال أبو بكر : يا أبت ، إنما أريد ما أريد للّه.
(1/59)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 60
و كانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت الإسلام - إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة.
فيمر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيقول : صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة.
فأما أمه فقتلوها ، وهى تأبى إلا الإسلام.
وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم ، له شرف ، أنبّه ، وإن كان تاجرا قال : لتكسدن تجارتك ، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
36 - الهجرة الاولى إلى الحبشة
فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة حتى يجعل اللّه لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة ، وفرارا إلى اللّه بدينهم ، فكانت أول هجرة فى الإسلام.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة ، وهاجر إليها من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلا.
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة ، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش إلى النجاشى ، فيردهم عليهم ليفتنوهم فى دينهم ، ويخرجوهم من ديارهم التى اطمأنوا بها وآمنوا فيها.
(1/60)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 61
فبعثوا عبد اللّه بن أبى ربيعة ، وعمرو بن العاص بن وائل ، وجمعوا لهما هدايا للنجاشى ، ولبطارقته ، ثم بعثوا إليه فيهم وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشى فيهم ، ثم قدما إلى النجاشى هداياه ، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
فخرجا حتى قدما على النجاشى. فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن بكلما النجاشى ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد لجأ إلى بلد الملك غلمان مناسفهاء ، فإذا كلمنا الملك فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم. فقالوا لهما : نعم.
ثم إنهما قدّما هدايا هما إلى النجاشى ، فقبلها منهما ، ثم كلماه وكلمه البطارقة ، فغضب النجاشى وقال : لا أسلمهم أبدا حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى.
فأرسل النجاشى إلى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعاهم فقال لهم : ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم؟
فقال له جعفر بن أبى طالب : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، فدعانا إلى اللّه لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، فصدقناه وآمنا به ، فعدا علينا قومنا فعذبونا ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فلما قهرونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك.
فقال لهما النجاشى : انطلقا ، فلا واللّه لا أسلمهم إليكما ، ولا يكادون.
(1/61)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 62
37 - إسلام عمر بن الخطاب
و لما قدم عمرو بن العاص ، وعبد اللّه بن أبى ربيعة على قريش ، ولم يدركا ما طلبا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وردهما النجاشى بما يكرهون ، وأسلم عمر بن الخطاب - وكان رجلا ذا شكيمة لابرام ما وراء ظهره - امتنع به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبحمزة ، حتى غلبوا قريشا.
وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الحبشة.
وتقول أم عبد اللّه بنت أبى حثمة : واللّه إنا لنترحل إلى أرض الحبشة ، وقد ذهب عامر زوجى فى بعض حاجاتنا ، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علىّ وهو على شركه - وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا - فقال :
إنه للانطلاق يا أم عبد اللّه! قلت : نعم ، واللّه لنخرجن فى أرض اللّه آذيتمونا وقهرتمونا ، حتى يجعل اللّه مخرجا. فقال : صحبكم اللّه. ورأيت له رقة لم أكن أراها. ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا.
فجاء عامر بحاجته تلك فقلت له : يا أبا عبد اللّه. لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا! قال : أطمعت فى إسلامه؟ قلت : نعم. قال : فلا يسلم الذى رأيت حتى يسلم حمار الخطاب ..... يأسا منه ، لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.
وكانت أخته فاطمة بنت الخطاب ، عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت ، وأسلم بعدها سعيد بن زيد ، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر.
(1/62)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 63
و كان نعيم بن عبد اللّه النحام ، من بنى عدى بن كعب ، قد أسلم ، وكان أيضا يستخفى بإسلامه خوفا من قومه.
وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا أنهم قد اجتمعوا فى بيت عند الصفا ، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمه حمزة ابن عبد المطلب ، وأبو بكر ، وعلى بن أبى طالب ، فى رجال من المسلمين ، ممن كان أقام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.
فلقيه نعيم بن عبد اللّه فقال له : أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمدا هذا الذى فرق أمر قريش فأقتله. فقال له نعيم : واللّه لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بنى عبد مناف تار كيك تمشى على الأرض ، وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! فقال : وأى أهل بيتى؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، واختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد واللّه أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها (طه) يقرئهما إياها ، فلما سمعوا صوت عمر ، تغيب خبّاب فى مخدع لهم ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها.
وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال :
(1/63)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 64
ما هذه الهيمنة «1» التى سمعت؟ قالا له : ما سمعت شيئا ، قال : بلا واللّه ، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.
وبطش بختنه سعيد بن زيد. فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم قد أسلمنا وآمنا باللّه ورسوله ، فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى ، وقال لأخته :
أعطنى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد ، وكان عمر كاتبا ، فلما قال ذلك ، قالت له أخته : إنا نخشاك عليها.
قال : لا تخافى ، وحلف لها بآلهته ليردنها - إذا قرأها - إليها.
فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه ، فقالت له : يا أخى ، إنك نجس ، على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.
فقام عمر فاغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها (طه) ، فقرأها ، فلما قرأ منها صدرا قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه ، فقال له : يا عمر ، واللّه إنى لأرجو أن يكون اللّه قد خصك بدعوة نبيه ، فإنى سمعته أمس وهو يقول : «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ، فاللّه اللّه يا عمر».
فقال له عند ذلك عمر : فدلنى يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب : هو فى بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه.
__________
(1) الهينمة : الصوت الذى لا يفهم.
(1/64)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 65
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ، ثم عمد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب. فلما سمعوا صوته ، قام رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا السيف.
فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فزع ، فقال : يا رسول اللّه ، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف.
فقال حمزة بن عبد المطلب : فأذن له ، فإن كان يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان يريد شرّا قتلناه بسيفه.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ائذن له. فأذن له الرجل. ونهض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى لقيه فى الحجرة ، فأخذ بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة ، وقال : ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فو اللّه ما أرى أن تنتهى حتى ينزل اللّه بك قارعة.
فقال عمر : يا رسول اللّه ، جئتك لأؤمن باللّه ورسوله ، وبما جاء من عند اللّه.
فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن عمر قد أسلم.
فتفرق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكانهم ، وقد عزوا فى أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وينتصفون بهما من عدوهم.
وكان عمر يقول : لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أنى قد أسلمت؟
قلت : أبو جهل ، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه ، فخرج إلىّ (م 5 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/65)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 66
أبو جهل فقال : مرحبا وأهلا يابن أختى ، ما جاء بك؟ قلت : جئت لأخبرك أنى قد آمنت باللّه وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به.
فضرب الباب فى وجهى وقال : قبحك اللّه وقبح ما جئت به.
38 - تحالف الكفار وحديث الصحيفة
و لما رأت قريش أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا ، وأن النجاشى قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو فى القبائل ، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم ، وبنى المطلب ، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا ، ولا يبتاعوا منهم.
فلما اجتمعوا لذلك كتبوه فى صحيفة ، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب ابن عبد المطلب فدخلوا معه فى شعبه واجتمعوا إليه ، وخرج من بنى هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم.
ولقى أبو جهل حكيم بن حزام ، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهى عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومعه فى الشعب ، فتعلق به ، وقال : أتذهب إلى بنى هاشم! واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.
فجاءه أبو البخترى بن هاشم فقال : ما لك وله؟ فقال : يحمل الطعام إلى
(1/66)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 67
بنى هاشم. فقال له أبو البخترى : طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل.
فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه. فأخذ له أبو البخترى عظم بعير فضربه فشجه ، ووطعه وطعا شديدا.
و حمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم.
ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، سرّا وجهرا ، مناديا بأمر اللّه لا يتقى فيه أحدا من الناس.
39 - ما لقى الرسول من اذى قومه
فجعلت قريش حين منعه اللّه منها ، وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه ، وجعل القرآن ينزل فى قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم ، فمنهم من سمى لنا ، ومنهم من نزل فيه القرآن فى عامة من ذكر اللّه من الكفار ، فكان ممن سمى لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن :
أبو لهب بن عبد المطلب ، وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب ، وإنما سماها اللّه تعالى حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث يمر ، فأنزل اللّه تعالى فيها : تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ.
ثم إن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفى زوجها من القرآن أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة ومعه
(1/67)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 68
أبو بكر الصديق ، وفى يدها فهر من حجارة ، فلما وقفت عليهما أخذ اللّه ببصرها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى ، واللّه لو وجدته لضربت بهذا الفهرفاه.
وكانت قريش إنما تسمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مذمما ، ثم يسبونه.
فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ألا تعجبون لما يصرف اللّه عنى من أذى قريش؟ يسبون ويهجون مذمما ، وأنا محمد.
و كان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، إذا رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم همزه ولمزه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ. نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ.
وكان خباب بن الأرت صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قينا بمكة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له ، حتى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه. فقال له : يا خباب ، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضة أو ثياب ، أو خدم؟ قال خباب : بلى فقال : فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنا لك حقك فو اللّه لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند اللّه منى ولا أعظم حظّا فى ذلك. فأنزل اللّه تعالى فيه :
(1/68)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 69
أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إلى قوله تعالى : وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً.
وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم فى المجلس ، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أفحمه.
ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقبل عبد اللّه بن الزبعرى السهمى حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد اللّه بن الزبعرى : واللّه ما قام النضر ابن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد اللّه بن الزبعرى : أما واللّه لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا : أكل ما يعبد من دون اللّه فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم «عليهما السلام» فعجب الوليد ومن كان معه فى المجلس من قول عبد اللّه بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قول ابن الزبعرى ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن كل من أحب أن يعبد من دون اللّه فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته. فأنزل اللّه تعالى عليه فى ذلك : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ.
(1/69)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 70
و كان الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى ، حليف بنى زهرة ، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه ، فكان يصيب من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويرد عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، إلى قوله تعالى زَنِيمٍ وكان أبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، وعقبة بن أبى معيط ، متصافيين ، حسنا ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسمع منه ، فبلغ ذلك أبيّا ، فأتى عقبة فقال له : ألم يبلغنى أنك جالست محمدا وسمعت منه؟ وجهى من وجهك حرام أن أكلمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل فى وجهه. ففعل ذلك عدو اللّه عقبة بن أبى معيط. لعنه اللّه. فأنزل اللّه تعالى فيهما. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا إلى قوله تعالى : لِلْإِنْسانِ خَذُولًا.
ومشى أبىّ بن خلف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعظم بال قد تكسّر ، فقال : يا محمد ، أنت تزعم أن اللّه يبعث هذا بعد ما رمّ ، ثم فتّه فى يده ثم نفخه فى الريح نحو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم ، أنا أقول ذلك ، يبعثه اللّه وإياك بعد ما تكونان هكذا ، ثم يدخلك اللّه النار. فأنزل اللّه تعالى فيه : وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ.
واعترض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة : الأسود بن
(1/70)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 71
المطلب بن أسد بن عبد العزى ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمى - وكانوا ذوى أسنان فى قومهم - فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت فى الأمر ، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظّنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل اللّه تعالى فيهم : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. أى إن كنتم لا تعبدون اللّه إلا أن أعبد ما تعبدون ، فلا حاجة لى بذلك منكم ، لكم دينكم جميعا ولى دينى.
ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكلمه وقد طمع فى إسلامه ، فبينا هو فى ذلك إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى ، فكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد ، وما طمع فيه من إسلامه ، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه. فأنزل اللّه تعالى فيه : عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى إلى قوله تعالى : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ.
40 - رجوع مهاجرى الحبشة
و بلغ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، الذين خرجوا إلى أرض
(1/71)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 72
الحبشة إسلام أهل مكة ، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا.
فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.
41 - ابن مظعون ورده لجوار الوليد
و لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من البلاء - وهو يغدو وبروح فى أمان من الوليد بن المغيرة - قال : واللّه إن غدوى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابى وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى اللّه ما لا يصيبنى ، لنقص كبير فى نفسى ، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : لم يا أبا عبد شمس ، وفت ذمتك ، قد رددت إليك جوارك. فقال له : لم يابن أخى؟ لعله آذاك أحد من قومى. قال : لا ، ولكنى أرضى بجوار اللّه ، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال : فانطلق إلى المسجد فاردد علىّ جوارى علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد ، فقال الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد علىّ جوارى. قال : صدق وجدته وفيّا كريم الجوار ، ولكنى قد أحببت ألا أستجير بغير اللّه ، فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان ، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب فى مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد :
ألا كل شىء ما خلا اللّه باطل
قال عثمان : صدقت. قال لبيد :
و كل نعيم لا محالة زائل
(1/72)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 73
قال عثمان : كذبت ، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة :
يا معشر قريش ، واللّه ما كان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟
فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه فى سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدن فى نفسك من قوله. فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها. والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ، فقال : أما واللّه يا بن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، لقد كنت فى ذمة منيعة. فيقول عثمان : بل واللّه ، إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها فى اللّه ، وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد : هلم يا ابن أخى ، إن شئت فعد إلى جوارك. فقال : لا.
42 - استجارة أبى سلمة بابى طالب
ثم إن أبا سلمة لما استجار بأبى طالب ، مشى إليه رجال من بنى مخزوم ، فقالوا له : يا أبا طالب ، لقد منعت منا ابن أخيك محمدا ، فمالك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال : إنه استجار بى ، وهو ابن أختى ، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى. فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش ، واللّه لقد أكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون تتواثبون عليه فى جواره من بين قومه ، واللّه لتنتهن عنه أو لتقومن معه فى كل ما قام فيه ، حتى يبلغ ما أراد. فقالوا :
بل تنصرف عما تكره يا أبا عتبة ، وكان لهم وليّا وناصرا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأبقوا على ذلك. فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ، ورجا أن يقوم معه فى شأن رسول اللّه صلى اللّه
(1/73)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 74
عليه وسلم ، وقال شعرا يحرضه على نصرته ونصرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
43 - أبو بكر ورده لجوار بن الدغنة
و قد كان أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه ، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى ، ورأى من تظاهر قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ما رأى ، استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الهجرة فأذن له ، فخرج أبو بكر مهاجرا ، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين ، لقيه ابن الدغنة أخو بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد الأحابيش ، فقال ابن الدغنة : أين يا أبا بكر؟ قال :
أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا علىّ. قال : ولم؟ فو اللّه إنك لتزين العشيرة ، وتعين على النوائب ، وتفعل المعروف ، وتكسب المعدوم ، ارجع فأنت فى جوارى. فرجع معه ، حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال :
يا معشر قريش ، إنى فد أجرت ابن أبى قحافة ، فلا يعرضن له أحد إلا بخير.
فكفوا عنه.
و كان لأبى بكر مسجد عند باب داره فى بنى جمح ، فكان يصلى فيه ، وكان رجلا رقيقا ، إذا قرأ القرآن استبكى ، فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته. فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة ، فقالوا له : يابن الدغنة ، إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا ، إنه رجل إذا صلى ، وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكى ، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم ، فانهه ومره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء ،
(1/74)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 75
فمشى ابن الدغنة إليه فقال له : يا أبا بكر ، إنى لم أجرك لتؤذى قومك ، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت فيه ، وتأذوا بذلك منك ، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.
قال : أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار اللّه؟ قال : فاردد علىّ جوارى. قال : قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش ، إن ابن أبى قحافة قد رد علىّ جوارى فشأنكم بصاحبكم.
فلقيه سفيه من سفهاء قريش ، وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا على رأسه ترابا. فمر بأبى بكر الوليد بن المغيرة - أو العاصى بن وائل - فقال أبو بكر : ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال : أنت فعلت ذلك بنفسك.
44 - نقض الصحيفة
ثم إنه قام فى نقض تلك الصحيفة ، التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب ، نفر من قريش ، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث ، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم ابن عبد مناف لأمه ، فكان هشام لبنى هاشم واصلا ، وكان ذا شرف فى قومه ، فكان يأتى بالبعير ، وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب ليلا ، قد أوقره طعاما ، حتى إذا أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ، ثم ضرب على جنبه ، فيدخل الشعب عليهم ، ثم يأتى به قد أوقره بزّا فيفعل به مثل ذلك.
(1/75)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 76
ثم إنّه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، وكانت أمة عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا زهير ، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب ، وأخوالك حيث قد علمت ، لا يباعون ولا يبتاع منهم ، أما إنى أحلف باللّه أن لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ، ما أجابك إليه أبدا. قال : ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد ، واللّه أن لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حق أنقضها. قال : قد وجدت رجلا. قال : فمن هو؟ قال : أنا. قال له زهير :
ابغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف فقال له : يا مطعم ، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف ، وأنت شاهد على ذلك ، موافق لقريش فيه؟ أما واللّه لئن أمكنتموهم من هذه ، لتجدنهم إليها منكم سراعا. قال : ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال :
قد وجدت ثانيا. قال : من هو؟ قال : أنا. قال : ابغنا ثالثا. قال : قد فعلت. قال : من هو؟ قال : زهير بن أبى أمية. قال : ابغنا رابعا.
فذهب إلى أبى البخترى بن هشام ، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدى ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟ قال : نعم. قال : من هو؟ قال : زهير ابن أبى أمية ، والمطعم بن عدى. وأنا معك. قال : ابغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه ، وذكر له قرابتهم وحقهم ، فقال له : وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟
قال : نعم ، ثم سمى له القوم.
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك ، فأجمعوا أمرهم
(1/76)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 77
و تعاقدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها ، وقال زهير : أنا أبدؤكم ، فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير بن أبى أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟
واللّه لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل ، وكان فى ناحية المسجد : كذبت واللّه لا تشق. قال زمعة بن الأسود : أنت واللّه أكذب ، ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البخترى : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقر به. قال المطعم بن عدى : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها ، ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل : هذا أمر قضى بليل ، تشوور فيه بغير هذا المكان.
وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا «باسمك اللهم».
45 - إسلام الطفيل بن عمرو
و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على ما يرى من قومه ، ببذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه ، وجعلت قريش ، حين منعه اللّه منهم ، يحذرون الناس ومن قدم عليهم من العرب.
وكان الطفيل بن عمرو الدوسى يحدث أنه قدم مكة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها ، فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا ، فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل
(1/77)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 78
الذى بين أظهرنا قد أعضل «1» بنا ، وقد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا.
قال : فو اللّه ما زالوا بى حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا «2» فرقا من أن يبلغنى شىء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال : فعدوت إلى المسجد ، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة. قال : فقمت منه قريبا ، فأبى اللّه إلا أن يسمعنى بعض قوله : فسمعت كلاما حسنا. فقلت فى نفسى : واثكل أمى! واللّه إنى لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن من القبيح ، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته.
فمكثت حتى انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بيته فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قد قالوا لى كذا وكذا ، للذى قالوا ، فو اللّه ما برحوا يخوفوننى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك ، ثم أبى اللّه إلا أن يسمعنى قولك ، فسمعته قولا حسنا ، فأعرض علىّ أمرك. قال : فعرض علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، وتلا علىّ القرآن ، فلا واللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه. قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وقلت : يا نبى اللّه ، إنى
__________
(1) أعضل : اشتد أمره.
(2) السكر سف : القطن.
(1/78)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 79
امرؤ مطاع فى قومى ، وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام. ولقد أسلم بإسلام الطفيل أبوه وزوجته ونفر من قومه.
46 - الإسراء والمعراج
ثم أسرى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو بيت المقدس من إيلياء ، وقد فشا الإسلام بمكة فى قريش ، وفى القبائل كلها.
و أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالبراق - وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الأنبياء قبله - فحمل عليها ، ثم خرج به صاحبه ، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض ، حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء قد جمعوا له ، فصلى معهم ، ثم أتى بثلاثة آنية : إناء فيه لبن ، وإناء فيه خمر ، وإناء فيه ماء. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فسمعت قائلا يقول حين عرضت على : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته ، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته قال : فأخذت إناء اللبن ، فشربت منه ، قال لى جبريل عليه السلام : هديت وهديت أمتك يا محمد.
ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر ، فقال أكثر الناس هذا واللّه الأمر «1» البين! واللّه إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهرا مقبلة ، أفيذهب ذلك محمد فى ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟ فارتد كثير ممن كان أسلم ، وذهب
__________
(1) الأمر : العجب.
(1/79)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 80
الناس إلى أبى بكر ، فقالوا له : هل لك يا أبا بكر فى صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم أبو بكر : واللّه لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ، فو اللّه إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من اللّه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا نبى اللّه ، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟
قال : نعم. قال : يا نبى اللّه ، فصفه لى ، فإنى قد جئته ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فرفع لى حتى نظرت إليه ، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصفه لأبى بكر ، ويقول أبو بكر : صدقت ، أشهد أنك رسول اللّه ، كلما وصف له منه شيئا ، قال : صدقت ، أشهد أنك رسول اللّه ، حتى إذا انتهى ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبى بكر : وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق.
47 - خروج الرسول إلى الطائف
و لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه فى حياة عمه أبى طالب ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه.
ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من اللّه عز وجل ، فخرج إليهم وحده.
ولما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف ، وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد باليل بن عمرو
(1/80)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 81
و مسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير ، فجلس إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعاهم إلى اللّه ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم : هو ينزع ثياب الكعبة إن كان اللّه أرسلك. وقال الآخر : أما وجد اللّه أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث : واللّه لا أكلمك أبدا ، لئن كنت رسولا من اللّه كما تقول ، لا أنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على اللّه ، ما ينبغى لى أن أكلمك.
فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى.
وكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيثيرهم ذلك عليه.
فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وألجئوه إلى بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل شجرة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف.
فلما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : اللهم إليك أشكو ضعف قوّتى ، وقلّة حيلتى ، وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلنى؟ إن لم يكن بك علىّ غضب فلا أبالى ، ولكن عافيتك هى أوسع لى ، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بى غضبك ، أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك.
فلما رآه ابنا ربيعة : عتبة وشيبة ، وما لقى ، تحركت له رحمهما «1» ، فدعوا
__________
(1) الرحم : الصلة والقرابة.
(م 6 - الموسوعة القرآنية - ج 1).
(1/81)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 82
غلاما لهما نصرانيّا ، يقال ، له : عدّاس ، فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه فى هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه. ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال له : كل. فلما وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه يده قال : باسم اللّه ، ثم أكل ، فنظر عداس فى وجهه ، ثم قال : واللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ومن أهل أى البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال : نصرانى ، وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى.
فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ذاك أخى ، كان نبيّا وأنا نبى.
فأكب عدّاس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. فلما جاءهما عداس قالا له :
ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قالا : يا سيدى ، ما فى الأرض شىء خير من هذا ، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبى. قال له :
ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه.
48 - عرض الرسول نفسه على قبائل مكة
ثم قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافة وفراق دينه ، إلا قليلا مستضعفين ، ممن آمن به ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرض نفسه فى المواسم ، إذا كانت ، على قبائل العرب يدعوهم إلى اللّه ، ويخبرهم أنه نبى مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم اللّه ما بعثه به.
(1/82)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 83
و يحدث ابن عباس فيقول : إنى لغلام شاب مع أبى بمنى ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب ، فيقول : يا بنى فلان ، إنى رسول اللّه إليكم ، يأمركم أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بى ، وتصدقوا بى وتمنعونى ، حتى أبين عن اللّه ما بعثنى به.
قال : وخلفه رجل أحول وضىء ، له غديرنان عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله وما دعا إليه ، قال ذلك الرجل : يا بنى فلان ، إن هذا يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال : فقلت لأبى : يا أبت ، من هذا الذى يتبعه ويرد عليه ما يقول؟
قال : هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب ، أبو لهب.
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنى عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى اللّه عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء. فقال له : أفنهدف «1» نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه.
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السن ، حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه
__________
(1) تهدف ، بالبناء للمجهول : تصير هدفا.
(1/83)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 84
بما يكون فى ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان فى موسهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بنى عبد المطلب ، يزعم أنه نبى ، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا : فقال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بنى عامر ، هل لهما من تلاف؟ والذى نفس فلان بيده ، ما تقوّلها إسماعيلى «1» قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم؟
فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى اللّه وإلى الإسلام ، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من اللّه من الهدى والرحمة ، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب ، له اسم وشرف إلا تصدى له ، فدعاه إلى اللّه ، وعرض عليه ما عنده.
49 - إسلام الانصار
و قدم أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل ، فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج.
فسمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم : هل لكم فى خير مما جئتم له؟ فقالوا له : وما ذاك؟ قال : أنا رسول اللّه بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئا ، وأنزل على الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أى قوم ، هذا واللّه خير مما جئتم له. فأخذ أنس بن رافع حفنة
__________
(1) إسماعيل : أى ما ادعى النبوة كاذبا أحد من بنى إسماعيل. [.....]
(1/84)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 85
من تراب البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا. فصمت إياس ، وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.
فلما أراد اللّه عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الموسم الذى لقيه فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع فى كل موسم ، فبينما هو عند العقبة وجد رهطا من الخزرج أراد اللّه بهم خيرا.
ولما لقيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : من أنتم؟ قالوا : نفر من الخزرج. قال : أمن موالى يهود؟ قالوا : نعم. قال : أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزوجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن.
وكان مما صنع اللّه بهم فى الإسلام ، أن يهود كانوا معهم فى بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم : إن نبيّا مبعوث الآن ، قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلموا واللّه إنه للنبى الذى توعدكم به يهود ، فلا تسبقكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنا قد تركه قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فسنقد
(1/85)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 86
عليهم ، فتدعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة فبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فلما انصرف عنه القوم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معهم مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى ، وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويفقهم فى الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة :
مصعب ، وكان ينزل على أسعد بن زرارة بن عدس أبى أمامة ، وهو أول من جمع بمن أسلم بالمدينة ، وكانوا أربعين رجلا.
50 - مبايعة الأنصار للرسول
و خرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/86)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 87
العقبة ، من أوسط أيام التشريق ، حين أراد اللّه بهم ما أراد من كرامته ، والنصر لنبيه ، وإعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله.
يقول كعب بن مالك : ثم خرجنا إلى الحج ، وواعدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، قال : فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التى واعدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لها ، ومعنا أبو جابر عبد اللّه ابن عمرو بن حرام ، سيد من سادتنا ، وشريف من أشرافنا ، أخذناه معنا ، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ، فكلمناه وقلنا له :
يا أبا جابر ، إنك سيد من سادتنا ، وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ثم دعوناه إلى الإسلام ، وأخبرناه بميعاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إيانا العقبة ، فأسلم وشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا.
فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا.
فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له ، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى
(1/87)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 88
من الأنصار : الخزرج ، خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم ، قد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروجبه إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول اللّه ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتلا القرآن ، ودعا إلى اللّه ، ورغب فى الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم ، والذى بعثك بالحق نبيّا ، لتمنعك مما نمنع منه أزرنا «1» ، فبايعنا يا رسول اللّه ، فنحن واللّه أبناء الحروب وأهل الحلقة «2» ، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول - والبراء يكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول اللّه ، إن بيننا وبين الرجال حبالا ، وإنا قاطعوها - يعنى اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم «3» ، أنا منكم وأنتم منى ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالتم.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا ،
__________
(1) أزرنا : نساءنا.
(2) الحلقة : السلاح.
(3) الهدم : أى حرمتى حرمتكم.
(1/88)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 89
ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا ، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للنقباء : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، وأنا كفيل على قومى - يعنى المسلمين - قالوا : نعم.
وكان أول من ضرب على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البراء بن معرور ، ثم بايع بعده القوم.
ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : واللّه الذى بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم
، فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها حتى أصبحنا.
فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش ، حتى جاءونا فى منازلنا ، فقالوا :
يا معشر الخزرج ، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخر جونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، وإنه واللّه ما من حى من العرب أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم ، منكم. فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون باللّه ما كان من هذا شىء ، وما علمناه.
ونفر الناس من «منى» ، فبحث القوم الخبر ، فوجدوه قد كان ، وخرجوا فى طلب القوم ، فأدركوا سعد بن عباد بأذاخر «1» ، والمنذر بن عمرو ، أخا
__________
(1) أذاخر : موضع قريب من مكة.
(1/89)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 90
بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج وكلاهما ، كان نقيبا. فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ، ويجذبونه بجمته ، وكان ذا شعر كثير.
51 - الهجرة إلى المدينة
و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له فى الحرب ، إنما يؤمر بالدعاء إلى اللّه والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل.
وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم ، فهم من بين مفتون فى دينه ومن بين معذب فى أيديهم ، ومن بين هارب فى البلاد فرارا منهم ، منهم من بأرض الحبشة ، ومنهم من بالمدينة ، وفى كل وجه. فلما عتت قريش على اللّه عزوجل ، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذبوا نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وعذبوا ونفوا من عبده ، ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه ، أذن اللّه عزوجل لرسوله صلى اللّه عليه وسلم فى القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليه.
فلما أذن اللّه تعالى له صلى اللّه عليه وسلم فى الحرب ، وبايعه هذا الحى من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه ، وأوى إليهم من المسلمين ، أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ، ومن معه بمكة من المسلمين ، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال : إن اللّه عزوجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها.
فخرجوا أرسالا ، وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه فى الخروج من مكة ، والهجرة إلى المدينة.
(1/90)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 91
فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المهاجرين من قريش ، من بنى مخزوم : أبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، وكان قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة من أرض الحبشة ، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار ، خرج إلى المدينة مهاجرا.
و تقول أم سلمة : لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ، ثم حملنى عليه ، وحمل معى ابنى سلمة فى حجرى ، ثم خرج بى يقود بعيره ، فلما رأته رجال بنى المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها فى البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده فأخذونى منه. وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد ، رهط أبى سلمة ، فقالوا : لا واللّه لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسنى بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجى أبو سلمة إلى المدينة ففرق بينى وبين زوجى وبين ابنى ، فكنت أخرج كل غداة أجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى ، سنة أو قريبا منها ، حتى مربى رجل من بنى عمى ، أحد بنى المغيرة ، فرأى ما بى فرحمنى ، فقال لبنى المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها! فقالوا لى : الحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابنى ، فارتحلت بعيرى ، ثم أخذت ابنى فوضعته فى حجرى ، ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة ، وما معى أحد من خلق اللّه ، فقلت أتبلغ بمن لقيت
(1/91)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 92
حتى أقدم على زوجى ، حتى إذا كنت بالتنعيم «1» لقيت عثمان بن طلحة بن أبى طلحة ، فقال لى : إلى أين يا بنت أبى أمية؟ فقلت : أريد زوجى بالمدينة. قال : أو ما معك أحد؟ فقلت ، لا واللّه ، إلا اللّه وبنى هذا. قال : واللّه مالك من مترك ، فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معى يهوى بى ، فو اللّه ما صحبت رجلا من العرب قط ، أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بى ، ثم استأخر عنى ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى ، فحط عنه ، ثم قيده فى الشجرة ، ثم تنحى عنى إلى شجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فقدمه فرحله ، ثم استأخر عنى ، وقال : اركبى ، فإذا ركبت واستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه ، فقاده ، حتى ينزل بى. فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمنى المدينة ، فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف بقباء ، قال : زوجك فى هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة اللّه ، ثم انصرف راجعا إلى مكة.
فكانت تقول : واللّه ما أعلم أهل بيت فى الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة ، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
ثم خرج عمر بن الخطاب ، وعياش بن أبى ربيعة المخزومى ، حتى قدما المدينة. قال عمر بن الخطاب : اتعدت ، لما أردنا الهجرة إلى المدينة ، أنا وعياش ابن أبى ربيعة ، وهشام بن العاصى بن وائل السهمى ، التناضب «2» ، وقلنا
__________
(1) التنعيم : موضع على فرسخين من مكة.
(2) التناضب : موضع.
(1/92)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 93
أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه ، فأصبحت أنا وعياش ابن أبى ربيعة عند التناضب ، وحبس عنا هشام ، وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا فى بنى عمرو بن عوف بقباء ، وخرج أبو جهل ابن هشام ، والحارث بن هشام ، إلى عياش بن أبى ربيعة ، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما ، حتى قدما علينا المدينة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، وقالا :
إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك ، ولا تستظل من شمس حتى تراك ، فرق لها. فقلت له : يا عياش ، إنه واللّه إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فو اللّه لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حر لاستظلت. فقال : أبر قسم أمى ، ولى هنالك مال آخذه.
فقلت : واللّه إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا ، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فأبى علىّ إلا أن يخرج معهما ، فلما أبى إلا ذلك ، قلت له :
أما إذا فعلت ما فعلت ، فخذ ناقتى هذه ، فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فإن رابك من القوم ريب ، فانج عليها.
فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال له أبو جهل :
يابن أخى ، واللّه لقد استغلظت بعيرى هذا ، أفلا تعقبنى على ناقتك هذه؟ قال :
بلى. فأناخ ، وأناخا ليتحول عليها ، فلما استوى بالأرض عدوا عليه ، فأوثقاه وربطاه ، ثم دخلا به مكة ، وفتناه فافتتن.
ثم إنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارا موثقا ، ثم قالا : يا أهل مكة ، هكذا فافعلوا بسفهائكم ، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
(1/93)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 94
52 - هجرة الرسول إلى المدينة
و أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن ، إلا على بن أبى طالب ، وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق رضى اللّه عنهما ، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الهجرة ،
فيقول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تعجل لعل اللّه يجعل لك صاحبا
، فيطمع أبو بكر أن يكونه.
و لما رأت قريش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم ، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم ، فاجتمعوا له فى دار الندوة - وهى دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون فى أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
حين خافوه.
فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا واللّه ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأيا.
فتشاوروا ثم قال قائل منهم : احبسوه فى الحديد ، وأغلقوا عليه باباثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيرا ، والنابغة ، ومن مضى منهم ، من هذا الموت ، حتى يصيبه ما أصابهم. ثم قال
(1/94)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 95
قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا ، فننقيه من بلادنا ، فإذا أخرج عنا فو اللّه ما نبالى أين ذهب ، ولا حيث وقع. إذا غاب عنا فرغنا منه ، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال أبو جهل بن هشام : واللّه إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا : وما هو يا أبا الحكم؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابّا جليدا نسيبا وسيطا فينا ، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدوا إليه ، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعقل «1» ، فعقلناه لهم. وتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبريل عليه السلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بايه يرصدونه متى ينام ، فيثبون عليه. فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب : نم على فراشى وتسج ببردى هذا الحضرمى الأخضر ، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينام فى برده ذلك إذا نام.
وخرج عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأخذ اللّه تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه ، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم ، فقال : ما تنتظرون ها هنا؟
قالوا : محمدا. قال : خيبكم اللّه! قد واللّه خرج عليكم محمد ، ثم جعلوا
__________
(1) العقل : الدية.
(1/95)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 96
يتطلعون فيرون عليّا على الفراش متسجيا يبرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيقولون : واللّه إن هذا لمحمد نائما ، عليه برده ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا ، فقام على رضى اللّه عنه عن الفراش ، فقالوا : واللّه لقد كان صدقنا الذى حدثنا.
وكان أبو بكر رضى اللّه عنه رجلا ذا مال ، فكان حين استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الهجرة ،
فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تعجل ، لعل اللّه يجعل لك صاحبا
، قد طمع بأن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما يعنى نفسه ، حين قال له ذلك ، فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما فى داره ، يعلفهما إعدادا لذلك.
تقول عائشة : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يخطئ أن يأتى بيت أبى أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذى أذن فيه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الهجرة ، والخروج من مكة بين ظهرى قومه ، أتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالهاجرة ، فى ساعة كان لا يأتى فيها. فلما رآه أبو بكر ، قال : ما جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا لأمر حدث.
فلما دخل صلى اللّه عليه وسلم تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء بنت أبى بكر ، فقال ، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أخرج عنى من عندك ،
(1/96)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 97
فقال : يا رسول اللّه إنما هنا ابنتاى ، وما ذاك؟ فداك أبى وأمى. فقال : إن اللّه قد أذن لى فى الخروج والهجرة.
فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول اللّه. قال : الصحبة.
ثم قال :
يا نبى اللّه ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد اللّه بن أريقط ، رجلا من بنى الدئل بن بكر ، وكانت أمه امرأة من بنى سهم بن عمرو - وكان مشركا - يدلهما على الطريق ، فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. ولم يعلم بخروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد حين خرج ، إلا على بن أبى طالب.
وأبو بكر الصديق ، وآل أبى بكر ، أما على ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شىء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته ، صلى اللّه عليه وسلم.
فلما أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخروج ، أتى أبا بكر بن أبى قحافة ، فخرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه ، وأمر أبو بكر ابنه عبد اللّه بن أبى بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر ، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يريحها عليهما ، يأتيهما إذا أمسى فى الغار. وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
وانتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا ، فدخل (م 7 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/97)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 98
أبو بكر رضى اللّه عنه قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلمس الغار ، لينظر أفيه سبع أو حية ، يقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه.
فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الغار ثلاثا ومعه أبو بكر ، وجعلت قريش فيه ، حين فقدوه ، مائة ناقة ، لمن يرده عليهم. وكان عبد اللّه بن أبى بكر يكون فى قريش نهاره معهم ، يسمع ما يأتمرون به ، وما يقولون فى شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبى بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة ، مولى أبى بكر رضى اللّه عنه ، يرعى فى رعيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا عبد اللّه بن أبى بكر غدا من عندهما إلى مكة ، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه. حتى إذا مضت الثلاث ، وسكن عنهما الناس ، أتاهما صاحبهما الذى استأجراه ببعيريهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر رضى اللّه عنها بسفرتها ، ونسيت أن تجعل لها عصاما «1» ، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام ، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ، ثم علقتها به.
فكان يقال لأسماء بنت أبى بكر : ذات النطاق ، لذلك.
فلما قرب أبو بكر ، رضى اللّه عنه ، الراحلتين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قدم له أفضلهما ، ثم قال : اركب ، فداك أبى وأمى. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنى لا أركب بعيرا ليس لى. قال : فهى لك يا رسول اللّه بأبى أنت وأمى. قال : لا ، ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به؟ قال : كذا
__________
(1) العصام. ما تعلق به السفرة.
(1/98)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 99
و كذا. قال : قد أخنتها به.
قال : هى لك يا رسول اللّه فركبها وانطلقا ، وأردف أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه عامر بن فهيرة مولاه خلفه ، ليخدمهما فى الطريق.
وتقول أسماء : لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأبو بكر رضى اللّه عنه ، أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبى بكر ، فخرجت إليهم ، فقالوا : أين أبوك يا بنت أبى بكر؟ قلت :
لا أدرى واللّه أين أبى؟ فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى ثم انصرف ، فمكثنا ثلاث ليال وما ندرى أين وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانوا أربعة : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأبو بكر ، الصديق رضى اللّه عنه ، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ، وعبد اللّه بن أريقط دليلهما.
وتقول أسماء : ولما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف ، فانطلق بها معه. قالت : فدخل علينا جدى أبو قحافة ، وقد ذهب بصره ، فقال : واللّه إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قلت : كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا. قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة فى البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت :
يا أبت ، ضع يدك على هذا المال ، فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفى هذا بلاغ لكم ، ولا واللّه ما ترك لنا شيئا ، ولكنى أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
(1/99)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 100
و يقول سراقة بن مالك : لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة ، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن يرده عليهم. قال :
فبينا أنا جالس فى نادىقومى إذ أقبل رجل منّا ، حتى وقف علينا ، فقال :
واللّه لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علىّ آنفا ، إنى لأراهم محمدا وأصحابه فأومأت إليه بعينى : أن اسكت ، ثم قلت : إنما هم بنو فلان ، يتبعون ضالة لهم. قال : لعله ، ثم سكت ، ثم مكثت قليلا ، ثم قمت فدخلت بيتى ، ثم أمرت بفرسى ، فقيد لى إلى بطن الوادى ، وأمرت بسلاحى ، فأخرج لى من دبر حجرتى ، ثم أخذت قداحى التى أستقسم بها ، ثم انطلقت ، فلبست لأمتى «1» ، ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» ، وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة ، فركبت على أثره ، فبينما فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه ، فقلت : ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» ، فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت فى أثره ، فبينما فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه ، فقلت : ما هذا؟
ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت فى أثره ، فبينما فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه فقلت : ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» ، فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت فى أثره. فلما بدا لى القوم ورأيتهم ، عثر بى فرسى ، فذهبت يداه فى الأرض ، وسقطت عنه ، فعرفت حين رأيت ذلك ، أنه قد منع منى ، فناديت القوم فقلت : أنا سراقة بن جعشم ، انظرونى أكلمكم ، فو اللّه لا أريبكم ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه
فقال رسول
__________
(1) اللأمة : الدرع والسلاح.
(1/100)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 101
اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبى بكر : قل له : وما تبتغى منا؟ فقال ذلك أبو بكر.
قلت : تكتب لى كتابا يكون آية بينى وبينك. قال : اكتب له يا أبا بكر.
ثم ألقاه إلىّ ، فأخذته ، فجعلته فى كنانتى ، ثم رجعت ، فسكت فلم أذكر شيئا مما كان ، حتى إذا كان فتح مكة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وفرغ من حنين والطائف ، خرجت ومعى الكتاب لألقاه ، فرفعت يدى بالكتاب ، ثم قلت : يا رسول اللّه ، هذا كتابك لى ، أنا سراقة بن جعشم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يوم وفاء وبر ، ادنه ، فدنوت منه فأسلمت.
ويقول رجال من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لما سمعنا بمخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة ، كنا نخرج إذا صلينا الصبح ، إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فو اللّه لا نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، فإذا لم نجد ظلا دخلنا ، وذلك فى أيام حارة ، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، جلسنا كما كنا نجلس ، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا ، وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دخلنا البيوت ، فكان أول من رآه رجل من اليهود ، فصرخ بأعلى صوته : يا بنى قيلة «1» ، هذا جدكم قد جاء. فخرجنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو فى ظل نخلة ، ومعه أبو بكر رضى اللّه عنه فى مثل سنه ، وأكثرنا لم يكن رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ذلك ، وركبه الناس - وما يعرفونه من أبى بكر - حتى زال الظل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقام أبو بكر وأظله بردائه ، فعرفناه عند ذلك.
فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على كلثوم بن هدم ، أخى بنى عمرو ابن عوف.
__________
(1) قيله : هم الأنصار ، وقيلة إخوة كانت لهم.
(1/101)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 102
و نزل أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه على خبيب بن أساف.
و أقام على بن أبى طالب عليه السلام بمكة ثلاث ليال وأيامها ، حتى أدى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنزل معه على كلثوم ابن هدم.
فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقباء ، فى بنى عمرو بن عوف ، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجده.
ثم أخرجه اللّه من بين أظهرهم يوم الجمعة ، فأدركت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجمعة فى بنى سالم بن عوف ، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
54 - مسجد الرسول بالمدينة وبيته
فأتاه رجال من بنى سالم بن عوف فقالوا : يا رسول اللّه ، أقم عندنا فى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، لناقته ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بنى بياضة ، تلقاه رجال من بنى بياضة ، فقالوا :
يا رسول اللّه ، هلم إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة اعترضه رجال من بنى ساعدة فقالوا : يا رسول اللّه ، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج ، قالوا : يا رسول اللّه ، هلم إلينا إلى العدد والعدة
(1/102)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 103
و المنعة. قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بنى عدى بن النجار - وهم أخواله دنيا - اعترضه رجال من بنى عدى بن النجار ، فقالوا : يا رسول اللّه ، هلم إلى أخوالك ، إلى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا أنت دار بنى مالك بن النجار ، بركت على باب مسجده صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يومئذ مريد لغلامين يتيمين من بنى النجار ، فلما بركت ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها لم ينزل ، وثبت فسارت غير بعيد ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت إلى خلفها ، فرجعت إلى مبركها أول مرة ، فبركت فيه ، فنزل عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته :
و نزل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسأل عن المريد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء : هو يا رسول اللّه لسهل وسهيل ابنى عمرو ، وهما يتيمان لى ، وسأرضيهما منه ، فاتخذه مسجدا.
فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يينى مسجدا ، ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ، فعمل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليرغب المسلمين فى العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، ودأبوا فيه.
فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بيت أبى أيوب حتى بنى له مسجده ومساكنه.
وتلاحق المهاجرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس ، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى اللّه تبارك وتعالى ، وإلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إلا أهل دور
(1/103)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 104
مسمون : بنو مظعون من بنى جمح ، وبنو جحش من رئاب ، حلفاء بنى أمية ، وبنو البكير ، من بنى سعد بن ليث ، حلفاء بنى عدى بن كعب ، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ، ليس فيها ساكن.
ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم ، عدا عليها أبو سفيان بن حرب ، فباعها من عمرو بن علقمة ، فلما بلغ بنى جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ، ذكر ذلك عبد اللّه بن جحش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ألا ترضى يا عبد اللّه أن يعطيك اللّه بها دارا خيرا منها فى الجنة؟ قال : بلى. قال : فذلك لك.
فلما افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد بن جحش فى دارهم ، فأبطأ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال الناس لأبى أحمد : يا أبا أحمد ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكره أن ترجعوا فى شىء من أموالكم أصيب منكم فى اللّه عز وجل ، فأمسك عن كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
55 - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
و أخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال :
تآخوا فى اللّه أخوين أخوين ، ثم أخذ بيد على بن أبى طالب ، فقال :
هذا آخى.
فلما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين ، واجتمع أمر الأنصار ، استحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة ، وفرضت الزكاة والصيام ، وقامت الحدود ، وفرض الحلال والحرام ، وتبوّأ
(1/104)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 105
الإسلام بين أظهرهم ، وكان هذا الحى من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان.
56 - حديث الآذان
و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة إنما يحتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها ، بغير دعوة ، فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم ، ثم كرهه.
فبينما هم على ذلك ، إذ رأى عبد اللّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه ، أخو بلحارث بن الخزرج ، النداء ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له :
يا رسول اللّه ، إنه طاف بى هذه الليلة طائف ، مربى رجل عليه ثوبان أخضران ، يحمل ناقوسا فى يده ، فقلت له : يا عبد اللّه ، أتبيع هذا الناقوس؟
قال : وما تصنع به؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة. قال : أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت : وما هو؟ قال : تقول : اللّه أكبر اللّه أكبر ، اللّه أكبر اللّه أكبر ، أشهد أن لا إله إلا اللّه ، أشهد أن لا إله إلا اللّه ، أشهد أن محمدا رسول اللّه ، أشهد أن محمدا رسول اللّه ، حىّ على الصلاة ، حىّ على الصلاة ، حىّ على الفلاح ، حىّ على الفلاح ، اللّه أكبر اللّه أكبر ، لا إله إلا اللّه.
فلما أخبر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : إنها لرؤيا حق إن شاء اللّه ، فقم مع بلال فألقها عليه ، فليؤذن بها ، فإنه أندى صوتا منك.
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب ، وهو فى بيته ، فخرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يجر رداءه ، وهو يقول : يا نبى اللّه ، والذى بعثك
(1/105)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 106
بالحق ، لقد رأيت مثل الذى رأى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فلله الحمد على ذلك.
57 - الرسول ويهود المدينة
و نصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العداوة ، بغيا وحسدا وضغنا ، لما خص اللّه تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم ، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ، ممن كان بقى على جاهليته ، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث ، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه ، فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ، ونافقو فى السر ، وكان هواهم مع يهود ، لتكذيبهم النبى صلى اللّه عليه وسلم ، وجحودهم الإسلام ، وكانت أحبار يهودهم هم الذين يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويتعنتونه ، ويأتونه باللبس ، ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه ، إلا قليلا من المسائل فى الحلال والحرام ، كان المسلمون يسألون عنها.
وكان من حديث عبد اللّه بن سلام حين أسلم ، وكان حبرا عالما ، قال : لما سمعت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوقع له ، فكنت مسرّا لذلك ، صامتا عليه ، حتى قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة.
فلما نزل بقباء ، فى بنى عمرو بن عوف ، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه ، أنو فى رأس نخلة لى أعمل فيها ، وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة ، فلما
(1/106)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 107
سمعت الخبر بقدوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كبرت ، فقالت لى عمتى ، حين سمعت تكبيرى : خيبك اللّه! واللّه لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت! فقلت لها : أى عمة ، هو واللّه أخ موسى بن عمران ، وعلى دينه ، بعث بما بعث به. فقالت : أى ابن أخى ، أهو النبى الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها : نعم. فقالت : فذاك إذن. قال : ثم خرجت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتى ، فأمرتهم فأسلموا.
و كان من حديث مخيريق ، وكان حبرا عالما ، وكان رجلا غنيّا كثير الأموال من النخل ، وكان يعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصفته ، وما يجد فى علمه ، وغلب عليه إلف دينه ، فلم يزل على ذلك ، حتى إذا كان يوم أحد ، وكان يوم أحد يوم السبت ، قال : يا معشر يهود ، واللّه إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا : إن اليوم يوم السبت. قال :
لا سبت لكم. ثم أخذ سلاحه ،
فخرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم ، فأموالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم يصنع فيها ما أراه اللّه. فلما اقتتل الناس ، قاتل حتى قتل ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : مخيربق خير يهود.
وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمواله
، فعامة صدقات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة منها.
وكان حيى بن أخطب ، وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، من أشد يهود
(1/107)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 108
للعرب حسدا ، إذ خصهم اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وكانا جاهدين فى رد الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وكان ممن انضاف إلى يهود : جلاس بن سويد بن الصامت ، وأخوه الحارث بن سويد.
و جلاس الذى قال - وكان ممن تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك - : ائن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر. فرفع ذلك من قوله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمير بن سعد ، وكان فى حجر جلاس ، خلف جلاس على أمه بعد أبيه ، فقال له عمير بن سعد : واللّه يا جلاس ، إنك لأحب الناس إلىّ ، وأحسنهم عندى يدا ، وأعزهم على أن يصيبه شىء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك ، ولئن صمت عليها ليهلكن دينى ، ولإحداهما أيسر على من الأخرى. ثم مشى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذكر له ما قاله جلاس ، فحلف جلاس باللّه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
لقد كذب على عمير ، وما قلت ما قال عمير بن سعد. فأنزل اللّه عز وجل فيه :
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ.
فزعموا أنه تاب فحسنت توبته ، حتى عرف منه الخير والإسلام. وأخوه الحارث بن سويد ، الذى قتل المجذر بن ذياد البلوى ، وقيس بن زيد ، أحد
(1/108)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 109
بنى صيعة ، يوم أحد ، خرج مع المسلمين ، وكان منافقا ، فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش.
ونبتل بن الحارث ، وهو الذى قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى الشيطان ، فلينظر إلى نبتل بن الحارث.
وكان رجلا جسيما أسود ثائر شعر الرأس ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، وكان يأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يتحدث إليه ، فيسمع منه ، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذى قال : إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه. فأنزل اللّه عز وجل فيه.
وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
و مربع بن قيظى ، وهو الذى قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين أجاز فى بستانه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامد إلى أحد : لا أحل لك يا محمد ، إن كنت نبيّا ، أن تمر فى بستانى ، وأخذ فى يده حفنة من تراب ، ثم قال :
واللّه لو أعلم أنى لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به. فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعوه. فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصيرة.
فضربه سعد بن زيد ، أخو بنى عبد الأشهل ، بالقوس فشجه.
وعبد اللّه بن أبىّ بن سلول ، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون ،
(1/109)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 110
و هو الذى قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فى غزوة بنى المصطلق ، وفى قوله ذلك ، نزلت سورة «المنافقون» بأسرها.
وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره ، وهو منافق ، من أحبار يهود : زيد بن اللصيت ، الذى قاتل عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه بسوق بنى قينقاع ، وهو الذى قال ، حين ضلت ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته!
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجاءه الخبر بما قال عدو اللّه فى رحله ، ودل اللّه تبارك وتعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم على ناقته : إن قائلا قال : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدرى أين ناقته؟ وإنى واللّه ما أعلم إلا ما علمنى اللّه وقد دلنى اللّه عليها ، فهى فى هذا الشعب ، قد حبستها شجرة بزمامها. فذهب رجال من المسلمين ، فوجدوها حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكما وصف.
ورافع بن حريملة ، وهو الذى قال له الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين مات : قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين.
و كان هؤلاء المنافقون يحضرون إلى المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزئون بدينهم ، فاجتمع يوما فى المسجد منهم ناس ، فرآهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم ، قد لصق بعضهم ببعض ، فأمر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.
(1/110)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 111
ففى هؤلاء من أحبار يهود ، والمنافقين من الأوس والخزرج ، نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها.
وكان يهود يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه اللّه من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن معرور ، أخو بنى سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا اللّه وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام ابن مشكم ، أحد بنى النضير : ما جاءنا بشىء نعرفه ، وما هو بالذى كنا نذكره لكم ، فأنزل اللّه فى ذلك من قولهم : وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
وقال رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد ، لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا ، نتبعك ونصدقك.
فأنزل اللّه تعالى فى ذلك من قولهما : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
و لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال رافع ابن حريملة : ما أنتم على شىء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ، فقال رجل من
(1/111)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 112
أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شىء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل اللّه تعالى فى ذلك من قولهم : وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
وقال رافع بن حريملة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولا من اللّه كما تقول ، فقل للّه فليكلمنا حتى نسمع كلامه. فأنزل اللّه تعالى فى ذلك من قوله : وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصرفت فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رفاعة بن قيس وآخرون ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التى كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها ، نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(1/112)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 113
58 - حديث المباهلة
و قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نصارى نجران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، فى الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم : العاقب ، أمير القوم وذو رأيهم ، وصاحب مشورتهم ، والذى لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، ثمالهم «1» ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة ، أحد بنى بكر ابن وائل ، أسقفهم وحبرهم وإمامهم ، وصاحب مدارسهم.
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ، ودرس كتبهم ، حتى حسن عمله فى دينهم ، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه.
وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم.
فلما رجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإلى جنبه أخ له ، يقال له : كرز بن علقمه ، فعثرت بغلة أبى حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد ، يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست. فقال :
و لم يا أخى؟ قال : واللّه إنه للنبى الذى كنا ننتظر. فقال له كرز : ما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلاخلافه ، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة ، حتى أسلم بعد ذلك.
ولما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده
__________
(1) ثمال القوم ، ككتاب : غياثهم الذى يقوم بأمرهم.
(م 8 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/113)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 114
حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات ، جبب وأردية ، فى جمال رجال بنى الحارث بن كعب ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا فى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلون ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق.
فكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، منهم : أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والأيهم السيد ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف من أمرهم ، يقولون : هو اللّه ، ويقولون : هو ولد اللّه ، ويقولون :
هو ثالث ثلاثة. وكذلك قول النصرانية.
فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أسلما. قالا :
قد أسلمنا. قال : إنكما لم تسلما فأسلما. قالا : بلى ، قد أسلمنا قبلك. قال :
كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للّه ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير. قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يجبهما.
فأنزل اللّه تعالى فى ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله ، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ولما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما أمر من ملاعنتهم ، دعاهم إلى ذلك.
فقالوا له : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر فى أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوننا إليه. فانصرفوا عنه ، ثم حلوا بالعاقب - وكان ذا رأيهم - فقالوا :
يا عبد المسيح ، ماذا ترى؟ فقال : يا معشر النصارى ، لقد عرفتم أن محمدا لنبى
(1/114)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 115
مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيّا قط فبقى كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم ، فوادعوا الرجل ، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين.
فكان عمر بن الخطاب يقول : ما أحببت الإمارة قط حبى إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجرا ، فلما صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن يمينه ، وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليرانى ، فلم يزل يلتمس ببصره ، حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه ، فقال : اخرج معهم ، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة.
59 - من أخبار منافقى المدينة
و قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، وسيد أهلها عبد اللّه بن أبى بن سلول العوفى ، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره ، حتى جاء الإسلام ، ومعه فى الأوس رجل ، هو فى قومه من الأوس شريف مطاع ، أبو عامر عبد عمرو بن صيفى بن النعمان ، أحد بنى ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة ، الغسيل يوم أحد ، وكان قد ترهب فى الجاهلية ، ولبس المسوح ، وكان يقال له :
الراهب ، فثقيا بشرفهما وضرهما.
(1/115)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 116
فأما عبد اللّه بن أبى ، فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ، ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وهم على ذلك ، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد استلبه ملكا ، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام ، دخل فيه كارها مصرّا على نفاق وضغن.
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه ، حين اجتمعوا على الإسلام فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا ، مفارقا للإسلام ولرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تقولوا : الراهب.
ولكن قولوا الفاسق.
و كان أبو عامر أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة ، قبل أن يخرج إلى مكة ، فقال : ما هذا الدين الذى جئت به؟ فقال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم. قال : فأنا عليها. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
إنك لست عليها. قال : بلى. قال : إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها قال : ما فعلت ، ولكن جئت بها بيضاء نقية. قال : الكاذب أماته اللّه طريدا غريبا وحيدا - يعرض برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أجل ، فمن كذب فعل اللّه تعالى ذلك به. فكان هو ذلك عدو اللّه ، خرج إلى مكة ، فلما افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.
(1/116)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 117
60 - غزواته صلى اللّه عليه وسلم
و قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة يوم الاثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل ، لثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة. وذلك بعد أن بعثه اللّه عز وجل بثلاث عشرة سنة ، فأقام بها بقية شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجبا ، وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم ، ثم خرج غازيا فى صفر ، على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.
حتى بلغ ودان ، وهى غزوة الأبواء ، يريد قريشا. وبنى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذى وادعه منهم عليهم مخشى بن عمرو الضمرى ، وكان سيدهم فى زمانه ذلك. ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقية صفر ، وصدرا من شهر ربيع الأول. وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فى مقامه ذلك بالمدينة ، عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى ، فى ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز ، بأسفل ثنية المرة ، فلقى بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلا أن سعد بن أبى وقاص قد رمى يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمى به فى الإسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم ، وللمسلمين حامية ، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانى ، حليف بنى زهرة ، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنى ، حليف بنى نوفل بن عبد مناف ، وكانا مسلمين ، ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار ، وكان على القوم عكرمة بن أبى جهل.
(1/117)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 118
و بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى مقامه ذلك ، حمزة بن عبد المطلب ابن هاشم إلى سيف البحر ، من ناحية العيص ، فى ثلاثين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل فى ثلثمائة راكب من أهل مكة ، فحجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى - وكان موادعا للفريقين جميعا - فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال.
ثم ، غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى شهر ربيع الأول يريد قريشا ، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون ، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر ، وبعض جمادى الأولى.
ثم غزا قريشا ، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد ، فسلك على نقب بنى دينار ، ثم على فيفاء الخبار ، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها :
ذات الساق ، فصلى عندها. فثم مسجده صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فترك الخلائق «1» بيسار ، وسلك شعبة يقال لها : شعبة عبد اللّه ، وذلك اسمها اليوم ، ثم صب لليسار حتى هبط بليل ، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ، واستقى من بئر بالضبوعة ، ثم سلك الفرش - فرش ملل - حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها جمادى الأولى وليالى من جمادى الآخرة ، ووادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.
وقد كان بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيما بين ذلك من غزوة ، سعد
__________
(1) الخلائق : أرض كانت لعبد اللّه بن جحش بناحية المدينة.
(1/118)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 119
ابن أبى وقاص ، فى ثمانية رهط من المهاجرين ، فخرج حتى بلغ الخرار ، من أرض الحجاز ، ثم رجع ولم يلق كيدا.
ولم يقم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالى قلائل ، لا تبلغ العشرة ، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى طلبه واستعمل على المدينة زيد بن حارثة.
حتى بلغ واديا ، يقال له : صفوان ، من ناحية بدر ، وفاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، وهى غزوة بدر الأولى ، ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ، ورجبا وشعبان.
و بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدى فى رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، وليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضى لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
فلما سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه ، فإذا فيه :
إذا نظرت فى كتابى هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد اللّه بن جحش فى الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ، ثم قال لأصحابه : قد أمرنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/119)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 120
أن أمضى إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهانى أن أستكره أحدا منكم. فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فمضى ومعه أصحابه ، لم يتخلف منهم أحد.
وسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له : بحران ، أضل سعد بن أبى وقاص ، وعتبة بن غزوان ، بعيرا لهما ، كانا يعتقانه ، فتخلفا عليه فى طلبه ، ومضى عبد اللّه بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من قريش ، فيها عمرو بن الحضرمى ، وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد اللّه ، المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم ، وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا : عمار ، لا بأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم ، وذلك فى آخر يوم من رجب ، فقال القوم :
واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم فى الشهر الحرام ، فتردد القوم وهابوا الإقدام ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، فرمى واقد بن عبد اللّه التميمى عمرو بن الحضرمى بسهم فقتله ، واستأسر عثمان ابن عبد اللّه ، والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفل بن عبد اللّه ، فأعجزهم ، وأقبل عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة.
(1/120)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 121
فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، قال : ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام ، فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فلما قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سقط فى أيدى القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش :
قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال.
فلما أكثر الناس فى ذلك أنزل اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم :
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
فلما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف ، قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش فى فداء عثمان بن عبد اللّه ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعنى : سعد بن أبى وقاص ، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم ، فحسن إسلامه ، وأقام عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأما عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكة ، فمات بها كافرا.
61 - غزوة بدر
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من
(1/121)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 122
الشام ، فى عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش ، وتجارة من تجارتهم ، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون ، منهم : مخرمة بن نوفل بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة ، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
ولما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام ، ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعل اللّه ينفلكموها.
فانتدب الناس ، فخف بعضهم ، وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلقى حربا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمد قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتى قريشا ، فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب ، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال ، رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب ، فقالت له : يا أخى ، واللّه لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتنى ، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم عنى ما أحدثك به. فقال لها : وما رأيت؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير له ، حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا بالغدر «1» لمصارعكم ، فى ثلاث ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما
__________
(1) غدر : جمع غدور.
(1/122)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 123
هم حوله ، مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها : ألا انفروا بالغدر لمصارعكم ، فى ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى ، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت ، فما بقى بيت من بيوت مكة ، ولا دار ، إلا دخلها منها فلقة. قال العباس :
واللّه إن هذه لرؤيا ، وأنت فاكتمها ، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس ، فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان له صديقا ، فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث بمكة ، حتى تحدثت به فى أنديتها.
قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، وأبو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود ، يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآنى أبو جهل ، قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، فلما فرغت أقبلت ، حتى جلست معهم ، فقال لى أبو جهل : يا بنى عبد المطلب ، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قلت وما ذاك؟ قال : تلك الرؤيا التى رأت عاتكة. فقلت : وما رأت؟ قال : يا بنى عبد المطلب ، أما رضيتهم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال : انفروا ، فى ثلاث ، فسنتريص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقّا ما تقول فسيكون ، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء ، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب. قال العباس : فواللّه ما كان منى إليه كبير ، إلا أنى حجدت ذلك ، وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال : ثم تفرقنا.
فلما أمسيت ، لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى ، فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن
(1/123)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 124
عندك غير لشىء مما سمعت! قلت : واللّه قد فعلت ، ما كان منى إليه من كبير ، وايم اللّه لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفينكنه.
فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب ، أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه ، فدخلت المسجد فرأيته ، فواللّه إنى لأمشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال ، فأقع به - وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر - إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. فقلت فى نفسى :
ما له لعنه اللّه ، أكل هذا فرق منى أن أشاتمه ، وإذا هو قد سمع ما لم أسمع : صوت ضمضم بن عمرو الغفارى ، وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره ، قد جدع بعيره ، وحول رجله ، وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش ، الاطيبة «1» ، اللطيمة ، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث. فشغلنى عنه ، وشغله عنى ، ما جاء من الأمر.
فتجهز الناس سراعا ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى ، كلا واللّه ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين : إما خارج ، وإما باعث مكائه رجلا. وأوعبت قريش ، فلم يتخلف من أشرافها أحد.
إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف ، وبعث مكانه العاصى بن هشام ابن المغيرة ، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره بها ، على أن يجزىء عنه ، بعثه فخرج عنه ، وتخلف أبو لهب.
ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا السير ، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكاد ذلك يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك
__________
(1) اللطيمة : الإبل تحمل البر والطيب. [.....]
(1/124)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 125
ابن جعشم المدلجى ، وكان من أشراف بنى كنانة ، فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء تكرهونه ، فخرجوا سراعا.
و خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه ، واستعمل عمرو بن أم مكتوم - أخا بنى عامر بن لؤى - على الصلاة بالناس ، ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة.
ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، وكان أبيض.
وكان أمام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايتان سوداوان : إحداهما مع على بن أبى طالب ، يقال لها : العقاب ، والأخرى مع بعض الأنصار.
وكانت إبل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا ، فاعتقبوها ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى بن أبى طالب ، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوى ، يعتقبون بعيرا ، وكان حمزة بن عبد المطلب ، وزيد ابن حارثه ، وأبو كبشة ، وأنسة ، موليا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يعتقبون بعيرا ، وكان أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، يعتقبون بعيرا.
وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة ، أخا بنى مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. فسلك طريقه من المدينة إلى مكة ، على نقب المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذى الحليفة ، ثم على أولات الجيش.
ولقوا رجلا من الأعراب ، فسألوه عن الناس ، فلم يجدوا عنده خبرا ، فقال له الناس : سلم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال : أوفيكم رسول اللّه؟ قالوا : نعم ، فسلم عليه ، ثم قال : إن كنت رسول اللّه فأخبرنى عما فى بطن ناقتى هذه. قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول اللّه صلى
(1/125)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 126
اللّه عليه وسلم ، وأقبل على ، فأنا أخبرك عن ذلك : نزوت عليها ، ففى بطنها منك سخلة. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أفحشت على الرجل! ثم أعرض عن سلمة.
و نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سجسج ، وهى بئر الروحاء ، ثم ارتحل منها ، حتى إذا كان بالمنصرف ، ترك طريق مكة بيسار ، وسلك ذات اليمين على النازية ، يريد بدرا ، فسلك فى ناحية منها ، حتى جزع واديا ، يقال له : رحقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، بعث بسبس بن الجهنى ، حليف بنى ساعدة ، وعدى بن أبى الزغباء الجهنى ، حليف بنى النجار ، إلى بدر يتحسان له الأخبار ، عن أبى سفيان بن حرب وغيره ، ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد قدمهما. فلما استقبل الصفراء ، وهى قرية بين جبلين ، سأل عن جبليها ما اسماهما؟ فقالوا : يقال : لأحدهما ، هذا مسلح ، وللآخر : هذا مخرىء ، وسأل عن أهلهما ، فقيل : بنو النار ، وبنو حراق ، بطنان من بنى غفار ، فكرههما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمرور بينهما ، وتفائل باسميهما وأسماء أهلهما ، وتركهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصفراء بيسار ، وسلك ذات اليمين على واد يقال له : ذفران ، فجزع فيه ، ثم نزل.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر الصديق ، فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو ، فقال : يا رسول اللّه ، امض لما أراك اللّه ، فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيرا ، ودعا له به.
(1/126)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 127
ثم
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أشيروا علىّ أيها الناس. وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة ، قالوا : يا رسول اللّه. إنا برآء من ذمامك ، حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمتنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ : واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه؟ قال : أجل. قال : لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت ، فنحن معك ، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته ، لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن نلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر فى الحرب ، صدق فى اللقاء. ففرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال :
سيروا وأبشروا ، فإن اللّه تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين ، واللّه لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم.
ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل قريبا من بدر ، فركب هو وأبو بكر حتى وقف على شيخ من العرب ، فسأله عن قريش ، وعن محمد وأصحابه ، وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ : لا أخبر كما حتى تخبرانى ممن أنتما؟
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك. قال : أذاك بذاك؟
قال : نعم قال الشيخ : فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذى به رسول
(1/127)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 128
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا كذا ، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذى فيه قريش.
فلما فرغ من خبره ، قال : ممن أنتما؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
نحن من ماء ، ثم انصرف عنه. قال : يقول الشيخ : ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أصحابه ، فلما أمسى بعث على ابن أبى طالب ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبى وقاص ، فى نفر من أصحابه ، إلى ماء بدر ، يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم ، غلام بنى الحجاج ، وعريض أبو يسار ، غلام بنى العاص بن سعيد ، فأتوا بهما ، فسألوهما ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلى ، فقالا : نحن سقاة قريش ، بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان ، فضربوهما ، فلما بالغوا فى ضربهما قالا : نحن لأبى سفيان ، فتركوهما ، وركع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسجد سجدتين ثم سلم ، وقال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا ، واللّه إنهما لقريش ، أخبرانى عن قريش؟
قالا : هم واللّه وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى - والكثيب :
العقنقل - فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كم القوم؟
قالا : كثير. قال : ما عدتهم؟ قالا : لا ندرى. قال : كم ينحرون كل يوم؟
قالا : يوما تسعا ، ويوما عشرا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : القوم فيما بين التسعمائة والألف. ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا :
عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدى بن نوفل ،
(1/128)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 129
و النضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ، ومنبه ، ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبدود. فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها.
و كان بسبس بن عمرو ، وعدى بن أبى الزغباء ، قد مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنّا لهما يستقيان فيه ، ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء ، فسمع عدى وبسبس جاريتين من جوارى الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها : إنما تأتى العبر غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذى لك. قال مجدى : صدقت ، ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدى وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبراه بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد الماء ، فقال لمجدى بن عمرو : هل أحسست أحدا؟ فقال : ما رأيت أحدا أنكره ، إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا فى شن لهما ، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففته ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذه واللّه علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بهما ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن مخزمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا ، فقال : إنى رأيت فيما يرى النائم ، وإنى لبين النائم واليقظان ، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس ، حتى وقف ، ومعه بعير له ، ثم قال : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية (م 9 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/129)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 130
ابن خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر ، من أشراف قريش ، ثم رأيته ضرب فى لبة بعيره ، ثم أرسله فى العسكر ، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
فبلغت أبا جهل ، فقال : وهذا أيضا نبى آخر من بنى المطلب ، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
و لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها اللّه ، فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام : واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى ، وكان حليفا لبنى زهرة ، وهم بالجحفة : يا بنى زهرة ، قد نجى اللّه لكم أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لى جبنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا فى غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعنى أبا جهل ، فرجعوا ، فلم يشهدها زهرى واحد أطاعوه ، وكان فيهم مطاعا.
ولم يكن بقى من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بنى عدى ، من كعب ، لم يخرج منهم رجل واحد ، فرجعت بنى زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ومضى القوم. وكان بين طالب بن أبى طالب - وكان فى القوم - وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : واللّه لقد عرفنا يا بنى
(1/130)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 131
هاشم ، وإن خرجتم معنا ، أن هواكم لمع محمد ، فرجع طالب إلى مكانه مع من رجع.
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادى ، وبعث اللّه السماء ، وكان الوادى دهسا ، فأصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريش منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
ثم إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول اللّه ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه اللّه ، ليس لنا أن تتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الرأى والحرب والمكيدة. فقال : يا رسول اللّه ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم ، فنزله ، ثم نغور ماوراءه من القلب ، ثم نبنى عليه حوضا ، فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لقد أشرت بالرأى. فنهض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه ، فملىء ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية.
ثم إن سعد بن معاذ قال : يا نبى اللّه ، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا اللّه وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام - يا نبى اللّه - ما نحن بأشد لك حبّا منهم ، ولو خلنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك اللّه بهم ، يناصحونك ويجاهدون
(1/131)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 132
معك؟ فأثنى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير. ثم بنى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عريش ، فكان فيه.
وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما رآها صلى اللّه عليه وسلم تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذى جاءوا منه إلى الوادى - قال :
اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذى وعدتنى ، اللهم أحنهم الغداة.
وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة فى القوم على جمل له أحمر - إن يكن فى أحد من القوم خير ، فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا.
و قد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفارى ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفارى ، بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائر أهداها لهم ، وقال :
إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. فأرسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذى عليك ، فلعمرى لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل اللّه كما يزعم محمد ، فما لأحد باللّه من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيهم حكيم بن حزام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : دعوهم ، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل
، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد فى بمينه قال : لا والذى نجانى من يوم بدر.
ولما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحى ، فقالوا : احزر لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر ، ثم رجع إليهم ، فقال : ثلثمائة رجل يزيدون
(1/132)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 133
قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلونى حتى أنظر : أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب فى الوادى حتى أبعده ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئا ، ولكنى قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، واللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم ، فما خير العيش بعد ذلك؟
فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال :
يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال : وما ذاك يا حكيم؟ قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى. قال : قد فعلت ، أنت على بذلك ، إنما هو حليفى ، فعلى عقله وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا ، فقال : يا معشر قريش إنكم واللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، واللّه لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر فى وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذى أردتم ، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها - فهو يهيئها - فقلت له : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلنى إليك بكذا وكذا ، للذى قال ، فقال : انتفخ واللّه سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، كلا واللّه لا ترجع حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى
(1/133)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 134
أن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه ، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى ، فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمى ، فاكتشف ثم صرخ : واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب ، وحقب أمر الناس ، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبى جهل «انتفخ واللّه سحره» ، قال : سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو؟
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها فى رأسه ، فما وجد فى الجيش بيضة تسعه ، من عظم هامته ، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
و قد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى ، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق ، فقال : أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه. فلما خرج ، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض ، حتى اقتحم فيه ، يريد أن يبر بمينه ، وأتبعه حمزة فضربه ، حتى قتله فى الحوض.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة ، بين أخيه شيبة بن ربيعة ، وابنه الوليد ابن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف ، دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، وهم : عوف ، ومعوذ - ابنا الحارث ، وأمهما عفراء - ورجل آخر ، يقال : هو عبد اللّه بن رواحة ، فقالوا : من أنتم؟ فقالوا : رهط من الأنصار. قالوا : ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا
(1/134)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 135
أكفاءنا من قومنا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا على ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم؟ قال عبيدة :
عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال على : على. قالوا : نعم ، أكفاء كرام.
فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم ، عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ، وبارز علىّ الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ، وكر حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذفقا عليه ، واحتملا صاحبهما ، فحازاه إلى أصحابه.
ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل
، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العريش ، معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفى يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية ، حليف بنى عدى بن النجار ، وهو مستنتل «1» من الصف ، فطعن فى بطنه بالقدح ، وقال : استويا سواد فقال :
يا رسول اللّه. أوجعتنى : وقد بعثك اللّه بالحق والعدل. قال : فأقدنى ، فكشف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بطنه ، وقال : استقد. قال : فاعتنقه ، فقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد؟ قال : يا رسول اللّه ، حضر ما ترى
__________
(1) مستنتل. متقدم
(1/135)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 136
فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك. فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخير ، وقال له خيرا.
وبعد أن عدل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصفوف رجع إلى العريش فدخله ، ومعه فيه أبو بكر الصديق ليس معه فيه غيره ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد. وأبو بكر يقول : يا نبى اللّه ، بعض مناشدتك ربك ، فإن اللّه منجز لك ما وعدك. وقد خفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خفقة وهو فى العريش ، ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر اللّه ، هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع.
وقد رمى مهجع ، مولى عمر بن الخطاب ، بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمى حارثة بن سراقة ، أحد بنى عدى بن النجار ، وهو يشرب من الحوض ، بسهم ، فأصاب نحره ، فقتل.
ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الناس فحرضهم ، وقال :
و الذى نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله اللّه الجنة. فقال عمير بن الحمام ، أخو بنى سلمة ، وفى يده ثمرات يأكلهن : بخ بخ ، أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلى هؤلاء؟
ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل.
ثم إن عوف بن الحارث ، وهو بن عفراء ، قال : يا رسول اللّه ، ما
(1/136)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 137
يضحك الرب من عبده؟ قال : غمسه يده فى العدوّ حاسرا. فنزع درعا كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل.
ولما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل بن هشام :
اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة. فكأن هو المستفتح.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ حقنة من الحصباء ، فاستقبل قريشا بها ، ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نقحهم بها ، وأمر أصحابه ، فقال :
شدوا ، فكانت الهزيمة ، فقتل اللّه تعالى من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش ، الذى فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، متوشح السيف ، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : واللّه لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال :
أجل واللّه يا رسول اللّه ، كانت أول وقعة أوقعها اللّه بأهل الشرك. فكان الإثخان بأهل الشرك أحب إلى من استبقاء الرجال.
ثم إن النبى صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ : إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله ، ومن لقى أبا البخترى بن هشام بن الحارث ابن أسد فلا يقتله ، ومن لقى العباس بن عبد المطلب ، عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلا يقتله ، فإنه إنما خرج مستكرها. فقال أبو حذيفة : أنقتل آباءنا
(1/137)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 138
و أبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ، ونترك العباس؟ واللّه لئن لقيته لألحمنه السيف.
فبلغت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص - قال عمر : واللّه إنه لأول يوم كنانى فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأبى حفص - أيضرب وجه عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف؟ فقال عمر :
يا رسول اللّه ، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف ، فو اللّه لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن تكفرها عنى الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا.
وإنما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتل أبى البخترى ، لأنه كان أكف القوم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغه عنه شىء يكرهه ، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة ، التى كتبت قريش على بنى هاشم وبنى المطلب ، فلقيه المجذر بن ذياد البلوى ، حليف الأنصار ، ثم من بنى سالم بن عوف ، فقال المجذر لأبى البخترى : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبى البخترى زميل له ، قد خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد ، وجنادة رجل من بنى ليث. واسم أبى البخترى : العاص - قال : وزميلى؟ فقال له المجذر :
لا واللّه ، ما نحن بتاركى زميلك ، ما أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا بك وحدك. فقال : لا واللّه ، إذن لأموتن أنا وهو جميعا ، لا تتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة.
ثم إن المجذر أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : والذى بعثك بالحق ، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به ، فأبى إلا أن يقاتلنى ، فقاتلته فقتلته.
(1/138)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 139
و يقول عبد الرحمن بن عوف : كان أمية بن خلف لى صديقا بمكة ، وكان اسمى عبد عمرو ، فتسميت ، حين أسلمت : عبد الرحمن ونحن بمكة ، فكان يلقانى إذ نحن بمكة ، فيقول : يا عبد عمرو ، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟
فأقول : نعم. فيقول : فإنى لا أعرف الرحمن ، فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به ، أما أنت فلا تجيبنى باسمك الأول ، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.
قال : فكان إذا دعانى : يا عبد عمرو ، لم أجب. قال : فقلت له : يا أبا على ، اجعل ما شئت ، قال : فأنت عبد الإله. قال : فقلت : نعم. قال : فكنت إذا مررت به قال : يا عبد الإله ، فأجيبه فأتحدث معه ، حتى إذا كان يوم بدر ، مررت به وهو واقف مع ابنه ، على بن أمية ، آخذ بيده ، ومعى أدراع ، قد استلبتها ، فأنا أحملها ، فلما رآنى قال لى : يا عبد عمرو ، فلم أجبه ، فقال : يا عبد الإله؟
فقلت : نعم. قال : هل لك فى ، فأنا خير لك من هذه الأدراع التى معك؟
قلت : نعم ، ها اللّه ذا. فطرحت الأدراع من يدى ، وأخذت بيده ويد ابنه ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط ، أمالكم حاجة فى اللبن؟ ثم خرجت أمشى بهما.
قال لى أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين أبنه ، آخذ بأيديهما : يا عبد الإله ، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة فى صدره؟ قلت : ذاك حمزة بن عبد المطلب.
قال : ذاك الذى فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن : فو اللّه إنى لأقودهما إذا رآه بلال معى - وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام ، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد ، فيقول بلال :
أحد أحد - قال : فلما رآه ، قال : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن
(1/139)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 140
نجا. قلت : أى بلال ، أبأسيرى! قال : لا نجوت إن نجا. قلت : أتسمع يابن السوداء. قال : لا نجوت إن نجا. قال : ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار اللّه ، رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا. فأحاطوا بنا حتى جعلونا فى مثل الحلقة وأنا أذب عنه. قال : فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع ، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فقلت : انج بنفسك ، ولا نجاء بك ، فواللّه ما أغنى عنك شيئا. فهبروهما بأسيافهم ، حتى فرغوا منهما ، فكان عبد الرحمن يقول : يرحم اللّه بلالا ، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى.
ويقول رجل من بنى غفار : أقبلت أنا وابن عم لى ، حتى أصعدنا فى جبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة ، فننتهب مع من ينتهب. قال : فبينما نحن فى الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول : اقدم حيزوم ، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه. فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
ولم تقاتل الملائكة فى يوم سوى بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا. لا يضربون.
وكان شعار أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر : أحد أحد.
فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عدوه ، أمر بأبى جهل أن يلتمس فى القتلى.
(1/140)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 141
قال معاذ بن عمرو بن الجموح : سمعت القوم ، وأبو جهل فى مثل الحرجة ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه. قال : فلما سمعتها جعلته من شأنى ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنى حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه ، فواللّه ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال : وضربنى ابنه عكرمة على عاتقى ، فطرح يدى ، فتعلقت بجلدة من جنسى ، وأجهضنى القتال عنه ، قلقد قاتلت عامة بومى ، وإنى لأسحبها خلفى ، فلما آذننى وضعت عليها قدمى ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
ثم مر بأبى جهل ، وهو عقير ، معوذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته ، فتركه وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل ،
فمر عبد اللّه بن مسعود بأبى جهل ، حين أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يلتمس فى القتلى ، وقد قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : انظروا ، إن خفى عليكم فى القتلى إلى أثر جرح فى ركبته ، فإنى ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد اللّه بن جدعان ، ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته ، فوقع على ركبته ، فجحش فى إحداهما جحشا لم يزل أثره به. قال عبد اللّه بن مسعود : فوجدته بآخر رمق ، فعرفته ، فوضعت ، رجلى على عنقه - قال : وقد كان ضيث بن مرة بمكة. فآذانى ولكزنى ، ثم قلت له : هل أخزاك اللّه يا عدو اللّه؟ قال : وبماذا أخزانى؟ أعمد من رجل «1» قتلتموه! أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ قلت : للّه ولرسوله.
ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فقلت يا رسول اللّه ، هذا رأبى عدو اللّه أبى جهل. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
__________
(1) أى هل فوق رجلى قتله قومه؟
(1/141)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 142
اللّه الذى لا إله غيره - وكانت يمين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قلت :
نعم - واللّه الذى لا إله غيره ، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحمد اللّه.
و قاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدى ، حليف بنى عبد شمس بن عبد مناف ، يوم بدر بسيفه ، حتى انقطع فى يده ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأعطاه جذلا من حطب ، فقال : قاتل ، بهذا يا عكاشة ، فلما أخذه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هزه ، فعاد سيفا فى يده طويل القامة ، شديدة المتن ، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح اللّه تعالى على المسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى : العون. ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى قتل فى الردة ، وهو عنده ، قتله طليحة بن خويلد الأسدى وعكاشة بن محصن الذى قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتى على صورة القمر ليلة البدر ، قال : يا رسول اللّه ، ادع اللّه أن يجعلنى منهم. قال : إنك منهم ، أو اللهم اجعلنى منهم. فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول اللّه ، ادع اللّه أن يجعلنى منهم ، فقال : سبقك بها عكاشة ، وبردت الدعوة «1».
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيما بلغنا عن أهله : منا خير فارس فى العرب ، قالوا : ومن هو يا رسول اللّه قال عكاشة بن محصن فقال ضرار بن الأزور الأسدى : ذاك رجل منا يا رسول اللّه : قال ليس منكم ولكنه منا للحلف.
__________
(1) بردت الدعوة : ثبتت.
(1/142)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 143
و لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب ، طرحوا فيه ، إلا ما كان من أمية بن خلف ، فإنه انتفخ فى درعه فملأها ، فذهبوا ليحركوه ، فتزايل لحمه ، فأقروه ، وألقو عليه ما غيبه من التراب والحجارة ،
فلما ألقاهم فى القليب وقف عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
يا أهل القليب ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّا ، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقّا. فقال له أصحابه : يا رسول اللّه ، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم : لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقّا.
ولما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يلقوا فى القليب ، أخذ عنبة ابن ربيعة ، فسحب إلى القليب ، فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى وجه أبى حذيفة بن عتبة ، فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال : يا أبا حذيفة ، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شى ء؟ - أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم - فقال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه ، ولكننى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجوا أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت مامات عليه من الكفر ، بعد الذى كنت أرجو له ، أحزننى ذلك ، فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخير ، وقال له خيرا.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر بما فى العسكر ، مما جمع الناس ، فجمع ، فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه : واللّه لو لا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم ، وقال الذين كانوا يحرسون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، مخافة أن يخالف إليه العدو : واللّه ما أنتم بأحق به منا ، واللّه لقد رأينا أن
(1/143)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 144
نقتل العدو إذ منحنا اللّه تعالى أكتافه ، ولقد رأينا ، أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، ولكننا خفنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كرة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منا.
ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند الفتح عبد اللّه بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح اللّه عز وجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى المسلمين ، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد : فأتانا الخبر - حين سوينا التراب على رقية ابنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والتى كانت عند عثمان بن عفان. كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلفنى عليها مع عثمان - أن زيد بن حارثة قدم. قال : فجئته ، وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس ، وهو يقول : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البخترى العاص بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ، ومنبه ، ابنا الحجاج. قال : قلت : يا أبت ، أحق هذا؟ قال : نعم ، واللّه يا بنى.
ثم أقبل رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قافلا إلى المدينة ، ومعه الأسارى من المشركين ، وفيهم عقبة بن أبى معيط ، والنضر بن الحارث.
واحتمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معه النفل الذى أصيب من المشركين ، وجعل على النفل عبد اللّه بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول.
ثم أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء ، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية ، فقسم هناك النفل الذى أفاء اللّه عن المسلمين من المشركين على السواء ،
ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
(1/144)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 145
حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح اللّه عليه ، ومن معه من المسلمين ، فقال لهم سلمة بن سلامة : ما الذى تهنئوننا به؟ فو اللّه إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة ، فنحرناها. فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال : أى ابن أخى ، أولئك الملأ.
ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم واحد.
و قدم بالأسارى حين قدم بهم ، وسودة بنت زمعة زوج النبى صلى اللّه عليه وسلم عند آل عفراء ، فى مناحتهم على عوف ومعوذ ابنى عفراء ، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب.
تقول سودة : واللّه إنى لعندهم إذ أتينا ، فقيل : هؤلاء الأسارى قد أتى بهم. قالت : فرجعت إلى بيتى ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه ، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو فى ناحية الحجرة ، مجموعة يداه إلى عنقه بجبل. قالت :
فلا واللّه ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ، أن قلت :
أعطيتم بأيديكم ، ألا متم كراما؟ فو اللّه ما أنبهنى إلا قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من البيت : يا سودة ، أعلى اللّه ورسوله تحرضين؟ قلت :
يا رسول اللّه ، والذى بعثك بالحق ، ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ، أن قلت ما قلت.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أقبل بالأسارى ، فرقهم بين أصحابه ، وقال : استوصوا بالأسارى خيرا.
(م 10 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/145)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 146
و كان أول من قدم مكة بمصاب قريش ، الحيسمان بن عبد اللّه الخزاعى ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم ابن هشام ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأبو البخترى بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية ، وهو قاعد فى الحجر : واللّه إن يعقل هذا ، فاسألوه عنى. فقالوا : ما فعل صفوان ابن أمية؟ قال : ها هو ذاك جالسا فى الحجر ، وقد واللّه رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
و يقول أبو رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أم الفضل ، وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ، ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه ، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر ، فبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة ، وكذلك كانوا صنعوا ، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش ، كبته اللّه وأخزاه ، ووجدنا فى أنفسنا قوة وعزّا.
ويقول أبو رافع : وكنت رجلا ضعيفا ، وكنت أعمل الأقداح ، أنحتها فى حجرة زمزم ، فو اللّه إنى لجالس أنحت أقداحى ، وعندى أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر ، حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمرى الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه ، فقال : يابن أخى ، أخبرنى كيف
(1/146)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 147
كان أمر الناس؟ قال : واللّه ما هو إلا أن لقينا القوم ، فمنحناهم أكتافنا ، يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ، وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا ، على خيل بلق ، بين السماء والأرض ، واللّه ما تليق شيئا ، ولا يقوم لها شىء. قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدى ، ثم قلت : تلك واللّه الملائكة ، فرفع أبو لهب يده ، فضرب بها وجهى ضربة شديدة. قال : وثاورته فاحتملنى ، فضرب بى الأرض ، ثم برك على يضربنى ، وكنت رجلا ضعيفا ، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربة شقت فى رأسه شجة منكرة ، وقالت : استضعفته أن غاب عنه سيده. فقام موليا ذليلا. فو اللّه ما عاش إلا سبع ليال ، حتى رماه اللّه بالعدسة ، فقتلته.
و ناحت قريش على قتلاهم ، ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه ، فيشمتوا بكم ، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا بهم «1» ، لا يأرب «2» عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة ، وكان يحب أن يبكى على بنيه ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له ، وقد ذهب بصره : انظر هل أحل النحب ، هل بكت قريش على قتلاها؟
لعلى أبكى على أبى حكيمة ، يعنى زمعة ، فإن جوفى قد احترق. فلما رجع إليه الغلام قال : إنما هى امرأة تبكى على بعير لها أضلته.
وكان فى الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال ، وكأنكم به قد جاءكم فى طلب فداء أبيه.
فلما قالت قريش : لا تعجلوا بفداء أسراكم ،
__________
(1) حتى تستأنوا بهم ، أى حتى تؤخروا فداءهم.
(2) لا يأرب : لا يشتد.
(1/147)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 148
لا يأرب عليكم محمد وأصحابه. قال المطلب بن أبى وداعة : صدقتم.
لا تعجلوا ، وانسل من الليل فقدم المدينة ، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم ، فانطلق به.
ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى ، فقيل لأبى سفيان : افد عمرا ابنك.
قال : أيجمع على دمى ومالى ، قتلوا حنظلة ، وأفدى عمرا ، دعوه فى أيديهم ، يمسكوه ما بدا لهم.
فبينما هو كذلك ، محبوس بالمدينة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال ، معتمرا ، ومعه مرية «1» له ، وكان شيخا مسلما ، فى غنم له بالنقيع ، فخرج من هناك معتمرا ، ولا يخشى الذى صنع به ، لم يظن أنه يحبس بمكة ، إنما جاء معتمرا ، وقد عهد قريشا لا يتعرضون لأحد جاء حاجّا ، أو معتمرا ، الا بخير ، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة ، فحبسه بابنه عمرو ، ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأخبروه خبره ، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان ، فيفكوا به صاحبهم ، ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فبعثوا به إلى أبى سفيان ، فخلى سبيل سعد.
وقد كان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس.
ختن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وزوج ابنته زينب.
__________
(1) مرية ، تصغير امرأة.
(1/148)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 149
و كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين : مالا ، وأمانة ، وتجارة ، وكان هالة بنت خويلد ، وكانت خديجة خالته ، فسألت خديجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يزوجه ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه لا يخالفها ، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحى ، فزوجه ، وكانت تعده بمنزلة ولدها ، فلما أكرم اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنبوته ، آمنت به خديجة وبناته ، فصدقته ، وشهدن أن ما جاء به الحق ، ودنّ بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبى لهب رقية ، أو أم كلثوم. فلما بادى قريشا بأمر اللّه تعالى وبالعداوة ، قالوا : إنكم قد فرغتم محمدا من همه ، فردوا عليه بناته ، فاشغلوه بهن ، فمشوا إلى أبى العاص ، فقالوا له : فارق صاحبتك ونحن نزوجك أى امرأة من قريش شئت. قال :
لا واللّه ، إنى لا أفارق صاحبتى ، وما أحب أن لى بامرأتى امرأة من قريش.
و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يثنى عليه فى صهره خيرا. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب ، فقالوا له : طلق بنت محمد ونحن ننكحك أى امرأة من قريش شئت. فقال : إن زوجتمونى بنت أبان بن سعيد بن العاص ، أو بنت سعيد بن العاص ، فارقتها ، فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها ، ولم يكن دخل بها ، فأخرجها اللّه من يده كرامة لها ، وهوانا له ، وخلف عليها عثمان بن عفان بعده.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم ، مغلوبا على أمره. وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
(1/149)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 150
حين أسلمت ، وبين أبى العاص بن الربيع ، إلا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما ، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه ، حتى هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما سارت قريش إلى بدر ، سار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب فى الأسارى يوم بدر ، فكان بالمدينة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ولما بعث أهل مكة فى فداء أسرائهم ، بعثت زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى فداء أبى العاص بن الربيع بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أخلتها بها على أبى العاص حين بنى عليها ، فلما رآها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رق لها رقة شديدة ، وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها مالها فافعلوا ، فقالوا : نعم يا رسول اللّه. فأطلقوه ، وردوا عليها الذى لها.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أخذ عليه ، أن يخلى سبيل زينب إليه ، فلما قدم أبو العاص مكة ، أمرها باللحوق بأبيها ، فخرجت تجهز.
فلما فرغت بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جهازها ، قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها ، بعيرا ، فركبته ، وأخذ قوسه وكنانته ، ثم خرج بها نهارا يقود بها ، وهى فى هودج لها. وتحدث بذلك رجال من قريش ، فخرجوا فى طلبها ، حتى أدركوها بذى طوى ، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، والفهرى ، فروعها هبار بالرمح ، وهى فى هودجها ، وكانت المرأة حاملا - فيما يزعمون - فلما ريعت طرحت ذا بطنها ، وبرك حموها كنانة ، ونثر كنانته ، ثم قال : واللّه لا يدنو منى رجل إلا وضعت فيه سهما ، فرجع الناس عنه. وأتى أبو سفيان فى جلة من قريش فقال : أيها الرجل ، كف عنا نبلك حتى نكلمك ، فكف ، فأقبل
(1/150)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 151
أبو سفيان حتى وقف عليه ، فقال : إنك لم تصب ، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا ، وما دخل علينا من محمد ، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا ، أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التى كانت ، وأن ذلك منا ضعف ووهن ، ولعمرى ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، وما لنا فى ذلك من ثأر ، ولكن ارجع بالمرأة ، حتى إذا هدأت الأصوات ، وتحدث الناس أن قد رددناها ، فسلها سرّا ، وألحقها بأبيها ، ففعل ، فأقامت ليالى ، حتى إذا هدأت الأصوات ، خرج بها ليلا ، حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه ، فقدما بها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وأقام أبو العاص بمكة ، وأقامت زينب عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، حين فرق بينهما الإسلام. حتى إذا كان قبيل الفتح ،
خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام ، وكان رجلا مأمونا ، بمال له وأموال لرجال من قريش ، أبضعوها معه ، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا ، لقيته سرية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأصابوا ما معه ، وأعجزهم هاربا ، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله ، أقبل أبو العاص تحت الليل ، حتى دخل على زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاستجار بها ، فأجارته ، وجاء فى طلب ماله ، فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الصبح ، فكبر وكبر الناس معه ، صرخت زينب من صفة النساء : أيها الناس ، إنى قد أجرت أبا العباس بن الربيع ، فلما سلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الصلاة ، أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا : نعم ، قال :
أما والذى نفس محمد بيده ، ما علمت بشىء من ذلك حتى سمت ما سمعتم ، إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدخل
(1/151)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 152
على ابنته ، فقال : أى بنية ، أكرمى مثواه ، ولا يخلصن إليك ، فإنك لا تحلين له.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبى العاص ، فقال لهم : إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم ، وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له ، فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فىء اللّه الذى أفاء عليكم ، فأنتم أحق به. فقالوا : يا رسول اللّه ، بل نرده عليه ، فردوه عليه ، حتى إن الرجل ليأتى بالدلو ، ويأتى الرجل بالشنة ، وبالإداوة ، حتى إن أحدهم ليأتى بالشظاط ، حتى ردوا عليه ماله بأسره ، لا يفقد منه شيئا.
ثم احتمل إلى مكة ، فأدى إلى كل ذى مال من قريش ماله ، ومن كان أيضع معه ، ثم قال : يا معشر قريش ، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه ، قالوا : لا ، فجزاك اللّه خيرا ، فقد وجدناك وفيّا كريما. قال : فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا عبده ورسوله ، واللّه ما منعنى من الإسلام عنده.
إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها اللّه إليكم ، وفرغت منها ، أسلمت
، ثم خرج حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وجلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية ، بعد مصاب أهل بدر من قريش ، فى الحجر بيسير ، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش ، وممن كان يؤذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، ولقى منه عناء وهو بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير فى أسارى بدر.
(1/152)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 153
فذكر أصحاب القليب ومصابهم ، فقال صفوان : واللّه ليس فى العيش بعدهم خير ، قال له عمير : صدقت واللّه ، أما واللّه لو لا دين علىّ ليس له عندى قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لى قبلهم علة : ابنى أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان ، وقال : علىّ دينك ، أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالى أو اسيهم ما بقوا ، لا يسعنى شىء ويعجز عنهم.
فقال له عمير : فاكتم شأنى وشأنك. قال : أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه ، فشحذ له ، وسم ، ثم انطلق حتى قدم المدينة ، فبينما عمر بن الخطاب فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، ويذكرون ما أكرمهم اللّه به ، وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب ، حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف ، فقال : هذا الكلب عدو اللّه عمير ابن وهب ، واللّه ما جاء إلا لشر ، وهو الذى حرش بيننا ، وحزرنا «1» للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا نبى اللّه ، هذا عدو اللّه عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه ، قال : فأدخله علىّ فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلببه بها ، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار :
ادخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاجلسوا عنده ، واحذروا عليه من هذا الخبيث ، فإنه غير مأمون ، ثم دخل به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو آخذ بحمالة سيفه فى عنقه ، قال :
أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : أنعموا صباحا ، وكانت تحية أهل
__________
(1) حزرنا : قدر عددنا تخمينا.
(1/153)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 154
الجاهلية بينهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قد أكرمنا اللّه بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام تحية أهل الجنة. فقال : أما واللّه يا محمد ، إن كنت بها لحديث عهد. قال : فما جاء بك يا عمير؟ قال : جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم ، فأحسنوا فيه ، قال : فما بال السيف فى عنقك؟ قال : قبحها اللّه من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال : أصدقنى ، ما الذى جئت له؟
قال : ما جئت إلا لذلك ، قال : بل قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت : لو لا دين علىّ وعيال عندى ، لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك ، على أن تقتلنى له ، واللّه حائل بينى وبين ذلك ، قال عمير : أشهد أنك رسول اللّه ، قد كنا يا رسول اللّه نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، وما ينزل عليك من الوحى ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فو اللّه إنى لأعلم ما أتاك به إلا اللّه ، فالحمد للّه الذى هدانى للإسلام وساقنى هذا المساق ، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فقهوا أخاكم فى دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيره ، ففعلوا.
ثم قال يا رسول اللّه ، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور اللّه ، شديد الأذى لمن كان على دين اللّه عز وجل ، وأنا أحب أن تأذن لى ، فأقدم مكة فأدعوهم إلى اللّه تعالى ، وإلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإلى الإسلام لعل اللّه يهديهم ، وإلا آذيتهم فى دينهم ، كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم.
فأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلحق بمكة.
و كان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب ، يقول : أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عن الركبان ، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه ، فحلف ألا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا.
(1/154)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 155
فلما قدم عمير مكة ، أقام بها يدعو إلى الإسلام ، ويؤذى من خالفه أذى شديدا ، فأسلم على يديه ناس كثير.
وأسر من المشركين من قريش يوم بدر ثلاثة وأربعون رجلا.
62 - غزوة السويق
ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق فى ذى الحجة ، وكان أبو سفيان حين رجع إلى مكة ، ورجع فل «1» قريش من بدر ، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، فخرج فى مائتى راكب من قريش ، ليبر يمينه ، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له : ثيب ، من المدينة على بريد أو نحوه ، ثم خرج من الليل ، حتى أتى بنى النضير تحت الليل ، فأتى حيى بن أخطب ، فضرب عليه بابه ، فأبى أن يفتح له بابه وخافه ، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم ، وكان سيد بنى النضير فى زمانه ذلك ، وصاحب كنزهم ، فاستأذن عليه ، فأذن له ، فقراه وسقاه ، وأعلمه من خبر الناس. ثم خرج فى عقب ليلته حتى أتى أصحابه ، فبعث رجالا من قريش إلى المدينة ، فأتوا ناحية منها ، يقال لها : العريض ، فحرقوا فى أصوار - جماعة من نخل بها - ووجدوا بها رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما ، فقتلوهما ، ثم انصرفوا راجعين ، ونذر بهم الناس. فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى طلبهم ، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر ، وهو أبو لبابة ، حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم انصرف راجعا ، قد فاته أبو سفيان - وأصحابه ، وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها فى الحرث ، يتخففون منها للنجاة.
فقال المسلمون حين رجع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا رسول اللّه ، أتطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال : نعم.
__________
(1) الفل : القوم المنهزمون.
(1/155)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 156
و إنما سميت غزوة السويق ، لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق ، فهجم المسلمون على سويق كثير ، فسميت غزوة السويق.
63 - غزوة ذى أمر
فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة السويق ، أقام بالمدينة بقية ذى الحجة أو قريبا منها ، ثم غزا نجدا ، يريد غطفان ، وهى غزوة ذى أمر. واستعمل على المدينة عثمان بن عفان ، فأقام بنجد صفرا كله ، أو قريبا من ذلك ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا. فلبث بها شهر ربيع الأول كله ، أو إلا قليلا منه.
64 - غزوة الفرع
ثم غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يريد قريشا ، استعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، حتى بلغ بحران ، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ، فأقام بها شهر بيع الآخر وجمادى الأولى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.
65 - حديث بنى قينقاع
و قد كان فيما بين ذلك ، من غزو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أمر بنى قينقاع ، و
كان من حديث بنى قينقاع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمعهم يسوق بنى قينقاع ، ثم قال : يا معشر يهود ، احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل ، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد اللّه إليكم قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنا واللّه لئن حاربناك لتعلمن أنّا نحن الناس.
(1/156)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 157
و كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
و كان من أمر بنى قينقاع أن امرأة من العرب قدمت يجلب لها ، فباعته بسوق بنى قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديّا ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع.
فحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد اللّه ابن أبىّ بن سلول ، حين أمكنه اللّه منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن فى موالى - - وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
يا محمد ، أحسن فى موالى ، فأعرض عنه ، فأدخل يده فى جيب درع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أرسلنى ، وغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال : ويحك ، أرسلنى. قال : لا واللّه لا أرسلك حتى تحسن فى موالى ، أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع وقد منعونى من الأحمر والأسود وتحصدهم فى غداة واحدة ، إنى واللّه امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هم لك.
(1/157)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 158
و استعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة فى محاصرته إياهم بشير بن عبد المنذر ، وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.
و لما حاربت بنو قينقاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد اللّه ابن أبىّ بن سلول ، وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان أحد بنى عوف ، لهم من حلفه مثل الذى لهم من عبد اللّه بن أبىّ ، فخلعهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتبرأ إلى اللّه عز وجل ، وإلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم من حلفهم ، وقال : يا رسول اللّه ، أتولى اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين. وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
66 - سرية زيد
و أما سرية زيد بن حارثة ، التى بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها ، حين أصاب عير قريش ، وفيها أبو سفيان بن حرب ، على القردة : ماء من مياه نجد ، فكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم الذى كانوا يسلكون إلى الشام ، حين كان من وقعة بدر ما كان ، فسلكوا طريق العراق ، فخرج منهم تجار ، فيهم : أبو سفيان بن حرب ، ومعه فضة كثيرة ، وهى عظم تجارتهم ، واستأجروا رجلا من بنى بكر بن وائل ، يقال له : فرات بن حيان ، يدلهم فى ذلك على الطريق.
67 - مقتل كعب بن الأشرف
و كان من حديث كعب بن الأشرف ، أنه لما أصيب أصحاب بدر ، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبد اللّه بن رواحة إلى أهل العالية ،
(1/158)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 159
بشيرين ، بعثهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح اللّه عز وجل عليه ، وقتل من قتل من المشركين.
قال كعب بن الأشرف ، حين بلغه الخبر : أحق هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان - يعنى زيدا وعبد اللّه بن رواحة - فهؤلاء أشراف العرب ، وملوك الناس ، واللّه لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم ، لبطن الأرض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو اللّه الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبى وداعة بن ضبيرة السهمى وعنده عاتكة بنت أبى العيص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف ، فأنزلته وأكرمته ، وجعل يحرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وينشد الأشعار ، ويبكى أصحاب القليب من قريش ، الذين أصيبوا ببدر.
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من لى بابن الأشرف؟ فخرج إليه محمد ابن مسلمة فقتله.
68 - غزوة أحد
و لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ، ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره ، مشى عبد اللّه بن أبى ربيعة ، وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية ، فى رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له فى تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا ، ففعلوا.
فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين فعل ذلك
(1/159)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 160
أبو سفيان بن حرب وأصحاب العير بأحابيشها ، ومن أطاعها من قبائل كنانة ، وأهل تهامة ، وكان أبو عزة عمرو بن عبد اللّه الجمحى قد منّ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر ، وكان فقيرا ذاعيال وحاجة ، وكان فى الاسارى ، فقال : إنى فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن علىّ ، صلى اللّه عليك وسلم ، فمنّ عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال له صفوان بن أمية :
يا أبا عزة ، إنك امرؤ شاعر ، فأعنا بلسانك ، فاخرج معنا ، فقال : إن محمدا قد منّ على فلا أريد أن أظاهر عليه ، قال : بلى ، فأعنا بنفسك فلك واللّه علىّ إن رجعت أن أغنيك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتى ، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير فى تهامة ، ويدعو بنى كنانة.
و خرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بنى مالك ابن كنانة ، يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيّا يقال له : وحشى ، يقذف بحربة له قذف الحبشة ، فلما يخطئ بها ، فقال له : اخرج مع الناس ، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد ، يعنى طعيمة بن عدى ، فأنت عتيق.
فخرجت قريش بحدها وجدها وحديدها وأحابيشها ، ومن تابعها من بنى كنانة ، وأهل تهامة ، وخرجوا معهم بالظعن ، التماس الحفيظة وألا يفروا ، فخرج أبو سفيان بن حرب ، وهو قائد الناس ، بهند بنت عتبة ، وخرج عكرمة بن أبى جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية ، وهى أم عبد اللّه بن صفوان ابن أمية.
(1/160)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 161
و خرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج ، وهى أم عبد اللّه بن عمرو ، وخرج أبو طلحة عبد اللّه بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، بسلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية ، وهى أم بنى طلحة : مسافع ، والجلاس ، وكلاب ، قتلوا يومئذ هم وأبوهم ، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب ، إحدى نساء بنى مالك بن حسل ، مع ابنها أبى عزيز بن عمير ، وهى أم مصعب ابن عمير ، وخرجت عمرة بنت علقمة ، إحدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة ابن كنانة.
وكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشى أو مر بها ، قالت : ويها أباد سمة ، اشف واستشف! وكان وحشى يكنى بأبى دسمة ، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين ، بجبل ببطن السبخة ، من قناة على شفير الوادى ، مقابل المدينة.
فلما سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمسلمين : إنى قد رأيت واللّه خيرا ، رأيت بقرا ، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما ، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة ، فأولتها المدينة.
فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأى عبد اللّه بن أبىّ بن سلول مع رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يرى رأيه فى ذلك ، وألا يخرج إليهم. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكره الخروج ، فقال رجال من المسلمين ، ممن أكرم اللّه بالشهادة يوم أحد وغيره ، ممن كان فاته بدر : يا رسول اللّه ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا! فقال عبد اللّه بن (م 11 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/161)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 162
أبىّ بن سلول : يا رسول اللّه ، أقم بالمدينة ، لا تخرج إليهم ، فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدولنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول اللّه ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجههم ورماهم النساء ، والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. فلم يزل الناس برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم ، حتى دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيته فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات فى ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له : مالك بن عمرو ، أحد بنى النجار ، فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم خرج عليهم ، وقد ندم الناس ، وقالوا : استكرهنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا : يا رسول اللّه ، استكر هناك ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد صلى اللّه عليك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل. فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ألف من أصحابه.
حتى إذا كانوا بالشرط بين المدينة وأحد ، انخزل عنه عبد اللّه بن أبىّ ابن سلول بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصانى ، ماندرى علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس ، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب ، واتبعهم عبد اللّه بن عمرو بن حرام ، أخو بنى مسلمة ، يقول : يا قوم ، أذكركم اللّه ألا تخذلوا قومكم ونبيكم ، عند ما حضر من عدوهم ، فقالوا : لوا نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم ، قال : أبعدكم اللّه أعداء فسيغنى اللّه عنكم نبيه.
ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سلك فى حرة بنى حارثة ،
(1/162)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 163
فذب فرس بذنبه ، فأصاب كلاب «1» سيف فاستله.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان يحب الفأل ولا يعتاف ، لصاحب السيف : شم سيفك ، فإنى أرى السيوف ستسل اليوم.
ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه : من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ، أى من قرب ، من طريق لا يمر بنا عليهم؟ قال أبو خيثمة أخو بنى حارثة بن الحارث : أنا يا رسول اللّه ، فنفذ به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم ، حتى سلك فى مال لمربع بن قيظى ، وكان رجلا منافقا ضرير البصر ، فلما سمع حسّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، قام يحثى فى وجوههم التراب ، ويقول : إن كنت رسول اللّه فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى ، وأخذ حقنة من تراب فى يده ، ثم قال : واللّه لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد ، لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصر. وقد بدر إليه سعد بن زيد ، أخو بنى الأشهل ، قبل نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه ، فضربه بالقوس فى رأسه فشجه.
و مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد ، فى عدوة الوادى إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال :
لا يقاتلن أحد منكم حتى تأمره بالقتال.
وتهيأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للقتال ، وهو فى سبعمائة رجل ، وأمر على الرماة عبد اللّه بن جبير ، أخا بنى عمرو بن عوف ، وهو معلم يومئذ بثياب بيض ، والرماة خمسون
__________
(1) كلاب السيف : قائمه.
(1/163)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 164
رجلا ، فقال : انضح الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك. وظاهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين درعين ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، أخى بنى عبد الدار.
وأجاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ سمرة بن جندب الفزارى ، ورافع بن خريج ، أخا بنى حارثة ، وهما ابنا خمس عشرة سنة ، وكان قد ردهما ، فقيل له : يا رسول اللّه ، إن رافعا رام ، فأجازه ، فلما أجاز رافعا ، قيل له :
يا رسول اللّه ، فإن سمرة يصرع رافعا ، فأجازه. ورد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسامة بن زيد ، وعبد اللّه بن عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، أحد بنى مالك بن النجار ، والبراء بن عازب ، أحد بنى حارثة ، وعمرو بن حزم ، أحد بنى مالك بن النجار ، وأسيد بن ظهير ، أحد بنى حارثة ، ثم أجازهم يوم الخندق ، وهم أبناء خمس عشرة سنة.
وتعبأت قريش ، وهم ثلاثة آلاف رجل ، ومعهم مئتا فرس قد جنبوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل.
و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم ، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة ، أخو بنى ساعدة ، فقال : وما حقه يا رسول اللّه؟ قال : أن تضرب به العدو حتى ينحنى ، قال : أنا آخذه يا رسول اللّه بحقه ، فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب ، إذا كانت ، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء ، فاعتصب بها ، علم الناس أنه سيقاتل ، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
(1/164)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 165
أخرج عصابته تلك ، فعصب بها رأسه ، وجعل يتبختر بين الصفين.
ثم إن أبا عامر ، عبد عمرو بن صيفى بن مالك بن النعمان ، أحد بنى ضبيعة ، وقد كان خرج حين خرج إلى مكة مباعدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، معه خمسون غلاما من الأوس - وبعض الناس كان يقول : كانوا خمسة عشر رجلا - وكان يعد قريشا أن لو قد لقى قومه ، لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة ، فنادى : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر ، قالوا : فلا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق - وكان أبو عامر يسمى فى الجاهلية : الراهب ، فسماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : الفاسق - فلما سمع ردهم عليه قال : لقد أصاب قومى بعدى شر ، ثم قاتلهم قتالا شديدا ، ثم راضخهم بالحجارة.
وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال : يا بنى عبد الدار ، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر ، فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، إذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تخلو بيننا وبينه ، فنكفيكموه ، فهموا به ، وتواعدوه ، وقالوا :
نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذ التقينا كيف نصنع! فلما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قامت هند بنت عتبة فى النسوة اللاتى معها ، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ، ويحرضنهم.
فاقتتل الناس حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن فى الناس ، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله ، وكان فى المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه ،
(1/165)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 166
فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة ، فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه ، وضربه أبو دجانة فقتله.
وقال أبو دجانة سماك بن خرشة : رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا ، فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولول ، فإذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وقال وحشى ، غلام جبير بن مطعم ، واللّه إنى لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه ما يليق به شيئا ، مثل الجمل الأورق ، إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى ، فقال له حمزة : هلم إلى يابن مقطعة البظور ، فضربه ضربة فكأن ما أخطأ رأسه ، وهززت حربتى ، حتى إذا رضيت منها ، دفعتها عليه ، فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه ، فأقبل نحوى ، فغلب فوقع ، وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتى ، ثم تنحيت إلى العسكر ، ولم تكن لى بشىء حاجة غيره.
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى قتل ، وكان الذى قتله ابن قمئة الليثى ، وهو يظن أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فرجع إلى قريش ، فقال : قتلت محمدا. فلما قتل مصعب بن عمير ، أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللواء إلى على بن أبى طالب ، وقاتل على بن أبى طالب ورجال من المسلمين.
ولما اشتد القتال يوم أحد ، جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت راية الأنصار ، وأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى على بن أبى طالب
(1/166)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 167
رضوان اللّه عليه : أن قدم الراية. فتقدم علىّ ، فقال : أنا أبو القصم ، فناداه أبو سعد بن أبى طلحة ، وهو صاحب لواء المشركين : أن هل لك يا أبا القصم فى البراز من حاجة؟ قال : نعم. فبرزا بين الصفين ، فاختلفا ضربتين ، فضربه على فصرعه ، ثم انصرف عنه ، ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه؟ فقال : إنه استقبلنى بعورته ، فعطفتنى عنه الرحم ، وعرفت أن اللّه عز وجل قد قتله.
وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الأفلح ، فقتل مسافع بن طلحة ، وأخاه الجلاس بن طلحة ، كلاهما يشعره سهما ، فأتى أمه سلافة ، فيضع رأسه فى حجرها ، فتقول : يا بنى ، من أصابك؟ فيقول : سمعت رجلا حين رمانى وهو يقول.
خذها وأنا ابن أبى الأقلح ، فنذرت إن أمكنها اللّه من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر ، وكان عاصم قد عاهد اللّه ألا يمس مشركا أبدا ، ولا يمسه مشرك.
والتقى حنظلة بن أبى عامر الغسيل وأبو سفيان ، فلما استعلاه حنظلة ابن أبى عامر ، رآه شاد بن الأسود ، وهو بن شعوب ، قد علا أبا سفيان ، فضربه شداد فقتله.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن صاحبكم ، يعنى حنظلة ، لتغسله الملائكة فسألوا أهله وما شأنه؟ فسئلت صاحبته عنه ، فقالت :
خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة.
ثم أنزل اللّه نصره على المسلمين ، وصدقهم وعده ، فحسوهم بالسيوف ، حتى كشفوهم عن العسكر ، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
(1/167)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 168
و يقول الزبير : واللّه لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هو ارب ، مادون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر ، حين كشفنا القوم عنه ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من خلفنا ، وصرخ صارخ : ألا أن محمدا قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم ، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
ثم إن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية ، فرفعته لقريش ، وكان اللواء مع صؤاب ، غلام لبنى أبى طلحة ، حبشى ، وكان آخر من أخذه منهم ، فقاتل به حتى قطعت يداه ، ثم برك عليه ، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه ، وهو يقول : اللهم هل أعزرت.
وانكشف المسلمون ، فأصاب فيهم العدو ، وكان يوم بلاء وتمحيص ، أكرم اللّه فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة ، حتى خلص العدو إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأصيب بالحجارة ، حتى وقع لشقه ، فأصيبت رباعيته ، وشج فى وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذى أصابه عتبة بن أبى وقاص.
ووقع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ، ليقع فيها المسلمون ، وهم لا يعلمون ، فأخذ على بن أبى طالب بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورفعه طلحة بن عبيد اللّه ، حتى استوى قائما ، ومص مالك بن سنان ، أبو أبى سعيد الخدرى ، الدم عن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ازدرده ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من مس دمى دمه لم تصبه النار.
(1/168)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 169
و
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين غشيه القوم : من رجل يشرى لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن فى نفر خمسة من الأنصار - وبعض الناس يقول :
إنما هو عمارة بن يزيد بن السكن - فقاتلوا دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا ثم رجلا ، يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد ، أو عمارة ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ادنوه منى ، فأدنوه منه ، فوسده قدمه ، فمات وخده على قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
و يقول عمارة : خرجت أول النهار ، وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعى سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو فى أصحابه ، والدولة والربح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون ، انحزت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقمت أبا شر القتال ، وأذب عنه بالسيف ، وأرمى عن القوس ، حتى خلصت الجراح إلىّ.
ولما ولى الناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقبل رجل يقول :
دلونى على محمد ، فلا نجوت إن نجا ، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير ، وأناس ممن ثبت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فضربنى هذه الضربة ، ولكن فلقد ضربنه على ذلك ضربات ، ولكن عدو اللّه كان عليه درعان.
وترس دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبو دجانة بنفسه ، يقع النبل فى ظهره ، وهو منحن عليه ، حتى كثر فيه النبل. ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال سعد : فلقد رأيته يناولنى النبل وهو يقول : ارم ، فداك أبى وأمى ، حتى إنه ليناولنى السهم ماله نصل ، فيقول : ارم به.
(1/169)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 170
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عين قتادة ابن النعمان ، حتى وفعت على وجنته ، فردها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وانتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة ابن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال :
ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.
ولقد وجدوا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة ، فما عرفه إلا أخته ، عرفته ببنانه.
و كان أول من عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كعب بن مالك ، قال :
عرفت عينيه تزهران من تحت المعفر ، فناديت بأعلى صوتى : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأشار إلىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أن أنصت.
فلما عرف المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهضوا به ، ونهض معهم نحو الشعب ، معه أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلى بن أبى طالب ، وطلحة بن عبيد اللّه ، والزبير بن العوام ، رضوان اللّه عليهم ، والحارث ابن الصمة ، ورهط من المسلمين.
(1/170)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 171
فلما أسند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الشعب ، أدركه أبى بن خلف وهو يقول : أى محمد ، لا نجوت إن نجوت ، فقال القوم : يا رسول اللّه ، أيعطف عليه رجل منا؟
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : دعوه ، فلما دنا ، تناول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، فلما أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه ، انتفض بها انتفاضة ، تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذ انتفض بها
- والشعراء : ذباب له لدغ - ثم استقبله فطعنه فى عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
وكان أبىّ بن خلف ، يلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، فيقول :
يا محمد ، إن عندى العوذ ، فرسا أعلفه كل يوم فرقا «1» من ذرة ، أقتلك عليه ، فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء اللّه. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير ، فاحتقن الدم ، قال :
قتلنى واللّه محمد! قالوا له : ذهب واللّه فؤادك ، واللّه إن بك من بأس ، قال :
إنه قد كان قال لى بمكة : أنا أقتلك ، فو اللّه لو بصق علىّ لقتلنى. فمات عدو اللّه بسرف «2» ، وهم قافلون به إلى مكه.
فلما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى فم بالشعب ، خرج على بن أبى طالب حتى ملأ درقته ماء من المهراس ، فجاء به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه
__________
(1) مكيالا يسع اثنى عشر رطلا.
(2) موضع على سته أميال من مكة.
(1/171)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 172
و سلم ، ليشرب منه ، فوجد له ريحا ، فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : اشتد غضب اللّه على من أدمى وجه نبيه. وكان سعد بن أبى وقاص يقول : واللّه ما حرصت على قتل رجل قط ، كحرصى على قتل عتبة بن أبى وقاص ، وإن كان ما علمت لسيىء الخلق مبغضا فى قومه ، ولقد كفانى منه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
اشتد غضب اللّه على من أدمى وجه رسوله.
فبينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالشعب ، معه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين ، حتى أهبطوهم من الجبل. ونهض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها ، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ظاهر بين درعين ، فلما ذهب لينهض صلى اللّه عليه وسلم لم يستطع ، فجلس تحته طلحة بن عبيد اللّه ، فنهض به ، حتى استوى عليها.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أوجب طلحة ، حين صنع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما صنع.
ثم إن النبى صلى اللّه عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته ، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
و لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أحد ، رفع حسيل بن جابر ، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان ، وثابت ابن وقش ، فى الآطام مع النساء والصبيان ، فقال أحدهما لصاحبه ، وهما شيخان كبيران : لا أبا لك أما تنتظر؟ فو اللّه ما بقى لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار ، إنما نحن هامة اليوم أو غد ، أفلا نأخذ أسيافنا ، ثم نلحق برسول
(1/172)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 173
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لعل اللّه يرزقنا شهادة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فأخذا أسيافهما ، ثم خرجا ، حتى دخلا فى الناس ، ولم يعلم بهما ، فأمه ثابت بن وقش فقتله المشركون ، وأما حسيل بن جابر ، فاختلفت عليه أسياف المسلمين ، فقتلوه ولا يعرفونه ، فقال حذيفة : أبى ، فقالوا : واللّه إن عرفناه ، وصدقوا. قال حذيفة : يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين ، فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يديه ، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين ، فزاده ذلك عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيرا.
ثم إن رجلا منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع ، وكان له ابن يقال له يزيد بن حاطب أصابته جراحة يوم أحد ، فأتى به إلى دار قومه وهو بالموت ، فاجتمع إليه أهل الدار ، فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء :
أبشر يابن حاطب بالجنة ، قال : وكان حاطب شيخا قد عسا فى الجاهلية ، فنجم يومئذ نقافة ، فقال : بأى شىء تبشرونه ، بجنة من حرمل؟ غررتم واللّه هذا الغلام من نفسه.
ويقول عاصم بن عمر بن قتادة : كان فينا رجل أتى «1» لا يدرى ممن هو ، يقال له : قزمان ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ، إذا ذكر له :
إنه لمن أهل النار.
فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا ، فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين ، وكان ذا بأس ، فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دار بنى ظفر ، فجعل رجال من المسلمين يقولون له : واللّه لقد أبليت اليوم يا قزمان ،
__________
(1) أنى - غريب.
(1/173)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 174
فأبشر ، قال : بما ذا أبشر؟ فو اللّه إن قاتلت إلا عن أحساب قومى ، ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحته ، أخذ سهما من كنانته ، فقتل به نفسه.
وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق ، فإنه لما كان يوم أحد ، قال : يا معشر يهود ، واللّه لو علمتم أن نصر محمد عليكم لحق ، قالوا : إن اليوم يوم السبت.
قال : لا سبت لكم ، فأخذ سيفه وعدته ، وقال : إن أصبت فمالى لمحمد سيصنع فيه ما يشاء ، ثم غدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : مخيريق خير يهود.
وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأسد ، يشهدون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المشاهد ، فلما كان يوم أحد ، أرادوا حبسه ، وقالوا له : إن اللّه عز وجل قد عذرك ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : إن بنى يريدون أن يحبسونى عن هذا الوجه ، والخروج معك فيه ، فو اللّه إنى لا أرجو أن أطأ بعرجتى هذه فى الجنة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أما أنت فقد عذرك اللّه ، فلا جهاد عليك.
فقال لبنيه : ما عليكم ألا تمنعوه ، لعل اللّه أن يرزقه الشهادة ، فخرج معه ، فقتل يوم أحد.
ووقعت عند بنت عتبة ، والنسوة التى معها ، يمثلن بالقتلى ، من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يجد عن الآذان والأنف ، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما وقلائد ، وأعطت خدمها وقلائدها
(1/174)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 175
و قرطتها وحشيّا ، غلام جبير بن مطعم ، وبقرت عن كبد حمزة ، فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها ، فلفظتها.
ثم إن أبا سفيان بن حرب ، حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ، ثم صرخ بأعلى صوته ، فقال : أنعمت فعال «1» ، إن الحرب سجال ، يوم بيوم ، أعل هبل - أى أظهر دينك - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
قم يا عمر فأجبه ، فقال : اللّه أعلى وأجل ، لاسواه ، قتلانا فى الجنة ، وقتلاكم فى النار. فلما أجاب عمر أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : أنشدك اللّه يا عمر ، أقتلنا محمدا؟ قال عمر : اللهم لا ، وإنه ليسمع كلامك الآن ، قال : أنت أصدق عندى من ابن قمئة وأبر ، لقول ابن قمئة لهم : إنى قد قتلت محمدا.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه ، نادى : إن موعدكم بدر للعام القابل.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرجل من أصحابه : قل : نعم ، هو بيننا وبينكم موعد.
ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بن أبى طالب ، فقال :
اخرج فى آثار القوم ، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة. والذى نفسى بيده ، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم. قال على : فخرجت فى آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجهوا إلى مكة.
__________
(1) أى بالغت.
(1/175)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 176
و فرغ الناس لقتلاهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع؟ أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟ فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر لك يا رسول اللّه ما فعل سعد ، فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق. قال : فقلت له : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرنى أن أنظر ، أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال : أنا فى الأموات ، فأبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنى السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك اللّه عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته ، وأبلغ قومك عنى السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند اللّه ، أن خلص إلى نبيكم صلى اللّه عليه وسلم ومنكم عين تطرف. قال : ثم لم أبرح حتى مات ، فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته خبره.
و خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يلتمس حمزة بن عبد المطلب ، فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده ، ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رأى ما رأى : لو لا أن تحزن صفية ، ويكون سنة من بعدى لتركته ، حتى يكون فى بطون السباع وحواصل الطير ، ولئن أظهرنى اللّه على قريش فى موطن من المواطن ، لأمثلن بثلاثين رجلا منهم. فلما رأى المسلمون حزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل ، قالوا : ولئن أظفرنا اللّه بهم يوما من الدهر ، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
ولما وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حمزة قال : لن أصاب بمثلك أبدا ، ما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من هذا! ثم قال : جاءنى جبريل
(1/176)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 177
فأخبرنى أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب فى أهل السموات السبع :
حمزة بن عبد المطلب ، أسد اللّه ، وأسد رسوله.
ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحمزة فسجى ببردة ، ثم صلى عليه ، فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتى بالقتلى ، فيوضعون إلى حمزة ، فصلى عليهم وعليه معهم ، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة.
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب ، لتنظر إليه ، وكان أخاها لأبيها وأمها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا بنها الزبير بن العوام : القها فأرجعها ، لا ترى ما بأخيها ، فقال لها : يا أمه ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يأمرك أن ترجعى ، قالت : ولم؟ وقد بلغنى أن قد مثّل بأخى ، وذلك فى اللّه ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء اللّه. فلما جاء الزبير إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره بذلك. قال : خل سبيلها ، فأتته ، فنظرت إليه ، فصلّت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له ، ثم أمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدفن.
ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يومئذ ، حين أمر بدفن القتلى :
أنظروا إلى عمرو بن الجموح ، وعبد اللّه بن عمرو بن حرام ، فإنهما كانا متصافيين فى الدنيا ، فاجعلوهما فى قبر واحد.
ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعا إلى المدينة ، فلقيته حمنة بنت جحش ، فلما لقيت الناس نعى إليها أخوها عبد اللّه بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت له ، (م 12 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/177)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 178
ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولولت. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن زوج المرأة منها لبمكان ، لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها.
ومر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدار من دور الأنصار من بنى عبد الأشهل وظفر ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فبكى ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكى له ، فلما رجع سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، إلى دار بنى عبد الأشهل ، أمرا نساءهم أن يتحزمن ، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ولما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن ، وهن على باب مسجده يبكين عليه ، فقال : ارجعن يرحمكن اللّه ، فقد آسيتن بأنفسكن.
ومر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بامرأة من بنى دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأحد ، فلما نعوا لها ، قالت :
فما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالوا : خيرا يا أم فلان ، وهو بحمد اللّه كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ، تريد صغيرة.
فلما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهله ، وناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال : اغسلى عن هذا دمه يا بنية ، فو اللّه لقد صدقنى اليوم ، وناولها على بن أبى طالب سيفه ، فقال : وهذا أيضا ، فاغسلى عنه دمه ،
(1/178)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 179
فو اللّه لقد صدقنى اليوم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حنيف ، وأبو دجانة.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب : لا يصيب المشركون منا مثلها ، حتى يفتح اللّه علينا.
وكان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال.
فلما كان الغد من يوم الأحد ، لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الناس بطلب العدو ، فأذن مؤذنه :
ألا يخرجن معنا أحد حضر إلا أحد يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد اللّه ابن عمرو بن حرام ، فقال : يا رسول اللّه ، إن أبى كان خلفنى على أخوات لى سبع ، وقال : يا بنى ، إنه لا ينبغى لى ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذى أو ثرك بالجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على نفسى ، فتخلف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فخرج معه ، وإنما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج فى طلبهم ، ليظنوا به قوة ، وأن الذى أصابهم ، لم يوهنهم عن عدوهم.
وكان رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من بنى عبد الأشهل ، شهد أحدا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : شهدت أحدا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أنا وأخ لى ، فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بالخروج فى طلب العدو ، قلت لأخى أو قال لى : أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ واللّه مالنا من دابة
(1/179)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 180
نركبها ، ومامنا إلا جريح ثقيل ، فخرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا ، فكان إذا غلب حملته عقبة - مرة - ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهى من المدينة على ثمانية أميال ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة.
وقد مر به معبد بن أبى معبد الخزاعى ، وكانت خزاعة ، مسلمهم ومشركهم ، عيبة نصح لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بتهامة ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال : يا محمد ، أما واللّه لقد عز علينا ما أصابك ، ولوددنا أن اللّه عافاك فيهم ، ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقى أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا حد أصحابه وأشرافهم وقادتهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرّن على بقيتهم ، فلنقرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا ، قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شىء لم أر مثلة قط ، قال : ويحك ما تقول؟ قال : واللّه ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصى الخيل ، قال : فو اللّه لقد أجمعنا الكرة عليهم ، لنستأصل بقيتهم. قال : فإنى أنهاك عن ذلك.
ثم إن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد ، وأراد الرجوع إلى المدينة ، ليستأصل بقية أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال لهم صفوان
(1/180)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 181
ابن أمية بن خلف : لا تفعلوا ، فإن القوم قد حربوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذى كان ، فارجعوا ، فرجعوا ،
فقال النبى صلّى اللّه عليه وسلم ، وهو بحمراء الأسد ، حين بلغه أنهم هموا بالرجعة : والذى نفسى بيده ، لقد سومت لهم حجارة ، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب.
وأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى جهة ذلك ، قبل رجوعه إلى المدينة ، معاوية بن المغيرة بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس ، وهو جد عبد الملك ابن مروان ، أبو أمه عائشة بنت معاوية ، وأبا عزة الجمحى ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسره ببدر ، ثم منّ عليه ، فقال : يا رسول اللّه ، أقلنى ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : واللّه لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول :
خدعت محمدا مرتين ، اضرب عنقه يا زبير. فضرب عنقه.
وكان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص ، اختبر اللّه به المؤمنين ، ومحن به المنافقين ، وممن كان يظهر الإيمان بلسانه ، وهو مستخف بالكفر فى قلبه ، ويوما أكرم اللّه فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.
وكان جميع من استشهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من المهاجرين والأنصار خمسة وسبعين رجلا.
69 - يوم الرجيح
و قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة
(1/181)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 182
فقالوا : يا رسول اللّه ، إن فينا إسلاما ، فابعث معنا نقرا من أصحابك يفقهوننا فى الدين ، ويقرئوننا القرآن ، ويعلموننا شرائح الإسلام. فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نفرا ستة من أصحابه ، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوى ، حليف حمزة بن عبد المطلب ، وخالد بن البكير الليثى ، حليف بنى عدى بن كعب ، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح ، أخو بنى عمرو بن عوف ابن مالك بن الأوس ، وخبيب بن عدى ، أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف ، وزيد بن الدثنة بن معاوية ، أخو بنى بياضة بن عمرو بن زريق ابن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج ، وعبد اللّه بن طارق ، حليف بنى ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.
و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على القوم مرثد بن أبى مرثد الغنوى ، فخرج مع القوم ، حتى إذا كانوا على الرجيع ، ماء لهذيل بناحية الحجاز ، على صدور الهداة «1» غدروا بهم ، فاستصرخوا عليهم هذيلا ، فلم يرع القوم وهم فى رحالهم ، إلا الرجال بأيديهم السيوف ، قد غشوهم ، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا لهم : إنا واللّه ما نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد اللّه وميثاقه ألا نقتلكم.
فأما مرثد بن أبى مرثد ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت ، فقالوا :
و اللّه لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا.
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ، ليبيعوه من سلافة بنت سعد ابن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد : لئن قدرت على
__________
(1) بين موضع عسفان ومكة. [.....]
(1/182)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 183
رأس عاصم ، لتشربن فى قحفه الخمر ، فمنعته الدبر «1» ، فلما حالت بينه وبينهم الدبر قالوا : دعوه يمسى ، فنذهب عنه ، فنأخذه. فبعث اللّه الوادى ، فاحتمل عاصما ، فذهب به. وقد كان عاصم قد أعطى اللّه عهدا ألا يمسه مشرك ، ولا يمس مشركا أبدا ، تنجسا ، فكان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه يقول ، حين بلغه :
إن الدبر منعته : يحفظ اللّه العبد المؤمن ، كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فى حياته ، فمنعه اللّه بعد وفاته كما امتنع منه فى حياته.
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدى ، وعبد اللّه بن طارق ، فلانوا ورقوا ، ورغبوا فى الحياة ، فأعطوا بأيديهم ، فأسروهم ، ثم خرجوا إلى مكة ، ليبيعوهم بها ، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد اللّه بن طارق يده من القران «2» ، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره رحمه اللّه ، بالظهران.
و أما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة ، فقدموا بهما مكة ، فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمى ، حليف بنى نوفل ، لعقبة بن الحارث بن عامر نوفل ، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ، ليقتله بأبيه.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ، ليقتله بأبيه ، أمية بن خلف ، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له ، يقال له نسطاس ، إلى التنعيم ، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه ، واجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال
__________
(1) الدبر : الزنابير والنحل.
(2) القران : الحبل.
(1/183)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 184
له أبو سفيان ، حين قدم ليقتل : أنشدك اللّه يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا الآن فى مكانك نضرب عنقه ، وأنك فى أهلك؟ قال : واللّه ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه ، تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنى جالس فى أهلى. فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ، ثم قتله نسطاس ، يرحمه اللّه.
ثم خرجوا بخبيب ، حتى إذا جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه ، قال لهم :
إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع ركعتين ، فافعلوا ، قالوا : دونك فاركع.
فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ، ثم أقبل على القوم ، فقال : أما واللّه لو لا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل ، لاستكثرت من الصلاة.
فكان خبيب بن عدى أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.
ثم رفعوه على خشبة ، فلما أو ثقوه ، قال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما يصنع بنا ، ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه رحمه اللّه.
70 - حديث بئر معونة
فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة ، ثم بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أصحاب بئر معونة فى صفر ، على رأس أربعة أشهر من أحد.
و قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأ سنة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فعرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الإسلام ، ودعاه ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام ، وقال : يا محمد ، لو بعثت رجالا من
(1/184)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 185
أصحابك إلى أهل نجد ، فدعوهم إلى أمرك ، رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنى أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء :
أنا لهم جار ، فابعثهم ، فليدعوا الناس إلى أمرك.
فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنذر بن عمرو ، أخا بنى ساعدة ، فى أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا بئر معونة ، وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم ، كلا البلدين منها قريب ، وهى إلى حرة بنى سليم أقرب.
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إلى عدو اللّه عامر بن الطفيل ، فلما أتاه لم ينظر فى كتابه ، حتى عدا على الرجل فقتله ، ثم استصرخ عليهم بنى عامر ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا :
لن نخفر أبا براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا ، فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم ، فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم فى رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم ، يرحمهم اللّه ، إلا كعب بن زيد ، فإنهم تركوه وبه رمق ، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه اللّه.
و كان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى ، ورجل من الأنصار ، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر ، فقالا : واللّه إن لهذه الطير لشأنا ، فأقبلا لينظرا ، فإذا القوم فى دمائهم ، وإذا الخيل ، التى أصابتهم واقفة ، فقال الأنصارى لعمرو بن أمية : ما ترى؟ قال! أرى أن نلحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنخبره الخبر ، فقال الأنصارى : لكنى ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، وما كنت لتخبرنى عنه الرجال ، ثم قاتل القوم حتى قتل.
(1/185)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 186
و أخذوا عمرو بن أمية أسيرا ، فلما أخبرهم أنه من مضر ، أطلقه عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته ، وأعتقه عن رقبة ، زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية ، حتى إذا كان بالقرقرة «1» ، أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه فى ظل هو فيه. وكان مع العامر بين عقد من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجوار ، لم يعلم به عمرو بن أمية ، وقد سألهما حين نزلا :
ممن أنتما؟ فقالا : من بنى عامر ، فأمهلهما ، حتى إذا ناما ، عدا عليهما فقتلهما ، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأرا من بنى عامر ، فيما أصابوا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره الخبر ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
ثم قال صلى اللّه عليه وسلم : هذا عمل أبى براء ، قد كنت لهذا كارها متخوّفا.
فبلغ ذلك أبا براء ، فشق عليه إخفار عامر إياه ، وما أصاب أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسببه وجواره ، وكان فيمن أصيب عامر ابن فهيرة.
71 - إجلاء بنى النضير
ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بنى النضير يستعينهم فى دية ذينك القتيلين من بنى عامر ، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمرى ، للجوار الذى كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عقد لهما ، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عقد وحلف ، فلما أتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستعينهم فى دية ذينك
__________
(1) القرقرة : موضع قريب من المدينة.
(1/186)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 187
القتيلين ، قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه ، ثم خلا بعضهم ببعض ، فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقى عليه صخرة ، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ، أحدهم ، فقال : أنا لذلك ، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعلىّ ، رضوان اللّه عليهم.
فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، فلما استلبث النبى صلى اللّه عليه وسلم أصحابه ، قاموا فى طلبه ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ، فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى انتهوا إليه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبرهم الخبر ، بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.
وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم ، والسير إليهم.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. ثم سار بالناس حتى نزل بهم ، وذلك فى شهر ربيع الأول ، فحاصرهم ست ليال ، ونزل تحريم الخمر ، فتحصنوا منه فى الحصون ،
فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقطع النخيل ، والتحريق فيها
،
فنادوه : أن يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟
و قد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج ، منهم عدو اللّه عبد اللّه ابن أبىّ بن سلول ، ووديعة ، ومالك بن أبى قوقل ، وسويدا وداعس ،
(1/187)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 188
قد بعثوا إلى بنى النضير : أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف اللّه فى قلوبهم الرعب ، وسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، ففعل.
فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن عتبة بابه فيضعه على ظهر بعيره ، فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. وخلوا الأموال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سهل بن حنيف ، وأبا دجانة سماك بن خرشة ، ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان ، يأمين بن عمير ، أبو كعب ابن عمرو بن جحاش ، وأبو سعد بن وهب ، أسلما على أموالهما ، فأحرزاها.
72 - غزوة ذات الرقاع
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير ، شهر ربيع الآخر وبعض جمادى ، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان ، واستعمل على المدينة أباذر الغفارى ، حتى نزل نخلا «1» ، وهى غزوة ذات الرقاع ، وإنما قيل لها : غزوة ذات الرقاع ، لأنهم رقعوا فيها راياتهم. فلقى بها جمعا عظيما من غطفان ، فتقارب الناس ، ولم تكن بينهم حرب ، وقد خاف الناس
__________
(1) نخل موضع بنجد.
(1/188)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 189
بعضهم بعضا ، حتى صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس صلاة الخوف ، ثم انصرف بالناس.
ولما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع ، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا.
73 - غزوة بدر الآخرة
ثم خرج فى شعبان إلى بدر ، لميعاد أبى سفيان ، حتى نزله.
واستعمل على المدينة عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبىّ بن سلول الأنصارى ، فأقام عليه ثمانى ليال ينظر أبا سفيان. وخرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل مجنة ، من ناحية الظهران ، ثم بدا له فى الرجوع ، فقال : يا معشر قريش ، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر ، وتشربون فيه اللبن ، وإن عامكم هذا عام جدب ، وإنى راجع ، فارجعوا ، فرجع الناس. فسماهم أهل مكة جيش السويق ، يقولون : إنما خرجتم تشربون السويق.
ولما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده أتاه محشى بن عمرو الضمرى ، وهو الذى كان وادعه على بنى ضمرة فى غزوة ودان ، فقال : يا محمد ، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال : نعم ، يا أخا بنى ضمرة ، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ، ثم جالدناك حتى يحكم اللّه بيننا وبينك. قال : لا واللّه يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة.
74 - غزوة دومة الجندل
ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ، فأقام بها أشهرا ، حتى مضى ذو الحجة ، وهى سنة أربع ، ثم غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/189)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 190
دومة الجندل ، فى شهر ربيع الأول ، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى. ثم رجع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يصل إليها ، ولم يلق كيدا ، فأقام بالمدينة بقية سنته.
75 - ثم كانت غزوة الخندق فى شوال سنة خمس
و كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود ، منهم : سلام بن أبى الحقيق النضرى ، وحيى بن أخطب النضرى ، وكنانة بن أبى الحقيق النضرى ، وهوذة بن قيس الوائلى ، وأبو عمار الوائلى ، فى نفر من بنى النضير ، ونفر من بنى وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله. فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه.
فلما قالوا ذلك لقريش ، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاجتمعوا لذلك ، واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من يهود ، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه. وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها
(1/190)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 191
عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، فى بنى فزارة ، والحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى ، فى بنى مرة ، ومسعر بن رخيلة ، فيمن تابعه من قومه أشجع.
فلما سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وما أجمعوا له من الأمر ، ضرب الخندق على المدينة ، فعمل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترغيبا للمسلمين فى الأجر ، وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودأبوا ، وأبطأ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك ، رجال من المنافقين ، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا إذن ، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة ، من الحاجة التى لا بد له منها ، يذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويستأذنه فى اللحوق بحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله ، رغبة فى الخير ، واحتسابا له.
ولما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الخندق ، أقبلت قريش ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة ، فى عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا إلى جانب واحد ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، فى ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأمر بالذرارى والنساء فجعلوا فى الآطام.
وخرج عدو اللّه حيى بن أخطب النضرى ، حتى أتى كعب بن أسد
(1/191)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 192
القرظى ، صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على قومه ، وعاقده على ذلك وعاهده. فلما سمع كعب بحيى بن أخطب ، أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حيى : ويحك يا كعب! افتح لى ، قال : ويحك يا حيى! إنك امرؤ مشئوم ، وإنى قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بينى وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا ، قال ويحك افتح لى أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : واللّه إن أغلقت دونى إلا عن جشيشك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب ، جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، حتى انزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم إلى جانب أحد ، قد عاهدونى وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه ، فقال له كعب : جئتنى واللّه بذل الدهر ، ويحك يا حيى ، فدعنى وما أنا عليه ، فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيى بكعب يفتله فى الذروة والغارب ، حتى سمح له ، على أن أعطاه عهدا من اللّه وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمدا ، أن أدخل معك فى حصنك ، حتى يصيبنى ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ مما كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة بن دليم ، أحد بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد اللّه بن رواحة ، أخو بنى الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير ، أخو بنى عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقّا ، فألحنو لى لحنا
(1/192)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 193
أعرفه ، ولا تفتوا فى أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم ، فاجهروا به للناس. فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، فيما نالوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقالوا : من رسول اللّه؟
لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاعتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما ، إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فسلموا عليه ، ثم قالوا : عضل والقارة - أى كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع ، خبيب وأصحابه - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللّه أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين.
وعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير ، أخو بنى عمرو بن عوف : كأن محمدا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وحتى قال أوس بن قيظى ، أحد بنى حارثة بن الحارث : يا رسول اللّه ، إن بيوتنا عورة من العدو ، وذلك عن ملأ من رجال قومه ، فائذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا ، فإنها خارج المدينة. فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأقام عليه المشركون بعضا وعشرين ليلة ، قريبا من شهر ، لم تكن بينهم حرب إلا المراماة بالنبل والحصار.
فلما اشتد على الناس البلاء ، بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، وإلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن (م 13 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/193)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 194
يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة فى ذلك. فلما أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فذكر ذلك لهما ، واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول اللّه ، أمرا تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك اللّه به ، لابد لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا؟
قال : بل شىء أصنعه لكم ، واللّه ما أصنع ذلك إلا لأننى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب. فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ : يا رسول اللّه ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان ، لا نعبد اللّه ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا له ، وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا؟ واللّه ما لنا بهذا من حاجة ، واللّه لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا.
فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون ، وعدوهم محاصروهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبدود بن أبى قيس ، أخو بنى عامر بن لؤى ، وعكرمة بن أبى جهل ، وهبيرة بن أبى وهب ، المخزوميان ، وضرار بن الخطاب الشاعر ، ابن مرداس ، أخو بنى محارب بن فهر ، تلبسوا للقتال ، ثم خرجوا على خيلهم ، حتى مروا بمنازل بنى كنانة ، فقالوا : تهيئوا يا بنى كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان
(1/194)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 195
اليوم ، ثم أقبلوا تعتق بهم خيلهم ، حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأره قالوا :
واللّه إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق ، فضربوا خيلهم ، فاقتحمت منه فجالت بهم فى السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج على بن أبى طالب رضى اللّه عنه فى نفر من المسلمين ، حتى أخذوا عليهم الثغرة التى أقحموا منها بخيلهم.
وأفبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد يوم أحد ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه.
فلما وقف هو وخيله ، قال : من يبارز؟ فبرز له على بن أبى طالب ، فقال له : يا عمرو ، إنك قد كنت عاهدت اللّه ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه؟ قال له : أجل ، قال له على : فإنى أدعوك إلى اللّه وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لى بذلك. قال : فإنى أدعوك إلى النزال. فقال له : يا بن أخى ، فو اللّه ما أحب أن أقتلك ، قال له على :
لكنى واللّه أحب أن أقتلك ، فحمى عمرو عند ذلك ، فاقتحم عن فرسه ، فعقره ، وضرب وجهه ثم أقبل على علىّ ، فتنازلا وتجاولا ، فقتله على رضى اللّه عنه ، وخرجت خيلهم منهزمة ، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فيما وصف اللّه من الخوف والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان ، أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
(1/195)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 196
فقال : يا رسول اللّه : إنى قد أسلمت ، وإن قومى لم يعلموا بإسلامى ، فمرنى بما شئت. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة ، وكان لهم نديما فى الجاهلية ، فقال : يا بنى قريظة ، قد عرفتم ودى إياكم ، وخاصة ما بينى وبينكم ، قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتهم ، فقال لهم :
إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ثفة لكم ، على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه. فقالوا له : لقد أشرت بالرأى ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبى سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودى لكم وفراقى محمدا ، وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت على حقّا أن أبلغكموه ، نصحا لكم فاكتموا عنى ، فقالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه :
إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالا من أشرافهم ، فنعطيكهم ، فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم : أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا
(1/196)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 197
ثم خرج حتى أتى غطفان ، فقال : يا معشر غطفان ، إنكم أصلى وعشيرتى ، وأحب الناس إلىّ ، ولا أراكم تتهمونى ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ، قال : فاكتموا عنى ، قالوا : نفعل ، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان من صنع اللّه لرسوله صلى اللّه عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا القتال ، حتى نناجز محمدا ، ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا ، فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقة لنا ، حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى أن ضرستكم الحرب ، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل فى بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : واللّه إن الذى حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بنى قريظة : إنا واللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة ، حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها. وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فى بلدكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا واللّه لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا.
فأبوا عليهم ، وخذل اللّه بينهم. وبعث اللّه عليهم الريح فى ليال شانية باردة
(1/197)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 198
شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما اختلف من أمرهم ، وما فرق اللّه من جماعتهم ، دعا حذيفة بن اليمان ، فبعثه إليهم ، لينظر ما فعل القوم ليلا.
قال حذيفة : فذهبت فدخلت فى القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان ، فقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى ، فقلت : من أنت؟ قال : فلان ابن فلان.
ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذى نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإنى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه ، فوثب به على ثلاث ، فو اللّه ما أطلق عقاله إلا وهو قائم ، ولولا عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى «أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى» ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة : فرجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم يصلى فى مرط لبعض نسائه ، مراجل ، فلما رآنى أدخلنى إلى رجليه ، وطرح علىّ طرف المرط ، ثم ركع وسجد ، وإنى لقيه ، فلما سلم أخبرته الخبر ، وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
ولما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ، ووضعوا السلاح.
(1/198)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 199
فلما كانت الظهر ، أتى جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أو قد وضعت السلاح يا رسول اللّه؟ قال : نعم ، فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن اللّه عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة ، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مؤذنا ، فأذن فى الناس ، من كان سامعا مطيعا ، فلا يصلينّ العصر إلا ببنى قريظة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
و قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علىّ بن أبى طالب برأيته إلى بنى قريظة ، وابتدرها الناس. فسار على بن أبى طالب ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فرجع حتى لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول اللّه ، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم؟ أظنك سمعت منهم لى أذى؟ قال : نعم يا رسول اللّه ، قال لو : رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حصونهم. قال : يا إخوان القردة ، هل أخزاكم اللّه وأنزل بكم نقمته؟ قالوا : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا.
ومر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفر من أصحابه بالصورين «1» قبل أن يصل إلى بنى قريظة فقال : هل مر بكم أحد؟ قالوا : يا رسول اللّه ، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبى ، على بغلة بيضاء عليها رحالة ، عليها قطيفة ديباج. فقال
__________
(1) الصورين : موضع قرب المدينة.
(1/199)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 200
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك جبريل ، بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب فى قلوبهم.
ولما أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنى قريظة نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم ، يقال لها : بئرأنىّ.
وتلاحق به الناس ، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلوا العصر ، لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «لا يصلينّ أحد العصر إلا ببنى قريظة» ، فشغلهم ما لم يكن منه بد فى حربهم ، وأبوا أن يصلوا ، لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : «حتى تأتوا بنى قريظة» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة ،
فما عابهم اللّه بذلك فى كتابه ، ولا عنفهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار وقذف اللّه فى قلوبهم الرعب.
و قد كان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم ، حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه. فلما أيقنوا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هى؟
قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فو اللّه لقد تبين لكم إنه لنبى مرسل ، وإنه للذى تجدونه فى كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره قال :
فإذا أبيتم على هذه ، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا ، حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد ،
(1/200)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 201
فإن نهلك نهلك ، ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء ، قالوا : نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش بعدهم؟ قال :
فإن أبيتم علىّ هذه ، فإن الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها ، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة ، قالوا : نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟ قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
ثم إنهم بعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أن ابعث إلينا أبا لبابة ابن عبد المنذر أخا بنى عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس ، لنستشيره فى أمرنا. فأرسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم ، فلما رأواه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه ، فرقّ لهم. وقالوا له :
يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه. إنه الذبح. قال أبو لبابة : فو اللّه ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ،
و لم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب اللّه على مما صنعت ، وعاهد اللّه ألا أطأ بنى قريظة أبدا ، ولا أرى فى بلد خنت اللّه ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال :
أما إنه لو جاءنى لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل ، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه.
(1/201)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 202
ثم إن توبة أبى لبابة نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من السحر ، وهو فى بيت أم سلمة. فقالت أم سلمة : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من السحر وهو يضحك ، فقلت : مم تضحك يا رسول اللّه ، أضحك اللّه سنك؟ قال : تيب على أبى لبابة ، قالت : قلت : أفلا أبشره يا رسول اللّه؟
قال : بلى ، إن شئت. فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - فقالت : يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب اللّه عليك. فثار الناس إليه ليطلقوه ، فقال : لا واللّه حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذى يطلقنى بيده ، فلما مر عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
و قد أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال ، تأتيه امرأته فى كل وقت صلاة ، فتحله للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع ، ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد ابن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بنى هدل ، ليسوا من بنى قريظة ولا النضير ، هم بنو عم القوم ، أسلموا تلك الليلة التى نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وخرج فى تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظى ، فمر بحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا؟ قال : أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله.
فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض
(1/202)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 203
إلى يومه هذا ، فذكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شأنه ، فقال : ذاك رجل نجاه اللّه بوفاته. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول اللّه ، إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت فى أموال إخواننا بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل بنى قريظة قد حاصر قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد اللّه بن أبىّ بن سلول ، فوهبهم له - فلما كلمته الأوس ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا : بلى ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ فى خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها : رفيدة ، فى مسجده ، كانت تداوى الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : اجعلوه فى خيمة رفيدة ، حتى أعوده من قريب. فلما حكمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بنى قريظة ، أتاه قومه ، فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم يقولون :
يا أبا عمرو ، أحسن فى مواليك ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم يقولون :
يا أبا عمرو ، أحسن فى مواليك ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه فى اللّه لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بنى عبد الأشهل ، فنعى لهم رجال بنى قريظة ، قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التى سمع منه ، فلما انتهى سعد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قوموا
(1/203)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 204
إلى سيدكم - فأما المهاجرون من قريش فيقولون : إنما أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأنصار ، وأما الأنصار ، فيقولون : قد عم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمر ، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد اللّه وميثاقه ، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا : نعم ، وعلى من هاهنا ، فى الناحية التى فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول اللّه صلى اللّه عليه إجلالا له. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم ، قال سعد : فإنى أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذرارى والنساء.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسعد : «لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة» ، ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة فى دار بنت الحارث ، امرأة من بنى النجار ، ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التى هى سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو اللّه حيى بن أخطب ، وكعب بن أسد ، رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. ولقد قالوا لكعب بن أسد ، وهم يذهب بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرسالا : يا كعب ، ما تراه يصنع بنا؟ قال : فى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع ، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو واللّه القتل. فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وأتى بحيى بن أخطب عدو اللّه ، وعليه حلة له من الوشى قد شقها عليه
(1/204)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 205
من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها - مجموعة يداه إلى عنقه بحبل - فلما نظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : أما واللّه ما لمت نفسى فى عداوتك ، ولكنه من يخذل اللّه يخذل. ثم أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر اللّه ، كتاب وقدر وملحمة كتبها اللّه على بنى إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه. قالت عائشة : ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة قالت عائشة : واللّه إنها لعندى تحدث معى ، وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقتل رجالها فى السوق ، إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة؟
قالت : أنا واللّه. قالت : قلت لها : ويلك! ما لك؟ قالت : أقتل. قلت : ولم؟ قالت :
لحدث أحدثته. قالت : فانطلق بها ، فضربت عنقها ، فكانت عائشة تقول : فو اللّه ما أنسى عجبا منها ، طيب نفسها وكثرة ضحكها ، وقد عرفت أنها تقتل.
وكان ثابت بن قيس بن الشماس قد أتى الزبير بن باطا القرظى ، وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس فى الجاهلية ، أخذه يوم بغاث فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه ثابت وهو شيخ كبير ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، هل تعرفنى؟ قال : وهل يجهل مثلى مثلك ، قال : إنى قد أردت أن أجزيك بيدك عندى ، قال : إن الكريم يجزى الكريم. ثم أتى ثابت بن قيس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، إنه قد كانت للزبير علىّ منّة ، وقد أحببت أن أجزيه بها ، فهب لى دمه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
هو لك ، فأتاه فقال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد وهب لى دمك ، فهو لك ، قال : شيخ كبير لا أهل له ولا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ قال : فأتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه : هب لى امرأته وولده ، قال : هم لك. قال : فأتاه ، فقال : قد وهب لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/205)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 206
أهلك وولدك ، فهم لك ، قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم ، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : ماله؟ قال :
هو لك.
فأتاه ثابت فقال : قد أعطانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك ، فهو لك ، قال : أى ثابت ، ما فعل الذى كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحى ، كعب بن أسد ، قال : قتل. قال : فما فعل سيد الحاضر والبادى حيى بن أخطب؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمتنا إذا شددنا ، وحاميتنا إذا فررنا ، عزال بن سموءل؟ قال : قتل. قال : فما فعل المجلسان؟
يعى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو بن قريظة ، قال : ذهبوا ، قتلوا قال :
فإنى أسألك يا ثابت بيدى عندك إلا ألحقتنى بالقوم ، فو اللّه ما فى العيش بعد هؤلاء من خير ، فما أنا بصابر للّه فتلة دلو ناضح «1» حتى ألقى الأحبة ، فقدمه ثابت ، فضرب عنقه.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قسم أموال بنى قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين. ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سعد بن زيد الأنصارى ، أخا بنى عبد الأشهل ، بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو ، إحدى نساء بنى عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى توفى عنها وهى فى ملكه ، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرض عليها أن يتزوجها ، ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول
__________
(1) الناضح : الحبل ، أى مقدار ما تخرج به الدلو من البئر.
(1/206)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 207
اللّه ، بل تتركى فى ملكك ، فهو أخف علىّ وعليك ، فتركها. وقد كانت حين سباها قد تعصت بالإسلام ، وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووجد فى نفسه لذلك من أمرها. فبينما هو مع أصحابه ، إذ سمع وقع نعلين خلفه ، فقال : إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال : يا رسول اللّه ، قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك من أمرها.
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، لو كنتم تغزونهم.
فلم تغزهم قريش بعد ذلك ، وكان هو الذى يغزوها حتى فتح اللّه عليه مكة.
ولما انقضى شأن الخندق ، وأمر بنى قريظة ، وكان سلام بن أبى الحقيق ، وهو أبو رافع. فيمن حزّب الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف ، فى عداوته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتحريضه عليه ، استأذنت الخروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى قتل سلام بن أبى الحقيق ، وهو بخيبر ، فأذن لهم.
76 - غزوة بنى لحيان
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهرى ربيع ، وخرج فى جمادى الأولى ، على رأس ستة أشهر من فتح قريظة ، إلى بنى لحيان ، يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدى وأصحابه ، وأظهر أنه يريد الشام ، ليصيب من القوم غرة. فخرج من المدينة صلى اللّه عليه وسلم ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فسلك على غراب ، جبل بناحية المدينة ، على طريقه إلى الشام ، ثم استقام به الطريق ، على المحجة من طريق
(1/207)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 208
مكة ، فأغذ السير سريعا ، إلى بلد يقال له : ساية ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا فى رءوس الجبال ، فلما نزلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأخطأه من غرتهم ما أراد ، قال : لو أنا هبطنا عسفان ، لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج فى مئتى راكب من أصحابه ، حتى نزل عسفان ، ثم بعث فارسين من أصحابه ، حتى بلغا كراع الغميم ، ثم كر ، و
راح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قافلا ، وهو يقول حين وجه راجعا : آيبون تائبون ، إن شاء اللّه ، لربنا حامدون ، أعوذ باللّه من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر فى الأهل والمال.
77 - غزوة ذى قرد
ثم قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فلم يقم بها إلا ليال قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى ، فى خيل من غطفان ، على لقاح لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بنى غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة فى اللقاح.
وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمى ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ، ومعه غلام لطلحة بن عبيد اللّه ، معه فرس له يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع ، نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فى ناحية سلع ، ثم صرخ : واصباحاه! ثم خرج يشتد فى آثار القوم ، وكان مثل السبع ، حتى لحق بالقوم ، فجعل يردهم بالنبل ، ويقول إذا رمى : خذها وأنا ابن الأكوع ، فإذا وجهت الخيل نحوه ، انطلق هاربا ، ثم عارضهم ، فإذا أمكنه الرمى رمى ، ثم قال : خذها وأنا ابن الأكوع.
وبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صياح ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع! فترامت الخيول إلى رسول
(1/208)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 209
اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فلما اجتمعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر عليهم سعد بن زيد ، ثم قال : اخرج فى طلب القوم ، حتى ألحقك فى الناس.
فخرج الفرسان فى طلب القوم ، حتى تلاحقوا. واستعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم ، وسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى نزل بالجبل من ذى قرد ، وتلاحق به الناس ، فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة ، وقسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أصحابه فى كل مائة رجل جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قافلا حتى قدم المدينة. فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا.
78 - غزوة بنى المصطلق
ثم غزا بنى المصطلق من خزاعة ، فى شعبان سنة ست ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفارى. وكان بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن بنى المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار ، أبو جويرية بنت الحارث ، زوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء يقال له : المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، فهزم اللّه بنى المصطلق وقتل من قتل منهم ، ونفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.
فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك الماء ، وردت واردة الناس.
ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار ، يقال له : جهجاه بن مسعود ، يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى ، حليف بنى عوف بن الخزرج على (م 14 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/209)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 210
الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهنى : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فغضب عبد اللّه بن أبىّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم :
زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أو قد فعلوها؟ أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتوهم أموالكم أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم ، لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عدوه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا ، ولكن أذن بالرحيل ، وذلك فى ساعة لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس.
وقد مشى عبد اللّه بن أبىّ بن سلول إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف باللّه : ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به - وكان فى قومه شريفا عظيما - فقال من حضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول اللّه ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم فى حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدبا على ابن أبىّ بن سلول ودفعا عنه.
فلما استقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة ، وسلم عليه ، ثم قال : يا نبى اللّه ، واللّه لقد رحت فى ساعة منكرة ، ما كنت تروح فى مثلها ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أو
(1/210)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 211
ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال : وأى صاحب يا رسول اللّه؟ قال : عبد اللّه بن أبىّ ، قال : وما قال؟ قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول اللّه واللّه تخرجه منها إن شئت ، هو واللّه الذليل وأنت العزيز.
ثم قال : يا رسول اللّه ، ارفق به ، فو اللّه لقد جاءنا اللّه بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثم مشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض ، فوقعوا نياما. وإنما فعل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس ، من حديث عبد اللّه ابن أبى ، ثم راح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس ، وسلك الحجاز ، حتى نزل على ماء بالحجاز ، فويق النقيع ، يقال له : بقعاء.
فلما راح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة ، آذتهم وتخوفوها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار.
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، أحد بنى قينقاع ، وكان عظيما من عظماء يهود ، وكهفا للمنافقين ، مات فى ذلك اليوم.
ثم إن عبد بن عبد اللّه بن أبى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :
يا رسول اللّه إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد اللّه بن أبى فيما بلغك عنه ، فإن كنت لابد فاعلا ، فمرنى به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى ، وإنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله ، فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبى يمشى فى الناس ، فأقتله ، فأقتل رجلا
(1/211)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 212
مؤمنا بكافر ، فأدخل النار. فقال : رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : بل نترفق به ، ونحسن صحبته ما بقى معنا. وجعل بعد ذلك إذا حدث الحدث ، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمر بن الخطاب ، حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قلت لى لأرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر :
قد واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعظم بركة من أمرى.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أصاب من بنى المصطلق سبيا كثيرا ، فقاسمه المسلمون ، وكان فيمن أصيب يومئذ من السبابا ، جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار. ولما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة بنى المصطلق ، ومعه جويرية بنت الحارث - وكان بذات الجيش - دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة ، وأمره بالاحتفاظ بها ، وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فأقبل أبوها الحارث بن أبى ضرار بفداء ابنته ، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التى جاء بها للفداء ، فرغب فى بعيرين منها ، فغيبهما فى شعب من شعاب العقيق ، ثم
أتى إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم وقال : يا محمد ، أصبتم ابنتى ، وهذا فداؤها. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق ، فى شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك محمد رسول اللّه ، فو اللّه ما اطلع على ذلك إلا اللّه ، فأسلم الحارث
، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين ، فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم ، ودفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت ، وحسن إسلامها ،
(1/212)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 213
فخطبها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.
79 - حديث الإفك
و تقول عائشة : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بنى المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع ، فخرج سهمى عليهن معه ، فخرج بى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكنت إذا رحل لى بعيرى ، جلست فى هودجى ، ثم يأتى القوم الذين يرحلون لى ويحملوننى ، فيأخذون بأسفل الهودج ، فيرفعونه ، فيضعونه على ظهر البعير ، فيشدونه بحباله ، ثم يأخذون برأس البعير ، فينطلقون به. فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سفره ذلك ، رجع قافلا ، حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن فى الناس بالرحيل ، فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتى ، وفى عنقى عقد لى ، فيه جزع ظفار «1» ، فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى ، فلما رجعت إلى الرحل ، ذهبت ألتمسه فى عنقى ، فلم أجده ، وقد أخذ الناس فى الرحيل ، فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافى ، الذين كانوا يرحلون لى البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أنى فيه ، كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدوه على البعير ، ولم يشكوا أنى فيه ، ثم أخذوا برأس البعير ، فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب. قد انطلق الناس.
__________
(1) ظفار : مدينة باليمن.
(1/213)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 214
فتلففت بجلبابى ، ثم اضطجعت فى مكانى ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلى ، فو اللّه إنى لمضطجعة إذ مر بى صفوان بن المعطل السلمى ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادى ، فأقبل حتى وقف علىّ - وقد كان برانى قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآنى قال : إنا للّه وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأنا متلففة فى ثيابى ، قال : ما خلفك برحمك اللّه؟ قالت : فما كلمته ، ثم قرب البعير ، فقال : اركبى ، واستأخر عنى. قالت : فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا ، يطلب الناس ، فو اللّه ما أدركنا الناس ، وما اقتقدت حتى أصبحت. ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل بقود بى البعير ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فاضطرب العسكر ، وواللّه ما أعلم بشىء من ذلك.
ثم قدمنا المدينة ، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغنى من ذلك شىء ، وقد انتهى الحديث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإلى أبوى ، لا يذكرون لى منه قليلا ولا كثيرا ، إلا أنى قد أنكرت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض لطفه بى ، كنت إذا اشتكيت رحمنى ، ولطف بى ، فلم يفعل ذلك بى فى شكواى تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل علىّ وعندى أمى تمرضنى ، قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك ، حتى وجدت فى نفسى ، فقلت : يا رسول اللّه ، حين رأيت ما رأيت من جفائه لى : لو أذنت لى فانتقلت إلى أمى ، فمرضتنى؟ قال : لا عليك. فانتقلت إلى أمى ، ولا علم لى بشىء مما كان ، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا ، لاتتخذ فى بيوتنا هذه الكنف التى تتخذها الأعاجم ، نعاقها ونكرهها ، إنما كنا نذهب فى فسح المدينة ، وإنما كانت النساء يخرجن
(1/214)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 215
كل ليلة فى حوائجهن ، فخرجت ليلة لبعض حاجتى ، ومعى أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وكانت أمها خالة أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه ، فو اللّه إنها لتمشى معى إذ عثرت فى مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، قلت :
بئس لعمر اللّه ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا ، قالت : أو ما بلغك الخير يا بنت أبى بكر؟ قلت : وما الخبر؟ فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك ، قالت : قلت : أو قد كان هذا؟ قالت : نعم واللّه لقد كان. قالت :
فو اللّه ما قدرت على أن أقضى حاجتى ، ورجعت. فو اللّه ما زلت أبكى حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى ، وقلت لأمى : يغفر اللّه لك ، تحدث الناس بما تحدثوا به ، ولا تذكرين لى من ذلك شيئا. قالت : أى بنية ، خففى عليك الشأن ، فو اللّه لقلما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها. لها ضرائر ، إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت : و
قد قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ، ويقولون عليهم غير الحق ، واللّه ما علمت منهم إلا خيرا ، ويقولون ذلك لرجل واللّه ما علمت منه إلا خيرا ، وما يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى.
وكان كبر ذلك عند عبد اللّه بن أبىّ بن سلول ، فى رجال من الخزرج ، مع الذى قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبنى «1» فى المنزلة عنده غيرها ، فأما زينب فعصمها اللّه تعالى بدينها ، فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة بنت جحش ، فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادنى لأختها ، فشقيت بذلك.
__________
(1) تناصبنى : تساوينى.
(1/215)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 216
فلما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك المقالة ، قال أسيد بن حضير :
يا رسول اللّه ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج ، فمرنا بأمرك ، فو اللّه إنهم لأهل أن نضرب أعناقهم ، قالت : فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا - فقال : كذبت لعمر اللّه ، لا نضرب أعناقهم ، أما واللّه ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد : كذبت لعمر اللّه ، ولكنك منافق ، تجادل عن المنافقين ، وتساور الناس ، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدخل على. فدعا على بن أبى طالب رضوان اللّه عليه ، وأسامة بن زيد ، فاستشارهما ، فأما أسامة فأثنى علىّ خيرا وقاله ، ثم قال : يا رسول اللّه ، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا ، وهذا الكذب والباطل.
وأما علىّ فإنه قال : يا رسول اللّه ، إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك. فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بريرة ليسألها ، قالت : فقام إليها على بن أبى طالب ، فضربها ضربا شديدا ، ويقول : اصدقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قالت : فتقول : واللّه ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة شيئا ، إلا أنى كنت أعجن عجينى ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه ، فتأتى الشاة فتأكله.
ثم دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعندى أبواى ، وعندى امرأة من الأنصار ، وأنا أبكى ، وهى تبكى معى ، فجلس ، فحمداللّه ، وأثنى عليه ، ثم قال : يا عائشة ، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقى اللّه ، وإن كنت قد فارفت سوءا
(1/216)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 217
مما يقول الناس ، فتوبى إلى اللّه فإن اللّه يقبل التوبة عن عباده ، فو اللّه ما هو إلا أن قال لى ذلك ، فقلص دمعى ، حتى ما أحس منه شيئا ، وانتظرت أبواى أن يجيبا عنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم يتكلما.
قالت : وايم اللّه ، لأنا كنت أحقر فى نفسى ، وأصغر شأنا من أن ينزل اللّه فى قرآنا يقرأ به فى المساجد ، ويصلى به ، ولكنى قد كنت أرجو أن يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نومه شيئا ، يكذب به اللّه عنى ، لما يعلم من براءتى ، أو يخبر خبرا ، فأما قرآن ينزل فىّ ، فو اللّه لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك. قالت : فلما لم أر أبواى يتكلمان ، قلت لهما : ألا تجيبان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقالا : واللّه ما ندرى بماذا نجيبه! قالت : واللّه ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر ، فى تلك الأيام ، فلما أن استعجما علىّ ، استعبرت فبكيت ، ثم قلت : واللّه لا أتوب إلى اللّه مما ذكرت أبدا ، واللّه إنى لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، واللّه يعلم أنى منه بريئة ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوننى ، ثم ألتمست اسم يعقوب فما أذكره ، فقلت : ولكن سأقول كما قال أبو يوسف : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
فو اللّه ما برح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما تغشاه ، فسجى بثوبه ، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ، فو اللّه ما فزعت ولا باليت ، قد عرفت أنى بريئة ، وأن اللّه عز وجل غير ظالمى ، وأما أبواى ، فو الذى نفس عائشة بيده. ما سرى عن
(1/217)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 218
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما ، فرقا من أن يأتى من اللّه تحقيق ما قال الناس.
ثم سرى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان فى يوم شات ، فجعل يسمح العرق عن جبينه ، ويقول : أبشرى يا عائشة ، فقد أنزل اللّه براءتك ، قالت : قلت : بحمد اللّه. ثم خرج إلى الناس ، فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل اللّه عليه من القرآن فى ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضربوا حدهم.
فلما نزل هذا فى عائشة ، وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته : واللّه لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا ، بعد الذى قال لعائشة ، وأدخل علينا ، فأنزل اللّه فى ذلك : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».
فقال أبو بكر : بلى واللّه : إنى لأحب أن يغفر اللّه لى ، فرجع إلى مسطح نفقته التى كان ينفق عليه وقال : واللّه لا أنزعها منه أبدا.
وكانت عائشة تقول : لقد سئل عن أبى المعطل فوجدوه رجلا حصورا ، ما يأتى النساء ، ثم قتل بعد ذلك شهيدا.
__________
(1) سورة النور : 22.
(1/218)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 219
80 - حديث الحديبية
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا ، وخرج فى ذى القعدة معتمرا ، لا يريد حربا.
و استعمل على المدينة نميلة بن عبد اللّه الليثى ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الأعراب ، ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذى صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ، معظما له.
وساق معه الهدى سبعين بدنة ، وكان الناس أربعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، حتى إذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعسفان «1» لقيه بشر بن سفيان الكعبى ، فقال : يا رسول اللّه ، هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل «2» ، قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذى طوى «3» ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم «4». فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ما ذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب ، فإن هم أصابونى كان الذى أرادوا ، وإن أظهرنى اللّه عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ،
__________
(1) عسفان : بين الجحفة ومكة.
(2) العوذ المطافيل : النساء والصبيان.
(3) ذو طوى : موضع قرب مكة.
(4) كراع الغميم : موضع بين مكة والمدينة.
(1/219)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 220
فو اللّه لا أزال أجاهد على الذى بعثى اللّه به حتى يظهره اللّه أو تنفرد هذه السالفة «1» ، ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها؟
قال رجل من أسلم : أنا يا رسول اللّه ، فسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب ، فلما خرجوا معه - وقد شق ذلك على المسلمين - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قولوا نستغفر اللّه ونتوب إليه. فقالوا ذلك. فقال :
و اللّه إنها للحطة «2» التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقولوها.
ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس ، فقال : اسلكوا ذات اليمين ، فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش غبار الجيش ، قد خالفوا طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا سلك فى ثنية المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت «3» الناقة ، قال : ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألوننى فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس : انزلوا ، قيل له : يا رسول اللّه ، ما بالوادى ماء ننزل عليه ، فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل به فى قليب من تلك القلب ، فغرزه فى جوفه ، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
فلما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعى ، فى رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه : ما الذى جاء به؟ فأخبرهم أنه لم
__________
(1) السالفة : صفحة العنق. [.....]
(2) يريد قوله تعالى لبنى إسرائيل : وَقُولُوا حِطَّةٌ.
(3) خلأت : بركت.
(1/220)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 221
يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته. ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا ، فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب.
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقبلا قال : هذا رجل غادر. فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكلمه ، قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إعظاما لما رأى ، فقال لهم ذلك. فقالوا له : اجلس : فإنما أنت أعرابى لا علم لك.
ثم إن الحليس غضب عند ذلك ، وقال : يا معشر قريش ، واللّه ما على هذا حالفنا كم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت اللّه من جاء معظما له؟ والذى نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له : مه ، كف عنا يا حليس ، حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به.
(1/221)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 222
ثم بعثوا إلى رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وسلم ، عروة بن مسعود الثقفى ، فقال : يا معشر قريش ، إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد سمعت بالذى نابكم ، فجمعت من أطاعنى من قومى ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى ، قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم ، فخرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال : يا محمد ، أجمعت أو شاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لنفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم اللّه ، لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. وأبو بكر الصديق خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد ، فقال : أنحن ننكشف عنه؟
قال : من هذا يا محمد؟ قال : هذا ابن أبى قحافة ، قال : أما واللّه لولا يد كانت لك عندى لكافأتك بها ، ولكن هذه بها ، ثم جعل يتناول لحية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يكلمه ، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الحديد ، فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قبل ألا تصل إليك ، فيقول عروة : ويحك! ما أفظعك وأغلظك! قال : فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له عروة : من هذا يا محمد؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ، قال : أى غدر! وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟
أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بنى مالك ، من ثقيف ، فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشر دية
(1/222)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 223
و أصلح ذلك الأمر.
فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا.
وقد رأى عروة ما يصنع به أصحابه فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنى قد جئت كسرى فى ملكه ، وقيصر فى ملكه ، والنجاشى فى ملكه ، وإنى واللّه ما رأيت ملكا فى قوم قط مثل محمد فى أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا ، فروا رأيكم.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، دعا خراش بن أمية الخزاعى ، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له ، يقال له : الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم إن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم ، أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بمعسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأتى بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا فى معسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ، ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول اللّه ، إنى أخاف قريشا على نفسى ، وليس بمكة من بنى عدى ابن كعب أحد يمنعنى. وقد عرفت قريش عداوتى إياها ، وغلظتى عليها ، ولكنى أدلك على رجل أعز بها منى : عثمان بن عفان. فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم
(1/223)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 224
أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ، ومعظما لحرمته. فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره ، حتى بلغ رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال :
ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون أن عثمان ابن عفان قد قتل.
81 - بيعة الرضوان
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال ، حين بلغه أن عثمان قد قتل :
لا نبرح حتى نناجز القوم. فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس إلى البيعة
، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون :
بايعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الموت. وكان جابر بن عبد اللّه يقول : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر.
فبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بنى سلمة ، فكان جابر ابن عبد اللّه يقول : واللّه لكأنى أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، يستتر بها من الناس.
(1/224)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 225
ثم أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن الذى ذكر من أمر عثمان باطل.
82 - الهدنة
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بنى عامر بن لؤى ، إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقالوا له : إيت محمدا فصالحه ، ولا يكن فى صلحه إلا ان يرجع عنا عامه هذا ، فو اللّه لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو ،
فلما رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقبلا ، قال :
قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تكلّم ، فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول اللّه؟ قال : بلى ، قال : أو لسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ، قال : أو ليسوا بالمشركين؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه «1» ، فإنى أشهد أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول اللّه. ثم
أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، ألست برسول اللّه؟ قال : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ، قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى.
قال : فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ قال : أنا عبد اللّه ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعنى!
فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلى وأعتق ، من
__________
(1) الزم غرزه : الزم أمره.
(م 15 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/225)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 226
الذى صنعت يومئذ ، مخافة كلامى الذى تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
ثم دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بن أبى طالب رضوان اللّه عليه ، فقال : اكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
اكتب باسمك اللهم ، فكتبها. ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول اللّه لم أقاتلك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه ، سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر منين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن فى عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر ، فقالوا : نحن فى عقد قريش وعهدهم ، وإنك ترجع عنا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، وإنه إذا كان عام قابل ، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب ، السيوف فى القرب ، لا تدخلها بغيرها.
(1/226)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 227
قد بعثته قريش إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد فى المدة ، وقد رهبوا الذى صنعوا. فلما لقى أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال : من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : تسيرت فى خزاعة فى هذا الساحل ، وفى بطن هذا الوادى ، قال : أو ما جئت محمدا! قال : لا. فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان : لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف باللّه لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبى سفيان. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طوته عنه ، فقال : يا بنية ، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت : بل هو فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال : واللّه لقد أصابك يا بنية بعدى شر ، ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئا ، ثم ذهب إلى أبى بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟
فو اللّه لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على علىّ بن أبى طالب رضوان اللّه عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورضى عنها ، وعندها الحسن بن علىّ ، غلام يدب بين يديها ، فقال : يا على ، إنك أمس القوم بى رحما ، وإنى قد جئت فى حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائبا ، فاشفع لى إلى رسول اللّه ، فقال : ويحك يا أبا سفيان! واللّه لقد عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر ، ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة فقال : يابنة محمد ، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين
(1/227)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 228
و محمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص ، وهو يومئذ مشرك ، وعلى بن أبى طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة.
فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الصلح قدم إلى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق رأسه. فلما رأى الناس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نحر وحلق ، تواثبوا ينحرون ويحلقون.
ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وجهه ذلك قافلا ، حتى إذا كان بين مكة والمدينة ، نزلت سورة الفتح. فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، وإنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، ولقد دخل فى تينك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك ، أو أكثر.
83 - غزوة خيبر
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، حين رجع من الحديبية ، ذا الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج فى بقية المحرم إلى خيبر.
واستعمل على المدينة نميلة بن عبد اللّه الليثى ، ودفع الراية إلى على بن أبى طالب رضى اللّه عنه ، وكانت بيضاء.
ويقول أنس بن مالك : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذائا أمسك ، وإن لم يسمع أذانا أغار.
فنزلنا خيبر ليلا ، فبات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا أصبح لم يسمع أذانا ، فركب وركبنا معه ، فركبت خلف أبى طلحة ، وإن قدمى لتمس قدم
(1/228)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 229
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واستقبلنا عمال خيبر غادين ، قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والجيش ، قالوا : محمد والخميس معه! فأدبروا هرابا ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللّه أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين!
و تدنى «1» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ، ويفتحها حصنا حصنا ، وأصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم سبايا ، منهن : صفية بنت حيى بن أخطب وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وبنتى عم لها ، فاصطفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صفية لنفسه.
وكان دحية بن خليفة الكلبى قد سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صفية ، فلما اصطفاها لنفسه ، أعطاه ابنتى عمها ، وفشت السبايا من خيبر فى المسلمين.
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بنى النضير ، فسأله عنه ، فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من يهود ، فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك : أأقتلك؟ قال : نعم. فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقى ، فأبى أن يؤديه ، فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الزبير بن العوام ، فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده
، فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
__________
(1) تدنى : أخذ الأدنى فالأدنى.
(1/229)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 230
فلما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أعدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية «1» ، وقد سألت : أى عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تناول الذراع ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء ابن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأما بشر فأساغها ، و
أما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم ، ثم دعا بها ، فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك؟ قالت :
بلغت من قومى ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وإن كان نبيّا فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومات بشر من أكلته التى أكل.
فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خيبر ، قذف اللّه الرعب فى قلوب أهل فدك ، حين بلغهم ما أوقع اللّه تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويصالحونه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر ، أو بالطائف ، أو بعد ما قدم المدينة ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالصة ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح خيبر جعفر بن أبى طالب رضى اللّه عنه ، فقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين عينيه والتزمه وقال :
ما أدرى بأيهما أنا أسر : بفتح خيبر أم يقدوم جعفر؟
__________
(1) مصلية : مشوية.
(1/230)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 231
84 - عمرة القضاء
فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة من خيبر ، أقام بها شهرى ربيع وجماديين ورجبا وشعبان ورمضان ، وشوالا ، يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذى صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التى صدوه عنها.
واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الديلى ، ويقال لها : عمرة القصاص ، لأنهم صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست ، فاقتص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم. فدخل مكة فى ذى القعدة وفى الشهر الحرام الذى صدوه فيه ، من سنة سبع.
وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه فى عمرته تلك ، وهى سنة سبع ، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه ، وتحدثت قريش بينها أن محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدة ، وصفوا له عند دار الندوة ، لينظروا إليه ، وإلى أصحابه ،
فلما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسجد اضطجع بردائه ، وأخرج عضده اليمنى ، ثم قال : رحم اللّه أمرا أراهم اليوم من نفسه قوة
، ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه ، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى ، مشى حتى يستلم الركن الأسود ، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ، ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحى من قريش للذى بلغه عنهم ، حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها ، فمضت السنة بها.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث فى سفره ذلك وهو حرام ، وكان الذى زوجه إياها العباس بن عبد المطلب ، وكانت
(1/231)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 232
جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل ، وكانت أم الفضل تحت العباس ، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس ، فزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، وأصدقها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم.
فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ثلاثا ، فأتاه حويطب بن عبد العزى فى نفر من قريش ، فى اليوم الثالث ، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة ، فقالوا له : إنه قد انقضى أجلك ، فأخرج عنا.
فقال النبى صلى اللّه عليه وسلم : وما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟ قالوا : لا حاجة لنا فى طعامك ، فأخرج عنا.
فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة ، حتى أتاه بها بسرف ، فبنى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هنا لك ، ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة فى ذى الحجة ، فأقام بها بقية ذى الحجة ، والمحرم وصفر وشهرى ربيع.
85 - غزوة مؤتة
و بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثة إلى مؤتة ، فى جمادى الأولى سنة ثمان ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة ، وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبى طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبد اللّه بن رواحة على الناس.
فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج ، وهم ثلاثة آلاف ، فلما حضر خروجهم ، ودع الناس أمراء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسلموا عليهم ، فلما ودع عبد اللّه بن رواحة من ودع ، من أمراء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بكى ،
(1/232)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 233
فقالوا : ما يبكيك يابن رواحة؟ فقال : أما واللّه ما بى حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكنى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ آية من كتاب اللّه عز وجل ، يذكر فيها النار وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ، فلست أدرى كيف لى بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون : صحبكم اللّه ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين. ثم خرج القوم ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يودعهم ، ثم مضوا حتى نزلوا معان ، من أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء ، فى مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى ، مائة ألف منهم ، فلما بلغ ذلك المسلمون أقاموا على معان ليلتين ، يفكرون فى أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضى له. فشجع الناس عبد اللّه بن رواحة ، وقال : يا قوم ، واللّه إن التى تكرهون ، للتى خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما تقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا اللّه به ، فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة. فقال الناس : قد واللّه صدق ابن رواحة.
فمضى الناس ، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء ، لقيتهم جموع هرقل ، من الروم والعرب ، بقرية من قرى البلقاء ، يقال لها : مشارف ، ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة ، فالتقى الناس عندها ، فتعبأ لهم المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة ، يقال له : قطبة بن قتادة ، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار ، يقال له : عباية بن مالك ، ثم التقى الناس واقتتلوا ، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى شاط «1» فى رماح القوم.
__________
(1) شاط : سال دمه فهلك.
(1/233)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 234
ثم أخذها جعفر ، فقاتل بها ، حتى إذا ألجمه القتال ، اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل ، فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر فى الإسلام ، أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضى اللّه عنه ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه اللّه بذلك جناحين فى الجنة يطير بهما حيث شاء.
فلما قتل جعفر ، أخذ عبد اللّه بن رواحة الراية ، ثم تقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم ، فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ، ثم انتهش منه نهشة ، ثم سمع الحطمة «1» فى ناحية الناس ، فقال : وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم ، أخو بنى العجلان ، فقال : يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية دافع القوم ، وحاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف بالناس.
ولما أصيب القوم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أخذ الراية زيد بن حارثة ، فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم أخذها جعفر ، فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم صمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار ، وظنوا أنه قد كان فى عبد اللّه بن رواحة بعض ما يكرهون ، ثم قال :
ثم أخذها عبد اللّه بن رواحة ، فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم قال : لقد رفعوا إلى فى الجنة ، فيما يرى النائم ، على سرر من ذهب ، فرأيت فى سرير
__________
(1) الحطمة : زحام الناس.
(1/234)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 235
عبد اللّه بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه ، فقلت : عم هذا؟ فقيل لى :
مضيا ، وتردد عبد اللّه بعض التردد ، ثم مضى.
و لما دنوا من حول المدينة ، تلقاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون ، ولقيهم الصبيان يشتدون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة ، فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطونى ابن جعفر ، فأتى بعبد اللّه ، فأخذه فحمله بين يديه ، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ، ويقولون :
يا فرار ، فررتم فى سبيل اللّه! فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء اللّه تعالى.
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا.
86 - فتح مكة :
ثم إن بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة ، وكان الذى هاج ما بين بنى بكر وخزاعة ، أن رجلا من بنى الحضرمى ، خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة ، عدوا عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله ، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه ، فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل الناس به ، فلما كان صلح الحديبية بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشرط لهم ، أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة فى عقد
(1/235)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 236
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعهده. فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل ، من بنى بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منها ثأرا ، ورفدت بنى بكر قريش بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم.
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العهد والميثاق ، بما استحلوا من خزاعة - وكانوا فى عقده وعهده - خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، أحد بنى كعب ، حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة - وكان ذلك مما هاج فتح مكة - فوقف عليه وهو جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس ، فقال :
يا رب إنى ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نصرت يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنان من السماء ، فقال : إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب.
ثم خرج بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة ، حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، و
قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للناس : كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد ، ويزيد فى المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ،
(1/236)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 237
قد بعثته قريش إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد فى المدة ، وقد رهبوا الذى صنعوا. فلما لقى أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال : من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : تسيرت فى خزاعة فى هذا الساحل ، وفى بطن هذا الوادى ، قال : أو ما جئت محمدا! قال : لا. فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان : لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف باللّه لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبى سفيان. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، طوته عنه ، فقال : يا بنية ، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت : بل هو فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال : واللّه لقد أصابك يا بنية بعدى شر ، ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئا ، ثم ذهب إلى أبى بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟
فو اللّه لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على علىّ بن أبى طالب رضوان اللّه عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورضى عنها ، وعندها الحسن بن علىّ ، غلام يدب بين يديها ، فقال : يا على ، إنك أمس القوم بى رحما ، وإنى قد جئت فى حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائبا ، فاشفع لى إلى رسول اللّه ، فقال : ويحك يا أبا سفيان! واللّه لقد عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر ، ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة فقال : يا بنة محمد ، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين
(1/237)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 238
الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت : واللّه ما بلغ بنى ذاك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال :
يا أبا الحسن ، إنى أرى الأمور قد اشتدت على ، فانصحنى. قال : واللّه ما أعلم لك شيئا يغنى عنك شيئا ، ولكنك سيد بنى كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال : لا واللّه ما أظنه ، ولكنى لا أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان فى المسجد ، فقال : أيها الناس ، إنى قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش ، قالوا : ما وراءك؟ قال : جئت محمدا فكلمته ، فو اللّه مارد علىّ شيئا ، ثم جئت ابن أبى قحافة ، فلم أجد فيه خيرا ، ثم جئت عليّا فوجدته ألين القوم ، وقد أشار على بشىء صنعته ، فو اللّه ما أدرى هل يغنى ذلك شيئا أم لا؟ قالوا : ويلك! واللّه إن زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغنى عنك ما قلت ، قال : لا واللّه ، ما وجدت غير ذلك.
وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضى اللّه عنها ، وهى تحرك بعض جهاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : أى بنية : أأمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت : نعم ، فتجهز ، قال : فأين قرينه يريد؟ قالت : لا واللّه ما أدرى.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجهد والتهيؤ ، وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها.
فتجهز الناس.
(1/238)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 239
و لما أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب ابن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأمر ، فى السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا ، فجعلته فى رأسها ، ثم فتلت قرونها ، ثم خرجت به.
وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث على بن أبى طالب والزبير ابن العوام ، رضى اللّه عنهما ، فقال : أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبى بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له فى أمرهم. فخرجا حتى أدركاها بالخليفة «1» فاستنزلاها ، فالتمسا فى رحلها ، فلم يجدا شيئا ، فقال لها على ابن أبى طالب : إنى أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا كذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه ، قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاطبا ، فقال : يا حاطب ، ما حملك على هذا؟ فقال : يا رسول اللّه ، أما واللّه إنى لمؤمن باللّه ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكنى كنت امرأ ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ، دعنى فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : وما يدريك يا عمر ، لعل اللّه قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم.
__________
(1) الخليفة : موضع.
(1/239)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 240
ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبارهم ، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفارى ، وخرج لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج ، أفطر. ثم مضى حتى نزل مرالظهران فى عشرة آلاف من المسلمين ، وأوعب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المهاجرون والأنصار ، فلم يتخلف عنه منهم أحد.
فلما نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش فلم يأتهم خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يدرون ما هو فاعل. وخرج فى تلك الليالى أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتحسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبرا ، أو يسمعون به. وقد كان العباس بن عبد المطلب لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعض الطريق ، وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعبد اللّه بن أبى أمية بن المغيرة ، قد لقيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيضا بنيق العقاب ، فيما بين مكة والمدينة ، فالتمسا الدخول عليه ،
فكلمته أم سلمة فيهما ، فقالت : يا رسول اللّه ، ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال : لا حاجة لى بهما ، أما ابن عمى فهتك عرضى ، وأما ابن عمتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبى سفيان بنى له ، فقال : واللّه ليأذنن لى أو لآخذن بيدى بنى هذا ثم لنذهبن فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رق لهما ، ثم أذن لهما ، فدخلا عليه فأسلما.
(1/240)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 241
و لما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ذى طوى ، وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء. وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا للّه حينرأى ما أكرمه اللّه به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين فرق جيشه من ذى طوى ، أمر الزبير بن العوام أن يدخل فى بعض الناس من كدى ، وكان الزبير على المجنبة اليسرى ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل فى بعض الناس من كداء.
و أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فدخل من الليط ، أسفل مكة ، فى بعض الناس ، وكان خالد على المجنبة اليمنى ، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ، ينصب لمكة بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أذاخر ، حتى نزل بأعلى مكة ، وضربت له هنالك قبته.
ثم إن صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبى جهل ، وسهيل بن عمرو ، كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا ، وقد كان حماس بن قيس بن خالد ، أخو بنى بكر ، يعد سلاحا قبل دخول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويصلح منه ، فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أرى؟ قال : لمحمد وأصحابه ، قالت : واللّه ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شىء ، قال : واللّه إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة. فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن (م 16 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/241)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 242
الوليد ، ناوشوهم شيئا من قتال ، فقتل كرز بن جابر ، أحد بنى محارب بن فهر ، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم ، حليف بنى منقذ ، وكانا فى خيل خالد بن الوليد ، فشذا عنه ، فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا.
وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء ، من خيل خالد بن الوليد ، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثنى عشر رجلا ، أو ثلاثة عشر رجلا ، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما ، حتى دخل بيته ، ثم قال لامرأته : أغلقى على بابى ، فقالت : فأين ما كنت تقول؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمه إذ فر صفوان وفر عكرمه
لهم نهيت «1» خلفنا وهمهمه لم تنطقى فى اللوم أدنى كلمه
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما نزل مكة واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعا على راحلته ، يستلم الركن بمحجن فى يده.
فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استدار له الناس فى المسجد ، ثم
جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى المسجد ، فقام إليه على بن أبى طالب ومفتاح الكعبة فى يده ، فقال يا رسول اللّه ، أجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى اللّه عليك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له ، فقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء.
__________
(1) النهيت : صوت الصدر.
(1/242)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 243
87 - غزوة حنين
و لما سمعت هوازن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وما فتح اللّه عليه من مكة ، جمعها مالك بن عوف النصرى. ولما سمع بهم نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إليهم عبد اللّه بن أبى حدرد الأسلمى ، وأمره أن يدخل فى الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ، ثم يأتيه بخبرهم. فانطلق بن أبى حدرد ، فدخل فيهم فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى
أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره الخبر. فدعا رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وسلم ، عمر بن الخطاب ، فأخبره الخبر. فقال عمر : كذب ابن أبى حدرد. فقال ابن أبى حدرد : إن كذبتنى فربما كذبت بالحق يا عمر ، فقد كذبت من هو خير منى.
فقال عمر : يا رسول اللّه ، ألا تسمع ما يقول ابن أبى حدرد؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قد كنت ضالا فهداك اللّه يا عمر.
فلما أجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم ، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا له وسلاحا ، فأرسل إليه - وهو يومئذ مشرك - فقال : يا أبا أمية ، أعرنا سلاحك هذا ، نلق فيه عدونا غدا ، فقال :
صفوان : أغصبا يا محمد؟ قال : بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك ، قال :
ليس بهذا بأس.
فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح ، فزعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ، ففعل.
ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة ، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، ففتح اللّه بهم مكة ، فكانوا اثنى عشر ألفا. واستعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبى العيص
(1/243)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 244
ابن أمية بن عبد شمس على مكة ، أميرا على من تخلف عنه من الناس ، ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على وجهه يريد لقاء هوازن.
ويقول جابر : لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا فى واد من أودية تهامة أجوف حطوط ، إنما ننحدر فيه انحدارا ، فى عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادى ، فكمنوا لنا فى شعابه وأحنائه ومضايقه ، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا ، فو اللّه ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، واستمر الناس راجعين ، لا يلوى أحد على أحد ، وانحاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات اليمين ، ثم قال : أين أيها الناس؟ هلموا لى ، أنا رسول اللّه ، أنا محمد بن عبد اللّه.
فانطلق الناس ، إلا أنه قد بقى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته ، فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن.
و يقول العباس بن عبد المطلب : إنى لمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء ، وكنت امرأ جسما شديد الصوت ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ، حين رأى ما رأى من الناس : أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شىء ، فقال : يا عباس ، اصرخ ، يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة! فأجابوا : لبيك! لبيك! قال : فيذهب الرجل ليثنى بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه ، فيقذفها فى عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ، ويقتحم عن بعيره ، ويخلى سبيله ، فيؤم الصوت ، حتى ينتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة ، استقبلوا الناس
(1/244)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 245
فاقتتلوا ، وكانت الدعوى أول ما كانت : ياللأنصار! ثم خلصت أخيرا :
باللخزرج! وكانوا صبرا عند الحرب. فأشرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ركائبه ، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون ، فقال : الآن حمى الوطيس ، والتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان حسن الإسلام حين أسلم ، وهو آخذ بسير بغلته ، فقال : من هذا؟ قال : أنا ابن أمك ، يا رسول اللّه.
ولما انهزم المشركون ، أتو الطائف ، ومعهم مالك بن عوف ، وعسكر بعضهم بأوطاس ، وتوجه بعضهم نحو نخلة ، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف ، وتبعت خيل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سلك فى نخلة من الناس ، ولم تتبع من سلك الثنايا.
وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرى ، فأدرك من الناس بعض من انهزم ، فناوشوه القتال ، فرمى أبو عامر بسهم فقتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى ، وهو ابن عمه ، فقاتلهم ، ففتح اللّه على يديه وهزمهم.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مر يومئذ بامرأة ، وقد قتلها خالد ابن الوليد والناس مزدحمون عليها ، فقال : ما هذا؟ فقالوا؟ امرأة قتلها خالد ابن الوليد : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لبعض من معه : أدرك خالدا فقل له : إن رسول اللّه ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا «1».
__________
(1) العسيف : الأجير.
(1/245)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 246
88 - غزوة الطائف
و لما قدم فل ثقيف الطائف ، أغلقوا عليهم أبواب مدينتها ، وصنعوا الصنائع للقتال. ثم صار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين ، فسلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على نخلة اليمانية ، ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى نزل قريبا من الطائف ، فضرب به عسكره ، فقتل به ناس من أصحابه بالنبل ، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف ، فكانت النبل تنالهم ، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم ، أغلقوه دونهم ، فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل ، وضع عسكره عند مسجده الذى بالطائف اليوم ، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، ومعه امرأتان من نسائه ، إحداهما أم سلمة بنت أبى أمية ، فضرب لهما قبتين ، ثم صلى بين القبتين ، ثم أقام. فلما أسلمت ثقيف بنى على مصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن أمية مسجدا ، وكانت فى ذلك المسجد سارية ، فيما يزعمون فحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقاتلهم قتالا شديدا ، وتراموا بالنبل.
ورماهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمنجنيق ، حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف ، دخل نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت دبابة ، ثم زحفوا بها إلى جدران الطائف ليخرقوه ، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالا ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف ، فوقع الناس فيها يقطعون.
ثم إن خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية ، وهى امرأة عثمان ، قالت : يا رسول اللّه ، أعطنى إن فتح اللّه عليك الطائف حلى
(1/246)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 247
بادية بنت غيلان بن مظعون بن سلمة ، أو حلى الفارعة بنت عقيل ، وكانتا من أحلى نساء ثقيف ، فذكر لى
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لها : وإن كان لم يؤذن لى فى ثقيف يا خويلة؟ فخرجت خويلة ، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب ، فدخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ما حديث حدثتنيه خويلة ، زعمت أنك قلته؟ قال : قد قلته ، قال : أو ما أذن لك فيهم يا رسول اللّه؟ قال : لا. قال : أفلا أؤذن بالرحيل؟ قال : بلى. قال :
فأذن عمر بالرحيل.
وتزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى إقامته ممن كان محاصرا بالطائف عبيد ، فأسلموا ، فأعتقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ولما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم فى أولئك العبيد ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا ، أولئك عتقاء اللّه.
ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين انصرف عن الطائف فيمن معه من الناس ، ومعه من هوازن سى كثير.
وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف : يا رسول اللّه ، ادع عليهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللهم اهد ثقيفا وائت بهم.
ثم إن وفد هوازن أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وقد أسلموا ، فقالوا :
يا رسول اللّه ، إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا ، منّ اللّه عليك. وقام رجل من هوازن فقال : يا رسول اللّه ، إنما فى الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك ، ولو أنا ملحنا «1»
__________
(1) ملحنا : أرضعنا.
(1/247)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 248
للحارث بن أبى شمر ، أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزل بنا بمثل الذى نزلت به ، رجونا عطفه وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا : يا رسول اللّه ، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا ، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا ، فهو أحب إلينا. قال لهم : أماما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم ، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس ، فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول اللّه ، فى أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم عند ذلك ، وأسأل لكم. فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس الظهر ، قاموا ، فتكلموا بالذى أمرهم به ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
و أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ولما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب ، واتبعه الناس يقولون : يا رسول اللّه ، أقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم ، حتى ألجئوه إلى شجرة ، فاختطفت عنه رداءه ، فقال : أدوا على ردائى ، أيها الناس ، فو اللّه أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتمونى بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ، ثم قام إلى جنب بعير ، فأخذه وبرة من سنامه ، فجعلها بين إصبعيه ، ثم رفعها ، ثم قال : أيها الناس ، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم.
(1/248)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 249
و أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافا من أشراف الناس ، يتألفهم ويتألف بهم قومهم.
ولما أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا ، فى قريش وفى قبائل العرب ، ولم يكن فى الأنصار منها شىء ، وجد هذا الحى من الأنصار فى أنفسهم ، حتى كثرت منهم القالة ، حتى قال قائلهم : لقد لقى واللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومه. فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال :
يا رسول اللّه ، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم ، لما صنعت فى هذا الفىء الذى أصبت ، قسمت فى قومك ، وأعطيت عطايا عظاما فى قبائل العرب ، ولم يك فى هذا الحى من الأنصار منها شىء. قال : فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال : يا رسول اللّه ، ما أنا إلا من قومى. قال : فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة. فخرج سعد ، فجمع الأنصار فى تلك الحظيرة ، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم ، فدخلوا وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحى من الأنصار ، فأتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ، ما قالة بلغتنى عنكم ، وجدة وجدتموها علىّ فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم اللّه ، وعالة فأغناكم اللّه ، وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم؟ قالوا : بلى ، اللّه ورسوله أمن وأفضل. ثم قال : ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟ قالوا :
بماذا نجيبك يا رسول اللّه؟ للّه ولرسوله المنّ والفضل. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أما واللّه لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدّقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك :
و مخذولا فنصرناك ، وطريدا فاويناك ، وعائلا فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى أنفسكم فى لعاعة «1» من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم
__________
(1) اللعاعة. بقلة خضراء ناعمة ، شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها.
(1/249)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 250
إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار ، أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟ فو الذى نفس محمد بيده ، لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول اللّه قسما وحظّا ، ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتفرقوا.
ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الجعرانة معتمرا ، وأمر ببقايا الفىء فحبس بمجنة ، بناحية مر الظهران ، فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة ، وخلف معه معاذ بن جبل ، يفقه الناس فى الدين ، ويعلمهم القرآن ، واتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببقايا الفىء.
ولما استعمل النبى صلى اللّه عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهما ، فقام فخطب الناس ، فقال : أيها الناس ، أجاع اللّه كبد من جاع على درهم ، فقد رزقنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم درهما كل يوم ، فليست بى حاجة إلى أحد.
وكانت عمرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ذى القعدة ، فقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة فى بقية ذى القعدة ، أو فى ذى الحجة.
(1/250)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 251
و قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة لست ليال بقين من ذى القعدة.
وحج الناس تلك السنة ، على ما كانت العرب تحج عليه ، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد ، وهى سنة ثمان.
وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم فى طائفهم ، ما بين ذى القعدة ، إذ انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى شهر رمضان من سنة تسع.
89 - غزوة تبوك
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، وذلك فى زمان من عسرة الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام فى ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذى هم عليه. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلما يخرج فى غزوة إلا كنى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى يصند له ، إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذى يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته ، فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم ، وهو فى جهازه ذلك ، للجدين قيس ، أحد بنى سلمة : يا جد ، هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟
(1/251)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 252
فقال : يا رسول اللّه ، أو تأذن لى ولا تفتنى؟ فو اللّه لقد عرف قومى أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء منى ، وأنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر ، فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : قد أذنت لك.
وبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى ، يثبطون الناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك ، فبعث إليهم النبى صلى اللّه عليه وسلم طلحة بن عبيد اللّه فى نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن حليفة من ظهر البيت ، فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه ، فأفلتوا.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جد فى سفره ، وأمر الناس بالجهاز والانكماش ، وحفص أهل الغنى على النفقة والحملان «1» فى سبيل اللّه ، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا ، وأنفق عثمان بن عفان فى ذلك نفقة عظيمة ، لم ينفق أحد مثلها.
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة ،
فقال : لا أجد ما أحملكم عليه
، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
__________
(1) الحملان : ما يحمل عليه من الدواب.
(1/252)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 253
فلقى ابن يامين بن عمير بن كعب النضرى ، أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب ، وعبد اللّه بن مغفل ، وهما يبكيان ، قال : ما يبكيكما؟ قالا : جئنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه ، فأعطاهما ناضحا له ، فارتحلاه ، وزودهما شيئا من تمر ، فخرجا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وجاءه المعذرون من الأعراب ، فاعتذروا إليه ، فلم يعذرهم اللّه تعالى.
واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى ، فلما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تخلف عنه عبد اللّه بن أبى ، فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بن أبى طالب ، رضوان اللّه عليه ، على أهله ، وأمره بالإقامة فيهم ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا :
ما خلفه إلا استثقالا له ، وتخففا منه ، فلما قال ذلك المنافقون
أخذ على بن أبى طالب ، رضوان اللّه عليه ، سلاحه ، ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو نازل بالجرف ، فقال : يا نبى اللّه ، زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى أنك استثقلتنى وتخففت منى ، فقال : كذبوا ، ولكننى خلفتك لما تركت ورائى ، فارجع فاخلفنى فى أهلى وأهلك ، أفلا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبى بعدى ، فرجع على إلى المدينة ، ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سفره.
(1/253)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 254
ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أياما إلى أهله فى يوم حار ، فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائطه ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء ، وهيأت له طعاما ، فلما دخل ، قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الضح «1» والريح والحر ، وأبو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيأ ، وامرأة حسناء ، فى ماله مقيم ، ما هذا بالنصف! ثم قال : واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما ، حتى ألحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فهيئا لى زادا ، ففعلتا. ثم قدم بعيره فارتحله ، ثم خرج فى طلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.
وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحى فى الطريق ، يطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك ، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لى ذنبا ، فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ففعل ، حتى إذا دنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو نازل بتبوك ، قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كن أبا خيثمة ، فقالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو خيثمة.
فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أولى لك يا أبا خيثمة. ثم أخبر رسول اللّه صلى اللّه
__________
(1) الضح : الشمس. [.....]
(1/254)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 255
عليه وسلم الخبر ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير.
و قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها ، واستقى الناس من بئرها ، فلما راحوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تشربوا من مائها شيئا ، ولا تتوضئوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا ، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته ، وخرج الآخر فى طلب بعير له.
فأما الذى ذهب لحاجة فإنه خنق على مذهبه ، وأما الذى ذهب فى طلب بعيره ، فاحتملته الريح ، حتى طرحته بجبلى طيىء ، فأخبر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه. ثم دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للذى أصيب على مذهبه فشفى ، وأما الآخر الذى وقع بجبلى طيىء ، فإن طيئا أهدته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة.
ولما مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه ، واستحث راحلته ، ثم قال : لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون ، خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم ، شكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأرسل اللّه سبحانه سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء.
(1/255)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 256
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته ، فخرج أصحابه فى طلبها ، وعند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من أصحابه ، يقال له : عمارة بن حزم ، وكان عقبيّا بدريّا ، وهو عم بنى عمرو بن حزم ، وكان فى رحله زيد بن اللصيت القينقاعى ، وكان منافقا. فقال زيد بن اللصيت ، وهو فى رحل عمارة ، وعمارة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
أليس محمد يزعم أنه نبى ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدرى أين ناقته؟
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعمارة عنده : إن رجلا قال : هذا محمد يخبركم أنه نبى ، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدرى أين ناقته؟ وإنى واللّه ما أعلم إلا ما علمنى اللّه ، وقد دلنى اللّه عليها ، وهى فى هذا الوادى ، فى شعب كذا وكذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتونى بها.
فذهبوا ، فجاءوا بها. فرجع عمارة بن حزم إلى رحله ، فقال : واللّه لعجب من شىء حدثناه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آنفا ، عن مقالة قائل أخبره اللّه عند بكذا وكذا ، للذى قال زيد بن اللصيت. فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ، ولم يحضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : زيد واللّه قال هذه المقالة قبل أن تأتى. فأقبل عمارة على زيد يضرب فى عنقه ويقول : إلى عباد اللّه ، إن فى رحلى لداهية وما أشعر! اخرج أى عدو اللّه من رحلى ، فلا تصحبنى.
ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سائرا ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول اللّه ، تخلف فلان ، فيقول : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه ، حتى قيل : يا رسول
(1/256)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 257
اللّه ، قد تخلف أبوذر ، وأبطأ به بعيره ، فقال : دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه. وتلوّم «1» أبوذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه ، أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماشيا. ونزل رسول اللّه فى بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين ، فقال : يا رسول اللّه ، إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كن أباذر. فلما تأمله القوم قالوا :
يا رسول اللّه ، هو واللّه أبوذر ، فقال : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : رحم اللّه أباذر ، يمشى وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده.
و قد كان رهط من المنافقين ، يشيرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ واللّه لكأنا بكم غدا مقرنين فى الحبال .. إرجانا وترهيبا المؤمنين.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمار بن ياسر : أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا «2» فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا.
فانطلق عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه.
ثم أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل بذى أوان ، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول اللّه ، إنا قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة
__________
(1) تلوم. تلبث.
(2) احتراقو : هلكوا.
(م 17 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/257)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 258
و الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا ، فتصلى لنا فيه ، فقال : إنى على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قد قدمنا إن شاء اللّه لآتيناكم ، فصلينا لكم فيه.
فلما نزل بذى أوان ، أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بنى سالم بن عوف ، ومعن بن عدى ، أخا بنى العجلان ، فقال :
انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى. فدخل إلى أهله ، فاخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه.
وكانت مساجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بين المدينة إلى تبوك معلومة مسماة.
و قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، وكان قد تخلّف عنه رهط من المنافقين ، وتخلّف ثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه : لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة ، فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
ويقول كعب : وآذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس بتوبة اللّه علينا ، حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب نحو صاحبى مبشرون ، وركض رجل إلى فرسا ، وسعى ساع من أسلم ، حتى أوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءنى الذى سمعت صوته
(1/258)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 259
يبشرنى ، نزعت ثوبى فكسوتهما إياه بشارة ، واللّه ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، ثم انطلقت أتيمم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتلقانى الناس يبشروننى بالتوبة ، حتى دخلت المسجد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس حوله الناس.
فقام إلى طلحة بن عبد اللّه ، فحيانى وهنأنى ، فلما سلمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لى ، ووجهه يبرق من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ، قلت : أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه؟ قال : بل من عند اللّه.
90 - إسلام ثقيف
و قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة من تبوك فى رمضان ، وقدم عليه فى ذلك الشهر وفدثفيف.
وكان من حديثهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما انصرف عنهم ، اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفى ، حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام ،
فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنهم قاتلوك وعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان منهم ، فقال عروة : يا رسول اللّه ، أنا أحب إليهم من أبكارهم.
و كان فيهم كذلك محببا مطاعا ، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام ، رجاء ألا يخالفوه ، لمنزلته فيهم ، فلما أشرف لهم على علية له ، وقد دعاهم إلى الإسلام ، وأظهر لهم دينه ، رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله ، فقيل لعروة :
(1/259)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 260
ما ترى فى دمك؟ قال : كرامة أكرمنى اللّه بها ، وشهادة ساقها اللّه إلىّ ، فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم ، فادفنونى معهم ، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فيه : إن مثله فى قومه لكمثل صاحب ياسين فى قومه.
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، ثم إنهم ائتمروا بينهم ، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابهم ، أمر عليهم عثمان بن أبى العاص ، وكان أحدثهم سنّا ، وذلك لأنه كان أحرصهم على التفقه فى الإسلام ، وتعلم القرآن. فقال أبو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا رسول اللّه ، إنى رأيت هذا الغلام منهم من أحرصهم على التفقه فى الإسلام ، وتعلم القرآن.
فلما فرغوا من أمرهم ، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين ، بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، معهم أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة ، فى هدم الطاغية ، فهرجا مع القوم ، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان ، فأبى ذلك أبو سفيان عليه ، وقال : ادخل أنت على قومك ، وأقام أبو سفيان بماله ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول ، وقام قومه دونه ، بنو معتب ، خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة ، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها.
(1/260)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 261
91 - حج أبى بكر بالناس
ثم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة ، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ، ليقيم للمسلمين حجتهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر رضى اللّه عنه ومن معه من المسلمين.
ونزلت براءة فى نقض ما بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين المشركين من العهد ، الذى كان عليه فيما بينه وبينهم : ألا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك.
وكانت بين ذلك عهود بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص ، إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه فى تبوك ، وفى قول من قال منهم ، فكشف اللّه تعالى فيها أسرار أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
92 - سنة الوفود وهى سنة تسع.
وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ولما افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه. وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحى من قريش ، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت الحرام ،
(1/261)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 262
و صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك ، وكانت قريش هى التى نصبت لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلافه. ولما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لها بحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا عداوته ، فدخلوا فى دين اللّه ، كما قال عز وجل ، أفواجا ، يضربون إليه من كل وجه.
فقدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفود العرب. فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى ، فى أشراف بنى تميم.
و قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد بنى عامر ، فيهم عامر ابن الطفيل.
فقدم عامر بن الطفيل عدو اللّه ، على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه : يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم.
قال : واللّه لقد كنت آليت ألا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى ، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد : إذا قدمنا على الرجل ، فإنى سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف.
فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال عامر بن الطفيل : يا محمد ، خالنى «1» ، قال : لا واللّه حتى تؤمن باللّه وحده. قال : يا محمد ، خالنى. وجعل يكلمه وينتظر من أريد ما كان أمره به ، فجعل أريد لا يحير شيئا. فلما رأى عامر ما يصنع أربد ، قال :
يا محمد ، خالنى ، قال : لا ، حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له. فلما أبى عليه
__________
(1) خالنى : أى تفرد لى خاليا أتحدث معك.
(1/262)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 263
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قال : أما واللّه لأملأنها عليك خيلا ورجالا.
فلما ولى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللهم اكفنى عامر بن الطفيل.
فلما خرجوا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال عامر لأربد : ويلك يا أربد! أين ما كنت أمرتك به؟ واللّه ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندى على نفسى منك ، وايم اللّه لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال :
لا أبالك! لا تعجل علىّ ، واللّه ما هممت بالذى أمرتنى به من أمره ، إلا دخلت بينى وبين الرجل ، ما أرى غيرك ، أفأضربك بالسيف؟
و خرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، بعث اللّه على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه ، فقتله اللّه فى بيت امرأة من بنى سلول.
ثم خرج أصحابه ، حين واروه ، حتى قدموا أرض بنى عامر شاتين ، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا : ما وراءك يا أربد؟ قال : لا شىء واللّه ، لقد دعانا إلى عبادة شىء لوددت أنه عندى الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين ، معه جمل له يتبعه ، فأرسل اللّه تعالى عليه وعلى جمله صاعقة ، فأحرقتهما. وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.
وبعثت بنو سعد بن بكر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا منهم ، يقال له : ضمام بن ثعلبة ، وافدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل المسجد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس فى أصحابه. وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أصحابه ، فقال :
أيكم ابن عبد المطلب؟
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنا ابن عبد المطلب.
(1/263)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 264
قال : أمحمد؟ قال : نعم ، قال : يا بن عبد المطلب ، إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسألة ، فلا تجدن فى نفسك. قال : لا أجد فى نفسى ، فسل ما بدا لك. قال :
أنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك ، اللّه بعثك إلينا رسولا؟ قال : اللهم نعم. قال : فأنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، اللّه أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال : اللّهم نعم.
قال : فأنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آللّه أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال : اللهم نعم. قال : ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة منها ، كما ينشده فى التى قبلها ، حتى إذا فرغ قال : فإنى أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، وسأؤدى هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتنى عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة.
فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى. قالوا : مه يا ضمام! اتق البرص ، اتق الجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم! إنهما واللّه لا يضران ولا ينفعان ، إن اللّه قد بعث رسولا ، وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإنى أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ، وما نهاكم عنه.
فو اللّه ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
(1/264)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 265
و قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش ، أخو عبد القيس ، ولما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمه ، فعرض عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه. فقال :
يا محمد ، إنى كنت على دين ، وإنى تارك دينى لدينك ، أفتضمن لى دينى؟
قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم ، أنا ضامن أن قد هداك اللّه إلى ما هو خير منه. فأسلم وأسلم أصحابه ، ثم سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحملان «1» ، فقال : واللّه ما عندى ما أحملكم عليه. قال : يا رسول اللّه ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟
قال : لا ، إياك وإياها فإنما تلك حرقى النار.
فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صلبا على دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة. فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول ، مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام الجارود فتكلم ، فتشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام ، فقال : أيها الناس ، إنى أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يشهد.
وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمى قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدى ، فأسلم وحسن إسلامه ، ثم هلك بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده ، أميرا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على البحرين.
__________
(1) أى ما يحمله عليه.
(1/265)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 266
و قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد بنى حنيفة ، فيهم مسيلمة ابن حبيب الحنفى الكذاب ، وكانوا قد خلفوا مسيلمة فى رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا : يا رسول اللّه ، إنا قد خلفنا صاحبا لنا فى رحالنا وفى ركابنا يحفظها لنا ، فأمر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم ، ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجاءوه بما أعطاه. فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو اللّه ، وتنبأ وتكذب لهم ، وقال : إنى قد أشركت فى الأمر معه. ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ، وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنه نبى.
وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد طىء ، فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم ، فلما انتهوا إليه كلموه ، وعرض عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه ، ثم سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : زيد الخير ، فخرج من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعا إلى قومه
، فلما انتهى إلى ماء من مياهه ، أصابته الحمى بها فمات.
وأما عدى بن حاتم فكان يقول : ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع به منى ، فلما سمعت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لى عربى ، وكان راعيا لإبلى : لا أبالك ، أعدد لى من إبلى أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها
(1/266)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 267
قريبا منى ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنى ، ففعل. ثم إنه أتانى ذات غداة ، فقال : يا عدى ، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد ، فاصنعه الآن ، فإنى قد رأيت رايات ، فسألت عنها فقالوا : هذه جيوش محمد. فقلت : فقرب إلى جمالى ، فقربها ، فاحتملت بأهلى وولدى ، ثم قلت : ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام ، وخلفت بنتا لحاتم فى الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها.
وتخالفنى خيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى سبايا من طيئ ، و
قد بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هربى إلى الشام. قال : فجعلت بنت حاتم فى حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا يحبسن فيها ، فمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول اللّه ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علىّ منّ اللّه عليك. قال : ومن وافدك؟ قالت :
عدى بن حاتم. قال : الفار من اللّه ورسوله؟ قالت : ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتركنى ، حتى إذا كان من الغد مربى ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لى مثل ما قال بالأمس. قالت : حتى إذا كان الغد ، مربى ، وقد يئست منه ، فأشار إلى رجل من خلفه : أن قومى فكلميه ، قالت : فقمت إليه ، فقلت : يا رسول اللّه ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علىّ منّ اللّه عليك. فقال صلى اللّه عليه وسلم : قد فعلت ، فلا تتعجلى بخروج ، حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنينى. فسألت عن الرجل الذى أشار إلى أن أكلمه ، فقيل : على بن أبى طالب رضوان اللّه عليه ، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة قالت : وإنما أريد أن آتى أخى بالشام. قالت : فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقلت : يا رسول اللّه ،
(1/267)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 268
فد قدم رهط من قومى ، لى فيهم ثقة وبلاغ. قالت : فكسانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وحملنى وأعطانى نفقة ، فخرجت معهم ، حتى قدمت الشام.
قال عدى : فو اللّه إنى لقاعد فى أهلى ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا ، فقلت : ابنة حاتم؟ فإذا هى هى. فلما وقفت على ، أخذت فى اللوم تقول :
القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك! قلت :
أى أخية ، لا تقولى إلا خيرا ، فو اللّه مالى من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت.
قال : ثم نزلت فأقامت عندى ، فقلت لها ، وكانت امرأة حازمة : ماذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت : أرى واللّه أن تلحق به سريعا ، فإن يكن الرجل نبيّا ، فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكا ، فلن تذل فى عز اليمن ، وأنت أنت. قال : قلت : واللّه إن هذا الرأى.
قال : فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فدخلت عليه ، وهو فى مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : من الرجل؟ فقلت :
عدى بن حاتم ، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانطلق بى إلى بيته ، فو اللّه إنه لعامد بى إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها. قال : قلت فى نفسى : واللّه ما هذا بملك ، قال :
ثم مضى بى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا دخل بى بيته ، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلى ، فقال : اجلس على هذه ، قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأرض. قال : قلت فى نفسى : واللّه ما هذا بأمر ملك ، ثم قال : إيه يا عدى بن حاتم ، ألم تك ركوسيّا «1»؟ قلت : بلى. قال : أولم
__________
(1) الركوسى ، من الركوسية ، وهو قوم لهم دين بين دين النصارى والصابئين.
(1/268)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 269
تكن تسير فى قومك بالمرباع؟ قلت : بلى ، قال : فإن ذلك لم يكن يحل لك فى دينك؟ قلت : أجل واللّه. قال : وعرفت أنه نبى مرسل ، يعلم مالا تعلم.
ثم قال : لعلك يا عدى إنما يمنعك من دخول فى هذا الدين ، ما ترى من حاجتهم ، فو اللّه ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ، ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، فو اللّه ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ، أنك ترى أن الملك والسلطان فى غيرهم ، وايم اللّه ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، قال : فأسلمت.
وقدم فروة بن مسبك المرادى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، مفارقا لملوك كندة ، ومباعدا لهم ، إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أتخنوهم فى يوم كان يقال له : يوم الردم.
فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : يا رسول اللّه ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومى يوم الردم لا يسوءه ذلك؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أما إن ذلك لم يزد قومك فى الإسلام إلا خيرا.
واستعمله النبى صلى اللّه عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلها ، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، فكان معه فى بلاده ، حتى توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(1/269)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 270
و قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن معديكرب فى أناس من بنى زبيد ، فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادى ، حين انتهى إليهم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا قيس ، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز ، يقول إنه نبى ، فانطلق بنا إليه ، حتى نعلم علمه ، فإن كان نبيّا كما يقول ، فإنه لن يخفى عليك ، وإذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه.
فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وصدقه وآمن به.
فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا ، واشتد عليه ، وقال : خالفنى وترك رأيى. فأقام عمرو بن معديكرب فى قومه من بنى زبيد ، وعليهم فروة ابن مسيك. فلما توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب.
وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأشعث بن قيس ، فى وفد كندة فى ثمانين راكبا من كندة ، فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير.
فلما دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ألم تسلموا؟ قالوا : بلى.
قال : فما بال هذا الحرير فى أعناقكم ، قال : فشقوه منها ، فألقوه.
و قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صرد بن عبد اللّه الأزدى ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، فى وفد من الأزد ، فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/270)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 271
على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك ، من قبل اليمن.
فخرج صرد بن عبد اللّه يسير بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى نزل بجرش ، وهى يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضمت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم ، حين سمعوا بسير المسلمين إليهم.
فحاصروهم فيها قريبا من شهر ، وامتنعوا فيها منه ، ثم إنه رجع عنهم قافلا ، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما ، فخرجوا فى طلبه ، حتى إذا أدركوه ، عطف عليهم ، فقتلهم قتلا شديدا.
ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد ، فى شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر ، إلى بنى الحارث بن كعب بنجران ، أمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا ، فإن استجابوا فأقبل منهم ، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون فى كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا ، فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه. فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام ، وكتاب اللّه وسنة نبيّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبذلك كان أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.
وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى هدنة الحديبية ، قبل خيبر ، رفاعة بن زيد الجدامى ثم الضبيبى. فأهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
(1/271)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 272
غلاما ، وأسلم ، فحسن إسلامه ، وكتب له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابا إلى قومه.
وقدم وفد همدان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرجعه من تبوك.
93 - حجة الوداع
و لما دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذو القعدة ، تجهز للحج ، وأمر الناس بالجهاز له ، لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج. حتى إذا كان بسرف ، وقد ساق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدى.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بعث عليّا رضى اللّه عنه إلى نجران ، فلقيه بمكة وقد أحرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضى اللّه عنها ، فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا بنت رسول اللّه؟ قالت : أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نحل بعمرة ، فحللنا. ثم أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه ، وسلم فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : انطلق فطف بالبيت ، وحل كما حل أصحابك؟ قال : يا رسول اللّه ، إنى أهللت كما أهللت ، فقال : ارجع فاحلل كما حل أصحابك. قال : يا رسول اللّه ، إنى قلت حين أحرمت : اللهم إنى أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فهل معك من هدى؟ قال : لا.
فأشركه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى هديه ، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى فرغ من الحج ونحر
(1/272)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 273
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الهدى عنهما.
ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التى بين فيها ما بين ، وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحج ، وقد أراهم مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض اللّه عليهم من حجهم : من الموقف ، ورمى الجمار ، وطواف بالبيت ، وما أحل لهم من حجهم ، وما حرم عليهم ، فكانت حجة البلاغ ، وحجة الوداع ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يحج بعدها.
ثم قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفر ، وضرب على الناس بعثا إلى الشام ، وأمر عليهم أسامة بن زيد ابن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.
وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه ، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام.
وكان جميع ما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزوة.
وكانت بعوثه صلى اللّه عليه وسلم وسراياه ثمانية وثلاثين ، من بين بعث وسرية.
(م 18 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/273)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 274
94 - مرضه صلى اللّه عليه وسلم وموته
و مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرج يمشى بين رجلين من أهله :
الفضل بن العباس ، وعلى بن أبى طالب ، عاصبا رأسه ، تخط قدماه ، حتى دخل بيت عائشة ، ثم غمر «1» رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واشتد عليه وجعه ، فقال :
هريقوا على سبع قرب من آبار شتى ، حتى أخرج إلى الناس ، فأعهد إليهم.
تقول عائشة : فأقعدناه فى مخضب «2» لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : حسبكم حسبكم.
ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد ، واستغفر لهم ، فأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إن عبدا من عباد اللّه خيره اللّه بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند اللّه. ففهمها أبو بكر ، وعرف أن نفسه يريد ، فبكى وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رسلك يا أبا بكر ، ثم قال : انظروا هذه الأبواب اللافظة «3» فى المسجد ، فسدوها إلا بيت أبى بكر ، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه.
و استبطأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس فى بعث أسامة بن زيد ، وهو فى وجعه ، فخرج عاصبا رأسه ، حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة : أمّر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.
__________
(1) أى أصابته غمرة المرض صلى اللّه عليه وسلم.
(2) المخضب : إناء يغسل فيه.
(3) اللافظة : النافذة.
(1/274)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 275
فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقا لها.
ثم نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانكمش «1» الناس فى جهازهم ، واستعز برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجعه ، فخرج أسامة ، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف ، من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره ، وتتام إليه الناس ، وثقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقام أسامة والناس ، لينظروا ما اللّه قاض فى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فاجتمع إليه صلى اللّه عليه وسلم نساء من نسائه : أم سلمة ، وميمونة ، ونساء من نساء المسلمين ، منهن : أسماء بنت عميس ، وعنده العباس عمه ، فأجمعوا أن يلدوه «2». وقال العباس : لألدنه ، فلدوه. فلما أفاق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : من صنع بى هذا؟ قالوا :
يا رسول اللّه ، عمك. قال : هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض ، وأشار نحو أرض الحبشة. ثم قال : ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمه العباس : خشينا يا رسول اللّه أن يكون بك ذات الجنب ، فقال : إن ذلك لداء ما كان اللّه عز وجل ليقذفنى به ، لا يبق فى البيت أحد إلا لد إلاعمى ، فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة ، لقسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، عقوبة لهم بما صنعوا به.
__________
(1) انكمش : أسرع.
(2) أى أن يجعلوا الدواء فى شق منه.
(1/275)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 276
و يقول أسامة : لما ثقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة ، فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد أصمت فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على ، فأعرف أنه يدعو لى.
ولما استعز برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : مروا أبابكر فليصل بالناس.
قالت عائشة : قلت : يا نبى اللّه ، إن أبا بكر رجل رقيق ، ضعيف الصوت ، كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال : مروه فليصل بالناس.
قالت : فعدت بمثل قولى ، فقال : إنكن صواحب يوسف ، فمروه فليصل بالناس. قالت : فو اللّه ما أقول ذلك إلا أنى كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر ، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا ، وأن الناس سيتشاءمون به فى كل حدث كان ، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر.
ثم إنه لما كان يوم الاثنين الذى قبض اللّه فيه رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، خرج إلى الناس ، وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر ، وفتح الباب ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رأوه ، فرحا به ، وتفرجوا ، فأشار إليهم : أن اثبتوا على صلاتكم. فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم ، وما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة ، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد برئ من وجعه. فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.
(1/276)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 277
و تقول عائشة : رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع فى حجرى ، فدخل على رجل من آل أبى بكر ، وفى يده سواك أخضر ، فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليه فى يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت : يا رسول اللّه ، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال :
نعم ، فأخذته ، فمضغته له ، حتى لينته ، ثم أعطيته إياه فاستن كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ، ثم وضعه. ووجدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يثقل فى حجرى ، فذهبت أنظر فى وجهه ، فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول : بل الرفيق الأعلى من الجنة ، فقلت : خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق.
قالت : وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بين سحرى ونحرى ، حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من شهر ربيع الأول ، سنة عشرين من الهجرة وشهرين واثنى عشر يوما ، فوضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهى.
ولما توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام عمر بن الخطاب ، فقال :
إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توفى ، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ، كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. واللّه ليرجعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم ، زعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مات.
(1/277)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 278
و أقبل أبو بكر ، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شىء ، حتى دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بيت عائشة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسجى فى ناحية البيت ، عليه برد حبرة. وأقبل حتى كشف عن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبى أنت وأمى ، أما الموتة التى كتب اللّه عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا ، ثم رد البرد على وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم. فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال :
أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حىّ لا يموت. ثم تلا هذه الآية : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.
فو اللّه لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت ، حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، وأخذها الناس عن أبى بكر ، فإنما هى فى أفواههم.
قال عمر : واللّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت «1» ، حتى وقعت إلى الأرض ما تحملنى رجلاى ، وعرفت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد مات.
__________
(1) عفر : دهش.
(1/278)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 279
ثم إن على بن أبى طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وقثم بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وشقران مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، هم الذين تولوا غسله. وإن أوس بن خولى ، أحد بنى عوف بن الخزرج ، قال لعلى بن أبى طالب : أنشدك اللّه يا على ، وحظنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وكان أوس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهل بدر - ادخل؟ فدخل فجلس ، وحضر غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأسنده على بن أبى طالب إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه ، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه ، هما اللذان يصبان الماء عليه ، و
علىّ يغسله ، قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، لا يفضى بيده إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى يقول : بأبى أنت وأمى ، ما أطيبك حيا وميتا!
و لم ير من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا مما يرى من الميت.
ولما أرادوا غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اختلفوا فيه ، فقالوا :
واللّه ما ندرى أنجرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ثيابه ، كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى اللّه عليهم النوم ، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت ، لا يدرون من هو :
أن اغسلوا النبى وعليه ثيابه. فقاموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فغسلوه وعليه قميصه ، ويصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.
(1/279)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 280
فلما فرغ من غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفن فى ثلاثة أثواب :
ثوبين صحاربين «1» وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا. ولما أرادوا أن يحفروا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذى يحفر لأهل المدينة ، فكان يلحد فدعا العباس رجلين ، فقال لأحدهما : اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح ، وللآخر :
اذهب إلى أبى طلحة ، اللّهم خر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة ، فجاء به ، فلحد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فلما فرغ من جهاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره فى بيته. وقد كان المسلمون اختلفوا فى دفنه ، فقال قائل : ندفنه فى مسجده ، وقال قائل : بل ندفنه مع أصحابه ،
فقال أبو بكر : إنى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض
، فرفع فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذى توفى عليه ، فحفر له تحته. ثم دخل الناس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلون عليه أرسالا ، دخل الرجال ، حتى إذا فرغوا ، أدخل النساء ، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد. ثم دفن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وسط اللّيل ليلة الأربعاء.
و كان الذين نزلوا فى قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : على بن أبى طالب ، والفضل بن عباس ، وقثم بن عباس ، وشقران مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
__________
(1) نسبة إلى صحار : مدينة باليمن.
(1/280)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 281
و قد قال أوس بن خولى لعلى بن أبى طالب : يا على ، أنشدك اللّه ، وحظنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له : انزل ، فنزل مع القوم ، وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حفرته وبنى عليه ، قد أخذ قطيفة ، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلبسها ويفترشها ، فدفنها فى القبر ، وقال : واللّه لا يلبسها أحد بعدك أبدا. فدفنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقد كان المغيرة بن شعبة يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويقول : أخذت خاتمى ، فألقيته فى القبر ، وقلت : إن خاتمى سقط منى ، وإنما طرحته عمدا ، لأمس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأكون أحدث الناس عهدا به صلى اللّه عليه وسلم.
وكان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خميصة سوداء ، حين اشتد به وجعه ، فهو يضعها مرة على وجهه ، ومرة يكشفها عنه ، ويقول : قاتل اللّه قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد!
يحذر من ذلك على أمته.
وكان آخر ما عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن قال : لا يترك بجزيرة العرب دينان.
(1/281)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 282
95 - زوجاته صلى اللّه عليه وسلم.
وتوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تسع من زوجاته ، هن :
عائشة بنت أبى بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة ، وسودة بنت زمعة بن قيس ، وزينب بنت جحش بن رئاب ، وميمونة بنت الحارث بن حزن ، وجويرية بنت الحارث بن أبى ضرار ، وصفية بنت حيى بن أخطب.
و كان جميع من تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث عشرة :
خديجة ، وهى أولى من تزوج ، زوجه إياها أبوها خويلد بن أسد ، ويقال أخوها عمرو بن خويلد ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرين بكرة.
وكانت خديجة قبله عند أبى هالة بن مالك ، أحد بنى أسيد بن عمرو بن تميم ، حليف بنى عبد الدار ، فولدت له : هند بنت أبى هالة ، وزينب بنت أبى هالة ، وكانت قبل أبى هالة عند عتيق بن عابد بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، فولدت له : عبد اللّه ، وجارية.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عائشة بنت أبى بكر الصديق بمكة ، وهى بنت عشر سنين ، ولم يتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكرا غيرها زوجه إياها ، أبوها أبو بكر ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى ، زوجه
(1/282)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 283
إياها سليط بن عمرو ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم ،
و كانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك ابن حسل.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية ، زوجه إياها أخوها أبو أحمد بن جحش ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم
، وكانت قبله عند زيد بن حارثة ، مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم سلمة بنت أمية بن المغيرة المخزومية ، واسمها هند ، زوجه إياها سلمة بن أبى سلمة ابنها ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فراشا حشوه ليف ، وقدحا ، وصحفة ، ومجشة «1».
وكانت قبله عند أبى سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد ، فولدت له : سلمة ، وعمر ، وزينب ، ورقية.
و تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب ، زوجه إياها أبوها عمر بن الخطاب ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم
، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمى.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب ، زوجه إياها خالد بن سعيد بن العاص ، وهما بأرض الحبشة ، وأصدقها النجاشى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم
، وهو الذى كان
__________
(1) الحبشة : الرحى.
(1/283)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 284
خطبها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت قبله عند عبيد اللّه بن جحش.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار الخزاعية ، وكانت فى سبايا بنى المصطلق ، من خزاعة ، ودفعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى رجل من الأنصار وديعة. فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة أقبل أبوها الحارث بن ضرار بفداء ابنته ، ثم كان أن أسلم الحارث ، وأسلم معه ابنان له ، ودفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت ، وخطبها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.
وكانت قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند ابن عم لها يقال له :
عبد اللّه.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب ، سباها من خيبر فاصطفاها لنفسه
، وكانت قبله عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق.
وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ميمونة بنت الحارث ، زوجه إياها العباس بن عبد المطلب ، وأصدقها العباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم
، وكانت قبله عند أبى رهم بن عبد العزى ، ويقال :
إنها هى التى وهبت نفسها للنبى صلى اللّه عليه وسلم.
و تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث ، وكانت تلقب : أم المساكين ، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم ، زوجه إياها قبيصة ابن عمرو الهلالى ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم
،
(1/284)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 285
و كانت قبله عند عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف : وكانت قبل عبيدة عند جهم بن عمرو بن الحارث ، وهو ابن عمها.
فهؤلاء اللائى بنى بهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إحدى عشرة ، فمات قبله منهن اثنتان ، وهما : خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة.
وثمة ثنتان لم يدخل بهما ، وهما : أسماء بنت النعمان الكندية ، تزوجها فوجد بها بياضا «1» ، فمنعها وردها إلى أهلها ، وعمرة بنت يزيد الكلابية ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فلما قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استعاذت منه ، فردها إلى أهلها.
والقرشيات من أزواج الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ست ، وهن :
خديجة ، وعائشة وحفصة ، وأم حبيبة ، وأم سلمة ، وسودة.
والعربيات ست ، وهن : زينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة ، وجويرية بنت الحارث ، وأسماء بنت النعمان ، وعمرة بنت يزيد.
ومن غير العربيات : صفية بنت حيى.
96 - سراريه صلى اللّه عليه وسلم
و أما سراريه صلى اللّه عليه وسلم ، فقيل إنهن أربعة :
مارية القبطية ، أهداها إليه المقوقس فى سنة سبع من الهجرة و
كان صلى اللّه عليه وسلم يطؤها بملك اليمين
، وكانت من كورة أنصفا من صعيد مصر ، على البر الشرقى فى مقابلة الأشمونين.
__________
(1) بياضا : أى برصا. [.....]
(1/285)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 286
و ريحانة - ربيحة - بنت شمنون ، من بنى عمرو بن قريظة ، وقيل من بنى النضير ، و
كان صلى اللّه عليه وسلم يطؤها بملك اليمين.
ونفيسة ، جارية زينب بنت جحش ، وهبتها له زينب.
وجارية أصلبها صلى اللّه عليه وسلم فى بعض السبى.
97 - أولاده صلى اللّه عليه وسلم
و أما أولاده صلى اللّه عليه وسلم فكلهم من خديجة ، ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ، فولدت له خديجة : القاسم ، وكان أول من ولد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل النبوة ، وبه كان يكنى صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ولدت له : زينب ، ورقية ، وفاطمة ، وأم كلثوم ، ثم ولد له فى الإسلام : عبد اللّه ، والطيب «الطاهر». ومات عبد اللّه بمكة. فأما القاسم ، والطيب «الطاهر» فماتا فى الجاهلية. وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه صلى اللّه عليه وسلم.
وأما إبراهيم فإنه من مارية القبطية ولدته أمه فى سنة ثمان من الهجرة ، وقد مات إبراهيم صغيرا ، مات وهو ابن ثمانية عشر شهرا.
98 - أعمامه وعمامته صلى اللّه عليه وسلم
و كان له صلى اللّه عليه وسلم اثنا عشر عمّا ، هم بنو عبد المطلب ، وهم :
الحارث ، وأبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب عبد العزى ، والفيداق ، والمقوم ، وضرار ، وقثم ، والزبير : الكعبة ، وجحل.
(1/286)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 287
وزاد بعضهم : العوام ، فيكونون ثلاثة عشر.
والذين أدركهم الإسلام من أعمامه ، هم : عبد مناف ، وأبو لهب ، والعباس ، وحمزة ، لم يسلم منهم غير اثنين : حمزة والعباس.
وأما عماته صلى اللّه عليه وسلم. فست ، بنات عبد المطلب ، وهن : عاتكة ، وأميمة ، والبيضاء ، وأم حكيم ، وبرة ، وصفية ، وأروى.
لم تسلم منهن على الأصح غير صفية ، أم الزبير بن العوام.
99 - جداته صلى اللّه عليه وسلم
و أما جداته صلى اللّه عليه وسلم من جهة أبيه ، فهن : فاطمة بنت عمرو بن عائذ ، أم عبد اللّه أبيه ، وسلمى بنت عمرو ، من بنى النجار ، وهم أم عبد المطلب ، وعاتكة بنت عمرة بن هلال بن فالج بن ذكوان ، وهى أم هاشم ، وعاتكة بنت فالج بن ذكوان ، وهى أم عبد مناف ، وفاطمة بنت سعد ، من أزد السراة ، وهى أم قصى ، ونعم ، وقيل : هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث ، وهى أم كلاب ، ووحشية بنت شيبان بن محارب ، وهى أم مرة ، وسلمى بنت محارب من فهم ، وهى أم كعب ، وخشية بنت مدلج بن مرة ، وهى أم لؤى ، وسلمى بنت سعد بن هذيل ، وهى أم غالب ، وجندلة بنت الحارث بن مضاض ، وهى أم فهر ، وهند - وقيل : عاتكة - بنت عدوان ، وهى أم مالك ، وبرة بنت مرة ، وهى أم النضير ، وعوانة بنت سعد بن قيس عيلان ، وهى أم كنانة ، وأم خزيمة ، امرأة من قضاعة ، وخندف بن عمران القضاعية ، وهى أم مدركة ، وأم إلياس جرهمية ، وسودة بنت عك بن عدنان ، وهى أم مضر ، والأمينة ، وهى أم معد.
(1/287)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 288
و أما جداته صلى اللّه عليه وسلم من قبل أمه ، فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب : برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصى بن كلاب بن مرة ، وأم أبيها وهب : عاتكة بنت الأوقص ، ويعرف الأوقص بأبى كبشة ، الذى كان ينسب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقال : ابن أبى كبشة ، وأم برة : أم حبيبة بنت أسد بن عبد العزى ، وأم حبيبة :
نرة بنت عوف بن عبيد بن عدى بن كعب بن لؤى ، وأم برة بنت عوف :
قلابة بنت الحارث بن طابخة بن صعصعة بن عائذ بن لحيان بن هذيل ، وأم قلابة : هند بنت يربوع ، من ثقيف.
100 - أخواته صلى اللّه عليه وسلم
و أما إخوته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة : حمزة ، عمه ، وأبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد ، أرضعتهما معا معه ثويبة ، جارية أبى لهب بلبن ابنها مسروح ، ولقد أرضعته ثويبة صلى اللّه عليه وسلم أياما قلائل قبل أن تأخذه حليمة ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، أرضعته ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حليمة السعدية ، وعبد اللّه بن الحارث بن عبد العزى السعدى ، وآسية بنت الحارث السعدية ، وجدامة ، وقيل : خذامة. وقيل : حذافة ، وتعرف بالشيماء ، والثلاثة أولاد حليمة من زوجها الحارث.
وكانت حاضنته صلى اللّه عليه وسلم أم أيمن بركة بن ثعلبة بن حصن ابن مالك ، وكنيت باسم ابنها أيمن ، وهى أم أسامة بن زيد ، تزوجها زيد بعد موت عبيد بن زيد الذى كان قد تزوجها فى الجاهلية بمكة ، ثم نقلها إلى يثرب فولدت له أيمن ، ثم مات عنها فرجعت إلى مكة ، فتزوجها زيد بن حارثة ، فولدت له أسامة.
(1/288)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 289
و كانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا ، فهى أخته وحاضنته.
101 - خدمه صلى اللّه عليه وسلم
و أما خدمه صلى اللّه عليه وسلم ، فمنهم من الرجال :
أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الأنصارى الخزرجى ، ويكنى :
أبا حمزة ، خدم النبى صلى اللّه عليه وسلم سبع سنين أو عشر ، وأمه أم سليم هى التى أتت به النبى صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة فقالت له : هذا أنس غلام يخدمك.
ومنهم : ربيعة بن كعب بن مالك ، أبو فراس الأسلمى ، صاحب وضوئه.
ومنهم : أيمن ، ابن أم أيمن ، وهو أيمن بن عبيد بن زيد بن عمرو بن بلال الأنصارى الخزرجى ، صاحب مطهرته.
ومنهم : عبد اللّه بن مسعود بن غافل الهذلى ، وكان صاحب الوسادة والنعلين.
ومنهم : عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهنى ، وكان صاحب بغلته ، يقودها به فى الأسفار.
ومنهم : أسلع بن شريك بن عوف ، صاحب راحلته ، الذى كان ينزل الرحل عنها ويضعه عليها.
ومنهم : سعد ، مولى أبى بكر الصديق.
و منهم : أبو ذر جندب بن جنادة ، الزاهد المشهود.
ومنهم : أبو حذيفة مهاجر ، مولى أم سلمة.
ومنهم : حنين ، مولى عباس بن عبد المطلب.
(م 19 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/289)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 290
و منهم : نعيم بن ربعية بن كعب الأسلمى.
ومنهم : أبو الحمراء هلال بن الحارث.
ومنهم : أبو السمع إياد.
ومنهم : من النساء :
بركة أم أيمن ، وهى والدة أسامة بن زيد.
وخولة ، جدة حفص بن سعد.
وسلمى ، أم رافع ، زوج أبى رافع.
وميمونة بنت سعد.
وأم عياش ، مولاة رقية بنت النبى صلى اللّه عليه وسلم.
102 - مواليه صلى اللّه عليه وسلم
و أما مواليه صلى اللّه عليه وسلم فمنهم :
أسامة بن زيد بن حارثة ، وزيد بن حارثة ، وثوبان بن بجدد ، وأبو كبشة ، من مولدى مكة ، وشقران صالح بن عدى ، حبشى ، وقيل : فارسى ، ورباح الأسود النوبى. وهو مؤذن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ويسار النوبى الراعى ، وزيد النوبى ، ومدعم ، وكان لرفاعة بن زيد ، فأهداه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأسلم أبو رافع القبطى ، كان للعباس فوهبه للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وسفينة ، اشتراه صلى اللّه عليه وسلم ، فأعتقه ، وأبو واقد ، القبطى الخصى ، وهو من جملة من أهداه المقوقس للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وأنجشة الحبشى ، وسلمان بن عبد اللّه الفارسى ، وشمعون بن زيد أبو ريحانة ، أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة.
(1/290)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 291
103 - كتّابه صلى اللّه عليه وسلم
أما كتّابه صلى اللّه عليه وسلم ، فهم :
أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلى بن أبى طالب ، وطلحة بن عبد اللّه التميمى ، والزبير بن خويلد الأسدى ، وسعيد بن العاص. بن أمية ، وسعد بن أبى وقاص ، وعامر بن فهيرة التميمى ، مولى أبى بكر ، وعبد اللّه بن الأرقم القرشى الزهرى ، وأبى بن كعب بن قيس الأنصارى ، وثابت ابن قيس بن شماس الأنصارى الخزرجى ، وحنظلة بن الربيع بن صيفى ، وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس ، ومعاوية بن أبى سفيان ، وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصارى الخزرجى ، وشرحبيل بن حسنة ، وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومى ، وعمرو بن العاص بن وائل القرشى السهمى ، والمغيرة بن شعبة الثقفى ، وعبد اللّه بن رواحة الخزرجى الأنصارى ، ومعيقيب بن أبى فاطمة الدوسى ، وحذيفة بن اليمان ، وحويطب بن عبد العزى.
104 - مؤذنوه صلى اللّه عليه وسلم
أما مؤذنوه صلى اللّه عليه وسلم فأربعة ، اثنان بالمدينة ، وهما :
بلال بن رباح ، وهو أول من أذن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعبد اللّه بن أم مكتوم القرشى الأعمى.
وأذن له صلى اللّه عليه وسلم بقباء : سعد بن عائذ ، المعروف بسعد القرظ ، مولى عمار بن ياسر.
وأذن له صلى اللّه عليه وسلم بمكة : أبو محذورة الجمحى القرشى.
(1/291)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 292
105 - شعراؤه صلى اللّه عليه وسلم
و أما شعراؤه صلى اللّه عليه وسلم :
فكعب بن مالك الأنصارى السلمى ، وعبد اللّه بن رواحة الخزرجى الأنصارى ، وحسان بن ثابت الأنصارى الخزرجى.
106 - سلاحه صلى اللّه عليه وسلم
و أما أسيافه صلى اللّه عليه وسلم ، فكانت تسعة ، وهى :
مأثور ، والعضب ، وذو الفقار ، والقلعى ، والبتار ، والحتف ، والمخذم ، والرسوب ، والقضيب.
وأما أدراعه صلى اللّه عليه وسلم فكانت سبعة ، وهى :
ذات الفضول ، وذات الوشاح ، والسعدية ، والغين ، ووفضة ، والبتراء ، والخرنق.
وأما أقواسه صلى اللّه عليه وسلم وكانت ستة ، وهى :
الزوراء ، والروحاء ، والصفراء ، وشوحط ، والكتوم ، والسداد.
107 - دوابه صلى اللّه عليه وسلم
و أما خيله صلى اللّه عليه وسلم فكانت سبعة ، وهى :
السكب ، وهو أول فرس ملكه ، اشتراه صلى اللّه عليه وسلم بعشر أواق ،
(1/292)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 293
و كان أغر محجلا طلق اليمين كميتا ، والمرتجز ، وكان أبيض ، وهو الذى شهد له فيه خزيمة بن ثابت فجعل شهادته بشهادة رجلين ، والظرب ، أهداه له فروة بن عمرو الخذامى ، واللحيف ، أهداها له ربيعة بن أبى البراء ، واللزاز ، سمى به لشدة تلززه أو لاجتماع خلقه ، والورد ، أهداها له تميم الدارمى ، فأعطاه عمر ابن الخطاب رضى اللّه عنه ، فحمل عمر عليه فى سبيل اللّه تعالى ، ثم وجده يباع برخص ، فأراد شراءه ،
فقال صلى اللّه عليه وسلم : لا تشتره
، وسبحة ، وكانت فرسا شقراء ، اشتراها صلى اللّه عليه وسلم من أعرابى.
وكان له عليه الصلاة والسلام من البغال :
دلدل ، وكانت شهباء ، وفضة ، أهداها له فروة بن عمرو الجذامى ، فوهبها لأبى بكر.
وأخرى أهداها له ابن العلماء ، صاحب أيلة.
وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل.
وأخرى أهداها له كسرى.
وكان له عليه الصلاة والسلام من الحمير : عفير ، أهداه له المقوقس.
ويعفور ، أهداه له فروة بن عمرو الجذامى.
وكان له عليه الصلاة والسلام من اللقاح :
القصواء ، وهى التى هاجر عليها ، اشتراها من أبى بكر بثمانمائة درهم.
والعضباء ، والجدعاء.
(1/293)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 294
108 - تلخيص وتعقيب :
فالرسول الكريم ، صلى اللّه عليه وسلم ، وهو - كما مر بك :
محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب «شيبة» بن هاشم «عمرو» بن عبد مناف «المغيرة» بن قصى «زيد» بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب ابن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة «عامر» بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.
إلى هنا ينتهى النسب الصحيح ، وما فوق ذلك فهو من صنع النسابين.
و أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر ، يلتقى نسبها مع نسب أبيه صلى اللّه عليه وسلم عند جدهما الأعلى : كلاب بن مرة.
ولقد مات أبوه عبد اللّه بالمدينة وأمه حامل به لشهرين ، وكان قد خرج فى تجارة فمرض فعرج بالمدينة يسلم بأخواله من بنى النجار ، فأقام عندهم شهرا مات بعده عن خمسة وعشرين عاما.
وكان مولده ، صلى اللّه عليه وسلم ، يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول - 20 من أبريل سنة 51 - على الصحيح ، بالدار التى عند الصفا ، والتى كانت بعد لمحمد بن يوسف ، أخى الحجاج ، وقد بنتها زبيدة مسجدا حين حجت.
وكانت قابلته التى نزل على يديها : الشفاء ، أم عبد الرحمن بن عوف.
وأرضعته امرأة من بنى سعد بن بكر بن هوازن ، يقال لها : حليمة بنت أبى ذؤيب.
(1/294)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 295
و اسم أبيه فى الرضاعة : الحارث بن عبد العزى ، من بنى سعد بن بكر ابن هوازن.
وكان إخوته فى الرضاعة : عبد اللّه بن الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، والشيماء حذافة بنت الحارث.
وحين بلغ محمد ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب بالأبواء - موضع بين مكة والمدينة ، وعمرها ثلاثون عاما.
وبعد وفاة آمنة بسنتين توفى جده عبد المطلب ، وكان يكفله ، وعمر محمد عندها ثمانى سنين.
فكان محمد بعد وفاة جده عبد المطلب مع عمه أبى طالب ، وأبو طالب وعبد اللّه - أبو رسول اللّه - أخوان لأب وأم ، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
وحين بلغ محمد أربعة عشر عاما - أو خمسة عشر - كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان. ولقد شهد محمد بعض أيامها ، أخرجه أعمامه معهم ينبل عليهم ، أى يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم به.
ولما بلغ محمد خمسة وعشرين عاما تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد المعزى بن قصى بن كلاب بن مرة ، يلتقى نسبها مع نسبه فى جدهما الأعلى قصى ، كما يلتقى نسبها مع نسب أمه آمنة فى كلاب بن مرة.
و كانت خديجة أول امرأة تزوجها محمد ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت ، وكانت سنها حين بنى بها محمد أربعين عاما. ولقد تزوجها قبل محمد رجلان هما : أبو هالة بن زرارة التميمى ، وعتيق بن عائذ المخزومى.
(1/295)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 296
و قد عرفت خديجة محمدا حين خرج فى تجارة لها إلى الشام فى رحلته الثانية مع غلامها ميسرة ، وكانت رحلته الأولى إلى الشام حين خرج مع عمه أبى طالب ، وسنه اثنا عشر عاما ، حدثها ميسرة عن صدقه وأمانته فرغبت فيه وسعت إلى الزواج منه.
وولدت خديجة لمحمد أولاده كلهم إلا إبراهيم ، فإنه من مارية القبطية ، فولدت له القاسم ، وبه كان يكنى ، والطيب «الطاهر» ، ورقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، وفاطمة.
ومات القاسم والطيب فى الجاهلية. وأدركت بناته كلهن الإسلام وأسلمن.
وحين بلغ محمد خمسة وثلاثين أخذت قريش فى تجديد بناء الكعبة ، وكانت قد أصابها حريق ، ومن بعد الحريق سيل. وحين بلغت قريش موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يكون له الشرف فى وضعه موضعه ، وكاد الخلاف يثير بينهم حربا ، ثم انتهوا إلى أن يكون الفصل بينهم إلى أول داخل عليهم من باب بنى شيبة ، وكان محمد أول داخل عليهم من هذا الباب ، فارتضوه حكما فيما شجر بينهم ، فبسط محمد رداءه ووضع الحجر عليه ، وأمر كل قبيلة أن تأخذ بطرف من أطراف الرداء ، حتى إذا ما استووا رفع الحجر بيديه ووضعه مكانه.
ولقد عرفت قريش محمدا صبيّا فلم تعهد عليه ما تعهد مثله على الصبيان من إسفاف أو تدن ، وعرفته يافعا فلم تعد له نزوة أو زلة ، ثم عرفته زوجا فى سن مبكرة فعرفته أطهر الأزواج ذيلا.
وهو منذ أن درج بين أهله ووعى كان الصادق الأمين ، لا يقول إلا صدقا ، ولا يعطى أو يأخذ إلا أمينا حين يعطى ، أمينا حين يأخذ ، أمينا
(1/296)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 297
حين يستشار ويشير. والنفس إن ملكت الصدق والأمانة ملكت ما بعدهما من كل ما هو محمود من الصفات ، وهكذا كان محمد قبل أن يبعثه اللّه رسولا.
ولقد حبّب إلى محمد التحنث والتحنف شأن الصادفين عن متاع الحياة ، العازفين عن لينها المفضى إلى الاستنامة إليها ، فكان يعتكف فى حراء - جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها - شهرا من كل سنة ، يجعله خالصا لعبادة ربه على ما رسم إبراهيم ، ومن بعده إسماعيل عليهما السلام.
وبقى محمد على هذا الذى أخذ به نفسه يختلف إلى غار حراء شهرا من كل عام ، إلى أن كانت السنة التى اختاره اللّه فيها رسولا لرسالته ، وكان عندها فى الأربعين من عمره.
وهكذا كان محمد حين دبت قدماه على أرض مكة من الجزيرة العربية محط الأبصار ، وشغل الأفكار ، حاطه ربه باليمين وليدا ، إيذانا منه لعباده بما سيؤهله له ، وصانه عن اللهو العابث صبيّا ليرتفع به عما يتدنى فيه غيره كى يمهد لإجلاله ، وأجرى الصدق على لسانه ، وبسط بالأمانة يديه ، وملأ بالرحمة قلبه ، وبالحكمة رأسه ، ليرى الناس فيه ما يفقدون من صفات فيلتفوا حوله اليوم تمهيدا لالتفافهم حوله فى غد.
وحين استوى محمد شابّا ، واستوت باستوائه صفات الكمال كلها فيه ، رأى الناس أنهم بين يدى عجب استعصى على عامتهم تأويله ، ولم يستعص على خاصتهم من أولى الكتاب ، فعرفوا أنه النبى المرتقب.
ومضى محمد فى طريقه المرسوم يهيئه اللّه لتلقى ما سوف يوحى به إليه.
فغدا لا يرى فى منامه رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، وغدت الخلوة
(1/297)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 298
محببة إلى نفسه ، يقضى فى غار حراء الليالى ذوات العدد خاليا لعبادته ، ولا يعود إلى أهله إلا لكى يتزود لمثلها.
وفيما كان محمد فى غار حراء خاليا يتحنث تمثل له جبريل يحمل إليه الوحى من ربه ، ويؤذنه بدعوة قومه إلى اللّه الواحد الأحد وترك عبادة الأوثان.
و كان ابتداء الوحى فى شهر رمضان وفى السابع عشر منه ، يشير إلى قوله تعالى فى سورة البقرة : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. ويشير إلى الثانية قوله تعالى فى سورة الأنفال : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وكان التقاء الجمعين - أعنى المسلمين والمشركين يوم بدر - فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.
وكان أول ما نزل عليه من الوحى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
ولقد تلقاه الرسول مجهودا وانصرف به مشدوها ، ووقف فى مكانه بعد خروجه من حراء ناظرا فى آفاق السماء ، لا يتقدم أمامه ولا يرجع إلى الوراء ، إلى أن ارتدت إليه نفسه وانتهى إلى خديجة وهو يحس هزة المقرور.
وفتر الوحى فترة بلغت أعواما ثلاثة ، كانت لتلك النفس البشرية المختارة بمثابة الفترة التى سبقت الرحى وحبّب فيها إلى الرسول أن يتحنث ، فلقد هيأ هذا التحنث نفس محمد لهذا التلقى وقارب بها منه ، وإذا هى على الرغم من هذا التقريب وذاك الإعداد تهتز لجلال ما ترى وتسمع ، وإذا هى بهذا قد انتهت من مرحلة لتبدأ فى مرحلة ، وإذا المرحلة الجديدة فى حاجة إلى زاد كما كانت المرحلة الأولى فى حاجة إلى زاد ، وإذا هذا الزاد الجديد فترة يخلو فيها محمد إلى نفسه بما شاهد يتمثله مرة وسرة لتراح إليه روحه ، وليأنس به
(1/298)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 299
روعه ، حتى إذا ما تلقاه بعدها تلقاه متهيئا له. وهكذا كانت تلك الفترة خلو ثانية ، بعد تلك الخلوة الأولى فى غار حراء ، هيأت الأولى نفسه لتلقى الوحى وهيأت الثانية نفسه للأنس بالوحى.
وحركت فترة الوحى ألسنة أهل مكة بالقول فاسترسلوا يقولون : ودعه ربه؟؟
و قلاه. يرددها لسان الضلال شماتة بلسان الحق ، ويحاول العقل الغافل أن يخدع بها العقل الواعى ليصرفه عن الدعوة الجديدة.
و انضمت هذه التى خلا بها الخصوم من شماتة إلى تلك التى خلا بها الرسول من لهفة ، فإذا هو بعد هذه وتلك أحزن ما يكون على انقطاع الوحى ، وأشوق ما يكون إلى اتصاله.
ومع هذا التهيؤ الكامل لهذه النفس البشرية المختارة اتصل الوحى ونزل على محمد قوله تعالى : وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى . ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى يرد على المتقولين. ونزل عليه قوله تعالى : يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ يأمره أن يكون رسول ربه إلى الناس يدعوهم إليه وإلى الحق ، ويصرفهم عن الأوثان وعن الباطل.
وأخذ محمد يدعو إلى ربه ، وإلى هذا الدين الجديد الذى اصطفاه ربه له ، فى بيئة قد عرفت لها إيغالها فى الباطل واستكانتها إليه ، وبين قوم أشربوا الضلال فعاندوا عليه ، فاقتضت الحكمة الحكيمة أن تأخذ الدعوة طريقها سرّا لاعلانية ، وخفية لا جهرا ، تضم إليها الآنس بها وتجمع عليها من تفتح قلبه لها.
وكان أقرب الناس إلى الرسول من الرجال أبو بكر ، وكان له صديقا وإلفا ، ومن الصبيان على بن أبى طالب ، فى ظله نشأ وبين يديه شب ، ومن
(1/299)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 300
النساء زوجه خديجة ، وكانت كالئته فى خلواته وملاذه فى فزعاته ، ومن الموالى زيد بن حارثة ، وكان حب رسول اللّه ، وهبته خديجة له قبل النبوة ، وكان عمره إذ ذاك ثمانى سنين ، فأعتقه رسول اللّه وتبناه ، ومن العبيد بلال بن رباح الحبشى ، وكان قريبا من أبى بكر غير بعيد عما يرى. فكان هؤلاء جميعا أول من آمنوا بمحمد وأول من صدقوه. وبقى الرسول بمن آمن معه يدعو الناس خفية ، وما سلم الرسول وما سلم من معه - على الرغم من عدم مجاهرتهم بالدعوة - من أذى كبير حملوه راضين ، حتى إذا ما أفصحت الدعوة عن نفسها شيئا ، وغدت حديث البيئة ، لم يكن بد من أن يقف محمد ومن حوله القليلون المستضعفون للناس جهرا يدعون ، بعد أن قضوا نحوا من أعوام ثلاثة يسرون.
و كان الصدام بين الحق والباطل. وما جبلت النفوس الغافلة أن تخرج من غفلتها فى يسر ، ولا سيما إذا كانت تلك الغفلة تظلها عقيدة وبحميها تقليد ، وكانت تلك العقيدة وذلك التقليد إرث قرون.
ومشت قريش إلى الرسول تساومه على أن يطلب ما يشاء من ملك أو سيادة أو مال على أن يترك ما يدعو إليه ، فعادوا بغير ما كانوا يأملون ، ولقد كانت لهم فيها عظة لو كانوا يتدبرون.
من أجل هذا عنف هذا الصدام وقسا ، وذاق دعاة الحق من عنفه ومن قسوته الشىء الكثير ، وكان ماذاقوا ابتلاء لهذا الحق وابتلاء لهم ، إذ لو كان هو زيفا ما ضمهم إليه على عسره ، ولو كانوا هم على غير اليقين به ما انضموا إليه حاملين ما يمر.
ومضى محمد يشق الطريق بمن تبعه وسط هو جاء عاصفة ، يدبر للدعوة
(1/300)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 301
بتدبير السماء ، وكان حين يصبر على الأذى يصيبه يأسى للأذى يصيب أصحابه.
فلقد كان رسولا ، وكان فى عافية بمكانه من رسالته ، لا يخشى أن يزلزل إيمانه بها ترغيب أو ترهيب ، وكان أتباعه على حسن إيمانهم وعظيم صبرهم بشرا يجوز عليهم ما يجوز على البشر من الوعد والإيعاد ، ولقد وفى أكثرهم لمعتقده فلم يصرفه إيذاء كما لم يحوله إعطاء ، وهلك نفر منهم تحت سوط البلاء ، كما لان نفر منهم فأعطوا بألسنتهم وما نظنهم أعطوا بقلوبهم.
فلقد تتبع مشركو مكة من يسلمون بألوان الأذى كلها لا يقصدون ، فآذوهم فى أموالهم وآذوهم فى أهليهم وآذوهم فى أجسادهم ، وعز على رسول اللّه ما يلقى أصحابه ، وكانوا كلهم قد تخلت قبائلهم عن حمايتهم ، فمن كان منهم ذا بأس هابوه ، ومن كان منهم مستضعفا حملوا عليه.
وهنا يرى الرسول رأيا ، ويراه معه الذين استضعفوا أمرا ، لقد رأى الرسول لهؤلاء أن يهاجروا إلى الحبشة بعد أن سمع عن النجاشى عدله وإنصافه ، فخرج إلى الحبشة نفر من المسلمين ، على ما فى هذه الرحلة من ألم الفراق ووعثاء الطريق وعذاب الغربة.
و لكن قريشا لم ترض لمسلم أن يقر آمنا ، وإن كان على أرض غير أرضهم ، فحين بلغهم أن المسلمين أصابوا بالحبشة دارا وقرارا بعثوا فى إثرهم رجلين من من رجالهم وحملوهما هدايا للنجاشى وبطارقته ، وكاد الرجلان أن يكيدا للمسلمين عند النجاشى ، ولكن النجاشى حين استمع لهما واستمع للمسلمين رد الرجلين خائبين وترك المسلمين آمنين.
ويسلم حمزة بن عبد المطلب ، ويسلم عمر بن الخطاب ، وكانا رجلى بأس
(1/301)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 302
ففرح لإسلامهما المسلمون وأسى لإسلامهما المشركون ، لما رأوه من انتشار الإسلام على الرغم مما يفعلون. وخال المشركون أنهم لم يبلغوا فى الأذى ما يريدون فائتمروا بينهم أن يمعنوا فى الإيذاء إلى حد لا يقوى المسلمون له ، فكتبوا فيما بينهم كتابا تعاقدوا فيه على بنى هاشم وبنى المطلب على أن يقطعوا ما بينهم وبينهم فلا تكون ثمة صلات من زواج أو بيع أو شراء ، غير أن ذلك لم يجد شيئا.
ويفقد الرسول نصير بن عزيز بن إلى نفسه كريمين عليه ، الواحد بعد الآخر ، قبل أن يهاجر إلى المدينة بنحو من ثلاث سنين ، فلقد فقد عمه أبا طالب ، وكان نعم العون له ، كفله بعد وفاة جده عبد المطلب ، ووقف إلى جانبه منذ بعث يناصره ويرد عنه كيد المشركين ، وكان المشركون يهابون أبا طالب فلم يقدموا على كثير مما كانوا يريدون ، وبعد أيام ثلاثة فقد زوجته خديجة بعد زواج دام أربعة وعشرين سنة وستة أشهر ، ولقد علمت موقف خديجة من الرسول قبل أن يبعث وبعد أن بعث ، وكانت أول مسلمة وأول مناصرة ، رعت الرسول وقامت فى عونه أيام لاعون.
وكما حزن المشركون لإسلام حمزة وعمر فرحوا لموت أبى طالب وخديجة ، واشتطوا يمعنون فى الأذى ، غير أن الرسول ما أبه لأذى المشركين وما قعد عن لقاء الناس فى الأسواق يدعو لعقيدته.
و كان الإسراء الذى تم ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم المعراج إلى السماء. وفى تلك الليلة فرضت الصلاة على المسلمين ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة.
ولسنا نحب أن نخوض فيما خاض فيه المجتهدون من قبل حول الإسراء
(1/302)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 303
و المعراج ، أكان بالجسد أم كان بالروح ، واختلافهم دليل على أنه ليس ثمة قول قاطع ، وعندى أن الخير فى مثل هذه تقبل الصورة على إجمالها ، فنحن ملزمون بالتصديق بالإسراء والمعراج وأنهما وقعا حقّا ، ولكنا غير ملزمين أن نؤمن بالصورة التى وقعا بها ، ما دمنا لا نجد أثرا يملى إملاء صريحا ، وثمة حقائق دينية منها هذه ، يجب أن نقف عند مدلولها ولا نناقش صورها ، وأى شىء يعنى المؤمن عن الرسول فى هذه إلا أن يصدق بأنه أسرى به ، وأنه مع هذا الإسراء فرضت الصلاة ، وأين نفوسنا وما تملك من نفوس الرسل وما تملك ، وأين بصائرنا وما تحوز من بصائر الرسل وما تحوز ، ثم أين مكان المغمور فى حمأة المادة من مكان السابح فى شفافية المعنويات.
لقد أسرى بالرسول ، وعرج به ، ما فى ذلك شك ، ولقد فرضت الصلاة فى تلك الليلة ، ما فى ذلك شك ، بهدا حدثنا الرسول ونطق القرآن. ولو شاءا تفصيلا لزادا ، ولكنهما أعطيانا مانعى وما يعنينا وحجبا عنا ما بعد ذلك.
ولعل نظرة المشركين للإسراء يناقشون صورته التى وقع بها هى التى حفزت المسلمين بعد إلى أن يكدوا أنفسهم فى هذا الخلاف ، وليست صورة الوحى تبعد كثيرا عن صورة الإسراء ، ومن آمن بالأولى يؤمن بالثانية ، فكما اتصل محمد بربه فى تلك اتصل محمد بربه فى هذه ، وكما تلقى محمد عن ربه فى الأولى تلقى محمد عن ربه فى الثانية.
وحين ازداد المشركون إيذاء ازداد الرسول تعرضا للقبائل يعرض عليها ما نزل عليه من السماء ، وبينما هو عند العقبة قريبا من مكة لقى نفرا من
(1/303)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 304
الخزرج فعرض عليهم الإسلام فأجابوه وأسلموا ورجعوا إلى قومهم فى المدينة بالإسلام يدعونهم إليه.
حتى إذا كان العام المقبل لقى الرسول من الأنصار رجالا آخرين فبايعوه على الإيمان به ، وفى اللقية الثانية كان الاتفاق بين الأنصار والرسول على خروج الرسول إلى المدينة ، واستوثق الرسول واستوثق له عمه العباس ، وكان حاضرا فى هذا الاجتماع ، وكانت الهجرة إلى المدينة ، خرج إليها المسلمون وأقام الرسول بمكة يدبر لأمر خروجه.
وعلى الرغم من حيطة قريش خرج الرسول ومعه أبو بكر وركبا إلى المدينة ، وخرجت قريش فى إثرهما تطلبهما ، ففوت اللّه عليهم ما يطلبون.
وكان خروج الرسول من مكة يوم الخميس فى اليوم الأول من ربيع الأول ، وكان بلوغه المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه ، وكان ذلك ظهر يوم اثنين ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثا وخمسين سنة.
ولقد علم المسلمون أول ما علموا أن هذا البلاء زاد المسلم إلى الجنة ، وعصمته يوم الميعاد ، وما على الرسول إلا البيان ، وأن عليهم التمكن لهذا البيان ، ونصر اللّه صنو جهاد العبد وكفاحه وصبره ، على هذا رسالات السماء ، وعلى هذا رسل السماء إلى العباد ، يهبط الهدى حين تنتشر الظلمة ، ويتلقف الهدى رسول مختار ، يصطفيه اللّه صادقا جلدا صبورا ، فإذا الناس معه على الطريق لهم مثل همه ، نصرا نصراء للحق ينصرونه بصدقهم وجلدهم وصبرهم ، لا يحرصون على الحياة ، ولا يغريهم متاعها ، وإذا هم حين يؤيدون رسالة السماء ، قد أيدتهم رسالة السماء ، وإذا الدنيا معهم على هذا الحق ، وإذا هم سادة الدنيا بهذا الحق.
على هذا عرف المسلمون محمدا ، وبهذا قدم محمد نفسه للمسلمين ، لم يطمعوا
(1/304)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 305
فى أن تكشف السماء عنهم ضرّا لم يشمروا هم لكشفه ، ولا فى أن تزيح عنهم السماء بلاء لم يتهيئوا هم لإزاحته ، كما لم يجعلوا كلمة التوحيد وحدها سلاحهم على أعدائهم وعدتهم التى بها يقوون ، بل جعلوا هذه الكلمة هى اللبنة الأولى فى سرح إيمانهم ، وانضم بها بعضهم إلى بعض يتناصحون ، والرسول من بينهم يملى عليهم ويشير.
على هذا عاهد المسلمون اللّه ، وعلى هذا عاهد المسلمون الرسول ، وعاهدوا اللّه على أن يناصروا رسوله ، وعاهدوا الرسول على أن يناصروا رسالته ، ثم عاهدوا أنفسهم على البذل للتمكين للرسالة ، لا يسألون اللّه نصرا قبل أن يسألوا أنفسهم بذلا.
وعلى هذا عاش منهم فى مكة من أنس فى نفسه قوة على احتمال الأذى ولم يخش أن يفتن فى دينه ، وهاجر منهم إلى الحبشة من لم يقو على احتماله الأذى وخاف أن يفتن فى دينه ، حتى إذا كانت الهجرة إلى المدينة لم ينظر المهاجرون إلى وطن عزيز عليهم ، وأهل قريبين إلى نفوسهم ، ومال هو قوام حياتهم ، وإنما نظروا إلى عقيدة هى لهم الحياة كلها وطنا وأهلا ومالا ، وسرعان ما لحق بهم الرسول إلى المدينة ليبدأ بالمهاجرين معه من مكة وبالأنصار أهل المدينة مرحلة جديدة من مراحل الدعوة كانت معها حروب ، وكانت معها تضحيات ، وكان نصر اللّه صنو نصر المسلمين لرسوله ولرسالته ، وكتب اللّه بجهاد المجاهدين لهذه الدعوة أن تستقر ، وكتب لها أن تدخل بهم مكة فاتحين ليمحوا كلمة الإثم ويردوا أهلها إلى الهدى.
وغزا رسول اللّه بالمسلمين سبعا وعشرين غزوة ، كما بعث بعوثا وأرسل سرايا بلغت جميعا ثمانيا وثلاثين. وكانت هذه البعوث والسرايا والغزوات (م 20 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/305)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 306
كلها دفاعا عن النفس وذيادا عن الحق ، فلقد لبث الرسول بالمسلمين منذ بدأت الدعوة ثلاث عشرة سنة داعيا إلى اللّه بالمعروف ، يعرض به كما يعرض بالمسلمين ، فلا يعنيه ولا يعنيهم هذا التعريض ، ويؤذى المسلمون بين يديه فيدعوهم إلى الصبر ولا يهيجهم إلى الشر ، وكان ذلك يظن عن ضعف حين كان المسلمون قلة فما بالك بهم بعد أن أصبحوا كثرة. وكم من أيام آب فيها الصحابة إلى الرسول وهم ما بين مشجوج ومضروب يستأذنونه فى أن يردوا عن أنفسهم أو يثأروا من ضاربيهم فما كان جواب الرسول لهم إلا
قوله : اصبروا فإنى لم أومر بقتالهم.
وكانت حكمة السماء فى هذا الصبر أن يخرج الرسول بالأمة العربية من بعده على ود لم يعكره عداء أو عدوان ، وكانت حكمتها فى الإرخاء فيه إلى أن بلغ ثلاثة عشر عاما أن تعذر إلى من لم يسلموا ، ولم يكونوا غير أهل وإخوان ، الإعذار كله فلا تذر فى أيديهم سببا من أسباب اللوم ، ثم كانت حكمة السماء فى هذا الصبر الطويل أن تخلق فى المسلمين قوة الاحتمال والجلد والأناة والترفق ، إلى غير ذلك من صفات تعوز النفوس المقبلة على مهام جسمية ، وهل كانت رسالة الإسلام إلا رسالة جسمية؟
حتى إذا ما أعذر المسلمون إلى إخوانهم وأبلغوا فى الإعذار ، وصبروا وأمعنوا فى الصبر ، لم يكن بد من أن تتولى حكمة السماء هؤلاء الصابرين بتدبر يحفظ عليهم صبرهم من أن ينفد ، ويحفظ عليهم وجودهم من أن يستذل ، وترعى لهم كيانهم من أن يهان ، وما جاءت الدعوة الجديدة إلا لتحمى لهؤلاء وجودهم وكيانهم ، لهذا أذن للرسول فى أن يدفع عن نفسه ، وعن المسلمين.
(1/306)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 307
و نحن إذا تتبعنا الغزوات غزوة غزوة ، والسرايا سرية سرية ، والبعوث بعثا بعثا ، لا نجدها خرجت جميعها إلا لتدفع غزوا أو لترهب حتى تمنع غزوا.
فلقد خرج حمزة على أول بعث بعد سبعة أشهر من الهجرة ليلقى عيرا لقريش فيها أبو جهل قادمة من الشام ، وكان هذا البعث الأول نذيرا لقريش عله يكفها عن غيها ، لم يقصد فيه المسلمون إلا إلى هذا ، فحين دخل بين الفريقين رجل صلح كف المسلمون أيديهم ولم يدخلوا فى قتال.
وبعد شهر من هذا البعث خرجت سرية لتلقى أبا سفيان فى نفر من أصحابه ، وكانت بين الفريقين مناوشة أصيب فيها سعد بن أبى وقاص بسهم من سهام المشركين ، فكان أول سهم أصيب به مسلم فى الإسلام.
ثم كانت سرية سعد بن أبى وقاص التى خرجت تعترض عيرا لقريش ، فمرت العير ولم تقع عليها السرية.
وعلى رأس اثنى عشر شهرا من الهجرة خرج رسول اللّه وجمع من المسلمين يريدون ودان - الأبواء - حيث عير لقريش ، وحيث بنو ضمرة الذين كانوا يعينون عليه. ورجع رسول اللّه بمن معه من هذه الغزوة بعد أن صالحته بنو ضمرة على ألا تعين عليه. ولقد فاتته عير قريش فى هذه الغزوة كما فاتته فى غزوة بعدها هى غزوة بواط ، وكانت بعد شهر من غزوة ودان.
وبعد غزوة بواط كانت غزوة بدر الأولى التى خرج فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليدرك كرز بن جابر الفهرى ، وكان قد أغار على المدينة واستاق سرحا لها. غير أن كرزا فات جيش المسلمين فلم يدركوه.
وعلى رأس ستة عشر شهرا من الهجرة خرج حمزة بن عبد المطلب فى نفر
(1/307)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 308
من المسلمين يريدون عيرا لقريش قافلة من الشام ، وحين أدركوا العشيرة ، وجدوا أن العير فاتتهم.
وبعد شهر خرجت سرية فى اثنى عشر رجلا تبغى نخلة ، وهو مكان بين مكة والطائف ، لترصد قريشا وتعرف ما عندها ، غير أن تلك السرية التقت بعير لقريش فكان بينهما عدوان تورط فيه المسلمون وعادوا بغنائم وأسرى ، وكانوا فى رجب ، وهو شهر حرام ، فعاتبهم الرسول عليها حين عادوا إليه.
ثم كانت غزوة بدر الثانية فى السابع عشر من رمضان فى السنة الثانية من الهجرة ، وكانت بسبب تلك العير التى فاتت المسلمين فى العشيرة ، وفيها كانت الحرب بين المسلمين والمشركين ، وفيها انتصف المسلمون من المشركين على الرغم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين.
وبعد ليال سبع من مرجع المسلمين من بدر خرج الرسول يريد بنى سليم ، وحين أحس بنو سليم بالمسلمين يطلبونهم ولوا هاربين.
وهكذا بدأت رهبة المسلمين تدب فى قلوب المشركين ، وبعد أن كانوا قلة مستضعفين غدوا كثرة مرهوبين.
وهنا أحب أن أقف بك وقفة قصيرة ، فالحديث عن هذه الغزوات والسرايا والبعوث ذو شقين ، ينتهى شقه الأول إلى ما قبل بدر الثانية ، ثم هو منذ بدر الثانية ذو شق آخر.
ولقد مر بك فى هذا الشق الأول عرض لكل ما كان فيه من هذه السرايا والبعوث والغزوات ، ولقد رأيت فيها المسلمين قد شمروا لإثبات وجودهم وليظهروا فى مظهر القوى بعد أن عاشوا فى مظهر المستضعف ، وأن ذلك كان منذ أن استقرت أقدامهم فى المدينة بقليل ، وأنهم لم يلبثوا غير سبعة أشهر فى المدينة كان بعدها خروجهم لهذا الإعلان عن قوتهم.
(1/308)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 309
و الدعوات عجلة بقدر ماهى مستأنية ، تستأنى وتطيل الاسنئناء ما وجدت فى هذا الاستئناء الخير ، وتعجل فتسرع إلى العجلة ما وجدت فى هذه العجلة الخير. ولقد تلبث الرسول بمن معه من المسلمين ثلاثة عشر عاما - كما قلت لك - لا يحب أن يخرج بالمسلمين عن الصبر والاحتمال لأسباب بينتها لك ، حتى إذا ما نفدت حكمة الصبر كانت حكمة الخروج عن الصبر.
ولقد خرج المسلمون من المدينة فى تلك السرايا والبعوث والغزوات ليثبتوا للملأ من حولهم أنهم خرجوا عن صبرهم ، وليثبتوا للملأ من حولهم أنهم قوة تملك أن ترهب.
و لا غرو أن نرى هذا الشق الأول كله يمضى فى التعرض لعير بعد عير ، فلقد كان هذا أسلوب ذلك العصر فى الإرهاب ، وما أراد المسلمون غير أن يهابوا ويرهبوا وأن يبادلوا جيرانهم هذا الأسلوب الإرهابى.
ولم يكن فيه عليهم غضاضة ، فلقد رأيتهم فى كل ما فعلوا لم يقصدوا إلا الإعلان عن خروجهم ، ولقد فاتتهم العير فى الكثير من خرجاتهم ، وحين التقوا بخصومهم مرة كان هذا الصلح الذى ثم بين حمزة وأبى جهل فى البعث الأول ، ثم لقد رأيت كيف عاتب الرسول أصحابه على ما كان منهم فى نخلة.
إذن لم يكن صحيحا ما اتهم به المغرضون محمدا وأصحابه عن هذا الشق الأول من الحروب بأنها كانت للسلب ، فلقد رأيت معى كم سلب المسلمون فيها وكم عيرا لقوا. والصحيح كما ثبت لك أن هذه الحروب - إن صح أنها كانت حروبا - لم يقصد منها المسلمون إلا الذى حدثتك عنه ، وأنها لم تكن غير وثبة بعد صبر طويل ، وكانت وثبة تحكى وثبات العصر فى شىء وتخالفه فى شىء ، تحكيه فى مظهرها الإرهابى وتخالفه فى مظهرها السلبى.
(1/309)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 310
و منذ أن دخل المسلمون مع المشركين فى غزوة بدر الثانية بدأ الشق الثانى من الحروب ، فلقد أخذت الحرب فى هذا الشق الثانى مظهرها الحق ، فنشبت تمليها الخصومة القائمة بين عقيدة وعقيدة ، وكان الخروج إليها خروجا من أجل إثبات عقيدة ومحو أخرى ، واختفت تلك الأسباب الأولى التى أثارت حروب الشق الأول ، اختفى مظهر الإرهاب وما إليه من تتبع عير أو التعرض لها ، وبدا مظهر التطاحن من أجل العقيدة ، وعلى هذا توالت غزوات الشق الثانى.
فكانت غزوة بنى سليم التى حدثتك عنها ، ثم غزوة بنى قينقاع يهود المدينة ، وكانوا على غير صفاء مع المسلمين ، وبعد هذه الغزوة كانت غزوة السويق التى خرج فيها أبو سفيان ليثأر لبدر.
وحين رجع الرسول من غزوة السويق خرج يغزو غطفان ، وكان قد بلغه أنهم أعدوا العدة لغزوه.
ثم كانت غزوة أحد التى خرج فيها المشركون ليثأروا من المسلمين بيوم بدر ، وفيها خالف رماة المسلمين أمر الرسول وتدبيره فكانت الغلبة للمشركين.
وبلغ رسول اللّه عقب قفوله من «أحد» أن المشركين يهمون بالرجوع إلى المدينة بعد أن كسبوا شيئا من النصر فى أحد ، فخرج الرسول بأصحابه الذين كانوا معه فى أحد وحدهم إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة حتى لا يطمع فيه عدوه.
وفى ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة كانت غزوة بنى النضير من يهود المدينة ، وكانوا قد كادوا للرسول وهموا بقتله.
(1/310)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 311
و بعد هذه الغزوة بنحو من شهرين خرج رسول اللّه إلى غزوة ذات الرقاع ليغزو قوما من غطفان كان قد بلغه عنهم أنهم جمعوا جموعا لمحاربته.
ثم كانت غزوة بدر الأخيرة ، وقد كان أبو سفيان حدد موعدها بعد بدر الثانية ، غير أنه خشى بأس المسلمين فلم ينهض إليهم.
ولمثل ما خرج إليه الرسول يوم ذات الرقاع كان خروجه إلى دومة الجندل - مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وتبعد عن المدينة خمس عشرة ليلة - فلقد بلغ الرسول أن قوما يعسفون ، وأنهم على أن يمتدوا بعسفهم إلى المدينة ، فخرج إليهم فإذا هم يقرون ، فعاد المسلمون وقد غنموا شيئا.
ولمثل هذا أيضا كان خروج الرسول إلى المريسيع.
واتفقت كلمة اليهود مع كلمة المشركين على أن يغزو محمدا فى المدينة مجتمعين ، فكانت غزوة الخندق التى حفر فيها الرسول خندقا حول المدينة يحميها من هذا الهجوم ، ولقد كتب فيها النصر للمسلمين وارتد المشركون عن المدينة مدحورين.
ولم يكن بد من أن يأخذ المسلمون اليهود بمناصرتهم لقريش فى غزوة الخندق ، فما كاد المشركون يرتدون عن المدينة حتى خرج المسلمون لغزو بنى قريظة وإملاء شروطهم عليهم.
و كانت بعد هذه غزوات وسرايا ، كان الخروج إليها لمثل تلك الأسباب التى مرت بك ، إلى أن كان أمر الحديبية حين خرج رسول اللّه يريد مكة بعد ست سنوات من الهجرة وحيث كانت المصالحة بينه وبين قريش على أن يرجع عنهم عامهم هذا.
(1/311)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 312
و فى السنة السابعة من الهجرة كانت غزوة خيبر حيث اجتمع اليهود على حرب المسلمين ثم فتحها.
وبين غزوة خيبر سنة سبع وفتح مكة سنة ثمان كانت سرايا وغزوات لرد عدوان أو كبت خصومة. وبفتح مكة عاد الإسلام إلى موطن الرسالة ومكان البيت ، وقضى على كلمة الشرك القضاء الأخير بعد أن اقتحم عليه معقله.
ولقد خاض المسلمون بعد فتح مكة حربين حملوا عليهما ، كانت أولى هاتين الحربين غزوة حنين التى تهيأت فيها هوازن لحرب الرسول ، وكانت بينهم وبين المسلمين حرب طاحنة كتب فيها النصر أخيرا للمسلمين.
وتبعت هذه الحرب حرب ثانية كانت امتدادا للحرب الأولى وهى غزوة الطائف.
وكانت بعد غزوة الطائف سرايا من نوع ما سبق من سرايا ، إلى أن كانت غزوة تبوك سنة تسع وكانت آخر غزواته صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قد خرج فيها للقاء الروم ، ولم يكن لقاء.
وإن نظرة إلى جيش المجاهدين المسلمين عند أول بعث خرجوا له ، وعند آخر جيش تعبئوا له ، ندرك كيف بدأ المسلمون وكيف انتهوا ، فلقد كان بعث حمزة ثلاثين راكبا وكان جيش تبوك ثلاثين ألفا ، وكانت الخيل فيه عشرة آلاف.
وهكذا خلقت العقيدة من القلة كثرة ، ومن الضعف قوة ، وبعد أن كان المؤمنون قلة مستضعفين غدوا كثرة مرهوبين. وكان نصر اللّه فى ظل راياتهم أنى تخفق ، ومع خطوات جيوشهم أنى تسير.
(1/312)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 313
و فى ذى الحجة من السنة العاشرة للهجرة حج الرسول بالمسلمين حجة الوداع وفيها خطب الناس خطبته البلقاء التى رسم للناس فيها الحدود وذكرهم بمعالم الدين ، وفيها ودع الناس وكأنه يحس أنه ملاق ربه.
و فى أواخر صفر من السنة الحادية عشر للهجرة أخذ المرض رسول اللّه ولبث مريضا أياما ، يقدرها بعضهم بسبعة أيام ويقدرها بعضهم بثلاثة عشر يوما.
وفى يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول من تلك السنة - أعنى السنة الحادية عشرة للهجرة - قبض رسول اللّه عن ثلاث وستين سنة قمرية.
وكانت أعوام بعثته ، منذ بعثه اللّه إلى أن قبضه إليه ، نحوا من ثلاثة وعشرين عاما ، قضى أكثرها وما يزيد على نصفها فى مكة تسانده زوجته خديجة إلى أن ماتت قبل الهجرة إلى المدينة بنحو من أعوام ثلاثة.
وفى المدينة عاش الرسول نحوا من أحد عشر عاما وقعت فيها الغزوات كلها ، والسرايا والبعوث كلها ، وعلى الصحيح فى تسع منها ، لأن أول بعث كان فى السنة الثانية من الهجرة. ولقد علمت من قبل أن مجموع تلك الحروب كانت نحوا من خمس وستين ، لتعلم هنا أن نصيب كل عام من تلك الأعوام من هذه الحروب بلغ السبع ، أى أنه صلى اللّه عليه وسلم كان له فى كل شهر تدبير جيش ولقاء عدو ، هذا إلى تلك التشريعات الكثيرة التى وضعها عن أمر ربه والحدود التى بينها بوحى من ربه ، ثم ما بين هذا وذاك من لقاء وفود ولقاء أفراد ، وكتب إلى الملوك والأمراء ، وقيام بأمور المسلمين جميعا ، وما كان أكثرها.
ترى فى ظل هذا كله كيف كان الرسول يفرغ لشأنه ، وكم من ساعات
(1/313)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 314
يومه كانت له خالصة ، ونحن نعلم ، إلى هذا الذى ذكرناه له من واجبات ، واجبات أخرى ، وكانت لربه يختصها بالعبادة.
هذه هى حياة أعوام تسعة رأيت كيف ملأت الواجبات الثقال صفحاتها ، ورأيت كيف شغل فيها الرسول بتدبير شئون العقيدة شغلا متصلا.
ومن الغريب أن هذه الأعوام التسعة التى لا نكاد نجد فيها بين ساعاتها ساعة كانت للرسول خاصة ، هى الأعوام التى يتطاول المتقولون فيقولون :
إن الرسول عاش فيها لمتاعه بثلاث عشرة امرأة.
و هذا التطاول يرده ما قدمت ، ويرده أن الرسول فى شبابه لم تعهد عليه ريبة ، فقد بنى على خديجة وهو فى الخامسة والعشرين وهى فى الأربعين ، وبقى معها إلى أن توفاها اللّه قبل الهجرة بأعوام ثلاثة كما مر بك ، وكان عمره إذ ذاك خمسين سنة.
وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة هى سودة بنت زمعة ، وكانت تحت ابن عمها السكران بن عمرو ، وكان السكران هو وزوجته من مهاجرة الحبشة ، وحين رجع بزوجته من الحبشة إلى مكة مات بها ولم يكن له عقب يرعى سودة فتزوجها الرسول.
ولم يتزوج الرسول بكرا غير عائشة بنت أبى بكر وبنى بها بالمدينة ، كما تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وكانت تحت خنيس بن حذافة السهمى ، ثم مات خنيس فعرضها عمر على أبى بكر فلم يجب ، ثم عرضها على عثمان فسكت ، ورأى الرسول الأسى فى وجه عمر فضم حفصة إليه.
وضم إليه الرسول زينب بنت خزيمة بعد أن قتل عنها زوجها عبد اللّه ابن جحش يوم أحد.
(1/314)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 315
و ضم إليه بنت عمته زينب بنت جحش ، وكانت من قبله زوجة لمولاه زيد بن حارثة.
وبعد زينب ضم إليه الرسول أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان ، وكانت هاجرت مع زوجها عبيد اللّه بن جحش إلى الحبشة بعد أن أسلما ، ثم تنصر زوجها هناك فى الحبشة ومات بها ، وأبت هى أن تتنصر وبقيت على إسلامها فتزوجها الرسول وهى بالحبشة.
وضم إليه الرسول أم سلمة هند بنت أبى أمية ، وكانت هى الأخرى من مهاجرات الحبشة توفى عنها زوجها وخلف لها ولدين وبنتين.
وضم إليه الرسول خالة خالد بن الوليد ميمونة بنت الحارث ، وكانت قبله عند أبى رهم العامرى.
وضم إليه رسول اللّه صفيه بنت حيى بن أخطب ، وكانت زوجة لسلام ابن مشكم اليهودى ، ثم لكنانة بن أبى الحقيق ، فقتل عنها كنانة يوم خيبر.
و ضم إليه رسول اللّه جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار ، وكانت فى سبى غزوة المصطلق ، وما إن علم المسلمون بزواج الرسول منها حتى أطلقوا ما فى أيديهم من بنى المصطلق ، وقد بلغ عدد من أعتقوا مائة.
وأنت ترى أن اثنتين منهن ، وهما عائشة وحفصة ، كانتا ابنتى صحابيين جليلين هما أبو بكر وعمر ، وأن ثلاثا منهن كن من المهاجرات إلى الحبشة اللاتى فقدن أزواجهن ، وهن : سودة ، ورملة ، وهند ، وأن واحدة منهن ، وهى زينب بنت خزيمة ، قتل عنها زوجها يوم أحد ، وأن واحدة منهن ، وهى ميمونة بنت الحارث كانت خالة لخالد بن الوليد الفارس المعروف ، وكان بناء الرسول بها مع دخول خالد فى الإسلام ، وأن واحدة منهن ،
(1/315)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 316
و هى جويرية بنت الحارث ، قرب الرسول ببنائه بها ما بين المصطلق والمسلمين.
وأن واحدة منهن ، وهى بنت عمه زينب بنت جحش ، كان بناؤه بها تشريعا فى الإسلام فى إبطال جعل الموالى لهم حكم الأبناء.
وأن واحدة منهن ، وهى خولة بنت حكيم ، كانت قد وهبت نفسها للنبى.
وأما عن صفية بنت حيى اليهودية فلقد كادت تثير لجاجا بين المسلمين حين وقعت فى نصيب دحية بن خليفة الكلبى ، فحسم الرسول هذا الخلاف ببنائه بها ، وكانت من بيت رياسة فى اليهود.
أرأيت إلى الرسول ومن بنى بهن وكيف بنى بهن ، ثم أرأيت إلى أن هذا كله كان فى تلك الأعوام التى أحيطت بالشدائد وكان عبء تدبير هذا كله على عاتقه. ثم استمع لتعلم كيف كان الرسول فى حياته ، لقد كان زاهدا فى دنياه غليظا على نفسه فى مسكنه وما كله ومشربه وملبسه ، وكثيرا ما كان يجتزىء بالخبز والماء.
و كم كانت الشهور تمضى دون أن توقد فى داره نار لطهى ، وكثيرا ما رئى وهو يرفو ثوبه بيده ، وكان صلى اللّه عليه وسلم يرقد ليس بينه وبين الأرض إلا حصير قد أثر بجنبه ، وتحت رأسه وسادة من أدم محشوة ليفا ، وكانت بيوته من لبن ، والحجر من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود.
ولقد دخلت امرأة من الأنصار على عائشة فرأت فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عباءة مثنية فانطلقت فبعثت إليها بفراش حشوه صوف ، فدخل عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : ما هذا؟ فأخبرته ، فأمرها بردها ثلاثا ، فلم تفعل ، فقال لها صلى اللّه عليه وسلم : يا عائشة لو شئت لأجرى اللّه معى جبال الذهب
(1/316)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 317
و الفضة ، ثم هو بعد هذا كان القوّام الصوّام المتبتل.
فأية دنيا تلك التى أرادها الرسول بهذا الزواج؟ وإن حياة الرسول الأولى لتملى عليه حياته الثانية ، ولقد كان الرسول عفّا فى شبابه ، عفّا فى زواجه من خديجة ، أثقل أعباء مع عفته فى حياته الأخيرة.
صفحات من جهاد طويل متصل أخرج بها محمد الجزيرة العربية من عماية الضلال إلى نور الحقيقة ، ومن رجس الشرك إلى طهر الإيمان ، ومن آثام الباطل إلى صالحات الأعمال.
فإذا الجزيرة العربية على دين الإسلام تؤمن برب واحد حق بعد أن كانت موزعة بين أرباب كثيرة زائفة ، برئت من الأوثان والأصنام وكانت آفة العقل ، واطرحت وأد البنات وكانت سبة الأبد ، وعفت عن الآثام وكانت غارقة فيها للأذقان ، واستقامت على الطريق لتحمل راية الدعوة تبشر بها الآفاق فإذا هى بعد قليل قد أظلت برأيتها بقاعا لا تحصى وخلقا لا يعد.
تلك حياة الرسول أجملت لك مآثرها وماتم منها ، وما تم هذا كله بعيدا عن تدبير السماء ، وما تم هذا كله إلا عن وحى متصل يملى على الرسول بكرة وعشيّا فيمليه هو على قومه.
و هذا الوحى الذى تلقاه الرسول عن ربه وتلقاه المسلمون عن رسولهم إلى أن قبضه اللّه إليه ، هو هذا الكتاب الكريم الذى جمع للمسلمين دينهم ، وجمعهم على دينهم ، وحفظ لهم حياتهم أمة مسلمة ، وحفظهم على حياتهم أخوة مسلمين.
(1/317)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 318
و ما من شك فى أن هذا الكتاب الكريم يحمل معجزة ثانية خالدة بخلوده ، فلقد كانت معجزته الأولى فى بيانه الذى خرست معه الألسنة فما تنطق ، وفى فصاحته التى شدهت معها الأفئدة فما تعى ، وسوف يظل هذا البيان وتلك الفصاحة حجة على العالمين.
تلك كانت معجزة القرآن الأولى يوم طالع الرسول العرب ، وهم ما هم بيانا وفصاحة ، فخروا لها ساجدين وأذعنوا لها مسلمين.
أما عن معجزته الثانية فهى فى حمايته أمة من أن تشيع فى أمم ، ولغة من أن تذوب فى لغات.
فما نعرف شيئا حمى اللغة العربية من الضياع - مع تلك الأزمات العاصفة التى مرت بها والتى كم أودت مثيلات لها من لغات وبلبلت من ألسنة - غير هذا الكتاب الكريم ، أبعدت ما أبعدت الشعوب العربية عن الكلام بلغتها العربية وكان هو مردها إليها ، كلما أو شكت أن تنفصم صلتها بها ربطها هو بها.
وهكذا عاشت الأمة العربية بعيدة بكل ما فى يديها عن لغتها قريبة بهذا الكتاب وحده إلى لغتها.
وحين حمى هذا الكتاب اللغة لأهلها حمى هؤلاء من أن يتفرقوا أيدى سبأ ، فلو أن الزمن بلبل ألسنتهم أمما مختلفة ذات ألسنة مختلفة ما وجدت بينهم هذه الصلة الضامة من اجتماع على تراث خالد ، كان هو بمثابة الأب الروحى الذى يصل بين الأرواح والنفوس والقلوب.
(1/318)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 319
و يكذبك من ينكر عليك أثر اللغة فى التقريب بين شعوب مختلفة الجنس ، فما بالك بشعوب يكاد يجمعها جنس واحد.
و كما حفظ هذا الكتاب الكريم هذا المقوم للأمة العربية ، وهو اللغة ، حفظ مقوما آخر هو الدين ، فلقد عاش هذا الكتاب على الألسنة وفى القلوب فوق ما هو مكتوب يسمع ويتلى فى أوقات متلاحقة متصلة ، لا يكاد الناس ينسون حتى يتذكروا ، ولا يكادون يبعدون حتى يقربوا ، فإذا هم على دينهم كما هم على لغتهم ، وإذا هذه اللغة وذاك الدين يمسكان الأمة العربية فلا تضل عنها لغتها ولا تضل هى عن دينها.
ولا غرو أن كانت للمسلمين به عنايات متصلة طالت وتنوعت ، وهذا أوان ضم هذا كله فى سرد مختصر جامع يعرف به المسلم ما يتصل بقرآنه فى يسر يسير ، دون أن يفوته شىء أو يبهم عليه أمر.
(1/319)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 320
(1/320)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 321
الباب الثانى تاريخ القرآن الكريم
(م 21 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/321)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 322
(1/322)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 323
1 - أمية الرسول
لقد كان محمد صلوات اللّه عليه أميّا لا يعرف أن يقرأ ولا يعرف أن يكتب ، ما فى ذلك شك ، يدلك على ذلك اتخاذه بعد أن أوحى إليه كتّابا يكتبون عنه الوحى ، منهم : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، وعلىّ بن أبى طالب ، والزّبير بن العوام ، وأبىّ بن كعب بن قيس ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبى سفيان ، ومحمد بن مسلمة ، والأرقم بن أبى الأرقم ، وأبان بن سعيد بن العاص ، وأخوه خالد بن سعيد ، وثابت بن قيس ، وحنظلة بن الربيع ، وخالد بن لوليد ، وعبد اللّه بن الأرقم ، والعلاء بن عتبة ، والمغيرة بن شعبة ، وشرحبيل بن حسنة. وكان أكثرهم كتابة عنه : زيد بن ثابت ، ومعاوية «1».
كما يدلك على ذلك أيضا ما ذكره المؤرخون عند الكلام على غزوة «أحد» أن العباس وهو بمكة كتب إلى النبى كتابا يخبره فيه بتجمّع قريش وخروجهم ، وأن العباس أرسل هذا الكتاب مع رجل من بنى غفار ، وأن النبىّ حين جاءه الغفارىّ بكتاب العبّاس استدعى أبىّ بن كعب - وكان كاتبه - ودفع إليه الكتاب يقرؤه عليه ، وحين انتهى «أبىّ» من قراءة الكتاب استكتمه النبىّ.
ولو كان النبى غير أمى لكفى نفسه دعوة «أبىّ» لقراة كتاب العبّاس فى أمر ذى بال.
وثمة ثالثة يذكرها المؤرخون أيضا عند قدوم وفد ثقيف على النبى ، فلقد سألوا النبى حين أسلموا أن يكتب لهم كتابا فيه شروط ، فقال لهم : اكتبوا ما بدا لكم ثم ائتونى به. فسألوه فى كتابهم أن يحل لهم الرّبا والزّنا. فأبى علىّ بن أبى طالب أن يكتب لهم. فسألوا خالد بن سعيد بن العاص أن يكتب لهم. فقال له على : تدرى ما تكتب؟ قال : أكتب ما قالوا ورسول اللّه أولى بأمره. فذهبوا بالكتاب إلى رسول اللّه فقال للقارىء : اقرأ. فلما انتهى إلى الرّبا ، قال له الرسول : ضع يدى عليها. فوضع يده. فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا «2» ثم محاها. فلما بلغ الزّنا وضع يده ثم قال : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى «3» ثم محاها ، وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا «4».
__________
(1) تاريخ دمشق.
(2) البقرة 278.
(3) الإسراء : 32.
(4) أسد الغابة ترجمة (تميم بن جراشه).
(1/323)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 324
و لقد عثر الباحثون على الكتابين المرسلين من النبىّ إلى المقوقس وإلى المنذر بن ساوى ، والكتاب الأول محفوظ فى دار الآثار النبوية فى الآستانة ، وكان قد عثر عليه عالم فرنسىّ فى دير بمصر قرب أخميم ، والكتاب الثانى محفوظ بمكتبة فينا.
و من قبل هذه الأدلة يقول تعالى فى الرسول : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ «1». ويقول تعالى فى الرسول أيضا : وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «2».
ولم تكن البيئة العربية على هذا بيئة كاتبة قارئة ، بل كان ذلك فيها شيئا يعد ويحصى ، وكان حظّ المدينة من ذلك دون حظ مكة ، ولم يكن فى المدينة حين هاجر إليها الرسول غير بضعة عشر رجلا يعرفون الكتابة ، منهم : سعيد بن زرارة ، والمنذر بن عمر ، وأبى بن وهب ، وزيد بن ثابت ، ورافع ابن مالك ، وأوس بن خولى. ولقد أحس الرسول ذلك بعد هجرته إلى المدينة ، فكان أول ما فعله بعد انتصاره فى «بدر» وأسره من أسر من رجال قريش القارئين الكاتبين ، أن جعل فدية هؤلاء أن يعلّم كلّ رجل منهم عشرة من صبيان المسلمين ، وبهذا بدأت الكتابة تروج سوقها فى المدينة.
حتى إذا كان عهد عمر بن الخطاب أمر بجمع الصّبيان فى المكتب ، وأمر عبد عامر بن عبد الخزاعىّ أن يتعهدّهم بالتعليم ، وجعل له رزقا على ذلك يتقاضاه من بيت المال.
وكان المعلّم يجلس للصبيان بعد صلاة الصّبح إلى أن يرتفع الضحى ، ومن بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر.
وحين خرج عمر إلى الشام وغاب عن المدينة شهرا استوحش إليه الناس ، وخرج صبيان المكتب للقائه على مسيرة يوم من المدينة ، وكان ذلك يوم الخميس ، ورجعوا معه إلى المدينة يوم الجمعة ، وقد انقطعوا عن المكتب يومين أجازهما لهم عمر ، وكانت بعد ذلك عادة متبعة «3».
وحين اختار اللّه لرسالته «محمدا» اختار فيه صفات حسّية وصفات معنوية. أمدّهما به وطبعه عليهما ، فوهبه من الأولى نفسا قوية ، وروحا عالية ، وقلبا كبيرا ، وذهنا وقّادا ، وبصيرة نفاذة ، ولسانا مبينا ،
__________
(1) الأعراف : 156.
(2) العنكبوت : 48.
(3) عنوان البيان ، الفواكه الدوانى على رسالة أبى زيدون القيروانى.
(1/324)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 325
و فكرا واعيا ، ووهبه من الثانية صدق لسان ، وطهارة ذيل ، وعفة بصر ، وأمانة يد ، ورحمة قلب ، ورقّة وجدان ، ونبل عاطفة ، ومضاء عزيمة ، ورحمة للناس جميعا.
وكان اختيار اللّه له أميّا لا يقرأ ولا يكتب يضيف إلى إذعان الناس له وإيمانهم برسالته سببا يفسره تعالى فى قوله : وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «1». ويبيّنه صدور هذا الوحى على لسانه يتلوه على قومه بكرة وعشيّا ، ولا تبديل فيه ولا تغيير ، وما يقوى على مثلها إلا من يملك أسفارا يعود إليها ليستظهر ما فيها.
وليس فى منطق الرسالات أن تكون الحجّة للناس عليها ، بل لا تطالع الناس إلا والحجّة لها عليهم ، كما لا تطالعهم إلا وفى صفحاتها الجواب على كل ما يصوّره لهم تصوّرهم ، تحوط السماء رسالاتها بهذا كله لكيلا يكون للناس على اللّه حجة ، وليكون منطق الرسالات من منطق الناس ، لا تلتوى عليهم الرسالة فيلتووا هم عليها.
ولم يكن اختيار محمد صلى اللّه عليه وسلم قارئا وكاتبا شيئا يعزّ على السماء ، ولكنه كان شيئا إن تمّ يهوّن من حجّة السماء فى نفوس الناس ، وكانوا عندها يملكون أن يقولوا باطلا ما حرص القرآن على ألا يقولوه : من أن هذا الذى جاء به الرسول قد أخذه من أسفار سابقة.
وهذه التى ألزمتها حجة السماء السلف من قبل ، فأذعنوا لها عن وعى وبصر - وأعنى بها أمية الرسول - أراد أن يثيرها نفر من الخلف من بعد ليخرجوا على حجة السماء عن غير وعى ولا بصر.
غير أننا نفيد من هذا الذى يريد الخلف أن يثيروه تأكيد المعنى الذى قدّمناه من أن حجة السماء تجىء أشمل ما تكون بشكوك العقول ، محيطة بكل ما يصدر عنها ، يستوى فى ذلك أولهم وآخرهم.
و قد ننسى ، مع هؤلاء المخالفين الطاعنين ، تقرير القرآن الصادق عن أمية محمد والادلّة القائمة فى ظلّ القرآن على ذلك ، قد ننسى هذا وذاك لنسائلهم : أى جديد يفيدهم هذا - إن صح - وقد مضى على رسالة محمد ما يقرب من أربعة عشر قرنا خطا فيها العلم والبحث خطوات سريعة ، وما وجدنا شيئا ينال من هذه الرسالة من قرب أو من بعد ، جهر به أو أسرّ من يريدون أن يجعلوا محمدا قارئا كاتبا ، وأن يجعلوا من هذا سببا إلى أنه نقل عن أسفار سابقة.
__________
(1) العنكبوت 48.
(1/325)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 326
2 - نزول الوحى :
و قد تقدم أن ابتداء نزول الوحى كان فى السابع عشر من رمضان ، من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول ، وأن قوله تعالى : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ «1» يشير إلى ذلك ، فالتقاء الجمعين - أعنى المسلمين والمشركين ببدر - كان فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وفى مثلها من السنة الحادية والأربعين من مولده كان ابتداء نزول الفرقان ، ينضم إلى هذه الآية قوله تعالى : شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «2».
والصحيح أن أوّل ما نزل من القرآن قوله تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «3» ، ثم كانت فترة الوحى التى أشرنا إليها من قبل والتى مكثت سنين ثلاثا. وبعدها أخذ القرآن ينزل على الرسول منجّما ، فنزلت : ن والقلم ، ثم المزمل ، ثم : المدثر ، إلى غير ذلك مما نزل مقامه صلّى اللّه عليه وسلم بمكة ، منذ بعث إلى أن هاجر ، وكان ذلك اثنتى عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما ، أى منذ اليوم السابع عشر من رمضان من سنة إحدى وأربعين من مولده إلى اليوم الأول من شهر ربيع الأول من سنة أربع وخمسين من مولده.
و قد ذكر ابن النديم بإسناده عن محمد بن نعمان بن بشير السور على ترتيب نزولها المكى والمدنى ، وقد عرض لهذا أيضا البقاعى إبراهيم بن عمر (885 ه) فى كتابه «نظم الدرر فى تناسب الآى والسور».
غير أن بين ما ساق ابن النديم وبين ما ساق البقاعى خلافا.
وثمة جداول تنظم ترتيب ابن النديم المكى ثم المدنى ، كما تنظم ترتيب البقاعى المكى والمدنى ، ومن المساقين نستطيع أن نتبين هذا الخلاف :
__________
(1) الأنفال : 41
. (2) البقرة : 185.
(3) العلق : 1.
(1/326)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 327
(1) - ترتيب نزول السور كما رواها ابن النديم
(أ) المكية
الرقم/ السورة/ الرقم/ السورة 1/ اقرأ باسم ربك الذى خلق ، إلى قوله : علم الإنسان/ 25/ والشمس وضحاها ما لم يعلم/ 26/ والسماء ذات البروج 2/ ن والقلم/ 27/ والتين والزيتون 3/ يأيها المزمل. وآخرها بطريق مكة/ 28/ لإيلاف قريش 4/ المدثر/ 29/ القارعة 5/ تبت يدا أبى لهب/ 30/ لا أقسم بيوم القيامة 6/ إذا الشمس كورت/ 31/ ويل لكل همزة 7/ سبح اسم ربك الأعلى/ 32/ المرسلات 8/ ألم نشرح لك صدرك/ 33/ ق. والقرآن 9/ والعصر/ 34/ لا أقسم بهذا البلد 10/ والفجر/ 35/ الرحمن 11/ والضحى/ 36/ قل أوحى 12/ والليل/ 37/ يس 13/ والعاديات ضبحا/ 38/ المص 14/ إنا أعطيناك الكوثر/ 39/ تبارك الذى نزل الفرقان 15/ ألهكم/ 40/ الملائكة 16/ أرأيت الذى/ 41/ الحمد اللّه فاطر 17/ قل يأيها الكافرون/ 42/ مريم 18/ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل/ 43/ طه 19/ قل هو اللّه أحد/ 44/ إذا وقعت 20/ قل أعوذ برب الفلق/ 45/ طسم (الشعراء) 21/ قل أعوذ برب الناس (وقيل : إنها مدنية)/ 46/ طس 22/ والنجم/ 47/ طسم (الآخرة) 23/ عبس وتولى/ 48/ بنى إسرائيل 24/ إنا أنزلناه/ 49/ هود
(1/327)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 328
الرقم/ السورة/ الرقم/ السورة 50/ يوسف/ 69/ الأنعام (فيها آى مدنية) 51/ يونس/ 70/ النمل (آخرها مدنى) 52/ الحجر/ 71/ نوح 53/ الصافات/ 72/ إبراهيم 54/ لقمان (آخرها مدنى)/ 73/ السجدة 55/ قد أفلح المؤمنون/ 74/ الطور 56/ سبأ/ 75/ تبارك الذى بيده الملك 57/ الأنبياء/ 76/ الحاقة 58/ الزمر/ 77/ سأل سائل 59/ حم (المؤمن)/ 78/ عم يتساءلون 60/ حم (السجدة)/ 79/ النازعات 61/ حم. عسق/ 80/ إذا السماء انفطرت 62/ حم (الزخرف)/ 81/ إذا السماء انشقت 63/ حم (الدخان)/ 82/ الروم 64/ حم (الشريعة)/ 83/ العنكبوت 65/ حم (الأحقاف) (فيها آية مدنية)/ 84/ ويل للمطففين (ويقال : إنها مدنية) 66/ والذاريات/ 85/ اقتربت الساعة وانشق القمر 67/ هل أتاك حديث الغاشية/ 86/ والسماء والطارق 68/ الكهف (آخرها مدنى)/ 87/ النحل (إلا : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)
(ب) المدنية
1/ البقرة/ 7/ إذا زلزلت 2/ الأنفال/ 8/ الحديد 3/ الأعراف/ 9/ الذين كفروا 4/ آل عمران/ 10/ الرعد 5/ الممتحنة/ 11/ هل أتى على الإنسان 6/ النساء/ 12/ يأيها النبى إذا طلقتم النساء
(1/328)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 329
الرقم/ السورة/ الرقم/ السورة 13/ لم يكن الذين كفروا/ 21/ يأيها النبى لم تحرم 14/ الحشر/ 22/ الجمعة 15/ إذا جاء نصر اللّه والفتح/ 23/ التغابن 16/ النور/ 24/ الحواريّين 17/ الحج/ 25/ الفتح 18/ المنافقون/ 26/ المائدة 19/ المجادلة/ 27/ التوبة 20/ الحجرات/ 28/ المعوذتان (على قول)
(2) - ترتيب نزول السور كما رواها البقاعى (أ) المكية
1/ الحمد (نزلت بعد المدثر)/ 11/ الكهف (بعد الغاشية ، إلا آية 28 ، ومن آية 2/ الأنعام (نزلت بعد الحجر ، إلا الآيات ، 20 ، 23 ، // 83 - 101 فمدنية) 91 ، 93 ، 114 ، 151 ، 152 ، 153 فمدنية)/ 12/ مريم (بعد فاطر ، إلا آيتى 58 ، 71 فمدنيتان)/ 13/ طه (بعد مريم ، إلا آيتى 130 ، 131 فمدنيتان) 3/ الأعراف (بعد ص ، إلا من : 163 - 170 فمدنية)/ 14/ الأنبياء (بعد إبراهيم) 15/ المؤمنون (بعد الأنبياء) 4/ يونس (بعد الإسراء ، إلا الآيات : 94 ، 95 ، / 16/ الفرقان (بعد يس ، إلا الآيات 98 ، 69 ، 70 86 فمدنية)// فمدنية) 5/ هود (بعد يونس ، إلا الآيات 12 ، 17 ، 114/ 17/ الشعراء (بعد الواقعة ، إلا الآية 197 ، ومن فمدنية)// 224 إلى آخر السورة فمدنية) 6/ يوسف (بعد هود ، إلا الآيات : 1 ، 2 ، 3 ، 7/ 18/ النمل (بعد الشعراء) فمدنية)/ 19/ القصص (بعد النمل ، إلا من آية 52 - 55 7/ إبراهيم (بعد نوح ، إلا الآيتين : 8 ، 28/ فمدنية ، وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة) فمدنيتان)/ 20/ العنكبوت (بعد الروم ، إلا 11 فمدنية) 8/ الحجر (بعد يوسف ، إلا آية 78 فمدنية)/ 21/ الروم (بعد الانشقاق ، إلا 17 فمدنية) 9/ النحل (بعد الكهف ، إلا الآيات الثلاث الأخيرة)/ 22/ لقمان بعد الصافات ، إلا الآيات 27 ، 28 ، 29 فمدنية) 10/ الإسراء (بعد القصص ، إلا الآيات 26 ، 32 ، / 23/ السجدة (بعد المؤمنون ، إلا من 16 - 20 فمدنية) 57 ، ومن آية 73 - 80 فمدنية)/ 24/ سبأ (بعد لقمان ، إلا 6 فمدنية)
(1/329)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 330
الرقم/ السورة/ الرقم/ السورة 25/ فاطر (بعد الفرقان)/ 52/ المرسلات (بعد الهمزة ، إلا 48 فمدنية) 26/ يس (بعد الجن ، إلا 45 فمدنية)/ 53/ النبأ (بعد المعارج) 27/ الصافات (بعد الأنعام) 54/ النازعات (بعد النبأ) 28/ ص (بعد القمر)/ 55/ عبس (بعد النجم) 29/ الزمر (بعد سبأ ، إلا الآيات 52 ، 53 ، 54 فمدنية)/ 56/ التكوير (بعد المسد) 30/ غافر (بعد الزمر ، إلا آيتى 56 ، 57 فمدنيتان)/ 57/ الانفطار (بعد النازعات) 31/ فصلت (بعد غافر)/ 58/ المطففين (بعد العنكبوت ، وهى آخر سورة نزلت 32/ الشورى (بعد فصلت ، إلا الآيات 23 ، 24 ، 25 ، / بمكة) 27 فمدنية)/ 59/ الانشقاق (بعد الانفطار) 33/ الزخرف (بعد الشورى ، إلا 54 فمدنية)/ 60/ البروج (بعد الشمس) 34/ الدخان (بعد الزخرف)/ 61/ الطارق (بعد البلد) 35/ الجاثية (بعد الدخان ، إلا 14 فمدنية)/ 62/ الأعلى (بعد التكوير) 36/ الأحقاف (بعد الجاثية ، إلا الآيات 10 ، 15 ، 35 فمدنية)/ 63/ الغاشية (بعد الذاريات) 37/ ق (بعد المرسلات ، إلا 38 فمدنية)/ 64/ الفجر (بعد الليل) 38/ الذاريات (بعد الأحقاف)/ 65/ البلد (بعد ق) 39/ الطور (بعد السجدة)/ 66/ الشمس (بعد القدر) 40/ النجم (بعد الإخلاص ، إلا 32 فمدنية)/ 67/ الليل (بعد الأعلى) 41/ القمر (بعد الطارق ، إلا الآيات 44 ، 45 46 فمدنية)/ 68/ الضحى (بعد الفجر) 42/ الواقعة (بعد طه ، إلا آيتى 81 ، 82 فمدنية)/ 69/ ألم نشرح (بعد الضحى) 43/ الملك (بعد الطور)/ 70/ التين (بعد البروج) 44/ القلم (بعد العلق ، إلا من 17 - 33 ، ومن/ 71/ العلق (وهى أول ما نزل من القرآن) 48 - 50 فمدنية)/ 72/ القدر (بعد عبس) 45/ الحاقة (بعد الملك)/ 73/ العاديات (بعد العصر) 46/ المعارج (بعد الحاقة)/ 74/ القارعة (بعد قريش) 47/ نوح (بعد النحل)/ 75/ التكاثر (بعد الكوثر) 48/ الجن (بعد الأعراف)/ 76/ العصر (بعد ألم نشرح) 49/ المزمل (بعد القلم ، إلا 10 ، 11 ، 20 فمدنية)/ 77/ الهمزة (بعد
القيامة) 50/ المدثر (بعد المزمل)/ 78/ الفيل (بعد الكافرون) 51/ القيامة (بعد القارعة)/ 79/ قريش (بعد التين)
(1/330)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 331
الرقم/ السورة/ الرقم/ السورة 80/ الماعون (بعد التكاثر ، الثلاث الآيات الأولى/ 83/ المسد (بعد الفاتحة) والبقية مدنية)/ 84/ الإخلاص (بعد الناس) 81/ الكوثر (بعد العاديات)/ 85/ الفلق (بعد الفيل) 82/ الكافرون (بعد الماعون)/ 86/ الحاقة (بعد الفلق)
(ب) المدنية
1/ البقرة (أول سورة نزلت بالمدينة ، إلا 281 فنزلت/ 13/ الحجرات (بعد المجادلة) بمنى فى حجة الوداع)/ 14/ الرحمن (بعد الرعد) 2/ آل عمران (بعد الأنفال)./ 15/ الحديد (بعد الزلزلة) 3/ النساء (بعد الممتحنة)/ 16/ المجادلة (بعد المنافقون) 4/ المائدة (بعد الفتح ، إلا 3 فنزلت بعرفات فى حجة/ 17/ الحشر (بعد البينة) الوداع)/ 18/ الممتحنة (بعد الأحزاب) 5/ الأنفال (بعد البقرة ، إلا من 30 - 36 فمكية)/ 19/ الصف (بعد التغابن) 6/ التوبة (بعد المائدة ، إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان)/ 20/ الجمعة (بعد الصف) 7/ الرعد (بعد محمد)/ 21/ المنافقون (بعد الحج) 8/ الحج (بعد النور ، إلا 52 و35 و54 و55 فبين/ 22/ التغابن (بعد التحريم) مكة والمدينة)/ 23/ الطلاق (بعد الإنسان) 9/ النور (بعد الحشر)/ 24/ التحريم (بعد الحجرات) 10/ الأحزاب (بعد آل عمران)/ 25/ الإنسان (بعد الرحمن) 11/ محمد (بعد الحديد ، إلا 13 فنزلت فى الطريق أثناء/ 26/ البينة (بعد الطلاق) الهجرة)/ 27/ الزلزلة (بعد النساء) 12/ الفتح (بعد الجمعة ، وقد نزلت فى الطريق بعد/ 28/ النصر (آخر ما نزل من السور ، وقد نزلت بمنى الانصراف من الحديبية)/ فى حجة الوداع ، فتعد مدنية)
(1/331)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 332
3 - عدد المكى والمدنى :
و المتّفق عليه ، وعليه المصحف الذى بين أيدينا ، أن المدنى من سور القرآن ثمان وعشرون سورة هى.
(1) البقرة (2) آل عمران (3) النساء (4) المائدة (5) الأنفال (6) التوبة (7) الرعد (8) الحج (9) النور (10) الأحزاب (11) محمد (12) الفتح (13) الحجرات (14) الرحمن (15) الحديد (16) المجادلة (17) الحشر (18) الممتحنة (19) الصف (20) الجمعة (21) المنافقون (22) التغابن (23) الطلاق (24) التحريم (25) الإنسان (26) البينة (27) الزلزلة (28) النصر.
وما بعد هذه السور الثمانى والعشرين فهو مكّى ، أعنى نزل بمكة وما حواليها. أما على رأى من يقول :
إن المراد بالمكى هو ما جاء خطابا لأهل مكة ، وأن المدنى هو ما جاء خطابا لأهل المدينة ، فالأمر يختلف.
وإذا عرفنا أن سور القرآن عددها أربع عشرة ومائة سورة «1» ، كان ما نزل بمكة هو ست وثمانون سورة.
وإذا شئت مزيدا من الحصر فعدد آيات السور المدنية الثمانى والعشرين هو ثلاث وعشرون وستمائة وألف آية (1623) ، وعدد آيات السور المكية الست والثمانين هو ثلاث عشرة وستمائة وأربعة آلاف آية (4613) فيكون مجموع آى القرآن مدنية ومكية : ستّا وثلاثين ومائتين وستة آلاف (6326). وهذا هو المعتد به.
وأنت بهذا تجد أن أكثر القرآن نزل بمكة قبل الهجرة ، وأن السور المدنية تكاد تعدل الثلث من مجموع السور المكية ، تزيد على الثلث قليلا ، وأن مجموع آيات السور المدنية يكاد يعدل الثلث من مجموع آيات السور المكية ، ينقص عن الثلث قليلا»
.
4 - عدد الآيات :
و الآية ، طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها ، وهى مسألة توقيفية أخذت عن الرسول.
وهذا الاختلاف الذى وقع بين السلف فى عدد الآيات مرجعه إلى اختلاف السامعين عن الرسول فى ضبط الوقف والوصل ، فالمعروف
أنه كان صلى اللّه عليه وسلم يقف على رءوس الآى للتوقيف
، فإذا علم محلّها وصل للتّمام ، فوهم بعض السامعين عند الوصل أن ليس ثمة فصل ، ومن هنا كان الخلاف.
وسور القرآن بالنظر إلى اختلاف عدد آياتها ثلاثة أقسام :
__________
(1) هذا ما عليه الإجماع. ومن السلف من يجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة ، وعلى هذا يكون عدد السور 113 ، وفى مصحف أبى 116 لأنه زاد فى الآخر سورتين هما : الجيد. والخلع.
(2) انظر الفهرست الجامع للآيات مكيها ومدنيها : وهو من أبواب هذه الموسوعة.
(1/332)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 333
أ - قسم لم يختلف فيه إجمالا ولا تفصيلا.
ب - قسم اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا.
ج - قسم اختلف فيه تفصيلا وإجمالا.
أ - فالقسم الأول الذى لم يختلف فيه إجمالا وتفصيلا أربعون سورة ، وهى :
(1) يوسف : 111 - (2) الحجر : 99 - (3) النحل : 128 - (4) الفرقان : 77 - (5) الأحزاب : 73 - (6) الفتح : 29 - (7) الحجرات : 18 - (8) التغابن : 18 - (9) ق : 45 - (10) الذاريات : 60 - (11) القمر : 55 - (12) الحشر : 24 - (13) الممتحنة : 13 - (14) الصف : 14 - (15) الجمعة : 11 - (16) المنافقون : 11 - (17) الضحى : 11 - (18) العاديات : 11 - (19) التحريم : 12 - (20) ن : 52 - (21) الإنسان : 31 - (22) المرسلات : 50 - (23) التكوير : 29 - (24) الانفطار : 19 - (25) سبح : 19 - (26) التطفيف : 36 - (27) البروج : 22 - (28) الغاشية : 26 - (29) البلد : 20 - (30) الليل : 21 - (31) ألم نشرح : 8 - (32) التين : 8 - (33) الهاكم : 8 - (34) الهمزة : 9 - (35) الفيل : 5 - (36) الفلق : 5 - (37) تبت : 5 - (38) الكافرون : 6 - (39) الكوثر : 3 - (40) النصر : 3.
ب - والقسم الثانى : وهو الذى اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا ، أربع سور ، وهى :
(1) القصص : 88 - يعد أهل الكوفة (طسم) آية ، وبعد غيرهم بدلها أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ (الآية : 22).
(2) العنكبوت : 69 - يعد أهل الكوفة «ألم» آية. وبعد البصريّون بدلها مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (الآية : 65). والشاميون وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ
(الآية : 29).
(3) الجن : 28 - يعد المكى لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ (الآية 22). ويعد غيره بدلها وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (الآية : 22).
(4) والعصر : 3 - الكثرة تعد «و العصر» آية ، غير المدنى فإنه يعد بدلها وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ (الآية : 3).
ج - وأما القسم الثالث ، وهو الذى اختلف فيه تفصيلا وإجمالا ، سبعون سورة ، وهى :
(1) الفاتحة - من حيث التفصيل ، فالجمهور على أنها سبع آيات ، يعد الكوفى والمكى البسملة دون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. ويعكس الباقون. ومن حيث الإجمال : فالحسن يعد آياتها ثمانى آيات حين يعد البسملة
(1/333)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 334
و أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيتين. ويعدها بعضهم ستّا ، فلا يعدون هاتين الآيتين ، كما يعدها آخرون تسعا ، فيعدون هاتين ويضمون إليهما إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
(2) البقرة : 258 ، وقيل : 257 ، وقيل : 256.
(3) آل عمران : 200 ، وقيل : 199.
(4) النساء : 175 ، وقيل : 176 ، وقيل : 177.
(5) المائدة : 120 ، وقيل : 122 ، وقيل : 123.
(6) الأنعام : 165 ، وقيل : 166 ، وقيل : 167.
(7) الأعراف : 205 ، وقيل : 206.
(8) الأنفال : 75 ، وقيل : 76 ، وقيل : 77.
(9) براءة : 130 ، وقيل : 129.
(10) يونس : 110 ، وقيل : 109.
(11) هود : 121 ، وقيل : 122 ، وقيل : 123.
(12) الرعد : 43 ، وقيل : 44 ، وقيل : 47.
(13) إبراهيم : 51 ، وقيل : 52 ، وقيل : 54 ، وقيل : 55.
(14) الإسراء : 110 ، وقيل : 111.
(15) الكهف : 105 ، وقيل : 106 ، وقيل : 110 ، وقيل : 111.
(16) مريم : 99 ، وقيل : 98.
(17) طه : 130 ، وقيل : 132 وقيل : 134 ، وقيل : 135 ، وقيل : 140.
(18) الأنبياء : 111 ، وقيل : 112.
(19) الحج : 74 ، وقيل : 75 ، وقيل : 76 ، وقيل : 78.
(20) المؤمنون : 118 ، وقيل : 119.
(21) النور : 62 ، وقيل : 64.
(22) الشعراء : 226 ، وقيل : 227.
(23) النمل : 92 ، وقيل : 94 ، : وقيل : 95.
(24) الروم : 60 ، وقيل : 59.
(1/334)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 335
(25) لقمان : 33 ، وقيل : 34.
(26) السجدة : 30 ، وقيل : 29.
(27) سبأ : 54 ، وقيل : 55.
(28) فاطر : 64 ، وقيل : 65.
(29) يس : 83 ، وقيل : 82.
(30) الصافات : 181 ، وقيل : 182.
(31) ص : 85 ، وقيل : 86 ، وقيل : 88.
(32) الزمر : 72 ، وقيل : 73 ، وقيل : 75.
(33) غافر : 82 ، وقيل : 84 ، وقيل : 85 ، وقيل : 86.
(34) فصلت : 52 ، وقيل : 53 ، وقيل : 54.
(35) الشورى : 53 ، وقيل : 50.
(36) الزخرف : 89 ، وقيل : 88.
(37) الدخان : 56 ، وقيل : 57 ، وقيل : 59.
(38) الجاثية : 36 ، وقيل : 37.
(39) الأحقاف : 34 ، وقيل : 35.
(40) القتال : 40 ، وقيل : 39 ، وقيل : 39 ، وقيل : 38.
(41) الطور : 47 ، وقيل : 48 ، وقيل : 49.
(42) النجم : 61 ، وقيل : 62.
(43) الرحمن : 77 ، وقيل : 76 ، وقيل : 78.
(44) الواقعة : 99 ، وقيل : 97 ، وقيل : 96.
(45) الحديد : 38 ، وقيل : 39.
(46) المجادلة : 22 ، وقيل : 21.
(47) الطلاق : 11 ، وقيل : 12.
(48) الملك : 30 ، وقيل : 31 ، والصحيح الأول.
(49) الحاقة : 51 ، وقيل : 52.
(1/335)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 336
(50) المعارج : 44 ، وقيل : 43. (51) نوح : 30 ، وقيل : 29 ، وقيل : 28.
(52) المزمل : 20 ، وقيل : 19 ، وقيل : 18. (53) المدثر : 55 ، وقيل : 56.
(54) القيامة : 40 ، وقيل : 39. (55) النبأ : 40 ، وقيل : 41.
(56) النازعاب : 45 ، وقيل : 46. (57) عبس : 40 ، وقيل : 41 ، وقيل : 42.
(58) الانشقاق : 25 ، وقيل : 24 ، وقيل : 23. (59) الطارق : 17 ، وقيل : 16.
(60) الفجر : 30 ، وقيل : 29 ، وقيل : 32. (61) الشمس : 15 ، وقيل : 16.
(61) العلق : 20 ، وقيل : 19. (63) القدر : 5 ، وقيل : 6.
(64) البينة : 8 ، وقيل : 9. (65) الزلزلة : 9 ، وقيل : 8.
(66) القارعة : 8 ، وقيل : 10 ، وقيل : 11. (67) قريش : 4 ، وقيل : 5.
(68) الماعون : 7 ، وقيل : 6. (69) الإخلاص : 4 ، وقيل : 5.
(70) الناس : 7 ، وقيل : 6.
5 - ترتيب الآيات
و كما كان ضبط الآيات بفواصلها توقيفا كذلك كان وضعها فى مواضعها توقيفا ، دليل ذلك الآية وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ - البقرة : 281 - كانت آخر ما نزل ، فوضعها النبى عن وحى من ربه بين آيتى الرّبا والدّين من سورة البقرة ، وهكذا كان الأمر فى سائر الآيات.
(1) ففى سورة الأنعام - وهى مكية - الآيات : 20 و23 و91 و93 و114 و141 و151 و153 ، فهى مدنية.
(2) وفى سورة الأعرف - وهى مكية - الآيات من 163 - 170 ، فهى مدنية.
(3) وفى سورة يونس - وهى مكية - الآيات : 40 و94 و95 و96 ، فهى مدنية.
(4) وفى سورة هود - وهى مكية - الآيات : 12 و17 و114 ، فهى مدنية.
(5) وفى سورة يوسف - وهى مكية - الآيات : 1 و2 و3 و7 ، فهى مدنية.
(6) وفى سورة إبراهيم - وهى مكية - الآيتان : 28 و29 ، فهما مدنيتان.
(7) وفى سورة الحجر - وهى مكية - الآية : 87 ، فهى مدنية.
(1/336)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 337
(8) وفى سورة النحل - وهى مكية - الآيات الثلاث الأخيرة ، فهى مدنية.
(9) وفى سورة الإسراء - وهى مكية - الآيات : 26 و32 و33 و57 و73 و80 ، فهى مدنية.
(10) وفى سورة الكهف - وهى مكية - الآيات : 28 و83 - 101 ، فهى مدنية.
(11) وفى سورة مريم - وهى مكية - الآيتان : 58 و71 ، فهما مدنيتان.
(12) وفى سورة طه - وهى مكية - الآيتان : 130 و131 ، فهما مدنيتان.
(13) وفى سورة الفرقان - وهى مكية - الآيات : 68 و69 و70 فهى مدنية.
(14) وفى سورة الشعراء - وهى مكية - الآيات : 197 و224 - إلى آخر السورة ، فهى مدنية.
(15) وفى سورة القصص - وهى مكية - الآيات : 52 - 55 ، فهى مدنية.
(16) وفى سورة العنكبوت - وهى مكية - الآيات من 1 - 11 ، فهى مدنية.
(17) وفى سورة الروم - وهى مكية - الآية : 17 ، فهى مدنية.
(18) وفى سورة لقمان - وهى مكية - الآيات : 27 و28 و29 ، فهى مدنية.
(19) وفى سورة السجدة - وهى مكية - الآيات من 16 - 20 ، فهى مدنية.
(20) وفى سورة سبأ - وهى مكية - الآية : 6 ، فهى مدنية.
(21) وفى سورة يس - وهى مكية - الآية : 45 ، فهى مدنية.
(22) وفى سورة الزمر - وهى مكية - الآيات : 52 و53 و54 ، فهى مدنية.
(23) وفى سورة غافر - وهى مكية - الآيتان : 56 و57 ، فهما مدنيتان.
(24) وفى سورة الشورى - وهى مكية - الآيات : 23 و24 و25 و27 ، فهى مدنية.
(25) وفى سورة الزخرف - وهى مكية - الآية : 54 ، فهى مدنية.
(26) وفى سورة الأحقاف - وهى مكية - الآيات : 10 و15 و35 ، فهى مدنية.
(27) وفى سورة ق - وهى مكية - الآية : 38 ، فهى مدنية.
(28) وفى سورة النجم - وهى مكية : الآية : 32 ، فهى مدنية.
(29) وفى سورة القمر - وهى مكية - الآيات : 44 و45 و46 ، فهى مدنية.
(30) وفى سورة الواقعة - وهى مكية - الآيتان : 81 و82 ، فهما مدنيتان.
(31) وفى سورة القلم - وهى مكية - الآيات : 17 و33 و38 و48 - 50 ، فهى مدنية.
(32) وفى سورة المزمل - وهى مكية - الآيات : 10 و11 و20 ، فهى مدنية.
(33) وفى سورة المرسلات - وهى مكية - الآية : 48 ، فهى مدنية.
(م 22 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/337)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 338
(34) وفى سورة الماعون - وهى مكية - الآيات من الرابعة إلى آخر السورة ، فهى مدنية :
هذا عن السور المكية وما فيها من الآيات المدنية ، أما عن السور المدنية وما فيها من آيات مكية (35) ففى سورة البقرة - وهى مدنية - الآية : 281 ، فقد نزلت بمنى فى حجة الوداع.
(36) وفى سورة المائدة - وهى مدنية - الآية : 3 ، فقد نزلت بعرفات فى حجة الوداع.
(37) وفى سورة الأنفال - وهى مدنية - الآيات من 30 - 36 ، فهى مكية.
(38) وفى سورة التوبة - وهى مدنية - الآيتان الأخيرتان ، فهما مكيتان.
(39) وفى سورة الحج - وهى مدنية - الآيات : 52 و53 و54 و55 ، فقد نزلت بين مكة والمدينة.
(40) وفى سورة محمد - وهى مدنية - الآية : 13 ، فقد نزلت فى الطريق أثناء الهجرة. «1»
و يرتب الفقهاء على عدد الآيات أحكاما فقهية ، من ذلك مثلا : من لم يحفظ الفاتحة فيجب عليه فى الصلاة بدلها سبع آيات. هذا فيمن عدّ الفاتحة سبعا ، كما لا تصح الصلاة بنصف آية.
وحدّ السورة فى القرآن أنها تشتمل على آيات ذات فاتحة وخاتمة. وأقلّ الآيات التى تشتمل عليها السورة ثلاث.
6 - أسماء السور
و كما كانت الآيات بفواصلها وبترتيبها توقيفا كذلك كانت الحال فى السور فى جمعها وفى أسمائها ، فكلاهما - أعنى اسم السورة وما تنتظمه من آيات - توقيف.
وقد يكون للسورة اسم واحد ، وعليه الكثرة من سور القرآن ، وقد يكون لها اسمان فأكثر من ذلك مثلا :
(1) الفاتحة (1) ، فهى تسمى أيضا : أم الكتاب ، والسبع المثانى ، والحمد ، والواقية ، والشافية.
(2) الإسراء (17) ، وتسمى أيضا : بنى إسرائيل.
(3) النمل (27) ، فهى تسمى أيضا : سورة سليمان.
(4) السجدة (32) ، فهى تسمى أيضا : سورة المضاجع.
(5) فاطر (35) ، فهى تسمى أيضا : سورة الملائكة.
(6) الزمر (39) ، فهى تسمى أيضا. سورة الغرف.
(7) غافر (40) ، فهى تسمى أيضا : سورة المؤمن.
(8) حم السجدة (41) ، وتسمى أيضا : فصلت.
__________
(1) وانظر فهرست الآيات مرتبة على حسب أوائلها مع بيان مكيها ومدنيها. [.....]
(1/338)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 339
(9) الجاثية (45) ، فهى تسمى أيضا : سورة الدهر.
(10) محمد (47) ، فهى تسمى أيضا : سورة القتال.
(11) الممتحنة (60) وتسمى أيضا : الامتحان.
(12) الصف (61) ، فهى تسمى أيضا : سورة الحواريين.
(13) تبارك (67) ، فهى تسمى أيضا : سورة الملك.
(14) عم (78) ، فهى تسمى أيضا : سورة النبأ ، والتساؤل ، والمعصرات.
(15) لم يكن (98) ، فهى تسمى أيضا : سورة أهل الكتاب ، والبينة ، والقيامة.
7 - ترتيب السور
أما عن ترتيب السور ، فمن السّلف من يقول : إنه توقيفى ، ويستدلّ على ذلك بورود الحواميم مرتّبة ولاء ، وكذا الطّواسين ، على حين لم ترتّب المسبّحات ولاء ، بل جاءت مفصولا بين سورها ، وفصل بين «طسم» الشعراء ، و«طسم» القصص ب «طس» ، مع أنها أقصر منها ، ولو كان الترتيب اجتهادا لذكرت المسبحات ولاء وأخرت «طس» عن «القصص».
كما يجعلون فيما نقله «الشهرستانى» محمد بن عبد الكريم فى تفسيره «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار» عند الكلام على قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي : هى السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، دليلا على أن هذا الترتيب كان بتوقيف من النبىّ.
والذين يقولون إن ترتيب السور اجتهادىّ يستدلون على ذلك بورود السور مختلفة الترتيب فى المصاحف الخمسة التى أثرت عن خمسة من كبار الصحابة ، هم : على بن أبى طالب ، وأبىّ بن كعب ، وعبد اللّه بن مسعود ، وعبد اللّه بن عباس ، وأبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق.
أما عن مصحف «علىّ» فيعزى إليه أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم ، فأقسم ألّا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس فى بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن ، فكان أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه.
ويروى ابن النديم فى كتابه «الفهرست» أن هذا المصحف كان عند أهل جعفر ، ويقول : ورأيت أنا فى زماننا عند «أبى يعلى حمزة الحسنى» وحجة اللّه ، مصحفا قد سقطت منه أوراق بخطّ على بن أبى طالب يتوارثه «بنو حسن» على مرّ الزمان ، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف».
(1/339)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 340
غير أن كتاب «الفهرست» فى طبعتيه الأوربية والمصرية يسقط منه ما بعد هذا ، فلا يورد ترتيب السور الذى أشار إليه.
و نجد اليعقوبى أحمد بن أبى يعقوب ، وهو من رجال القرن الثالث الهجرى ، يطالعنا بما سقط من الفهرست فى الجزء الثانى من تاريخه (152 - 154) طبعة «بريل» سنة 1883 م. فيقول قبل أن يسوق الترتيب : و
روى بعضهم أن علىّ بن أبى طالب عليه السلام كان جمعه - يعنى القرآن - لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وأتى به يحمله على جمل فقال : هذا القرآن جمعته ، وكان قد جزأه سبعة أجزاء : جزء البقرة ، جزء آل عمران ، جزء النساء ، جزء المائدة ، جزء الأنعام ، جزء الأعراف ، جزء الأنفال ، وذلك باعتبار أول كل جزء «1».
ويروى غير واحد أن مصحف «على» كان على ترتيب النّزول ، وتقديم المنسوخ على الناسخ «2».
وأما عن مصحف «أبىّ» فيقول ابن النديم : قال الفضل بن شاذان : أخبرنا الثّقة من أصحابنا قال :
كان تأليف السّور فى قراءة أبىّ بن كعب بالبصرة فى قرية يقال لها : قرية الأنصار ، على رأس فرسخين ، عند محمد بن عبد الملك الأنصارى ، أخرج إلينا مصحفا وقال : هو مصحف «أبىّ» رويناه عن آبائنا.
فنظرت فيه فأستخرجت أوائل السور وخواتم الرّسل وعدد الآى. ثم مضى يذكر السور مرتبة كما جاء فى هذا المصحف.
وأما عن مصحف عبد اللّه بن مسعود فينقل ابن النديم عن الفضل بن شاذان أيضا فيقول : قال :
وجدت فى مصحف عبد اللّه بن مسعود تأليف سور القرآن على هذا الترتيب. ثم يسوق ابن النديم هذا الترتيب.
ثم يقول ابن النديم : قال ابن شاذان : قال ابن سيرين : وكان عبد اللّه بن مسعود لا يكتب المعوذتين فى مصحفه ، ولا فاتحة الكتاب.
ثم يقول ابن النديم : رأيت عدة مصاحف ذكر نسّاخها أنها مصحف ابن سعود ، ليس فيها مصحفان متفقان ، وأكثرها فى رقّ كثير النسخ. وقد رأيت مصحفا قد كتب منذ نحو مائتى سنة فيه فاتحة الكتاب.
وأما عن مصحف عبد اللّه بن عباس (68 ه) وكان رأس المفسّرين ، فقد ذكر الشهرستانى محمد ابن عبد الكريم (548 ه) هذا الترتيب فى مقدمة تفسيره «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار».
و أما عن مصحف الإمام أبى عبد اللّه جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين (148 ه) فقد ذكره الشهرستانى أيضا فى مقدمة تفسير ، «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار».
__________
(1) انظر الجدول بعد.
(2) تاريخ القرآن للزنجانى (ص : 26).
(1/340)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 341
و هاك جدولا يجمع الترتيب فى هذه المصاحف الخمسة :
مصحف على/ مصحف أبى/ مصحف ابن مسعود/ مصحف ابن عباس/ مصحف حبشى الصادق (1) البقرة/ فاتحة الكتاب/ البقرة/ اقرأ/ اقرأ (2) يوسف/ البقرة/ النساء/ ن/ ن (3) العنكبوت/ النساء/ آل عمران/ والضحى/ المزمل (4) الروم/ آل عمران/ المص/ المزمل/ المدثر (5) لقمان/ الأنعام/ الأنعام/ المدثر/ تبت (6) حم السجدة/ الأعراف/ المائدة/ الفاتحة/ كورت (7) الذاريات/ المائدة/ يونس/ تبت يدا/ الأعلى (8) هل أتى على الإنسان/ الأنفال/ براءة/ كورت/ والليل (9) ألم تنزيل/ التوبة/ النحل/ الأعلى/ والفجر (10) السجدة/ هود/ هود/ والليل/ والضحى (11) النازعات/ مريم/ يوسف/ والفجر/ ألم نشرح (12) إذا الشمس كورت/ الشعراء/ بنى إسرائيل/ ألم نشرح لك/ والعصر (13) إذا السماء انفطرت/ الحج/ الأنبياء/ الرحمن/ والعاديات (14) إذا السماء انشقت/ يوسف/ المؤمنون/ والعصر/ الكوثر (15) سبح اسم ربك الأعلى/ الكهف/ الشعراء/ الكوثر/ التكاثر (16) لم يكن/ النحل/ الصافات/ التكاثر/ الدين
فهذا جزء البقرة
(17) آل عمران/ الأحزاب/ الأحزاب/ الدين/ الكافرون (18) هود/ بنى إسرائيل/ القصص/ الفيل/ الفيل (19) الحج/ الزمر/ النور/ الكافرون/ الفلق (20) الحجر/ حم تنزيل/ الأنفال/ الإخلاص/ الناس (21) الأحزاب/ طه/ مريم/ النجم/ الإخلاص (22) الدخان/ الأنبياء/ العنكبوت/ الأعمى/ والنجم (23) الرحمن/ النور/ الروم/ القدر/ الأعمى (24) الحاقة/ المؤمنون/ يس/ والشمس/ القدر (25) سأل سائل/ حم المؤمن/ الفرقان/ البروج/ والشمس (26) عبس وتولى/ الرعد/ الحج/ التين/ البروج
(1/341)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 342
مصحف على/ مصحف أبى/ مصحف ابن مسعود/ مصحف ابن عباس/ مصحف حبشى الصادق (27) والشمس وضحاها/ طسم/ الرعد/ قريش/ والتين (28) إنا أنزلناه/ القصص/ سبأ/ القارعة/ قريش (29) إذا زلزلت/ طس/ الملائكة/ القيامة/ القارعة (30) ويل لكل همزة/ سليمان/ إبراهيم/ الهمزة/ القيامة (31) ألم تر كيف/ الصافات/ ص/ والمرسلات/ الهمزة (32) لإيلاف قريش/ داود/ الذين كفروا/ ق/ المرسلات
و هذا جزء آل عمران
(33) النساء/ ص/ القمر/ البلد/ ق (34) النحل/ يس/ الزمر/ الطارق/ البلد (35) المؤمنون/ أصحاب الحجر/ الحواميم المسبحات/ القمر/ الطارق (36) يس/ حم. عسق/ حم المؤمن/ ص/ القمر (37) حم. عسق/ الروم/ حم الزخرف/ الأعراف/ ص (38) الواقعة/ الزخرف/ السجدة/ الجن/ الأعراف (39) تبارك الملك/ حم السجدة/ الأحقاف/ يس/ الجن (40) يأيها المدثر/ إبراهيم/ الجاثية/ الفرقان/ يس (41) أرأيت/ الملائكة/ الدخان/ الملائكة/ الفرقان (42) تبت/ الفتح/ إنا فتحنا/ مريم/ الملائكة (43) قل هو اللّه أحد/ محمد/ الحديد/ طه/ مريم (44) والعصر/ الحديد/ سبح/ الشعراء/ طه (45) القارعة/ الظهار/ الحشر/ النمل/ الواقعة (46) والسماء ذات البروج/ تبارك/ تنزيل/ القصص/ الشعراء (47) والتين والزيتون/ الفرقان/ السجدة/ بنى إسرائيل/ النمل (48) طس/ الم تنزيل/ ق/ يونس/ القصص (49) النمل/ نوح/ الطلاق/ هود/ بنى إسرائيل
و هذا جزء النساء
(50) المائدة/ الأحقاف/ الحجرات/ يوسف/ يونس (51) يونس/ ق/ تبارك الذى بيده الملك/ الحجر/ هود (52) مريم/ الرحمن/ التغابن/ الأنعام/ يوسف
(1/342)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 343
مصحف على/ مصحف أبى/ مصحف ابن مسعود/ مصحف ابن عباس/ مصحف حبشى الصادق (53) طسم/ الواقعة/ المنافقون/ الصافات/ الحجر (54) الشعراء/ الجن/ الجمعة/ لقمان/ الأنعام (55) الزخرف/ النجم/ الحواريون/ سبأ/ الصافات (56) الحجرات/ ن/ قل أوحى/ الزمر/ لقمان (57) ق والقرآن المجيد/ الحاقة/ إنا أرسلنا نوحا/ المؤمن/ سبأ (58) اقتربت الساعة/ الحشر/ المجادلة/ حم السجدة/ الزمر (59) الممتحنة/ الممتحنة/ الممتحنة/ حم. عسق/ المؤمن (60) والسماء والطارق/ المرسلات/ يأيها النبى لم تحرم/ الزخرف/ حم السجدة (61) لا أقسم بهذا البلد/ عم يتساءلون/ الرحمن/ الدخان/ حم. عسق (62) ألم نشرح لك/ الإنسان/ النجم/ الجاثية/ الزخرف (63) والعاديات/ لا أقسم/ الذاريات/ الأحقاف/ الدخان (64) إنا أعطيناك الكوثر/ كورت/ الطور «1»/ الذاريات/ الجاثية (65) قل يأيها الكافرون/ النازعات/ اقتربت الساعة/ الغاشية/ الأحقاف
و هذا جزء المائدة
(66) الأنعام/ عبس/ الحاقة/ الكهف/ الذاريات (67) سبحان/ المطففين/ إذا وقعت/ النحل/ الغاشية (68) اقترب/ إذا السماء انشقت/ ن والقلم/ نوح/ الكهف (69) الفرقان/ التين/ النازعات/ إبراهيم/ النحل (70) موسى/ اقرأ باسم ربك/ سأل سائل/ الأنبياء/ نوح (71) فرعون/ الحجرات/ المدثر/ المؤمنون/ إبراهيم (72) حم/ المنافقون/ المزمل/ الرعد/ الأنبياء (73) المؤمن/ الجمعة/ المطففين/ الطور/ المؤمنون (74) المجادلة/ النبى/ عبس/ الملك/ الم السجدة (75) الحشر/ الفجر/ الدهر/ الحاقة/ الطور (76) الجمعة/ الملك/ القيامة/ المعارج/ الملك (77) المنافقون/ والليل إذا يغشى/ المرسلات/ النساء/ الحاقة (78) ن والقلم/ إذا السماء انفطرت/ عم يتساءلون/ والنازعات/ المعارج
__________
(1) وفى رواية أخرى : الطور قبل العاديات «ابن النديم».
(1/343)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 344
مصحف على/ مصحف أبى/ مصحف ابن مسعود/ مصحف ابن عباس/ مصحف حبشى الصادق (79) إنا أرسلنا نوحا/ الشمس وضحاها/ التكوير/ انفطرت/ النبأ (80) قل أوحى إلى/ والسماء ذات البروج/ الانفطار/ انشقت/ والنازعات (81) المرسلات/ الطارق/ هل أتاك حديث الغاشية/ الروم/ انفطرت (82) والضحى/ سبح اسم ربك الأعلى/ سبح اسم ربك الأعلى/ العنكبوت/ انشقت (83) ألهاكم/ الغاشية/ والليل إذا يغشى/ المطففون/ الروم
و هذا جزء الأنعام
(84) الأعراف/ عبس/ الفجر/ البقرة/ العنكبوت (85) إبراهيم/ الصف/ البروج/ الأنفال/ المطففون (86) الكهف/ الضحى/ انشقت/ آل عمران/ البقرة (87) النور/ ألم نشرح/ اقرأ باسم ربك/ الحشر/ الأنفال (88) ص/ القارعة/ لا أقسم بهذا البلد/ الأحزاب/ آل عمران (89) الزمر/ التكاثر/ والضحى/ النور/ الأحزاب (90) الشريعة/ الخلع/ ألم نشرح/ الممتحنة/ الممتحنة (91) الذين كفروا/ الجيد/ والسماء والطارق/ الفتح/ النساء (92) الحديد/ اللهم إياك نعبد/ والعاديات/ النساء «1»/ إذا زلزلت (93) المزمل/ إذا زلزلت/ أرأيت/ إذا زلزلت/ الحديد (94) لا أقسم بيوم القيامة/ العاديات/ القارعة/ الحج/ محمد (95) عم يتساءلون/ أصحاب الفيل/ لم يكن الذين كفروا/ الحديد/ الرعد (96) الغاشية/ التين/ الشمس وضحاها/ محمد/ الرحمن (97) والفجر/ الكوثر/ التين/ الإنسان/ الإنسان (98) والليل إذا يغشى/ القدر/ ويل لكل همزة/ الطلاق/ الطلاق (99) إذا جاء نصر اللّه/ الكافرون/ الفيل/ لم يكن/ لم يكن
و هذا جزء الأعراف
(100) الأنفال/ النصر/ لإيلاف قريش/ الجمعة/ الحشر (101) براءة/ أبى لهب/ التكاثر/ الم السجدة/ النصر (102) طه/ قريش/ إنا أنزلناه/ المنافقون/ النور (103) الملائكة/ الصمد/ والعصر/ المجادلة/ الحج
__________
(1) جاءت قيل بعد المعارج. والملاحظ أنه لم يذكر فاتحة الكتاب التى يتم بها عدد السور 114.
(1/344)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 345
مصحف على/ مصحف أبى/ مصحف ابن مسعود/ مصحف ابن عباس/ مصحف حبشى صادق (104) الصافات/ الفلق/ إذا جاء نصر اللّه/ الحجرات/ المنافقون (105) الأحقاف/ الناس/ الكوثر/ التحريم/ المجادلة (106) الفتح// الكافرون/ التغابن/ الحجرات (107) الطور// المسد/ الصف/ التحريم (108) النجم// قل هو اللّه أحد/ المائدة/ الصف (109) الصف/// التوبة/ الجمعة (110) التغابن/// النصر/ التغابن (111) الطلاق/// الواقعة/ الفتح (112) المطففين// والعاديات/ التوبة (113) المعوذتين/// الفلق/ المائدة/// الناس/
و هذا جزء الأنفال
8 - الحكمة فى نزول القرآن منجّما
و فيما بين السابع عشر من رمضان - من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول ، وكان بدء نزول الوحى ، وإلى ما قبل موته صلّى اللّه عليه وسلم بأيام لا تجاوز الواحد والثمانين ولا تنقص عن العشرة ، وكان آخر ما نزل من الوحى ، أى فى نحو من إحدى وعشرين سنة ، أو على الأصح فى نحو من ثمانى عشرة سنة ، بإسقاط المدة التى فتر فيها الوحى والتى بلغت ثلاث سنين - نزل هذا القرآن منجّما يشرّع للناس ، ويتابع الأحداث ، ويجيب ويبين. قال تعالى : وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً «1».
وقال تعالى : وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «2».
وما كانت حكمة السماء تقضى إلا بهذا مع أمة يراد لها التحول من عقائد إلى عقيدة ، والخروج من وثنية إلى دين ، ومن أوهام وظنون إلى منطق وحق ، ومن جحود إلى إيمان.
تلك خطوة أولى كان من الحكمة أن تبدأ بها الدعوة وتفرغ لها ، حتى إذا ما ضمت الناس على الطريق
__________
(1) الفرقان : 33.
(2) الإسراء : 106.
(1/345)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 346
أخذتهم بما تحمى إيمانهم به ، فحاطتهم بعبادات وألزمتهم بواجبات ، والناس لا يمضون فيما يجدّ عليهم خرسا لا ينطقون ، وعميا لا ينظرون ، وغفلا لا يتدبّرون ، بل هم عن كل ما يعرض لهم سائلون ، والوحى يتابعهم فى كل ما يستفسرون عنه ، إذ به تمام الرسالة.
ثم إن هذه الدعوة السماوية بدأت جهادا وعاشت جهادا ، أملته الأيام وتمخضت عنه الأعوام ، وهو وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع لكنّه كان على علم الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقونه مع زمانه وأوانه.
ثم ما أكثر ما أخذ الناس وأعطوا فى ظلّ الدعوة لتثبت أركانها فى نفوسهم ، وهذا - وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع - لكنّه كان على حياة الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقنوا بيانه مع زمانه وأوانه.
وهكذا لم تكن الرسالة كلمة ساعتها ، وإنما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر ، وكانت هذه الكلمات كلها فى علم السماء وفى اللوح المحفوظ ، ولكنها نزلت إلى علم الناس مع زمانها وأوانها.
لهذا نزل القرآن منجّما.
ولقد خال المشركون أن دعوة الرسول إليهم كلمة ، وأن صفحته معهم صفحة ، وفاتهم أن الدعوة معها خطوات ، وأن هذه الخطوات معها جديد على علمهم لا على علم السماء ، وما أحوجهم مع كل جديد إلى بيان ، ومن أجل هذا الذى فاتهم استنكروا أن ينزل القرآن منجّما وقالوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» ، وكان جواب السماء عليهم : كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «2» أى :
جعلنا بعضه فى إثر بعض ، منه ما نزل ابتداء ، ومنه ما نزل فى عقب واقعة أو سؤال ، ليكون فى تتابعه مع الأحداث ، وما تثيره من شكوك ، ما يردّ النفوس إلى طمأنينة ، والأفئدة إلى ثبات.
وإنك لو تتبّعت أسباب النّزول فى القرآن ومواقع الآيات لتبينت أن رسالة الرسول لم تكن جملة واحدة ليكون القرآن جملة واحدة ، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضى كلمات متلاحقة.
فلقد نزلت آية الظّهار فى سلمة بن صخر ، ونزلت آية اللّعان فى شأن هلال بن أمية ، ونزلت آية حدّ القذف فى رماة عائشة ، ونزلت آية القبلة بعد الهجرة وبعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة
__________
(1) الفرقان : 32.
(2) الفرقان : 32.
(1/346)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 347
عشر شهرا ، ونزلت آية اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى حين سأل عمر الرسول فى ذلك ، كذلك كانت الحال فى الحجاب ، وأسرى بدر ، وغير ذلك كثير ، فكان القرآن ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات ، وأكثر وأقل ، وقد صح نزول عشر آيات فى قصة الإفك جملة ، كما صح نزول عشر آيات من أول «المؤمنون» جملة ، وصح نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» ، وحدها وهى بعض آية ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «2» إلى آخر الآية ، وهى بعض آية ، نزلت بعد نزول أول الآية.
9 - نزول القرآن على سبعة أحرف
و هذا الوحى ألهم الرسول معناه كما ألهم لفظه ، فهو بمعناه ولفظه من صنع السماء ، والرسول ناطق بلسان السماء ، يملى على قومه ما أملته السماء عليه ، وبصوّر ما تصوّر فى وعيه ، وينطق بما أنطقته السماء ، تفيض عليه السماء. فإذا هو قد خلص لهذا الفيض بكليّاته ، وإذا هو إشعاع لهذا الفيض يصدر عنه ويشكّل جرسه ، فإذا ما انفصل عنه هذا الفيض عاد يصدر عن نفسه يطوع له نطقه.
ولسان الرسول عربى ، ولهذا جرى القرآن على لسانه عربيّا ، يمثّل أعلى ما ينتظمه اللسان العربى من لغات ، وأحوى ما يجمع من لهجات ، وكانت لغة مضر أعلى ما يجرى على لسان قريش وأحواه ، فنزل بها القرآن ، وفى هذا يقول عمر : نزل القرآن بلغة مضر : وكانت لغة مضر هذه تنتظم لغات سبعا لقبائل سبع ، هم : هذيل ، وكنانة ، وقيس ، وضبة ، وتيم الرّباب ، وأسد بن خزيمة ، وقريش.
ولقد مثّل القرآن هذه اللغات السبع كلها مفرّقة فيه. لكل لغة منه نصيب. وهو أولى الأقوال بتفسير
الحديث «نزل القرآن على سبعة أحرف».
10 - اسم كتاب اللّه
و لقد سمى اللّه ما أنزله على رسوله : قرآنا ، وكتابا ، وكلاما ، وفرقانا ، وذكرا ، وقولا.
وكان أكثر هذه الأسماء دورانا هو لفظ القرآن ، فقد جاء فى نحو سبعين آية ، وكان فيها صريحا فى اسميته ومدلوله الخاص. من أجل ذلك كتبت لهذا اللفظ الغلبة على غيرها ، وصارت الاسم الغالب
__________
(1) النساء : 95.
(2) التوبة : 29.
(1/347)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 348
لكتاب اللّه الذى جاء به محمد وحفظه عنه المسلمون. ويؤثر عن الشافعى أنه قال : القرآن أسم على غير مشتق خاصّ بكلام اللّه.
فهو غير مهموز ، لم يؤخذ من قراءة ، ولكنه اسم لكتاب اللّه مثل : التوراة والإنجيل.
ويقول الزجّاج : إنّ ترك الهمز فيه من باب التخفيف. ونقل حركة الهمز إلى الساكن الصحيح قبلها.
والقائلون بالهمز مختلفون ، وأوجه ما فى خلافهم رأيان :
أولهما : أنه مصدر لقرأت ، مثل الرّجحان والغفران ، سمّى به الكتاب المقروء ، من باب تسمية المفعول بالمصدر.
والرأى الثانى : أنه وصف على فعلان ، مشتق من القرء ، بمعنى الجمع.
وأما تسميته بالمصحف فكانت تسمية متأخرة جاءت بعد جمع القرآن وكتابته ، وكانت من وضع الناس ، فإنهم يحكون أن عثمان حين كتب المصحف التمس له اسما فانتهى الناس إلى هذا الاسم. غير أن هذا يكاد يكون مردودا ، فلقد سبق أن علمت أن ثمة مصاحف كانت موجودة قبل جمع عثمان ، هى مصحف على ، ومصحف أبىّ ، ومصحف ابن مسعود ، ومصحف ابن عباس ، ومصحف جعفر الصادق.
والمصحف : هو الجامع للصّحف المكتوبة بين الدفتين.
ويقال فيه : مصحف ، ومصحف ، بضم الميم وكسرها مع فتح الحاء ، والضمة هى الأصل ، والكسرة لاستثقال الضمة ، فمن ضم جاء به على أصله ، ومن كسر فلاستتقال الضمة.
11 - جمع القرآن
و لقد مات رسول اللّه والقرآن كله مكتوب على العسب جريد النّخل - واللّخاف - صفائح الحجارة - والرّقاع - والأديم والأكتاف - عظام الأكتاف - والأقتاب - ما يوضع على ظهور الإبل - كما كان محفوظا فى صدور الرّجال يحفظه حفظة من المسلمين.
وقبل أن يقبض اللّه رسوله إليه عارض الرسول ما أنزله عليه ربّه بسوره وآياته على ما حفظه عنه حفظة المسلمين ، فكان ما فى صدور الحفظة صورة ممّا كان فى صدر الرّسول.
وكان لا بد لهذا المكتوب على الرّفاع وغيرها من أن يعارض على المحفوظ فى الصّدور ليخرج من
(1/348)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 349
بينهما كتاب اللّه فى صورة مقروءة ، كى يفيد منه الناس جميعا على تعاقب الأزمان ، فما تغنى الرّقاع ولا غيرها ، ثم هى عرضة للبلى والتشتت ، وما يغنى الحفظة ، وهم إلى فناء ، ولا الناقلون عنهم ، وليس لهم ميزة المعاصرة.
ويحرّك اللّه المسلمين لهذه الحسنة حين استحر القتل يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، فيخف عمر بن الخطاب إلى أبى بكر ، وكان عندها خليفة ، وكان الذى استخف عمر إلى أبى بكر فزعه من أن يتخطف الموت القرّاء فى مواطن أخرى ، كما تخطفهم فى ذلك الموطن - أعنى اليمامة - فيضيع على المسلمين جمّاع دينهم ويعزّ عليهم كتابهم.
وحين جلس عمر إلى أبى بكر أخذ يناقشه فيما أتى إليه ، من جمع القرآن ، بعد أن بسط السّبب الحافز ، وتلبّث أبو بكر يراجع نفسه ، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت ، وكان من كتّاب الوحى ، كما مرّ بك ، وحضر زيد مجلس أبى بكر وعمر وسمع منهما ما هما فيه ، فإذا هو معهما فى الرأى ، وإذا أبو بكر حين يجد من زيد حسن الاستجابة يتّجه إليه يقول : إنّك شابّ عاقل لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحى لرسول اللّه ، فتتبّع القرآن فاجمعه.
ومضى زيد يتتبع القرآن يجمعه ويكتبه ، وكان زيد حافظا ، فيسّر عليه حفظه ما كلّف به ، ولكنه كان إلى هذا لا يقنع فى إثبات الآية يختلف فيها إلا بشهادة.
و اجتمعت هذه الصّحف فى بيت أبى بكر حياته ، ثم فى بيت عمر حياته.
12 - مصحف عثمان
و كما حرّكت محنة اليمامة عمر إلى حسنة ، حرّكت محنة أخرى - بعد مقتل عمر - عثمان إلى حسنة ، فقد قدم حذيفة بن اليمان من حرب أرمينية وأذربيجان على عثمان فزعا من اختلاف المسلمين فى قراءة القرآن ، يقول لعثمان : أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا.
وكما استجاب أبو بكر إلى عمر استجاب عثمان إلى حذيفة ، فأرسل عثمان يطلب الصّحف من عند حفصة بنت عمر ، زوج النبى. وأرسلت حفصة بالصّحف إلى عثمان ، وجمع عثمان إليه زيد بن ثابت ، وعبد اللّه بن الزّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وكلّهم من كتّاب
(1/349)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 350
الوحى ، وأمرهم بنسخ هذه الصّحف. فكتبوا منها سبع مصاحف. ثم ردّ عثمان الصّحف «1» إلى حفصة ، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان بن الحكم بن أبى العاص فأخذها فحرقها ، كما ذكر أبو بكر السّجستانى «2» ويقول أبو بكر السّجستانى فى مكان آخر بسند متّصل عن سالم بن عبد اللّه : إن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصّحف التى كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها. قال سالم : فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد اللّه بن عمر : ليرسلن إليه بتلك الصحف.
فأرسل بها إليه عبد اللّه بن عمر ، فأمر بها مروان فشقّقت. فقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب فى شأن هذه الصّحف مرتاب ، أو يقول : إنه قد كان شىء منها لم يكتب «3».
و لا ندرى إلى أى حد كان توفيق مروان فيما فعل ، ولكنه ، وهو الرجل الذى كان معاصرا لما وقع ، كان عليه أن يطمئنّ إلى أن الأمر قد تمّ على أحسن ما يكون دقة وضبطا ، وما نظنه غاب عنه كيف احتاط عثمان لذلك ، وما نظنه إلا كان شاهد عثمان وهو يخطب الناس يناشدهم أن يأتوه بما معهم من كتاب اللّه ، وكان عهدهم بالنبىّ قريبا ، إذ لم يكن قد مضى على وفاته أكثر من ثلاث عشر سنة. وما نظن الناس إلا وفّوا لعثمان ، وجاءه كلّ رجل بما كان عنده ، فلقد كان الرجل يأتيه بالورقة والأديم فيه القرآن.
ولقد جمع من ذلك عثمان الشىء الكثير. وما وقف عثمان عند هذه بل لقد دعاهم رجلا رجلا فيناشده :
لسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول الرجل : نعم. حتى إذا فرغ من ذلك قال : من أكتب الناس؟ فقال الناس : كاتب رسول اللّه زيد بن ثابت. قال عثمان : فأىّ الناس أعرب؟ قالوا : سعيد بن العاص - وكان سعيد أشبههم لهجة برسول اللّه - قال عثمان : فليمل سعيد وليكتب زيد.
هذا كله فعله عثمان ، وفعل إلى جانبه الاستئناس بالصّحف التى تمّ جمعها فى عهد أبى بكر وشارك فيها عمر ، والتى كانت عند حفصة ، تلك الصّحف التى مثلت المصحف الأول المعتمد.
__________
(1) ويقال : إنه نسخ من المصحف أربعة مصاحف أرسلها إلى البصرة والكوفة والشام ، واحتفظ بالرابع فى المدينة.
(2) المصاحف للسجستانى (س : 10).
(3) المصاحف (24 - 25).
(1/350)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 351
من أجل هذا لم يختلف زيد وسعيد فى شىء ، ووجدا ما اجتمع لهما من قبل على يد أبى بكر وعمر.
هو الذى جمعه عثمان ثانية واستخلف الناس عليه.
ويحكى المؤرخون أن زيدا وسعيدا لم يختلفا إلا فى حرف واحد فى سورة البقرة ، فقال أحدهما «التابوت». وقال الآخر «التابوه». واختيرت قراءة زيد بن ثابت ، لأنه كاتب الوحى.
و أرسل عثمان ستّا من هذه المصاحف إلى مكة ، والشام ، واليمن ، والبحرين ، والبصرة ، والكوفة ، وحبس مصحفا بالمدينة ، وأمر عثمان فحرق ما كان مخالفا لمصحفه.
وقد مرّ بك أن على بن أبى طالب كان له مصحف باسمه ، أعنى كان إليه جمعه ، وأنه بعد موت النبى كان قد أقسم ألّا يرتدى برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن فى مصحف ، ففعل.
وينقل أبو بكر السّجستانى «1» بسند متّصل عن أشعث ، عن ابن سيرين ، أنه حين تخلف علىّ عن بيعة أبى بكر أرسل إليه أبو بكر يقول له : أكرهت إمارتى يا أبا الحسن؟ فقال علىّ : لا واللّه ، إنى أقسمت ألّا أرتدى برداء إلا لجمعة. فبايعه ثم رجع.
ثم يقول أبو بكر : لم يذكر «المصحف» أحد إلّا أشعث ، وهو ليّن الحديث. وإنما قال : حتى أجمع القرآن ، يعنى أتمّ حفظه.
غير أن ابن النديم - فيما نقلت إليك عنه قبل - يذكر أنه رأى عند أبى يعلى حمزة الحسنى مصحفا سقطت منه أوراق بخطّ على بن أبى طالب يتوارثه بنو الحسن ، ثم أورد ترتيب السّور فيه ، وقد نقلناها لك فيما سبق.
ولقد كان إلى مصحف علىّ مصاحف أخرى مرّت بك ، هى مصحف أبىّ ، ومصحف ابن مسعود ، ومصحف ابن عباس ، ومصحف جعفر الصادق. وكان ثمة مصاحف أخرى هى : مصحف لأبى موسى الأشعرى ، ومصحف للمقداد بن الأسود ، ومصحف لسالم ، مولى أبى حذيفة.
ولقد كانت هذه المصاحف موزّعة فى الأمصار ، فكان أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود ، وأهل البصرة على مصحف أبى موسى الأشعرى ، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود. وأهل الشام على مصحف أبىّ بن كعب.
__________
(1) المصاحف (ص : 10). [.....]
(1/351)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 352
و كان ثمة خلاف بين هذه المصاحف ، وهذا الخلاف ، وهذا الخلاف هو الذى شهد به حذيفة حين كان مع الجيش فى فتح أذربيجان. وهذا الخلاف هو الذى فزع من أجله عثمان فنهض يجمع أصول القرآن ويجمع إلى هذه الأصول الحفظة الموثوق بهم.
فثمة مراحل ثلاث مرّ بها تدوين المصحف :
أولى هذه المراحل : تلك التى كانت فى حياة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فلقد كان من حوله كتّابه يكتبون ما يملى عليهم ، وكان الرسول حريصا على ألّا يكتب عنه غير القرآن ، حتى لا يلتبس به شىء آخر.
ويروون عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : لا تكتبوا عنّى شيئا سوى القرآن ، فمن كتب عنى شيئا سوى القرآن فليمحه.
ولم يترك رسول اللّه دنياه إلى آخرته إلا بعد أن عارض ما فى صدره على ما فى صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وحسبك ما يقال عن كثرتهم أنه فى «غزوة بئر معونة» قتل منهم - أى من القرآء - سبعون. ثم حسبك عن كثرتهم أنه كانت منهم سيّدة ، هى أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث ، و
كان رسول اللّه يزورها ويسميها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن ، وقد أمرها رسول اللّه أن تؤم أهل دارها «1».
ثم حسبك دليلا على أن القرآن كتب فى حياة الرسول ، وأنه كتب فى صحّة وضبط ، ما
رواه البراء مع نزول قوله تعالى : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» قال الرسول : ادع لى زيدا وليجئ باللّوح والدّواة والكتف ، ثم قال : اكتب «لا يستوى» أى إن الرسول كان يملى على كاتبه لساعته.
ثم لعلّك تذكر فى إسلام عمر أن رجلا من قريش قال له : أختك قد صبأت - أى خرجت عن دينك - فرجع إلى أخته ودخل عليها بيتها ولطمها لطمة شجّ بها وجهها. فلما سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفة فى ناحية البيت فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» واطّلع على صحيفة أخرى فوجد فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «4» فأسلم بعد ما وجد نفسه بين يدى كلام معجز ليس من قول بشر.
__________
(1) الطبقات الكبرى ، لابن سعد.
(2) النساء : 95.
(3) الحديد : 1.
(4) طه : 1.
(1/352)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 353
فهذه وتلك تدلانك على أن الكتّاب كانوا يكتبون بإملاء الرسول ، وأن هذا المكتوب كان يتناقله الناس.
والثانية من تلك المراحل : ما كان من عمر مع أبى بكر حين استحرّ القتل بالقرّاء فى «اليمامة» ، وما انتهى إليه الرأى بين أبى بكر وعمر فى أن يكلا إلى زيد بن ثابت جمع المصحف ، لتكون معارضة بين ما هو مكتوب فى الألواح وبين ما هو محفوظ فى الصّدور ، قبل أن تأتى الحروب على حفظة القرآن ، فما من شكّ فى أن الاثنين يكمّل أحدهما الآخر ، لمن أراد أن يبلغ الكمال والدّقة والضبط.
وما يمنع من هذا الذى فكّر فيه عمر أن يكون هناك جمع سابق على يد نفر من الصحابة ، مثل ما فعل «علىّ» ومثل ما فعل «ابن مسعود» ، ومثل ما فعل «ابن عباس» ، ومثل ما فعل غيرهم.
وما كان هذا يغيب عن «عمر» ولكن كان ثمّة فرق بين ما فكّر فيه «عمر» وما سبق بعض الصحابة به ، فلقد كان الرأى عند «عمر» أن يبادر فى ظلّ وجود القرّاء إلى إيجاد مصحف رسمىّ بتكليف من الخليفة ، والخليفة أقوى على حشد الجهود العظيمة لهذا العمل العظيم.
ولقد أحسّ زيد بثقل المهمة التى أرادها عمر ، وأرادها معه أبو بكر ، فأبو بكر وعمر لم يريدا عملا فرديّا يحمل عبئه فرد واحد ، وإنما أراد عملا جماعيّا تحمل عبئه الخلافة وباسم الخلافة يصدر.
من أجل ذلك قال زيد : فو اللّه لو كلّفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علىّ ممّا كان أمرونى به من جمع القرآن.
ومن أجل ذلك مضى زيد يتحرّى ، لم يكتف بما فى صدره وما بين يديه ، بل لقد تلمّس آية يفقدها فوجدها عند رجل من الأنصار يدوّنها ، وهى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «1».
ومن أجل ذلك قال أبو بكر لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت : اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شىء من كتاب اللّه فاكتباه.
و من أجل ذلك لم يقعد زيد عن السّعى ليجد آخر المطاف آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت.
__________
(1) الأحزاب : 23.
(م 23 - الموسوعة القرآنية - ج 1)
(1/353)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 354
إذن فقد كان مصحف أبى بكر وعمر أوّل مصحف رسمىّ جمعه زيد بن ثابت لهما فى ظلّ هذا التحرّى الدقيق ، الذى كان أبو بكر وعمر من ورائه. غير أن هذا المصحف الرّسمى لم يأخذ طريقه الرسمى إلى الأمصار ، ولعل مقتل عمر هو الذى أخّر ذلك.
والمرحلة الثالثة والأخيرة هى المرحلة التى تمت على يد عثمان ، وكانت تتمّة للمرحلة الرّسميّة التى بدأت فى عهد أبى بكر وشاركه فيها عمر. فلقد وقع الذى كان يخشاه عمر ، والذى فكّر من أجله فى هذا الجمع الرسمى ، وعجل به القتل عن أن يمضى فيه إلى آخره.
فلقد مرّ بك كيف استقل كلّ مصر بمصحف ، وكانت مصاحف فردية لم يجتمع لها ما اجتمع لمصحف أبى بكر الذى انتهى إلى حفصة ، ثم انتهى إلى عثمان ، من جهد جماعىّ مستوعب ، ولقد سعى «على» جهده ، وسعى «أبىّ» جهده ، وسعى «ابن عباس» جهده ، وسعى «جعفر الصادق» جهده ، ولكن هذه الجهود لو تلاقت كما تلاقت حياة أبى بكر وعمر لخضعت لتعديل كثير ، ودليلنا على ذلك أنه لما خرج إلى الأمصار مصحف عثمان دان الناس لتحريره قبل أن يدينوا لسلطان الخليفة ، وما يستطيع أحد أن يظن بالمسلمين اللّين والضّعف عن أن يقفوا لأقوى الخلفاء يلزموه رأيهم ، إن كانوا يعرفون أنهم على الحق وأن الخليفة على غير الحق فى مثل هذا الأمر الدينىّ الجلل ، ولكن انصياع المسلمين فى الأمصار كلها لمصحف عثمان ، وما كان عثمان بالعنيف ، يدلّك على أن المصحف العثمانى خرج من إجماع اطمأنت القلوب إليه.
ويروى أبو بكر السّجستانى بسند متّصل عن «على» فى المصاحف وحرق «عثمان» لها : «لو لم يصنعه عثمان لصنعته «1»».
و لقد كان «على» صاحب مصحف اختفى بظهور مصحف عثمان. ولكن هذا لم يمنعه من نصرة الحق الذى جاهد من أجله حياته كلها.
والذى قبله «علىّ» قبله «ابن مسعود» ، ولكن بعد لأى «2» ، وقبله يعد هذين كثيرون من الصحابة.
يروى أبو بكر السّجستانى بسند متّصل عن مصعب بن سعد ، قال : أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف ، فأعجبهم ذلك ولم ينكر ذلك منهم أحد.
__________
(1) المصاحف : (ص : 12).
(2) المصاحف : (ص : 18).
(1/354)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 355
و ما أجلّ هذه التى فعلها عثمان ، وحسبه عنها ما يرويه أبو بكر السّجستانى بسند متّصل عن عبد الرحمن بن مهدى يقول : خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبى بكر ولا لعمر : صبره نفسه حتّى قتل مظلوما ، وجمعه النّاس على المصحف.
وحسبك أن تعلم أن الحال فى اختلاف الناس لم تكن أيام عثمان فى الأمصار دون المدينة ، بل لقد شملت المدينة أيضا ، فلقد كان المعلّمون فيها لكل معلّم قراءته ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون. فكان هذا لعثمان ، إلى ما بلغه من حذيفة ، مما أفزعه وجعله يقوم بين الناس خطيبا ، ويقول : أنتم عندى مختلفون فيه فتلحنون ، فمن نأى عنّى من الأمصار أشدّ فيه اختلافا وأشدّ لحنا ، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للنّاس إماما.
ومن أجل هذا سمّى مصحف عثمان : الإمام.
وقد أرسل عثمان من هذا المصحف نسخا للأمصار - كما مر بك - وأمر بأن يحرق ما عداها.
ويحكى ابن فضل اللّه العمرى فى كتابه «مسالك الأبصار» «1». وهو يصف مسجد دمشق : «و إلى جانبه الأيسر المصحف العثمانى بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى اللّه عنه».
ومعنى هذا أن المصحف كان بدمشق حياة العمرى ، أى إلى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى ، فلقد كانت وفاة العمرى سنة 749 ه.
و يرجّح المتصلون بالترات العربى أن هذا المصحف هو الذى كان فى دار الكتب بمدينة لينجراد ، ثم انتقل منها إلى إنجلترا ، ولا يزال بها إلى اليوم.
ويروى السّفاقسى فى كتابه «غيث النفع» «2» : «و رأيت فيه - يعنى مصحف عثمان - أثر الدّم ، وهو بالمدرسة الفاضليّة بالقاهرة».
ولقد كان فى دار الكتب العلوية فى النّجف مصحف بالخطّ الكوفى مكتوب فى آخره : «كتبه علىّ ابن أبى طالب فى سنة أربعين من الهجرة» ، وهى السنة التى توفى فيها علىّ.
13 - كتب المصاحف
و لقد كتب نفر من السّلف كتبا عرضوا فيها للمصاحف القديمة التى سبقت مصحف عثمان ، والتى جاء مصحف عثمان ملغيا لها ، نذكر منها :
__________
(1) المسالك (1 : 195 طبعة دار الكتب المصرية).
(2) غيث النفع فى القراءات السبع (ص : 230).
(1/355)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 356
1 - اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق ، لابن عامر ، المتوفى سنة 118 ه.
2 - اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ، عن الكسائى ، المتوفى سنة 189 ه.
3 - اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام فى المصاحف ، للفراء ، المتوفى سنة 207 ه.
4 - اختلاف المصاحف لخلف بن هشام ، المتوفى سنة 229 ه.
5 - اختلاف المصاحف وجامع القراءات ، للمدائنى ، المتوفى سنة 231 ه.
6 - اختلاف المصاحف ، لأبى حاتم سهل بن محمد السجستانى ، المتوفى سنة 248 ه.
7 - المصاحف والهجاء ، لمحمد بن عيسى الأصبهانى ، المتوفى سنة 253 ه.
8 - المصاحف ، لأبى عبد اللّه بن أبى داود السجستانى ، المتوفى سنة 316 ه.
9 - المصاحف ، لابن الأنبارى ، المتوفى سنة 327 ه.
10 - المصاحف ، لابن أشته الأصبهانى ، المتوفى سنة 360 ه.
11 - غريب المصاحف للوراق.
و ترى من هذا العرض لهذه الكتب ومؤلفيها أن المصحف الإمام لم يلغ المصاحف ، التى جاء ليلغيها ، إلغاء تامّا ، وأن هذه المصاحف بخلافها على المصحف الإمام ظلّت حيّة ، إن لم تكن كتابة فحفظا ، وإن كنا نرجّح الأولى. وأول كتاب فى هذا كان لابن عامر - كما ترى - وابن عامر كانت وفاته سنة 118 ه ، أى بعد مقتل عثمان بما يقرب من ثلاثة وثمانين سنة ، فلقد كانت وفاة عثمان فى الخامسة والثلاثين من الهجرة.
ولقد انتهى إلينا من هذه الكتب كلها كتاب المصاحف لأبى بكر عبد اللّه بن أبى داود السّجستانى ، وقد نقلت لك نصوصا مرت بك ، وأشرت إلى موضعها من النسخة المطبوعة من هذا الكتاب.
ويكاد يكون كتاب أبى بكر السّجستانى جامعا لكلام من سبقوه ، لتأخّره فى الزمن عنهم ، وما أظن من بعده أضاف كثيرا. أعنى بهذا أن كتاب أبى بكر السّجستانى يكاد يمثّل لنا هذا الخلاف كله.
وإنى لأعدّ إقدام هؤلاء النفر من السّلف على مثل هذا التأليف إحياء لخلاف حاول الخلفاء الثلاثة أبو بكر ، وعمر ، وعثمان - أو قل ، الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلىّ - أن يضعوا له نهاية ، بالمحاولة الأولى التى تمّت على يد أبى بكر وعمر ، ثم بالمحاولة الثانية التى تمت على يد عثمان وأقرّه عليها علىّ ، وشارك فيها كثير من الصحابة ، ومنهم من كان صاحب مصحف. مثل «أبى».
وعثمان لم يقدم على ما فعل إلا حين فزّعه الخلاف ، ولم يمض ما أقدم عليه إلا بعد أن اطمأنت نفسه
(1/356)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 357
إلى ما انتهى إليه ، ولم يطمئن إليه اطمئنانه إلا بعد أن آزرته عليه الكثرة. وبعد هذا كله وقف عثمان موقفه الحازم القاطع فألزم الأمصار بالمصحف الإمام ، ثم أحرق ما عداه. ومعنى هذا أنه لا رجعة إلى هذا الخلاف ، ولا سبيل إلى الرّجعة إليه ، إذ لو صحّ أن ثمة شكّا وقع فى روع عثمان لما كان منه هذا القرار الحازم القاطع.
و لعلك تذكر ما كان من مروان من إحراقه مصحف حفصة ، الذى كان مرجعا من مراجع الإمام.
ولقد أراد من هذا ألّا يكون ثمة رجعة إلى الوراء تثير هذا الخلاف فى كتاب قال فيه تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1».
وبعد ما يقرب من قرن إلا قليلا يطالعنا ابن عامر بمؤلفه فى اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق ، أو قل بعد أن اختفى جيل القرّاء الأول والثانى والثالث من الميدان ، وبعد أن نفض أصحاب المصحف الإمام أيديهم من أدلّتهم واطرحوها وأحرقوها ، بعد هذا كله تثار قضية لا تكافؤ فيها ، أدلتها الخلافيّة قطع فيها بالرأى ، واستبعد شىء لا يستقيم ، وأقيم مقامه شىء مستقيم.
وإنا من أجل هذا من القائلين - لا خوفا على ما بين أيدينا - بأن إثارة مثل هذا ليست نوعا من الدّراسة ، فتلك دراسة بتراء لا تملك أسلوبها العلمى الصّحيح. ولقد كنا نرحّب بها لو كانت شيئا جديدا لم تعرفه البيئة الأولى حين حكمت فى أمره ، بل لقد كان شيئا معهودا للبيئة الأولى تعرفه وتعرف أكثر منه ، ولقد حكمت فيه وفرغت منه ، فإثارته بعد هذا ليكون شيئا يدرس نوع من الكيد ، ولو كنا نملك لعفّينا آثاره كما عفى عثمان آثارا مثله ، ولن نكون معها متجنّين أو متعسفين أو خائفين ، بل نكون مع الحزم الذى اتصف به «عثمان» وناصره عليه «علىّ» ، واجتمع معه فى الرأى عليه اثنا عشر صحابيّا ، جمعهم عثمان لهذا العمل الجليل.
وما أصدقها كلمة جرت على لسان أبى بكر السّجستانى فى ختام عرضه لمصحف «أبىّ بن كعب» حين يقول : لا نرى أن يقرأ القرآن إلّا بمصحف عثمان الّذى اجتمع عليه أصحاب النّبى صلى اللّه عليه وسلم ، فإن قرأ إنسان بخلافه فى الصّلاة أمرته بالإعادة.
و لقد جاء فى المصحف الإمام من الرسم القديم ، ما كان مظنة اللبس ، ولقد رأى عثمان أن ألسنة العرب تقيمه على وجهه ، وإن بدا على غير وجهه ، فلم يعرض له ، ولعل هذا هو تفسير ما عزى إلى عثمان حين قال :
__________
(1) الحجر : 9.
(م 5 - الموسوعة القرآنية - مجلد 1)
(1/357)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 358
إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ويزيد هذا بيانا قوله ، أعنى : عثمان : «لو كان المملى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا».
ويقول ابن أشته فى كتابه «المصاحف» : جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحة لغته لا على رسمه ، وذلك فى نحو «لا أوضعوا» و«لا أذبحنه» بزيادة ألف فى وسط الكلمتين ، إذا لو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا شنيعا ، يقلب معنى الكلام ويخل بنظامه.
ويقول أبو بكر السّجستانى فى كتابه «المصاحف» «1» تعقيبا على الحديث المعزوّ إلى عثمان : «هذا عندى يعنى : بلغتها - يريد : معنى قوله بألسنتها - وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه».
ويؤيد هذا ما روى عن عمر بن الخطاب : «إنا لنرغب عن كثير من لحن أبىّ. يعنى : لغة أبى «2»».
14 - تعقيب على كتب المصاحف
و يعزو أبو بكر السجستانى إلى عائشة ، يرويه هشام بن عروة عن أبيه ، قال : سألت عائشة عن لحن القرآن إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «3» ، وعن قوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ «4» ، وعن قوله تعالى : وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ «5» ، فقالت : يابن أختى ، هذا عمل الكتّاب أخطئوا فى الكتاب «6».
و مثل هذا الذى عزى لعائشة يعزى لأبان بن عثمان يرويه الزبير يقول : قلت لأبان بن عثمان : كيف صارت لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ما بين يديها وما خلفها رفع وهى نصب؟ قال : من قبل الكتّاب ، كتب ما قبلها ثم قال : ما أكتب؟ قال : اكتب «المقيمين الصلاة» فكتب ما قيل له «7».
وينضم إلى هذا ما يعزى إلى سعيد بن جبير أنه قال : فى القرآن أربعة أحرف لحن : وَالصَّابِئُونَ ، ووَ الْمُقِيمِينَ ، وفَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ «8» ، وإِنْ هذانِ لَساحِرانِ. وإليك ما يقوله عالم جليل من علماء التفسير واللّغة :
__________
(1) المصاحف : 32.
(2) المصاحف لأبى بكر السجستانى : 32.
(3) طه : 63.
(4) النساء : 162. [.....]
(5) المائدة : 69.
(6) المصاحف : 34.
(7) المصاحف : 33 - 34.
(8) المنافقون : 10.
(1/358)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 359
يقول الزمخشرى محمود بن عمر فى كتابه «الكشاف «1»» : وَالصَّابِئُونَ (المائدة : 69) رفع على الابتداء ، والنية به التأخير عما فى حيز «إن» من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه «2» شاهدا له :
و إلّا فاعلموا أنّا وأنتم بغاة ما بقينا فى شقاق
أى : فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟
قلت : لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : إن زيدا وعمرو منطلقان. فإن قلت : لم لا يصح والنّية به التأخير ، فكأنك قلت : إن زيدا منطلق وعمرو؟ قلت : لأنى إذا رفعته عطفا على محل «إن» واسمها ، والعامل فى محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العامل فى الخبر ، لأن الابتداء ينتظم الجزأين فى عملهما كما تنتظمهما «إن» فى عملها ، فلو رفعت «الصابئون» والمنوىّ به التأخير بالابتداء ، وقد رفعت الخبر بأن ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين.
فإن قلت : فقوله «و الصابئون» معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت : مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ولا محل لها ، كما لا محل للتى عطفت عليها.
فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت : فائدته التنبيه على أن «الصابئين» أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيّا ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، أى خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله «و أنتم» تنبيها على أن المخاطبين أو غل فى الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذى هو «بغاة» ، لئلا يدخل قومه فى البغى قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما.
فإن قلت : فلو قيل : والصابئين وإياكم ، لكان التقديم حاصلا؟ قلت : لو قيل هكذا لم يكن من التقديم فى شىء ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما يقال : مقدم ومؤخر ، للمزال لا للقارّ فى مكانه ، ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض فى الكلام.
وقال الزمخشرى «3» : وَالْمُقِيمِينَ (النساء : 162) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع. وقد كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا فى خط المصحف.
__________
(1) الكشاف : (1 : 660 - 661 طبعة الاستقامة).
(2) الكتاب : (1 : 290).
(3) الكشاف (1 : 590).
(1/359)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 360
و ربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان ، وخفى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل ، كانوا أبعد همة فى الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا فى كتاب اللّه ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من لحق بهم.
وقيل : هو عطف على بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء.
وفى مصحف عبد اللّه (والمقيمون) بالواو ، هى قراءة مالك بن دينار ، والجحدرى ، وعيسى الثقفى.
وقال الزمخشرى «1» : وَأَكُنْ (المنافقون : 10) عطفا على محل «فأصدق». كأنه قيل : إن أخرتنى أصدق وأكن. ومن قرأ «و أكون» على النصب ، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير «و أكون» على الرفع ، وتقديره : وأنا أكون ، عدة منه بالصلاح».
وقال الزمخشرى «2» : (إنّ هذان لساحران) (طه : 63) : قرأ أبو عمرو : (إنّ هذين لساحران) ، على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص : إنّ هذان لساحران ، على قولك : إن زيد لمنطلق.
واللام هى الفارقة بين «إن» النافية والمخففة من الثقيلة. وقرأ «أبىّ» : إنّ ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود :
أن هذان ساحران ، بفتح أن وبغير لام ، بدل من «النجوى». وقيل فى القراءة المشهورة - وهو يعنى المصحف الإمام - إنّ هذان لساحران ، هى لغة بلحارث بن كعب ، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التى آخرها ألف ، كعصا وسعدى ، فلم يقلبوها فى الجر والنصب. وقال بعضهم : «إنّ» بمعنى : «نعم» و«ساحران» خبر مبتدأ محذوف ، واللام داخلة على الجملة ، تقديره : لهما ساحران ، وقد أعجب به أبو إسحاق.
وها أنت ذا ترى فى كلام الزمخشرى دليلا جديدا يؤيد ما قلنا من قبل عن القراءات السبع فى القرآن وأنها لغات العرب جاءت مبثوثة فى القرآن ، وبها كلها يتجه الكلام.
و أما ما جاء معزوّا إلى عائشة ، فما نظن عائشة تسكت على خطأ الكتّاب فى كتاب اللّه وترضى به يشيع ويخرج عن المدينة إلى الأمصار ، ولم تكن بعيدة عن عثمان ولا عن الصحابة الكاتبين ، وما نظنها كانت أقل منهم حرصا على سلامة كتاب اللّه ، وحسبك ما قدمه الزمخشرى فى هذه.
__________
(1) الكشاف (4 : 544).
(2) الكشاف (3 : 72).
(1/360)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 361
و أما عن تلك التى تعزى لأبان بن عثمان ، فلا ندرى كيف جاءت على لسانه ، مع العلم بأنه ممن لم يشهدوا عصر التدوين ، ولا كان حاضر ذلك ، فلقد كانت وفاته سنة 105 ه ، وعثمان مات سنة 35 ه.
فهذا الذى نسب إلى «أبان» استنباط لا رواية مأثورة. وهذا الاستنباط الذى استنبطه «أبان» لا يصح إلا عن مشاهدة أو سماع عن مشاهدة ، وكلاهما لم يتوفر لهذا الحكم.
وثمة شىء آخر : ما يعزوه أصحاب التواليف فى المصاحف إلى الحجاج بن يوسف ، وأنه غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا ، وقد رواها أبو بكر السجستانى فى كتابه المصاحف مرتين :
الأولى يقول فيها : حدثنا عبد اللّه : حدثنا أبو حاتم السجستانى : حدثنا عبّاد بن صهيب ، عن عوف ابن أبى جبلة : أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا «1».
والثانية يقول فيها : قال أبو بكر - يعنى نفسه - كان فى كتاب أبىّ : حدثنا رجل ، فسألت أبىّ : من هو؟ فقال : حدثنا عبّاد بن صهيب ، عن عوف بن أبى جميلة : أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا «2».
وهذه هى الأحرف كما ذكرها أبو بكر السجستانى :
1 - كانت فى البقرة (لم يتسنّ) فغيرها (لم يتسنّه) بالهاء (الآية : 259).
و أحب أن أعقّب أن ابن مسعود قرأ (لم يتسن) والأصل فيها «يتسنن» ، فقلبت لأن الثانية حرف علة ، كما فى : تقضض ، وتقضى. وقرأ حمزة والكسائى بحذف الهاء فى الوصل ، على أنها هاء السكت. وقرأ باقى السبعة بإثبات الهاء فى الوصل والوقف ، على أنها أصلية. وقرأ «أبى» «لم يسّنّه» بإدغام التاء فى السين.
2 - وكانت فى سورة المائدة : (شريعة ومنهاجا) ، فغيّره (شرعة ومنهاجا) (الآية : 48) وأحب أن أعقّب أن هذه لم يقرأ بها أحد من القرّاء.
3 - وكانت فى سورة يونس (هو الّذى ينشّركم) ، فغيّره (هو الّذى يسيّركم) (الآية : 22).
__________
(1) المصاحف (ص : 49).
(2) المصاحف (ص : 117).
(1/361)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 362
و أحب أن أعقب أن (ينشّركم) قراءة ابن عامر ويزيد بن القعقاع. وينشركم ، أى يحييكم.
4 - وكانت فى سورة يوسف (أنا آتيكم بتأويله) ، فغيرها (أنا أنبّئكم بتأويله) (الآية : 45).
وأحب أن أعقّب : أن هذه لم يقرأ بها أحد من القراء.
5 - وكانت فى سورة المؤمنين (سيقولون للّه) ، فغيرها (سيقولون اللّه) (الآيات : 85 و87 و89).
وأحب أن أعقّب : أن الأولى هى القراءة المشهورة ، وبالثانية قرأ أبو عمرو ، ويعقوب.
6 و7 - وكانت فى سورة الشعراء (من المخرجين) (الآية : 116) فغيرها (من المرجومين) ، و(من المرجومين) (الآية : 167) فغيرها (من المخرجين).
وأحب أن أعقّب : أن هذه وتلك هما القراءتان المشهورتان.
8 - وكانت فى سورة الزخرف (معائشهم) ، فغيرها (معيشتهم) (الآية : 32).
وأحب أن أعقّب : أنّ هذه هى القراءة المشهورة ، ولم يقرأ بالأولى أحد من القراء.
9 - وكانت فى سورة (الذين كفروا) ، (ياسن) فغيرها (آسن) (الآية : 15).
وأحب أن أعقب أن حمزة قرأ (ياسن) وقفا لا وصلا ، وأن (آسن) هى القراءة المشهورة.
10 - وكانت فى سورة الحديد (فالّذين آمنوا منكم واتّقوا) ، فغيرها (وأنفقوا) (الآية : 7).
و أحب أن أعقب أن القراءة المشهورة (وأنفقوا) ولم يقرأ أحد من القراء (واتّقوا).
11 - وكانت فى سورة التكوير (وما هو على الغيب بظنين) فغيرها (بضنين) (الآية : 24).
وأحب أن أعقب أن مكيّا ، وأبا عمرو ، وعليّا ، ويعقوب ، قرءوا «بظنين» أى : متهم ، وأن الباقين قرءوا «بضنين» أى : ببخيل.
هذه هى الأحرف التى يروى أن الحجاج غيّرها فى مصحف عثمان.
وأحب أن أزيد الأمر وضوحا ولا أتركه على إيهامه هذا الذى يثير شكّا ويكاد القول فيه على ظاهره يعطى للحجاج أن يغيّر فى كتاب اللّه :
1 - لقد رأيت كيف روى أبو بكر السجستانى هذا الخبر فى كتابه «المصاحف» فى مكانين بسندين ، وهما وإن اتفقا ، إلا أن ثانيهما رواه أبو بكر فى أسلوب يهوّن فيه من شأن المسند إليه الخبر.
(1/362)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 363
2 - ولقد رأيت ، من التعقيب الذى عقبنا به على هذه الأحرف ، أن ثمانية منها تحتمل قراءات ، وأن ما أثبته الحجاج كان المشهور.
3 - ولقد رأيت كذلك أن ثلاثة منها لم يقرأ بها أحد من القراء ، وهى «شريعة» التى غيرت إلى «شرعة» ، و«آتيكم» التى غيرت إلى «أنبئكم» و«معائشهم» ، التى غيرت إلى «معيشتهم».
ونحن نعرف :
4 - أن الحجاج كان من حفّاظ القرآن المعدودين.
5 - وأن الحجاج كانت على يديه الجولة الثانية فى نقط المصاحف وشكلها ، بعد أن كانت الجولة الأولى على يد الصحابة ، وكانت جولة الصحابة بداية لم تشمل القرآن كله بل كانت نوعا من التيسير.
يقول الدانى «1» بسند متّصل عن قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمّسوا ثم عشّروا - وهو يعنى الصحابة. ثم يقول فى إثر هذا : هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين هم المبتدئون بالنّقط ورسم الخموس والعشور.
وفى الجولة الثانية خلاف ، فمن الرّواة من يعزوها إلى أبى الأسود الدؤولى بعد أن طلبها منه زياد ، ومنهم من يعزوها إلى يحيى بن يعمر العدوانى ، وكان ذلك عن طلب الحجّاج.
ويقول الدانى : إن هذا هو الأعرف.
و ما نظن الحجاج ، وهو الحافظ للقرآن - كان بعيدا عن يحيى بن يعمر ، كما لم يكن عثمان بعيدا عن زيد بن ثابت ، وسعيد.
وبهذا نستطيع أن نقول :
1 - إن هذه الأحرف الثلاثة التى لم يقرأ بها أحد لم تكن منقوطة ولا مشكولة ، فميزها النقط وبيّنها ، وكانت على ألسنة الناس كما كانت على لسان الحجّاج ، بدليل أنها لم ترد فى قراءة ، ولا ندرى كيف قامت هذه دعوى.
2 - إن الأحرف الثمانية الباقية ، فيها قراءات ، كما مر بك ، والمشهور منها ما يعزى إلى الحجّاج أنه أثبته ، ولكن من أتّى لنا أن هذا الذى يقال إنّ الحجاج أثبته لم يكن ، وأن رسم مصحف عثمان كان يشتمل عليه ، وأن الحجاج لم يفعل غير أن بيّنه وميّزه.
__________
(1) المحكم فى نقط المصاحف لأبى عمرو عثمان بن سعيد الدائى (ص : 2 - 3).
(1/363)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 364
يؤكد هذا ما روى أن عثمان حين كان يعرض عليه المصحف غيّر «لم يتسنّ» إلى «لم يتسنّه».
إذن فالذى يعزى إلى الحجاج فعله عزى إلى عثمان أنه فعله من قبله ، ولا يمنع أن يكون هذا كله - أعنى الأحرف الثمانية - كانت مقروء مصحف عثمان ، وأن الحجّاج حين نقط وشكل ميّز الرّسم وبينه ، يستوحى فى ذلك من مقروئه ومقروء الناس الذين يقرءون مصحف عثمان.
وإذن فلا تغيير للحجّاج فى كتاب اللّه ، ولم يكن ما فعل غير تبيين رسم وتمييزه ، وما نظن الحجاج خرج فيما فعل على مصحف عثمان بقراءة أخرى ، بل نكاد نؤيد أنه التزم فيها مقروء مصحف عثمان ، وأنه لم يفعل غير التمييز والتبيين ، بدليل تلك التى سقناها عن «لم يتسن» و«لم يتسنه» ، وأن الحجاج فيما فعل كان حريصا على أن يمكّن للمصحف الإمام ، وأن ينفى عنه ما عساه أن يكون دخل عليه من قراءات.
15 - القراءات
و قد مر بك الرأى فى القراءات السبع ، و
فى قوله صلى اللّه عليه وسلم : «نزل القرآن على سبعة أحرف» ،
و أن المراد : على سبعة أوجه من اللّغات : متفرقة فى القرآن «1».
ولقد روى عن عمر أنه قال : نزل القرآن بلغة مضر.
وإذا رجعنا نحصى قبائل مضر وجدناها سبع قبائل ، وهى : هذيل ، وكنانة ، وقيس ، وضبة ، وتيم الرباب ، وأسد بن خزيمة ، وقريش.
كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على سبع لغات ، منها خمس بلغة العجز من هوازن ، واثنان لسائر العرب.
والعجزهم : سعد بن بكر ، وجشم بن بكر ، ونصر بن معاوية ، وثقيف ، وكان يقال لهم : عليا هوازن.
كما يروى عن أبى حاتم السّجستانى أنه قال : نزل القرآن بلغة قريش ، وهذيل ، وتميم ، والأزد ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد بن بكر.
كما يرى السّيوطى فى «الإتقان «2»» آراء غير مسندة ، منها :
(1) أنها سبع لغات متفرقة لجميع العرب ، كل حرف منها لقبيلة مشهورة.
(2) أنها سبع لغات : أربع لعجز هوازن ، وثلاث لقريش.
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص : 26).
(2) الإتقان (ص : 47). [.....]
(1/364)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 365
(3) أنها سبع لغات ، لغة لقريش ، ولغة لليمن ، ولغة لجرهم ، ولغة لهوازن ، ولغة لقضاعة ، ولغة لتميم ، ولغة لطيئ.
(4) أنها لغة الكعبين : كعب بن عمر ، وكعب بن لؤى ، ولهما سبع لغات.
وهذا الخبر مسند لابن عباس من طريق آخر غير الطريق الأول الذى روى به خبره السابق.
وهذا الاختلاف فى التعيين لا يضير فى شىء ، فثم لغات سبع مفرقة فى القرآن ، أخبر الرسول عن جملتها ولم يخبر عن تفصيلها ، وكان هذا التفصيل مكان الاجتهاد بين المجتهدين.
وليس معنى الحديث أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات ، بل اللغات السبع مفرقة ، تقرأ قريش بلغتها ، وتقرأ هذيل بلغتها ، وتقرأ هوازن بلغتها ، وتقرأ اليمن بلغتها.
وفى ذلك يقول أبو شامة نقلا عن بعض شيوخه : أنزل القرآن بلسان قريش ، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالهم على اختلافهم فى الألفاظ والإعراب «1».
و يعقب ابن الجوزى على هذه الأحرف السبعة يقول : وأما وجه كونها سبعة أحرف ، دون أن لم تكن أقل أو أكثر ، فقال الأكثرون : إن أصول قبائل العرب تنتهى إلى سبعة ، وإن اللغات الفصحى سبع ، وكلاهما دعوى.
وقيل : ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل المراد السّعة والتيسير ، وأنه لا حرج عليهم فى قراءته بما هو فى لغات العرب ، من حيث إن اللّه تعالى أذن لهم فى ذلك.
والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر «2».
وكانت هذه اللغات علمها إلى الرسول ، قد أحاطه اللّه بها علما ، وحين يقرأ الهذلى بين يديه (عتّى حين) وهو يريد (حتّى حين) «3» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.
وحين يقرأ الأسدى بين يديه (تسود وجوه) «4» بكسر التاء في «تسود» ، و(ألم أعهد إليكم) «5» بكسر الهمزة فى «أعهد» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يهمز التّميمى على حين لا يهمز القرشى ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
__________
(1) الإتقان (ص : 47).
(2) النشر فى القراءات العشر (25 - 26).
(3) المؤمنون : 54 - الصافات : 174 و178 - الذاريات : 47.
(4) آل عمران : 106.
(5) يس : 60.
(1/365)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 366
و حين يقرأ قارئهم (وإذا قيل لهم) «1» و(غيض الماء) «2» بإشمام الضم مع الكسر ، يجيزه لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم (هذه بضاعتنا ردت إلينا) «3» بإشمام الكسر مع الضم فى «ردت» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم (مالك لا تأمنا) «4» بإشمام الضم مع الإدغام فى ميم «تأمنا» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل ، وتكليفه غير هذا عسير.
و حين يقرأ قارئهم «عليهم» و«فيهم» بالضم ، ويقرأ قارئ آخر «عليهمو» و«فيهمو» بالصلة ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم (قد أفلح) و«قل أوحى» و«خلو إلى» بالنّقل ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «موسى» و«عيسى» و«سبأ» بالإمالة يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «خبيرا» و«بصيرا» بالتّرقيق ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «الصلوات» و«الطلاق» بالتفخيم ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل «5».
ويفسر لك هذا ما
روى عن «عمر» قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة «الفرقان» على غير ما أقرؤها ، وقد كان النبى صلى اللّه عليه وسلم أقرأ نيها ، فأتيت به النبىّ صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته ، فقال له : اقرأ ، فقرأ تلك القراءة. فقال : هكذا أنزلت ، ثم قال لى : أقرأ ، فقرأت. فقال : هكذا أنزلت ، ثم قال : هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر «6».
وكذلك يفسر لك هذا ما
روى عن «أبىّ» قال : دخلت المسجد أصلّى فدخل رجل فافتتح «النحل» فقرأ ، فخالفنى فى القراءة. فلما انتقل قلت : من أقرأك؟ قال : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ثم جاء رجل فقام يصلّى ، فقرأ وافتتح «النحل» ، فخالفنى وخالف صاحبى ، فلما انتقل قلت : من أقرأك؟ قال : رسول
__________
(1) البقرة : 11.
(2) هود : 44.
(3) يوسف : 65.
(4) يوسف : 11.
(5) تأويل مشكل القرآن (ص : 30) - النشر فى القراءات العشر (1 : 29).
(6) المرجعان السابقان.
(1/366)
الموسوعة القرآنية ، ج 1 ، ص : 367
اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال : فأخذت بأيديهما فانطلقت بهما إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم. فقلت : استقرئ هذين ، فاستقرأ أحدهما. فقال : أحسنت. ثم استقرأ الآخر ، فقال : أحسنت.
و يقول ابن قتيبة : «و لو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لا شتدّ ذلك عليه ، وعمّت المحنة فيه ، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة ، وتذليل للسان ، وقطع للعادة «1»».
16 - القراء
و لقد كانت كتابة المصحف بلغة قريش ، أو بحرف قريش ، بذلك أمر عثمان زيد بن ثابت ، وعبد اللّه بن الزّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وهم ينسخون المصاحف ، وقال لهم : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم.
وأرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار ، وأخذ كلّ أهل مصر يقرءون بما فى مصحفهم ، يتلقّون ما فيه عن الصحابة الذين تلقّوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقّوه عن النّبى صلى اللّه عليه وسلم ، فكان بالمدينة نفر ، منهم : ابن المسيّب ، ومعاذ بن الحارث ، وشهاب الزّهرى ، وكان بمكة نفر ، منهم : عطاء ، وطاووس ، وعكرمة ، وبالكوفة نفر ، منهم : علقمة ، والشّعبى ، وسعيد بن جبير ، وبالبصرة نفر ، منهم : الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وبالشام نفر ، منهم : المغيرة بن أبى شهاب المخزومى ، صاحب عثمان بن عفان.
ثم تجرد قوم للقراءة واعتنوا بضبطها أتمّ عناية حتى صاروا فى ذلك أئمة يقتدى بهم ، ويرحل إليهم.
ويؤخذ عنهم ، وأجمع أهل بلدهم على تلقى قراءتهم بالقبول ، ولم يختلف عليهم فيها أثنان ، ولتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.
فكان بالمدينة نفر ، منهم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، ثم نافع بن أبى نعيم.
وكان بمكة نفر ، منهم : عبد اللّه بن كثير ، ومحمد بن محيصن.
وكان بالكوفة نفر ، منهم : سليمان الأعمش ، ثم حمزة ، ثم الكسائى.
وكان بالبصرة نفر ، منهم : عيسى بن عمر ، وأبو عمرو بن العلاء.
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص : 27) - النشر (1 : 21).
(1/367)
==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلد 3. الحيوان للجاحظ /الجزء الثالث

  الجزء الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة استنشاط القارئ ببعض الهزل وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والم...